تفسير أبي السّعود - ج ٨

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٨

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

(إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (١٩)

____________________________________

(وَقالُوا) فى حقه (مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) أى قالوا تارة يعلمه غلام أعجمى لبعض ثقيف وأخرى مجنون أو* يقول بعضهم كذا وآخرون كذا فهل يتوقع من قوم هذه صفاتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير وما مثلهم إلا كمثل الكلب إذا جاع ضغا وإذا شبع طغى وقوله تعالى (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) جواب من جهته تعالى عن قولهم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون بطريق الالتفات لمزيد التوبيخ والتهديد وما بينهما اعتراض أى إنا نكشف العذاب المعهود عنكم كشفا قليلا أو زمانا قليلا إنكم تعودون إثر ذلك إلى ما كنتم عليه من العتو والإصرار على الكفر وتنسون هذه الحالة وصيغة الفاعل فى الفعلين للدلالة على تحققهما لا محالة ولقد وقع كلاهما حيث كشفه الله تعالى بدعاء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما لثوا أن عادوا إلى ما كانوا عليه من العتو والعناد ومن فسر الدخان بما هو من الأشراط قال إذا جاء الدخان تضور المعذبون به من الكفار والمنافقين وغوثوا وقالوا ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون فيكشفه الله تعالى عنهم بعد أربعين يوما وريثما يكشفه عنهم يرتدون ولا يتمهلون (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) يوم القيامة وقيل يوم بدر وهو ظرف لما دل عليه قوله تعالى (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) لا لمنتقمون لأن إن مانعة من ذلك أى يومئذ ننتقم إنا منتقمون وقيل* هو بدل من يوم تأتى الخ وقرىء نبطش أى نحمل الملائكة على أن يبطشوا بهم البطشة الكبرى وهو التناول بعنف وصولة أو نجعل البطشة الكبرى باطشة بهم وقرىء نبطش بضم الطاء وهى لغة (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) أى امتحناهم بإرسال موسى عليه‌السلام أو أوقعناهم فى الفتنة بالإمهال وتوسيع الرزق عليهم وقرىء بالتشديد للمبالغة أو لكثرة القوم (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) على الله تعالى أو على* المؤمنين أو فى نفسه لأن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا من سراة قومه وكرامهم (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) أى بأن أدوا إلى بنى اسرائيل وأرسلوهم معى أو بأن أدوا إلى يا عباد الله حقه من الإيمان وقبول الدعوة وقيل أن مفسرة لأن مجىء الرسول لا يكون إلا برسالة ودعوة وقيل مخففة من الثقيلة أى جاءهم بأن الشأن أدوا إلى الخ وقوله تعالى (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) تعليل للأمر أو لوجوب المأمور به أى رسول* غير ظنين قد ائتمننى الله تعالى على وحيه وصدقنى بالمعجزات القاهرة (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) أى لا تتكبروا عليه تعالى بالاستهانة بوحيه وبرسوله وأن كالتى سلفت وقوله تعالى (إِنِّي آتِيكُمْ) أى من جهته تعالى*

٦١

(وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) (٢٨)

____________________________________

* (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) تعليل للنهى أى آتيكم بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها وآتيكم على صيغة الفاعل أو المضارع وفى إيراد الأداء مع الأمين والسلطان مع العلا من الجزالة ما لا يخفى (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) أى التجأت إليه وتوكلت عليه (أَنْ تَرْجُمُونِ) من أن ترجمونى أى تؤذونى ضربا أو شتما أو أن تقتلونى قيل لما قال وأن لا تعلوا على الله توعدوه بالقتل وقرىء بإدغام الذال فى التاء (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أى وإن كابرتم مقتضى العقل ولم تؤمنوا لى فخلونى كفافا لا على ولا لى ولا تتعرضوا بشر ولا أذى فليس ذلك جزاء من يدعوكم إلى ما فيه فلا حكم وحمله على معنى فاقطعوا أسباب الوصلة عنى فلا موالاة بينى وبين من لا يؤمن يأباه المقام (فَدَعا رَبَّهُ) بعد ما تموا على تكذيبه عليه‌السلام* (أَنَّ هؤُلاءِ) أى بأن هؤلاء (قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) وهو تعريض بالدعاء عليهم بذكر ما استوجبوه ولذلك سمى دعاء وقرىء بالكسر على إضمار القول قيل كان دعاؤه اللهم عجل لهم ما يستحقونه بإجرامهم وقيل هو قوله (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) بإضمار القول إما بعد الفاء أى فقال ربه أسر بعبادى وإما قبلها كأنه قيل إن كان الأمر كما تقول فأسر بعبادى أى ببنى إسرائيل فقد دبر* الله تعالى أن تتقدموا وقرىء بوصل الهمزة من سرى (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أى يتبعكم فرعون وجنوده بعد ما علموا بخروجكم (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) مفتوحا ذا فجوة واسعة أو ساكنا على هيئته بعد ما جاوزته* ولا تضربه بعصاك لينطبق ولا تغيره عن حاله ليدخله القبط (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) وقرىء أنهم بالفتح أى لأنهم (كَمْ تَرَكُوا) أى كثيرا تركوا بمصر (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) محافل مزينة ومنازل محسنة (وَنَعْمَةٍ) أى تنعم (كانُوا فِيها فاكِهِينَ) متنعمين وقرىء فكهين (كَذلِكَ) الكاف فى حيز النصب وذلك إشارة إلى مصدر يدل عليه تركوا أى مثل ذلك السلب سلناهم

٦٢

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) (٣٥)

____________________________________

إياها (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) وقيل مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها وقيل فى حيز الرفع على* الخبرية أى الأمر كذلك فحينئذ يكون أورثناها معطوفا على تركوا وعلى الأولين على الفعل المقدر (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم فيه تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده فيقال له بكت السماء والأرض ومنه ما روى أن المؤمن ليبكى عليه مصلاه ومحل عبادته ومصاعد عمله ومهابط رزقه وآثاره فى الأرض وقيل تقديره أهل السماء والأرض (وَما كانُوا) لما جاء وقت هلاكهم (مُنْظَرِينَ) ممهلين إلى وقت آخر أو إلى الآخرة بل* عجل لهم فى الدنيا (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) بأن فعلنا بفرعون وقومه ما فعلنا (مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) من استعباد فرعون إياهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم على الخسف والضيم (مِنْ فِرْعَوْنَ) بدل من العذاب إما على جعله نفس العذاب لإفراطه فيه وإما على حذف المضاف أى عذاب فرعون أو حال من المهين أى كائنا من فرعون وقرىء من فرعون على معنى هل تعرفونه من هو فى عتوه وتفر عنه وفى إبهام أمره أولا وتبيينه بقوله تعالى (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) ثانيا من الإفصاح عن كنه أمره* فى الشر والفساد ما لا مزيد عليه وقوله تعالى (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) إما خبر ثان لكان أى كان متكبرا مسرفا أو حال من الضمير فى (عالِياً) أى كان رفيع الطبقة من بين المسرفين فائقا لهم بليغا فى الإسراف (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) أى بنى إسرائيل (عَلى عِلْمٍ) أى عالمين بأنهم أحقاء بالاختيار أو عالمين بأنهم يزيغون فى* الأوقات ويكثر منهم الفرطات (عَلَى الْعالَمِينَ) جميعا لكثرة الأنبياء فيهم أو على عالمى زمانهم (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ) كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغيرها من عظائم الآيات التى لم يعهد مثلها فى غيرهم (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) نعمة جلية أو اختبار ظاهر لننظر كيف يعملون (إِنَّ هؤُلاءِ) يعنى كفار قريش لأن الكلام فيهم وقصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على تماثلهم فى الإصرار على الضلالة والتحذير عن حلول مثل ما حل بهم (لَيَقُولُونَ) (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) أى ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية ولا قصد إلى إثبات موتة أخرى كما فى قولك حج زيد

٦٣

(فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) (٤٠)

____________________________________

الحجة الأولى ومات وقيل لما قيل لهم إنكم تموتون موتة تعقبها حياة كما تقدمتم موتة كذلك قالوا ما هى إلا موتتنا الأولى أى ما الموتة التى تعقبها حياة إلا الموتة الأولى وقيل المعنى ليست الموتة إلا هذه الموتة دون الموتة التى تعقب حياة القبر كما تزعمون (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) بمبعوثين (فَأْتُوا بِآبائِنا) * حطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى ليظهر أنه حق وقيل كانوا يطلبون إليهم أن يدعوا الله تعالى فينشر لهم قصى ابن كلاب ليشاوروه وكان كبيرهم ومفزعهم فى المهمات والملمات (أَهُمْ خَيْرٌ) رد لقولهم* وتهديد لهم أى أهم خير فى القوة والمنعة اللتين يدفع بهما أسباب الهلاك (أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) هو تبع الحميرى الذى سار بالجيوش وحير الحيرة وبنى سمرقند وقيل هدمها وكان مؤمنا وقومه كافرين ولذلك ذمهم الله تعالى دونه وكان يكتب فى عنوان كتابه بسم الله الذى ملك بحرا وبحرا أى بحارا كثيرة وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا نسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم وعنه عليه الصلاة والسلام ما أدرى أكان تبع نبيا أو غير نبى وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه كان نبيا وقيل لملوك اليمن التبابعة لأنهم يتبعون* كما يقال لهم الأقيال لأنهم يتقيلون (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) عطف على قوم تبع والمراد بهم عاد وثمود وأضرابهم* من كل جبار عنيد أولى بأس شديد والاستفهام لتقرير أن أولئك أقوى من هؤلاء وقوله تعالى (أَهْلَكْناهُمْ) * استئناف لبيان عاقبة أمرهم وقوله تعالى (إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) تعليل لإهلاكهم ليعلم أن أولئك حيث أهلكوا بسبب إجرامهم مع ما كانوا فى غاية القوة والشدة فلأن يهلك هؤلاء وهم شركاء لهم فى الإجرام أضعف منهم فى الشدة والقوة أولى (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) أى ما بين الجنسين وقرىء وما بينهن (لاعِبِينَ) لاهين من غير أن يكون فى خلقهما غرض صحيح وغاية حميدة (ما خَلَقْناهُما) * وما بينهما (إِلَّا بِالْحَقِّ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال أو أعم الأسباب أى ما خلقنا هما ملتبسا بشىء من الأشياء إلا ملتبسا بالحق أو ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق الذى هو الإيمان والطاعة والبعث والجزاء (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن الأمر كذلك فينكرون البعث والجزاء (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أى فصل الحق عن الباطل وتمييز المحق من المبطل أو فصل الرجل عن أقاربه وأحبائه (مِيقاتُهُمْ) * وقت موعدهم (أَجْمَعِينَ) وقرىء ميقاتهم بالنصب على أنه اسم إن ويوم الفصل خبرها أى إن ميعاد حسابهم وجزائهم فى يوم الفصل

٦٤

(يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) (٥٠)

____________________________________

(يَوْمَ لا يُغْنِي) بدل من يوم الفصل أو صفة لميقاتهم أو ظرف لما دل عليه الفصل لا لنفسه (مَوْلًى) من قرابة أو غيرها (عَنْ مَوْلًى) أى مولى كان (شَيْئاً) أى شيئا من الإغناء (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) الضمير* لمولى الأول باعتبار المعنى لأنه عام (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) بالعفو عنه وقبول الشفاعة فى حقه ومحله الرفع على البدل من الواو أو النصب على الاستثناء (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) الذى لا ينصر من أراد تعذيبه (الرَّحِيمُ) * لمن أراد أن يرحمه (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) وقرىء بكسر الشين وقد مر معنى الزقوم فى سورة الصافات (طَعامُ الْأَثِيمِ) أى الكثير الآثام والمراد به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه (كَالْمُهْلِ) وهو ما يمهل فى النار حتى يذوب وقيل هو دردى الزيت (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) وقرىء بالتاء على إسناد الفعل* إلى الشجرة (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) غليانا كغليه (خُذُوهُ) على إرادة القول والخطاب للزبانية (فَاعْتِلُوهُ) أى جروه والعتل الأخذ بمجامع الشىء وجره بقهر وعنف وقرىء بضم التاء وهى لغة فيه (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) أى وسطه (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) كان الأصل يصب من فوق رؤسهم الحميم فقيل يصب من فوق رؤسهم عذاب هو الحميم للمبالغة ثم أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف وزيد من للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أى وقولوا له ذلك استهزاء به وتقريعا له على ما كان يزعمه روى أن أبا جهل قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بين جبليها أعز ولا أكرم منى فو الله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بى شيئا وقرىء بالفتح أى لأنك أو عذاب أنك (إِنَّ هذا) أى العذاب (ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) تشكون وتمارون فيه والجمع باعتبار المعنى لأن

٦٥

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) (٥٩)

____________________________________

المراد جنس الأثيم (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أى عن الكفر والمعاصى (فِي مَقامٍ) فى موضع قيام والمراد المكان على الإطلاق فإنه من الخاص الذى شاع استعماله فى معنى العموم وقرىء بضم الميم وهو موضع إقامة* (أَمِينٍ) يأمن صاحبه الآفات والانتقال عنه وهو من الأمن الذى هو ضد الخيانة وصف به المكان بطريق الاستعارة كان المكان المخيف يخون صاحبه لما يلقى فيه من المكاره (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) بدل من مقام جىء به دلالة على نزاهته واشتماله على طيبات المآكل والمشارب (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) إما خبر ثان أو حال من الضمير فى الجار أو استئناف والسندس مارق من الحرير والاستبرق ما غلظ منه معرب (مُتَقابِلِينَ) فى المجالس ليستأنس بعضهم ببعض (كَذلِكَ) أى الأمر كذلك أو* كذلك أثبناهم (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) على الوصف وقرىء بالإضافة أى قرناهم بهن والحور جمع الحوراء وهى البيضاء والعين جمع العيناء وهى العظيمة العينين واختلف فى أنهن نساء الدنيا أو غيرها (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) أى يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهونه من الفواكه لا يتخصص شىء منها بمكان ولا زمان (آمِنِينَ) من كل ما يسوؤهم (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) بل يستمرون على الحياة أبدا والاستثناء منقطع أو متصل على أن المراد بيان استحالة ذوق الموت فيها على الإطلاق* كأنه قيل لا يذوقون فيها الموت إلا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى حينئذ (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) وقرىء مشددا للمبالغة فى الوقاية (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) أى أعطوا ذلك كله عطاء وتفضلا منه تعالى وقرىء بالرفع* أى ذلك فضل (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذى لا فوز وراءه إذ هو خلاص عن جميع المكاره ونيل لكل المطالب وقوله تعالى (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فذلكة للسورة الكريمة أى إنما أنزلنا الكتاب المبين بلغتك كى يفهمه قومك ويتذكروا ويعملوا بموجبه وإذا لم يفعلوا ذلك (فَارْتَقِبْ)

٦٦

٤٥ ـ سورة الجاثية

(مكية وهى سبع وثلاثون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤)

____________________________________

فانتظر ما يحل بهم (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) ما يحل بك. روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ حم الدخان* ليلة الجمعة أصبح مغفورا له.

(سورة الجاثية مكية وهى سبع وثلاثون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (حم) الكلام فيه كما مر فى فاتحة سورة المؤمن فإن جعل اسما للسورة فمحله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى هذا مسمى بحم والإشارة إلى السورة قبل جريان ذكرها قد وقفت على سره مرارا وإن جعل مسرودا على نمط التعديد فلا حظ له من الإعراب وقوله تعالى (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) على الأول خبر بعد خبر على أنه مصدر أطلق على المفعول مبالغة وعلى الثانى خبر لمبتدأ مضمر يلوح به ما قبله أى المؤلف من جنس ما ذكر تنزيل الكتاب وقيل هو خبر لحم أى المسمى به تنزيل الخ وقد مر مرارا أن الذى يجعل عنوانا للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه وإذ لا عهد بالتسمية بعد فحقها الإخبار بها وأما جعله خبرا له بتقدير المضاف وإبقاء التنزيل على أصله أى تنزيل حم تنزيل الكتاب فمع عرائه عن إفادة فائدة يعتد بها تمحل وقوله تعالى (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) كما مر فى صدر سورة الزمر على التفصيل وقيل حم مقسم به وتنزيل الكتاب* صفته وجواب القسم قوله تعالى (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) وهو على الوجوه المتقدمة كلام مستأنف مسوق للتنبيه على الآيات التكوينية الآفاقية والأنفسية ومحل الآيات إما نفس السموات والأرض فإنهما منطويتان من فنون الآيات على ما يقصر عنه البيان وإما خلقهما كما فى قوله تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهو الأوفق بقوله تعالى (وَفِي خَلْقِكُمْ) أى من نطفة ثم من علقة متقلبة فى أطوار مختلفة إلى تمام الخلق (وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) عطف على المضاف دون المضاف إليه أى وفيما* نشره ويفرقه من دابة (آياتٌ) بالرفع على أنه مبتدأ خبره الظرف المقدم والجمل معطوفة على ما قبلها* من الجملة المصدرة بأن وقيل آيات عطف على ما قبلها من آيات باعتبار المحل عند من يجوزه وقرىء

٦٧

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٨)

____________________________________

آية بالتوحيد وقرىء آيات بالنصب عطفا على ما قبلها من اسم إن والخبر كأنه قيل وإن فى خلقكم وما يبث من دابة آيات (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أى من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هى عليه (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بالجر على إضمار الجار المذكور فى الآيتين قبله وقد قرىء بذكره والمراد باختلافهما* إما تعاقبهما أو تفاوتهما طولا وقصرا (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ) عطف على اختلاف (مِنْ رِزْقٍ) * أى من مطر وهو سبب للرزق عبر عنه بذلك تنبيها على كونه آية من جهتى القدرة والرحمة (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) بأن أخرج منها أصناف الزروع والثمرات والنبات (بَعْدَ مَوْتِها) وعرائها عن آثار الحياة* وانتفاء قوة التنمية عنها وخلو أشجارها عن الثمار (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) من جهة إلى أخرى ومن حال إلى حال وقرىء بتوحيد الريح وتأخيره عن إنزال المطر مع تقدمه عليه فى الوجود إما للإيذان بأنه آية مستقلة حيث لوروعى الترتيب الوجودى لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح وإنزال المطر آية واحدة وإما لأن كون التصريف آية ليس لمجرد كونه مبدأ لإنشاء المطر بل له ولسائر المنافع التى* من جملتها سوق السفن فى البحار (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) بالرفع على أنه مبتدأ خبره ما تقدم من الجار والمجرور والجملة معطوفة على ما قبلها وقرىء بالنصب على الاختصاص وقيل على أنها اسم إن والمجرور المتقدم خبرها بطريق العطف على معمولى عاملين مختلفين هما إن وفى أقيمت الواو مقامهما فعملت الجر فى اختلاف والنصب فى آيات وتنكير آيات فى المواقع الثلاثة للتفخيم كما وكيفا واختلاف الفواصل لاختلاف مراتب الآيات فى الدقة والجلاء (تِلْكَ آياتُ اللهِ) مبتدأ وخبر وقوله تعالى (نَتْلُوها عَلَيْكَ) حال عاملها معنى الإشارة وقيل هو الخبر وآيات الله بدل أو عطف بيان (بِالْحَقِّ) حال من* فاعل نتلو ومن مفعوله أى نتلوها محقين أو ملتبسة بالحق (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ) من الأحاديث (بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ) أى بعد آيات الله وتقديم الاسم الجليل لتعظيمها كما فى قولهم أعجبنى زيد وكرمه أو بعد حديث الله الذى هو القرآن حسبما نطق به قوله تعالى (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) وهو المراد بآياته أيضا ومناط ٧ العطف التغاير العنوانى (يُؤْمِنُونَ) بصيغة الغيبة وقرىء بالتاء (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ) كذاب (أَثِيمٍ) كثير الآثام (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ) صفة أخرى لأفاك وقيل استئناف وقيل حال من الضمير فى أثيم (تُتْلى عَلَيْهِ) حال من آيات الله ولا مساغ لجعله مفعولا ثانيا ليسمع لأن شرطه أن يكون ما بعده مما لا يسمع

٦٨

(وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) (١١)

____________________________________

كقولك سمعت زيدا يقرأ (ثُمَّ يُصِرُّ) أى يقيم على كفره وأصله من إصرار الحمار على العانة (مُسْتَكْبِراً) * عن الإيمان بما سمعه من آيات الله تعالى والإذعان لما تنطق مزدريا لها معجبا بما عنده من الأباطيل وقيل نزلت فى النضر بن الحرث وكان يشترى من أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن لكنها وردت بعبارة عامة ناعية عليه وعلى كل من يسير سيرته ما هم فيه من الشر والفساد وكلمة ثم لاستبعاد الإصرار والاستكبار بعد سماع الآيات التى حقها أن تذعن لها القلوب وتخضع لها الرقاب كما فى قول من قال [يرى غمرات الموت ثم يزورها] (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أى كائن لم يسمعها فخفف وحذف* ضمير الشأن والجملة حال من يصر أى يصر شبيها بغير السامع (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) على إصراره واستكباره* (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً) أى إذا بلغه من آياتنا شىء وعلم أنه من آياتنا لا أنه علمه كما هو عليه فإنه بمعزل من ذلك العلم وقيل إذا علم منها شيئا يمكن أن يتشبث به المعاند ويجد له محملا فاسدا يتوصل به إلى الطعن والغميزة (اتَّخَذَها) أى الآيات كلها (هُزُواً) أى مهزوءا بها لا ما سمعه فقط وقيل الضمير* للشىء والتأنيث لأنه فى معنى الآيات (أُولئِكَ) إشارة إلى كل أفاك من حيث الاتصاف بما ذكر من* القبائح والجمع باعتبار الشمول للكل كما فى قوله تعالى (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) كما أن الإفراد فيما سبق من الضمائر باعتبار كل واحد واحد (لَهُمْ) بسبب جناياتهم المذكورة (عَذابٌ مُهِينٌ) وصف* العذاب بالإهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم بآيات الله سبحانه وتعالى (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) أى من قدامهم لأنهم متوجهون إلى ما أعد لهم أو من خلفهم لأنهم معرضون عن ذلك مقبلون على الدنيا فإن الوراء اسم للجهة التى يواريها الشخص من خلف وقدام (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ) ولا يدفع (ما كَسَبُوا) * من الأموال والأولاد (شَيْئاً) من عذاب الله تعالى أو شيئا من الإغناء (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) أى الأصنام وتوسيط حرف النفى بين المعطوفين مع أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعا مبنى على زعمهم الفاسد حيث كانوا يطمعون فى شفاعتهم وفيه تهكم (وَلَهُمْ) فيما وراءهم من جهنم (عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره (هذا) أى القرآن (هُدىً) فى غاية الكمال من الهداية كأنه نفسها (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أى بالقرآن وإنما وضع موضع ضميره قوله تعالى* (بِآياتِ رَبِّهِمْ) لزيادة تشنيع كفرهم به وتفظيع حالهم (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) أى من أشد العذاب* (أَلِيمٌ) بالرفع صفة عذاب وقرىء بالجر على أنه صفة رجز وتنوين عذاب فى المواقع الثلاثة للتفخيم* ورفعه إما على الابتداء وإما على الفاعلية.

٦٩

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤)

____________________________________

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ) بأن جعله أملس السطح يطفو عليه ما يتخلل كالأخشاب ولا يمنع الغوص* والخرق لميعانه (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) وأنتم راكبوها (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بالتجارة والغوص والصيد وغيرها (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ولكى تشكروا النعم المترتبة على ذلك (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الموجودات بأن جعلها مدارا لمنافعكم (جَمِيعاً) إما حال من ما فى السموات والأرض* أو توكيد له (مِنْهُ) متعلق بمحذوف هو صفة لجميعا أو حال من ما أى جميعا كائنا منه تعالى أو سخر لكم هذه الأشياء كائنة منه مخلوقة له تعالى أو خبر لمحذوف أى هى جميعا منه تعالى وقرىء منة على* المفعول له ومنه على أنه فاعل سخر على الإسناد المجازى أو خبر مبتدأ محذوف أى ذلك منه (إِنَّ فِي ذلِكَ) أى فيما ذكر من الأمور العظائم (لَآياتٍ) عظيمة الشأن كثيرة العدد (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فى بدائع صنع الله تعالى فإنهم يقفون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها ويوفقون لشكرها (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا) حذف المقول لدلالة (يَغْفِرُوا) عليه فإنه جواب للأمر باعتبار تعلقه به لا باعتبار نفسه* فقط أى قل لهم اغفروا يغفروا (لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أى يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون وقائعه تعالى بأعدائه من قولهم أيام العرب لوقائعها وقيل لا يأملون الأوقات التى وقتها الله تعالى لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها قيل نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بها وقيل نزلت فى عمر رضى الله عنه حين شتمه غفارى فهم أن يبطش به وقيل حين قال ابن أبى ما قال وذلك أنهم نزلوا فى غزوة بنى المصطلق على بئر يقال لها المريسيع فأرسل ابن أبى غلامه يستقى فأبطأ عليه فلما أتاه قال له ما حبسك قال غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحدا يستقى حتى ملأ قرب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرب أبى بكر فقال ابن أبى ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك فبلغ ذلك عمر رضى الله عنه فاشتمل* سيفه يريد التوجه إليه فأنزلها الله تعالى (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) تعليل للأمر بالمغفرة والمراد بالقوم المؤمنون والتنكير لمدحهم والثناء عليهم أى أمروا بذلك ليجزى يوم القيامة قوما أيما قوم قوما مخصوصين بما كسبوا فى الدنيا من الأعمال الحسنة التى من جملتها الصبر على أذية الكفار والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه ما يقصر عنه البيان من الثواب العظيم هذا وقد جوز أن يراد بالقوم الكفرة وبما كانوا يكسبون سيئاتهم التى من جملتها ما حكى من الكلمة الخبيثة والتنكير للتحقير وفيه أن مطلق الجزاء لا يصلح تعليلا للأمر بالمغفرة لتحققه على تقديرى المغفرة وعدمها فلا بد من تخصيصه بالكل بأن لا يتحقق بعض منه فى الدنيا أو بما يصدر عنه تعالى بالذات وفى ذلك من التكلف ما لا

٧٠

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٢٠)

____________________________________

يخفى وأن يراد كلا الفريقين وهو أكثر تكلفا وأشد تمحلا وقرىء ليجزى قوم وليجزى قوما أى ليجزى الجزاء قوما وقرىء لنجزى بنون العظمة (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) لا يكاد يسرى عمل إلى غير عامله (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ) مالك أموركم (تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على أعمالكم خيرا كان أو* شرا (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) أى التوراة (وَالْحُكْمَ) أى الحكمة النظرية والعملية والفقه فى الدين أو فصل الخصومات بين الناس إذ كان الملك فيهم (وَالنُّبُوَّةَ) حيث كثر فيهم الأنبياء ما لم* يكثر فى غيرهم (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) مما أحل الله تعالى من اللذائذ كالمن والسلوى (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) حيث آتيناهم ما لم يؤت من عداهم من فلق البحر وإظلال الغمام ونظائرهما وقيل على عالمى زمانهم (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) دلائل ظاهرة فى أمر الدين ومعجزات قاهرة وقال ابن عباس رضى الله عنهما هو العلم بمبعث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما بين لهم من أمره وأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب ويكون أنصاره أهل يثرب (فَمَا اخْتَلَفُوا) فى ذلك الأمر (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بحقيقته وحقيته فجعلوا* ما يوجب زوال الخلاف موجبا لرسوخه (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أى عداوة وحسدا لا شكا فيه (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بالمؤاخذة والجزاء (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ) أى سنة وطريقة عظيمة الشأن (مِنَ الْأَمْرِ) أى أمر الدين (فَاتَّبِعْها) بإجراء أحكامها فى نفسك وفى* غيرك من غير إخلال بشىء منها (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أى آراء الجهلة واعتقاداتهم الزائغة* التابعة للشهوات وهم رؤساء قريش كانوا يقولون له عليه الصلاة والسلام ارجع إلى دين آبائك (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) مما أراد بك إن اتبعتهم (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) لا يواليهم* ولا يتبع أهواءهم إلا من كان ظالما مثلهم (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) الذين أنت قدوتهم قدم على ما أنت عليه* من توليه خاصة والإعراض عما سواه بالكلية (هذا) أى القرآن أو اتباع الشريعة (بَصائِرُ لِلنَّاسِ)

٧١

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٢)

____________________________________

* فإن ما فيه من معالم الدين وشعائر الشرائع بمنزلة البصائر فى القلوب (وَهُدىً) من ورطة الضلالة (وَرَحْمَةٌ) عظيمة (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) من شأنهم الإيقان بالأمور (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) استئناف مسوق لبيان تباين حالى المسيئين والمحسنين إثر بيان تباين حالى الظالمين والمتقين وأم منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثانى والهمزة لإنكار الحسبان لكن لا بطريق إنكار الوقوع ونفيه كما فى قوله تعالى (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) بل بطريق إنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه والاجتراح الاكتساب (أَنْ نَجْعَلَهُمْ) أى نصيرهم فى الحكم والاعتبار وهم على ما هم عليه من مساوى الأحوال (كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وهم فيما هم فيه من محاسن الأعمال ونعاملهم معاملتهم فى الكرامة ورفع الدرجة (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) أى محيا الفريقين جميعا ومماتهم حال من الضمير فى الظرف والموصول معا لاشتماله على ضميريهما على أن السواء بمعنى المستوى ومحياهم ومماتهم مرتفعان به على الفاعلية والمعنى أم حسبوا أن نجعلهم كائنين مثلهم حال كون الكل مستويا محياهم ومماتهم كلا لا يستوون فى شىء منهما فإن هؤلاء فى عز الإيمان والطاعة وشرفهما فى المحيا وفى رحمة الله تعالى ورضوانه فى الممات وأولئك فى ذل الكفر والمعاصى وهوانهما فى المحيا وفى لعنة الله والعذاب الخالد فى الممات شتان بينهما وقد قيل المراد إنكار أن يستووا فى الممات كما استووا فى الحياة لأن المسيئين والمحسنين مستو محياهم فى الرزق والصحة وإنما يفترقون فى الممات وقرىء محياهم ومماتهم بالنصب على أنهما ظرفان كمقدم الحاج وسواء حال على حاله أى حال كونهم مستوين فى محياهم ومماتهم وقد ذكر فى الآية الكريمة وجوه أخر من الإعراب والذى يليق بجزالة التنزيل هو الأول فتدبر وقرىء سواء بالرفع على أنه خبر ومحياهم مبتدأ فقيل الجملة بدل من الكاف وقيل حال وأيا ما كان فنسبة حسبان التساوى إليهم فى ضمن الإنكار التوبيخى مع أنهم بمعزل منه جازمون بفضلهم على المؤمنين للمبالغة فى الإنكار والتشديد فى التوبيخ فإن إنكار حسبان* التساوى والتوبيخ عليه إنكار لحسبان الجزم بالفضل وتوبيخ عليه على أبلغ وجه وآكده (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أى ساء حكمهم هذا أو بئس شيئا حكموا به ذلك (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) استئناف مقرر لما سبق من الحكم فإن خلق الله تعالى لهما ولما فيهما بالحق المقتضى للعدل يستدعى لا محالة تفضيل المحسن على المسىء فى المحيا والممات وانتصار المظلوم من الظالم وإذا لم يطرد ذلك فى المحيا فهو* بعد الممات حتما (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) عطف على بالحق لأن فيه معنى التعليل إذ معناه خلقها مقرونة بالحكمة والصواب دون البعث والباطل فحاصله خلقها لأجل ذلك ولتجزى الخ أو على علة

٧٢

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٥)

____________________________________

محذوفة مثل ليدل بها على قدرته أو ليعدل ولتجزى (وَهُمْ) أى النفوس المدلول عليها بكل نفس (لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب أو بزيادة عقاب وتسمية ذلك ظلما مع أنه ليس كذلك على ما عرف قاعدة أهل السنة لبيان غاية تنزه ساحة لطفه تعالى عما ذكر بتنزيله منزلة الظلم الذى يستحيل صدوره عنه تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) تعجيب من حال من ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فكأنه عبده أى أنظرت فرأيته فإن ذلك مما يقضى منه العجب وقرىء آلهة هواه لأن أحدهم كان يستحسن حجرا فيعبده فإذا رأى أحسن منه رفضه إليه فكأنه اتخذ آلهة شتى (وَأَضَلَّهُ اللهُ) وخذله (عَلى عِلْمٍ) أى عالما بضلاله* وتبديله لفطرة الله تعالى التى فطر الناس عليها (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) بحيث لا يتأثر بالمواعظ ولا* يتفكر فى الآيات والنذر (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) مانعة عن الاستبصار والاعتبار وقرىء بفتح* الغين وضمها وقرىء غشوة (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) أى من بعد إضلاله تعالى إياه بموجب تعاميه عن* الهدى وتماديه فى الغى (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أى ألا تلاحظون فلا تذكرون وقرىء تتذكرون على الأصل* (وَقالُوا) بيان لأحكام ضلالهم المحكى أى قالوا من غاية غيهم وضلالهم (ما هِيَ) أى ما الحياة (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) التى نحن فيها (نَمُوتُ وَنَحْيا) أى يصينا الموت والحياة فيها وليس وراء ذلك حياة وقيل* نكون نطفا وما قبلها وما بعدها ونحيا بعد ذلك أو نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا أو يموت بعضنا ويحيا بعضنا وقد جوز أن يريدوا به التناسخ فإنه عقيدة أكثر عبدة الأوثان وقرىء نحيا (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) إلا مرور الزمان وهو فى الأصل مدة بقاء العالم من دهره أى غلبه وقرىء إلا دهر يمر وكانوا يزعمون أن المؤثر فى هلاك الأنفس هو مرور الأيام والليالى وينكرون ملك الموت وقبضه للأرواح بأمر الله تعالى ويضيفون الحوادث إلى الدهر والزمان ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر أى فإن الله هو الآتى بالحوادث لا الدهر (وَما لَهُمْ بِذلِكَ) أى بما ذكر* من اقتصار الحياة على ما فى الدنيا واستناد الحياة والموت إلى الدهر (مِنْ عِلْمٍ) ما مستند إلى عقل أو* نقل (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يكون لهم شىء يصح* أن يتمسك به فى الجملة هذا معتقدهم الفاسد فى أنفسهم (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) الناطقة بالحق الذى من جملته البعث (بَيِّناتٍ) واضحات الدلالة على ما نطقت به أو مبينات له (ما كانَ حُجَّتَهُمْ) بالنصب*

٧٣

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٩)

____________________________________

* على أنه خبر كان أى ما كان متمسكا لهم شىء من الأشياء (إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى أنا نبعث بعد الموت أى هذا القول الباطل الذى يستحيل أن يكون من قبيل الحجة وتسمية حجة إما لسوقهم إياه مساق الحجة على سبيل التهكم بهم أو لأنه من قبيل [تحية بينهم ضرب وجيع] وقرىء برفع حجتهم على أنها اسم كان فالمعنى ما كان حجتهم شيئا من الأشياء إلا هذا القول الباطل (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ) ابتداء (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم لا كما تزعمون من أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر* (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ) بعد الموت (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) للجزاء (لا رَيْبَ فِيهِ) أى فى جمعكم فإن من قدر على البدء قدر على الإعادة والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة والوعد المصدق بالآيات دل على وقوعها حتما* والإتيان بآبائهم حيث كان مزاحما للحكمة التشريعية امتنع إيقاعه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) استدراك من قوله تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ) وهو إما من تمام الكلام المأمور به أو كلام مسوق من جهته تعالى تحقيقا للحق وتنبيها على أن ارتيابهم لجهلهم وقصورهم فى النظر والتفكر لا لأن فيه شائبة ريب ما (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بيان لاختصاص الملك المطلق والتصرف الكلى فيهما وفيما بينهما* بالله عزوجل إثر بيان تصرفه تعالى فى الناس بالإحياء والإماتة والبعث والجمع للمجازاة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) العامل فى يوم يخسر ويومئذ بدل منه (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ) من الأمم المجموعة* (جاثِيَةً) باركة على الركب مستوفزة وقرىء جاذية أى جالسة على أطراف الأصابع والجذو أشد استيفازا من الجثو وعن ابن عباس رضى الله عنهما جاثية مجتمعة وقيل جماعات من الجثو وهى الجماعة* (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) إلى صحيفة أعمالها وقرىء كل بالنصب على أنه بدل من الأول وتدعى صفة أو حال أو مفعول ثان (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أى يقال لهم ذلك وقوله تعالى (هذا كِتابُنا) الخ من تمام ما يقال حينئذ وحيث كان كتاب كل أمة مكتوبا بأمر الله تعالى أصيف إلى نون* العظمة تفخيما لشأنه وتهويلا لأمره فهذا مبتدأ وكتابنا خبره وقوله تعالى (يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ) أى يشهد عليكم* (بِالْحَقِّ) من غير زيادة ولا نقص خبر آخر أو حال وبالحق حال من فاعل ينطق وقوله تعالى (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) الخ تعليل لنطقه عليهم بأعمالهم من غير إخلال بشىء منها أى إنا كنا فيما قبل نستكتب* الملائكة (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فى الدنيا من الأعمال حسنة كانت أو سيئة.

٧٤

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٣٥)

____________________________________

وقوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) أى فى جنته تفصيل لما يفعل بالأمم بعد بيان ما خوطبوا به من الكلام المنطوى على الوعد والوعيد (ذلِكَ) أى الذى ذكر من* الإدخال فى رحمته تعالى (هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) الظاهر كونه فوزا لا فوز وراءه (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أى يقال لهم بطريق التوبيخ والتقريع ألم يكن تأتيكم رسلى فلم تكن آياتى تتلى عليكم فحذف المعطوف عليه ثقة بدلالة القرينة عليه (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان بها (وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) أى قوما عادتهم الإجرام (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) أى ما وعده من الأمور الآتية أو وعده بذلك (حَقٌّ) أى واقع لا محالة أو مطابق للواقع (وَالسَّاعَةُ) التى هى أشهر ما وعده (لا رَيْبَ فِيها) * أى فى وقوعها وقرىء والساعة بالنصب عطفا على اسم إن وقراءة الرفع للعطف على محل إن واسمها (قُلْتُمْ) لغاية عتوكم (ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) أى أى شىء هى استغرابا لها (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) أى ما نفعل* إلا ظنا وقد مر تحقيقه فى قوله تعالى (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) وقيل ما نعتقد إلا ظنا أى لا علما وقيل ما نحن إلا نظن ظنا وقيل ما نظن إلا ظنا ضعيفا ويرده قوله تعالى (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) أى لا مكانه فإن مقابل* الإستيقان مطلق الظن لا الضعيف منه ولعل هؤلاء غير القائلين ما هى إلا حياتنا الدنيا (وَبَدا لَهُمْ) أى ظهر لهم حينئذ (سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) على ما هى عليه من الصورة المنكرة الهائلة وعاينوا وخامة عاقبتها أو جزاءها* فإن جزاء السيئة سيئة (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من الجزاء والعقاب (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) نترككم فى العذاب ترك المنسى (كَما نَسِيتُمْ) فى الدنيا (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أى كما تركتم عدته ولم تبالوا به وإضافة* اللقاء إلى اليوم إضافة المصدر إلى ظرفه (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أى ما لأحد منكم* ناصر واحد يخلصكم منها (ذلِكُمْ) العذاب (بِأَنَّكُمُ) بسبب أنكم (اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً) مهزوءا

٧٥

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٧)

____________________________________

* بها ولم ترفعوا لها رأسا (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فحسبتم أن لا حياة سواها (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) أى من النار وقرىء يخرجون من الخروج والالتفات إلى الغيبة للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب* استهانة بهم أو بنقلهم من مقام الخطاب إلى غيابة النار (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أى يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أى يرضوه لفوات أوانه (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) خاصة (رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فلا يستحق الحمد أحد سواه وتكرير الرب للتأكيد الإيذان بأن ربوبيته تعالى لكل منها بطريق الأصالة وقرىء برفع الثلاثة على المدح بإضمار هو (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لظهور آثارها وأحكامها* فيهما وإظهارهما فى موقع الإضمار لتفخيم شأن الكبرياء (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذى لا يغلب (الْحَكِيمُ) فى كل ما قضى وقدر فاحمدوه وكبروه وأطيعوه. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ حم الجاثية ستر الله تعالى عورته وسكن روعته يوم الحساب.

٧٦

٤٦ ـ سورة الأحقاف

(مكية وهى خمس وثلاثون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤)

____________________________________

(سورة الأحقاف مكية وآيها خمس وثلاثون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (حم) (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الكلام فيه كالذى مر فى مطلع السورة السابقة (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) بما فيهما من حيث الجزئية منهما ومن حيث الاستقرار فيهما (وَما بَيْنَهُما) من المخلوقات (إِلَّا بِالْحَقِّ) استثناء مفرغ من أعم المفاعيل أى إلا خلقا* ملتبسا بالحق الذى تقتضيه الحكمة التكوينية والتشريعية أو من أعم الأحوال من فاعل خلقنا أو مفعوله أى ما خلقناها فى حال من الأحوال إلا حال ملابستنا بالحق أو حال ملابستها به وفيه من الدلالة على وجود الصانع تعالى وصفات كماله وابتناء أفعاله على حكم بالغة وانتهائها إلى غايات جليلة ما لا يخفى (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) عطف على الحق بتقدير مضاف أى وبتقدير أجل مسمى ينتهى إليه أمر* الكل وهو يوم القيامة يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزو الله الواحد القهار وقيل هو آخر مدة البقاء المقدر لكل واحد ويأباه قوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) فإن* ما أنذروه يوم القيامة وما فيه من الطامة التامة والأهوال العامة لا آخر أعمارهم وقد جوز كون ما مصدرية والجملة حالية أى ما خلقنا الخلق إلا بالحق وتقدير الأجل الذى يجاوزون عنده والحال أنهم غير مؤمنين به معرضون عنه وعن الاستعداد له (قُلْ) توبيخا لهم وتبكيتا (أَرَأَيْتُمْ) أخبرونى وقرىء أرأيتكم (ما تَدْعُونَ) ما تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام (أَرُونِي) تأكيد لأرأيتم (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) بيان للإبهام فى ماذا (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ) أى شركة مع الله تعالى (فِي السَّماواتِ) أى فى خلقها* أو ملكها وتدبيرها حتى يتوهم أن يكون لهم شائبة استحقاق للمعبودية فإن ما لا مدخل له فى وجود

٧٧

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧)

____________________________________

شىء من الأشياء بوجه من الوجوه فهو بمعزل من ذلك الاستحقاق بالمرة وإن كان من الأحياء العقلاء* فما ظنكم بالجماد وقوله تعالى (ائْتُونِي بِكِتابٍ) الخ تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلى بعد* تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلى أى ائتونى بكتاب إلهى كائن (مِنْ قَبْلِ هذا) الكتاب أى* القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك دال على صحة دينكم (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أو بقية من علم بقيت* عليكم من علوم الأولين شاهدة باستحقاقهم للعبادة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى دعواكم فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلى أو سلطان نقلى وحيث لم يقم عليها شىء منهما وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل تبين بطلانها وقرىء إثارة بكسر الهمزة أى مناظرة فإنها تثير المعانى وأثرة أى شىء أو ثرتم به وخصصتم من علم مطوى من غيركم وأثرة بالحركات الثلاث مع سكون الثاء أما المكسورة فبمعنى الأثرة وأما المفتوحة فهى المرة من أثر الحديث أى رواه وأما المضمومة فاسم ما يؤثر كالخطبة التى هى اسم ما يخطب به (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) إنكار ونفى لأن يكون أحد يساوى المشركين فى الضلال وإن كان سبك التركيب لنفى الأضل منهم من غير تعرض لنفى المساوى كما مر غير مرة أى هم أضل من كل ضال حيث تركوا عبادة خالقهم السميع القادر المجيب* الخبير إلى عبادة مصنوعهم العارى عن السمع والقدرة والاستجابة (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) غاية لنفى الاستجابة* (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ) الضمير الأول لمفعول يدعو والثانى لفاعله والجمع فيهما باعتبار معنى من كما أن الإفراد* فيما سبق باعتبار لفظها (غافِلُونَ) لكونهم جمادات وضمائر العقلاء لإجرائهم إياها مجرى العقلاء ووصفها بما ذكر من ترك الاستجابة والغفلة مع ظهور حالها للتهكم بها وبعبدتها كقوله تعالى (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) الآية (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ) عند قيام القيامة (كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) أى مكذبين بلسان الحال أو المقال على ما يروى أنه تعالى يحيى الأصنام فتتبرأ عن عبادتهم وقد جوز أن يراد بهم كل من يعبد من دون الله من الملائكة والجن والإنس وغيرهم ويبنى إرجاع الضمائر وإسناد العداوة والكفر إليهم على التغليب ويراد بذلك تبرؤهم عنهم وعن عبادتهم وقيل ضمير كانوا للعبدة وذلك قولهم (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) واضحات أو مبينات (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ) أى لأجله وفى شأنه وهو عبارة عن الآيات المتلوة وضع موضع ضميرها تنصيصا على حقيتها ووجوب الإيمان بها كما وضع الموصول موضع ضمير المتلو عليهم تسجيلا عليهم بكمال الكفر* والضلالة (لَمَّا جاءَهُمْ) أى فى أول ما جاءهم من غير تدبر وتأمل (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أى ظاهر كونه

٧٨

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٩)

____________________________________

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) إضراب وانتقال من حكاية شناعتهم السابقة إلى حكاية ما هو أشنع منها وما فى أم من الهمزة للإنكار التوبيخى المتضمن للتعجيب أى بل أيقولون افترى القرآن (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) * على الفرض (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) إذ لا ريب فى أنه تعالى يعاجلنى حينئذ بالعقوبة فكيف أجترىء* على أن افترى عليه تعالى كذبا فأعرض نفسى للعقوبة التى لا مناص عنها (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أى* تندفعون فبه من القدح فى وحى الله والطعن فى آياته وتسميته سحرا تارة وفرية أخرى (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) حيث يشهد لى بالصدق والبلاغ وعليكم بالكذب والجحود وهو وعيد بجزاء إفاضتهم وقوله تعالى (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وعد بالغفران والرحمة لمن تاب وآمن وإشعار بحلم الله تعالى عنهم* مع عظم جرائمهم (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) البدع بمعنى البديع كالخل بمعنى الخليل وهو ما لا مثل له وقرىء بفتح الدال على أنه صفة كقيم وزيم أو جمع مقدر بمضاف أى ذا بدع وقد جوز ذلك فى القراءة الأولى أيضا على أنه مصدر كانوا يقترحون عليه عليه الصلاة والسلام آيات عجيبة ويسألونه عن المغيبات عنادا ومكابرة فأمر عليه‌السلام بأن يقول لهم ما كنت بديعا من الرسل قادرا على ما لم يقدروا عليه حتى آتيكم بكل ما تقترحونه وأخبركم بكل ما تسلون عنه من الغيوب فإن من قبلى من الرسل عليهم الصلاة والسلام ما كانوا يأتون إلا بما آتاهم الله تعالى من الآيات ولا يخبرونهم إلا بما أوحى إليهم (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أى أى شىء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان من أفعاله تعالى وماذا* يقدر لنا من القضاياه وعن الحسن رضى الله عنه ما أدرى ما يصير إليه أمرى وأمركم فى الدنيا وعن ابن عباس رضى الله عنهما ما يفعل بى ولا بكم فى الآخرة وقال هى منسوخة بقوله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) وقيل يجوز أن يكون المنفى هى الدراية المفصلة والأظهر الأوفق لما ذكر من سبب النزول أن ما عبارة عما ليس علمه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية دون ما سيقع فى الآخرة فإن العلم بذلك من وظائف النبوة وقد ورد به الوحى الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين هذا وقد روى عن الكلبى أن أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا له عليه‌السلام وقد ضجروا من أذية المشركين حتى متى نكون على هذا فقال ما أدرى ما يفعل بى ولا بكم أأترك بمكة أم أومر بالخروج إلى أرض ذات نخيل وشجر قد رفعت لى ورأيتها يعنى فى منامه وجوز أن تكون ما موصولة والاستفهامية أقضى لحق مقام التبرؤ عن الدراية وتكرير لا لتذكير النفى المنسحب إليه وتأكيده

٧٩

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠)

____________________________________

* وقرىء ما يفعل على إسناد الفعل إلى ضميره تعالى (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) أى ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلى على معنى قصر أفعاله عليه الصلاة والسلام على اتباع الوحى لا قصر اتباعه على الوحى كما هو المتسارع إلى الأفهام وقد مر تحقيقه فى سورة الأنعام وقرىء يوحى على البناء للفاعل وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه عليه‌السلام من الغيوب وقيل عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا عن أذية المشركين والأول هو الأوفق لقوله تعالى (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) أنذركم عقاب الله تعالى حسبما يوحى إلى (مُبِينٌ) بين الإنذار بالمعجزات الباهرة (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ) أى ما يوحى* إلى من القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا سحرا ولا مفترى كما تزعمون وقوله تعالى (وَكَفَرْتُمْ بِهِ) حال بإضمار قد من الضمير فى الخبر وسطت بين أجزاء الشرط مسارعة إلى التسجيل عليهم بالكفر أو عطف على كان كما فى قوله تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) لكن لا على أن نظمه فى سلك الشرط المتردد بين الوقوع وعدمه عندهم باعتبار حاله فى نفسه بل باعتبار حال المعطوف عليه عندهم فإن كفرهم به أمر محقق عندهم أيضا وإنما ترددهم فى أن ذلك كفر بما من عند الله تعالى أم لا وكذا الحال* فى قوله تعالى (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) وما بعده من الفعلين فإن الكل أمور محققة عندهم وإنما ترددهم فى أنها شهادة وإيمان بما من عند الله تعالى واستكبار عنه أولا والمعنى أخبرونى إن كان ذلك فى الحقيقة من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد عظيم الشأن من بنى إسرائيل الواقفين على شؤن الله* تعالى وأسرار الوحى بما أوتوا من التوراة (عَلى مِثْلِهِ) أى مثل القرآن من المعانى المنطوية فى التوراة المطابقة لما فى القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك فإنها عين ما فيه فى الحقيقة كما يعرب عنه قوله تعالى (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) وقوله تعالى (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) والمثلية باعتبار تأديتها بعبارات أخر أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى والمثلية لما ذكر وقيل المثل صلة والفاء* فى قوله تعالى (فَآمَنَ) للدلالة على أنه سارع إلى الإيمان بالقرآن لما علم أنه من جنس الوحى الناطق بالحق وهو عبد الله بن سلام لما سمع بمقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة أتاه فنظر إلى وجهه الكريم فعلم أنه ليس بوجه كذاب وتأمله فتحقق أنه النبى المنتظر فقال له إنى سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبى ما أول أشراط الساعة وما أول طعام أكله أهل الجنة والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه فقال عليه الصلاة والسلام أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب وأما طعام أهل الجنة فزيادة كبد حوت وأما الولد فإن سبق ماء الرجل نزعه وإن سبق ماء المرأة نزعته فقال أشهد أنك رسول الله حقا فقام ثم قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت فإن علموا بإسلامى قبل أن تسألهم عنى بهتونى عندك فجاءت اليهود فقال لهم النبى عليه الصلاة والسلام أى رجل عبد الله فيكم فقالوا خيرنا

٨٠