المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

الفصل الأول

في

أن التمسك بأخبار الآحاد

في هذه المسألة هل يجوز أم لا؟

اتفق الأصوليون على أنه لا يجوز. واحتجوا عليه بوجوه :

الحجة الأولى : إن خبر الواحد مظنون. فلا يجوز التمسك به في المسائل اليقينية. وإنما قلنا : إنه مظنون. لوجوه :

الأول : إن كل واحد من هؤلاء الرواة. إما أن يحصل القطع بأنه لا يجوز إقدامهم على الكذب ، أو لا يحصل هذا القطع. والأول باطل. لأن ذلك يقتضي القول بكونهم معصومين قطعا. وذلك باطل بإجماع المسلمين. وكيف لا نقول ذلك ، والروافض. لما ادعوا عصمة «علي بن أبي طالب» ـ رضي الله عنه ـ وبعض أولاده ، كفرهم أكثر المحدثين ، لهذا السبب. فكيف يجوز العاقل ادعاء عصمة هؤلاء الرواة؟ وأيضا : فنحن نعلم أن القول بعصمة كل واحد من هؤلاء المحدثين كذب وزور وبهتان. وأما الثاني : وهو إن سلموا بأنا لا نقطع بوجوب كونهم صادقين ، فعلى هذا التقدير يجوز كونهم كاذبين ، ومع هذا التجويز كيف يمكن القطع بصحة هذه الأخبار؟.

واعلم ؛ أن الآفة الكبرى في هذا الباب : أن هؤلاء المحدثين لا يميزون بين حس الظن وبين القطع واليقين. فنحن نسلم أنه يجب علينا إحسان الظن بهؤلاء الرواة. أما الجزم واليقين فلا سبيل إليه. وهؤلاء المحدثون ظنوا أن من سلم حسن الظن بهؤلاء الرواة ، فقد سلم الجزم واليقين. وذلك بعيد.

٢٠١

حضرت في بعض المجالس. فتمسك بعض الحشوية بما يروون : أنه عليه‌السلام. قال : «إن ابراهيم كذب ثلاث كذبات» فقلت : إنه لا يجوز إسناد الكذب إلى خليل الله بمثل هذا الخبر الذي لا يفيد إلا الظن الضعيف. فقال الحشوى ـ كالغضبان عليّ ـ كيف يجوز تكذيب الراوي؟ فقلت له : العجب منك ومن دينك ، حيث تستبعد تكذيب الراوي ، ولا تستبعد براءة خليل الله عن الكذب ، ولو قلبت القضية لكان أنفع لك في دينك ودنياك.

الوجه الثاني في بيان أن خبر الواحد : مظنون الصحة : إنا إذا رجعنا إلى أنفسنا ، علمنا بالضرورة أن هذا الشّخص لا يمكننا أن نجزم بصحة قوله ، إلا إذا تأيد قوله بالمعجزات ، أو بشيء من قرائن الأحوال. فأما مجرد الخبر الصادر عن هذا الإنسان ، فإنه لا يبعد أن يكون كذبا ، والعلم بحصول هذا الجواز ضروري.

والثالث : أجمعنا على أن شهادة الشخص الواحد ، غير كافية. ولهذا السبب لما شهد «علي بن أبي طالب» مع «أم أيمن» في قصة «فدك» قال «أبو بكر» : لا بد من رجلين ، أو رجل وامرأتين. ولو كان قول الواحد يفيد العلم ، لوجب أن تكون شهادته كافية.

الرابع : إن قول الأربعة لا يفيد العلم. فقول الواحد أولى أن يفيده. إنما قلنا : إن قول الأربعة لا يفيد العلم ، لأنه لو جعل العلم بخبر أربعة ، لكان لا يجوز ورود التعبد بقبول شهادتهم ، لا إذا زكاهم المزكى ، ما لم يحصل العلم بصدقهم. لأن من المعلوم أن الحاكم إذا شهد عنده أربعة. بأن فلانا زنا بفلانة ، ولم يعلم الحاكم صدقهم. فإنه لا يرد شهادتهم ، بل يرجع في ذلك إلى المزكى. فإن حصلت التزكية قبل شهادتهم ، وإن حصل الجرح ردّها. ولو كان العلم يحصل بشهادتهم ، لكان يستغني عن الجرح والتعديل. فلما علمنا وجوب الرجوع إلى المزكى ، مع فقد العلم بما شهدوا ، علمنا أن خبر الأربعة لا يفيد العلم.

فثبت بهذه الوجوه الأربعة : أن خبر الواحد ، لا يفيد إلا الظن ، فوجب

٢٠٢

أن لا يجوز التمسك به في المسائل القطعية.

الحجة الثانية على أنه لا يجوز التمسك بأخبار الآحاد في اليقينيات : أن نقول : أشرف طبقات الرواة : طبقة الصحابة ، ثم إن رواياتهم لا تفيد اليقين. أما في حق الصحابة. فيدل عليه وجوه :

الأول : إن اظهر الأمور وأجلاها : أمر الأذان والإقامة. وذلك لأنه ـ عليه‌السلام ـ واظب عليهما مدة عشر سنين ، أو أكثر أو أقل. والكل كانوا يشاهدونه ، في كل يوم خمس مرات. والخلفاء الراشدون واظبوا عليها مدة ثلاثين سنة مع الجمع العظيم. ثم إن الرواة ما ضبطوا أحوال الأذان ، ولا أحوال الإقامة. أما أحوال الأذان. فهو أن الترجيح هل هو معتبر في الأذان أم لا؟ وأما الإقامة. فإنها هي فرادى أو مثناة؟ وليس لقائل أن يقول : لعلها كانت مرة فرادى ، ومرة مثناة. لأنا نقول : لو كان الأمر كذلك ، لوجب أن ينقل الراوي أنها كانت مرة فرادى ، ومرة مثناة ، فلما عجزوا عن ضبط هذا القدر مع أن الكل شاهدوا هذه المدة الطويلة ، فكيف يبقى الوثوق برواياتهم في المسائل الدقيقة ، وفي المباحث الغامضة. مع أنهم ـ بزعمهم ـ ما سمعوها إلّا مرة واحدة؟.

ومن ذلك ما روي أنه ـ عليه‌السلام ـ أفرد الحج ، أو قارن ، أو تمتع. مع أن الحج : حجة واحدة ، ومع أنا نعلم أنه لم يأت بالجميع.

ومن ذلك أنه ـ عليه‌السلام ـ هل كان يرفع يديه عند الركوع والانتصاب؟ فابن مسعود ، روى عدم الرفع. وابن عمر روى حصول الرفع. ومرة ذكر أنه في التكبيرة الأولى ، كان يرفع يديه إلى حذو المنكبين ، أو إلى حذو الأذنين. فكل هذه الأمور أمور مشاهدة محسوسة. يكفي في معرفتها سلامة الحاسة وأصل العقل. فلما عجزوا عن ضبط هذا القدر ، فكيف يقدرون على ضبط المسائل الفقهية ، التي ما سمعوها إلا مرة واحدة. ثم إنهم ما كتبوا ذلك المجموع. بل اعتمدوا على مجرد حفظهم. ثم نقلوه بعد خمسين سنة أو أكثر.

٢٠٣

الثاني : وهو أن المحدثين نقلوا طعن بعض القوم في البعض. وذلك يوجب رد الروايات. بيان المقدمة الأولى من وجوه :

أحدها : ما روي أن أبا موسى الأشعري ، استأذن على عمر ، ثلاث مرات. فلم يأذن له ، فرجع فبلغ ذلك عمر. فقال له : ما ردّك؟ فقال : سمعت النبي ـ عليه‌السلام ـ يقول: «إذا استأذن أحدكم ثلاث مرات ، فلم يأذن له ، فليرجع» فقال عمر : لتأتيني ببينة على صحة ما قلت ، وإلا آذيتك. وهذا يدل على أن عمر ، كان يتهم أبا موسى في تلك الرواية.

وثانيها : المخاصمة الشديدة التي وقعت بين عثمان وبين أبي ذر ، حتى نقل أن عثمان سير أبا ذر إلى الربذة. ونقل أيضا : أن عثمان ضرب ابن مسعود حتى كسر ضلعان من أضلاعه. وكان كل واحد منهما يعظم الطعن في صاحبه. وأيضا : إنهم حبسوا عثمان في داره ظلما وقتلوه.

وثالثها : ما نقل أن عليا ، كان يستحلف الرواة. ولو لا التهمة ، وإلا لما فعل ذلك.

ورابعها : المحادثة التي وقعت بين علي بن أبي طالب ، وبين طلحة ، والزبير ، وعائشة ـ رضي الله عنهم ـ وطعن كل واحد منهم في الآخر.

وخامسها : أن ابن مسعود ، كان يجتث المعوذتين من المصاحف ، ويقول : إنهما ليسا من القرآن. وسائر الناس أنكروا عليه ذلك. مع كون القرآن منقولا على سبيل التواتر. فما ظنك بسائر الأشياء.

وسادسها : روي أن معاوية كان يقول على منبر دمشق : إياكم وأحاديث رسول الله ـ عليه‌السلام ـ إلا حديثا كان في عهد عمر. فإن عمر كان يخيف الناس في الله. ولو لا معاوية اتهم أولئك الرواة ، وإلا لم يقل ذلك.

وسابعها : شما روى مسلم في صحيحه : أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب. فقال: إني أجنبت ، فلم أصب الماء. فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب : أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت. فأما أنت فلم تصل. وأما أنا

٢٠٤

فتيممت فصليت. فذكرت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال عليه‌السلام : «يكفيك الوجه والكفان» فقال عمر : اتق الله يا عمار. فقال : إن شئت لم أحدث به.

وجه الاستدلال به : أن عمر لما قال لعمار. اتق الله. دل على أنه اتهمه في هذه الرواية. ولما قال عمار : إن شئت لم أحدث به ، فقد قويت التهمة. لأن عمارا إن كان صادقا في تلك الرواية ، فكيف يجوز له إخفاء الدين ، بسبب كراهية عمر لذلك ، وإن كان كاذبا فقد قويت التهمة.

وثامنها : نقل أن عائشة قالت : اخبروا زيد بن أرقم ، أنه أحبط جهاده مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب مسلة العينة.

وتاسعها : أن ابن عباس ، لما قال : إن رسول الله عليه‌السلام ، رأى ربه ليلة المعراج. قالت عائشة : وقف شعري مما سمعت. من قال : إن محمدا رأى ربه ، فقد أعظم الفرية على الله. وهذا الكلام منها : طعن عظيم في ابن عباس.

وعاشرها : ما روى أن ابن عباس لم يقبل خبر أبي سعيد في ربا الفضل. وتمسك بما رواه عن أسامة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا ربا إلا في النسيئة».

وفي الجملة : فهذا القدر القليل يرشدك إلى وجدان أمثال هذه المطاعن في كتب التواريخ. وإذا ثبت هذا ، فنقول : هذا يوجب تطرق الطعن إليهم. لأن الطاعن ، إن صدق فقد صار المطعون فيه مجروحا ، وإن كذب فقد صار الطاعن مجروحا. وكيف كان فالجرح لازم.

الوجه الثالث في تقرير هذا الطعن : إن كثيرا من الصحابة طعنوا في أبي هريرة. وبيانه من وجوه :

أحدها : إن أبا هريرة روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أصبح جنبا فلا صوم له» فرجعوا في هذه المسألة إلى عائشة ، وأم سلمة. فقالتا : كان النبي عليه‌السلام يصبح جنبا ، ثم يصوم. فذكروا ذلك لأبي هريرة. فقال : هما

٢٠٥

أعلم بذلك. أنبأني بهذا الخبر : الفضل بن عباس. واتفق أنه كان ميتا في ذلك الوقت.

وثانيها : أنه لما روى قوله عليه‌السلام : «إذا استيقظ أحدكم فلا يغمسن يده في الإناء ، حتى يغسلها ثلاثا» قال ابن عباس كالمنكر لقوله : فما تصنع بمهر أستا؟

وثالثها : ما روي أن عمر رضي الله عنه منع أبا هريرة عن الرواية ، وعلاه بالدرة. فنقول : أبو هريرة إن كان صادقا في تلك الروايات ، صار عمر مطعونا فيه ، بسبب ذلك المنع ، وإن كان متهما فقد صار أبو هريرة مطعونا فيه.

ورابعها : إن أبا هريرة ، كان يقول : «حدثني خليلي أبو القاسم» فمنعه علي بن أبي طالب. وقال : متى كان خليلا لك؟.

وخامسها : إن البراء بن عازب ، طعن في أبي هريرة. وقال : سمعنا كما سمعوا. لكنهم حدثوا بما لم يسمعوا.

وسادسها : إن الأفاضل الذين صحبوا من أول المبعث إلى آخر الوفاة ، ما حدثوا إلا قليلا. كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ـ رضي الله عنهم ـ مع كثرة علومهم وقوة خواطرهم ، وشدة ملازمتهم لحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجد النبي في إرشادهم وتعليمهم. وأما أبو هريرة فإنه لم يصل الى خدمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا مدة قليلة. وهو في نفسه ، ما كان زائدا في الذكاء والفطنة على أبي بكر وعلي.

ثم إنه روى ألفي خبر ، وأكثر. وهو نصف الصحاح. وهذا يدل على الطعن الشديد. لأنه لو قدر في تلك المدة القليلة على تحصيل هذه العلوم الكثيرة ، مع أن أبا بكر وعليا ، ما قدرا على عشر تحصيل تلك العلوم ، في المدة الطويلة ، لوجب القطع بأن أبا هريرة ، كان أفضل منهما ، وأكثر علما منهما. ومعلوم أن ذلك باطل.

ولا يقال : إن سائر الصحابة كانوا مشغولين بالتجارات ، وطلب الدنيا ، وأن أبا هريرة كان ملازما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٠٦

لأنا نقول : إن أبا بكر ترك التجارة بالكلية ، واشتغل بخدمة النبي. وفي زمان الإمامة ، كان مقدم الأمة ، والمرجوع إليه في حل المشكلات ، وإزاحة المعضلات. فكان هو أولى بالرواية. فحيث لم يفعل ذلك ، علمنا أن تركه هذه الروايات كان أولى. باتفاق أكابر الصحابة. وحينئذ يتوجه الطعن في أبي هريرة.

الوجه الرابع في تقرير هذا الطعن : إنه ليس في جملة الأخبار الصحيحة خبر أظهر ولا أشهر عند المحدثين من الخبر المشتمل على شرح الإسلام والإيمان والإحسان. ثم إنه اضطرب هذا الخبر ، اضطرابا شديدا ، بسبب ما فيه من الزيادات والنقصانات. ونحن نذكر القدر الذي ذكره الشيخ أبو بكر الجوزقي في كتابه الذي سماه بالمتفق بين الشيخين. وهو أول خبر أورده في ذلك الكتاب. فروى بإسناده عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة قال :

بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يوما بارزا للناس. فأتاه رجل. وقال يا رسول الله : ما الإيمان؟ قال : الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ورسله ولقائه. وتؤمن بالبعث الآخر. قال يا رسول الله: ما الإسلام؟ قال : أن تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان. قال يا رسول الله : ما الإحسان؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فلو أنك لا تراه. فإنه يراك. قال يا رسول الله : متى الساعة؟ قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل. وأحدثك عن أشراطها : إذا ولدت الأمة ربتها ، فذلك من أشراطها ، وإذا رأيت الحفاة العراة رءوس الناس ، فذلك من أشراطها. وإذا تطاول رعاة الغنم في البنيان ، فذاك من أشراطها. في خمس لا يعلمهن إلا الله. وتلا : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (١).

قال الشيخ أبو بكر الجوزقي مصنف كتاب المتفق بين الشيخين : هذا الحديث ما اجتمع الشيخان على صحته ، وله طرق. في بعضها زيادات.

__________________

(١) سورة لقمان ، آية : ٣٤.

٢٠٧

ثم ذكر طريقا ثانيا : وروى هذا الحديث بإسناد آخر عن أبي زرعة عن أبي هريرة ، أن رسول الله عليه‌السلام ، قال : «سلوني» فهابوا أن يسألوه. فجاء رجل ، فجلس عند ركبته. وقال يا رسول الله : ما الإسلام؟ قال : لا تشرك بالله شيئا. وزاد في الإيمان : هذا جبريل.

ثم طريقا ثالثا : عن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وفيه من الزيادات في ذكر الاسلام: قال : أن تصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. وقال : الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والقدر كله خيره وشره. وقال في آخره : ذلك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.

ثم ذكر طريقا رابعا : بإسناده عن يحيى بن يعمر ، قال : كان أول من تكلم في القدر: معبد الجهني بالبصرة. فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجا ، فلما قدمنا المدينة إذا نحن بعبد الله بن عمر. وذكر الحديث إلى : حدثني عمر بن الخطاب قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاءه شاب شديد سواد الشعر ، شديد بياض الثياب. لا نرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد. فجلس إلى رسول الله ، فألصق ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه. ثم قال : يا محمد. ما الإيمان؟ فذكر الحديث مع هذه الزيادات.

ثم ذكر طريقا خامسا : وفيه من الزيادات : أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن تقيم الصلاة ، وتؤتى الزكاة ، وتحج البيت وتعتمر وتغتسل من الجنابة ، وتتم الوضوء ، وتصوم رمضان. قال : فإن فعلت هذا ، فأنا مسلم؟ قال : نعم. وقال : الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالجنة والنار والميزان وتؤمن بالبعث بعد الموت. وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال : فإذا فعلت ، فأنا مؤمن؟ قال : نعم. وقال : هل تدرون من هذا؟ هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. فخذوا عنه. والذي نفسي بيده : ما شبه عليّ منذ أتاني قبل مرتي هذه ، وما عرفته حتى ولى

وأقول : هذه طرق خمسة ذكرها الشيخ أبو بكر الجوزقي. ورأيت في سائر الكتب اختلافات كثيرة ، أزيد من هذا. إلا أني اكتفيت بما ذكره هذا

٢٠٨

الشيخ لكونه مقبولا عند كل المحدثين. وإذا كان حال هذا الخبر في الاضطراب والتفاوت هكذا ، مع أنه أقوى الأخبار الصحيحة. فما ظنك بسائر الأخبار التي ما بلغت في القوة إلى عشر درجة هذا الخبر؟

واعلم : أن من تأمل في كتب الأخبار ، عرف أن أكثرها مضطرب بسبب الزيادات والنقصانات ، بحسب الروايات المختلفة.

الوجه الخامس : إنا نعلم بالضرورة : أن الصحابة الذين نقلوا عن رسول الله هذه الأخبار. ما كانوا يكتبونها عند سماعها منه ، بل كانوا يكتفون بمجرد السماع. ثم إنهم بعد سماعها منه ، ما كانوا يقرءونها عليه عند حضوره لغرض تصحيح الغلط وإصلاح الفاسد. بل كانوا يكتفون بالسماع مرة واحدة. ثم ربما رووا ذلك الحديث بعد المدة بثلاثين سنة ، أو أربعين سنة ، أو خمسين سنة. وعند هذا يحصل القطع واليقين. بوقوع التفاوت الكثير في الألفاظ ، وفي المعاني.

أما في الألفاظ : فلأن الفقيه الذي اعتاد تلقف الدرس من الأستاذ ، وبلغ في هذه القدرة إلى الغاية القصوى ، إذا ألقى الأستاذ الدرس عليه مرة واحدة ، فإنه لا يمكنه أن يعيد ذلك الدرس بألفاظ الأستاذ بالكلية. بل لا بد وأن يقع فيه تغيير كثير في الألفاظ ، وتقديم وتأخير. ثم من المعلوم : أن هؤلاء الرواة تعودوا تلقف الدروس ، وما مارسوا هذه الصنعة. بل كانوا يسمعون ألفاظ الرسول عليه‌السلام ، ثم كانوا يعيدونها بعد السنين المتطاولة. فلما لم يقدر الفقيه المتعود لتلقف الألفاظ على إعادة ما سمعه في ذلك المجلس بتلك العبارة ، فبأن لا يقدر عليه الرجل الذي لم يتعود البتة ضبط الألفاظ بعد خمسين سنة ، إعادة تلك الألفاظ ، كان أولى.

وبالجملة : فالعلم الضروري حاصل بأن إعادة تلك الألفاظ بعين ذلك الترتيب ، غير مقدور البتة.

وأما أن إعادة تلك المعاني غير ممكن أيضا : فذاك. لأن رجلا كبيرا مهيبا. إذا جلس يحدث الناس ، وحضر عنده ، جمع عظيم. فإذا تفرقوا عن

٢٠٩

مجلسه ، وحاول كل واحد من أولئك السامعين أن يحكي عين ما سمعه. فإنه يقع بينهم اختلاف شديد ، واضطراب عظيم ، بسبب الزيادة والنقصان في ذلك الكلام. فإذا كان الأمر كذلك مع قرب الزمان ، فكيف مع تطاول المدة ، وكثرة الوسائط ، وشدة رغبات المحدثين في وجوه التحريف والتغيير؟ فبهذا الطريق. ظهر أن هذه الأخبار المنقولة إلينا ، ليست ألفاظها ، ألفاظ صاحب الشريعة ، ولا معانيها تلك المعاني.

الوجه السادس من وجوه الطعن في أخبار الآحاد : إن من المحتمل أن يكون الحديث الذي رواه الراوي ، كان مسبوقا بكلام آخر ، فدخل هذا الراوي في أثناء الكلام ، ولم يسمع تلك المقدمة ، فيقل القدر الذي سمعه. وكان ذلك القدر حظى بانفراده. ولنذكر لهذا أمثلة :

المثال الأول : روى أن ابن عمر ، وأبوه عمر ـ رضى الله عنهما ـ كان ينهي كل واحد منهما عن البكاء على الميت. ويقول : سمعت رسول الله يقول : إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه. فأنكرت عائشة رضي الله عنها ، على ذلك. وقالت : إن لكم في القرآن ما يكفيكم. قال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ ، وِزْرَ أُخْرى) (١) والرسول ـ عليه‌السلام ـ إنما قال ذلك في حق يهودية ، وأهلها يبكون عليها : «إنهم يبكون وإنها لتعذب في قبرها» فإذا جاز أن يخفى على عمر ، وعلى ابنه عبد الله ذلك ، مع كثرة علمهما ، فما الظن بغيرهما.

المثال الثاني : لما رووا أن التاجر فاجر. قالت عائشة : إنه عليه‌السلام إنما قال ذلك في حق تاجر ، قد غش.

المثال الثالث : روى ابن مندة الأصفهاني في كتاب التوحيد ، عن ابن عطية. أنه قال: دخلنا على عائشة ، فقلنا : يا أم المؤمنين. إن ابن مسعود روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال: «من أحب لقاء الله ، أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله ، كره الله لقاءه» فقالت عائشة: رحم الله أبا عبد الرحمن. حدثكم بأول الحديث ، ولم تسألوه عن آخره. وسأحدثكم: «إن الله تعالى إذا

__________________

(١) سورة فاطر ، آية : ١٨.

٢١٠

أراد بعبد خيرا قيّض له ملكا قبل موته ، فسدده حتى يموت على الخير. فإذا رأى عند القرب من الموت مما يتنزل عليه من الرحمة والبركة ، أحب لقاء الله ، وأحب الله لقاءه ، وإذا أراد بعبد شرا ، قيض له شيطانا قبل موته ، فأغواه. فإذا حضره الموت رأى المكروه. فعند ذلك يكره لقاء الله ، ويكره الله لقاءه».

المثال الرابع : روي أنه عليه‌السلام قال : «ولد الزنا شر الثلاثة» فقال ابن عمر : بل ولد الزنا خير الثلاثة : والنبي عليه‌السلام إنما قال ذلك في ولد زنا بعينه.

فثبت : أن الكلام قد يكون مسبوقا بمقدمة ، ويتغير المعنى بسبب تغير تلك المقدمة. فإذا لم يسمعها الراوي ، تغير المقصود جدا.

الوجه السابع من وجوه الطعن : اختلاف الإعراب : فإن الحركات الإعرابية قد تخفى وتشتبه. فيتغير المعنى بسبب ذلك. كما في قوله : فحج آدم موسى. فإنك لو نصبت آدم ، كان المعنى شيئا. ولو رفعته كان المعنى ضد ذلك.

الوجه الثامن : أن الراوي قد يروي على سبيل التأويل : روى أن أبا هريرة كان في سفر ، فلما نزل القوم ، ووضعوا السفرة ، بعثوا إليه واحدا ، وهو يصلي. فقال : إني صائم ، فلما كادوا أن يفرغوا ، جاء أبو هريرة ، وشرع في الأكل ، فنظر القوم إلى رسولهم. فقال : ما تنظرون إلي؟ والله قد أخبرني أنه صائم. فقال أبو هريرة : صدق. سمعت رسول الله يقول : «من صام ثلاثة أيام من كل شهر ، فقد صام الشهر كله» وقد صمت ثلاثة أيام من كل شهر. فأنا صائم الشهر كله. وتصديق ذلك في كتاب الله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ ، فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (١).

وأقول : لو أن أبا هريرة لم يكشف عن مراده ، لحصل التلبيس. ولكنه لما بين ذلك ، علموا أنه إنما قال ذلك على سبيل التأويل. وإذا كان كذلك فلا

__________________

(١) سورة الأنعام ، آية : ١٦٠

٢١١

شيء من الأخبار ، إلا ويجوز على الراوي أن يزيد فيه ، أو ينقص من جهة التأويل.

الوجه التاسع : لعل الراوي ما سمع ذلك الكلام. ثم يقول : قال رسول الله. روي عن ابن عباس ، البراء بن عازب ، أنه قال : ليس كل ما حدثتكم به ، فقد سمعته من رسول الله. إلا أنا لا نكذب. فصرح بأنه قد يضيف إلى رسول الله ما لم يسمع منه.

وروي : أن أبا هريرة روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من أصبح جنبا ، فلا صوم له» فلما طولب بإثباته. قال : أخبرني به الفضل بن عباس.

الوجه العاشر : يجوز أن يعتقد بعضهم أن الحق كذا وكذا ، ثم يعتقد أن تقرير الحق بكل طريق أمكن جائز. فلهذا السبب ينقل عن الرسول عليه‌السلام في ذلك المعنى خبرا ، ويظن أنه جائز.

الحادي عشر : لا شك أن الرئاسة على الناس ، والتقدم عليهم ، أمر مطلوب لكل أحد ، ولا شك أنه إذا روى خبر ، أعرابيا ، لا يرويه غيره عن رسول الله ، كان ذلك يدل على أنه عليه‌السلام خصّه بذلك التعليم ، وجعله موضع سره في إظهار ذلك العلم. وذلك منصب عظيم ، ودرجة عالية عند الخلق. فلا يبعد أن يقدم بعضهم عليه طلبا للجاه والمنزلة عند الناس. ولعمري هذا بعيد جدا ، لا سيما في حق الصحابة ، إلا أن أصل الاحتمال فيه قائم. لأنا لما رأيناهم أقدموا على المقاتلة والملاعنة ، بسبب الجاه ، فكيف يبعد إقدامهم على هذا القدر من الذلة ، بسبب الجاه.

الثاني عشر : لا شك أن الأخبار الكثيرة واردة في المنع من الافتراء على الرسول. قال عليه‌السلام : «من كذب عليّ معتمدا ، فليتبوأ بيتا من جهنم» وقال : «نضّر الله امرأ ، سمع مقالتي فوعاها ، وأداها ، كما سمعها» وقال : «أعظم الفرية ثلاث» وعد منها : «أن يقول : سمعت رسول الله ، ولم يسمع منّي» ولو لا أنه ـ عليه‌السلام ـ علم أن أقواما يكذبون عليه. وإلا لم يقل ذلك. ولا جائز أن يقال : أولئك الأقوام هم المنافقون. وذلك لأن أهل النفاق

٢١٢

لا ينزجرون بزجره ، ولا يمتنعون بسبب هذا الوعيد ، لأنهم يكذبونه في ادعاء الرسالة ، فكيف يلتفتون إلى وعده ووعيده؟ فثبت : أنه عليه‌السلام إنما ذكر ذلك ، لأنه عرف أن جماعة من المسلمين ، كانوا يكذبون عليه.

الثالث عشر : المحدثون نقلوا أخبارا كثيرة في أنه ـ عليه‌السلام ـ كان يحث الناس في الرجوع إلى القرآن ، والمسك به ، والمنع من الأحاديث ، وكتابتها. وذلك يدل أيضا على تقوية قولنا.

الرابع عشر : إن الأخبار المذكورة في باب التشبيه ، بلغت مبلغا كثيرا في العدد ، وبلغت مبلغا عظيما في تقوية التشبيه ، وإثبات أن إله العالم يجري مجرى إنسان كبير الجثة ، عظيم الأعضاء ، وخرجت عن أن تكون قابلة للتأويل. ولما كان القائل بالتشبيه جاهلا بربه. والجاهل بربه يمتنع أن يكون رسولا حقا من عند الله ، علمنا : أن أكثر هذه الروايات : أباطيل وأضاليل ، وأن منصب الرسالة منزه عنه.

والعجب من هؤلاء المحدثين : أنهم يقولون : فلان متهم بالرفض ، فلا تقبل روايته ، ولم يقل أحد منهم : فلان مصرح بالتشبيه ، فكان جاهلا بربه ، فوجب أن لا تقبل روايته. لأن الطعن في أبو بكر وعمر ، لا يزيد على الطعن في ذات الله تعالى ، وفي صفاته.

فثبت بمجموع هذه الوجوه : أن أخبار الآحاد ضعيفة لا تفيد إلا الظن.

وإذا ثبت هذا فلنرجع إلى مطلوبنا من هذا الكتاب. فنقول : مسألة القضاء والقدر ، مسألة قطعية يقينية ، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن. والتمسك بالحجة الظنية في المسألة القطعية لا يجوز.

هذا تقرير هذا السؤال.

والجواب من وجهين :

الأول : هب أن كل واحد من هذه الأخبار غير معلوم الصحة ، إلا أن مجموعها ، ربما بلغ مبلغ القطع واليقين. وبهذا الطريق تمسكنا بالمعجزات

٢١٣

المروية بالآحاد. إلا أن هذا الطريق ينتقض بأخبار التشبيه. للمشبهة أن يقولوا : إن مجموعها بلغت مبلغ التواتر. فإن منعناهم عن ذلك ، كان لخصومنا في هذه المسألة أن يمنعونا عنه أيضا.

الثاني : نسلم أنها لا تفيد إلا الظن. ونكتفي منها بالظن. بل فيه فائدة أخرى. وهي: إن الدلائل العقلية إذا دلت على صحة قولنا ، ثم رأينا أن ظواهر القرآن والأخبار تؤكد تلك العقليات ، قوي اليقين وزالت الشبهات. وبالله التوفيق.

٢١٤

الفصل الثاني

في

تقرير الدلائل الاخبارية

على صحة القول بالقضاء والقدر

الحجة الأولى : ما رواه الشيخان في الصحيحين بإسنادهما عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس. أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله ـ عليه‌السلام ـ : «احتج آدم وموسى. فقال موسى : يا آدم. أنت أبونا ، وأخرجتنا من الجنة. فقال آدم يا موسى. اصطفاك الله بكلامه ، وخط لك التوراة بيده ، تلومني على أمر قدره الله عليّ ، قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى» وهذا الخبر مروي بطرق مختلفة. وفيها زيادات ونقصانات.

فإن قيل : هذا الحديث ضعيف. وبيانه من وجوه :

الأول : إنه روى هذا الحديث بطرق مختلفة فيها زيادات ونقصانات. والواقعة واحدة. وذلك يدل على الضعف.

الثاني : إن صاحب شرح السنة ، روى هذا الخبر بإسناد آخر. عن همام بن منبه ، قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تحاجّ آدم وموسى. فقال له موسى : أنت آدم الذي أغويت الناس فأخرجتهم من الجنة إلى الأرض» إلى آخر الحديث. والولد لا يجوز أن يشافه أباه بمثل هذا القول الغليظ ، والإيذاء الشديد. قال تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (١) وقال : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) (٢) فكيف إذا كان الأب مثل آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في كونه

__________________

(١) سورة الاسراء ، آية : ٢٣.

(٢) سورة الإسراء ، آية : ٢٣.

٢١٥

موصوفا بالنبوة والعلم ، وكونه مسجودا للملائكة. فكيف يليق بموسى أن يخاطبه بمثل هذا الإيذاء الشديد ، ويقول له : أنت أغويت الناس؟.

الثالث : إن الدليل دل على أن الزلة التي صدرت من آدم ، كانت من باب ترك الأفضل. أو من باب الصغائر. وعلى كلا التقديرين ، فإنه لا يجوز إلحاق الذم به ، بسبب ذلك. فلو فعله موسى ، لدل على جهله. وحاشاه عنه.

الرابع : أنه قال لآدم : «أنت الذي أشقيت الناس ، وأخرجتهم من الجنة» وقد علم موسى عليه‌السلام أن شقاء الخلق وإخراجهم من الجنة ، ما كان بسبب آدم ، بل الله خلقهم ليكونوا في أول الأمر في الأرض. قال تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ : إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (١).

الخامس : إن آدم عليه‌السلام احتج بما ليس بحجة. إذ لو قلنا : إن الله لما كتب عليه ذلك ، كان ذلك حجة لآدم. وقد كتب الله الكفر أيضا على فرعون ، وهامان ، وسائر الكفار. فوجب أن يكونوا معذورين فيه. ولما بطل ذلك ، علمنا فساد هذه الحجة.

السادس : إن الخبر اشتمل على أن رسول الله عليه‌السلام : صوّب آدم في هذا الاستدلال. فلما ثبت أن هذا الدليل خطأ ، لزم أن يكون تصويب النبي عليه‌السلام ، لآدم عليه‌السلام. في هذا الاستدلال : خطأ.

السابع : إن الدلائل العقلية قامت على فساد القول بالجبر ، والقرآن من أوله إلى آخره ناطق بفساد الجبر. وخبر الواحد إذا ورد على خلاف العقل ، وخلاف القرآن : وجب تأويله ، إن قبل التأويل ، ورده إن لم يقبل التأويل. وهذا الخبر يقبل التأويل من وجوه :

الأول : لعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد حكى هذا الكلام عن اليهود ، إلا أن الراوي

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٣٠.

٢١٦

حين دخل ، ما سمع تلك الحكاية ، بل سمع هذا القدر ، فظن أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما حكاه عن نفسه ، وعن مذهبه.

الثاني : لعله عليه‌السلام قال : «فحج آدم موسى» ـ بنصب آدم ـ أي أن موسى غلبه وجعله محجوجا ، وأن الذي ذكره آدم ليس بحجة ولا بعذر. وقد بينا : أنه لو كان ذلك عذرا، لوجب أن يكون كل الكفار معذورين. وذكرنا أيضا : أن وقوع التفاوت في الإعراب ، في أخبار الآحاد : غير مستبعد.

الثالث : وهو الوجه الأقوى أنه ليس المراد من هذه المناظرة : الذم على المعصية ، ولا الاعتذار منه بعلم الله. بل موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأله عن السبب الحامل له على تلك الزلة ، حتى خرج بسببها من الجنة. فقال آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن خروجي من الجنة ، ما كان بسبب تلك الزلة ، بل كان بسبب أن الله كان قد كتب عليّ أني أخرج إلى الأرض ، وأكون خليفة فيها. وهذا المعنى كان مكتوبا في التوراة ، فلا جرم كانت حجة آدم قوية ، وصار موسى عليه‌السلام في ذلك كالمغلوب.

الرابع : إن قوله : «كيف تلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة»؟ ليس المراد من لفظ التقدير هاهنا : الخلق والتكوين. لأن فعل الإنسان ، قبل خلق ذاته بأربعين سنة : محال. بل المراد من هذا التقدير : هو أنه تعالى كتب ذلك في اللوح المحفوظ. والتقدير بهذا التفسير مما لا نزاع في إثباته البتة.

فهذا جملة كلام المعتزلة على استدلال أصحابنا بهذا الخبر :

والجواب :

أما قوله : «رواية أبي هريرة مضطربة في هذا الخبر» قلنا : جميع الروايات مشتملة على التعليل بتقدير الله. ودليلنا : هو هذا القدر المشترك.

قوله ثانيا : «كيف يشافه الولد والده بالسوء ، لا سيما إذا كان الولد من

٢١٧

أكابر الأنبياء؟» قلنا : لا نسلم أن ذلك من باب المشافهة بالسوء. بل كان ذلك من باب الشكاية.

قوله ثالثا : «الصادر من آدم كان من باب الصغائر ، فلا يجوز أن يلام عليه» قلنا : لا نسلم أنه كان من باب الصغائر ، بل كان من باب الكبائر. إلا أنا نقول : إن تلك الواقعة وقعت قبل النبوة.

وقوله رابعا : «خروج الناس من الجنة ، ما كان بسبب آدم» قلنا : لم لا يجوز أن يقال : لما حصل الإخراج مقارنا لتلك الزلة ، انضاف إليها بحسب الظاهر.

وقوله خامسا : «لو كان ذلك حجة لآدم ، لكان أيضا حجة لفرعون وهامان» قلنا : هذه المناظرة إنما وقعت بين آدم وبين موسى. وهذه الحجة قوية بشرط أن تقع المناظرة بين إنسانين. إلا أن عندنا المناظرة مع الله ممتنعة. فلله ـ سبحانه ـ أن يقول : هذا العذر ، وإن كان عذرا فيما بين الخلق. إلا أني لا أقبله من فرعون وهامان ، وأقبله من آدم. لأن أفعالي معللة بمحض الإلهية.

وقوله [سادسا (١)] : «لعله ـ عليه‌السلام ـ إنما حكى هذا الكلام عن اليهود» قلنا : هذا سوء ظن بالراوي.

وقوله سابعا : «لعل الإعراب بخلاف ما ذكرتم» قلنا : هذا أيضا سوء ظن بالراوي.

وقوله ثامنا : «لعل المراد بهذا التقدير : أنه تعالى كتب ذلك على آدم» قلنا : هب أنه كذلك. لكن الله تعالى لما أخبر عنه ، امتنع أن لا يقع ، وإلا لزم أن ينقلب خبر الله من كونه صدقا إلى كونه كذبا ، وإنه محال.

واعلم : أنه لما رجع حاصل الاستدلال بهذا الخبر إلى هذا الحرف. فنقول : هذا الحرف حاصل ، بدون التمسك بهذا الخبر. لأن القرآن دل على أنه تعالى أخبر عن بعضهم ، أنه لا يؤمن. حينئذ يتم هذا الاستدلال ، من غير

__________________

(١) زيادة.

٢١٨

حاجة إلى التمسك بهذا الخبر. ويمكن أن يقال : فائدة هذا الخبر : أن يعلم أن الاستدلال بمثل هذه الحجة منقول عن أكابر الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وذلك من أعظم الفوائد. والله أعلم.

الحجة الثانية : روى أبو داود في سننه ، بإسناده ، عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يؤمن عبد ، حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله. وأني رسول الله بعثني بالحق. ويؤمن بالبعث بعد الموت. ويؤمن بالقدر» وزاد بعضهم : «خيره وشره».

قال الإمام الداعي إلى الله ، فخر الملة والدين ، محمد الرازي ، ختم الله له بالحسنى : هذا الترتيب موافق لكتاب الله. وذلك لأنه تعالى فصل أحوال الفرق الثلاثة في أول سورة البقرة. وهم المؤمنون والكافرون والمنافقون. ثم ابتدأ بدلائل التوحيد ، فقال : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) ثم ثنى بدلائل النبوة فقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا) ثم ثلث بأمر البعث والقيامة ، فقال : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ : أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) ثم ربع بأمر القدر ، فقال : (يُضِلُ) (١) بِهِ كَثِيراً ، وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً فصارت الأمور الأربعة المذكورة في الخبر ، هي الأمور المذكورة في أول كتاب الله تعالى بذلك الترتيب من غير فرق.

إذا عرفت هذا فنقول : لا نسلم أن المراد بالقدر : الخلق ، بل لفظ القدر ، قد يستعمل أيضا في الكتابة. قال الشاعر :

واعلم : بأن ذا الجلال قد قدر

في الصحف الأولى ، التي كان سطر.

ويستعمل أيضا في الحكم. قال تعالى : (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) (٢) وفي آية أخرى : (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٣) أي حكمنا

__________________

(١) بين الله في نهاية الآية أنه لا يضل إلا الفاسقين.

(٢) سورة النمل ، آية : ٥٧.

(٣) سورة الحجر ، آية : ٦٠.

٢١٩

بذلك ، فلم قلتم : إنه ليس المراد من القدر المذكور في هذا الخبر ، هو الكتابة؟ فإنه تعالى كتب جميع الكائنات في اللوح المحفوظ ، أو نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد منه : الحكم أو العلم. فإنه تعالى عالم بجميع الجزئيات على التفصيل التام؟

والدليل على صحة هذا التأويل : ما روى أبو هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «سبق علم الله في خلقه ، قبل أن خلقهم. فهم صائرون إلى ما علم الله منهم» فكان هذا الخبر ، كالمفسر لجميع الأخبار الواردة في باب القدر.

سلمنا : أن المراد من القدر الخلق والإيجاد. فلم قلتم : إن المراد من الخير والشر ، هو الطاعة والمعصية؟ وذلك لأن لفظ الخير والشر ، قد يستعملان أيضا في المنافع والمضار. قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (١) ومعلوم أن الابتلاء لا يقع بالخير والشر ، بمعنى الطاعة والمعصية. وإنما المراد بالخير : المنافع التي هي الأموال ، والرفاهية في العيش ، والصحة في البدن ، والأهل والأولاد. والمراد بالشر : المضار التي هي القحط والمرض ، والمصيبة. ولهذا سمى الحرب والفتنة : شرا. قال الشاعر :

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم

طاروا إليه زرافات ووحدانا

وقال :

لكن قومي. وإن كانوا ذوي عدد

ليسوا من الشر في شيء ، وإن هانا

وقال :

فلما أصبح الشر ،

فأمسى وهو عريان

ولم يبق سوى العدوان ،

دناهم كما دنوا

وفي الشر نجاة حين

لا ينجيك إحسان

إذا ثبت هذا فنقول : المراد بالقدر خيره وشره : ما ذكرناه. وذلك لأن الثنوية أثبتوا للعالم صانعين. أحدهما : يفعل اللذات والراحات. والآخر : يفعل الآلام والأسقام ، فشرط النبي عليه‌السلام في الإيمان : حصول الإيمان ،

__________________

(١) سورة الأنبياء ، آية : ٣٥.

٢٢٠