تفسير أبي السّعود - ج ٩

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٩

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٠

١

٦٧ ـ سورة الملك

(مكية وهى ثلاثون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (٢)

____________________________________

(سورة الملك مكية وتسمى الواقية والمنجية لأنها تقى وتنجى قارئها من عذاب القبر وآياتها ثلاثون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) البركة والنماء والزيادة حسية كانت أو عقلية وكثرة الخير ودوامه أيضا ونسبتها إلى الله عزوجل على المعنى الأول وهو الأليق بالمقام باعتبار تعاليه عما سواه فى ذاته وصفاته وأفعاله وصيغة التفاعل للمبالغة فى ذلك فإن ما لا يتصور نسبته إليه تعالى من الصيغ كالتكبر ونحوه إنما تنسب إليه سبحانه باعتبار غاياتها وعلى الثانى باعتبار كثرة ما يفيض منه على مخلوقاته من فنون الخيرات والصيغة حينئذ يجوز أن تكون لإفادة نماء تلك الخيرات وازديادها شيئا فشيئا وآنافآنا بحسب حدوثها أو حدوث متعلقاتها ولاستقلالها بالدلالة على غاية الكمال وإنبائها عن نهاية التعظيم لم يجز استعمالها فى حق غيره سبحانه ولا استعمال غيرها من الصيغ فى حقه تبارك وتعالى وإسنادها إلى الموصول للاستشهاد بما فى حيز الصلة على تحقق مضمونها واليد مجاز عن القدرة التامة والاستيلاء الكامل أى تعالى وتعاظم بالذات عن كل ما سواه ذاتا وصفة وفعلا الذى بقبضة قدرته التصرف الكلى فى كل الأمور (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء (قَدِيرٌ) مبالغ فى القدرة عليه يتصرف فيه حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة والجملة معطوفة على الصلة مقررة لمضمونها مفيدة لجريان أحكام ملكه تعالى فى جلائل الأمور ودقائقها وقوله تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) شروع فى تفصيل بعض أحكام الملك وآثار القدرة وبيان ابتنائهما على قوانين الحكم والمصالح واستتباعهما لغايات جليلة والموصول بدل من الموصول الأول داخل معه فى حكم الشهادة بتعاليه تعالى والموت عند أصحابنا صفة وجودية مضادة للحياة وأما ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما من أنه تعالى خلق الموت فى صورة كبش أملح لا يمر بشىء ولا يجد رائحته شىء إلا مات وخلق الحياة فى صورة فرس بلقاء لا تمر بشىء ولا يجد رائحتها شىء إلا حيى فكلام وارد على منهاج التمثيل والتصوير وقيل هو عدم الحياة فمعنى خلقه حينئذ تقديره أو إزالة الحياة وأيا ما كان فالأقرب أن المراد به الموت الطارىء وبالحياة* ما قبله وما بعده لظهور مداريتهما لما ينطق به قوله تعالى (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فإن استدعاء ملاحظتهما لإحسان العمل مما لا ريب فيه مع أن نفس العمل لا يتحقق بدون الحياة الدنيوية وتقديم الموت لكونه

٢

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) (٣)

____________________________________

أدعى إلى إحسان العمل واللام متعلقة بخلق أى خلق موتكم وحياتكم على أن الألف واللام عوض عن المضاف إليه ليعاملكم معاملة من يختبركم أيكم أحسن عملا فيجازيكم على مراتب متفاوتة حسب تفاوت طبقات علومكم وأعمالكم فإن العمل غير مختص بعمل الجوارح ولذلك فسره عليه الصلاة والسلام بقوله أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع فى طاعة الله فإن لكل من القلب والقالب عملا خاصا به فكما أن الأول أشرف من الثانى كذلك الحال فى عمله كيف لا ولا عمل بدون معرفة الله عزوجل الواجبة على العباد إثر ذى أثير وإنما طريقها النظرى التفكر فى بدائع صنع الله تعالى والتدبر فى آياته المنصوبة فى الأنفس والآفاق وقد روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لا تفضلونى على يونس بن متى فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض قالوا وإنما كان ذلك التفكر فى أمر الله عزوجل الذى هو عمل القلب ضرورة أن أحدا لا يقدر على أن يعمل بجوارحه كل يوم مثل عمل أهل الأرض وتعليق فعل البلوى أى تعقيبه بحرف الاستفهام لا التعليق المشهور الذى يقتضى عدم إيراد المفعول أصلا مع اختصاصه بأفعال القلوب لما فيه من معنى العلم باعتبار عاقبته كالنظر ونظائره ولذلك أجرى مجراه بطريق التمثيل وقيل بطريق الاستعارة التبعية وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل لهم باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات والمقصد الأصلى من الابتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين مع تحقق أصل الإيمان والطاعة فى الباقين أيضا لكمال تعاضد الموجبات له وأما الإعراض عن ذلك فبمعزل من الاندراج تحت الوقوع فضلا عن الانتظام فى سلك الغاية للأفعال الإلهية وإنما هو عمل يصدر عن عامله بسوء اختياره من غير مصحح له ولا تقريب وفيه من الترغيب فى الترقى إلى معارج العلوم ومدارج الطاعات والزجر عن مباشرة نقائضها ما لا يخفى (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الذى لا يفوته من أساء العمل (الْغَفُورُ) لمن تاب منهم (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) قيل هو نعت للعزيز الغفور أو بيان أو بدل والأوجه أنه نصب أو رفع على المدح متعلق بالموصولين السابقين معنى وإن كان منقطعا عنهما إعرابا كما مر تفصيله فى قوله تعالى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) من سورة البقرة منتظم معهما فى سلك الشهادة بتعاليه إليه سبحانه ومع الموصول الثانى فى كونه مدارا للبلوى كما نطق به قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) وقوله تعالى (طِباقاً) صفة لسبع سموات أى مطابقة على أنه مصدر طابقت* النعل إذا خصفتها وصف به المفعول أو مصدر مؤكد لمحذوف هو صفتها أى طوبقت طباقا وقوله تعالى (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) صفة أخرى لسبع سموات وضع فيها خلق الرحمن موضع الضمير* للتعظيم والإشعار بعلة الحكم وبأنه تعالى خلقها بقدرته القاهرة رحمة وتفضلا وبأن فى إبداعها نعما

٣

(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ) (٧)

____________________________________

جليلة أو استئناف والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب ومن لتأكيد النفى أى ما ترى فيه شيئا من تفاوت أى اختلاف وعدم تناسب من الفوت فإن كلا من المتفاوتين يفوت* منه بعض ما فى الآخر وقرىء من تفوت ومعناهما واحد وقوله تعالى (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) متعلق به على معنى التسبيب حيث أخبر أو لا بأنه لا تفاوت فى خلقهن ثم قيل فارجع البصر حتى يتضح لك ذلك بالمعاينة ولا يبقى عندك شبهة ما والفطور الشقوق والصدوع جمع فطر وهو الشق يقال فطره فانفطر (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أى رجعتين أخريين فى ارتياد الخلل والمراد بالتثنية التكرير والتكثير* كما فى لبيك وسعديك أى رجعة بعد رجعة وإن كثرت (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) أى بعيدا محروما* من إصابة ما التمسه من العيب والخلل كأنه يطرد عن ذلك طردا بالصغار والقماءة (وَهُوَ حَسِيرٌ) أى كليل لطول المعاودة وكثرة المراجعة وقوله تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) بيان لكون خلق السموات فى غاية الحسن والبهاء إثر بيان خلوها عن شائبة القصور وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال الاعتناء بمضمونها* أى وبالله لقد زينا أقرب السموات إلى الأرض (بِمَصابِيحَ) أى بكواكب مضيئة بالليل إضاءة السرج من السيارات والثوابت تتراءى كأن كلها مركوزة فيها مع أن بعضها فى سائر السموات وما ذاك إلا لأن كل واحدة منها مخلوقة على نمط رائق تحار فى فهمه الأفكار وطراز فائق تهيم فى دركه الأنظار* (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) وجعلنا لها فائدة أخرى هى رجم أعدائكم بانقضاض الشهب المقتبسة من نار الكواكب وقيل معناه وجعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم المنجمون ولا* يساعده المقام والرجوم جمع رجم بالفتح وهو ما يرجم به (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ) فى الآخرة (عَذابَ السَّعِيرِ) بعد الاحتراق فى الدنيا بالشهب (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) من الشياطين وغيرهم (عَذابُ جَهَنَّمَ) وقرىء بالنصب على أنه عطف على عذاب السعير وللذين على لهم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أى جهنم (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها) أى لجهنم وهو متعلق بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى (شَهِيقاً) لأنه فى الأصل صفته فلما قدمت صارت حالا أى سمعوا كائنا لها شهيقا أى صوتا كصوت الحمير وهو حسيسها المنكر الفظيع* قالوا الشهيق فى الصدر والزفير فى الحلق (وَهِيَ تَفُورُ) أى والحال أنها تغلى بهم غليان المرجل بما فيه وجعل الشهيق لأهلها منهم وممن طرح فيها قبلهم كما فى قوله تعالى (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) يرده قوله تعالى

٤

(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) (١٠)

____________________________________

(تَكادُ تَمَيَّزُ) أى تتميز وتتفرق (مِنَ الْغَيْظِ) أى من شدة الغضب عليهم فإنه صريح فى أنه من آثار الغضب عليهم كما فى قوله تعالى (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) فأين هو من شهيقهم الناشىء من شدة ما يقاسونه من العذاب الأليم والجملة إما حال من فاعل تفور أو خبر آخر وقوله تعالى (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) استئناف* مسوق لبيان حال أهلها بعد بيان حال نفسها وقيل حال من ضميرها أى كلما ألقى فيها جماعة من الكفرة (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) بطريق التوبيخ والتقريع ليزدادوا عذابا فوق عذاب وحسرة على حسرة (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) يتلو عليكم آيات ربكم وينذركم لقاء يومكم هذا كما وقع فى سورة الزمر ويعرب عنه جوابهم أيضا (قالُوا) اعترافا بأنه تعالى قد أزاح عللهم بالكلية (بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) جامعين بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها مبالغة فى الاعتراف بمجىء النذير وتحسرا على ما فاتهم من السعادة فى تصديقهم وتمهيدا لبيان ما وقع منهم من التفريط تندما واغتماما على ذلك أى قال كل فوج من تلك الأفواج قد جاءنا نذير أى واحد حقيقة أو حكما كأنبياء بنى إسرائيل فإنهم حكم نذير واحد فأنذرنا وتلا علينا ما نزل الله تعالى عليه من آياته (فَكَذَّبْنا) ذلك النذير فى كونه نذيرا من جهته تعالى (وَقُلْنا) فى حق* ما تلاه من الآيات إفراطا فى التكذيب وتماديا فى النكير (ما نَزَّلَ اللهُ) على أحد (مِنْ شَيْءٍ) من* الأشياء فضلا عن تنزيل الآيات عليكم (إِنْ أَنْتُمْ) أى ما أنتم فى ادعاء أنه تعالى نزل عليكم آيات* تنذروننا بما فيها (إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) بعيد عن الحق والصواب وجمع ضمير الخطاب مع أن مخاطب* كل فوج نذيره لتغليبه على أمثاله مبالغة فى التكذيب وتماديا فى التضليل كما ينبىء عنه تعميم المنزل مع ترك ذكر المنزل عليه فإنه ملوح بعمومه حتما وأما إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل فأمر تحقيقى يصار إليه لتهويل ما ارتكبوه من الجنايات لا مساغ لاعتباره من جهتهم ولا لإدراجه تحت عبارتهم كيف لا وهو منوط بملاحظة إجماع النذر على ما لا يختلف من الشرائع والأحكام باختلاف العصور والأعوام وأين هم من ذلك وقد حال الجريض دون القريض هذا إذا جعل ما ذكر حكاية عن كل واحد من الأفواج وأما إذا جعل حكاية عن الكل فالنذير إما بمعنى الجمع لأنه فعيل أو مصدر مقدر بمضاف عام أى أهل نذير أو منعوت به فيتفق كلا طرفى الخطاب فى الجمعية ومن اعتبر الجمعية بأحد الوجوه الثلاثة على التقدير الأول ولم يخص اعتبارها بالتقدير الأخير فقد اشتبه عليه الشئون واختلط به الظنون وقد جوز أن يكون الخطاب من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول على أن مرادهم بالضلال ما كانوا عليه فى الدنيا أو هلاكهم أو عقاب ضلالهم تسمية له باسم سببه وأن يكون من كلام الرسل للكفرة وقد حكموه للخزانة فتأمل وكن على الحق المبين (وَقالُوا) أيضا معترفين بأنهم لم يكونوا

٥

(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤)

____________________________________

* ممن يسمع أو يعقل (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) كلاما (أَوْ نَعْقِلُ) شيئا (ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) أى فى عدادهم ومن انباعهم وهم الشياطين لقوله تعالى (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) كأن الخزنة قالوا لهم فى تضاعيف التوبيخ ألم تسمعوا آيات ربكم ولم تعقلوا معانيها حتى لا تكذبوا بها فأجابوا بذلك (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) * الذى هو كفرهم وتكذيبهم بآيات الله ورسله (فَسُحْقاً) بسكون الحاء وقرىء بضمها مصدر مؤكد إما لفعل متعد من المزيد بحذف الزوائد كما فى قعدك الله أى فأسحقهم الله أى أبعدهم من رحمته سحقا أى إسحاقا أو لفعل مترتب على ذلك الفعل أى فأسحقهم الله فسحقوا أى بعدوا سحقا أى بعدا كما فى قول من قال[وعضة دهريا ابن مروان لم تدع * من المال إلا مسحت أو مجلف] أى لم تدع فلم يبق* إلا مسحت الخ وعلى هذين الوجهين قوله تعالى (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) واللام فى قوله تعالى (لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) للبيان كما فى هيت لك ونحوه والمراد بهم الشياطين والداخلون فى عدادهم بطريق التغليب (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أى يخافون عذابه غائبا عنهم أو غائبين عنه أو عن أعين الناس أو بما خفى منهم وهو قلوبهم (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) عظيمة لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) لا يقادر قدره (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) بيان لتساوى السر والجهر بالنسبة إلى علمه تعالى كما فى قوله (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ) به قال ابن عباس رضى الله عنهما نزلت فى المشركين كانوا ينالون من النبى عليه الصلاة والسلام فيوحى إليه عليه الصلاة والسلام فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم كيلا يسمع رب محمد فقيل لهم أسروا ذلك أو اجهروا به فإن الله يعلمه وتقديم السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر والمبالغة فى بيان شمول علمه المحيط لجميع المعلومات كأن علمه تعالى بما يسرونه أقدر منه بما يجهرون به مع كونهما فى الحقيقة على السوية فإن علمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول صورها بل وجود كل شىء فى نفسه علم بالنسبة إليه تعالى أو لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة الجهر إذ ما من شىء يجهر به إلا وهو أو مباديه مضمر فى القلب يتعلق به الأسرار غالبا فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم* على تعلقه بحالته الثانية وقوله تعالى (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل لما قبله وتقرير له وفى صيغة الفعيل وتحلية الصدور بلام الاستغراق ووصف الضمائر بصاحبيتها من الجزالة ما لا غاية وراءه كأنه قيل إنه مبالغ فى الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة فى صدورهم بحيث لا تكاد تفارقها أصلا فكيف يخفى عليه ما تسرونه وتجهرون به ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب التى فى الصدر والمعنى إنه عليم بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها وقوله تعالى (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ)

٦

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (١٨)

____________________________________

إنكار ونفى لعدم إحاطة علمه تعالى بالمضمر والمظهر أى ألا يعلم السر والجهر من أوجد بموجب حكمته جميع الأشياء التى هما من جملتها وقوله تعالى (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) حال من فاعل يعلم مؤكدة للإنكار* والنفى أى ألا يعلم ذلك والحال أنه المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن ويجوز أن يكون من خلق منصوبا والمعنى ألا يعلم الله من خلقه والحال أنه بهذه المثابة من شمول العلم ولا مساغ لإخلاء العلم عن المفعول بإجرائه مجرى يعطى ويمنع على معنى ألا يكون عالما من خلق لأن الخلق لا يتأتى بدون العلم لخلو الحال حينئذ من الإفادة لأن نظم الكلام حينئذ ألا يكون عالما وهو مبالغ فى العلم (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) لينة يسهل عليكم السلوك فيها وتقديم لكم على مفعولى الجعل مع أن حقه التأخر عنهما للاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر فإن ما حقه التقديم إذا أخر لاسيما عند كون المقدم مما يدل على كون المؤخر من منافع المخاطبين تبقى النفس مترقبة لوروده فيتمكن لديها عند ذكره فضل تمكن والفاء فى قوله تعالى (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) لترتيب الأمر على الجعل المذكور أى فاسلكوا فى جوانبها* أو جبالها وهو مثل لفرط التذليل فإن منكب البعير أرق أعضائه وأنباها عن أن يطأه الراكب بقدمه فإذا جعل الأرض فى الذل بحيث يتأتى المشى فى مناكبها لم يبق منها شىء لم يتذلل (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) * والتمسوا من نعم الله تعالى (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أى المرجع بعد البعث لا إلى غيره فبالغوا فى شكر نعمه* وآلائه (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) أى الملائكة الموكلين بتدبير هذا العالم أو الله سبحانه على تأويل من فى السماء أمره وقضاؤه أو على زعم العرب حيث كانوا يزعمون أنه تعالى فى السماء أى أأمنتم من تزعمون أنه فى السماء وهو متعال عن المكان (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) بعد ما جعلها لكم ذلولا تمشون فى مناكبها* وتأكلون من رزقه لكفرانكم تلك النعمة أى يقلبها ملتبسة بكم فينيبكم فيها كما فعل بقارون وهو بدل اشتمال من من وقيل هو على حذف الجار أى من أن يخسف (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أى تضطرب ذهابا ومجيئا* على خلاف ما كانت عليه من الذل والاطمئنان (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) إضراب عن التهديد بما ذكر وانتقال إلى التهديد بوجه آخر أى بل أأمنتم من فى السماء (أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) أى حجارة من* السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل وقيل ريحا فيها حجارة وحصباء كأنها تقلع الحصباء لشدتها وقوتها وقيل هى سحاب فيها حجارة (فَسَتَعْلَمُونَ) عن قريب البتة (كَيْفَ نَذِيرِ) أى إنذارى عند مشاهدتكم* للمنذر به ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ وقرىء فسيعلمون بالياء (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أى من قبل كفار مكة من كفار الأمم السالفة كقوم نوح وعاد وأضرابهم والالتفات إلى الغيبة لإبراز

٧

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) (٢١)

____________________________________

* الإعراض عنهم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أى إنكارى عليهم بإنزال العذاب أى كان على غاية الهول والفظاعة وهذا هو مورد التأكيد القسمى لا تكذيبهم فقط وفيه من المبالغة فى تسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتشديد التهديد لقومه ما لا يخفى (أَوَلَمْ يَرَوْا) أغفلوا ولم ينظروا (إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) باسطات* أجنحتهن فى الجو عند طيرانها فإنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفا (وَيَقْبِضْنَ) ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن حينا فحينا للاستظهار به على التحرك وهو السر فى إيثار يقبضن الدال على تجدد القبض* تارة بعد تارة على قابضات (ما يُمْسِكُهُنَّ) فى الجو عند الصف والقبض على خلاف مقتضى الطبع (إِلَّا الرَّحْمنُ) الواسع رحمته كل شىء بأن برأهن على أشكال وخصائص وهيأهن للجرى فى الهواء والجملة* مستأنفة أو حال من الضمير فى يقبضن (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) يعلم كيفية إبداع المبدعات وتدبير المصنوعات وقوله تعالى (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) تبكيت لهم بنفى أن يكون لهم ناصر غير الله تعالى كما يلوح به التعرض لعنوان الرحمانية ويعضده قوله تعالى (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) أو ناصر من عذابه تعالى كما هو الأنسب بما سيأتى من قوله تعالى (إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) كقوله تعالى (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) فى المعنيين معا خلا أن الاستفهام هناك متوجه إلى نفس المانع وتحققه وههنا إلى تعيين الناصر لتبكيتهم بإظهار عجزهم عن تعيينه وأم منقطعة مقدرة ببل المفيدة للانتقال من توبيخهم على ترك التأمل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن تعاجيب آثار قدرة الله عزوجل إلى التبكيت بما ذكر والالتفات للتشديد فى ذلك ولا سبيل إلى تقدير الهمزة معها لأن ما بعدها من الاستفهامية وهى مبتدأ وهذا خبره والموصول مع صلته صفته كما فى قوله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ) وإيثار هذا لتحقير المشار إليه وينصركم صفة لجند باعتبار لفظه ومن دون الرحمن على الوجه الأول إما حال من فاعل ينصركم أو نعت لمصدره وعلى الثانى متعلق بينصركم كما فى قوله تعالى (مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) فالمعنى بل من هذا الحقير الذى هو فى زعمكم جند لكم ينصركم نصرا كائنا من دون نصره تعالى أو ينصركم من عذاب كائن من عند الله عزوجل وتوهم أن أم معادلة لقوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا) الخ مع القول بأن من* استفهامية مما لا تقريب له أصلا وقوله تعالى (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) اعتراض مقرر لما قبله ناع عليهم ما هم فيه من غاية الضلال أى ما هم فى زعمهم أنهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم لا بحفظه تعالى فقط أو أن آلهتهم تحفظهم من بأس الله إلا فى غرور عظيم وضلال فاحش من جهة الشيطان ليس لهم فى ذلك شىء يعتد به فى الجملة والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء حالهم للإعراض عنهم وبيان قبائحهم لغيرهم والإظهار فى موقع الإضمار لذمهم بالكفر وتعليل غرورهم به والكلام فى قوله تعالى (أَمَّنْ

٨

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٥)

____________________________________

هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ) أى الله عزوجل (رِزْقَهُ) بإمساك المطر وسائر مباديه كالذى مر تفصيله خلا أن قوله تعالى (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) منبىء عن مقدر يستدعيه المقام كأنه قيل إثر* تمام التبكيت والتعجيز لم يتأثروا بذلك ولم يذعنوا للحق بل لجوا وتمادوا فى عتو أى عناد واستكبار وطغيان ونفور أى شراد عن الحق وقوله تعالى (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى) الخ مثل ضرب للمشرك والموحد توضيحا لحالهما وتحقيقا لشأن مذهبهما والفاء لترتيب ذلك على ما ظهر من سوء حالهم وخرورهم فى مهاوى الغرور وركوبهم متن عشواء العتو والنفور وعدم اهتدائهم فى مسلك المحاجة إلى جهة يتوهم فيها رشد فى الجملة فإن تقدم الهمزة عليها صورة إنما هو لاقتضائها الصدارة وأما بحسب المعنى فالأمر بالعكس كما هو المشهور حتى لو كان مكان الهمزة هل لقيل فهل من يمشى مكبا الخ والمكب الساقط على وجهه يقال أكب خر على وجهه وحقيقته صار ذا كب ودخل فى الكب كأقشع الغمام أى صار ذا قشع والمعنى أفمن يمشى وهو يعثر فى كل ساعة ويخر على وجهه فى كل خطوة لتوعر طريقه واختلال قواه أهدى إلى المقصد الذى يؤمه (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) أى قائما سالما من الخبط والعثار (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) مستوى الأجزاء لا عوج فيه ولا انحراف قيل خبر من الثانية محذوف لدلالة خبر الأولى عليه ولا حاجة إلى ذلك فإن الثانية معطوفة على الأولى عطف المفرد على المفرد كقولك أزيد أفضل أم عمرو وقيل أريد بالمكب الأعمى وبالسوى البصير وقيل من يمشى مكبا هو الذى يحشر على وجهه إلى النار ومن يمشى سويا الذى يحشر على قدميه إلى الجنة (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) إنشاء بديعا (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ) لتسمعوا آيات الله وتمتثلوا بما فيها من الأوامر والنواهى وتتعظوا بمواعظها (وَالْأَبْصارَ) * لتنظروا بها إلى الآيات التكوينية الشاهدة بشؤن الله عزوجل (وَالْأَفْئِدَةَ) لتتفكروا بها فيما تسمعونه* وتشاهدونه من الآيات التنزيلية والتكوينية وترتقوا فى معارج الإيمان والطاعة (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) * أى باستعمالها فيما خلقت لأجله من الأمور المذكورة وقليلا نعت لمحذوف وما مزيدة لتأكيد القلة أى شكرا قليلا أو زمانا قليلا تشكرون وقيل القلة عبارة عن العدم (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أى خلقكم وكثركم فيها لا غيره (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) للجزاء لا إلى غيره اشتراكا أو استقلالا فابنوا أموركم* على ذلك (وَيَقُولُونَ) من فرط عتوهم وعنادهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) أى الحشر الموعود كما ينبىء عنه قوله تعالى (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يخاطبون به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين حيث كانوا*

٩

(قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٣٠)

____________________________________

مشاركين له عليه الصلاة والسلام فى الوعد وتلاوة الآيات المتضمنة له وجواب الشرط محذوف أى إن كنتم صادقين فيما تخبرونه من مجىء الساعة والحشر فبينوا وقته (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ) أى العلم بوقته (عِنْدَ اللهِ) عزوجل لا يطلع عليه غيره كقوله تعالى (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أنذركم وقوع الموعود لا محالة وأما العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار والفاء فى قوله تعالى (فَلَمَّا رَأَوْهُ) فصيحة معربة عن تقدير جملتين وترتيب الشرطية عليهما كأنه قيل وقد أتاهم الموعود فرأوه فلما رأوه إلى آخر كما مر تحقيقه فى قوله تعالى (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) إلا أن المقدر هناك أمر واقع مرتب* على ما قبله بالفاء وههنا أمر منزل منزلة الواقع وارد على طريقة الاستئناف وقوله تعالى (زُلْفَةً) حال من مفعول رأوا إما بتقدير المضاف أى ذا زلفة وقرب أو على أنه مصدر بمعنى الفاعل أى مزدلفا أو* على أنه مصدر نعت به مبالغة أو ظرف أى رأوه فى مكان ذى زلفة (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بأن غشيتها الكآبة ورهفها القتر والذلة ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بالكفر وتعليل المساءة* به (وَقِيلَ) توبيخا لهم وتشديدا لعذابهم (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أى تطلبونه فى الدنيا وتستعجلونه إنكارا واستهزاء على أنه تفتعلون من الدعاء وقيل هو من الدعوى أى تدعون أن لا بعث ولا حشر وقرىء تدعون هذا وقد روى عن مجاهد أن الموعود عذاب يوم بدر وهو بعيد (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أى أخبرونى* (إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ) أى أماتنى والتعبير عنه بالإهلاك لما كانوا يدعون عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى* المؤمنين بالهلاك (وَمَنْ مَعِيَ) من المؤمنين (أَوْ رَحِمَنا) بتأخير آجالنا فنحن فى جوار رحمته متربصون* لإحدى الحسنيين (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أى لا ينجيكم منه أحد متنا أو بقينا ووضع الكافرين موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالكفر وتعليل نفى الإنجاء به (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ) أى الذى* أدعوكم إلى عبادته مولى النعم كلها (آمَنَّا بِهِ) وحده لما علمنا أن كل ما سواه إما نعمة أو منعم عليه* (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) لا على غيره أصلا لعلمنا بأن ما عداه كائنا ما كان بمعزل من النفع والضر (فَسَتَعْلَمُونَ) عن قريب البتة (مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) منا ومنكم وقرىء فسيعلمون بالياء التحتانية (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أى* أخبرونى (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أى غائرا فى الأرض بالكلية وقيل بحيث لا تناله الدلاء وهو مصدر

١٠

٦٨ ـ سورة القلم

(مكية وهى إثنتان وخمسون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) (٢)

____________________________________

وصف به (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) جار أو ظاهر سهل المأخذ. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة* الملك فكأنه أحيا ليلة القدر.

(سورة القلم مكية إلا من آية ١٧ إلى آية ٣٣ ومن آية ٤٨ إلى آية ٥٠ فمدنية وآياتها اثنتان وخمسون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (ن) بالسكون على الوقف وقرىء بالكسر وبالفتح لالتقاء الساكنين ويجوز أن يكون الفتح بإضمار حرف القسم فى موضع الجر كقولهم الله لأفعلن بالجر وأن يكون ذلك نصبا اذكر لا فتحا كما سبق فى فاتحة سورة البقرة وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث على أنه علم للسورة ثم إن جعل اسما للحرف مسرودا على نمط التعديد للتحدى بأحد الطريقين المذكورين فى موقعه أو اسما للسورة منصوبا على الوجه المذكور أو مرفوعا على أنه خبر لمبتدأ محذوف فالواو فى قوله تعالى (وَالْقَلَمِ) * للقسم وإن جعل مقسما به فهى للعطف عليه وأيا ما كان فإن أريد به قلم اللوح والكرام الكاتبين فاستحقاقه للإعظام بالإقسام به ظاهر وإن أريد به الجنس فاستحقاق ما فى أيدى الناس لذلك لكثرة منافعه ولو لم يكن له مزية سوى كونه آلة لتحرير كتب الله عز قائلا لكفى به فضلا موجبا لتعظيمه وقرىء بإدغام النون فى الواو (وَما يَسْطُرُونَ) الضمير لأصحاب القلم المدلول عليهم بذكره وقيل للقلم على أن المراد* به أصحابه كأنه قيل وأصحاب القلم ومسطوراتهم على أن ما موصولة أو وسطرهم على أنها مصدرية وقيل للقلم نفسه بإسناد الفعل إلى الآلة وإجرائه مجرى العقلاء لإقامته مقامهم وقيل المراد بالقلم ما خط اللوح خاصة والجمع للتعظيم وقوله تعالى (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) جواب القسم والباء متعلقة بمضمر هو حال من الضمير فى خبرها والعامل فيها معنى النفى كأنه قيل أنت برىء من الجنون ملتبسا بنعمة الله التى هى النبوة والرياسة العامة والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معارج الكمال مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتشريفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيذان بأنه تعالى يتم نعمته عليه ويبلغه من العلو إلى غاية لا غاية وراءها والمراد تنزيهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما كانوا ينسبونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه من الجنون حسدا وعداوة ومكابرة مع جزمهم بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى غاية الغايات القاصية ونهاية

١١

(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (٨)

____________________________________

النهايات النائية من حصانة العقل ورزانة الرأى (وَإِنَّ لَكَ) بمقابلة مقاساتك ألوان الشدائد من جهتهم* وتحملك لأعباء الرسالة (لَأَجْراً) لثوابا عظيما لا يقادر قدره (غَيْرَ مَمْنُونٍ) مع عظمه كقوله تعالى (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أو غير ممنون عليك من جهة الناس فإنه عطاؤه تعالى بلا توسط (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) لا يدرك شأوه أحد من الخلق ولذلك تحتمل من جهتهم ما لا يكاد يحتمله البشر وسئلت عائشة رضى الله عنها عن خلقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت كان خلقه القرآن ألست تقرأ القرآن قد أفلح المؤمنون والجملتان معطوفتان على جواب القسم (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) قال ابن عباس رضى الله عنهما فستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتبين الحق من الباطل وقيل فستبصر ويبصرون فى الدنيا بظهور عاقبة أمركم بغلبة الإسلام واستيلائك عليهم بالقتل والنهب وصيرورتك مهيبا معظما فى قلوب العالمين وكونهم أذلة صاغرين قال مقاتل هذا وعيد بعذاب يوم بدر (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أى أيكم الذى فتن بالجنون والباء مزيدة أو بأيكم الجنون على أن المفتون مصدر كالمعقول والمجلود أو بأى الفريقين منكم المجنون أبفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين أى فى أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم وهو تعريض بأبى جهل بن هشام والوليد ابن المغيرة وأضربهما كقوله تعالى (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) تعليل لما ينبىء عنه ما قبله من ظهور جنونهم بحيث لا يخفى على أحد وتأكيدا لما فيه من الوعد والوعيد أى هو أعلم بمن ضل عن سبيله تعالى المؤدى إلى سعادة الدارين وهام فى تيه الضلال متوجها إلى ما يفيضه إلى الشقاوة الأبدية وهذا هو المجنون الذى لا يفرق بين النفع والضرر* بل يحسب الضرر نفعا فيؤثره والنفع ضررا فيهجره (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) إلى سبيله الفائزين بكل مطلوب الناجين عن كل محذوروهم العقلاء المراجيح فيجزى كلا من الفريقين حسبما يستحقه من العقاب والثواب وإعادة هو أعلم لزيادة التقرير والفاء فى قوله تعالى (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) لترتيب النهى على ما ينبىء عنه ما قبله من اهتدائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضلالهم أو على جميع ما فصل من أول السورة وهذا

١٢

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) (١٣)

____________________________________

تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم أى دم على ما أنت عليه من عدم طاعتهم وتصلب فى ذلك أو نهى عن مداهنتهم ومداراتهم بإظهار خلاف ما فى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم استجلابا لقلوبهم لا عن طاعتهم كما ينبىء عنه قوله تعالى (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) فإنه تعليل للنهى أو الانتهاء وإنما عبر عنها بالطاعة للمبالغة فى الزجر والتنفير أى أحبوا لو تلاينهم وتسامحهم فى بعض الأمور (فَيُدْهِنُونَ) أى فهم يدهنون حينئذ* أو فهم الآن يدهنون طمعا فى إدهانك وقيل هو معطوف على تدهن داخل فى حيز لو والمعنى ودوا لو يدهنون عقيب إدهانك ويأباه ما سيأتى من بدئهم بالإدهان على إدهانهم أمر محقق لا يناسب إدخاله تحت التمنى وأيا ما كان فالمعتبر فى جانبهم حقيقة الإدهان الذى هو إظهار الملاينة وإضمار خلافها وأما فى جانبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمعتبر بالنسبة إلى ودادتهم هو إظهار الملاينة فقط وأما إضمار خلافها فليس فى حيز الاعتبار بل هم فى غاية الكراهة له وإنما اعتباره بالنسبة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفى بعض المصاحف فيدهنوا على أنه جواب التمنى المفهوم من ودوا أو أن ما بعده حكاية لودادتهم وقيل على أنه عطف على تدهن بناء على أن لو بمنزلة أن الناصبة فلا يكون لها جواب وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا لودوا كأنه قيل ودوا أن تدهن فيدهنوا وقيل لو على حقيقتها وجوابها محذوف وكذا مفعول ودوا أى ودوا إدهانك لو تدهن فيدهنون لسروا بذلك (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) كثير الحلف فى الحق والباطل تقديم هذا الوصف على سائر الأوصاف الزاجرة عن الطاعة لكونه أدخل فى الزجر (مَهِينٍ) حقير الرأى والتدبير (هَمَّازٍ) عياب طعان (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) مضرب نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم فإن النميم والنميمة السعاية (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أى بخيل أو مناع للناس من الخير الذى هو الإيمان والطاعة والإنفاق (مُعْتَدٍ) متجاوز فى الظلم (أَثِيمٍ) كثير الآثام* (عُتُلٍّ) جاف غليظ من عتله إذا قاده بعنف وغلظة (بَعْدَ ذلِكَ) بعد ما عد من مثالبه (زَنِيمٍ) دعى مأخوذ من الزنمة وهى الهنة من جلد الماعزة تقطع فتخلى متدلية فى حلقها وفى قوله تعالى بعد ذلك دلالة على أن دعوته أشد معايبه وأقبح قبائحه قيل هو الوليد بن المغيرة فإنه كان دعيا فى قريش وليس من سنخهم ادعاه المغيرة بعد ثمانى عشرة من مولده وقيل هو الأخنس بن شريق أصله من ثقيف وعداده فى زهرة

١٣

(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ) (١٩)

____________________________________

(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) متلعق بقوله تعالى (لا تُطِعْ) أى لا تطع من هذه مثالبه لأن كان متمولا مستظهرا بالبنين وقوله تعالى (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) استئناف جار مجرى التعليل للنهى وقيل متعلق بما دل عليه الجملة الشرطية من معنى الجحود والتكذيب لا بجواب الشرط لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله كأنه قيل لكونه مستظهرا بالمال والبنين كذب بآياتنا وفيه أنه بدل أن مدار تكذيبه كونه ذا مال وبنين من غير أن يكون لسائر قبائحه دخل فى ذلك وقرىء أأن كان على معنى ألأن كان ذا مال كذب بها أو أتطيعه لأن كان ذا مال وقرىء إن كان بالكسر والشرط للمخاطب أى لا تطع كل حلاف شارطا يساره لأن إطاعة الكافر لغناه بمنزلة اشتراط غناه فى الطاعة (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) بالكى على أكرم مواضعه لغاية إهانته وإذلاله قيل أصاب أنف الوليد جراحة يوم بدر فبقيت علامتها وقيل معناه سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يعلم بها عن سائر الكفرة (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) أى أهل مكة بالقحط* بدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) وهم قوم من أهل الصلاة كانت لأبيهم هذه الجنة دون صنعاء بفرسخين فكان يأخذ منها قوت سنة ويتصدق بالباقى وكان ينادى الفقراء وقت الصرام ويترك لهم ما أخطأه المنجل وما فى أسفل الأكداس وما أخطأه القطاف من العنب وما بقى على البساط الذى يبسط تحت النخلة إذا صرمت فكان يجتمع لهم شىء كثير فلما مات أبوهم قال بنوه* إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر فحلفوا فيما بينهم وذلك قوله تعالى (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) ليقطعنها داخلين فى الصباح (وَلا يَسْتَثْنُونَ) أى لا يقولون إن شاء الله وتسميته استثناء مع أنه شرط من حيث إن مؤداه مؤدى الاستثناء فإن قولك لأخرجن إن شاء الله ولا أخرج إلا أن يشاء الله بمعنى واحد أو ولا يستثنون حصة المساكين كما كان يفعله أبوهم والجملة مستأنفة (فَطافَ عَلَيْها) أى على الجنة (طائِفٌ) بلاء طائف وقرىء طيف (مِنْ رَبِّكَ) مبتدأ من جهته تعالى (وَهُمْ نائِمُونَ) غافلون عما جرت به المقادير.

١٤

(فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) (٢٦)

____________________________________

(فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) كالبستان الذى صرمت ثماره بحيث لم يبق منها شىء فعيل بمعنى مفعول وقيل كالليل أى احترقت فأسودت وقيل كالنهار أى يبست وابيضت سميا بذلك لأن كلا منهما ينصرم عن صاحبه وقيل الصريم الرمال (فَتَنادَوْا) أى نادى بعضهم بعضا (مُصْبِحِينَ) داخلين فى الصباح (أَنِ اغْدُوا) أى اغدوا على أن أن مفسرة أو بأن اغدوا على أنها مصدرية أى اخرجوا غدوة (عَلى حَرْثِكُمْ) بستانكم* وضيعتكم وتعدية الغدو بعلى لتضمينه معنى الإقبال أو الاستيلاء (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) قاصدين للصرم* (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) أى يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة وخفى وخفت وخفد ثلاثتها فى معنى الكتم ومنه الخفدود للخفاش (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا) أى الجنة (الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) أن مفسرة لما فى التخافت من معنى القول وقرىء بطرحها على إضمار القول والمراد بنهى المسكين عن الدخول المبالغة فى النهى عن تمكينه من الدخول كقولهم لا أرينك ههنا (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) أى على نكد لا غير من جاردت السنة إذا لم يكن فيها مطر وحاردت الإبل إذا منعت درها والمعنى أنهم أرادوا أن يتنكدوا على المساكين ويحرموهم وهم قادرون على نفعهم فغدوا بحال لا يقدرون فيها إلا على النكد والحرمان وذلك أنهم طلبوا حرمان المساكين فتعجلوا الحرمان والمسكنة أو وغدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها قادرين بدل كونهم قادرين على إصابة خيرها ومنافعها أى غدوا حاصلين على النكد والحرمان مكان كونهم قادرين على الانتفاع وقيل الحرد الحرد وقد قرىء بذلك أى لم يقدروا إلا على حنق بعضهم لبعض لقوله تعالى (يَتَلاوَمُونَ) وقيل الحرد القصد والسرعة أى غدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وقيل هو علم للجنة (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا) فى بديهة رؤيتهم (إِنَّا لَضَالُّونَ) أى طريق جنتنا وما هى بها.

١٥

(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) (٣٢)

____________________________________

(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) قالوه بعد ما تأملوا ووقفوا على حقيقة الأمر مضربين عن قولهم الأول أى لسنا ضالين بل نحن محرمون حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أى رأيا أوسنا (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) لو لا تذكرون الله تعالى وتنوبون إليه من خبث نيتكم وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك اذكروا الله وتوبوا إليه عن هذه العزيمة الخيثة من فوركم وسارعوا إلى حسم شرها قبل حلول النقمة فعصوه فعيرهم كما ينبىء عنه قوله تعالى (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) وقيل المراد بالتسبيح الاستثناء لاشتراكهما فى التعظيم أو لأنه تنزيه له تعالى عن أن يجرى فى ملكه ما لا يشاؤه (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) أى يلوم بعضهم بعضا فإن منهم من أشار بذلك ومنهم من استصوبه ومنهم من سكت راضيا به ومنهم من أنكره (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) متجاوزين حدود الله (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا) وقرىء بالتشديد أى يعطينا بدلا منها ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة (خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) راجون العفو طالبون الخير وإلى لانتهاء الرغبة أو لتضمنها معنى الرجوع عن مجاهد تابوا فأبدلوا خيرا منها وروى أنهم تعاقدوا وقالوا إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنع أبونا فدعوا الله تعالى وتضرعوا إليه فأبدلهم الله تعالى من ليلتهم ما هو خير منها قالوا إن الله تعالى أمر جبريل عليه‌السلام أن يقتلع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بزغر من أرض الشام ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها وقال ابن مسعود رضى الله تعالى عنه إن القوم لما أخلصوا وعرف الله منهم الصدق أبدلهم جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا وقال أبو خالد اليمانى دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم وسئل قتادة عن أصحاب الجنة أهم من أهل الجنة أم من أهل النار فقال لقد كلفتنى تعبا وعن الحسن رحمه‌الله تعالى قول أصحاب الجنة إنا إلى ربنا راغبون لا أدرى إيمانا كان ذلك منهم أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة فتوقف فى أمرهم والأكثرون على أنهم تابوا وأخلصوا حكاه القشيرى.

١٦

(كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) (٣٩)

____________________________________

(كَذلِكَ الْعَذابُ) جملة من مبتدأ وخبر مقدم لإفادة القصر والألف واللام للعهد أى مثل الذى بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أعظم وأشد (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) * أنه أكبر لا حترزوا عما يؤديهم إليه (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) أى من الكفر والمعاصى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أى فى الآخرة أو فى جوار القدس (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص عن شائبة ما ينغصه من الكدورات* وخوف الزوال كما عليه نعيم الدنيا وقوله تعالى (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) تقرير لما قبله من فوز المتقين بجنات النعيم ورد لما يقوله الكفرة عند سماعهم بحديث الآخرة وما وعد الله المسلمين فيها فإنهم كانوا يقولون إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هى فى الدنيا وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا وأقصى أمرهم أن يساوونا والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أى أنحيف فى الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين ثم قيل لهم بطريق الالتفات لتأكيد الرد وتشديده (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) تعجيبا من حكمهم واستبعادا له وإيذانا بأنه لا يصدر عن عاقل (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ) نازل من السماء (فِيهِ تَدْرُسُونَ) أى تقرؤن (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أى ما تتخيرونه وتشتهونه وأصله أن لكم بالفتح لأنه مدروس فلما جىء باللام كسرت ويجوز أن يكون حكاية للمدروس كما هو كقوله تعالى (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) وتخير الشىء واختياره أخذ خيره (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا) أى عهود مؤكدة بالإيمان (بالِغَةٌ) متناهية فى التوكيد وقرئت بالنصب على الحال والعامل فيها أحد الظرفين (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلق بالمقدر فى لكم أى ثابتة لكم إلى يوم* القيامة لا نخرج عن عهدتها حتى نحكمكم يومئذ ونعطيكم ما تحكمون أو ببالغة أى أيمان تبلغ ذلك اليوم وتنتهى إليه وافرة لم تبطل منها يمين (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) جواب القسم لأن معنى أم لكم علينا أيمان*

١٧

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (٤٤)

____________________________________

أم أقسمنا لكم (سَلْهُمْ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإسقاطهم عن* رتبة الخطاب أى سلهم مبكتا لهم (أَيُّهُمْ بِذلِكَ) الحكم الخارج عن العقول (زَعِيمٌ) أى قائم يتصدى لتصحيحه (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) يشاركونهم فى هذا القول ويذهبون مذهبهم (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) فى دعواهم إذ لا أقل من التقليد وقد نبه فى هذه الآيات الكريمة على أن ليس لهم شىء يتوهم أن يتشبثوا به حتى التقليد الذى لا يفلح من تشبث بذيله وقيل المعنى أم لهم شركاء يجعلونهم مثل المسلمين فى الآخرة (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) أى يوم يشتد الأمر ويصعب الخطب وكشف الساق مثل فى ذلك وأصله تشمير المخدرات عن سوقهن فى الهرب قال حاتم[أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها * وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا] وقيل ساق الشىء أصله الذى به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان أى يوم يكشف عن أصل الأمر فتظهر حقائق الأمور وأصولها بحيث تصير عيانا وتنكيره للتهويل أو التعظيم وقرىء تكشف بالتاء على البناء للفاعل والمفعول والفعل للساعة أو الحال وقرىء نكشف بالنون وتكشف بالتاء المضمومة وكسر الشين من أكشف الأمر أى دخل فى الكشف وناصب الظرف فليأتوا أو مضمر مقدم أى اذكر يوم الخ أو مؤخر أى يوم يكشف عن ساق الخ يكون من* الأهوال وعظائم الأحوال ما لا يبلغه الوصف (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) توبيخا وتعنيفا على تركهم إياه* فى الدنيا وتحسيرا لهم على تفريطهم فى ذلك (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) لزوال القدرة عليه وفيه دلالة على أنهم يقصدون السجود فلا يتأتى منهم عن ذلك عن ابن مسعود رضى الله عنه تعقم أصلابهم أى ترد عظاما بلا مفاصل لا تنثنى عند الرفع والخفض وفى الحديث وتبقى أصلابهم طبقا واحدا أى فقارة واحدة (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) حال من مرفوع يدعون على أن أبصارهم مرتفع به على الفاعلية ونسبة الخشوع* إلى الأبصار لظهور أثره فيها (تَرْهَقُهُمْ) تلحقهم وتغشاهم (ذِلَّةٌ) شديدة (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) فى الدنيا والإظهار فى موضع الإضمار لزيادة التقرير أو لأن المراد به الصلاة أو ما فيها من السجود والدعوة* دعوة التكليف (وَهُمْ سالِمُونَ) متمكنون منه أقوى تمكن أى فلا يجيبون إليه ويأبونه وإنما ترك ذكره ثقة بظهوره (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) أى كله إلى فانى أكفيك أمره أى حسبك فى الإيقاع

١٨

(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٥٠)

____________________________________

به والانتقام منه أن تكل أمره إلى وتخلى بينى وبينه فإنى عالم بما يستحقه من العذاب ومطيق له والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها من أحوالهم المحكية أى وإذا كان حالهم فى الآخرة كذلك فذرنى ومن يكذب بهذا القرآن وتوكل على فى الانتقام منه وقوله تعالى (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) استئناف مسوق لبيان كيفية التعذيب* المستفاد من الأمر السابق إجمالا والضمير لمن والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد فى يكذب باعتبار لفظها أى سنستنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإحسان وإدامة الصحة وازدياد النعمة (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أنه استدراج وهو الإنعام عليهم بل يزعمون أنه إيثار لهم وتفضيل على المؤمنين مع أنه سبب لهلاكهم (وَأُمْلِي لَهُمْ) وأمهلهم ليزدادوا إثما وهم يزعمون أن ذلك لإرادة الخير بهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) لا يوقف عليه ولا يدفع بشىء وتسمية ذلك كيدا لكونه فى صورة الكيد (أَمْ تَسْئَلُهُمْ) على الإبلاغ والإرشاد (أَجْراً) دنيويا (فَهُمْ) لأجل ذلك (مِنْ مَغْرَمٍ) أى غرامة مالية (مُثْقَلُونَ) مكلفون حملا* ثقيلا فيعرضون عنك (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أى اللوح أو المغيبات (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) منه ما يحكمون ويستغنون به عن علمك (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) أى يونس عليه‌السلام (إِذْ نادى) فى بطن الحوت (وَهُوَ مَكْظُومٌ) مملوء غيظا والجملة حال من ضمير* نادى وعليها يدور النهى لا على النداء فإنه أمر مستحسن ولذلك لم يذكر المنادى وإذ منصوب بمضاف محذوف أى لا يكن حالك كحاله وقت ندائه أى لا يوجد منك ما وجد منه من المضجر والمغاضبة فتبتلى ببلائه (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وقرىء رحمة وهو توفيقه للتوبة وقبولها منه وحسن تذكير الفعل للفصل بالضمير وقرىء تداركته وتداركه أى تتداركه على حكاية الحال الماضية بمعنى لو لا أن كان يقال فيه تتداركه (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) بالأرض الخالية من الأشجار (وَهُوَ مَذْمُومٌ) مليم مطرود من الرحمة والكرامة* وهو حال من مرفوع نبذ عليها يعتمد جواب لو لا لأنها هى المنتفية لا النبذ بالعراء كما مر فى الحال الأولى والجملة الشرطية استئناف وارد لبيان كون المنهى عنه أمرا محذورا مستتبعا للغائلة وقوله تعالى (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) عطف على مقدر أى فتداركته نعمة من ربه فاجتباه بأن رد إليه الوحى وأرسله إلى

١٩

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٥٢)

____________________________________

* مائة ألف أو يزيدون وقيل استنبأه إن صح أنه لم يكن نبيا قبل هذه الواقعة (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) من الكاملين فى الصلاح بأن عصمه من أن يفعل فعلا يكون تركه أولى. روى أنها نزلت بأحد حين هم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو على المنهزمين من المؤمنين وقيل حين أراد أن يدعو على ثقيف (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) وقرىء ليزلقونك بفتح الياء من زلقه بمعنى أزلقه ويزهقونك وإن هى المخففة واللام دليلها والمعنى أنهم من شدة عداوتهم لك ينظرون إليك شزرا بحيث يكادون يزلون قدمك فيرمونك من قولهم نظر إلى نظرا يكاد يصرعنى أى لو أمكنه بنظره الصرع لفعله أو أنهم يكادون يصيبونك بالعين إذ قد روى أنه كان فى بنى أسد عيانون فأراد بعضهم أن يعين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت وفى الحديث أن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر ولعله* من خصائص بعض النفوس وعن الحسن دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أى وقت سماعهم بالقرآن على أن لما ظرفية منصوبة بيزلقونك وذلك لاشتداد بغضهم وحسدهم عند* سماعه (وَيَقُولُونَ) لغاية حيرتهم فى أمره عليه الصلاة والسلام ونهاية جهلهم بما فى تضاعيف القرآن من تعاجيب الحكم وبدائع العلوم المحجوبة عن العقول المنغمسة بأحكام الطبائع ولتنفير الناس عنه* (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) وحيث كان مدار حكمهم الباطل ما سمعوه منه عليه الصلاة والسلام رد ذلك ببيان علو شأنه وسطوع برهانه فقيل (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) على أنه حال من فاعل يقولون مفيدة لغاية بطلان قولهم وتعجيب السامعين من جرأتهم على تفوه تلك العظيمة أى يقولون ذلك والحال أنه ذكر للعالمين أى تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمور دينهم فأين من أنزل عليه ذلك وهو مطلع على أسراره طرا ومحيط بجميع حقائقه خبرا مما قالوا وقيل معناه شرف وفضل لقوله تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وقيل الضمير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكونه مذكرا وشرفا للعالمين لا ريب فيه. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة القلم أعطاه الله ثواب الذين حسن الله أخلاقهم.

٢٠