تفسير أبي السّعود - ج ٤

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٤

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

١

٨ ـ سورة الأنفال

مدنية وهى خمس وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١)

____________________________________

(سورة الأنفال مدنية. وهى خمس وسبعون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) النفل الغنيمة سميت به لأنها عطية من الله تعالى زائدة على ما هو أصل الأجر فى الجهاد من الثواب الأخروى ويطلق على ما يعطى بطريق التنفيل زيادة على السهم من المغنم وقرىء علنفال بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام نون عن فى اللام. روى أن المسلمين اختلفوا فى غنائم بدر وفى قسمتها فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف تقسم ولمن الحكم فيها أللمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا وقيل إن الشباب قد أبلوا يومئذ بلاء حسنا فقتلوا سبعين وأسروا سبعين فقالوا نحن المقاتلون ولنا الغنائم وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات كنا ردءا لكم وفئة تنحازون إليها حتى قال سعد بن معاذ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادة فى الأجر ولا جبن من العدو ولكن كرهنا أن نعرى مصافك فيعطف عليك خيل من المشركين فنزلت وقيل كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد شرط لمن كان له بلاء أن ينفله ولذلك فعل الشبان ما فعلوا من القتل والأسر فسألوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شرطه لهم فقال الشيوخ المغنم قليل والناس كثير وإن تعط هؤلاء ما شرطت لهم حرمت أصحابك فنزلت والأول هو الظاهر لما أن السؤال استعلام لحكم الأنفال بقضية كلمة عن لا استعطاء لنفسها كما نطق به الوجه الأخير وادعاء زيادة عن تعسف ظاهر والاستدلال عليه بقراءة ابن مسعود وسعد بن أبى وقاص وعلى بن الحسين وزيد ومحمد الباقر وجعفر الصادق وعكرمة وعطاء يسألونك الأنفال* غير منتهض فإن مبناها كما قالوا على الحذف والإيصال كما يعرب عنه الجواب بقوله عزوجل (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أى حكمها مختص به تعالى يقسمها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيفما أمر به من غير أن يدخل فيه رأى أحد ولو كان السؤال استعطاء لما كان هذا جوابا له فإن اختصاص حكم ما شرط لهم من الأنفال بالله والرسول لا ينافى إعطاءها إياهم بل يحققه لأنهم إنما يسألونها بموجب شرط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصادر عنه بإذن الله تعالى لا بحكم سبق أيديهم إليها ونحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور وحمل الجواب على معنى أن الأنفال بالمعنى المذكور مختصة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا حق فيها للمنفل كائنا من كان مما لا سبيل إليه قطعا ضرورة ثبوت الاستحقاق بالتنفيل وادعاء أن ثبوته بدليل متأخر التزام لتكرر النسخ من غير علم بالناسخ

٢

الأخير ولا مساغ للمصير إلى ما ذهب إليه مجاهد وعكرمة والسدى من أن الأنفال كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ليس لأحد فيها شىء بهذه الآية فنسخت بقوله تعالى (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) لما أن المراد بالأنفال فيما قالوا هو المعنى الأول حتما كما نطق به قوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية على أن الحق أنه لا نسخ حينئذ أيضا حسبما قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بل بين فى صدر السورة الكريمة إجمالا أن أمرها مفوض إلى الله تعالى ورسوله ثم بين مصارفها وكيفية قسمتها على التفصيل وادعاء اقتصار هذا الحكم أعنى الاختصاص برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأنفال المشروطة يوم بدر بجعل اللام للعهد مع بقاء استحقاق المنفل فى سائر الأنفال المشروطة يأباه مقام بيان الأحكام كما ينبىء عنه إظهار الأنفال فى موقع الإضمار على أن الجواب عن سؤال الموعود ببيان كونه له صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة مما لا يليق بشأنه الكريم أصلا وقد روى عن سعد بن أبى وقاص أنه قال قتل أخى عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبنى فجئت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت إن الله تعالى قد شفى صدرى من المشركين فهب لى هذا السيف فقال لى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس هذا لى ولا لك اطرحه فى القبض فطرحته وبى ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخى وأخذ سلبى فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال فقال لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا سعد إنك سألتنى السيف وليس لى وقد صار لى فاذهب فخذه وهذا كما ترى يقتضى عدم وقوع التنفيل يومئذ وإلا لكان سؤال السيف من سعد بموجب شرطه ووعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بطريق الهبة المبتدأة وحمل ذلك من سعد على مراعاة الأدب مع كون سؤاله بموجب الشرط يرده رده صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل النزول وتعليله بقوله ليس هذا لى لاستحالة أن يعد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لا يقدر على إنجازه وإعطاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد النزول وترتيبه على قوله وقد صار لى ضرورة أن مناط صيرورته له صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) والفرض أنه المانع من إعطاء المسئول ومما هو نص فى الباب قوله عزوجل (فَاتَّقُوا اللهَ) أى إذا كان أمر الغنائم لله تعالى ورسوله فاتقوه تعالى واجتنبوا ما كنتم فيه* من المشاجرة فيها والاختلاف الموجب لسخط الله تعالى أو فاتقوه فى كل ما تأتون وما تذرون فيدخل فيه ما هم فيه دخولا أوليا ولو كان السؤال طلبا للمشروط لما كان فيه محذور يجب اتقاؤه وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وتعليل الحكم (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) جعل ما بينهم من الحال لملابستها التامة لبينهم* صاحبة له كما جعلت الأمور المضمرة فى الصدور ذات الصدور أى أصلحوا ما بينكم من الأحوال بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله تعالى وتفضل به عليكم وعن عبادة بن الصامت نزلت فينا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا فى النفل وساءت فيه أخلافنا فنزعه الله تعالى من أيدينا فجعله لرسوله فقسمه بين المسلمين على السواء وكان فى ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين وعن عطاء كان الإصلاح بينهم أن دعاهم وقال اقسموا غنائمكم بالعدل فقالوا قد أكلنا وأنفقنا فقال ليرد بعضكم على بعض (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) بتسليم أمره ونهيه وتوسيط الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) متعلق بالأوامر الثلاثة والجواب محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه أو هو الجواب* على الخلاف المشهور وأيا ما كان فالمقصود تحقيق المعلق بناء على تحقق المعلق به وفيه تنشيط للمخاطبين

٣

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤)

____________________________________

وحث لهم على المسارعة إلى الامتثال والمراد بالإيمان كماله أى إن كنتم كاملى الإيمان فإن كمال الإيمان يدور على هذه الخصال الثلاث طاعة الأوامر واتقاء المعاصى وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان من أريد بالمؤمنين بذكر أوصافهم الجليلة المستتبعة لما ذكر من الخصال الثلاث وفيه مزيد ترغيب لهم فى الامتثال بالأوامر المذكورة أى إنما الكاملون فى الإيمان* المخلصون فيه (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أى فزعت لمجرد ذكره من غير أن يذكر هناك ما يوجب الفزع من صفاته وأفعاله استعظاما لشأنه الجليل وتهيبا منه وقيل هو الرجل يهم بمعصية فيقال له اتق* الله فينزع عنها خوفا من عقابه وقرىء وجلت بفتح الجيم وهى لغة وقرىء فرقت أى خافت (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ) أى آية كانت (زادَتْهُمْ إِيماناً) أى يقينا وطمأنينة نفس فإن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج والبراهين موجب لزيادة الاطمئنان وقوة اليقين وقيل إن نفس الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان وإنما زيادته باعتبار زيادة المؤمن به فإنه كلما نزلت آية صدق بها المؤمن فزاد إيمانه عددا وأما نفس الإيمان فهو بحاله وقيل باعتبار أن الأعمال تجعل من الإيمان فيزيد بزيادتها والأصوب أن نفس التصديق يقبل القوة وهى التى عبر عنها بالزيادة للفرق النير بين يقين الأنبياء وأرباب المكاشفات ويقين آحاد الأمة وعليه مبنى ما قال على رضى الله عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا وكذا بين ما قام عليه دليل واحد وما* قامت عليه أدلة كثيرة (وَعَلى رَبِّهِمْ) مالكهم ومدبر أمورهم خاصة (يَتَوَكَّلُونَ) يفوضون أمورهم لا إلى أحد سواه والجملة معطوفة على الصلة وقوله تعالى (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) مرفوع على أنه نعت للموصول الأول أو بدل منه أو بيان له أو منصوب على القطع المنبىء عن المدح ذكر أولا من أعمالهم الحسنة أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل ثم عقب بأعمال الجوارح من الصلاة والصدقة (أُولئِكَ) إشارة إلى من ذكرت صفاتهم الحميدة من حيث إنهم متصفون بها وفيه دلالة على أنهم متميزون بذلك عمن عداهم أكمل تميز منتظمون بسببه فى سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى* البعد للإيذان بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم فى الشرف (هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه ما فصل من أفاضل الأعمال القلبية والقالبية وحقا صفة لمصدر محذوف أى أولئك هم المؤمنون* إيمانا حقا أو مصدر مؤكد للجملة أى حق ذلك حقا كقولك هو عبد الله حقا (لَهُمْ دَرَجاتٌ) من الكرامة والزلفى وقيل درجات عالية فى الجنة وهو إما جملة مبتدأة مبنية على سؤال نشأ من تعداد مناقبهم

٤

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) (٥)

____________________________________

كأنه قيل ما لهم بمقابلة هذه الخصال فقيل لهم كيت وكيت أو خبر ثان لأولئك وقوله تعالى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) * إما متعلق بمحذوف وقع صفة لدرجات مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أى كائنة عنده تعالى أو بما يتعلق به الخبر أعنى لهم من الاستقرار وفى إضافة الظرف إلى الرب المضاف إلى ضميرهم مزيد تشريف ولطف لهم وإيذان بأن ما وعد لهم متيقن الثبوت والحصول مأمون الفوات (وَمَغْفِرَةٌ) لما فرط منهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) لا ينقضى أمده ولا ينتهى عدده وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة* (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) الكاف فى محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذه الحال كحال إخراجك يعنى أن حالهم فى كراهتهم لما رأيت مع كونه حقا كحالهم فى كراهتهم لخروجك للحرب وهو حق أو فى محل النصب على أنه صفة لمصدر مقدر فى قوله تعالى (الْأَنْفالُ لِلَّهِ) أى الأنفال ثبتت لله والرسول مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك فى المدينة أو من المدينة إخراجا ملتبسا بالحق (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) أى والحال أن فريقا منهم كارهون للخروج إما لنفرة الطبع عن القتال* أو لعدم الاستعداد وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام فأخبر جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقى العير لكثرة الخير وقلة القوم فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم فنادى أبو جهل فوق الكعبة يأهل مكة النجاة النجاة على كل صعب وذلول عيركم أموالكم إن أصابها محمد لم تفلحوا بعدها أبدا وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه رؤيا فقالت لأخيها إنى رأيت كأن ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة فحدث بها العباس رضى الله عنه فقال أبو جهل ما يرضى رجالهم أن يتنبئوا حتى تتنبأ نساؤهم فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير فقيل له إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس إلى مكة فقال لا واللات لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ونقيم القينات والمعازف ببدر فيتسامع جميع العرب بمخرجنا وأن محمدا لم يصب العير وأنا قد أعضضناه فمضى بهم إلى بدر وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما فى السنة فنزل جبريل عليه‌السلام فقال يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا فاستشار النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه فقال ما تقولون إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول فالعير أحب إليكم أم النفير فقالوا بل العير أحب إلينا من لقاء العدو فتغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ردد عليهم فقال إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو فقام عندما غضب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو بكر وعمر رضى الله عنهما فأحسنا ثم قام سعد بن عبادة فقال انظر أمرك فامض فو الله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار ثم قال المقداد بن عمرو رضى الله عنه يا رسول الله امض لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه‌السلام اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون

٥

(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) (٧)

____________________________________

ما دامت عين منا تطرف فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال أشيروا على أيها الناس وهو يريد الأنصار لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت فى ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا فكان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتخوف أن تكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة فقام سعد بن معاذ فقال لكأنك تريدنا يا رسول الله قال أجل قال قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فو الذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله ففرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبسطه قول سعد ثم قال سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدنى إحدى الطائفتين والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم. روى أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين فرغ من بدر عليك بالعير ليس دونها شىء فناداه العباس رضى الله عنه وهو فى وثاقه لا يصلح فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم قال لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ) الذى هو تلقى النفير لإيثارهم عليه تلقى العير والجملة استئناف أو حال ثانية أى* أخرجك فى حال مجادلتهم إياك ويجوز أن يكون حالا من الضمير فى (لَكارِهُونَ) وقوله تعالى (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) منصوب ب (يُجادِلُونَكَ) وما مصدرية أى بعد تبين الحق لهم بإعلامك أنهم ينصرون أيتما توجهوا ويقولون* ما كان خروجنا إلا للعير وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب وكان ذلك لكراهتهم القتال (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) الكاف فى محل النصب على الحالية من الضمير فى (لَكارِهُونَ) أى مشبهين بالذين يساقون بالعنف* والصغار إلى القتل (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) حال من ضمير (يُساقُونَ) أى والحال أنهم ينظرون إلى أسباب الموت ويشاهدونها عيانا وما كانت هذه المرتبة من الخوف والجزع إلا لقلة عددهم وعدم تأهبهم وكونهم رجالة روى أنه لم يكن فيهم إلا فارسان (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) كلام مستأنف مسوق لبيان جميل صنع الله عزوجل بالمؤمنين مع ما بهم من قلة الحزم ودناءة الهمة وقصور الرأى والخوف والجزع وإذ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به المؤمنون بطريق التلوين والالتفات وإحدى الطائفتين مفعول ثان ليعدكم أى اذكروا وقت وعد الله إياكم إحدى الطائفتين وتذكير الوقت مع أن المقصود تذكير ما فيه من الحوادث لما مر مرارا من المبالغة فى إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهانى ولأن الوقت مشتمل على ما وقع فيه من الحوادث بتفاصيلها فإذا استحضر كان ما وقع فيه حاضرا مفصلا كأنه مشاهد عيانا وقرىء يعدكم بسكون الدال تخفيفا وصيغة المضارع لحكاية الحال

٦

(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (٩)

____________________________________

الماضية لاستحضار صورتها وقوله تعالى (أَنَّها لَكُمْ) بدل اشتمال من إحدى الطائفتين مبين لكيفية الوعد* أى يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم مختصة بكم مسخرة لكم تتسلطون عليها تسلط الملاك وتتصرفون فيهم كيف شئتم (وَتَوَدُّونَ) عطف على (يَعِدُكُمُ) داخل تحت الأمر بالذكر أى تحبون (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) من الطائفتين لا ذات الشوكة وهى النفير ورئيسهم أبو جهل وهم ألف مقاتل وغير ذات الشوكة هى العير إذ لم يكن فيها إلا أربعون فارسا ورأسهم أبو سفيان والتعبير عنهم بهذا العنوان للتنبيه على سبب ودادتهم لملاقاتهم وموجب كراهتهم ونفرتهم عن موافاة النفير والشوكة الحدة مستعارة من واحدة الشوك وشوك القنا شباها (وَيُرِيدُ اللهُ) عطف على (تَوَدُّونَ) منتظم معه فى سلك التذكير ليظهر* لهم عظيم لطف الله بهم مع دناءة هممهم وقصور آرائهم أى اذكروا وقت وعده تعالى إياكم إحدى الطائفتين وودادتكم لأدناهما وإرادته تعالى لأعلاهما وذلك قوله تعالى (أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ) أى يثبته ويعليه* (بِكَلِماتِهِ) أى بآياته المنزلة فى هذا الشأن أو بأوامره للملائكة بالإمداد وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم* فى قليب بدر وقرىء بكلمته (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أى آخرهم ويستأصلهم بالمرة والمعنى أنتم تريدون* سفساف الأمور والله عز وعلا يريد معاليها وما يرجع إلى علو كلمة الحق وسمو رتبة الدين وشتان بين المرادين وقوله تعالى (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) جملة مستأنفة سيقت لبيان الحكمة الداعية إلى اختيار ذات الشوكة ونصرهم عليها مع إرادتهم لغيرها واللام متعلقة بفعل مقدر مؤخر عنها أى لهذه الغاية الجليلة فعل ما فعل لا لشىء آخر وليس فيه تكرار إذ الأول لبيان تفاوت ما بين الإرادتين وهذا لبيان الحكمة الداعية إلى ما ذكر ومعنى إحقاق الحق إظهار حقيته لا جعله حقا بعد أن لم يكن كذلك وكذا حال إبطال الباطل (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أى المشركون ذلك أى إحقاق الحق وإبطال الباطل (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) بدل من (إِذْ يَعِدُكُمُ) معمول لعامله فالمراد تذكير استمدادهم منه سبحانه والتجائهم إليه تعالى حين ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل وإمداده تعالى حينئذ وقيل متعلق بقوله تعالى (لِيُحِقَّ الْحَقَ) على الظرفية وما قيل من أن قوله تعالى (لِيُحِقَ) مستقبل لأنه منصوب بأن فلا يمكن عمله فى إذ لأنه ظرف لما مضى ليس بشىء لأن كونه مستقبلا إنما هو بالنسبة إلى زمان ما هو غاية له من الفعل المقدر لا بالنسبة إلى زمان الاستغاثة حتى لا يعمل فيه بل هما فى وقت واحد وإنما عبر عن زمانها بإذ نظرا إلى زمان النزول وصيغة الاستقبال فى تستغيثون لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها العجيبة وقيل متعلق بمضمر مستأنف أى اذكروا وقت استغاثتكم وذلك أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال جعلوا يدعون الله تعالى قائلين أى رب انصرنا على عدوك يا غياث المستغيثين أغثنا وعن عمر رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلثمائة وبضعة عشر فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو

٧

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١٠)

____________________________________

اللهم أنجز لى ما وعدتنى اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد فى الأرض فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فأخذه أبو بكر رضى الله عنه فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه وقال يا نبى الله كفاك مناشدتك ربك* فإنه سينجز لك ما وعدك (فَاسْتَجابَ لَكُمْ) عطف على تستغيثون داخل معه فى حكم التذكير لما عرفت* أنه ماض وصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) أى بأنى فحذف الجار وسلط عليه الفعل فنصب محله وقرىء بكسر الهمزة على إرادة القول أو على إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من* مقولة القول (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أى جاعلين غيرهم من الملائكة رديفا لأنفسهم فالمراد بهم رؤساؤهم المستتبعون لغيرهم وقد اكتفى ههنا بهذا البيان الإجمالى وبين فى سورة آل عمران مقدار عددهم وقيل معناه متبعين أنفسهم ملائكة آخرين أو متبعين المؤمنين أو بعضهم بعضا من أردفته إذا جئت بعده أو متبعين بعضهم بعض المؤمنين أو أنفسهم المؤمنين من أردفته إياه فردفه وقرىء مردفين بفتح الدال أى متبعين أو متبعين بمعنى أنهم كانوا مقدمة الجيش أو ساقتهم وقرىء مردفين بكسر الراء وضمها وتشديد الدال وأصلهما مرتدفين بمعنى مترادفين فأدغمت التاء فى الدال فالتقى الساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أو بالضم على الاتباع وقرىء بآلاف ليوافق ما فى سورة آل عمران ووجه التوفيق بينه وبين المشهور أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة أو وجوههم وأعيانهم أو من قاتل منهم واختلف فى مقاتلتهم وقد روى أخبار تدل على وقوعها (وَما جَعَلَهُ اللهُ) كلام مستأنف سيق لبيان أن الأسباب الظاهرة بمعزل من التأثير وإنما التأثير مختص به عزوجل ليثق به المؤمنون ولا يقنطوا من النصر عند فقدان أسبابه والجعل متعد إلى مفعول واحد هو الضمير العائد إلى مصدر فعل مقدر يقتضيه* المقام اقتضاء ظاهرا مغنيا عن التصريح به كأنه قيل فأمدكم بهم وما جعل إمدادكم بهم (إِلَّا بُشْرى) وهو استثناء مفرغ من أعم العلل أى وما جعل إمدادكم بإنزال الملائكة عيانا لشىء من الأشياء إلا للبشرى* لكم بأنكم تنصرون (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ) أى بالإمداد (قُلُوبُكُمْ) وتسكن إليه نفوسكم كما كانت السكينة لبنى إسرائيل كذلك فكلاهما مفعول له للجعل وقد نصب الأول لاجتماع شرائطه وبقى الثانى على حاله لفقدانها وقيل للإشارة إلى أصالته فى العلية وأهميته فى نفسه كما قيل فى قوله تعالى (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) وفى قصر الإمداد عليهما إشعار بعدم مباشرة الملائكة للقتال وإنما كان إمدادهم بتقوية قلوب المباشرين وتكثير سوادهم ونحوه كما هو رأى بعض السلف وقيل الجعل متعد إلى اثنين ثانيهما إلا بشرى على أنه استثناء من أعم المفاعيل أى وما جعله الله شيئا من الأشياء إلا بشارة لكم فاللام فى* ولتطمئن متعلقة بمحذوف مؤخر تقديره ولتطمئن به قلوبكم فعل ذلك لا لشىء آخر (وَمَا النَّصْرُ) أى* حقيقة النصر على الإطلاق (إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) أى إلا كائن من عنده عزوجل من غير أن يكون فيه شركة

٨

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) (١١)

____________________________________

من جهة الأسباب والعدد وإنما هى مظاهر له بطريق جريان السنة الإلهية (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يغالب فى* حكمه ولا ينازع فى أقضيته (حَكِيمٌ) يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة والجملة تعليل لما* قبلها متضمن للإشعار بأن النصر الواقع على الوجه المذكور من مقتضيات الحكم البالغة (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) أى يجعله غاشيا لكم ومحيطا بكم وهو بدل ثان من إذ يعدكم لإظهار نعمة أخرى وصيغة الاستقبال فيه وفيما عطف عليه لحكاية الحال الماضية كما فى تستغيثون أو منصوب بإضمار اذكروا وقيل هو متعلق بالنصر أو بما فى من عند الله من معنى الفعل أو بالجعل وليس بواضح وقرىء يغشيكم من الإغشاء بمعنى التغشية والفاعل فى الوجهين هو البارى تعالى وقرىء يغشاكم على إسناد الفعل إلى النعاس وقوله تعالى (أَمَنَةً مِنْهُ) على القراءتين الأوليين منصوب على العلية بفعل مترتب على الفعل المذكور أى يغشيكم* النعاس فتنعسون أمنا كائنا من الله تعالى لا كلالا وإعياء أو على أنه مصدر لفعل آخر كذلك أى فتأمنون أمنا كما فى قوله تعالى (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) على أحد الوجهين وقيل منصوب بنفس الفعل المذكور والأمنة بمعنى الإيمان وعلى القراءة الأخيرة منصوب على العلية بيغشاكم باعتبار المعنى فإنه فى حكم تنعسون أو على أنه مصدر لفعل مترتب عليه كما مر وقرىء أمنة كرحمة (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) تقديم الجار* والمجرور على المفعول به لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر فإن ما حقه التقديم إذا اخر تبقى النفس مترقبة له فعند وروده يتمكن عندها فضل تمكن وتقديم عليكم لما أن بيان كون التنزيل عليهم أهم من بيان كونه من السماء وقرىء بالتخفيف من الإنزال (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) أى من الحدث الأصغر* والأكبر (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) الكلام فى تقديم الجار والمجرور كما مر آنفا والمراد برجز* الشيطان وسوسته وتخويفه إياهم من العطش. روى أنهم نزلوا فى كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء وناموا فاحتلم أكثرهم وقد غلب المشركون على الماء فتمثل لهم الشيطان فوسوس إليهم وقال أنتم يا أصحاب محمد تزعمون أنكم على الحق وأنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة وقد عطشتم ولو كنتم على الحق ما غلبكم هؤلاء على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش فإذا قطع أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا فأنزل الله عزوجل المطر فمطروا ليلا حتى جرى الوادى فاغتسلوا وتوضئوا وسقوا الركاب وتلبد الرمل الذى كان بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت وسوسة الشيطان وطابت النفوس وقويت القلوب وذلك قوله تعالى (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أى يقويها بالثقة بلطف الله تعالى فيما بعد بمشاهدة طلائعه (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) فلا تسوخ فى الرمل فالضمير للماء كالأول ويجوز أن يكون للربط فإن القلب إذا قوى

٩

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (١٢)

____________________________________

وتمكن فيه الصبر والجراءة لا تكاد تزل القدم فى معارك الحروب وقوله تعالى (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ) منصوب بمضمر مستأنف خوطب به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التجريد حسبما تنطق به الكاف لما أن المأمور به مما لا يستطيعه غيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الوحى المذكور قبل ظهوره بالوحى المتلو على لسانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس من النعم التى يقف عليها عامة الأمة كسائر النعم السابقة التى أمروا بذكر وقتها بطريق الشكر وقيل منصوب بقوله تعالى (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) فلا بد حينئذ من عود الضمير المجرور فى به إلى الربط على القلوب ليكون المعنى ويثبت أقدامكم بتقوية قلوبكم وقت إيحائه إلى الملائكة وأمره بتثبيتهم إياكم وهو وقت القتال ولا يخفى أن تقييد التثبيت المذكور بوقت مبهم عندهم ليس فيه مزيد فائدة وأما انتصابه على أنه بدل ثالث من إذ يعدكم كما قيل فيأباه تخصيص الخطاب به صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ما عرفت من أن المأمور به ليس من الوظائف العامة للكل كسائر أخواته وفى التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التنويه والتشريف* ما لا يخفى والمعنى اذكر وقت إيحائه تعالى إلى الملائكة (أَنِّي مَعَكُمْ) أى بالإمداد والتوفيق فى أمر التثبيت فهو مفعول يوحى وقرىء بالكسر على إرادة القول أو إجراء الوحى مجراه وما يشعر به دخول كلمة مع من متبوعية الملائكة إنما هى من حيث إنهم المباشرون للتثبيت صورة فلهم الأصالة من تلك الحيثية* كما فى أمثال قوله تعالى (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) والفاء فى قوله تعالى (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إمداده تعالى إياهم من أقوى موجبات التثبيت واختلفوا فى كيفية التثبيت فقالت جماعة إنما أمروا بتثبيتهم بالبشارة وتكثير السواد ونحوهما مما تقوى به قلوبهم وتصح عزائمهم ونياتهم ويتأكد جدهم فى القتال وهو الأنسب بمعنى التثبيت وحقيقته التى هى عبارة عن الحمل على الثبات فى موطن الحراب والجد فى مقاساة شدائد القتال وقد روى أنه كان الملك يتشبه بالرجل الذى يعرفونه بوجهه فيأتى ويقول إنى سمعت المشركين يقولون والله لئن حملوا علينا لننكشفن ويمشى بين الصفين فيقول* أبشروا فإن الله تعالى ناصركم وقال آخرون أمروا بمحاربة أعدائهم وجعلوا قوله تعالى (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) تفسيرا لقوله تعالى (أَنِّي مَعَكُمْ) وقوله تعالى (فَاضْرِبُوا) الخ تفسيرا لقوله تعالى (فَثَبِّتُوا) مبينا لكيفية التثبيت وقد روى عن أبى داود المازنى رضى الله عنه وكان ممن شهد بدرا أنه قال اتبعت رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه فوقعت رأسه بين يدى قبل أن يصل إليه سيفى وعن سهل بن حنيف رضى الله عنه أنه قال لقدر أيتنا يوم بدر وإن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فتقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف وأنت خبير بأن قتلهم للكفرة مع عدم ملاءمته لمعنى تثبيت المؤمنين مما لا يتوقف على الإمداد بإلقاء الرعب فلا يتجه ترتيب الأمر به عليه بالفاء وقد اعتذر الأولون بأن قوله تعالى (سَأُلْقِي) الخ ليس بنص فيما ذكر بل يجوز أن يكون ذلك إثر قوله تعالى (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) تلقينا للملائكة ما يثبتونهم به

١٠

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) (١٤)

____________________________________

كأنه قيل قولوا لهم سألقى فى قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا الخ فالضاربون هم المؤمنون وأما ما قيل من أن ذلك خطاب منه تعالى للمؤمنين بالذات على طريق التلوين فمبناه توهم وروده قبل القتال وأنى ذلك والسورة الكريمة إنما نزلت بعد تمام الوقعة وقوله تعالى (فَوْقَ الْأَعْناقِ) أى أعاليها التى هى المذابح* أو الهامات (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) قيل البنان أطراف الأصابع من اليدين والرجلين وقيل هى* الأصابع من اليدين والرجلين وقال أبو الهيثم البنان المفاصل وكل مفصل بنانة وقال ابن عباس وابن جريج والضحاك يعنى الأطراف أى اضربوهم فى جميع الأعضاء من أعاليها إلى أسافلها وقيل المراد بالبنان الأدانى وبفوق الأعناق الأعالى والمعنى فاضربوا الصناديد والسفلة وتكرير الأمر بالضرب لمزيد التشديد والاعتناء بأمره ومنهم متعلق به أو بمحذوف وقع حالا مما بعده (ذلِكَ) إشارة إلى ما أصابهم من العقاب وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجته فى الشدة والفظاعة والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد ممن يليق بالخطاب ومحله الرفع على الابتداء وخبره قوله تعالى (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) * أى ذلك العقاب الفظيع واقع عليهم بسبب مشاقتهم ومغالبتهم من لا سبيل إلى مغالبته أصلا واشتقاق المشاقة من الشق لما أن كلا من المشاقين فى شق خلاف شق الآخر كما أن اشتقاق المعاداة والمخاصمة من العدوة والخصم أى الجانب لأن كلا من المتعاديين والمتخاصمين فى عدوة وخصم غير عدوة الآخر وخصمه (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ) الإظهار فى موضع الإضمار لتربية المهابة وإظهار كمال شناعة ما اجترءوا عليه* والإشعار بعلة الحكم وقوله تعالى (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) إما نفس الجزاء قد حذف منه العائد إلى من* عند من يلتزمه أى شديد العقاب له أو تعليل للجزاء المحذوف أى يعاقبه الله فإن الله شديد العقاب وأيا ما كان فالشرطية تكملة لما قبلها وتقرير لمضمونه وتحقيق للسببية بالطريق البرهانى كأنه قيل ذلك العقاب الشديد بسبب مشاقتهم لله تعالى ورسوله وكل من يشاقق الله ورسوله كائنا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فإذن لهم بسبب مشاقتهم لهما عقاب شديد وأما أنه وعيد لهم بما أعد لهم فى الآخرة بعد ما حاق بهم فى الدنيا كما قيل فيرده ما بعده من قوله تعالى (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) فإنه مع كونه هو المسوق للوعيد بما ذكر ناطق بكون المراد بالعقاب المذكور ما أصابهم عاجلا سواء جعل ذلكم إشارة إلى نفس العقاب أو إلى ما تفيده الشرطية من ثبوت العقاب لهم أما على الأول فلان الأظهر أن محله النصب بمضمر يستدعيه قوله تعالى (فَذُوقُوهُ) والواو فى قوله تعالى (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) الخ بمعنى مع فالمعنى باشروا ذلكم العقاب الذى أصابكم فذوقوه عاجلا مع أن لكم عذاب النار آجلا فوضع الظاهر موضع الضمير لتوبيخهم بالكفر وتعليل الحكم به وأما على الثانى فلان الأقرب أن محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وقوله تعالى (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) الخ معطوف عليه والمعنى حكم الله ذلكم أى ثبوت هذا

١١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٦)

____________________________________

العقاب لكم عاجلا وثبوت عذاب النار آجلا وقوله تعالى (فَذُوقُوهُ) اعتراض وسط بين المعطوفين للتهديد والضمير على الأول لنفس المشار إليه وعلى الثانى لما فى ضمنه وقد ذكر فى إعراب الآية الكريمة وجوه أخر مدار الكل على أن المراد بالعقاب ما أصابهم عاجلا والله تعالى أعلم وقرىء بكسر أن على الاستئناف (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب للمؤمنين بحكم كلى جار فيما سيقع من الوقائع والحروب جىء* به فى تضاعيف القصة إظهارا للاعتناء بشأنه ومبالغة فى حضهم على المحافظة عليه (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) الزحف الدبيب يقال زحف الصبى زحفا إذا دب على أسته قليلا قليلا سمى به الجيش الداهم المتوجه إلى العدو لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف وذلك لأن الكل يرى كجسم واحد متصل فيحس حركته بالقياس إليه فى غاية البطء وإن كانت فى نفس الأمر على غاية السرعة قال قائلهم[وأرعن مثل الطود تحسب أنهم * وقوف لجاج والركاب تهملج]* ونصبه إما على أنه حال من مفعول لقيتم أى زاحفين نحوكم وإما على أنه مصدر مؤكد لفعل مضمر هو الحال منه أى يزحفون زحفا وأما كونه حالا من فاعله* أو منه ومن مفعوله معا كما قيل فيأباه قوله تعالى (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) إذ لا معنى لتقييد النهى عن الأدبار بتوجههم السابق إلى العدو أو بكثرتهم بل توجه العدو إليهم وكثرتهم هو الداعى إلى الأدبار عادة والمحوج إلى النهى عنه وحمله على الإشعار بما سيكون منهم يوم حنين حيث تولوا مدبرين وهم زحف من الزحوف اثنا عشر ألفا بعيد والمعنى إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل فلا تولوهم أدباركم فضلا عن الفرار بل قابلوهم وقاتلوهم مع قتلكم فضلا عن أن تدانوهم فى العدد أو تساووهم (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) أى يوم اللقاء (دُبُرَهُ) فضلا عن الفرار وقرىء بسكون الباء (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) إما بالتوجه إلى قتال طائفة أخرى أهم من هؤلاء وإما بالفر للكر بأن يخيل عدوه أنه منهزم ليغره ويخرجه من بين أعوانه ثم يعطف عليه وحده أو مع من فى الكمين من أصحابه وهو باب من خدع الحرب ومكايدها* (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) أى منحازا إلى جماعة أخرى من المؤمنين لينضم إليهم ثم يقاتل معهم العدو. عن ابن عمر رضى الله عنهما قال إن سرية فروا وأنا معهم فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا ودخلوا البيوت فقلت يا رسول الله نحن الفرارون فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل أنتم العكارون أى الكرارون من عكر أى رجع وأنا فئتكم. وانهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضى الله عنه فقال يا أمير المؤمنين هلكت ففررت من الزحف فقال رضى الله عنه أنا فئتك ووزن متحيز متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوزا لأنه من حاز يحوز وانتصابهما إما على الحالية وإلا لغو لا عمل لها وإما على الاستثناء من المولين أى ومن يولهم* دبره إلا رجلا منهم متحرفا أو متحيزا (فَقَدْ باءَ) أى رجع (بِغَضَبٍ) عظيم لا يقادر قدره ومن فى قوله

١٢

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٧)

____________________________________

تعالى (مِنَ اللهِ) متعلقة بمحذوف هو صفة لغضب مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة والهول بالفخامة* الإضافية أى بغضب كائن منه تعالى (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) أى بدل ما أراد بفراره أن يأوى إليه من مأوى ينجيه* من القتل (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فى إيقاع البوء فى موقع جواب الشرط الذى هو التولية مقرونا بذكر* المأوى والمصير من الجزالة ما لا مزيد عليه. عن ابن عباس رضى الله عنهما أن الفرار من الزحف من أكبر الكبائر وهذا إذا لم يكن العدو أكثر من الضعف لقوله تعالى (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) الآية وقيل الآية مخصوصة بأهل بيته والحاضرين معه فى الحرب (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) رجوع إلى بيان بقية أحكام الواقعة وأحوالها وتقرير ما سبق منها والفاء جواب شرط مقدر يستدعيه ما مر من ذكر إمداده تعالى وأمره بالتثبيت وغير ذلك كأنه قيل إذا كان الأمر كذلك فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم وقدرتكم (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) بنصركم* وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب فى قلوبهم ويجوز أن يكون التقدير إذا علمتم ذلك فلم تقتلوهم أى فاعلموا أو فأخبركم أنكم لم تقتلوهم وقيل التقدير إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم على أحد التأويلين لما روى أنهم لما انصرفوا من المعركة غالبين غانمين أقبلوا يتفاخرون يقولون قتلت وأسرت وفعلت وتركت فنزلت وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين طلعت قريش من العقنقل قال هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهم إنى أسألك ما وعدتى فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال خذ قبضة من تراب فارمهم بها فلما التقى الجمعان قال لعلى رضى الله عنه أعطنى قبضة من حصباء الوادى فرمى بها فى وجوههم وقال شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وذلك قوله عزوجل بطريق تلوين الخطاب (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) تحقيقا لكون الرمى الظاهر على يده صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينئذ من أفعاله عزوجل وتجريد الفعل عن المفعول به لما أن المقصود الأصلى بيان حال الرمى نفيا وإثباتا إذ هو الذى ظهر منه ما ظهر وهو المنشأ لتغير المرمى به فى نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عينى كل واحد من أولئك الأمة الجمة شىء من ذلك أى وما فعلت أنت يا محمد تلك الرمية المستتبعة لهذه الآثار العظيمة حقيقة حين فعلتها صورة وإلا لكان أثرها من جنس آثار الأفاعيل البشرية ولكن الله فعلها أى خلقها حين باشرتها لكن لا على نهج عادته تعالى فى خلق أفعال العباد بل على وجه غير معتاد ولذلك أثرت هذا التأثير الخارج عن طوق البشر ودائرة القوى والقدر فمدار إثباتها لله تعالى ونفيها عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كون أثرها من أفعاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرىء ولكن الله بالتخفيف والرفع فى المحلين واللام فى قوله تعالى (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ) أى ليعطيهم من عنده* تعالى (بَلاءً حَسَناً) أى عطاء جميلا غير مشوب بمقاساة الشدائد والمكاره إما متعلقة بمحذوف متأخر* فالواو اعتراضية أى وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة فعل ما فعل لا لشىء غير ذلك مما لا يجديهم نفعا وإما برمى فالواو للعطف على علة محذوفة أى ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلى الخ وقوله تعالى (إِنَ

١٣

(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) (٢٠)

____________________________________

اللهَ سَمِيعٌ) أى لدعائهم واستغاثتهم (عَلِيمٌ) أى بنياتهم وأحوالهم الداعية إلى الإجابة تعليل للحكم (ذلِكُمْ) * إشارة إلى البلاء الحسن ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وقوله تعالى (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) بالإضافة معطوف عليه أى المقصد إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم وقيل المشار إليه القتل والرمى والمبتدأ الأمر أى الأمر ذلكم أى القتل فيكون قوله تعالى (وَأَنَّ اللهَ) الآية من قبيل عطف البيان وقرىء موهن بالتنوين مخففا ومشددا ونصب كيد الكافرين (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم بهم وذلك أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا اللهم انصر أعلى* الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين أى إن تستنصروا لأعلى الجندين (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) حيث نصر أعلاهما وقد زعمتم أنكم الأعلى فالتهكم فى المجىء أو فقد جاءكم الهزيمة والقهر فالتهكم فى نفس الفتح* حيث وضع موضع ما يقابله (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عما كنتم عليه من الحراب ومعاداة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَهُوَ) * أى الانتهاء (خَيْرٌ لَكُمْ) أى من الحراب الذى ذقتم غائلته لما فيه من السلامة من القتل والأسر ومبنى* اعتبار أصل الخيرية فى المفضل عليه هو التهكم (وَإِنْ تَعُودُوا) أى إلى حرابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (نَعُدْ) لما شاهدتموه* من الفتح (وَلَنْ تُغْنِيَ) بالتاء الفوقانية وقرى بالياء التحتانية لأن تأنيث الفئة غير حقيقى وللفصل أى لن* تدفع أبدا (عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ) جماعتكم التى تجمعونهم وتستعينون بهم (شَيْئاً) أى من الإغناء أو من* المضار وقوله تعالى (وَلَوْ كَثُرَتْ) جملة حالية وقد مر التحقيق (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أى ولأن الله معين المؤمنين كان ذلك أو والأمر أن الله مع المؤمنين ويقرب منه بحسب المعنى قراءة الكسر على الاستئناف وقيل الخطاب للمؤمنين والمعنى إن تستنصروا فقد جاءكم النصر وإن تنتهوا عن التكاسل والرغبة عما يرغب فيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو خير لكم من كل شىء لما أنه مناط لنيل سعادة الدارين وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار وتهييج العدو ولن تغنى حينئذ كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر والأمر أن الله مع الكاملين فى الإيمان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا) بطرح إحدى التاءين وقرىء بإدغامها* (عَنْهُ) أى لا تتولوا عن الرسول فإن المراد هو الأمر بطاعته والنهى عن الإعراض عنه وذكر طاعته تعالى للتمهيد والتنبيه على أن طاعته تعالى فى طاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يطع الرسول فقد أطاع الله وقيل* الضمير للجهاد وقيل للأمر الذى دل عليه الطاعة وقوله تعالى (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) جملة حالية واردة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولى مطلقا كما فى قوله تعالى (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لا لتقييد النهى

١٤

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣)

____________________________________

عنه بحال السماع كما فى قوله تعالى (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) أى لا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته والمواعظ الزاجرة عن مخالفته سماع فهم وإذعان (وَلا تَكُونُوا) تقرير للنهى السابق وتحذير عن مخالفته بالتنبيه على أنها مؤدية إلى انتظامهم فى سلك الكفرة بكون سماعهم كلا سماع أى لا تكونوا بمخالفة الأمر والنهى (كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) بمجرد الادعاء من غير فهم وإذعان* كالكفرة والمنافقين الذين يدعون السماع (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) حال من ضمير قالوا أى قالوا ذلك والحال* أنهم لا يسمعون حيث لا يصدقون ما سمعوه ولا يفهمونه حق فهمه فكأنهم لا يسمعونه رأسا (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ) استئناف مسوق لبيان كمال سوء حال المشبه بهم مبالغة فى التحذير وتقريرا للنهى إثر تقرير أى إن شر ما يدب على الأرض أو شر البهائم (عِنْدَ اللهِ) أى فى حكمه وقضائه (الصُّمُّ) الذين لا يسمعون* الحق (الْبُكْمُ) الذين لا ينطقون به وصفوا بالصمم والبكم لأن ما خلق له الأذن واللسان سماع الحق* والنطق به وحيث لم يوجد فيهم شىء من ذلك صاروا كأنهم فاقدون للجارحتين رأسا وتقديم الصم على البكم لما أن صممهم متقدم على بكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدم سماعهم له كما أن النطق به من فروع سماعه ثم وصفوا بعدم التعقل فقيل (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) تحقيقا لكمال سوء حالهم فإن الأصم* الأبكم إذا كان له عقل ربما يفهم بعض الأمور ويفهمه غيره بالإشارة ويهتدى بذلك إلى بعض مطالبه وأما إذا كان فاقدا للعقل أيضا فهو الغاية فى الشرية وسوء الحال وبذلك يظهر كونهم شرا من البهائم حيث أبطلوا ما به يمتازون عنها وبه يفضلون على كثير من خلق الله عزوجل فصاروا أخس من كل خسيس (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً) شيئا من جنس الخير الذى من جملته صرف قواهم إلى تحرى الحق واتباع الهدى (لَأَسْمَعَهُمْ) سماع تفهم وتدبر ولو قفوا على حقية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأطاعوه وآمنوا به ولكن لم يعلم* فيهم شيئا من ذلك لخلوهم عنه بالمرة فلم يسمعهم كذلك لخلوه عن الفائدة وخروجه عن الحكمة وإليه أشير بقوله تعالى (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا) أى لو أسمعهم سماع تفهم وهم على هذه الحالة العارية عن الخير بالكلية* لتولوا عما سمعوه من الحق ولم ينتفعوا به قط أو ارتدوا بعد ما صدقوه وصاروا كأن لم يسمعوه أصلا وقوله تعالى (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) إما حال من ضمير تولوا أى لتولوا على أدبارهم والحال أنهم معرضون عما* سمعوه بقلوبهم وإما اعتراض تذييلى أى وهم قوم عادتهم الإعراض وقيل كانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحى قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك ونؤمن بك فالمعنى ولو أسمعهم كلام قصى الخ وقيل هم بنو عبد الدار بن قصى لم يسلم منهم إلا مصعب بن عمير وسويد بن حرملة كانوا يقولون نحن صم بكم

١٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢٥)

____________________________________

عمى عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه قاتلهم الله تعالى فقتلوا جميعا بأحد وكانوا أصحاب اللواء وعن ابن جريج أنهم المنافقون وعن الحسن رضى الله عنه أنهم أهل الكتاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تكرير النداء مع وصفهم بنعت الإيمان لتنشيطهم إلى الإقبال على الامتثال بما يرد بعده من الأوامر وتنبيههم على أن* فيهم ما يوجب ذلك (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) بحسن الطاعة (إِذا دَعاكُمْ) أى الرسول إذ هو المباشر* لدعوة الله تعالى (لِما يُحْيِيكُمْ) من العلوم الدينية التى هى مناط الحياة الأبدية كما أن الجهل مدار الموت الحقيقى أو هى ماء حياة القلب كما أن الجهل موجب موته وقيل لمجاهدة الكفار لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم كما فى قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ). روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر على أبى بن كعب وهو يصلى فدعاه فعجل فى صلاته ثم جاء فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما منعك من إجابتى قال كنت فى الصلاة قال ألم تخبر فيما أوحى إلى استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم الخ واختلف فيه فقيل هذا من خصائص دعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل لأن إجابته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تقطع الصلاة وقيل كان ذلك الدعاء لأمر مهم لا يحتمل التأخير وللمصلى أن يقطع الصلاة لمثله* (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) تمثيل لغاية قربه تعالى من العبد كقوله تعالى (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وتنبيه على أنه تعالى مطلع من مكنونات القلوب على ما عسى يغفل عنه صاحبها أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها قبل إدراك المنية فإنها حائلة بين المرء وقلبه أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه بحيث يفسخ عزائمه ويغير نياته ومقاصده ويحول بينه وبين الكفر إن أراد سعادته ويبدله بالأمن خوفا وبالذكر نسيانا وما أشبه ذلك من الأمور المعترضة المفوتة للفرصة وقرىء بين المر* بتشديد الراء على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الراء وإجراء الوصل مجرى الوقف (وَأَنَّهُ) أى الله* عزوجل أو الشأن (إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) لا إلى غيره فيجازيكم بحسب مراتب أعمالكم فسارعوا إلى طاعته تعالى وطاعة رسوله وبالغوا فى الاستجابة لهما (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) أى لا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم بل يعمه وغيره كإقرار المنكر بين أظهرهم والمداهنة فى الأمر والنهى عن المنكر وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل فى الجهاد على أن قوله لا تصيبن الخ إما جواب الأمر على معنى إن أصابتكم لا تصيبن الخ وفيه أن جواب الشرط متردد فلا يليق به النون المؤكدة لكنه لما تضمن معنى النهى ساغ فيه كقوله تعالى (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ) وإما صفة لفتنة ولا للنفى وفيه شذوذ لأن النون لا تدخل المنفى فى غير القسم أو للنهى على إرادة القول كقول من قال[حتى إذا جن الظلام واختلط * جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط] وإما جواب قسم محذوف كقراءة من قرأ لتصيبن وإن اختلف المعنى فيهما وقد جوز أن يكون نهيا عن التعرض للظلم بعد الأمر باتقاء الذنب فإن

١٦

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٧)

____________________________________

وباله يصيب الظالم خاصة ويعود عليه ومن فى منكم على الوجوه الأول للتبعيض وعلى الآخيرين للتبيين وفائدته التنبيه على أن الظلم منكم أقبح منه من غيركم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ولذلك يصيب* بالعذاب من لم يباشر سببه (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) أى وقت كونكم قليلا فى العدد وإيثار الجملة الاسمية للإيذان باستمرار ما كانوا فيه من القلة وما يتبعها من الضعف والخوف وقوله تعالى (مُسْتَضْعَفُونَ) * خبر ثان أو صفة لقليل وقوله تعالى (فِي الْأَرْضِ) أى فى أرض مكة تحت أيدى قريش والخطاب* للمهاجرين أو تحت أيدى فارس والروم والخطاب للعرب كافة فإنهم كانوا أذلاء تحت أيدى الطائفتين وقوله تعالى (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) خبر ثالث أو صفة ثانية لقليل وصف بالجملة بعد ما وصف* بالمفرد أو حال من المستكن فى مستضعفون والمراد بالناس على الأول وهو الأظهر إما كفار قريش وإما كفار العرب لقربهم منهم وشدة عداوتهم لهم وعلى الثانى فارس والروم أى واذكروا وقت قلتكم وذلتكم وهو انكم على الناس وخوفكم من اختطافهم (فَآواكُمْ) إلى المدينة أو جعل لكم مأوى تتحصنون* به من أعدائكم (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) على الكفار أو بمظاهرة الأنصار أو بإمداد الملائكة (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من الغنائم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه النعم الجليلة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) أصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء التمام واستعماله فى ضد الأمانة لتضمنه إياه أى لا تخونوهما بتعطيل الفرائض والسنن أو بأن تضمروا خلاف ما تظهرون أو فى الغلول فى الغنائم روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاصر بنى قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا الصلح كما صالح بنى النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحاء من الشام فأبى إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ رضى الله عنه فأبوا وقالوا أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحا لهم لما أن ماله وعياله كانا فى أيديهم فبعثه إليهم فقالوا ما ترى هل ننزل على حكم سعد فأشار إلى حلقه أنه الذبح قال أبو لبابة فما زالت قدماى حتى علمت أنى خنت الله ورسوله فنزلت فشد نفسه على سارية من سوارى المسجد وقال والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله على فمكث سبعة أيام حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له قد تيب عليك فحل نفسك قال لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذى يحلنى فجاءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحله فقال إن من تمام توبتى أن أهجر دار قومى التى أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالى فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجزئك الثلث أن تتصدق به (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) فيما بينكم وهو مجزوم معطوف على الأول أو منصوب على الجواب بالواو (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) *

١٧

(وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣٠)

____________________________________

أنكم تخونون أو وأنتم علماء تميزون الحسن من القبيح (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) لأنها سبب الوقوع فى الإثم والعقاب أو مجنة من الله عزوجل ليبلوكم فى ذلك فلا يحملنكم حبهما على الخيانة* كأبى لبابة (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن آثر رضاه تعالى عليهما وراعى حدوده فيهما فنيطوا هممكم بما يؤديكم إليه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تكرير الخطاب والوصف بالإيمان لإظهار كمال العناية بما بعده* والإيذان بأنه مما يقتضى الإيمان مراعاته والمحافظة عليه كما فى الخطابين السابقين (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) أى فى* كل ما تأتون وما تذرون (يَجْعَلْ لَكُمْ) بسبب ذلك (فُرْقاناً) هداية فى قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل أو نصرا يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين أو مخرجا من الشبهات أو نجاة عما تحذرون فى الدارين أو ظهورا يشهر أمركم وينشر صيتكم من قولهم بت أفعل كذا حتى سطع* الفرقان أى الصبح (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أى يسترها (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم بالعفو والتجاوز عنها وقيل السيئات الصغائر والذنوب الكبائر وقيل المراد ما تقدم وما تأخر لأنها فى أهل بدر وقد غفرهما* الله تعالى لهم وقوله تعالى (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تعليل لما قبله وتنبيه على أن ما وعده الله تعالى لهم على التقوى تفضل منه وإحسان لا أنه مما يوجبه التقوى كما إذا وعد السيد عبده إنعاما على عمل (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم معطوف على قوله تعالى (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ) الخ مسوق لتذكير النعمة الخاصة به صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد تذكير النعمة العامة للكل أى واذكر وقت مكرهم* بك (لِيُثْبِتُوكَ) بالوثاق ويعضده قراءة من قرأ ليقيدوك أو الاثخان بالجرح من قولهم ضربه حتى أثبته* لا حراك به ولا براح وقرىء ليثبتوك بالتشديد وليبيتوك من البيات (أَوْ يَقْتُلُوكَ) أى بسيوفهم (أَوْ يُخْرِجُوكَ) أى من مكة وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرقوا واجتمعوا فى دار الندوة يتشاورون فى أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل إبليس عليهم فى صورة شيخ وقال أنا من نجد سمعت باجتماعكم فاردت أن أحضركم ولن تعدموا منى رأيا ونصحا فقال أبو البحترى رأيى أن تحبسوه فى بيت وتسدوا منافذه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها حتى يموت فقال الشيخ بئس الرأى يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم فقال هشام بن عمرو رأيى أن تحملوه على جمل وتخرجوه من أرضكم فلا يضركم ما صنع فقال وبئس الرأى يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم فقال أبو جهل أنا أرى أن تأخذوا

١٨

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٣٣)

____________________________________

من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا فيضربوه ضربة واحدة فيتفرق دمه فى القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم فإذا طلبوا العقل عقلناه فقال صدق هذا الفتى فتفرقوا على رأيه فأتى جبريل النبى عليهما الصلاة والسلام وأخبره بالخبر وأمره بالهجرة فبيت عليا رضى الله تعالى عنه على مضجعه وخرج هو مع أبى بكر رضى الله عنه إلى الغار (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) أى يرد مكرهم عليهم أو يجازيهم عليه أو* يعاملهم معاملة الماكرين وذلك بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين فى أعينهم حتى حملوا عليهم فلقوا منهم ما لقوا (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) لا يعبأ بمكرهم عند مكره وإسناد أمثال هذا إليه سبحانه مما يحسن للمشاكلة* ولا مساغ له ابتداء لما فيه من إيهام ما لا يليق به سبحانه (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) التى حقها أن يخر لها صم الجبال (قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) قاله اللعين النضر بن الحرث وإسناده إلى الكل لما أنه كان* رئيسهم وقاضيهم الذى يقولون بقوله ويأخذون برأيه وقيل قاله الذين ائتمروا فى أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى دار الندوة وهذا كما ترى غاية المكابرة ونهاية العناد كيف لا ولو استطاعوا شيئا من ذلك فما الذى كان يمنعهم من المشيئة وقد تحدوا عشر سنين وقرعوا على العجز وذاقوا من ذلك الأمرين ثم قورعوا بالسيف فلم يعارضوا بما سواه مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا لا سيما فى باب البيان (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) * أى ما يسطرونه من القصص (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) هذا أيضا من أباطيل ذلك اللعين. روى أنه لما قال إن هذا إلا أساطير الأولين قال له النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويلك إنه كلام الله تعالى فقال ذلك والمعنى إن القرآن إن كان حقا منزلا من عندك فأمطر علينا الحجارة عقوبة على إنكارنا أو ائتنا بعذاب أليم سواه والمراد منه التهكم وإظهار اليقين والجزم التام على أنه ليس كذلك وحاشاه وقرىء الحق بالرفع على أن هو مبتدأ لا فضل وفائدة التعريف فيه الدلالة على أن المعلق به كونه حقا على الوجه الذى يدعيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو تنزيله لا الحق مطلقا لتجويزهم أن يكون مطابقا للواقع غير منزل كالأساطير (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) جواب لكلمتهم الشنعاء وبيان للموجب لإمهالهم والتوقف فى إجابة دعائهم واللام لتأكيد النفى والدلالة على أن تعذيبهم عذاب استئصال والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرهم خارج عن عادته تعالى غير مستقيم فى حكمه وقضائه والمراد باستغفارهم فى قوله تعالى (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) إما استغفار من بقى منهم من المؤمنين أو قولهم اللهم*

١٩

(وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (٣٦)

____________________________________

اغفر أو فرضه على معنى لو استغفروا لم يعذبوا كقوله تعالى (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) بيان لاستحقاقهم العذاب بعد بيان أن المانع ليس من قبلهم أى* وما لهم مما يمنع تعذيبهم متى زال ذلك وكيف لا يعذبون (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أى وحالهم* ذلك ومن صدهم عند إلجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الهجرة وإحصارهم عام الحديبية (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) حال من ضمير يصدون مفيدة لكمال قبح ما صنعوا من الصد فإن مباشرتهم للصد عنه مع عدم استحقاقهم لولاية أمره فى غاية القبح وهو رد لما كانوا يقولون نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء* (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) من الشرك الذين لا يعبدون فيه غيره تعالى (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنه لا ولاية لهم عليه وفيه إشعارا بأن منهم من يعلم ذلك ولكنه يعاند وقيل أريد بأكثرهم كلهم كما يراد بالقلة العدم (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ) أى دعاؤهم أو ما يسمونه صلاة أو ما يضعون موضعها (إِلَّا مُكاءً) * أى صفيرا فعال من مكايمكو إذا صفر وقرىء بالقصر كالبكى (وَتَصْدِيَةً) أى تصفيقا تفعلة من الصدى أو من الصد على إبدال أحد حرفى التضعيف بالياء وقرىء صلاتهم بالنصب على أنه الخبر لكان ومساق الكلام لتقرير استحقاقهم العذاب أو عدم ولايتهم للمسجد فإنها لا تليق بمن هذه صلاته. روى أنهم كانوا يطوفون عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون وقيل كانوا يفعلون* ذلك إذا أراد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصلى يخلطون عليه ويرون أنهم يصلون أيضا (فَذُوقُوا الْعَذابَ) أى القتل* والأسر يوم بدر وقيل عذاب الآخرة واللام يحتمل أن تكون للعهد والمعهود ائتنا بعذاب أليم (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) اعتقادا وعملا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) نزلت فى المطعمين يوم بدر وكانوا اثنى عشر رجلا من قريش يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر أو فى أبى سفيان استأجر ليوم أحد ألفين سوى من استجاش من العرب وأنفق فيهم أربعين أوقية أو فى أصحاب العير فإنه لما أصيب قريش يوم بدر قيل لهم أعينوا بهذا المال على حرب محمد لعلنا ندرك ثأرنا منه ففعلوا* والمراد بسبيل الله دينه واتباع رسوله (فَسَيُنْفِقُونَها) بتمامها ولعل الأول إخبار عن إنفاقهم فى تلك الحال وهو إنفاق يوم بدر والثانى إخبار عن إنفاقهم فيما يستقبل وهو إنفاق يوم أحد ويحتمل أن يراد بهما* واحد على أن مساق الأول لبيان الغرض من الإنفاق ومساق الثانى لبيان عاقبته وأنه لم يقع بعد (ثُمَ

٢٠