تفسير أبي السّعود - ج ٨

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٨

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (٣٣)

____________________________________

ولن يبرزها لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين فتبقى أمورهم مستورة والمعنى أن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الاحتمال (وَلَوْ نَشاءُ) إراءتهم (لَأَرَيْناكَهُمْ) لعرفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم معرفة متاخمة للرؤية والالتفات إلى نون العظمة لإبراز العناية بالإراءة (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) بعلامتهم التى نسمهم* بها وعن أنس رضى الله عنه ما خفى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية شىء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم ولقد كنا فى بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى كل واحد منهم مكتوب هذا منافق واللام لام الجواب كررت فى المعطوف للتأكيد والفاء لترتيب المعرفة على الإراءة وأما ما فى قوله تعالى (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) فلجواب قسم* محذوف ولحن القول نحوه وأسلوبه أو إمالته إلى جهة تعريض وتورية ومنه قيل للمخطىء لاحن لعدله بالكلام عن سمت الصواب (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) فيجازيكم بحسب قصدكم وهذا وعد للمؤمنين وإيذان* بأن حالهم بخلاف حال المنافقين (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) بالأمر بالجهاد ونحوه من التكاليف الشاقة (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) على مشاق الجهاد علما فعليا يتعلق به الجزاء (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) ما يخبر به* عن أعمالكم فيظهر حسنها وقبيحها وقرىء ويبلو بالياء وقرىء نبلو بسكون الواو على ونحن نبلوا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) وعادوه (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) بما شاهدوا* نعته عليه الصلاة والسلام فى التوراة وبما ظهر على يديه من المعجزات ونزل عليه من الآيات وهم قريظة والنضير أو المطعمون يوم بدر (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ) بكفرهم وصدهم (شَيْئاً) من الأشياء أو شيئا من الضرر* أو لن يضروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمشاقته شيئا وقد حذف المضاف لتعظيمه وتفظيع مشاقته (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) أى مكايدهم التى نصبوها فى إبطال دينه تعالى ومشاقة رسوله عليه الصلاة والسلام* فلا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون من الغوائل ولا تثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) بما أبطل به هؤلاء أعمالهم من الكفر والنفاق والعجب والرياء والمن والأذى ونحوها وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر.

١٠١

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٣٨)

____________________________________

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) حكم يعم كل من مات على الكفر وإن صح نزوله فى أصحاب القليب (فَلا تَهِنُوا) أى لا تضعفوا (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) أى ولا تدعوا الكفار إلى الصلح خورا فإن ذلك إعطاء الدنية ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن على جواب النهى وقرىء ولا تدعوا من ادعى القوم بمعنى تداعوا نحو ارتموا الصيد وتراموه ومنه تراءوا الهلال فإن صيغة التفاعل قد يراد بها صدور الفعل عن المتعدد من غير اعتبار وقوعه عليه ومنه قوله تعالى (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) على أحد الوجهين والفاء لترتيب النهى على ما سبق من الأمر بالطاعة وقوله تعالى* (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) جملة حالية مقررة لمعنى النهى مؤكدة لوجوب الانتهاء وكذا قوله تعالى (وَاللهُ مَعَكُمْ) فإن كونهم الأعلين وكونه عزوجل ناصرهم من أقوى موجبات الاجتناب عما يوهم الذل والضراعة* وكذا توفيته تعالى لأجور الأعمال حسبما يعرب عنه قوله تعالى (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أى ولن يضيعها من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم فأفردته عنه من الوتر الذى هو الفرد وعبر عن ترك الإثابة فى مقابلة الأعمال بالوتر الذى هو إضاعة شىء معتد به من الأنفس والأموال مع أن الأعمال غير موجبة للثواب على قاعدة أهل السنة إبرازا لغاية اللطف بتصوير الثواب بصورة الحق المستحق وتنزيل ترك الإثابة منزلة إضاعة أعظم الحقوق وإتلافها وقد مر فى قوله تعالى (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) لا ثبات لها ولا اعتداد بها (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) أى ثواب إيمانكم وتقواكم من الباقيات الصالحات التى يتنافس فيها* المتنافسون (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) بحيث يخل أداؤها بمعاشكم وإنما اقنصر على نزر يسير منها هو ربع العشر تؤدونها إلى فقرائكم (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها) أى أموالكم (فَيُحْفِكُمْ) أى يجهدكم بطلب الكل فإن* الإحفاء والإلحاف المبالغة وبلوغ الغاية يقال أحفى شاربه إذا استأصله (تَبْخَلُوا) فلا تعطوا (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) أى أحقادكم وضمير يخرج لله تعالى ويعضده القراءة بنون العظمة أو للبخل لأنه سبب الأضغان وقرىء يخرج من الخروج بالياء والتاء مسندا إلى الأضغان (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) أى أنتم أيها المخاطبون

١٠٢

٤٨ ـ سورة الفتح

نزلت فى الحديبية وآياتها تسع وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (١)

____________________________________

هؤلاء الموصوفون وقوله تعالى (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) استئناف مقرر لذلك أو صلة لهؤلاء* على أنه بمعنى الذين أى ها أنتم الذين تدعون ففيه توبيخ عظيم وتحقير من شأنهم والإنفاق فى سبيل الله يعم نفقة الغزو والزكاة وغيرهما (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) أى ناس يبخلون وهو فى حيز الدليل على الشرطية* السابقة (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) فإن كلا من نفع الإنفاق وضرر البخل عائد إليه والبخل* يستعمل بعن وعلى لتضمنه معنى الإمساك والتعدى (وَاللهُ الْغَنِيُّ) دون من عداه (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) فما* يأمركم به فهو لاحتياجكم إلى ما فيه من المنافع فإن امتثلتم فلكم وإن توليتم فعليكم وقوله تعالى (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) عطف على (إِنْ تُؤْمِنُوا) أى وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) يخلف* مكانكم قوما آخرين (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) فى التولى عن الإيمان والتقوى بل يكونوا راغبين فيهما* قيل هم الأنصار وقيل الملائكة وقيل أهل فارس لما روى أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن القوم وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه فقال هذا وقومه والذى نفسى بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس وقيل كندة والنخع وقيل العجم وقيل الروم. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة محمد كان حقا على الله عزوجل أن يسقيه من أنهار الجنة.

(سورة الفتح مدنية نزلت فى مرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية وآياتها تسع وعشرون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) فتح البلد عبارة عن الظفر به عنوة أو صلحا بحراب أو بدونه فإنه ما لم يظفر به منغلق مأخوذ من فتح باب الدار وإسناده إلى نون العظمة لاستناد أفعال العباد إليه تعالى خلقا وإيجادا والمراد به فتح مكة شرفها الله وهو المروى عن أنس رضى الله عنه بشر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند انصرافه من الحديبية والتعبير عنه بصيغة الماضى على سنن سائر الأخبار الربانية للإيذان بتحققه لا محالة تأكيدا للتبشير كما أن تصدير الكلام بحرف التحقيق لذلك وفيه من الفخامة المنبئة عن عظمة شأن المخبر جل جلاله وعز سلطانه ما لا يخفى وقيل هو ما أتيح له عليه الصلاة والسلام فى تلك السنة من فتح خيبر وهو المروى عن مجاهد وقيل هو صلح الحديبية فإنه وإن لم يكن فيه حراب شديد بل ترام بين الفريقين بسهام وحجارة لكن لما كان الظهور للمسلمين حيث سألهم المشركون الصلح كان فتحا بلا ريب وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم وعن الكلى ظهروا عليهم حتى سألوا الصلح وقد روى أنه عليه الصلاة والسلام حين

١٠٣

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (٤)

____________________________________

بلغه أن رجلا قال ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا قال بل هو أعظم الفتوح وقد رضى المشركون أن يدفعوكم بالراح ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم فى الأمان وقد رأوا منكم ما يكرهون وعن الشعبى نزلت بالحديبية وأصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تلك الغزوة ما لم يصب فى غزوة حيث أصاب أن بويع بيعة الرضوان وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وبلغ الهدى محله وأطعموا نخل خيبر وظهرت الروم على فارس ففرح به المسلمون وكان فى فتح الحديبية آية عظيمة هى أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة فتمضمض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم مجه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه وشبع وقيل فجاش الماء حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعد وقيل هو جميع ما فتح له عليه الصلاة والسلام من الفتوح وقيل هو ما فتح الله له عليه الصلاة والسلام من الإسلام والنبوة والدعوة بالحجة والسيف ولا فتح أبين منه وأعظم وهو رأس الفتوح كافة إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا وهو شعبة من شعبه وفرع من فروعه وقيل الفتح بمعنى القضاء ومنه الفتاحة للحكومة والمعنى قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها من قابل وهو المروى عن قتادة رضى الله عنه وأيا ما كان فحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل والإيذان بأن مناط التبشير نفس الفتح الصادر عنه سبحانه لا خصوصية المفتوح (فَتْحاً مُبِيناً) بينا ظاهر الأمر مكشوف الحال أو فارقا بين الحق والباطل وقوله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) غاية للفتح من حيث أنه مترتب على سعيه عليه الصلاة والسلام فى إعلاء كلمة الله تعالى بمكابدة مشاق الحروب واقتحام موارد الخطوب والالتفات إلى اسم الذات المستتبع لجميع الصفات للإشعار بأن كل واحد مما انتظم فى سلك الغاية من أفعاله تعالى صادر عنه تعالى من حيثية غير حيثية الآخر* مترتبة على صفة من صفاته تعالى (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) أى جميع ما فرط منك من ترك الأولى* وتسميته ذنبا بالنظر إلى منصبه الجليل (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإعلاء الدين وضم الملك إلى النبوة وغيرهما* مما أفاضه عليه من النعم الدينية والدنيوية (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) فى تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرياسة وأصل الاستقامة وإن كانت حاصلة قبل الفتح لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبل الحق واستقامة مناهجه ما لم يكن حاصلا قبل (وَيَنْصُرَكَ اللهُ) إظهار الاسم الجليل لكونه خاتمة الغايات* ولإظهار كمال العناية بشأن النصر كما يعرب عنه تأكيده بقوله تعالى (نَصْراً عَزِيزاً) أى نصرا فيه عزة ومنعة ٤ أو قويا منيعا على وصف المصدر بوصف صاحبه مجازا للمبالغة أو عزيزا صاحبه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ)

١٠٤

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (٦)

____________________________________

بيان لما أفاض عليهم من مبادى الفتح من الثبات والطمأنينة أى أنزلها (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) بسبب* الصلح والأمن إظهارا لفضله تعالى عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) * أى يقينا منضما إلى يقينهم أو أنزل فيها السكون إلى ما جاء به عليه الصلاة والسلام من الشرائع ليزدادوا إيمانا بها مقرونا مع إيمانهم بالوحدانية واليوم الآخر عن ابن عباس رضى الله عنهما أن أول ما أتاهم به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم التوحيد ثم الصلاة والزكاة ثم الحج والجهاد فازدادوا إيمانا مع إيمانهم أو أنزل فيها الوقار والعظمة لله تعالى ولرسوله ليزدادوا باعتقاد ذلك إيمانا إلى إيمانهم (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يدبر أمرها كيفما يريد يسلط بعضها على بعض تارة ويوقع بينهما السلم أخرى حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصاح (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) مبالغا فى العلم بجميع الأمور (حَكِيماً) فى تقديره* وتدبيره وقوله تعالى (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) متعلق* بما يدل عليه ما ذكر من كون جنود السموات والأرض له تعالى من معنى التصرف والتدبير أى دبر ما دبر من تسليط المؤمنين ليعرفوا نعمة الله فى ذلك ويشكروها فيدخلهم الجنة (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) * أى يغطيها ولا يظهرها وتقديم الإدخال فى الذكر على التكفير مع أن الترتيب فى الوجود على العكس للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى (وَكانَ ذلِكَ) أى ما ذكر من الإدخال والتفكير (عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) لا يقادر قدره لأنه منتهى ما يمتد إليه أعناق الهمم من جلب نفع ودفع ضر وعند الله حال من فوزا لأنه صفته فى الأصل فلما قدم عليه صار حالا أى كائنا عند الله أى فى علمه تعالى وقضائه والجملة اعتراض مقرر لما قبله (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) عطف على يدخل وفى تقديم المنافقين على المشركين ما لا يخفى من الدلالة على أنهم أحق منهم بالعذاب (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) أى ظن الأمر السوء وهو أن لا ينصر رسوله والمؤمنين (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أى ما يظنونه* ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم وقرىء دائرة السوء بالضم وهما لغتان من ساء كالكره والكره خلا أن المفتوح غلب فى أن يضاف إليه ما يراد ذمه من كل شىء وأما المضموم فجار مجرى الشر (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ) عطف على ما استحقوه فى الآخرة على ما استوجبوه* فى الدنيا والواو فى الأخيرين مع أن حقهما الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للإيذان باستقلال كل منهما فى الوعيد وأصالته من غير اعتبار استتباع بعضها لبعض (وَساءَتْ مَصِيراً) أى جهنم.

١٠٥

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١١)

____________________________________

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) إعادة لما سبق قالوا فائدتها التنبيه على أن لله تعالى جنود الرحمة وجنود العذاب وأن المراد ههنا جنود العذاب كما ينبىء عنه التعرض لوصف العزة (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أى على أمتك لقوله تعالى (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (وَمُبَشِّراً) على الطاعة (وَنَذِيراً) على المعصية (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) الخطاب للنبى عليه الصلاة والسلام ولأمته (وَتُعَزِّرُوهُ) * وتقووه بتقوية دينه ورسوله (وَتُوَقِّرُوهُ) وتعظموه (وَتُسَبِّحُوهُ) وتنزهوه أو تصلوا له من السبحة* (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) غدوة وعشيا عن ابن عباس رضى الله عنهما صلاة الفجر وصلاة الظهر وصلاة العصر وقرىء الأفعال الأربعة بالياء التحتانية وقرىء وتعزروه بضم التاء وتخفيف الزاى المكسورة وقرىء بفتح التاء وضم الزاى وكسرها وتعززوه بزاءين وتوقروه من أوقره بمعنى وقره (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) * أى على قنال قريش تحت الشجرة وقوله تعالى (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) خبران يعنى أن مبايعتك هى مبايعة* الله عزوجل لأن المقصود توثيق العهد بمراعاة أو امره ونواهيه وقوله تعالى (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) حال أو استئناف مؤكد له على طريقة التخييل والمعنى أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما كقوله تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) وقرىء إنما يبايعون الله أى لأجله* ولوجهه (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) أى فمن نقض عهده فإنما يعود صرر نكثه على نفسه* وقرىء بكسر الكاف (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) بضم الهاء فإنه أبقى بعد حذف الواو توسلا* بذلك إلى تفخيم لام الجلالة وقرىء بكسرها أى ومن وفى بعهده (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) هو الجنة وقرىء بما عهد وقرىء فسنؤتيه بنون العظمة (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) هم أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والديل تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين استنفر من

١٠٦

(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) (١٢)

____________________________________

حول المدينة من الإعراب وأهل البوادى ليخرجوا معه عند إرادته المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا حذرا من قريش أن يتعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت وأحرم عليه الصلاة والسلام وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد الحرب وتثاقلوا عن الخروج وقالوا نذهب إلى قوم قد غزوه فى عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم فأوحى الله تعالى إليه عليه الصلاة والسلام بأنهم سيعتلون ويقولون (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) ولم يكن لنا من يخلفنا فيهم ويقوم بمصالحهم ويحميهم من الضياع وقرىء* شغلتنا بالتشديد للتكثير (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا عنك حيث لم يكن ذلك باختيار بل عن* اضطرار (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) بدل من سيقول أو استئناف لتكذيبهم فى الاعتذار* والاستغفار (قُلْ) ردا لهم عند اعتذارهم إليك بأباطيلهم (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أى فمن يقدر* لأجلكم من مشيئة الله تعالى وقضائه على شىء من النفع (إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) أى ما يضركم من هلاك* الأهل والمال وضياعهما حتى تتخلفوا عن الخروج لحفظهما ودفع الضرر عنهما وقرىء ضرا بالضم (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) أى ومن يقدر على شىء من الضرر إن أراد بكم ما ينفعكم من حفظ* أموالكم وأهليكم فأى حاجة إلى التخلف لأجل القيام بحفظهما وهذا تحقيق للحق ورد لهم بموجب ظاهر مقالتهم الكاذبة وتعميم الضر والنفع لما يتوقع على تقدير الخروج من القتل والهزيمة والظفر والغنيمة يرده قوله تعالى (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فإنه إضراب عما قالوا وبيان لكذبه بعد* بيان فساده على تقدير صدقه أى ليس الأمر كما تقولون بل كان الله خبيرا بجميع ما تعملون من الأعمال التى من جملتها تخلفكم وما هو من مباديه وقوله تعالى (بَلْ ظَنَنْتُمْ) الخ بدل من كان الله الخ مفسر لما فيه من الإبهام أى بل ظننتم (أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) بأن يستأصلهم المشركون* بالمرة فخشيتم إن كنتم معهم أن يصيبكم ما أصابهم فلأجل ذلك تخلفتم لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة والأهلون جمع أهل وقد يجمع على أهلات كأرضات على تقدير تاء التأنيث وأما الأهالى فاسم جمع كالليالى وقرىء إلى أهلهم (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) وقبلتموه واشتغلتم بشأن أنفسكم غير مبالين بهم وقرىء* زين على البناء للفاعل بإسناده إلى الله سبحانه أو إلى الشيطان (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) المراد به إما الظن* الأول والتكرير لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء أو ما يعمه وغيره من الظنون الفاسدة التى من جملتها الظن بعدم صحة رسالته عليه الصلاة والسلام فإن الجازم بصحتها لا يحوم حول فكره ما ذكر من الاستئصال (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) أى هالكين عند الله مستوجبين لسخطه وعقابه على أنه جمع بائر كعائذ وعوذ أو فاسدين فى أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم وقيل البور من بار كالهلك من هلك بناء ومعنى ولذلك وصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.

١٠٧

(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (١٥)

____________________________________

(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) كلام مبتدأ من جهته تعالى غير داخل فى الكلام الملقن مقرر لبوارهم* ومبين لكيفيته أى ومن لم يؤمن بهما كدأب هؤلاء المخلفين (فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) أى لهم وإنما وضع موضع الضمير الكافرون إيذانا بأن من لم يجمع بين الإيمان بالله وبرسوله فهو كافر وأنه مستوجب للسعير بكفره وتنكير سعيرا للتهويل أو لأنها نار مخصوصة (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) * وما فيهما يتصرف فى الكل كيف يشاء (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أن يعذبه من غير دخل لأحد فى شىء منهما وجودا وعدما وفيه حسم لأطماعهم الفارغة فى استغفاره عليه الصلاة* والسلام لهم (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) مبالغا فى المغفرة والرحمة لمن يشاء ولا يشاء إلا لمن تقتضى الحكمة مغفرته ممن يؤمن به وبرسوله وأما من عداه من الكافرين فهم بمعزل من ذلك قطعا (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) أى المذكورون وقوله تعالى (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها) ظرف لما قبله لا شرط لما بعده أى سيقولون عند انطلاقكم إلى مغانم خيبر لتحوزوها حسبما وعدكم إياها وخصكم بها عوضا* مما فاتكم من غنائم مكة (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) إلى خيبر ونشهد معكم قتال أهلها (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) بأن يشاركوا فى الغنائم التى خصها بأهل الحديبية فإنه عليه الصلاة والسلام رجع من الحديبية فى ذى الحجة من سنة ست وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم من سنة سبع ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية ففتحها وغنم أموالا كثيرة فخصها بهم حسبما أمره الله عزوجل وقرىء كلم الله وهو جمع كلمة وأيا ما كان فالمراد ما ذكر من وعده تعالى غنائم خيبر لأهل الحديبية خاصة لا قوله تعالى (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) فإن ذلك فى غزوة تبوك (قُلْ) إقناطا لهم (لَنْ تَتَّبِعُونا) أى لا تتبعونا فإنه نفى فى معنى النهى* للمبالغة (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أى عند الانصراف من الحديبية (فَسَيَقُولُونَ) للمؤمنين عند* سماع هذا النهى (بَلْ تَحْسُدُونَنا) أى ليس ذلك النهى حكم الله بل تحسدوننا أن نشارككم فى الغنائم* وقرىء تحسدوننا بكسر السين وقوله تعالى (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ) أى لا يفهمون (إِلَّا قَلِيلاً) إلا فهما قليلا وهو فطنتهم لأمور الدنيا رد لقولهم الباطل ووصف لهم بما هو أعظم من الحسد وأطم من الجهل

١٠٨

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧) لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١٨)

____________________________________

المفرط وسوء الفهم فى أمور الدين (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) كرر ذكرهم بهذا العنوان مبالغة فى ذمهم (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) هم بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب أو غيرهم ممن ارتدوا* بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو المشركون لقوله تعالى (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أى يكون أحد* الأمرين إما المقاتلة أبدا أو الإسلام لا غير كما يفصح عنه قراءة أو يسلموا وأما من عداهم فينتهى قتالهم بالجزية كما ينتهى بالإسلام وفيه دليل على أمامة أبى بكر رضى الله عنه إذ لم تتفق هذه الدعوة لغيره إلا إذا صح أنهم ثقيف وهوازن فإن ذلك كان فى عهد النبوة فيخص دوام نفى الاتباع بما فى غزوة خيبر كما قاله محيى السنة وقيل هم فارس والروم ومعنى يسلمون ينقادون فإن الروم نصارى وفارس مجوس يقبل منهم الجزية (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) هو الغنيمة فى الدنيا والجنة فى الآخرة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) عن الدعوة (كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) فى الحديبية (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) لتضاعف جرمكم (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أى فى التخلف عن الغزو لما بهم من العذر والعاهة فإن التكليف يدور على الاستطاعة وفى نفى الحرج عن كل من الطوائف المعدودة مزيد اعتناء بأمرهم وتوسيع لدائرة الرخصة (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما ذكر من الأوامر والنواهى* (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وقرىء ندخله بنون العظمة (وَمَنْ يَتَوَلَّ) أى عن الطاعة* (يُعَذِّبْهُ) وقرىء بالنون (عَذاباً أَلِيماً) لا يقدر قدره (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) هم الذين ذكر شأن مبايعتهم وبهذه الآية سميت بيعة الرضوان وقوله تعالى (إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) منصوب برضى* وصيغة المضارع لاستحضار صورتها وتحت الشجرة متعلق به أو بمحذوف هو حال من مفعوله روى أنه عليه الصلاة والسلام لما نزل الحديبية بعث خراش بن أمية الخزاعى رسولا إلى أهل مكة فهموا به فمنعه الأحابيش فرجع فبعث عثمان بن عفان رضى الله عنه فأخبرهم أنه عليه الصلاة والسلام لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته فوقروه وقالوا إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل فقال ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحتبس عندهم فأرجف بأنهم قتلوه فقال عليه الصلاة والسلام لا نبرح حتى نناجز القوم ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة وكانت

١٠٩

(وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٢١)

____________________________________

سمرة وقيل سدرة على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا وروى على الموت دونه وأن لا يفروا فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنتم اليوم خير أهل الأرض وكانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين* وقيل ألفا وأربعمائة وقيل ألفا وثلثمائة وقوله تعالى (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) عطف على يبايعونك لما عرفت من أنه بمعنى بايعوك لا على رضى فإن رضاه تعالى عنهم مترتب على علمه تعالى بما فى قلوبهم من الصدق* والإخلاص عند مبايعتهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) عطف على رضى* أى فأنزل عليهم الطمأنينة والأمن وسكون النفس بالربط على قلوبهم وقيل بالصلح (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) هو فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية كما مر تفصيله وقرىء وآتاهم (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) أى مغانم خيبر والالتفات إلى الخطاب على قراءة الأعمش وطلحة ونافع لتشريفهم فى مقام الامتنان (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) غالبا (حَكِيماً) مراعيا لمقتضى الحكمة فى أحكامه وقضاياه (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً) * هى ما يفيؤه على المؤمنين إلى يوم القيامة (تَأْخُذُونَها) فى أوقاتها المقدرة لكل واحدة منها (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) أى غنائم خيبر (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) أى أيدى أهل خيبر وحلفائهم من بنى أسد وغطفان حيث جاءوا لنصرتهم فقذف الله فى قلوبهم الرعب فنكصوا وقيل أيدى أهل مكة بالصلح* (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أمارة يعرفون بها صدق رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى وعده إياهم عند رجوعه من الحديبية ما ذكر من المغانم وفتح مكة ودخول المسجد الحرام واللام متعلقة إما بمحذوف مؤخر أى ولتكون آية لهم فعل ما فعل من التعجيل والكف أو بما تعلق به علة أخرى محذوفة من أحد الفعلين أى فعجل لكم هذه أو كف أيدى الناس لتغتنموها ولتكون الخ فالواو على الأول اعتراضية* وعلى الثانى عاطفة (وَيَهْدِيَكُمْ) بتلك الآية (صِراطاً مُسْتَقِيماً) هو الثقة بفضل الله تعالى والتوكل عليه فى كل ما تأتون وما تذرون (وَأُخْرى) عطف على هذه أى فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى* (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) وهى مغانم هوازن فى غزوة حنين ووصفها بعدم القدرة عليها لما كان فيها من* الجولة قبل ذلك لزيادة ترغيبهم فيها وقوله تعالى (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) صفة أخرى لأخرى مفيدة لسهولة تأتيها بالنسبة إلى قدرته تعالى بعد بيان صعوبة منالها بالنظر إلى قدرتهم أى قد قدر الله عليها واستولى وأظهركم عليها وقيل حفظها لكم ومنعها من غيركم هذا وقد قيل إن أخرى منصوب بمضمر يفسره قد أحاط الله بها أى وقضى الله أخرى ولا ريب فى أن الإخبار بقضاء الله إياها بعد اندارجها فى جملة المغانم الموعودة بقوله تعالى (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) ليس فيه مزيد فائدة وإنما الفائدة

١١٠

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٢٥)

____________________________________

فى بيان تعجيلها (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) لأن قدرته تعالى ذاتية لا تختص بشىء دون شىء (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى أهل مكة ولم يصالحوكم وقيل حلفاء خيبر (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) منهزمين (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) يحرسهم (وَلا نَصِيراً) ينصرهم (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) أى سن الله غلبة أنبيائه سنة قديمة فيمن مضى من الأمم (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أى تغييرا (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ) أى أيدى سفار مكة (عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) أى فى داخلها (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) وذلك* أن عكرمة بن أبى جهل خرج فى خمسمائة إلى الحديبية فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد على جند فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ثم عاد وقيل كان يوم الفتح وبه استشهد أبو حنيفة على أن مكة فتحت عنوة لا صلحا (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من مقاتلتهم وهزمهم أولا والكف عنهم* ثانيا لتعظيم بيته الحرام وقرىء بالياء (بَصِيراً) فيجازيكم بذلك أو يجازيهم (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ) بالنصب عطفا على الضمير المنصوب فى صدوركم وقرىء بالجر عطفا على المسجد بحذف المضاف أى ونحر الهدى وبالرفع على وصد الهدى وقوله تعالى (مَعْكُوفاً) حال* من الهدى أى محبوسا وقوله تعالى (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) بدل اشتمال من الهدى أو منصوب بنزع الخافض* أى محبوسا من أن يبلغ مكانه الذى يحل فيه نحره وبه استدل أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى على أن المحصر محل هديه الحرم قالوا بعض الحديبية من الحرم وروى أن خيامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت فى الحل ومصلاه فى الحرم وهناك نحرت هداياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد صدها عن محلها المعهود الذى هو منى (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم وهو صفة* لرجال ونساء وقوله تعالى (أَنْ تَطَؤُهُمْ) أى توقعوا بهم وتهلكوهم بدل اشتمال منهم أو من الضمير* المنصوب فى تعلموهم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ) أى من جهتهم (مَعَرَّةٌ) أى مشقة ومكروه كوجوب الدية أو* الكفارة بقتلهم والتأسف عليهم وتعيير الكفار وسوء قالتهم والإثم بالتقصير فى البحث عنهم وهى مفعلة من عره إذا عراه ودهاه ما يكرهه (بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلق بأن تطؤهم أى غير عالمين بهم وجواب لو لا*

١١١

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٢٦)

____________________________________

محذوف لدلالة الكلام عليه والمعنى لو لا كراهة أن تهلكوا ناسا مؤمنين بين الكافرين غير عالمين بهم* فيصيبكم بذلك مكروه لما كف أيديكم عنهم وقوله تعالى (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) متعلق بما يدل عليه الجواب المحذوف كأنه قيل عقيبه لكن كفها عنهم ليدخل بذلك الكف المؤدى إلى الفتح بلا محذور* فى رحمته الواسعة بقسميها (مَنْ يَشاءُ) وهم المؤمنون فإنهم كانوا خارجين من الرحمة الدنيوية التى من جملتها الأمن مستضعفين تحت أيدى الكفرة وأما الرحمة الأخروية فهم وإن كانوا غير محرومين منها بالمرة لكنهم كانوا قاصرين فى إقامة مراسم العبادة كما ينبغى فتوفيقهم لإقامتها على الوجه الأتم إدخال لهم فى الرحمة الأخروية وقد جوز أن يكون من يشاء عبارة عمن رغب فى الإسلام من المشركين* ويأباه قوله تعالى (لَوْ تَزَيَّلُوا) الخ فإن فرض التزيل وترتيب التعذيب عليه يقتضى تحقق الباينة بين الفريقين بالإيمان والكفر قبل التزيل حتما أى لو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض وقرىء لو تزايلوا* (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) بقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) منصوب باذكر على المفعولية أو بعذبنا على الظرفية وقيل بمضمر هو أحسن الله إليكم وأيا ما كان فوضع الموصول موضع ضمير هم لذمهم بما فى حيز الصلة وتعليل الحكم به والجعل* إما بمعنى الإلقاء فقوله تعالى (فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) أى الأنفة والتكبر متعلق به أو بمعنى التصيير فهو متعلق* بمحذوف هو مفعول ثان له أى جعلوها ثابتة راسخة فى قلوبهم (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) بدل من الحمية أى حمية الملة* الجاهلية أو الحمية الناشئة من الجاهلية وقوله تعالى (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) على الأول عطف على جعل والمراد تذكير حسن صنيع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بتوفيق الله تعالى وسوء صنيع الكفرة وعلى الثانى على ما يدل عليه الجملة الامتناعية كأنه قيل لم يتزيلوا فلم نعذب فأنزل الخ وعلى الثالث على المضمر تفسير له والسكينة الثبات والوقار يروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل الحديبية بعث قريش سهيل بن عمرو القرشى وحويطب بن عبد العزى ومكرز ابن حفص بن الأحنف على أن يعرضوا على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلى له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ففعل ذلك وكتبوا بينهم كتابا فقال عليه الصلاة والسلام لعلى رضى الله عنه اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا ما نعرف ما هذا اكتب باسمك اللهم ثم قال اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله أهل مكة فقالوا لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم اكتب* ما يريدون فهم المؤمنون أن يأبوا ذلك ويبطشوا بهم فأنزل الله السكينة عليهم فتوقروا وحلموا (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) أى كلمة الشهادة أو بسم الله الرحمن الرحيم أو محمد رسول الله وقيل كلمة التقوى هى* الوفاء بالعهد والثبات عليه وإضافتها إلى التقوى لأنها سبب التقوى وأساسها أو كلمة أهلها (وَكانُوا

١١٢

لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٢٨)

____________________________________

أَحَقَّ بِها) متصفين بمزيد استحقاق لها على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقا وقيل أحق بها من الكفار (وَأَهْلَها) أى المستأهل لها (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فيعلم حق كل شىء فيسوقه إلى مستحقه (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا رؤسهم وقصروا فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها فى عامهم فلما تأخر ذلك قال عبد الله بن أبى وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت أى صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى رؤياه كما فى قولهم صدقنى سن بكره وتحقيقه أراه الرؤيا الصادقة وقوله تعالى (بِالْحَقِّ) إما صفة لمصدر مؤكد محذوف أى صدقا* ملتبسا بالحق أى بالغرض الصحيح والحكمة البالغة التى هى التمييز بين الراسخ فى الإيمان والمتزلزل فيه أو حال من الرؤيا أى ملتبسة بالحق ليست من قبيل أضغاث الأحلام وقد جوز أن يكون قسما بالحق الذى هو من أسماء الله تعالى أو بنقيض الباطل وقوله تعالى (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) جوابه* وهو على الأولين جواب قسم محذوف أى والله لتدخلن الخ وقوله تعالى (إِنْ شاءَ اللهُ) تعليق للعدة* بالمشيئة لتعليم العباد أو للإشعار بأن بعضهم لا يدخلونه لموت أو غيبة أو غير ذلك أو هى حكاية لما قاله ملك الرؤيا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لما قاله عليه الصلاة والسلام لأصحابه (آمِنِينَ) * حال من فاعل لتدخلن والشرط معترض وكذا قوله تعالى (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) أى محلقا* بعضكم ومقصرا آخرون وقيل محلقين حال من ضمير آمنين فتكون متداخلة (لا تَخافُونَ) حال مؤكدة* من فاعل لتدخلن أو آمنين أو محلقين أو مقصرين أو استئناف أى لا تخافون بعد ذلك (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) * عطف على صدق والمراد بعلمه تعالى العلم الفعلى المتعلق بأمر حادث بعد المعطوف عليه أى فعلم عقيب ما أراه الرؤيا الصادقة ما لم تعلموا من الحكمة الداعية إلى تقديم ما يشهد بالصدق علما فعليا (فَجَعَلَ) * لأجله (مِنْ دُونِ ذلِكَ) أى من دون تحقق مصداق ما رأه من دخول المسجد الحرام الخ (فَتْحاً قَرِيباً) * وهو فتح خيبر والمراد بجعله وعده وإنجازه من غير تسويف ليستدل به على صدق الرؤيا حسبما قال ولتكون آية للمؤمنين وأما جعل ما فى قوله تعالى (ما لَمْ تَعْلَمُوا) عبارة عن الحكمة فى تأخير فتح مكة إلى العام القابل كما جنح إليه الجمهور فتأباه الفاء فإن علمه تعالى بذلك متقدم على إراءة الرؤيا قطعا (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) أى ملتبسا به أو بسببه ولأجله (وَدِينِ الْحَقِّ) وبدين الإسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ليعليه على جنس الدين بجميع أفراده التى هى الأديان المختلفة بنسخ ما كان حقا من بعض

١١٣

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩)

____________________________________

الأحكام المتبدلة بتبدل الأعصار وإظهار بطلان ما كان باطلا أو بتسليط المسلمين على أهل سائر الأديان إذ ما من أهل دين إلا وقد قهرهم المسلمون وفيه فضل تأكيد لما وعد من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على أنه سبحانه سيفتح لهم من البلاد ويتيح لهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون إليه* فتح مكة (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على أن ما وعده كائن لا محالة أو على نبوته عليه الصلاة والسلام بإظهار المعجزات (مُحَمَّدٌ) خبر مبتدأ محذوف وقوله تعالى (رَسُولُ اللهِ) بدل أو بيان أو نعت أى ذلك الرسول المرسل بالهدى ودين الحق محمد رسول الله وقيل محمد متبدأ رسول الله خبره والجملة مبينة* للمشهود به وقوله تعالى (وَالَّذِينَ مَعَهُ) مبتدأ خبره (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) وأشداء جمع شديد ورحماء جمع رحيم والمعنى أنهم يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلابة ولمن وافقهم فى الدين الرحمة والرأفة كقوله تعالى (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) وقرىء أشداء ورحماء بالنصب* على المدح أو على الحال من المستكن فى معه لوقوعه صلة فالخبر حينئذ قوله تعالى (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) أى تشاهدهم حال كونهم راكعين ساجدين لمواظبتهم على الصلوات وهو على الأول خبر آخر أو* استئناف وقوله تعالى (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أى ثوابا ورضا إما خبر آخر أو حال من ضمير تراهم أو من المستتر فى ركعا سجدا أو استئناف مبنى على سؤال نشأ من بيان مواظبتهم على* الركوع والسجود كأنه قيل ماذا يريدون بذلك فقيل يبتغون فضلا من الله الخ (سِيماهُمْ) أى سمتهم وقرىء سيمياؤهم بالياء بعد الميم والمد وهما لغتان وفيها لغة ثالثة هى السيماء بالمد وهو مبتدأ خبره* (فِي وُجُوهِهِمْ) أى فى جباههم وقوله تعالى (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) حال من المستكن فى الجار أى من التأثير الذى يؤثره كثرة السجود وما روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله عليه الصلاة والسلام لا تعلبوا صوركم أى لا تسموها إنما هو فيما إذا اعتمد بجبهته على الأرض ليحدث فيها تلك السمة وذلك محض رياء ونفاق والكلام فيما حدث فى جبهة السجاد الذى لا يسجد إلا خالصا لوجه الله عزوجل كان الإمام زين العابدين وعلى بن عبد الله بن العباس رضى الله عنهما يقال لهما ذو الثفنات لما أحدثت كثرة سجودهما فى مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير قال قائلهم[ديار على والحسين وجعفر * وحمزة والسجاد ذى الثفنات] وقيل صفرة الوجه من خشية الله تعالى وقيل ندى الطهور وتراب الأرض وقيل استنارة وجوههم من طول ما صلوا بالليل قال عليه الصلاة والسلام من كثرت صلاته بالليل* حسن وجهه بالنهار وقرىء من آثار السجود ومن إثر السجود بكسر الهمزة (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر

١١٤

٤٩ ـ سورة الحجرات

(مدنية وهى ثمانى عشرة آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١)

____________________________________

من نعوتهم الجليلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو شأنه وبعد منزلته فى الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (مَثَلُهُمْ) أى وصفهم العجيب الشأن الجارى فى الغرابة مجرى* الأمثال وقوله تعالى (فِي التَّوْراةِ) حال من مثلهم والعامل معنى الإشارة وقوله تعالى (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) * عطف على مثلهم الأول كأنه قيل ذلك مثلهم فى التوراة والإنجيل وتكرير مثلهم لتأكيد غرابته وزيادة تقريرها وقوله تعالى (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) الخ تمثيل مستأنف أى هم كزرع أخرج فراخه وقيل* هو تفسير لذلك على أنه إشارة مبهمة وقيل خبر لقوله تعالى (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) على أن الكلام قد تم عند قوله تعالى (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) وقرىء شطأه بفتحات وقرىء شطاه بفتح الطاء وتخفيف الهمزة وشطاءه بالمد وشطه بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى ما قبلها وشطوه بقلبها واو (فَآزَرَهُ) فقواه من* المؤازرة بمعنى المعاونة أو من الإيزار وهى الإعانة وقرىء فأزره بالتخفيف وأزره بالتشديد أى شد أزره وقوله تعالى (فَاسْتَغْلَظَ) فصار غليظا بعد ما كان دقيقا (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) فاستقام على قصبه* جمع ساق وقرىء سؤقه بالهمزة (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) بقوته وكثافته وغلظه وحسن منظره وهو مثل* ضربه الله عزوجل لأصحابه عليه الصلاة والسلام قلوا فى بدء الإسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم يوما فيوما بحيث أعجب الناس وقيل مكتوب فى الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وقوله تعالى (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) علة لما يعرب عنه الكلام* من تشبيههم بالزرع فى زكائه واستحكامه أو لما بعده من قوله تعالى (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) فإن الكفار إذا سمعوا بما أعد للمؤمنين فى الآخرة مع ما لهم فى الدنيا من العزة غاظهم ذلك أشد غيظ ومنهم للبيان. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتح مكة.

(سورة الحجرات مدنية وآياتها ثمانى عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تصدير الخطاب بالنداء لتنبيه المخاطبين على أن ما فى حيزه أمر خطير يستدعى مزيد اعتنائهم بشأنه وفرط اهتمامهم بتقليه ومراعاته ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم والإيذان بأنه داع إلى المحافظة عليه ووازع عن الإخلال به (لا تُقَدِّمُوا) أى لا تفعلوا* التقديم على أن ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل من غير اعتبار تعلقه بأمر من الأمور على طريقة قولهم

١١٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٢)

____________________________________

فلان يعطى ويمنع أى يفعل الإعطاء والمنع أو لا تقدموا أمرا من الأمور على أن حذف المفعول للقصد إلى تعميمه والأول أو فى بحق المقام لإفادته النهى عن التلبس بنفس الفعل الموجب لانتفائه بالكلية المستلزم لانتفاء تعلقه بمفعوله بالطريق البرهانى وقد جوز أن يكون التقديم بمعنى التقدم ومنه مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة ويعضده قراءة من قرأ لا تقدموا بحذف إحدى التأءين من تتقدموا* وقرىء لا تقدموا من القدوم وقوله تعالى (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) مستعار مما بين الجهتين المسامتتين ليدى الإنسان تهجينا لما نهوا عنه والمعنى لا تقطعوا أمرا قبل أن يحكما به وقيل المراد بين يدى رسول الله وذكر الله تعالى لتعظيمه والإيذان بجلالة محله عنده عزوجل قيل نزل فيما جرى بين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما لدى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تامير الأقرع بن حابس أو القعقاع بن معبد* (وَاتَّقُوا اللهَ) فى كل ما تأتون وما تذرون من الأقوال والأفعال التى من جملتها ما نحن فيه (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بأفعالكم فمن حقه أن يتقى ويراقب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) شروع فى النهى عن التجاوز فى كيفية القول عند النبى عليه الصلاة والسلام بعد النهى عن التجاوز فى نفس القول والفعل وإعادة النداء مع قرب العهد به للمبالغة فى الإيقاظ والتنبيه والإشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه أى لا تبلغوا بأصواتكم وراء حد* يبلغه عليه الصلاة والسلام بصوته وقرىء لا ترفعوا بأصواتكم على أن الباء زائدة (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) إذا كلمتموه (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أى جهرا كائنا كالجهر الجارى فيما بينكم بل اجعلوا صوتكم أخفض من صوته عليه الصلاة والسلام وتعهدوا فى مخاطبته اللين القريب من الهمس كما هو الدأب عند مخاطبة المهيب المعظم وحافظوا على مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها وقيل معنى لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض لا تقولوا له يا محمد يا أحمد وخاطبوه بالنبوة قال ابن عباس رضى الله عنهما لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر يا رسول الله والله لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله تعالى وعن عمر رضى الله عنه أنه كان يكلمه عليه الصلاة والسلام كأخى السرار لا يسمعه حتى يستفهمه وكان أبو بكر رضى الله عنه إذا قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوفود أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى* (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) إما علة للنهى أى لا تجهروا خشية أن تحبط أو كراهة أن تحبط كما فى قوله تعالى (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أو للمنهى أى لا تجهروا لأجل الحبوط فإن الجهر حيث كان بصدد الأداء إلى الحبوط فكأنه فعل لأجله على طريقة التمثيل كقوله تعالى (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) وليس المراد بما نهى عنه من الرفع والجهر ما يقارنه الاستخفاف والاستهانة فإن ذلك كفر بل ما يتوهم أن يؤدى إليه مما يجرى بينهم فى أثناء المحاورة من الرفع والجهر حسبما يعرب عنه قوله تعالى (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ

١١٦

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٤)

____________________________________

لِبَعْضٍ) خلا أن رفع الصوت فوق صوته عليه الصلاة والسلام لما كان منكرا محضا لم يقيد بشىء ولا ما يقع منهما فى حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو نحو ذلك وعن ابن عباس رضى الله عنهما نزلت فى ثابت بن قيس بن شماس وكان فى أذنه وقر وكان جهورى الصوت وربما كان يكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيتأذى بصوته وعن أنس رضى الله عنه أنه لما نزلت الآية فقد ثابت وتفقده عليه الصلاة والسلام فأخبر بشأنه فدعاه فسأله فقال يا رسول الله لقد أنزلت إليك هذه الآية وإنى رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملى قد حبط فقال له عليه الصلاة والسلام لست هناك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة وأما ما يروى عن الحسن من أنها نزلت فى بعض المنافقين الذين كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوته عليه الصلاة والسلام فقد قيل محمله أن نهيهم مندرج تحت نهى المؤمنين بدلالة النص (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) حال من فاعل تحبط أى والحال أنكم لا تشعرون* بحبوطها وفيه مزيد تحذير مما نهوا عنه وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) الخ ترغيب فى الانتهاء عما نهوا عنه بعد الترهيب عن الإخلال به أى يخفضونها مراعاة للأدب أو خشية من مخالفة النهى (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة وما فيه من معنى البعد* مع قرب العهد بالمشار إليه لما مر مرارا من تفخيم شأنه وهو مبتدأ خبره (الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أى جربها للتقوى ومرنها عليها أو عرفها كائنة للتقوى خالصة لها فإن الامتحان سبب المعرفة واللام صلة لمحذوف أو للفعل باعتبار الأصل أو ضرب قلوبهم بضروب المحن والتكاليف الشاقة لأجل التقوى فإنها لا تظهر إلا بالاصطبار عليها أو أخلصها للتقوى من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه وعن عمر رضى الله عنه أذهب عنها الشهوات (لَهُمْ) فى الآخرة (مَغْفِرَةٌ) عظيمة لذنوبهم* (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره والجملة إما خبر آخر لأن كالجملة المصدرة باسم الإشارة أو استئناف* لبيان جزائهم إحمادا لحالهم وتعريضا بسوء حال من ليس مثلهم (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) أى من خارجها من خلفها أو قدامها ومن ابتدائية دالة على أن المناداة نشأت من جهة الوراء وأن المنادى داخل الحجرة لوجوب اختلاف المبدأ والمنتهى بحسب الجهة بخلاف ما لو قيل ينادونك وراء الحجرات وقرىء الحجرات بفتح الجيم وبسكونها وثلاثتها جمع حجرة وهى القطعة من الأرض المحجورة بالحائط ولذلك يقال لحظيرة الإبل حجرة وهى فعلة من الحجر بمعنى مفعول كالغرفة والقبضة والمراد بها حجرات أمهات المؤمنين ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه عليه الصلاة والسلام من ورائها أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له عليه الصلاة والسلام فنادوه

١١٧

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (٧)

____________________________________

بعض من وراء هذه وبعض من وراء تلك فأسند فعل الأبعاض إلى الكل وقد جوز أن يكونوا قد نادوه من وراء الحجرة التى كان عليه الصلاة والسلام فيها ولكنها جمعت إجلالا له عليه الصلاة والسلام وقيل إن الذى ناداه عيينة بن حصن الفزارى والأقرع بن حابس وفدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى سبعين رجلا من بنى تميم وقت الظهيرة وهو راقد فقالا يا محمد اخرج إلينا وإنما* أسند النداء إلى الكل لأنهم رضوا بذلك أو أمروا به أو لأنه وجد فيما بينهم (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) إذ لو كان لهم عقل لما تجاسروا على هذه المرتبة من سوء الأدب (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) أى ولو تحقق صبرهم وانتظارهم حتى تخرج إليهم فإن أن وإن دلت بما فى حيزها على المصدر لكنها تفيد بنفسها التحقق والثبوت الفرق البين بين قولك بلغنى قيامك وبلغنى أنك قائم وحتى تفيد أن الصبر ينبغى أن يكون مغيا بخروجه عليه الصلاة والسلام فإنها مختصة بما هو غاية للشىء فى نفسه ولذلك تقول أكلت السمكة حتى رأسها ولا تقول حتى نصفها أو ثلثها بخلاف إلى فإنها عامة وفى إليهم إشعار بأنه لو خرج* لا لأجلهم ينبغى أن يصبروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم (لَكانَ) أى الصبر المذكور (خَيْراً لَهُمْ) من الاستعجال لما فيه من رعاية حسن الأدب وتعظيم الرسول الموجبين للثناء والثواب والإسعاف* بالمسؤل إذ روى أنهم وفدوا شافعين فى أسارى بنى العنبر فأطلق النصف وفادى النصف (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بليغ المغفرة والرحمة واسعهما فلن يضيق ساحتهما عن هؤلاء إن تابوا وأصلحوا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) أى فتعرفوا وتفحصوا روى أنه عليه الصلاة والسلام بعث الوليد ابن عقبة أخا عثمان رضى الله عنه لأمه مصدقا إلى بنى المصطلق وكان بينه وبينهم أحنة فلما سمعوا به استقبلوه فحسب أنهم مقاتلوه فرجع وقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة فهم عليه الصلاة والسلام بقتالهم فنزلت وقيل بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين فسلموا إليه الصدقات فرجع وفى ترتيب الأمر بالتبين على فسق المخبر إشارة إلى قبول خبر الواحد* العدل فى بعض المواد وقرىء فتثبتوا أى توقفوا إلى أن يتبين لكم الحال (أَنْ تُصِيبُوا) حذارا أن* تصيبوا (قَوْماً بِجَهالَةٍ) ملتبسين بجهالة حالهم (فَتُصْبِحُوا) بعد ظهور براءتهم عما أسند إليهم (عَلى ما فَعَلْتُمْ) فى حقهم (نادِمِينَ) مغتمين غما لازما متمنين أنه لم يقع فإن تركيب هذه الأحرف الثلاثة يدور مع الدوام (وَاعْلَمُوا

١١٨

أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) أن بما فى حيزها ساد مسد مفعولى اعلموا باعتبار ما بعده من قوله تعالى (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) فإنه حال من أحد الضميرين فى فيكم والمعنى أن فيكم رسول الله كائنا على حالة يجب عليكم تغييرها أو كائنين على حالة الخ وهى أنكم تريدون أن يتبع عليه الصلاة والسلام رأيكم فى كثير من الحوادث ولو فعل ذلك لوقعتم فى الجهد والهلاك وفيه إيذان بأن بعضهم زينوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيقاع ببنى المصطلق تصديقا لقول الوليد وأنه عليه الصلاة والسلام لم يطع رأيهم وأما صيغة المضارع فقد قيل إنها للدلالة على أن امتناع عنتهم لامتناع استمرار طاعته عليه الصلاة والسلام لهم لأن عنتهم إنما يلزم من استمرار الطاعة فيما يعن لهم من الأمور إذ فيه اختلال أمر الإبالة وانقلاب الرئيس مرؤسا لا من إطاعته فى بعض ما يرونه نادرا بل فيها استمالتهم بلا معرة وقيل إنها للدلالة على أن امتناع عنتهم لاستمرار امتناع طاعته عليه الصلاة والسلام لهم فى ذلك فإن المضارع المنفى قد يدل على استمرار النفى بحسب المقام كما فى نظائر قوله تعالى (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) والتحقيق أن الاستمرار الذى تفيده صيغة المضارع يعتبر تارة بالنسبة إلى ما يتعلق بالفعل من الأمور الزمانية المتجددة وذلك بأن يعتبر الاستمرار فى نفس الفعل على الإبهام ثم يعتبر تعلق ما يتعلق به بيانا لما فيه الاستمرار وأخرى بالنسبة إلى ما يتعلق به من نفس الزمان المتجدد وذلك إذا اعتبر تعلقه بما يتعلق به أولا ثم اعتبر استمراره فيتعين أن يكون ذلك بحسب الزمان فإن أريد باستمرار الطاعة استمرارها وتجددها بحسب تجدد مواقعها الكثيرة التى يفصح عنها قوله تعالى (فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) فالحق هو الأول ضرورة أن مدار امتناع العنت هو امتناع ذلك الاستمرار سواء كان ذلك الامتناع بعدم وقوع الطاعة فى أمر ما من تلك الأمور الكثيرة أصلا أو بعدم وقوعها فى كلها مع وقوعها فى بعض يسير منها حتى لو لم يمتنع ذلك الاستمرار بأحد الوجهين المذكورين بل وقعت الطاعة فيما ذكر من كثير من الأمر فى وقت من الأوقات وقع العنت قطعا وإن أريد به استمرار الطاعة الواقعة فى الكل وتجددها بحسب تجدد الزمان واستمراره فالحق هو الثانى فإن مناط امتناع العنت حينئذ ليس امتناع استمرار الطاعة المذكورة ضرورة أنه موجب لوقوع العنت بل هو الاستمرار الزمانى لامتناع تلك الطاعة الواقعة فى تلك الأمور الكثيرة بأحد الوجهين المذكورين حتى لو لم يستمر امتناعها بأن وقعت تلك الطاعة فى وقت من الأوقات وقع العنت حتما واعلم أن الأحق بالاختيار والأولى بالاعتبار هو الوجه الأول لأنه أوفق بالقياس المقتضى لاعتبار الامتناع واردا على الاستمرار حسب ورود كلمة لو المفيدة للأول على صيغة المضارع المفيدة للثانى على أن اعتبار الاستمرار ورودا على النفى على خلاف القياس بمعونة المقام إنما يصار إليه إذا تعذر الجريان على موجب القياس أو لم يكن فيه مزيد مزية كما فى مثل قوله تعالى (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) حيث حمل على استمرار نفى الحزن عنهم إذ ليس فى نفى استمرار الحزن مزيد فائدة وأما إذا انتظم الكلام مع مراعاة موجب القياس حق الانتظام فالعدول عنه تمحل لا يخفى وقوله تعالى (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) الخ تجريد للخطاب وتوجيه له إلى بعضهم بطريق* الاستدراك بيانا لبراءتهم عن أوصاف الأولين وإحمادا لأفعالهم أى ولكنه تعالى جعل الإيمان

١١٩

(فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٠)

____________________________________

* محبوبا لديكم (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) حتى رسخ حبه فيها ولذلك أتيتم بما يليق به من الأقوال والأفعال* (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) ولذلك اجتنبتم عما يليق بها مما لا خير فيه من آثارها وأحكامها ولما كان فى التحبيب والتكريه معنى إنهاء المحبة والكراهة وإيصالهما إليهم استعملا بكلمة إلى وقيل هو استدراك ببيان عذر الأولين كأنه قيل لم يكن ما صدر عنكم فى حق بنى المصطلق من خلل فى عقيدتكم بل من فرط حبكم للإيمان وكراهتكم للكفر والفسوق والعصيان والأول هو الأظهر لقوله تعالى* (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أى السالكون إلى الطريق السوى الموصل إلى الحق والالتفات إلى الغيبة كالذى فى قوله تعالى (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) أى وإنعاما تعليل لحبب أو كره وما بينهما اعتراض وقيل نصبهما بفعل مضمر أى جرى ذلك فضلا* وقيل يبتغون فضلا (وَاللهُ عَلِيمٌ) مبالغ فى العلم فيعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل (حَكِيمٌ) يفعل كل ما يفعل بموجب الحكمة (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) أى تقاتلوا والجمع باعتبار* المعنى (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى (فَإِنْ بَغَتْ) أى تعدت (إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) ولم تتأثر بالنصيحة (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ) أى ترجع (إِلى أَمْرِ اللهِ) إلى حكمه أو* إلى ما أمر به (فَإِنْ فاءَتْ) إليه وأقلعت عن القتال حذارا من قتالكم (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) بفصل ما بينهما على حكم الله تعالى ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما عسى أن يكون بينهما قتال فى وقت آخر* وتقييد الإصلاح بالعدل لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة وقد أكد ذلك حيث قيل (وَأَقْسِطُوا) * أى وأعدلوا فى كل ما تأتون وما تذرون (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) فيجازيهم أحسن الجزاء والآية نزلت فى قتال حدث بين الأوس والخزرج فى عهده عليه الصلاة والسلام بالعسف والنعال وفيها دلالة على أن الباغى لا يخرج بالبغى عن الإيمان وأنه إذا أمسك عن الحرب ترك لأنه فىء إلى أمر الله تعالى وأنه يجب معاونة من بغى عليه بعد تقديم النصح والسعى فى المصالحة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) استئناف مقرر لما قبله من الأمر بالإصلاح أى أنهم منتسبون إلى أصل واحد هو الإيمان الموجب للحياة الأبدية والفاء* فى قوله تعالى (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) للإيذان بأن الأخرة الدينية موجبة للإصلاح ووضع المظهر مقام المضمر مضافا إلى المأمورين للمبالغة فى تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه وتخصيص

١٢٠