تفسير أبي السّعود - ج ٨

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٨

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) (١٤)

____________________________________

تَهْتَدُونَ) أى لكى تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم أو بالتفكر فيها إلى التوحيد الذى هو المقصد الأصلى (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) بمقدار تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح (فَأَنْشَرْنا بِهِ) أى أحيينا بذلك الماء (بَلْدَةً مَيْتاً) خاليا عن النماء والنبات بالكلية وقرىء ميتا بالتشديد وتذكيره لأن البلدة فى معنى البلد والمكان والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظم خطره (كَذلِكَ) أى مثل ذلك الإحياء الذى هو فى الحقيقة إخراج النبات من الأرض (تُخْرَجُونَ) * أى تبعثون من قبوركم أحياء وفى التعبير عن إخراج النبات بالإنشار الذى هو إحياء الموتى وعن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث لتقويم سنن الاستدلال وتوضيح منهاج القياس (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أى أصناف المخلوقات وعن ابن عباس رضى الله عنهما الأزواج الضروب والأنواع كالحلو والحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى وقيل كل ما سوى الله تعالى فهو زوج كالفوق والتحت واليمين واليسار إلى غير ذلك (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) أى ما تركبونه تغليبا للأنعام على الفلك فإن الركوب متعد بنفسه واستعماله فى الفلك ونحوها بكلمة فى للرمز إلى مكانيتها وكون حركتها غير إرادية كما مر فى سورة هود عند قوله تعالى (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها) (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) أى لتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفلك والأنعام والجمع باعتبار المعنى (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) أى تذكروها بقلوبكم معترفين بها مستعظمين لها ثم تحمدوا عليها بألسنتكم (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) متعجبين من ذلك كما يروى عن* النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا وضع رجله فى الركاب قال بسم الله فإذا استوى على الدابة قال الحمد لله على كل حال (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) إلى قوله تعالى (لَمُنْقَلِبُونَ) وكبر ثلاثا وهلل ثلاثا (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أى مطيقين من أقرن الشىء إذا أطاقه وأصله وجده قرينته لأن الصعب لا يكون قرينة للضعيف وقرىء بالتشديد والمعنى واحد وهذا من تمام ذكر نعمته تعالى إذ بدون اعتراف المنعم عليه بالعجز عن تحصيل النعمة لا يعرف قدرها ولا حق المنعم بها (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أى راجعون وفيه إيذان بأن حق الراكب أن يتأمل فيما يلابسه من المسير ويتذكر منه المسافرة العظمى التى هى الانقلاب إلى الله تعالى فيبنى أموره فى مسيره ذلك على تلك الملاحظة ولا يخطر بباله فى شىء

٤١

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (١٨)

____________________________________

مما يأتى ويذر أمرا ينافيها ومن ضرورته أن يكون ركوبه لأمر مشروع (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) متصل بقوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) الخ أى وقد جعلوا له سبحانه بألسنتهم واعتقادهم بعد ذلك الاعتراف من عباده ولدا وإنما عبر عنه بالجزء لمزيد استحالته فى حق الواحد الحق من جميع الجهات وقرىء جزؤا* بضمتين (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) ظاهر الكفران مبالغ فيه ولذلك يقولون ما يقولون سبحان الله عما يصفون (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) أم منقطعة وما فيها من معنى بل للإنتقال من بيان بطلان جعلهم له تعالى ولدا على الإطلاق إلى بيان بطلان جعلهم ذلك الولد من أخس صنفيه والهمزة للإنكار والتوبيخ* والتعجيب من شأنهم وقوله تعالى (وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) إما عطف على اتخذ داخل فى حكم الإنكار والتعجيب الخلاف المشهور والالتفات إلى خطابهم لتأكيد الإلزام وتشديد التوبيخ أى بل اتخذ من خلقه أخس أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه على الصنفين واختار لكم أفضلهما على معنى هبوا أنكم اجترأتم على إضافة اتخاذ جنس الولد إليه سبحانه مع ظهور استحالته وامتناعه أما كان لكم شىء من العقل ونبذ من الحياء حتى اجترأتم على التفوه بالعظيمة الخارقة للعقول من ادعاء أنه تعالى آثركم على نفسه بخير الصنفين وأعلاهما وترك له شرهما وأدناهما وتنكير بنات وتعريف البنين لتربية ما اعتبر فيهما من الحقارة والفخامة (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) الخ استئناف مقرر لما قبله وقيل حال على معنى أنهم نسبوا إليه ما ذكر ومن حالهم أن أحدهم إذا بشر به اغتم والالتفات للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم أن يعرض عنهم وتحكى لغيرهم تعجيبا منها أى إذا أخبر أحدهم بولادة ما جعله مثلا له سبحانه إذ الولد* لا بد أن يجانس الوالد ويماثله (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أى صار أسود فى الغاية من سوء ما بشر به (وَهُوَ كَظِيمٌ) مملوء من الكرب والكآبة والجملة حال وقرىء مسود ومسواد على أن فى ظل ضمير المبشر ووجهه مسود جملة وقعت خبرا له (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) تكرير للإنكار وتثنية للتوبيخ ومن منصوبة بمضمر معطوف على جعلوا أى أو جعلوا من شأنه أن يربى فى الزينة وهو عاجز عن أن يتولى لأمره بنفسه فالهمزة لإنكار الواقع واستقباحه وقد جوز انتصابها بمضمر معطوف على اتخذ فالهمزة حينئذ لإنكار الوقوع واستبعاده واقحامها بين المعطوفين لتذكير ما فى أم منقطعة من الإنكار وتأكيده والعطف* للتغاير العنوانى أى أو اتخذ من هذه الصفة الذميمة صفته (وَهُوَ) مع ما ذكر من القصور (فِي الْخِصامِ) * أى الجدال الذى لا يكاد يخلو عنه الإنسان فى العادة (غَيْرُ مُبِينٍ) غير قادر على تقرير دعواه وإقامة حجته لنقصان عقله وضعف رأيه وإضافة غير لا تمنع عمل ما بعده فى الجار المتقدم لأنه بمعنى النفى وقرىء

٤٢

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (٢٢)

____________________________________

ينشأ ويناشأ من الأفعال والمفاعلة والكل بمعنى واحد ونظيره غلاه وأغلاه وغالاه (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) بيان لتضمن كفرهم المذكور لكفر آخر وتقريع لهم بذلك وهو جعلهم أكمل العباد وأكرمهم على الله عزوجل أنقصهم رأيا وأخسهم صنفا وقرىء عبيد الرحمن وقرىء عند الرحمن على تمثيل زلفاهم وقرىء أنثا وهو جمع الجمع (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) أى أحضروا خلق الله* تعالى إياهم فشاهدوهم إناثا حتى يحكموا بأنوثتهم فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة وهو تجهيل لهم وتهكم بهم وقرىء أأشهدوا بهمزتين مفتوحة ومضمومة وآ أشهدوا بألف بينهما (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) هذه فى* ديوان أعمالهم (وَيُسْئَلُونَ) عنها يوم القيامة وقرىء سيكتب وسنكتب بالياء والنون وقرىء شهاداتهم* وهى قولهم إن لله جزءا وإن له بنات وإنها الملائكة وقرىء يسألون من المسألة للمبالغة (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) بيان لفن آخر من كفرهم أى لو شاء عدم عبادتنا للملائكة مشيئة ارتضاء ما عبدناهم أرادوا بذلك بيان أن ما فعلوه حق مرضى عنده تعالى وأنهم إنما يفعلونه بمشيئته تعالى إياه منهم مع اعترافهم بقبحه حتى ينتهض ذمهم به دليلا للمعتزلة ومبنى كلامهم الباطل على مقدمتين إحداهما أن عبادتهم لهم بمشيئته تعالى والثانية أن ذلك مستلزم لكونها مرضية عنده تعالى ولقد أخطأوا فى الثانية حيث جهلوا أن المشيئة عبارة عن ترجيح بعض الممكنات على بعض كائنا ما كان من غير اعتبار الرضا أو السخط فى شىء من الطرفين ولذلك جهلوا بقوله تعالى (ما لَهُمْ بِذلِكَ) أى بما أرادوا بقولهم ذلك من كون ما فعلوه* بمشيئة الارتضاء لا بمطلق المشيئة فإن ذلك محقق ينطق به ما لا يحصى من الآيات الكريمة (مِنْ عِلْمٍ) * يستند إلى سند ما (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يتمحلون تمحلا باطلا وقد جوز أن يشار بذلك إلى أصل* الدعوى كأنه لما أظهر وجوه فسادها وحكى شبههم المزيفة نفى أن يكون لهم بها علم من طريق العقل ثم أضرب عنه إلى إبطال أن يكون لهم سند من جهة النقل فقيل (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) من قبل القرآن أو من قبل ادعائهم ينطق بصحة ما يدعونه (فَهُمْ بِهِ) بذلك الكتاب (مُسْتَمْسِكُونَ) وعليه معولون* (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أى لم يأتوا بحجة عقلية أو نقلية بل اعترفوا بأن لا سند لهم سوى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم والأمة الدين والطريقة التى تأم أى تقصد كالرحلة لما يرحل إليه وقرىء إمة بالكسر وهى الحالة التى يكون عليها الآم أى القاصد وقوله تعالى (عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) خبران والظرف صلة لمهتدون.

٤٣

(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) (٢٧)

____________________________________

(وَكَذلِكَ) أى والأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة وتشبثهم بذيل التقليد وقوله تعالى (ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) استئناف مبين لذلك دال على التقليد فيما بينهم ضلال قديم ليس لأسلافهم أيضا سند غيره وتخصيص المترفين بتلك المقالة للإيذان بأن التنعم وحب البطالة هو الذى صرفهم عن النظر إلى التقليد (قالَ) حكاية لما جرى بين المنذرين وبين أممهم عند تعللهم بتقليد آبائهم أى قال كل نذير من أولئك المنذرين لأممهم* (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ) أى أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم (بِأَهْدى) بدين أهدى (مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) من الضلالة التى ليست من الهداية فى شىء وإنما عبر عنها بذلك مجاراة معهم على مسلك الإنصاف وقرىء قل على أنه حكاية أمر ماض أوحى حينئذ إلى كل نذير لا على أنه خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم* كما قيل لقوله تعالى (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) فإنه حكاية عن الأمم قطعا أى قال كل أمة لنذيرها إنا بما أرسلت به الخ وقد أجمل عند الحكاية للإيجاز كما مر فى قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) وجعله حكاية عن قومه عليه الصلاة والسلام بحمل صيغة الجمع على تغليبه على سائر المنذرين عليهم‌السلام وتوجيه كفرهم إلى ما أرسل به الكل من التوحيد لإجماعهم عليه كما فى نظائر قوله تعالى (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) تمحل بعيد يرده بالكلية قوله تعالى (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أى بالاستئصال (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) من الأمم المذكورين فلا تكترث بتكذيب قومك (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) أى واذكر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسلام (لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) المكبين على التقليد كيف تبرأ مما هم فيه بقوله* (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) وتمسك بالبرهان ليسلكوا مسلكه فى الاستدلال أو ليقلدوه إن لم يكن لهم بد من التقليد فإنه أشرف آبائهم وبراء مصدر نعت به مبالغة ولذلك يستوى فيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث وقرىء برىء وبراء بضم الباء ككريم وكرام وما إما مصدرية أو موصولة حذف عائدها أى إننى برىء من عبادتكم أو معبودكم (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) استثناء منقطع أو متصل على أن ما تعم أولى العلم وغيرهم وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام أو صفة على أن ما موصوفة أى إننى براء من آلهة تعبدونها غير الذى فطرنى (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) أى سيثبتنى على الهداية أو سيهدين إلى ماوراء الذى

٤٤

(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٣١)

____________________________________

هدانى إليه إلى الآن والأوجه أن السين للتأكيد دون التسويف وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار (وَجَعَلَها) أى جعل إبراهيم كلمة التوحيد التى ما تكلم به عبارة عنها (كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أى فى ذريته حيث وصاهم بها كما نطق به قوله تعالى (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) الآية فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده وقرىء كلمة وفى عقبه على التخفيف (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) علة للجعل أى جعلها باقية فى عقبه رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم بدعاء الموحد (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ) إضراب عن محذوف ينساق إليه الكلام كأنه قيل جعلها كلمة باقية فى عقبه بأن وصى بها بنيه رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم بدعاء الموحد فلم يحصل ما رجاه بل متعت منهم هؤلاء المعاصرين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل مكة (وَآباءَهُمْ) بالمد فى العمر والنعمة فاغتروا بالمهلة وانهمكوا فى الشهوات* وشغلوا بها عن كلمة التوحيد (حَتَّى جاءَهُمُ) أى هؤلاء (الْحَقُّ) أى القرآن (وَرَسُولٌ) أى رسول (مُبِينٌ) ظاهر الرسالة واضحها بالمعجزات الباهرة أو مبين للتوحيد بالآيات البينات والحجج وقرىء* متعنا ومتعت بالخطاب على أنه تعالى اعترض به على ذاته فى قوله تعالى (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً) الخ مبالغة فى تعييرهم فإن التمتيع بزيادة النعم يوجب عليهم أن يجعلوه سببا لزيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان فجعله سببا لزيادة الكفران أقصى مراتب الكفر والضلال (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ) لينبههم عما هم فيه من الغفلة ويرشدهم إلى التوحيد ازدادوا كفرا وعتوا وضموا إلى كفرهم السابق معاندة الحق والاستهانة به حيث (قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) فسموا القرآن سحرا وكفروا به واسحقروا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) أى من إحدى القريتين مكة والطائف على نهج قوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (عَظِيمٍ) أى بالجاه والمال كالوليد بن المغيرة المخزومى وعروة بن مسعود الثقفى وقيل حبيب بن عمر بن عمير الثقفى وعن مجاهد عتبة بن ربيعة وكنانة بن عبد ياليل ولم يتفوهوا بهذه العظيمة حسدا على نزوله إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون من ذكر من عظمائهم مع اعترافهم بقرآنيته بل استدلالا على عدمها بمعنى أنه لو كان قرآنا لنزل إلى أحد هؤلاء بناء على ما زعموا من أن الرسالة منصب جليل لا يليق به إلا من له جلالة من حيث المال والجاه ولم يدروا أنها رتبة روحانية لا يترقى إليها إلا همم الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتحلين بالفضائل الإنسية وأما المتزخرفون بالزخارف الدنيوية المتمتعون بالحظوظ الدنية فهم من استحقاق تلك الرتبة بألف منزل.

٤٥

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (٣٥)

____________________________________

وقوله تعالى (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) إنكار فيه تجهيل لهم وتعجيب من تحكمهم والمراد بالرحمة* النبوة (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) أى أسباب معيشتهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قسمة تقتضيها مشيئتنا المبنية* على الحكم والمصالح ولم نفوض أمرها إليهم علما منا بعجزهم عن تدبيرها بالكلية (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ) فى الرزق وسائر مبادى المعاش (دَرَجاتٍ) متفاوتة بحسب القرب والبعد حسبما تقتضيه الحكمة* فمن ضعيف وقوى وفقير وغنى وخادم ومخدوم وحاكم ومحكوم (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) ليصرف بعضهم بعضا فى مصالحهم ويستخدموهم فى مهنهم ويتسخروهم فى أشغالهم حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى مرافقهم لا لكمال فى الموسع ولا لنقص فى المقتر ولو فوضنا ذلك إلى تدبيرهم لضاعوا وهلكوا فإذا كانوا فى تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم من متاع الدنيا الدنيئة وهو فى طرف الثمام على هذه الحالة فما ظنهم بأنفسهم فى تدبير أمر الدين وهو أبعد من مناط العيوق ومن أين لهم البحث* عن أمر النبوة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بأمرها (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ) أى النبوة وما يتبعها من سعادة الدارين (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من حطام الدنيا الدنيئة الفانية وقوله تعالى (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) استئناف مبين لحقارة متاع الدنيا ودناءة قدره عند الله عزوجل والمعنى أن حقارة شأنه بحيث لو لا أن لا يرغب الناس لحبهم الدنيا فى الكفر إذا رأوا أهله فى سعة وتنعم فيجتمعوا عليه لأعطيناه بحذافيره* من هو شر الخلائق وأدناهم منزلة وذلك قوله تعالى (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) أى متخذة منها ولبيوتهم بدل اشتمال من لمن وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن أفراد المستكن فى يكفر باعتبار لفظها والسقف جمع سقف كرهن جمع رهن وعن الفراء أنه جمع سقيفة كسفن وسفينة وقرىء سقفا بسكون القاف تخفيفا وسقفا اكتفاء بجمع البيوت وسقفا كأنه لغة فى سقف وسقوفا* (وَمَعارِجَ) أى جعلنا لهم معارج من فضة أى مصاعد جمع معرج وقرىء معاريج جمع معراج (عَلَيْها يَظْهَرُونَ) أى يعلون السطوح والعلالى (وَلِبُيُوتِهِمْ) أى وجعلنا لبيوتهم (أَبْواباً وَسُرُراً) من فضة (عَلَيْها) أى على السرر (يَتَّكِؤُنَ) ولعل تكرير ذكر بيوتهم لزيادة التقرير (وَزُخْرُفاً) أى زينة* عطف على سففا أو ذهبا عطف على محل من فضة (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أى وما

٤٦

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (٣٩)

____________________________________

كل ما ذكر من البيوت الموصوفة بالصفات المفصلة إلا شىء يتمتع به فى الحياة الدنيا وفى معناه ما قرىء وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا وقرىء بتخفيف ما على أن أن هى المخففة واللام هى الفارقة وقرىء بكسر اللام على أنها لام العلة وما موصولة قد حذف عائدها أى للذى هو متاع الخ كما فى قوله تعالى (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) (وَالْآخِرَةُ) بما فيها من فنون النعم التى يقصر عنها البيان (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) * أى عن الكفر والمعاصى وبهذا تبين أن العظيم هو العظيم فى الآخرة لا فى الدنيا (وَمَنْ يَعْشُ) أى يتعام (عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) وهو القرآن وإضافته إلى اسم الرحمن للإيذان بنزوله رحمة للعالمين وقرىء* يعش بالفتح أى يعم يقال عشى يعشى إذا كان فى بصره آفة وعشا يعشو إذا تعشى بلا آفة كعرج وعرج وقرىء يعشو على أن من موصولة غير مضمنة معنى الشرط والمعنى ومن يعرض عنه لفرط اشتغاله بزهرة الحياة الدنيا وانهما كه فى حظوظها الفانية والشهوات (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) * لا يفارقه ولا يزال يوسوسه ويغويه وقرىء يقيض بالياء على إسناده إلى ضمير الرحمن ومن رفع يعشو فحقه أن يرفع يقيض (وَإِنَّهُمْ) أى الشياطين الذين قيض كل واحد منهم لكل واحد ممن يعشو (لَيَصُدُّونَهُمْ) أى قرناءهم فمدار جمع الضميرين اعتبار معنى من كما أن مدار إفراد الضمائر السابقة اعتبار لفظها (عَنِ السَّبِيلِ) المستبين الذى يدعو إليه القرآن (وَيَحْسَبُونَ) أى العاشون (إِنَّهُمْ) أى الشياطين (مُهْتَدُونَ) * أى إلى السبيل المستقيم وإلا لما اتبعوهم أو يحسبون أن أنفسهم مهتدون لأن اعتقاد كون الشياطين مهتدين مستلزم لاعتقاد كونهم كذلك لاتحاد مسلكهما والجملة حال من مفعول يصدون بتقدير المبتدأ أو من فاعله أو منهما لاشتمالها على ضميريهما أى وإنهم ليصدونهم عن الطريق الحق وهم يحسبون أنهم مهتدون إليه وصيغة المضارع فى الأفعال الأربعة للدلالة على الاستمرار التجددى لقوله تعالى (حَتَّى إِذا جاءَنا) فإن حتى وإن كانت ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية لكنها تقتضى حتما أن تكون غاية لأمر ممتد كما مر مرارا وإفراد الضمير فى جاء وما بعده لما أن المراد حكاية مقالة كل واحد واحد من العاشين لقرينه لتهويل الأمر وتفظيع الحال والمعنى يستمر العاشون على ما ذكر من مقارنة الشياطين والصدر والحسبان الباطل حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينه يوم القيامة (قالَ) مخاطبا له (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) فى الدنيا (بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) أى بعد المشرق والمغرب أى تباعد كل منهما عن الآخر فغلب* المشرق وثنى وأضيف البعد إليهما (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أى أنت وقوله تعالى (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ) الخ حكاية لما سيقال لهم حينئذ من جهة الله عزوجل توبيخا وتقريعا أى لن ينفعكم (الْيَوْمَ) أى يوم القيامة

٤٧

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٤٥)

____________________________________

تمنيكم لمباعدتهم (إِذْ ظَلَمْتُمْ) أى لأجل ظلمكم أنفسكم فى الدنيا باتباعكم إياهم فى الكفر والمعاصى وقيل إذ ظلمتم بدل من اليوم أى إذ تبين عندكم وعند الناس جميعا أنكم ظلمتم أنفسكم فى الدنيا وعليه قول من قال [إذا ما انتسبنا لم تلدنى لئيمة] أى تبين أنى لم تلدنى لئيمة بل كريمة وقوله تعالى (أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) تعليل لنفى النفع أى لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم فى العذاب كما كنتم مشتركين فى سببه فى الدنيا ويجوز أن يسند الفعل إليه لكن لا بمعنى لن ينفعكم اشتراككم فى العذاب كما ينفع الواقعين فى شدائد الدنيا اشتراكهم فيها لتعاونهم فى تحمل أعبائها وتقسمهم لعنائها لأن لكل منهم ما لا تبلغه طاقته كما قيل لأن الانتفاع بذلك الوجه ليس مما يخطر ببالهم حتى يرد عليهم بنفيه بل بمعنى لن يحصل لكم التشفى بكون قرنانكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكم ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا وقولكم فآتهم عذابا ضعفا من النار ونظائرهما لتتشفوا بذلك. كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبالغ فى المجاهدة فى دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا غيا وتعاميا عما يشاهدونه من شواهد النبوة وتصاما عما يسمعونه من بينات القرآن فنزل (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) وهو إنكار تعجيب من أن يكون هو الذى يقدر على هدايتهم وهم قد تمرنوا فى الكفر واستغرقوا* فى الضلال بحيث صار ما بهم من العشى عمى مقرونا بالصمم (وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) عطف على العمى باعتبار تغاير الوصفين ومدار الإنكار هو التمكن والاستقرار فى الضلال المفرط بحيث لا ارعواء له منه لا توهم القصور من قبل الهادى ففيه رمز إلى أنه لا يقدر على ذلك إلا الله تعالى وحده بالقسر والإلجاء (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) أى فإن قبضناك قبل أن نبصرك عذابهم ونشفى بذلك صدرك وصدور المؤمنين (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) لا محالة فى الدنيا والآخرة فما مزيدة للتأكيد بمنزلة لام القسم فى أنها لا تفارق النون المؤكدة (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) أى أو أردنا أن نريك العذاب الذى وعدناهم (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) بحيث لا مناص لهم من تحت ملكتنا وقهرنا ولقد أراه عليه‌السلام ذلك يوم بدر (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) من الآيات والشرائع سواء عجلنا لك الموعود أو أخرناه إلى يوم الآخرة وقرىء أوحى على البناء للفاعل وهو الله عزوجل (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تعليل للاستمساك أو للأمر به (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ) لشرف عظيم (لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) يوم القيامة عنه وعن قيامكم بحقوقه (وَسْئَلْ

٤٨

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٥١)

____________________________________

مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) أى واسأل أممهم وعلماء دينهم كقوله تعالى (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) وفائدة هذا المجاز التنبيه على أن المسؤل عنه عين ما نطقت به ألسنة الرسل لا ما يقوله أممهم وعلماؤهم من تلقاء أنفسهم قال الفراء هم إنما يخبرونه عن كتاب الرسل فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) أى هل حكمنا بعبادة الأوثان وهل* جاءت فى ملة من مللهم والمراد به الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد والتنبيه على أنه ليس ببدع ابتدعه حتى يكذب ويعادى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) ملتبسابها (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أريد باقتصاصه تسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستشهاد بدعوة موسى عليه‌السلام إلى التوحيد إثر ما أشير إلى إجماع جميع الرسل عليهم‌السلام عليه (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) أى فاجؤا وقت ضحكهم منها أى استهزؤا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) من الآبات (إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) إلا وهى بالغة أقصى مراتب الإعجاز بحيث يحسب كل من ينظر* إليها أنها أكبر من كل ما يقاس بها من الآيات والمراد وصف الكل بغاية الكبر من غير ملاحظة قصور فى شىء منها أو إلا وهى مختصة بضرب من الإعجاز مفضلة بذلك الاعتبار على غيرها (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) * كالسنين والطوفان والجراد وغيرها (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لكى يرجعوا عما هم عليه من الكفر (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) نادوه بذلك فى مثل تلك الحال لغاية عتوهم ونهاية حماقتهم وقيل كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لاستعظامهم علم السحر وقرىء أيه الساحر بضم الهاء (ادْعُ لَنا رَبَّك) ليكشف عنا العذاب* (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) بعهده عندك من النبوة أو من استجابة دعوتك أو من كشف العذاب عمن اهتدى* أو بما عهد عندك فوفيت به من الإيمان والطاعة (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) أى لمؤمنون على تقدير كشف العذاب* عنا بدعوتك كقولهم لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) بدعوته (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) فاجؤا وقت نكث عهدهم بالاهتداء وقد مر تفصيله فى الأعراف (وَنادى فِرْعَوْنُ) بنفسه

٤٩

(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) (٥٦)

____________________________________

* أو بمناديه (فِي قَوْمِهِ) فى مجمعهم وفيما بينهم بعد أن كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمنوا (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ) أنهار النيل ومعظمها أربعة أنهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط* ونهر تنيس (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أى من تحت قصرى أو أمرى وقيل من تحت سريرى لارتفاعه وقيل بين يدى فى جنانى وبساتينى والواو إما عاطفة لهذه الأنهار على ملك مصر فتجرى حال منها أو للحال فهذه مبتدأ والأنهار صفتها وتجرى خبر للمبتدأ (أَفَلا تُبْصِرُونَ) ذلك يريد به استعظام ملكه (أَمْ أَنَا خَيْرٌ) مع هذه المملكة والبسطة (مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) ضعيف حقير من المهابة وهى القلة (وَلا يَكادُ يُبِينُ) أى الكلام قاله افتراء عليه عليه‌السلام وتنقيصاله عليه‌السلام فى أعين الناس باعتبار ما كان فى لسانه عليه‌السلام من نوع رتة وقد كانت ذهبت عنه لقوله تعالى (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ) وأم إما منقطعة والهمزة للتقرير كأنه قال إثر ما عدد أسباب فضله ومبادى خيريته أثبت عندكم واستقر لديكم أنى أنا خير وهذه حالى من هذا الخ وإما متصلة فالمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون خلا أنه وضع قوله (أَنَا خَيْرٌ) موضع (تُبْصِرُونَ) لأنهم إذا قالوا له أنت خير فهم عنده بصراء وهذا من باب تنزيل السبب منزلة المسبب ويجوز أن يجعل من تنزيل المسبب منزلة السبب فإن أبصارهم لما ذكر من أسباب فضله سبب على زعمه لحكمهم بخيريته (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أى فهلا ألقى إليه مقاليد الملك إن كان صادقا لما أنهم كانوا إذا سودوا رجلا سوروه وطوقوه بطوق من ذهب وأسورة جمع سوار وقرىء أساور جمع أسورة وقرىء أساورة جمع أسوار بمعنى السوار على تعويض التاء من ياء أساوير* وقد قرىء كذلك وقرىء ألقى عليه أسورة وأساور على البناء للفاعل وهو الله تعالى (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) مقرونين يعينونه أو يصدقونه من قرنته به فاقترن أو متقارنين من اقترن بمعنى تقارن (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) فاستفزهم وطلب منهم الخفة فى مطاوعته أو فاستخف أحلامهم (فَأَطاعُوهُ) فيما أمرهم به (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) فلذلك سارعوا إلى طاعة ذلك الفاسق الغوى (فَلَمَّا آسَفُونا) أى* أغصبونا أشد الغضب منقول من أسف إذا اشتد غضبه (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) فى اليم (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) قدوة لمن بعدهم من الكفار يسلكون مسلكهم فى استيجاب مثل ما حل بهم من العذاب وهو إما مصدر نعت به أو جمع سالف كخدم جمع خادم وقرىء بضم السين واللام على أنه جمع سليف أى فريق قد سلف كرغف أو سالف كصبر أو سلف كأسد وقرىء سلفا بإبدال ضمة اللام

٥٠

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (٥٨)

____________________________________

فتحة أو على أنه جمع سلفة أى ثلة قد سلفت (وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) أى عظة لهم أو قصة عجيبة تسير مسير الأمثال* لهم فيقال مثلكم مثل قوم فرعون (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) أى ضربه ابن الزبعرى حين جادل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قوله تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) حيث قال أهذالنا ولآلهتنا أو جميع الأمم فقال عليه الصلاة والسلام هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم فقال اللعين خصمتك ورب الكعبة أليس النصارى يعبدون المسيح واليهود عزيرا وبنو مليح الملائكة فإن كان هؤلاء فى النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرح به قومه وضحكوا وارتفعت أصواتهم وذلك قوله تعالى (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ) * أى من ذلك المثل (يَصِدُّونَ) أى يرتفع لهم جلية وضجيج فرحا وجذلا وقرىء يصدون أى من أجل ذلك* المثل يعرضون عن الحق أى يثبتون على ما كانوا عليه من الإعراض أو يزدادون فيه وقيل هو أيضا من الصديد وهما لغتان فيه نحو يعكف ويعكف وهو الأنسب بمعنى المفاجأة (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) حكاية لطرف من المثل المضروب قالوه تمهيدا لما بنوا عليه من الباطل المموه بما يغتر به السفهاء أى ظاهر أن عيسى خير من آلهتنا فحيث كان هو فى النار فلا بأس بكوننا مع آلهتنا فيها واعلم أن ما نقل عنهم من الفرح ورفع الأصوات لم يكن لما قيل من أنه عليه الصلاة والسلام سكت عند ذلك إلى أن نزل قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) الآية فإن ذلك مع إيهامه لما يجب تنزيه ساحته عليه الصلاة والسلام عنه من شائبة الإفحام من أول الأمر خلاف الواقع كيف لا وقد روى أن قول ابن الزبعرى خصمتك ورب الكعبة صدر عنه من أول الأمر عند سماع الآية الكريمة فرد عليه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله عليه‌السلام ما أجهلك بلغة قومك أما فهمت أن ما لما لا يعقل وإنما لم يخص عليه‌السلام هذا الحكم بآلهتهم حين سأل الفاجر عن المخصوص والعموم عملا بما ذكر من اختصاص كلمة ما بغير العقلاء لأن إخراج بعض المعبودين عنه عند المحاجة موهم للرخصة فى عبادته فى الجملة فعممه عليه‌السلام للكل لكن لا بطريق عبارة النص بل بطريق الدلالة بجامع الاشتراك فى المعبودية من دون الله تعالى ثم بين عليه الصلاة والسلام بقوله بل هم عبدوا الشياطين التى أمرتهم بذلك أن الملائكة والمسيح بمعزل من أن يكونوا معبوديهم كما نطق به قوله تعالى (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) الآية وقد مر تحقيق المقام عند قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) الآية بل إنما كان ما أظهروه من الأحوال المنكرة لمحض وقاحتهم وتهالكهم على المكابرة والعناد كما ينطق به قوله تعالى (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) أى ما ضربوا لك وذلك المثل إلا لأجل الجدال والخصام لا لطلب* الحق حتى يذعنوا له عند ظهوره ببيانك (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) أى لد شداد الخصومة مجبولون على* المحك واللجاج وقيل لما سمعوا قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب قالوا نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة فنزلت فقولهم أآلهتنا خير أم هو حينئذ

٥١

(إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦١)

____________________________________

تفضيل لآلهتهم على عيسى عليه‌السلام لأن المراد بهم الملائكة ومعنى ما ضربوه الخ ما قالوا هذا القول إلا للجدل وقيل لما نزلت إن مثل عيسى الآية قالوا ما يريد محمد بهذا إلا أن نعبده وأنه يستأهل أن يعبد وإن كان بشرا كما عبدت النصارى المسيح وهو بشر ومعنى يصدون يضجون ويضجرون والضمير فى أم هو لمحمد عليه الصلاة والسلام وغرضهم بالموازنة بينه عليه‌السلام وبين الهتهم الاستهزاء به وقد جوز أن يكون مرادهم التنصل عما أنكر عليهم من قولهم الملائكة بنات الله تعالى ومن عبادتهم لهم كأنهم قالوا ما قلنا بدعا من القول ولا فعلنا منكرا من الفعل فإن النصارى جعلوا المسيح ابن الله وعبدوه فنحن أشف منهم قولا وفعلا حيث نسبنا إليه الملائكة وهم نسبوا إليه الأناسى فقوله تعالى (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) أى بالنبوة (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أى أمرا عجيبا حقيقا بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة على الوجه الأول استئناف مسوق لتنزيهه عليه‌السلام عن أن ينسب إليه ما نسب إلى الأصنام بطريق الرمز كما نطق به صريحا قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) الآية وفيه تنبيه على بطلان رأى من رفعه عن رتبة العبودية وتعريض بفساد رأى من يرى رأيهم فى شأن الملائكة وعلى الثانى والرابع لبيان أنه قياس باطل بباطل أو بابطل على زعمهم وما عيسى إلا عبد كسائر العبيد قصارى أمره أنه ممن أنعمنا عليهم بالنبوة وخصصناه ببعض الخواص البديعة بأن خلقناه بوجه بديع وقد خلقنا آدم بوجه أبدع منه فأين هو من رتبة الربوبية ومن أين يتوهم صحة مذهب عبدته حتى يفتخر عبدة الملائكة بكونهم أهدى منهم أو يعتذروا بأن حالهم أشف أو أخف من حالهم وأما على الوجه الثالث فهو لردهم وتكذيبهم فى افترائهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان أن عيسى فى الحقيقة وفيما أوحى إلى الرسول عليهما الصلاة والسلام ليس إلا أنه عبد منعم عليه كما ذكر فكيف يرضى عليه‌السلام بمعبوديته أو كيف يتوهم الرضا بمعبودية نفسه وقوله تعالى (وَلَوْ نَشاءُ) الخ لتحقيق أن مثل عيسى عليه‌السلام ليس ببدع من قدرة الله وأنه تعالى قادر على أبدع من ذلك وأبرع مع التنبيه* على سقوط الملائكة أيضا من درجة المعبودية أى قدرتنا بحيث لو نشاء (لَجَعَلْنا) أى لخلقنا بطريق* التوالد (مِنْكُمْ) وأنتم رجال ليس من شأنكم الولادة (مَلائِكَةً) كما خلقناهم بطريق الإبداع (فِي الْأَرْضِ) مستقرين فيها كما جعلناهم مستقرين فى السماء (يَخْلُفُونَ) أى يخلفونكم مثل أولادكم فيما تأتون وما تذرون ويباشرون الأفاعيل المنوطة بمباشرتكم مع أن شأنهم التسبيح والتقديس فى السماء فمن شأنهم بهذه المثابة بالنسبة إلى القدرة الربانية كيف يتوهم استحقاقهم للمعبودية أو انتسابهم إليه تعالى عن ذلك علوا (وَإِنَّهُ) وإن عيسى (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أى إنه بنزوله شرط من أشراطها وتسميته علما لحصوله به

٥٢

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٦٦)

____________________________________

أو بحدوثه بغير أب أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث الذى هو معظم ما ينكره الكفرة من الأمور الواقعة فى الساعة وقرىء لعلم أى علامة وقرىء للعلم وقرىء لذكر على تسمية ما يذكر به ذكرا كتسمية ما يعلم به علما وفى الحديث أن عيسى عليه‌السلام ينزل على ثنية بالأرض المقدسة يقال لها أفيق وعليه نصرتان وبيده حربة وبها يقتل الدجال فأتى بيت المقدس والناس فى صلاة الصح فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى عليه‌السلام ويصلى حلفه على شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ومخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به وقيل الضمير للقرآن لما أن فيه الإعلام بالساعة (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) فلا تشكن فى وقوعها (وَاتَّبِعُونِ) أى واتبعوا هداى أو شرعى أو رسولى* وقيل هو قول الرسول مأمورا من جهته تعالى (هذا) أى الذى أدعوكم إليه أو القرآن على أن الضمير* فى أنه له (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) موصل إلى الحق (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) عن اتباعى (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) بين العداوة حيث أخرج أباكم من الجنة وعرصكم للبلية (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) أى بالمعجزات أو بآيات الإنجيل أو بالشرائع الواضحات (قالَ) لبنى إسرائيل (قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) أى الإنجيل* أو الشريعة (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ) عطف على مقدر ينبىء عنه المجىء بالحكمة كأنه قيل قد جئتكم بالحكمة* لأعلمكم إياها ولأبين لكم (بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) وهو ما يتعلق بأمور الدين وأما ما يتعلق بأمور* الدنيا فليس بيانه من وظائف الأنبياء عليهم‌السلام كما قال عليه‌السلام أنتم أعلم بأمور دنياكم (فَاتَّقُوا اللهَ) فى مخالفتى (وَأَطِيعُونِ) فيما أبلغه عنه تعالى (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) بيان لما أمرهم بالطاعة فيه وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع (هذا) أى التوحيد والتعبد بالشرائع (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) لا يضل سالكه وهو إما من تتمة كلامه عليه‌السلام أو استئناف من جهته تعالى مقرر لمقالة عيسى عليه‌السلام (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ) الفرق المتحزبة (مِنْ بَيْنِهِمْ) أى من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) من المختلفين (مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) هو يوم القيامة (هَلْ يَنْظُرُونَ) أى ما ينتظر الناس (إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ) أى إلا إتيان الساعة (بَغْتَةً) أى فجأة لكن لا عند كونهم* مترقبين لها بل غافلين عنها مشتغلين بأمور الدنيا منكرين لها وذلك قوله تعالى (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) *

٥٣

(الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) (٧٣)

____________________________________

(الْأَخِلَّاءُ) المتحابون فى الدنيا على الإطلاق أو فى الأمور الدنيوية (يَوْمَئِذٍ) يوم إذ تأتيهم الساعة* (بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) لانقطاع ما بينهم من علائق الخلة والتحاب لظهور كونها أسبابا للعذاب (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) فإن خلتهم فى الدنيا لما كانت فى الله تبقى على حالها بل تزداد بمشاهدة كل منهم آثار خلتهم من الثواب ورفع الدرجات والاستثناء على الأول متصل وعلى الثانى منقطع (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون فى الله يومئذ تشريفا لهم وتطيبا لقلوبهم (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا) صفة للمنادى أو نصب على المدح (وَكانُوا مُسْلِمِينَ) أى مخلصين وجوههم لنا جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا وهو حال من واو آمنوا عن مقاتل إذا بعث الله الناس فزع كل أحد فينادى مناد يا عبادى فيرفع الخلائق رؤسهم على الرجاء ثم يتبعها الذين آمنوا الآية فينكس أهل الأديان الباطلة رؤسهم (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) نساؤكم المؤمنات (تُحْبَرُونَ) تسرون سرورا يظهر حباره أى أثره على وجوهكم أو تزينون من الحبرة وهو حسن الهيئة أو تكرمون إكراما بليغا والحبرة المبالغة فيما وصف بجميل (يُطافُ عَلَيْهِمْ) بعد دخولهم الجنة حسبما أمروا به (بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) كذلك والصحاف جمع صحفة قيل هى كالقصعة وقيل أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة ثم* المكيلة والأكواب جمع كوب وهو كوز لا عروة له (وَفِيها) أى فى الجنة (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) من* فنون الملاذ وقرىء ما تشتهى (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) أى تستلذه وتقر بمشاهدته وقرىء وتلذه (وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) إتمام للنعمة وإكمال للسرور فإن كل نعيم له زوال بالآخرة مقارن لخوفه لا محالة والالتفات للتشريف (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ) مبتدأ وخبر (الَّتِي أُورِثْتُمُوها) وقرىء ورثتموها (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فى الدنيا من الأعمال الصالحة شبه جزاء العمل بالميراث لأنه يخلفه العامل عليه وقيل تلك الجنة مبتدأ وصفة والموصول مع صلته خبره وقيل هو صفة الجنة كالوجه الأول والخبر بما كنتم تعملون فتتعلق الباء بمحذوف لا بأورثتموها كما فى الأولين (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ) بحسب الأنواع والأصناف

٥٤

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ(٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) (٧٩)

____________________________________

لا بحسب الأفراد فقط (مِنْها تَأْكُلُونَ) أى بعضها تأكلون فى كل نوبة وأما الباقى فعلى الأشجار على* الدوام لا ترى فيها شجرة خلت عن ثمرها لحظة فهى مزينة بالثمار أبدا موقرة بها وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينزع رجل فى الجنة من ثمرها إلا نبت مثلاها مكانها (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) أى الراسخين فى الإجرام وهم الكفار حسبما ينبىء عنه إيرادهم فى مقابلة المؤمنين بالآيات (فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) * خبر إن أو خالدون هو الخبر وفى متعلقة به (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) أى لا يخفف العذاب عنهم من قولهم فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلا والتركيب للضعف (وَهُمْ فِيهِ) أى فى العذاب وقرىء فيها أى فى النار (مُبْلِسُونَ) * آيسون من النجاة (وَما ظَلَمْناهُمْ) بذلك (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) لتعريضهم أنفسهم للعذاب الخالد (وَنادَوْا) خازن النار (يا مالِكُ) وقرىء يا مال على الترخيم بالضم والكسر ولعله رمز إلى ضعفهم وعجزهم عن تأدية اللفظ بتمامه (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) أى ليمتنا حتى نستريح من قضى عليه إذا أماته والمعنى* سل ربك أن يقضى علينا وهذا لا ينافى ما ذكر من إبلاسهم لأنه جؤار وتمن للموت لفرط الشدة (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أى فى العذاب أبدا لا خلاص لكم منه بموت ولا بغيره عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه لا يجيبهم إلا بعد ألف سنة وقيل بعد مائة وقيل بعد أربعين سنة (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ) فى الدنيا بإرسال الرسل وإنزال الكتب وهو خطاب توبيخ وتقريع من جهة الله تعالى مقرر لجواب مالك ومبين لسبب مكثهم وقيل فى قال ضمير الله تعالى (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ) أى حق كان (كارِهُونَ) لا يقبلونه* وينفرون عنه أما الحق المعهود الذى هو التوحيد أو القرآن فكلهم كارهون له مشمئزون منه (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً) كلام مبتدأ ناع على المشركين ما فعلوا من الكيد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأم منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من توبيخ أهل النار إلى حكاية جناية هؤلاء والهمزة للإنكار فإن أريد بالإبرام الأحكام حقيقة فهى لإنكار الوقوع واستبعاده وإن أريد الأحكام صورة فهى لإنكار الواقع واستقباحه أى أأبرم مشركو مكة أمرا من كيدهم ومكرهم برسول الله صلى الله عليه (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) كيدنا حقيقة لاهم أو فإنا مبرمون كيدنا بهم حقيقة كما أبرموا كيدهم صورة كقوله* تعالى (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) وكانوا يتناجون فى أنديتهم ويتشاورون فى أموره

٥٥

(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (٨٤)

____________________________________

عليه الصلاة والسلام (أَمْ يَحْسَبُونَ) أى بل أيحسبون (أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) وهو ما حدثوا به أنفسهم* أو غيرهم فى مكان خال (وَنَجْواهُمْ) أى ما تكلموا به فيما بينهم بطريق التناجى (بَلى) نحن نسمعهما* ونطلع عليهما (وَرُسُلُنا) الذين يحفظون عليهم أعمالهم ويلازمونهم أينما كانوا (لَدَيْهِمْ) عندهم (يَكْتُبُونَ) أى يكتبونهما أو يكتبون كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال التى من جملتها ما ذكر من سرهم ونجواهم والجملة إما عطف على ما يترجم عنه بلى أو حال أى نسمعهما والحال أن رسلنا يكتبون (قُلْ) أى للكفرة تحقيقا للحق وتنبيها لهم على أن مخالفتك لهم بعدم عبادتك لما يعبدونه من الملائكة عليهم‌السلام ليست لبغضك وعداوتك لهم أو لمعبوديهم بل إنما هو لجزمك باستحالة ما نسبوا إليهم وبنوا* عليه عبادتهم من كونهم بنات الله تعالى (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أى له وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بشؤنه تعالى وبما يجوز عليه وبما لا يجوز وأولاهم بمراعاة حقوقه ومن مواجب تعظيم الوالد تعظيم ولده وفيه من الدلالة على انتفاء كونهم كذلك على أبلغ الوجوه وأقواها وعلى كون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قوة يقين وثبات قدم فى باب التوحيد ما لا يخفى مع ما فيه من استنزال الكفرة عن رتبة المكابرة حسبما يعرب عنه إيراد أن مكان لو المنبئة عن امتناع مقدم الشرطية وقيل إن كان للرحمن ولد فى زعمكم فأنا أول العابدين الموحدين لله تعالى وقيل فأنا أول الآنفين أى المستنكفين منه أو من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتد أنفه وقيل إن نافية أى ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال بذلك وقرىء ولد (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أى يصفونه به من أن يكون له ولد وفى إضافة اسم الرب إلى أعظم الأجرام وأقواها تنبيه على أنها وما فيها من المخلوقات حيث كانت تحت ملكوته وربوبيته كيف يتوهم أن يكون شىء منها جزأ منه سبحانه وفى تكرير اسم الرب تفخيم لشأن العرش (فَذَرْهُمْ) حيث لم يذعنوا للحق بعد ما سمعوا* هذا البرهان الجلى (يَخُوضُوا) فى أباطيلهم (وَيَلْعَبُوا) فى دنياهم فإن ما هم فيه من الأفعال والأقوال* ليست إلا من باب الجهل واللعب والجزم فى الفعل لجواب الأمر (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) من يوم القيامة فإنهم يومئذ يعلمون ما فعلوا وما يفعل بهم (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) الظرفان متعلقان بالمعنى الوصفى الذى ينبىء عنه الاسم الجليل من معنى المعبودية بالحق بناء على اختصاصه

٥٦

(وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٨٩)

____________________________________

بالمعبود بالحق كما مر فى تفسير البسملة كأنه قيل وهو الذى مستحق لأن يعبد فيهما وقد مر تحقيقه فى سورة الأنعام وقرىء وهو الذى فى السماء الله وفى الأرض الله والراجع إلى الموصول مبتدأ قد حذف لطول الصلة بمتعلق الخبر والعطف عليه ولا مساغ لكون الجار خبرا مقدما وإله مبتدأ مؤخر للزوم عراء الجملة حينئذ عن العائد نعم يجوز أن يكون صلة للموصول وإله خبرا لمبتدأ محذوف على أن الجملة بيان للصلة وأن كونه فى السماء على سبيل الإلهية لا على سبيل الاستقرار وفيه نفى الآلهة السماوية والأرضية وتخصيص لاستحقاق الإلهية به تعالى وقوله تعالى (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) كالدليل على ما قبله* (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) إما على الدوام كالهواء أو فى بعض الأوقات كالطير (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أى العلم بالساعة التى فيها تقوم القيامة (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء والالتفات* للتهديد وقرىء على الغيبة وقرىء تحشرون بالتاء (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ) أى يدعونهم وقرىء بالتاء مخففا ومشددا (مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) كما يزعمون (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ) الذى هو التوحيد (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) * بما يشهدون به عن بصيرة وإيقان وإخلاص وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن الإفراد أولا باعتبار لفظها والاستثناء إما متصل والموصول عام لكل ما يعبد من دون الله أو منفصل على أنه خاص بالأصنام (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ) أى سألت العابدين والمعبودين (لَيَقُولُنَّ اللهُ) لتعذر الإنكار لغاية بطلانه (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره مع اعترافهم بكون الكل مخلوقا له تعالى* (وَقِيلِهِ) بالجر إما على أنه عطف على الساعة أى عنده علم الساعة وعلم قوله عليه الصلاة والسلام (يا رَبِّ) الخ فإن القول والقيل والقال كلها مصادر أو على أن الواو للقسم وقوله تعالى (إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) جوابه وفى الإقسام به من رفع شأنه عليه الصلاة والسلام وتفخيم دعائه والتجائه إليه تعالى ما لا يخفى وقرىء بالنصب بالعطف على سرهم أو على محل الساعة أو بإضمار فعله أو بتقدير فعل القسم وقرىء بالرفع على الابتداء والخبر ما بعده وقد جوز عطفه على علم الساعة (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) فأعرض عن دعوتهم واقنط عن إيمانهم (وَقُلْ سَلامٌ) أى أمرى تسلم منكم ومتاركة (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) حالهم البتة وإن تأخر* ذلك وهو وعيد من الله تعالى لهم وتسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرىء تعلمون على أنه داخل

٥٧

٤٤ ـ سورة الدخان

نزلت بمكة وآياتها تسع وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٤)

____________________________________

فى حيز قل. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ادخلوا الجنة بغير حساب.

(سورة الدخان مكية إلا قوله (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) وآياتها تسع وخمسون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (حم) (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) الكلام فيه كالذى سلف فى السورة السابقة (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أى الكتاب المبين الذى هو القرآن (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) هى ليلة القدر وقيل ليلة البراءة ابتدىء فيها إنزاله أو أنزل فيها جملة إلى السماء الدنيا من اللوح وأملاه جبريل عليه‌السلام على السفرة ثم كان ينزله على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما فى ثلاث وعشرين سنة كما مر فى سورة الفاتحة ووصفها بالبركه لما أن نزول القرآن مستتبع للمنافع الدينية والدنيوية بأجمعها أو لما فيها من تنزل الملائكة والرحمة وإجابة الدعوة وقسم النعمة وفصل الأقضية وفضيلة العبادة وإعطاء تمام الشفاعة لرسول الله* صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل يزيد فى هذه الليلة ماء زمزم زيادة ظاهره (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) استئناف مبين لما يقضى الإنزال كأنه قيل إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب وقيل جواب للقسم وقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) الخ اعتراض وقيل جواب ثان بغير عاطف (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) استئناف كما قبله فإن كونها مفرق الأمور المحكمة أو الملتبسة بالحكمة الموافقة لها يستدعى أن ينزل فيها القرآن الذى هو من عظائمها وقيل صفة أخرى لليلة وما بينهما اعتراض وهذا يدل على أنها ليلة القدر ومعنى يفرق أنه يكتب ويفصل كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى الأخرى من السنة القابلة وقيل يبدأ فى استنساخ ذلك من اللوح فى ليلة البراءة ويقع الفراغ فى ليلة القدر فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبريل وكذا الزلازل والخسف والصواعق ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت عليهم‌السلام وقرىء يفرق بالتشديد وقرىء يفرق على البناء للفاعل أى يفرق الله تعالى

٥٨

(أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) (٩)

____________________________________

كل أمر حكيم وقرىء نفرق بنون العظمة (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) نصب على الاختصاص أى أعنى بهذا الأمر* أمرا حاصلا من عندنا على مقتضى حكمتنا وهو بيان لفخامته الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية ويجوز كونه حالا من كل أمر لتخصصه بالوصف أو من ضميره فى حكيم وقد جوز أن يراد به مقابل النهى ويجعل مصدرا مؤكدا ليفرق لاتحاد الأمر والفرقان فى المعنى أو لفعله المضمر لما أن الفرق به أو حالا من أحد ضميرى أنزلناه أى آمرين أو مأمورا به (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) بدل من إنا كنا منذرين وقيل جواب ثالث وقيل* مستأنف وقوله تعالى (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) غاية للإرسال متأخرة عنه على أن المراد بها الرحمة الواصلة إلى العباد وباعث متقدم عليه على أن المراد مبدوها أى إنا أنزلنا القرآن لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد لأجل إفاضة رحمتنا عليهم أو لاقتضاء رحمتنا السابقة إرسالهم ووضع الرب موضع الضمير للإيذان بأن ذلك من أحكام الربوبية ومقتضياتها وإضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه أو تعليل ليفرق أو لقوله تعالى (أَمْراً) على أن قوله تعالى (رَحْمَةً) مفعول للإرسال كما فى قوله تعالى (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ) أى يفرق فيها كل أمر أو تصدر الأوامر من عندنا لأن من عادتنا إرسال رحمتنا ولا ريب فى أن كلا من قسمة الأرزاق وغيرها والأوامر الصادرة منه تعالى من باب الرحمة فإن الغاية لتكليف العباد تعريضهم للمنافع وقرىء رحمة بالرفع أى تلك رحمة وقوله تعالى (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) * تحقيق لربوبيته تعالى وأنها لا تحق إلا لمن هذه نعوته (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) بدل من أو بيان أو نعت وقرىء بالرفع على أنه خبر آخر أو استئناف على إضمار مبتدأ (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) * أى إن كنتم من أهل الإيقان فى العلوم أو إن كنتم موقنين فى إقراركم بأنه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما إذا سئلتم من خلقها فقلتم الله علمتم أن الأمر كما قلنا أو إن كنتم مريدين اليقين فاعلموا ذلك (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) جملة مستأنفة مقررة لما قبلها وقيل خبر لقوله (رَبِّ السَّماواتِ) الخ (وَما بَيْنَهُما) اعتراض (يُحْيِي وَيُمِيتُ) مستأنفة كما قبلها وكذا قوله تعالى (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) بإضمار مبتدأ أو بدل* من رب السموات على قراءة الرفع أو بيان أو نعت له وقيل فاعل ليميت وفى يحيى ضمير راجع إلى رب السموات وقرىء بالجر بدلا من رب السموات على قراءة الجر (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ) مما ذكر من شئونه تعالى غير موقنين فى إقرارهم (يَلْعَبُونَ) لا يقولون ما يقولون عن جد وإذعان بل مخلوطا بهزؤ ولعب*

٥٩

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) (١٤)

____________________________________

والفاء فى قوله تعالى (فَارْتَقِبْ) لترتيب الارتقاب أو الأمر به على ما قبلها فإن كونهم فى شك مما يوجب* ذلك حتما أى فانتظر لهم (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) أى يوم شدة ومجاعة فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان إما لضعف بصره أو لأن فى عام القحط يظلم الهواء لقلة الأمطار وكثرة الغبار أو لأن العرب تسمى الشر الغالب دخانا وذلك أن قريشا لما استعصت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا عليهم فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف فأخذتهم سنة حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان وكان يحدث الرجل يسمع كلامه ولا يراه من الدخان وذلك قوله تعالى (يَغْشَى النَّاسَ) أى يحيط بهم (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أى قائلين ذلك فمشى إليه عليه الصلاة والسلام أبو سفيان ونفر معه وناشدوه الله تعالى والرحم وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا وذلك قوله تعالى (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) وهذا قول ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهم وبه أخذ مجاهد ومقاتل وهو اختيار الفراء والزجاج وقيل هو دخان يأتى من السماء قبل يوم القيامة فيدخل فى أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ويعترى المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر قال حذيفة يا رسول الله وما الدخان فتلا الآية وقال يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره والأول هو الذى يستدعيه مساق النظم الكريم قطعا فإن قوله تعالى (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) الخ رد لكلامهم واستدعائهم الكشف وتكذيب لهم فى الوعد بالإيمان المنبىء عن التذكر والاتعاظ بما اعتراهم من الداهة أى كيف يتذكرون أو من أين يتذكرون بذلك ويفون* بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) أى والحال أنهم شاهدوا من دواعى التذكر وموجبات الاتعاظ ما هو أعظم منه فى إيجابها حيث جاءهم رسول عظيم الشأن وبين لهم مناهج الحق بإظهار آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة تخر لها صم الجبال (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) عن ذلك الرسول وهو هو ريثما شاهدوا منه ما شاهدوه من العظائم الموجبة للإقبال عليه ولم يقتنعوا بالتولى

٦٠