تفسير أبي السّعود - ج ٨

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٨

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٣٩)

____________________________________

أى إبراهيم عليه‌السلام لما علم أنهم ملائكة أرسلوا لأمر (فَما خَطْبُكُمْ) أى شأنكم الخطير الذى* لأجله أرسلتم سوى البشارة (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يعنون قوم لوط (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ) أى بعد ما قلبنا قراهم وجعلنا عاليها سافلها حسبما فصل فى سائر السور الكريمة (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) أى طين متحجر هو السجيل (مُسَوَّمَةً) مرسلة من أسمت الماشية أى أرسلتها أو معلمة من المسومة وهى العلامة وقد مر تفصيله فى سورة هود (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) المجاوزين الحد فى الفجور* وقوله تعالى (فَأَخْرَجْنا) الخ حكاية من جهته تعالى لما جرى على قوم لوط عليه‌السلام بطريق الإجمال بعد حكاية ما جرى بين الملائكة وبين إبراهيم عليه‌السلام من الكلام والفاء فصيحة مفصحة عن جمل قد حذفت ثقة بذكرها فى مواضع أخر كأنه قيل فباشروا ما أمروا به فأخرجنا بقولنا فأسر بأهلك الخ (مَنْ كانَ فِيها) أى فى قرى قوم لوط وإضمارها بغير ذكر لشهرتها (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ممن آمن بلوط* (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ) أى غير أهل بيت (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قيل هم لوط وابنتاه وقيل كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر (وَتَرَكْنا فِيها) أى فى القرية (آيَةً) أى علامة دالة على ما أصابهم من العذاب قيل هى تلك الأحجار أو صخر منضود فيها أو ماء منتن (لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أى من شأنهم* أن يخافوه لسلامة فطرتهم ورقة قلوبهم دون من عداهم من ذوى القلوب القاسية فإنهم لا يعتدون بها ولا يعدونها آية (وَفِي مُوسى) عطف على قوله تعالى (وَفِي الْأَرْضِ) أو على قوله تعالى (وَتَرَكْنا فِيها) آية على معنى وجعلنا فى موسى آية كقول من قال علفتها تبنا وماء باردا (إِذْ أَرْسَلْناهُ) قيل هو منصوب بآية* وقيل بمحذوف أى كائنة وقت إرسالنا وقيل بتركنا (إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) هو ما ظهر على يديه* من المعجزات الباهرة (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) أى فأعرض عن الإيمان به وازور كقوله تعالى (وَنَأى بِجانِبِهِ*

١٤١

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٤٧)

____________________________________

وقيل فتولى بما يتقوى به من ملكه وعساكره فإن الركن اسم لما يركن إليه الشىء وقرىء بركنه بضم* الكاف (وَقالَ ساحِرٌ) أى هو ساحر (أَوْ مَجْنُونٌ) كأنه نسب ما ظهر على يديه عليه الصلاة والسلام من الخوارق العجيبة إلى الجن وتردد فى أنه حصل باختياره وسعيه أو بغيرهما (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ) وفيه من الدلالة على غاية عظم شأن القدرة الربانية ونهاية قمأة فرعون وقومه (وَهُوَ مُلِيمٌ) أى آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان والجملة حال من الضمير فى فأخذناه (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) وصفت بالعقم لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم أو لأنها لم تتضمن خيرا ما من إنشاء مطر أو إلقاح شجر وهى النكباء أو الدبور أو الجنوب (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) أى جرت عليه (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) هو كل مارم وبلى وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) وهو قوله تعالى (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) قيل قال لهم صالح عليه‌السلام تصبح وجوهكم غدا مصفرة وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أى* فاستكبروا عن الامتثال به (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) قيل لما رأوا العلامات التى بينها صالح عليه‌السلام من اصفرار وجوههم واحمرارها واسودادها عمدوا إلى قتله عليه‌السلام فنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم الصيحة فهلكوا وقرىء الصعقة وهى المرة من الصعق (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) إليها ويعاينونها (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) كقوله تعالى (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) * (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) بغيرهم كما لم يمتنعوا بأنفسهم (وَقَوْمَ نُوحٍ) أى وأهلكنا قوم نوح فإن ما قبله يدل عليه أو واذكر ويجوز أن يكون معطوفا على محل عاد ويؤيده القراءة بالجر وقيل* هو معطوف على مفعول فأخذناه (مِنْ قَبْلُ) أى من قبل هؤلاء المهلكين (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) خارجين عن الحدود فيما كانوا فيه من الكفر والمعاصى (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) أى بقوة (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)

١٤٢

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ(٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٥٢)

____________________________________

لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة والموسع القادر على الإنفاق أو لموسعون السماء أو ما بينها وبين الأرض أو الرزق (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) مهدناها وبسطناها ليستقروا عليها (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أى نحن (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أى من الأجناس (زَوْجَيْنِ) أى نوعين ذكرا وأنثى وقيل متقابلين السماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والبر والبحر ونحو ذلك (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أى فعلنا ذلك كله كى تتذكروا* فتعرفوا أنه خالق الكل ورازقه وأنه المستحق للعبادة وأنه قادر على إعادة الجميع فتعملوا بمقتضاه وقوله تعالى (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) مقدر لقول خوطب به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التلوين والفاء إما لترتيب الأمر على ما حكى من أثار غضبه الموجبة للفرار منها ومن أحكام رحمته المستدعية للفرار إليها كأنه قيل قل لهم إذا كان الأمر كذلك فاهربوا إلى الله الذى هذه شؤنه بالإيمان والطاعة كى تنجوا من عقابه وتفوزوا بثوابه وإما للعطف على جملة مقدرة مترتبة على قوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) كأنه قيل قل لهم فتذكروا ففروا إلى الله الخ وقوله تعالى (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) تعليل للأمر بالفرار إليه تعالى أو لوجوب الامتثال به فإن كونه عليه الصلاة والسلام منذرا منه تعالى موجب عليه عليه الصلاة والسلام أن يأمرهم بالفرار إليه وعليهم أن يمتثلوا به أى إنى لكم من جهته تعالى منذر بين كونه منذرا؟؟؟ أو مظهر لما يجب إظهاره من العذاب المنذر به وفى أمره تعالى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يأمرهم بالهرب إليه تعالى من عقابه وتعليله بأنه عليه الصلاة والسلام ينذرهم من جهته تعالى لا من تلقاء نفسه وعد كريم بنجاتهم من المهروب وفوزهم بالمطلوب وقوله تعالى (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) نهى موجب للفرار من سبب العقاب بعد الأمر بالفرار من نفسه كما يشعر به قوله تعالى (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ) أى من الجعل المنهى عنه (نَذِيرٌ مُبِينٌ) فإن تعلق كلمة من بالإنذار مع كون صلته الباء بتضمينه معنى الإفر يقال فر منه أى هرب وأفره غيره كأنه قيل وفروا من أن تجعلوا معه تعالى اعتقادا أو قولا إلها آخر وفيه تأكيد لما قبله من الأمر بالفرار من العقاب إليه تعالى لكن لا بطريق التكرير كما قيل بل بالنهى عن سببه وإيجاب الفرار (كَذلِكَ) أى الأمر مثل ما ذكر من تكذيبهم الرسول وتسميتهم له ساحرا أو مجنونا وقوله تعالى (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الخ تفسير له أى ما أتاهم (مِنْ رَسُولٍ) من رسل الله* (إِلَّا قالُوا) فى حقه (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) ولا سبيل إلى انتصاب الكاف بأتى لامتناع عمل ما بعد*

١٤٣

(أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (٥٦)

____________________________________

ما النافية فيما قبلها (أَتَواصَوْا بِهِ) إنكار وتعجيب من حالهم وإجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة التى لا تكاد تخطر ببال أحد من العقلاء فضلا عن التفوه بها أى أوصى بهذا القول بعضهم بعضا حتى اتفقوا* عليه وقوله تعالى (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) إضراب عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك وإثبات لكونه أمرا أقبح من التواصى وأشنع منه من الطغيان الشامل للكل الدال على أن صدور تلك الكلمة الشنيعة عن كل واحد منهم بمقتضى جبلته الخبيثة لا بموجب وصية من قبلهم بذلك من غير أن يكون ذلك مقتضى طباعهم (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) فأعرض عن جدالهم فقد كررت عليهم الدعوة فأبوا إلا الإباء (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) على التولى بعد ما بذلت المجهود وجاوزت فى الإبلاغ كل حد معهود (وَذَكِّرْ) أى* افعل التذكير والموعظة ولا تدعهما بالمرة أو فذكرهم وقد حذف الضمير لظهور الأمر (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أى الذين قدر الله تعالى إيمانهم أو الذين آمنوا بالفعل فإنها تزيدهم بصيرة وقوة فى اليقين (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) استئناف مؤكد للأمر مقرر لمضمون تعليله فإن كون خلقهم مغيا بعبادته تعالى مما يدعوه عليه الصلاة والسلام إلى تذكيرهم ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ ولعل تقديم خلق الجن فى الذكر لتقدمه على خلق الإنس فى الوجود ومعنى خلقهم لعبادته تعالى خلقهم مستعدين لها ومتمكنين منها أتم استعداد وأكمل تمكن مع كونها مطلوبة منهم بتنزيل ترتب الغاية على ما هى ثمرة له منزلة ترتب الغرض على ما هو غرض له فإن استتباع أفعاله تعالى لغايات جليلة مما لا نزاع فيه قطعا كيف لا وهى رحمة منه تعالى وتفضل على عباده وإنما الذى لا يليق بجنابه عزوجل تعليلها بالغرض بمعنى الباعث على الفعل بحيث لولاه لم يفعله لإفضائه إلى استكماله بفعله وهو الكامل بالفعل من كل وجه وأما بمعنى نهاية كمالية يفضى إليها فعل الفاعل الحق فغير منفى من أفعاله تعالى بل كلها جارية على المنهاج وعلى هذا الاعتبار يدور وصفه تعالى بالحكمة ويكفى فى تحقق معنى التعليل على ما يقوله الفقهاء ويتعارفه أهل اللغة هذا المقدار وبه يتحقق مدلول اللام وأما إرادة الفاعل لها فليست من مقتضيات اللام حتى يلزم من عدم صدور العبادة عن البعض تخلف المراد عن الإرادة فإن تعوق البعض عن الوصول إلى الغاية مع تعاضد المبادى وتآخذ المقدمات الموصلة إليها لا يمنع كونها غاية كما فى قوله تعالى (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ونظائره وقيل المعنى إلا ليؤمروا بعبادتى كما فى قوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) وقيل المراد سعداء الجنسين كما أن المراد

١٤٤

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٦٠)

____________________________________

بقوله تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أشقياؤهما ويعضده قراءة من قرأ وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين وقال مجاهد واختاره البغوى معناه إلا ليعرفوه ومداره قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يحكيه عن رب العزة كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف ولعل السر فى التعبير عن المعرفة بالعبادة على طريق إطلاق اسم السبب على المسبب التنبيه على أن المعتبر هى المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) بيان لكون شأنه تعالى مع عباده متعاليا عن أن يكون كشأن السادة مع عبيدهم حيث يملكونهم ليستعينوا بهم فى تحصيل معايشهم وتهيئة أرزاقهم أى ما أريد أن أصرفهم فى تحصيل رزقى ولا رزقهم بل أتفضل عليهم برزقهم وبما يصلحهم ويعيشهم من عندى فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتى (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) الذى يرزق كل ما يفتقر إلى الرزق وفيه تلويح بأنه غنى عنه وقرىء إنى أنا الرزاق (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) * بالرفع على أنه نعت للرزاق أو لذو أو خبر بعد خبر أو خبر لمضمر وقرىء بالجر على أنه وصف للقوة على تأويل الاقتدار أو الأيد (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أى ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بتكذيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو وضعوا مكان التصديق تكذيبا وهم أهل مكة (ذَنُوباً) * أى نصيبا وافرا من العذاب (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) مثل أنصباء نظرائهم من الأمم المحكية وهو مأخوذ* من مقاسمة السقاة الماء بالذنوب وهو الدلو العظيم المملوء (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أى لا يطلبوا منى أن أعجل* فى المجىء به يقال استعجله أى حثه على العجلة وأمره بها ويقال استعجله أى طلب وقوعه بالعجلة ومنه قوله تعالى (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) وهو جواب لقولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بما فى حيز الصلة من الكفر وإشعارا بعلة الحكم والفاء لترتيب ثبوت الويل لهم على أن لهم عذابا عظيما كما أن الفاء الأولى لترتيب النهى عن الاستعجال على ذلك ومن فى قوله تعالى (مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) للتعليل أى يوعدونه من يوم* بدر وقيل يوم القيامة وهو الأنسب بما فى صدر السورة الكريمة الآتية والأول هو الأوفق لما قبله من حيث أنهما من العذاب الدنيوى. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ والذاريات أعطاه الله تعالى عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت فى الدنيا.

١٤٥

٥٢ ـ سورة الطور

(مكية وهى تسع وأربعون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) (٨)

____________________________________

(سورة الطور مكية وأياتها تسع وأربعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (وَالطُّورِ) الطور بالسريانية الجبل والمراد به طور سينين وهو جبل بمدين سمع فيه موسى عليه‌السلام كلام الله تعالى (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) مكتوب على وجه الانتظام فإن السطر ترتيب الحروف المكتوبة والمراد به القرآن أو ألواح موسى عليه‌السلام وهو الأنسب بالطور أو ما يكتب فى اللوح أو ما يكتبه الحفظة (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) الرق الجلد الذى يكتب فيه استعير لما يكتب فيه الكتاب من الصحيفة وتنكيرهما للتفخيم أو للإشعار بأنهما ليسا مما يتعارفه الناس (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) أى الكعبة وعمارتها بالحجاج والعمار والمجاورين أو الضراح وهو فى السماء الرابعة وعمرانه كثرة غاشيته من الملائكة (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) أى السماء ولا يخفى حسن موقع العنوان المذكور (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أى المملوء وهو البحر المحيط أو الموقد من قوله تعالى (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) فالمراد به الجنس روى أن الله تعالى يجعل البحار يوم القيامة نارا يسجر بها نار جهنم (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) أى لنازل حتما جواب للقسم وقوله تعالى (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) إما خبر ثان لأن أو صفة لواقع ومن دافع إما مبتدأ للظرف أو مرتفع به على الفاعلية ومن مزيدة للتأكيد وتخصيص هذه الأمور بالإقسام بها لما أنها أمور عظام تنبىء عن عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته الدالة على إحاطته تعالى بتفاصيل

١٤٦

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦)

____________________________________

أعمال العباد وضبطها الشاهدة بصدق أخباره التى من جملتها الجملة المقسم عليها وقوله تعالى (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) ظرف لواقع مبين لكيفية الوقوع منبىء عن كمال هوله وفظاعته والمور الاضطراب والتردد فى المجىء والذهاب وقيل هو تحرك فى تموج قيل تدور السماء كما تدور الرحا وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة وقيل تختلف أجزاؤها (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أى تزول عن وجه الأرض فتصير هباء وتأكيد الفعلين بمصدريهما للإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة أى مورا عجيبا وسيرا بديعا لا يدرك كنههما (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أى إذا وقع ذلك أو إذا كان الأمر كما ذكر فويل يوم إذ يقع ذلك لهم (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ) أى اندفاع عجيب فى الأباطيل والأكاذيب (يَلْعَبُونَ) يلهون (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) أى يدفعون إليها دفعا عنيفا شديدا بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار وقرىء يدعون من الدعاء فيكون دعا حالا بمعنى مدعوعين ويوم إما بدل من يوم تمور أو ظرف لقول مقدر قبل قوله تعالى (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أى يقال لهم ذلك ومعنى التكذيب بها تكذيبهم بالوحى الناطق بها وقوله تعالى (أَفَسِحْرٌ هذا) توبيخ وتقريع لهم حيث كانوا يسمونه سحرا كأنه قيل كنتم تقولون للقرآن الناطق بهذا سحر فهذا أيضا سحر وتقديم الخبر لأنه محط الإنكار ومدار التوبيخ (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) أى أم أنتم عمى عن المخبر* عنه كما كنتم عميا عن الخبر أو أم سدت أبصاركم كما سدت فى الدنيا على زعمكم حيث كنتم تقولون إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) أى ادخلوها وقاسوا شدائدها فافعلوا ما شئتم من الصبر وعدمه (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أى الأمران فى عدم النفع لا بدفع العذاب ولا بتخفيفه* وقوله تعالى (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تعليل للاستواء فإن الجزاء حيث كان واجب الوقوع*

١٤٧

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٢١)

____________________________________

حتما كان الصبر وعدمه سواء فى عدم النفع (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) أى فى أية جنات وأى نعيم على أن التنوين للتفخيم أو فى جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين على أنه للتنويع (فاكِهِينَ) ناعمين متلذذين* (بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) وقرىء فكهين وفاكهون على أنه الخبر والظرف لغو متعلق بالخبر أو خبر آخر* (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) عطف على آتاهم على أن ما مصدرية أو على خبر إن أو حال بإضمار قد إما من المستكن فى الخبر أو فى الحال وإما من فاعل آتى أو من مفعوله أو منهما وإظهار الرب فى موقع الإضمار مضافا إلى ضميرهم للتشريف والتعليل (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أى يقال لهم كلوا واشربوا* أكلا وشرابا (هَنِيئاً) أو طعاما وشرابا هنيئا وهو الذى لا تنغيص فيه (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بسببه أو بمقابلته وقيل الباء زائدة وما فاعل هنيئا أى هناكم ما كنتم تعملون أى جزاؤه (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) مصطفة (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) وقرىء بحور عين على إضافة الموصوف إلى صفته بالتأويل المشهور وقرىء بعين عين والباء مع أن التزويج مما يتعدى إلى مفعولين لما فيه من معنى الوصل والإلصاق أو للسببية إذ المعنى صيرناهم أزواجا بسببهن فإن الزوجية لا تتحقق بدون انضمامهن إليهم وقوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا) الخ كلام مستأنف مسوق لبيان حال طائفة من أهل الجنة إثر بيان حال الكل وهم الذين شاركتهم* ذريتهم فى الإيمان وهو مبتدأ خبره ألحقنا بهم وقوله تعالى (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) عطف على آمنوا وقيل* اعتراض وقوله تعالى (بِإِيمانٍ) متعلق بالاتباع أى اتبعتهم ذريتهم بإيمان فى الجملة قاصر عن رتبة إيمان الآباء واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم فى الإيمان الكامل أصالة لا إلحاقا وقرىء ذرياتهم للمبالغة فى الكثرة وذرياتهم بكسر الذال وقرىء وأتبعناهم ذرياتهم أى جعلناهم تابعين لهم* فى الإيمان وقرىء اتبعتهم (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أى فى الدرجة كما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال* إنه تعالى يرفع ذرية المؤمن فى درجته وإن كانوا دونه لتقربهم عينه ثم تلا هذه الآية (وَما أَلَتْناهُمْ) * وما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق (مِنْ عَمَلِهِمْ) من ثواب عملهم (مِنْ شَيْءٍ) بأن أعطينا بعض مثوباتهم أباءهم فتنقص مثوبتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان وقرىء

١٤٨

(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٢٥)

____________________________________

ألتناهم بكسر اللام من ألت يألت كعلم يعلم والأول كضرب يضرب ولتناهم من لات يليت وآلتناهم من آلت يؤلت وولتناهم من ولت يلت والكل بمعنى واحد هذا وقد قيل الموصول معطوف على حور والمعنى قرناهم بالحور وبالذين آمنوا أى بالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور وأخرى بمؤانسة الإخوان المؤمنين وقوله تعالى (وَاتَّبَعَتْهُمْ) عطف على (زَوَّجْناهُمْ) وقوله تعالى (بِإِيمانٍ) متعلق بما بعده أى بسبب إيمان عظيم رفيع المحل وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلا عليهم وعلى آبائهم ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم أو بسبب إيمان دانى المنزلة وهو إيمان الذرية كأنه قيل بشىء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) قيل هو فعيل* بمعنى مفعول والمعنى كل امرىء مرهون عند الله تعالى بالعمل الصالح فإن عمله فكه وإلا أهلكه وقيل بمعنى الفاعل والمعنى كل امرىء بما كسب راهن أى دائم ثابت وهذا أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضى عدم المفارقة بين المرء وعمله ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شىء فالجملة تعليل لما قبلها (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) وزدناهم على ما كان لهم من مبادى التنعم وقتا فوقتا ما يشتهون من فنون النعماء وألوان الآلاء (يَتَنازَعُونَ فِيها) أى يتعاطون فيها هم وجلساؤهم بكمال رغبة واشتياق كما ينبىء عنه التعبير عن ذلك بالتنازع (كَأْساً) أى خمرا تسمية لها باسم محلها (لا لَغْوٌ فِيها) أى فى* شربها حيث لا يتكلمون فى أثناء الشرب بلغو الحديث وسقط الكلام (وَلا تَأْثِيمٌ) ولا يفعلون ما يؤثم* به فاعله أى ينسب إلى الإثم لو فعله فى دار التكليف كما هو ديدن المنادمين فى الدنيا وإنما يتكلمون بالحكم وأحاسن الكلام ويفعلون ما يفعله الكرام وقرىء لا لغو فيها ولا تأثيم بالفتح (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أى بالكأس (غِلْمانٌ لَهُمْ) أى مماليك مخصوصون بهم وقيل هم أولادهم الذين سبقوهم (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) مصون فى الصدف من بياضهم وصفائهم أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالى القيمة قيل لقتادة هذا الخادم فكيف المخدوم فقال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذى نفسى بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وعنه عليه الصلاة والسلام إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادى الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه لبيك لبيك (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أى يسأل كل بعض منهم بعضا آخر عن أحواله وأعماله فيكون كل بعض سائلا ومسؤلا لا أنه يسأل بعض معين منهم بعضا آخر معينا.

١٤٩

(قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣)

____________________________________

(قالُوا) أى المسؤلون وهم كل واحد منهم فى الحقيقة (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) أى فى الدنيا (فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) أرقاء القلوب خائفين من عصيان الله تعالى معتنين بطاعته أو وجلين من العاقبة (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالرحمة* أو التوفيق للحق (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) عذاب النار النافذة فى المسام نفوذ السموم وقرىء ووقانا بالتشديد (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ) أى نعبده أو نسأله الوقاية (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) المحسن (الرَّحِيمُ) الكثير الرحمة الذى إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب وقرىء أنه بالفتح بمعنى لأنه (فَذَكِّرْ) فاثبت على ما أنت عليه من التذكير بما أنزل إليك من الآيات والذكر الحكيم ولا تكترث بما يقولون مما لا خير فيه من* الأباطيل (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) بحمده وإنعامه بصدق النبوة ورجاحة العقل (بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) كما يقولون قاتلهم الله أنى يؤفكون (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) وهو ما يقلق النفوس ويشخص بها من حوادث الدهر وقيل المنون الموت وهو فى الأصل فعول من منه إذا قطعه لأن الموت قطوع أى بل أيقولون ننتظر به نوائب الدهر (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكى وفيه عدة كريمة بإهلاكهم (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ) أى عقولهم (بِهذا) أى بهذا التناقض فى المقال فإن الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر فى الأمور والمجنون المغطى عقله مختل فكره والشاعر ذو كلام موزون متسق مخيل فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء فى واحد وأمر* الأحلام بذلك مجاز عن أدائها إليه (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) مجاوزون الحدود فى المكابرة والعناد لا يحرمون الرشد والسداد ولذلك يقولون ما يقولون من الأكاذيب الخارجة عن دائرة العقول والظنون وقرىء بل هم (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أى اختلقة من تلقاء نفسه (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه الأباطيل التى لا يخفى على أحد بطلانها كيف لا وما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا واحد من العرب فكيف أتى بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم.

١٥٠

(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) (٤٠)

____________________________________

(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) مثل القرآن فى النعوت التى استقل بها من حيث النظم ومن حيث المعنى (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) فيما زعموا فإن صدقهم فى ذلك يستدعى قدرتهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتهم له عليه الصلاة والسلام فى البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والأشعار وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر والمبالغة فى حفظ الوقائع والأيام ولا ريب فى أن القدرة على الشىء من موجبات الإتيان به ودواعى الأمر بذلك (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أى أم أحدثوا وقدروا هذا التقدير البديع من غير محدث ومقدر وقيل أم خلقوا من أجل لا شىء من عبادة وجزاء (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) لأنفسهم* فلذلك لا يعبدون الله سبحانه (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) أى إذا سئلوا من خلقكم وخلق السموات والأرض قالوا الله وهم غير موقنين بما قالوا وإلا لما أعرضوا عن عبادته (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) أى خزائن رزقه ورحمته حتى يرزقوا النبوة من شاؤا ويمسكوها عمن شاؤا أو عندهم خزائن علمه وحكمته حتى يختاروا لها من اقتضت الحكمة اختياره (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أى الغالبون* على الأمور يدبرونها كيفما شاؤا حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم وقرىء المصيطرون بالصاد لمكان الطاء (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) منصوب إلى السماء (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) صاعدين إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من الأمور التى يتقولون فيها رجما بالغيب ويعلقون بها أطماعهم الفارغة (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بحجة واضحة تصدق استماعه (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) تسفيه لهم وتركيك لعقولهم وإيذان بأن من هذا رأيه لا يكاد يعد من العقلاء فضلا عن الترقى إلى عالم الملكوت والتطلع على الأسرار الغيبية والالتفات إلى الخطاب لتشديد ما فى أم المنقطعة من الإنكار والتوبيخ (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) رجوع إلى خطابه عليه الصلاة والسلام وإعراض ٤٠ عنهم أى بل أتسالهم أجرا على تبليغ الرسالة (فَهُمْ) لذلك (مِنْ مَغْرَمٍ) من التزام غرامة فادحة (مُثْقَلُونَ) * محملون الثقل فلذلك لا يتبعونك.

١٥١

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٤٧)

____________________________________

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أى اللوح المحفوظ المثبت فيه الغيوب (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) ما فيه حتى يتكلموا فى ذلك بنفى أو إثبات (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) هو كيدهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى دار الندوة (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) هم المذكورون ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بما فى حيز الصلة من الكفر* وتعليل الحكم به أو جميع الكفرة وهم داخلون فيهم دخولا أوليا (هُمُ الْمَكِيدُونَ) أى هم الذين يحيق بهم كيدهم أو يعود عليهم وباله لا من أرادوا أن يكيدوه وهو ما أصابهم يوم بدر أو هم المغلوبون فى الكيد من كايدته فكدته (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) يعينهم ويحرسهم من عذابه (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أى عن إشراكهم أو عن شركة ما يشركونه (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً) قطعة (مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) لتعذيبهم* (يَقُولُوا) من فرط طغيانهم وعنادهم (سَحابٌ مَرْكُومٌ) أى هم فى الطغيان بحيث لو أسقطناه عليهم حسبما قالوا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا لقالوا هذا سحاب تراكم بعضه على بعض يمطرنا ولم يصدقوا أنه كسف ساقطا للعذاب (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا) وقرىء حتى يلقوا (يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) على البناء للمفعول من صعقته الصاعقة أو من أصعقته وقرىء يصعقون بفتح الياء والعين وهو يوم يصيبهم الصعقة بالقتل يوم بدر لا النفخة الأولى كما قيل إذ لا يصعق بها إلا من كان حيا حينئذ ولأن قوله تعالى (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أى شيئا من الإغناء بدل من يومهم ولا يخفى أن التعرض لبيان عدم نفع كيدهم يستدعى استعمالهم له طعما فى الانتفاع به وليس ذلك إلا ما دبروه فى أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكيد الذى من جملته مناصبتهم يوم بدر وأما النفخة الأولى فليست مما يجرى فى مدافعته* الكيد والحيل وقيل هو يوم موتهم وفيه ما فيه مع ما تأباه الإضافة المنبئة عن اختصاصه بهم (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) من جهة الغير فى دفع العذاب عنهم (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أى لهم ووضع الموصول* موضع الضمير لما ذكر من قبل أى وإن لهؤلاء الظلمة (عَذاباً) آخر (دُونَ ذلِكَ) دون ما لا قوه من القتل أى قبله وهو القحط الذى أصابهم سبع سنين أو وراءه كما فى قوله [تريك القذى من دونها

١٥٢

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩)

____________________________________

وهو دونها] وهو عذاب القبر وما بعده من فنون عذاب الآخرة وقرىء دون ذلك قريبا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن الأمر كما ذكر وفيه إشارة إلى أن فيهم من يعلم ذلك وإنما يصر على الكفر عنادا أو لا يعلمون شيئا أصلا (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) بإمهالهم إلى يومهم الموعود وإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان ومعاناة الهموم (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أى فى حفظنا وحمايتنا بحيث نراقبك ونكلؤك* وجمع العين لجمع الضمير والإيذان بغاية الاعتناء بالحفظ (وَسَبِّحْ) أى نزهه تعالى عما لا يليق به ملتبسا* (بِحَمْدِ رَبِّكَ) على نعمائه الفائتة للحصر (حِينَ تَقُومُ) من أى مكان قمت قال سعيد بن جبير وعطاء أى* قل حين تقوم من مجلسك سبحانك اللهم وبحمدك وقال ابن عباس رضى الله عنهما معناه صل لله حين تقوم من منامك وقال الضحاك والربيع إذا قمت إلى الصلاة فقل سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك وقوله تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) إفراد لبعض الليل بالتسبيح لما أن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء كما يلوح به تقديمه على الفعل (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) أى وقت* إدبارها من آخر الليل أى غيبتها بضوء الصباح وقيل التسبيح من الليل صلاة العشاءين وإدبار النجوم صلاة الفجر وقرىء وأدبار النجوم بالفتح أى فى أعقابها إذا غربت أو خفيت. عن النبى عليه الصلاة والسلام من قرأ سورة الطور كان حقا على الله تعالى أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه فى جنته.

١٥٣

٥٣ ـ سورة النجم

(مكية وهى إثنتان وستون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (٢)

____________________________________

(سورة النجم مكية وآياتها إثنتان وستون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) المراد بالنجم إما الثريا فإنه اسم غالب له أو جنس النجوم وبهويه غروبه وقيل طلوعه يقال هوى هويا بوزن قبول إذا غرب وهويا بوزن دخول إذا علا وصعد وأما النجم من نجوم القرآن فهويه نزوله والعامل فى إذا فعل القسم فإنه بمعنى مطلق الوقت منسلخ من معنى الاستقبال كما فى قولك آتيك إذا حمر البسر وفى الإقسام بذلك على نزاهته عليه الصلاة والسلام عن شائبة الضلال والغواية من البراعة البديعة وحسن الموقع ما لا غاية وراءه أما على الأولين فلأن النجم شأنه أن يهتدى به السارى إلى مسالك الدنيا كأنه قبل والنجم الذى يهتدى به السابلة إلى سواء السبيل (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) أى ما عدل عن طريق الحق الذى هو مسلك الآخرة (وَما غَوى) أى وما اعتقد باطلا قط أى هو فى غاية الهدى والرشد وليس مما تتوهمونه من الضلال والغواية فى شىء أصلا وأما على الثالث فلأنه تنويه بشأن القرآن كما أشير إليه فى مطلع سورة يس وسورة الزخرف وتنبيه على مناط اهتدائه عليه الصلاة والسلام ومدار رشاده كأنه قيل والقرآن الذى هو علم فى الهداية إلى مناهج الدين ومسالك الحق ما ضل عنها محمد عليه الصلاة والسلام وما غوى والخطاب لقريش وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان صاحبيته لهم وللإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة وإحاطتهم خبرا ببراءته عليه الصلاة والسلام مما نفى عنه بالكلية واتصافه عليه الصلاة والسلام بغاية الهدى والرشاد فإن طول صحبتهم له عليه الصلاة والسلام ومشاهدتهم لمحاسن شؤنه العظيمة مقتضية لذلك حتما وتقييد القسم بوقت الهوى على الوجه الأخير ظاهر وأما على الأولين فلأن النجم لا يهتدى به السارى عند كونه فى وسط السماء ولا يعلم المشرق من المغرب ولا الشمال من الجنوب وإنما يهتدى به عند هبوطه أو صعوده مع ما فيه من كمال المناسبة لما سيحكى من تدلى جبريل من الأفق الأعلى ودنوه منه عليهما‌السلام هذا هو اللائق بشأن التنزيل الجليل وأما حمل هويه على انتثاره يوم القيامة أو على انقضا النجم ض الذى يرجم به أو حمل النجم على النبات وحمل هويه على سقوطه على الأرض أو

١٥٤

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٩)

____________________________________

على ظهوره منها فمما لا يناسب المقام (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) أى وما يصدر نطقه بالقرآن عن هواه ورأيه أصلا فإن المراد استمرار نفى النطق عن الهوى لا نفى استمرار النطق عنه كما مر مرارا (إِنْ هُوَ) أى ما الذى ينطق به من القرآن (إِلَّا وَحْيٌ) من الله تعالى وقوله تعالى (يُوحى) صفة مؤكدة لوحى* رافعة لاحتمال المجاز مفيدة للاستمرار التجددى (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) أى ملك شديد قواه وهو جبريل عليه‌السلام فإنه الواسطة فى إبداء الخوارق وناهيك دليلا على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذى هو تحت الثرى وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها وصاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده فى أسرع من رجعة الطرف (ذُو مِرَّةٍ) أى حصافة فى عقله ورأيه ومتانة فى دينه (فَاسْتَوى) عطف على (عَلَّمَهُ) بطريق التفسير فإنه إلى قوله تعالى (ما أَوْحى) * بيان لكيفية التعليم أى فاستقام على صورته التى خلقه الله تعالى عليها دون الصورة التى كان يتمثل بها كلما هبط بالوحى وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحب أن يراه فى صورته التى جبل عليها وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحراء فطلع له جبريل عليه‌السلام من المشرق فسد الأرض من المغرب وملأ الأفق فخر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل جبريل عليه‌السلام فى صورة الآدميين فضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه قيل ما رآه أحد من الأنبياء فى صورته غير النبى عليه الصلاة والسلام فإنه رآه فيها مرتين مرة فى الأرض ومرة فى السماء وقيل استوى بقوته على ما جعل له من الأمر وقوله تعالى (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) أى أفق الشمس حال من فاعل استوى (ثُمَّ دَنا) أى أراد الدنو من النبى عليهما الصلاة والسلام (فَتَدَلَّى) أى استرسل من الأفق الأعلى مع تعلق به* فدنا من النبى يقال تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير وأدلى دلوه والدوالى الثمر المعلق (فَكانَ) أى مقدار امتداد ما بينهما (قابَ قَوْسَيْنِ) أى مقدارهما فإن القاب والقيب والقادر والقيد والقيس*

١٥٥

(فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى(١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) (١٤)

____________________________________

* المقدار وقيل فكان جبريل عليه‌السلام كما فى قولك هو منى معقد الإزار (أَوْ أَدْنى) أى على تقديركم كما فى قوله تعالى (أَوْ يَزِيدُونَ) والمراد تمثيل ملكة الاتصال وتحقق استماعه لما أوحى إليه بنفى البعد الملبس (فَأَوْحى) أى جبريل عليه‌السلام (إِلى عَبْدِهِ) عبد الله تعالى وإضماره قبل الذكر لغاية ظهوره* كما فى قوله تعالى (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) (ما أَوْحى) أى من الأمور العظيمة التى لا تفى بها العبارة أو فأوحى الله تعالى حينئذ بواسطة جبريل ما أوحى قيل أوحى إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك (ما كَذَبَ الْفُؤادُ) أى فؤاد محمد عليه الصلاة والسلام (ما رَأى) أى ما رآه ببصره من صورة جبريل عليهما‌السلام أى ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره وقرىء ما كذب أى صدقه ولم يشك أنه جبريل بصورته (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) أى أتكذبونه فتجادلونه على ما يراه معاينة أو أبعد ما ذكر من أحواله المنافية للمماراة تمارونه من المراء وهو الملاحاة والمجادلة واشتقاقه من مرى الناقة كأن كلا من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه وقرىء أفتمرونه أى أفتغلبونه فى المراء من ماريته فمريته ولما فيه من معنى الغلبة عدى بعلى كما يقال غلبته على كذا وقيل أفتمرونه أفتجحدونه من مراه حقه إذا جحده (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) أى وبالله لقد رآى جبريل فى صورته مرة أخرى من النزول نصبت النزلة نصب الظرف الذى هو مرة لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل فكانت فى حكمها وقيل تقديره ولقد رآه نازلا نزلة أخرى فنصبها على المصدر (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) هى شجرة نبق فى السماء السابعة عن يمين العرش ثمرها كقلال هجر وورقها كأذان الفيول تنبع من أصلها الأنهار التى ذكرها الله تعالى فى كتابه يسير الراكب فى ظلها سبعين عاما لا يقطعها والمنتهى موضع الانتهاء أو الانتهاء كأنها فى منتهى الجنة وقيل إليها ينتهى علم الخلائق وأعمالهم ولا يعلم أحد ما وراءها وقيل ينتهى إليها أرواح الشهداء وقيل ينتهى إليها ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها قيل إضافة السدرة إلى المنتهى إما إضافة الشىء إلى مكانه كقولك أشجار البستان أو إضافة المحل إلى الحال كقولك كتاب الفقه والتقدير سدرة عندها منتهى علوم الخلائق أو إضافة الملك إلى المالك على حذف الجار والمجرور أى سدرة المنتهى إليه وهو الله عزوجل قال تعالى (إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى).

١٥٦

(عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢٠)

____________________________________

(عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) أى الجنة التى يأوى إليها المتقون أو أرواح الشهداء والجملة حالية وقيل الأحسن أن يكون الحال هو الظرف وجنة المأوى مرتفع به على الفاعلية وقوله تعالى (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) ظرف زمان لرآه لا لما بعده من الجملة المنفية كما قيل فإن ما النافية لا يعمل بعدها فيما قبلها والغشيان بمعنى التغطية والستر ومنه الغواشى أو بمعنى الإتيان يقال فلان يغشانى كل حين أى يأتينى والأول هو الأليق بالمقام وفى إبهام ما يغشى من التفخيم ما لا يخفى وتأخيره عن المفعول للتشويق إليه أى ولقد رآه عند السدرة وقت ما غشيها مما لا يكتنهه الوصف ولا يفى به البيان كيفا ولا كما وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها البديعة وللإيذان باستمرار الغشيان بطريق التجدد وقيل يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله تعالى عندها وقيل يزورونها متبركين بها كما يزور الناس الكعبة وقيل يغشاها سبحات أنوار الله عزوجل حين يتجلى لها كما يتجلى للجبل لكنها أقوى من الجبل وأثبت حيث لم يصبها ما أصابه من الدك وقيل يغشاها فراش أو جراد من ذهب وهو قول ابن عباس وابن مسعود والضحاك وروى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب ورأيت على كل ورقة ملكا قائما يسبح الله تعالى وعنه عليه الصلاة والسلام يغشاها رفرف من طير خضر (ما زاغَ الْبَصَرُ) أى ما مال بصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما رآه (وَما طَغى) وما تجاوزه مع ما شاهد هناك من الأمور العجيبة المذهلة ما لا يحصى بل أثبته إثباتا صحيحا متيقنا أو ما عدل عن رؤية العجائب التى أمر برؤيتها ومكن منها وما جاوزها (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) أى والله لقد رأى الآيات التى هى كبراها وعظماها حين عرج به إلى السماء فأرى عجائب الملك والملكوت ما لا يحيط به نطاق العبارة ويجوز أن تكون الكبرى صفة للآيات والمفعول محذوف أى شيئا عظيما من آيات ربه وأن تكون من مزيدة (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) هى أصنام كانت لهم فاللات كانت لثقيف بالطائف وقيل لقريش بنخلة وهى فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليها ويطوفون بها وقرىء بتشديد التاء على أنه اسم فاعل اشتهر به رجل كان يلت السمن بالزيت ويطعمه

١٥٧

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٢٢)

____________________________________

الحاج وقيل كان يلت السويق بالطائف ويطعمه الحاج فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه وقيل كان يجلس على حجر فلما مات سمى الحجر باسمه وعبد من دون الله وقيل كان الحجر على صورته والعزى تأنيث الأعز كانت لغطفان وهى سمرة كانوا يعبدونها فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد فقطعها فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها واضعة يدها على رأسها وهى تولول فجعل خالد يضربها بالسيف حتى قتلها فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تلك العزى ولن تعبد أبدا ومناة صخرة لهذيل وخزاعة وقيل لثقيف وكأنها سميت مناة لأن دماء النسائك تمنى عندها أى تراق وقرىء ومناءة وهى مفعلة من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها والأخرى صفة ذم لها وهى المتأخرة الوضيعة المقدار وقد جوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى ثم أنهم كانوا مع ما ذكر من عبادتهم لها يقولون إن الملائكة وتلك الأصنام بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فقيل لهم توبيخا وتبكيتا أفرأيتم الخ والهمزة للإنكار والفاء لتوجيهه إلى ترتيب الرؤية على ما ذكر من شؤن الله تعالى المنافية لها غاية المنافاة وهى قلبية ومفعولها الثانى محذوف لدلالة الحال عليه فالمعنى أعقيب ما سمعتم من أثار كمال عظمة الله عزوجل فى ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وأحكام قدرته ونفاذ أمره فى الملأ الأعلى وما تحت الثرى وما بينهما رأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها وقماءتها بنات له تعالى وقيل المعنى أفرأيتم هذه الأصنام مع حقارتها وذلتها شركاء الله تعالى مع ما تقدم من عظمته وقيل أخبرونى عن آلهتكم هل لها شىء من القدرة والعظمة التى وصف بها رب العزة فى الآى السابقة وقيل المعنى أظننتم أن هذه الأصنام التى تعبدونها تنفعكم وقيل أظننتم أنها تشفع لكم فى الآخرة وقيل أفرأيتم إلى هذه الأصنام إن عبدتموها لا تنفعكم وإن تركتموها لا تضركم والأول هو الحق كما يشهد به قوله تعالى (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) شهادة بينة فإنه توبيخ مبنى على التوبيخ الأول وحيث كان مداره تفضيل جانب أنفسهم على جنابه تعالى بنسبتهم إليه تعالى الإناث مع اختيارهم لأنفسهم الذكور وجب أن يكون مناط الأول نفس تلك النسبة حتى يتسنى بناء التوبيخ الثانى عليه وظاهر أن ليس فى شىء من التقديرات المذكورة من تلك النسبة عين ولا أثر وأما ما قيل من أن هذه الجملة مفعول ثار للرؤية وخلوها عن العائد إلى المفعول الأول لما أن الأصل أخبرونى أن اللات والعزى ومناة ألكم الذكر وله هن أى تلك الأصنام فوضع موضع الأنثى لمراعاة الفواصل وتحقيق مناط التوبيخ فمع ما فيه من التمحلات التى ينبغى تنزيه ساحة التنزيل عن أمثالها يقتضى اقتصار التوبيخ على ترجيح جانبهم الحقير على جناب الله العزيز الجليل من غير تعرض للتوبيخ على نسبة الولد إليه سبحانه (تِلْكَ) إشارة إلى* القسمة المنفهمة من الجملة الاستفهامية (إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) أى جائرة حيث جعلتم له تعالى ما تستنكرون

١٥٨

(إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) (٢٥)

____________________________________

منه وهى فعلى من الضيز وهو الجور لكنه كسر فاؤه لتسلم الياء كما فعل فى بيض فإن فعلى بالكسر لم يأت فى الوصف وقرىء ضئزى بالهمزة من ضأزه إذا ظلمه على أنه مصدر نعت به وقرىء ضيزى إما على أنه مصدر وصف به كدعوى أو على أنه صفة كسكرى وعطشى (إِنْ هِيَ) الضمير للأصنام أى ما الأصنام باعتبار الألوهية التى يدعونها (إِلَّا أَسْماءٌ) محضة ليس تحتها مما تنبىء هى عنه من معنى* الألوهية شىء ما أصلا وقوله تعالى (سَمَّيْتُمُوها) صفة لأسماء وضميرها لها لا للأصنام والمعنى جعلتموها* أسماء لا جعلتم لها أسماء فإن التسمية نسبة بين الاسم والمسمى فإذا قيست إلى الاسم فمعناها جعله اسما للمسمى وإن قيست إلى المسمى فمعناها جعله مسمى للاسم وإنما اختير ههنا المعنى الأول من غير تعرض للمسمى لتحقيق أن تلك الأصنام التى يسمونها آلهة أسماء مجردة ليس لها مسميات قطعا كما فى قوله تعالى (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) الآية لا أن هناك مسميات لكنها لا تستحق التسمية وقيل هى للأسماء الثلاثة المذكورة حيث كانوا يطلقونها على تلك الأصنام لاعتقادهم أنها تستحق العكوف على عبادتها والإعزاز والتقرب إليها بالقرابين وأنت خبير بأنه لو سلم دلالة الأسماء المذكورة على ثبوت تلك المعانى الخاصة للأصنام فليس فى سلبها عنها مزيد فائدة بل إنما هى فى سلب الألوهية عنها كما هو زعمهم المشهور فى حق جميع الأصنام على وجه برهانى فإن انتفاء الموصوف يقتضى انتفاء الوصف بطريق الأولوية أى ما هى إلا أسماء خالية عن المسميات وضعتموها (أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) بمقتضى أهوائكم* الباطلة (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) برهان تتعلقون به (إِنْ يَتَّبِعُونَ) التفات إلى الغيبة للإيذان بأن* تعداد قبائحهم اقتضى الإعراض عنهم وحكاية جناياتهم لغيرهم أى ما يتبعون فيما ذكر من التسمية والعمل بموجبها (إِلَّا الظَّنَّ) إلا توهم أن ما هم عليه حق توهما باطلا (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أى تشتهيه أنفسهم* الأمارة بالسوء (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) قيل هى حال من فاعل يتبعون أو اعتراض وأيا ما كان* ففيه تأكيد لبطلان اتباع الظن وهوى النفس وزيادة تقبيح لحالهم فإن اتباعهما من أى شخص كان قبيح وممن هداه الله تعالى بإرسال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنزال الكتاب أقبح (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) أم منقطعة وما فيها من بل للانتقال من بيان أن ما هم عليه غير مستند إلا إلى توهمهم وهوى أنفسهم إلى بيان أن ذلك مما لا يجدى نفعا أصلا والهمزة للإنكار والنفى أى ليس للإنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسه من الأمور التى من جملتها أطماعهم الفارغة فى شفاعة الآلهة ونظائرها التى لا تكاد تدخل تحت الوجود (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) تعليل لانتفاء أن يكون للإنسان ما يتمناه حتما فإن اختصاص

١٥٩

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا) (٢٩)

____________________________________

أمور الآخرة والأولى جميعا به تعالى مقتض لانتفاء أن يكون له أمر من الأمور وقوله تعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) إقناط لهم عما علقوا به أطماعهم من شفاعة الملائكة لهم موجب لإقناطهم من شفاعة الأصنام بطريق الأولوية وكم خبرية مفيدة للتكثير محلها الرفع على الابتداء والخبر هى الجملة المنفية وجمع الضمير فى شفاعتهم مع إفراد الملك باعتبار المعنى أى وكثير من الملائكة* لا تغنى شفاعتهم عند الله تعالى شيئا من الإغناء فى وقت من الأوقات (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ) لهم* فى الشفاعة (لِمَنْ يَشاءُ) أن يشفعوا له (وَيَرْضى) ويراه أهلا للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فهم من إذن الله تعالى بمعزل ومن الشفاعة ألف منزل فإذا كان حال الملائكة فى باب الشفاعة كما ذكر فما ظنهم بحال الأصنام (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وبما* فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصى (لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ) المنزهين عن سمات النقصان* على الإطلاق يسمون كل واحد منهم (تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) فإن قولهم الملائكة بنات الله قول منهم بأن كلا منهم بنته سبحانه وهى التسمية بالأنثى وفى تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنها فى الشناعة والفظاعة واستتباع العقوبة فى الآخرة بحيث لا يجترىء عليها إلا من يؤمن بها رأسا وقوله تعالى (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) حال من فاعل يسمون أى يسمونهم والحال أنه لا علم لهم بما يقولون أصلا* وقرىء بها أى بالملائكة أو بالتسمية (إِنْ يَتَّبِعُونَ) فى ذلك (إِلَّا الظَّنَّ) الفاسد (وَإِنَّ الظَّنَّ) أى* جنس الظن كما يلوح به الإظهار فى موقع الإضمار (لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) من الإغناء فإن الحق الذى هو عبارة عن حقيقة الشىء لا يدرك إلا بالعلم والظن لا اعتداد به فى شأن المعارف الحقيقية وإنما يعتد به فى العمليات وما يؤدى إليها (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) أى عنهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوسل به إلى وصفهم بما فى حيز صلته من الأوصاف القبيحة وتعليل الحكم بها أى فأعرض عمن أعرض عن ذكرنا المفيد للعلم اليقينى وهو القرآن المنطوى على علوم الأولين والآخرين المذكر لأمور الآخرة أو عن ذكرنا كما ينبغى فإن ذلك مستتبع لذكر الآخرة وما فيها من الأمور المرغوب* فيها والمرهوب عنها (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) راضيا بها قاصرا نظره عليها والمراد النهى عن دعوته والاعتناء بشأنه قال من أعرض عما ذكر وانهمك فى الدنيا بحيث كانت هى منتهى همته وقصارى سعيه

١٦٠