تفسير أبي السّعود - ج ١

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ١

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

لقاضى القضاة الامام أبى السعود

سبحان من أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ، وبين له من شعائر الشرائع كل ما جل ودق ، أنزل عليه أظهر بينات وأبهر حجج قرآنا عربيا غير ذى عوج ، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ، ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ، ناطقا بكل أمر رشيد هاديا إلى صراط العزيز الحميد آمرا بعبادة الصمد المعبود ، كتابا متشابها مثانى تقشعر منه الجلود ، تكاد الرواسى لهيبته تمور ويذوب منه الحديد ويميع صم الصخور ، حقيقا بأن يسير به الجبال ، وييسر به كل صعب محال ، معجزا أفحم كل مصقع من مهرة قحطان ، وبكت كل مفلق من سحرة البيان ، بحيث لو اجتمعت الإنس والجن على معارضته ومباراته لعجزوا عن الإتيان بمثل آية من آياته ، نزله عليه على فترة من الرسل ، ليرشد الأمة إلى أقوم السبل ، فهداهم إلى الحق وهم فى ضلال مبين ، فاضمحل دجى الباطل وسطع نور اليقين ، فمن اتبع هداه فقد فاز بمناه ، وأما من عانده وعصاه واتخذ إلهه هواه فقد هام فى موامى الردى وتردى فى مهاوى الزور ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ، صلى الله عليه وعلى آله الأخيار وصحبه الأبرار ما تناوبت الأنواء وتعاقبت الظلم والأضواء ، وعلى من تبعهم بإحسان مدى الدهور والأزمان.

وبعد : فيقول العبد الفقير إلى رحمة ربه الهادى (أبو السعود محمد بن محمد العمادى) إن الغاية القصوى من تحرير نسخة العالم وما كان حرف منها مسطورا والحكمة الكبرى فى تخمير طينة آدم ولم يكن شيئا مذكورا ليست إلا معرفة الصانع المجيد وعبادة البارىء المبدىء المعيد ، ولا سبيل إلى ذاك المطلب الجليل سوى الوقوف على مواقف التنزيل ، فإنه عز سلطانه وبهر برهانه وإن سطر آيات قدرته فى صحائف الأكوان ونصب رايات وحدته فى صفائح الأعراض والأعيان ، وجعل كل ذرة من ذرات العالم وكل قطرة من قطرات العلم وكل نقطة جرى عليها قلم الإبداع وكل حرف رقم فى لوح الإختراع مرآة لمشاهدة جماله ومطالعة صفات كماله حجة نيرة واضحة المكنون وآية بينة لقوم يعقلون ، برهانا جليا لا ريب فيه ومنهاجا سويا لا يضل من ينتحيه بل ناطقا يتلو آيات ربه ، فهل من سامع واع ومجيب صادق ، فهل له من داع يكلم الناس على قدر عقولهم ويرد جوابهم بحسب مقولهم يحاور تارة بأوضح عبارة ويلوح أخرى

٣

بألطف إشارة ، لكن الإستدلال بتلك الآيات والدلائل والإستشهاد بتيك الأمارات والمخايل والتنبيه لتلك الإشارات السرية والتفطن لمعانى تلك العبارات العبقرية وما فى تضاعيفها من رموز أسرار القضاء والقدر وكنوز آثار التعاجيب والعبر مما لا يطيق به عقول البشر إلا بتوفيق خلاق القوى والقدر فإذن مدار المراد ليس إلا كلام رب العباد إذ هو المظهر لتفاصيل الشعائر الدينية والمفسر لمشكلات الآيات التكوينية ، والكاشف عن خفايا حظائر القدس والمطلع على خبايا سرائر الأنس وبه تكتسب الملكات الفاخرة وبه يتوصل إلى سعادة الدنيا والآخرة كما وأنه أيضا من علو الشأن وسمو المكان ونهاية الغموض والإعضال وصعوبة المأخذ وعزة المنال فى غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية أعز من بيض الأنوق وأبعد من مناط العيوق لا يتسنى العروج إلى معارجه الرفيعة ولا يتأتى الرقى إلى مدارجه المنيعة كيف لا وأنه مع كونه متضمنا لدقائق العلوم النظرية والعملية ومنطوبا على دقائق الفنون الخفية والجلية حاويا لتفاصيل الأحكام الشرعية ومحيطا بمناط الدلائل الأصلية والفرعية منبئا عن أسرار الحقائق والنعوت مخبرا بأطوار الملك والملكوت عليه يدور فلك الأوامر والنواهى وإليه يستند معرفة الأشياء كما هى قد نسج على أغرب منوال وأبدع طراز واحتجبت طلعته بسبحات الإعجاز طويت حقائقه الأبية عن العقول وزويت دقائقه الخفية عن أذهان الفحول يرد عيون العقول سبحانه ويخطف أبصار البصائر بريقه ولمعانه. ولقد تصدى لتفسير غوامض مشكلاته أساطين أئمة التفسير فى كل عصر من الأعصار وتولى لتيسير عويصات معضلاته سلاطين أسرة التقرير والتحرير فى كل قطر من الأقطار فغاصوا فى لججه وخاضوا فى ثبجه فنظموا فرائده فى سلك التحرير وأبرزوا فوائده فى معرض التقرير وصنفوا كتبا جليلة الأقدار وألفوا زبرا جميلة الآثار.

أما المتقدمون المحققون فاقتصروا على تمهيد المعانى وتشييد المبانى وتبيين المرام وترتيب الأحكام حسبما بلغهم من سيد الأنام عليه شرائف التحية والسلام.

وأما المتأخرون المدققون فراموا مع ذلك إظهار مزاياه الرائقة وإبداء خباياه الفائقة ليعاين الناس دلائل إعجازه ويشاهدوا شواهد فضله وامتيازه عن سائر الكتب الكريمة الربانية والزبر العظيمة السبحانية فدونوا أسفارا بارعة جامعة لفنون المحاسن الرائعة يتضمن كل منها فوائد شريفة تقربها عيون الأعيان وعوائد لطيفة يتشنف بها آذان الأذهان لا سيما الكشاف وأنوار التنزيل المتفردان بالشأن الجليل والنعت الجميل فإن كلا منهما قد أحرز قصب السبق أى إحراز كأنه مرآة لاجتلاء وجه الإعجاز صحائفهما مرايا المزايا الحسان وسطورهما عقود الجمان وقلائد العقبان ولقد كان فى سوابق الأيام وسوالف الدهور والأعوام أوان اشتغالى بمطالعتهما وممارستهما وزمان انتصابى لمفاوضتهما ومدارستهما يدور فى خلدى على استمرار آناء الليل وأطراف النهار أن أنظم درر فوائدهما فى سمط دقيق وأرتب غرر فرائدهما على ترتيب أنيق وأضيف إليها ما ألفيته فى تضاعيف الكتب الفاخرة من جواهر الحقائق وصادفته فى أصداف العيالم الزاخرة من زواهر الدقائق وأسلك خلالها بطريق الترصيع على نسق أنيق وأسلوب بديع حسبما يقتضيه جلالة شأن التنزيل ويستدعيه جزالة نظمه الجليل ما سنح الفكر العليل بالعناية الربانية وسمح به

٤

النظر الكليل بالهداية السبحانية من عوارف معارف يمتد إليها أعناق الهمم من كل ماهر لبيب وغرائب رغائب ترنوا إليها أحداق الأمم من كل نحرير أريب وتحقيقات رصينة تقيل عثرات الأفهام فى مداحض الأقدام وتدقيقات متينة تزيل خطرات الأوهام من خواطر الأنام فى معارك أفكار يشتبه فيها الشؤن ومدارك أنظار يختلط فيها الظنون وأبرز من وراء أستار الكمون من دقائق السر المخزون فى خزائن الكتاب المكنون ما تطمئن إليه النفوس وتقر به العيون من خفايا الرموز وخبايا الكنوز وأهديها إلى الخزانة العامرة الغامرة للبحار الزاخرة لجناب من خصه الله تعالى بخلافة الأرض واصطفاه لسلطنتها فى الطول والعرض ألا وهو السلطان الأسعد الأعظم والخاقان الأمجد الأفخم مالك الإمامة العظمى والسلطان الباهر وارث الخلافة الكبرى كابرا عن كابر رافع رايات الدين الأزهر موضح آيات الشرع الأنور مرغم أنوف الفراعنة والجبابرة معفر جباه القياصرة والأكاسرة فاتح بلاد المشارق والمغارب بنصر الله العزيز وجنده الغالب الهمام الذى شرق عزمه المنير فانتهى إلى المشرق الأسنى وغرب حتى بلغ مغرب الشمس أو دنا بخميس عرمرم متزاحم الأفواج وعسكر كخضم متلاطم الأمواج فأصبح ما بين أفقى الطلوع والغروب وما بين نقطتى الشمال والجنوب منتظما فى سلك ولاياته الواسعة ومندرجا تحت ظلال راياته الرائعة فأصبجت منابر الربع المسكون مشرفة بذكر اسمه الميمون فياله من ملك استوعب ملكه البر البسيط واستعرق فلكه وجه البحر المحيط فكأنه فضاء ضربت فيه خيامه أو نصبت عليه ألويته وأعلامه مالك ممالك العالم ظل الله الظليل على كافة الأمم قاصم القياصرة وقاهر القروم سلطان العرب والعجم والروم وسلطان المشرقين وخاقان الخافقين الإمام المقتدر بالقدرة الربانية والخليفة المعتز بالعزة السبحانية المفتخر بخدمة الحرمين الجليلين المعظمين وحماية المقامين الجميلين المفخمين ناشر القوانين السلطانية عاشر الخواقين العثمانية السلطان ابن السلطان السلطان سليمان خان بن السلطان المظفر المنصور والخاقان الموقر المشهور صاحب المغازى المشهورة فى أقطار الأمصار والفتوحات المذكورة فى صحائف الأسفار السلطان سليم خان بن السلطان السعيد والخاقان المجيد السلطان بايزيد خان لا زالت سلسلة سلطنته متسلسلة إلى انتهاء سلسلة الزمان وأرواح أسلافه العظام متنزهة فى روضة الرضوان.

وكنت أتردد فى ذلك بين إقدام وإحجام لقصور شأنى وعزة المرام أين الحضيض من الذرى شتان بين الثريا والثرى وهيهات اصطياد العنقاء بالشباك واقتياد الجوزاء من بروج الأفلاك فمضت عليه الدهور والسنون وتغيرت الأطوار وتدلت الشئون فابتليت بتدبير مصالح العباد برهة فى قضاء البلاد وأخرى فى قضاء العساكر والأجناد فحال بينى وبين ما كنت أخال تراكم المهمات وتزاحم الأشغال وجموم العوارض والعلائق وهجوم الصوارف والعوائق والتردد إلى المغازى والأسفار والتنقل من دار إلى دار وكنت فى تضاعيف هاتيك الأمور أقدر فى نفسى أن أنتهز نهزة من الدهور ويتسنى لى القرار وتطمئن بى الدار وأظفر حينئذ بوقت خال أتبتل فيه إلى جناب ذى العظمة والجلال وأوجه إليه وجهتى وأسلم له سرى وعلانيتى وأنظر إلى كل شىء بعين الشهود وأتعرف سر الحق فى كل موجود تلافيا لما قد فات واستعدادا لما هو آت وأتصدى لتحصيل ما عزمت عليه وأتولى لتكميل ما توجهت إليه برفاهة واطمئنان وحضور

٥

قلب وفراغ جنان فبينما أنا فى هذا الخيال إذ بدا لى ما لم يخطر بالبال تحولت الأحوال والدهر حول فوقعت فى أمر أشق من الأول أمرت بحل مشكلات الأنام فيما شجر بينهم من النزاع والخصام فلقيت معضلة طويلة الذيول وصرت كالهارب من المطر إلى السيول فبلغ السيل الزبى وغمرنى أى غمر غوارب ما جرى بين زيد وعمر وفأضحيت فى ضيق المجال وسعة الأشغال أشهر ممن يضرب بها الأمثال فجعلت أتمثل بقول من قال :

لقد كنت أشكوك الحوادث برهة

وأستمرض الأيام وهى صحائح

إلى أن تغشتنى وقيت حوادث

تحقق أن السالفات منائح

فلما انصرمت عرى الآمال عن الفوز بفراغ البال ورأيت أن الفرصة على جناح الفوات وشمل الأسباب فى شرف الشتات وقد مسنى الكبر وتضاءلت القوى والقدر ودنا الأجل من الحلول وأشرفت شمس الحياة على الأفول عزمت على إنشاء ما كنت أنويه وتوجهت إلى إملاء ما ظلت أبتغيه ناويا أن أسميه عند تمامه بتوفيق الله تعالى وإنعامه (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم) فشرعت فيه مع تفاقم المكاره على وتزاحم المشادة بين يدى متضرعا إلى رب العظمة والجبروت خلاق عالم الملك والملكوت فى أن يعصمنى عن الزيغ والزلل ويقينى مصارع السوء فى القول والعمل ويوفقنى لتحصيل ما أرومه وأرجوه ويهدينى إلى تكميله على أحسن الوجوه ويجعله خير عدة وعتاد أتمتع به يوم المعاد فيامن توجهت وجوه الذل والإبتهال نحو بابه المنيع ورفعت أيدى الضراعة والسؤال إلى جنابه الرفيع أفض علينا شوارق أنوار التوفيق وأطلعنا على دقائق أسرار التحقيق وثبت أقدامنا على مناهج هداك وأنطقنا بما فيه أمرك ورضاك ولا تكلنا إلى أنفسنا فى لحظة ولا آن وخذ بناصيتنا إلى الخير حيث كان جئاك على جباه الإستكانة ضارعين ولأبواب فيضك قارعين أنت الملاذ فى كل أمرمهم وأنت المعاذ فى كل خطب ملم لارب غيرك ولا خير إلا خيرك بيدك مقاليد الأمور لك الخلق والأمر وإليك النشور.

٦

[سورة الفاتحة (١) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (٧)

سورة فاتحة الكتاب وهى سبع آيات

الفاتحة فى الأصل أول ما من شأنه أن يفتح كالكتاب والثوب أطلقت عليه لكونه واسطة فى فتح الكل ثم أطلقت على أول كل شىء فيه تدريج بوجه من الوجوه كالكلام التدريجى حصولا والسطور والأوراق التدريجية قراءة وعدا ، والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية أو هى مصدر بمعنى الفتح أطلقت عليه تسمية للمفعول باسم المصدر إشعارا بأصالته كأنه نفس الفتح فإن تعلقه به بالذات وبالباقى بواسطئه لكن لا على معنى أنه واسطة فى تعلقه بالباقى ثانيا حتى يرد أنه لا يتسنى فى الخاتمة لما أن ختم الشىء عبارة عن بلوغ آخره وذلك إنما يتحقق بعد انقطاع الملابسة عن أجزائه الأول بل على معنى أن الفتح المتعلق بالأول فتح له أولا وبالذات وهو بعينه فتح للمجموع بواسطته لكونه جزأ منه وكذا الكلام فى الخاتمة فإن بلوغ آخر الشىء يعرض للآخر أولا وبالذات وللكل بواسطته على الوجه الذى تحققته والمراد بالأول ما يعم الإضافى فلا حاجة إلى الإعتذار بأن إطلاق الفاتحة على السورة الكريمة بتمامها باعتبار جزئها الأول والمراد بالكتاب هو المجموع الشخصى لا القدر المشترك بينه وبين أجزائه على ما عليه اصطلاح أهل الأصول ولا ضير فى اشتهار السورة الكريمة بهذا الاسم فى أوائل عهد النبوة قبل تحصل المجموع بنزول الكل لما أن التسمية من جهة الله عز اسمه أو من جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإذن فيكفى فيها تحصله باعتبار تحققه فى علمه عزوجل أو فى اللوح أو باعتبار أنه أنزل جملة إلى السماء الدنيا وأملاه جبريل على السفرة ثم كان ينزله على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجو ما فى ثلاث وعشرين سنة كما هو المشهور والإضافة بمعنى اللام كما فى جزء الشىء لا بمعنى من كما فى خاتم فضة لما عرفت أن المضاف جزء من المضاف إليه لا جزئى له ومدار التسمية كونه مبدأ للكتاب على الترتيب المعهود لا فى القراءة فى الصلاة ولا فى التعليم ولا فى

٧

النزول كما قيل أما الأول فبين إذ ليس المراد بالكتاب القدر المشترك الصادق على ما يقرأ فى الصلاة حتى تعتبر فى التسمية مبدئيتها له وأما الاخيران فلأن اعتبار المبدئية من حيث التعليم أو من حيث النزول يستدعى مراعاة الترتيب فى بقية أجزاء الكتاب من تينك الحيثيتين ولا ريب فى أن الترتيب التعليمى والترتيب النزولى ليسا على نسق الترتيب المعهود وتسمى أم القرآن لكونها أصلا ومنشأ له إما لمبدئيتها له وإما لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله عزوجل والتعبد بأمره ونهيه وبيان وعده ووعيده أو على جملة معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية التى هى سلوك الصراط المستقيم والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء والمراد بالقرآن هو المراد بالكتاب وتسمى أم الكتاب أيضا كما يسمى بها اللوح المحفوظ لكونه أصلا لكل الكائنات والآيات الواضحة الدالة على معانيها لكونها بينة تحمل عليها المتشابهات ومناط التسمية ما ذكر فى أم القرآن لا ما أورده الإمام البخارى فى صحيحه من أنه يبدأ بقراءتها فى الصلاة فإنه مما لا تعلق له بالتسمية كما أشير إليه وتسمى سورة الكنز لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها أنزلت من كنز تحت العرش أو لما ذكر فى أم القرآن كما أنه الوجه فى تسميتها الأساس والكافية والوافية وتسمى سورة الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسئلة لاشتمالها عليها وسورة الصلاة لوجوب قراءتها فيها وسورة الشفاء والشافية لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هى شفاء من كل داء والسبع المثانى لأنها سبع آيات تثنى فى الصلاة أو لتكرر نزولها على ما روى أنها نزلت مرة بمكة حين فرضت الصلاة وبالمدينة أخرى حين حولت القبلة وقد صح أنها مكية لقوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) وهو مكى بالنص (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) اختلف الأئمة فى شأن التسمية فى أوائل السور الكريمة فقيل إنها ليست من القرآن أصلا وهو قول ابن مسعود رضى الله عنه ومذهب مالك والمشهور من مذهب قدماء الحنفية وعليه قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها وقيل إنها آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها وهو الصحيح من مذهب الحنفية وقيل هى آية تامة من كل سورة صدرت بها وهو قول ابن عباس وقد نسب إلى ابن عمر أيضا رضى الله عنهم وعليه يحمل إطلاق عبارة ابن الجوزى فى زاد المسير حيث قال روى عن ابن عمر رضى الله عنهما أنها أنزلت مع كل سورة وهو أيضا مذهب سعيد بن جبير والزهرى وعطاء وعبد الله بن المبارك وعليه قراء مكة والكوفة وفقهاؤهما وهو القول الجديد للشافعى رحمه‌الله ولذلك يجهر بها عنده فلا عبرة بما نقل عن الجصاص من أن هذا القول من الشافعى لم يسبقه إليه أحد وقيل إنها آية من الفاتحة مع كونها قرآنا فى سائر السور أيضا من غير تعرض لكونها جزأ منها أو لا ولا لكونها آية تامة أولا وهو أحد قولى الشافعى على ما ذكره القرطبى ونقل عن الخطابى أنه قول ابن عباس وأبى هريرة رضى الله عنهم وقيل إنها آية تامة فى الفاتحة وبعض فى البواقى وقيل بعض آية فى الفاتحة وآية تامة فى البواقى وقيل إنها بعض آية فى الكل وقيل إنها آيات من القرآن متعددة بعدد السور المصدرة بها من غير أن تكون جزأ منها وهذا القول غير معزى فى الكتب إلى أحد وهناك قول آخر ذكره بعض المتأخرين ولم ينسبه إلى أحد وهو إنها آية تامة فى الفاتحة وليست بقرآن فى سائر السور ولولا اعتبار كونها آية تامة لكان ذلك أحد محملى تردد الشافعى فإنه قد نقل عنه أنها بعض آية فى الفاتحة وأما فى غيرها فقوله فيها

٨

متردد فقيل بين أن يكون قرآنا أو لا وقيل بين أن يكون آية تامة أو لا قال الإمام الغزالى والصحيح من الشافعى هو التردد الثانى وعن أحمد بن حنبل فى كونها آية كاملة وفى كونها من الفاتحة روايتان ذكرهما ابن الجوزى ونقل أنه مع مالك وغيره ممن يقول أنها ليست من القرآن هذا والمشهور من هذه الأقاويل هى الثلاث الأول والاتفاق على إثباتها فى المصاحف مع الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله عزوجل يقضى بنفى القول الأول وثبوت القدر المشترك بين الأخيرين من غير دلالة على خصوصية أحدهما فإن كونها جزأ من القرآن لا يستدعى كونها جزأ من كل سورة منه كما لا يستدعى كونها آية منفردة منه وأما ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما من أن من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله تعالى وما روى عن أبى هريرة من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وما روى عن أم سلمة من أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ سورة الفاتحة وعد (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) آية وإن دل كل واحد منها على نفى القول الثانى فليس شىء منها نصا فى إثبات القول الثالث أما الأول فلأنه لا يدل إلا على كونها آيات من كتاب الله تعالى متعددة بعدد السور المصدرة بها لا على ما هو المطلوب من كونها آية تامة من كل واحدة منها إلا أن يلتجأ إلى أن يقال أن كونها آية متعددة بعدد السور المصدرة بها من غير أن تكون جزأ منها قول لم يقل به أحد وأما الثانى فساكت عن التعرض لحالها فى بقية السور وأما الثالث فناطق بخلافه مع مشاركته للثانى فى السكوت المذكور والباء فيها متعلقة بمضمر ينبئ عنه الفعل المصدر بها كما أنها كذلك فى تسمية المسافر عند الحلول والارتحال وتسمية كل فاعل عند مباشرة الأفعال ومعناها الإستعانة أو الملابسة تبركا أى باسم الله أقرأ أو أتلو وتقديم المعمول للإعتناء به والقصد إلى التخصيص كما فى إياك نعبد وتقدير أبدأ لاقتضائه اقتصار التبرك على البداية مخل بما هو المقصود أعنى شمول البركة للكل وادعاء أن فيه امتثالا بالحديث الشريف من جهة اللفظ والمعنى معا وفى تقدير اقرأ من جهة المعنى فقط ليس بشىء فإن مدار الامتثال هو البدء بالتسمية لا تقدير فعله إذ لم يقل فى الحديث الكريم كل أمر ذى بال لم يقل فيه أو لم يضمر فيه أبدأ وهذا إلى آخر السورة الكريمة مقول على ألسنة العباد تلقينا لهم وإراشادا إلى كيفية التبرك باسمه تعالى وهداية إلى منهاج الحمد وسؤال الفضل ولذلك سميت السورة الكريمة بما ذكر من تعليم المسألة وإنما كسرت ومن حق الحروف المفردة أن تفتح لاختصاصها بلزوم الحرفية والجر كما كسرت لام الأمر ولام الإضافة داخلة على المظهر للفصل بينهما وبين لام الإبتداء والاسم عند البصريين من الأسماء المحذوفة الأعجاز المبنية الأوائل على السكون قد أدخلت عليها عند الإبتداء همزة لأن من دأبهم البدء بالمتحرك والوقف على الساكن ويشهد له تصريفهم على أسماء وسمى وسميت وسمى كهدى لغة فيه قال[والله أسماك سمى مباركا آثرك الله به إيثاركا] والقلب بعيد غير مطرد واشتقاقه من السمو لأنه رفع للمسمى وتنويه له وعند الكوفيين من السمة وأصله وسم حذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليقل إعلالها ورد عليه بأن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره فى كلامهم ومن لغاتهم سم وسم قال باسم الذى فى كل سورة سمه وإنما لم يقل بالله للفرق بين اليمين والتيمن أو لتحقيق ما هو المقصود بالإستعانة ههنا فإنها تكون تارة بذاته تعالى وحقيقتها طلب المعونة على إيقاع

٩

الفعل وإحداثه أى إفاضة القدرة المفسرة عند الأصوليين من أصحابنا بما يتمكن به العبد من أداء مالزمه المنقسمة إلى ممكنة وميسرة وهى المطلوبة بإياك نستعين وتارة أخرى باسمه عز وعلا وحقيقتها طلب المعونة فى كون الفعل معتدا به شرعا فإنه ما لم يصدر باسمه تعالى يكون بمنزلة المعدوم ولما كانت كل واحدة من الإستعانتين واقعة وجب تعيين المراد بذكر الاسم وإلا فالمتبادر من قولنا بالله عند الإطلاق لا سيما عند الوصف بالرحمن الرحيم هى الإستعانة الأولى إن قيل فليحمل الباء على التبرك وليستغن عن ذكر الاسم لما أن التبرك لا يكون إلا به قلنا ذاك فرع كون المراد بالله هو الاسم وهل التشاجر إلا فيه فلا بد من ذكر الاسم لينقطع احتمال إرادة المسمى ويتعين حمل الباء على الإستعانة الثانية أو التبرك وإنما لم يكتب الألف لكثرة الإستعمال قالوا وطولت الباء عوضا عنها. و (اللهِ) أصله الإله فحذفت همزته على غير قياس كما ينبئ عنه وجوب الإدغام وتعويض الألف واللام عنها حيث لزماه وجردا عن معنى التعريف ولذلك قيل يا لله بالقطع فإن المحذوف القياسى فى حكم الثابث فلا يحتاج إلى التدارك بما ذكر من الإدغام والتعويض وقيل على قياس تخفيف الهمزة فيكون الإدغام والتعويض من خواص الاسم الجليل ليمتاز بذلك عما عداه امتياز مسماه عما سواه بما لا يوجد فيه من نعوت الكمال والإله فى الأصل اسم جنس يقع على كل معبود بحق أو باطل أى مع قطع النظر عن وصف الحقية والبطلان لامع اعتبار أحدهما لا بعينه ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم والصعق وأما الله بحذف الهمزة فعلم مختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره أصلا واشتقاقه من الإلاهة والألوهة والألوهية بمعنى العبادة حسبما نص عليه الجوهرى على أنه اسم منها بمعنى المألوه كالكتاب بمعنى المكتوب لا على أنه صفة منها بدليل أنه يوصف ولا يوصف به حيث يقال إله واحد ولا يقال شىء إله كما يقال كتاب مرقوم ولا يقال شىء كتاب والفرق بينهما أن الموضوع له فى الصفة هو الذات المبهمة باعتبار اتصافها بمعنى معين وقيامه بها فمدلولها مركب من ذات مبهمة لم يلاحظ معها خصوصية أصلا ومن معنى معين قائم بها على أن ملاك الأمر تلك الخصوصية فبأى ذات يقوم ذلك المعنى يصح إطلاق الصفة عليها كما فى الأفعال ولذلك تعمل عملها كاسمى الفاعل والمفعول والموضوع له فى الاسم المذكور هو الذات المعينة والمعنى الخاص فمدلوله مركب من ذينك المعنيين من غير رجحان للمعنى على الذات كما فى الصفة ولذلك لم يعمل عملها وقيل اشتقاقه من إله بمعنى تحير لأنه سبحانه يحار فى شأنه العقول والأفهام وأما أله كعبد وزنا ومعنى فمشتق من الإله المشتق من إله بالكسر وكذا تأله واستأله اشتقاق استنوق واستحجر من الناقة والحجر وقيل من أله إلى فلان أى سكن إليه لاطمئنان القلوب بذكره تعالى وسكون الأرواح إلى معرفته وقيل من أله إذا فزع من أمر نزل به وآلهه غيره إذا أجاره إذ العائذ به تعالى يفزع إليه وهو يجيره حقيقة أو فى زعمه وقيل أصله لاه على أنه مصدر من لاه يليه بمعنى احتجب وارتفع أطلق على الفاعل مبالغة وقيل هو اسم علم للذات الجليل ابتداء وعليه مدار أمر التوحيد فى قولنا لا إله إلا الله ولا يخفى أن اختصاص الاسم الجليل بذاته سبحانه بحيث لا يمكن إطلاقه على غيره أصلا كاف فى ذلك ولا يقدح فيه كون ذلك الاختصاص بطريق الغلبة بعد أن كان اسم جنس فى الأصل وقيل هو وصف فى الأصل لكنه لما

١٠

غلب عليه بحيث لا يطلق على غيره أصلا صار كالعلم ويرده امتناع الوصف به واعلم أن المراد بالمنكر فى كلمة التوحيد هو المعبود بالحق فمعناها لافراد من أفراد المعبود بالحق إلا ذلك المعبود بالحق وقيل أصله لاها بالسريانية فعرب بحذف الألف الثانية وإدخال الألف واللام عليه وتفخيم لامه إذا لم ينكسر ما قبله سنة وقيل مطلقا وحذف ألفه لحن تفسد به الصلاة ولا ينعقد به صريح اليمين وقد جاء لضرورة الشعر فى قوله[ألا لا بارك الله فى سهيل إذا ما الله بارك فى الرجال] . و (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) صفتان مبنيتان من رحم بعد جعله لازما بمنزلة الغرائز بنقله إلى رحم بالضم كما هو المشهور وقد قيل إن الرحيم ليس بصفة مشبهة بل هى صيغة مبالغة نص عليه سيبويه فى قولهم هو رحيم فلانا والرحمة فى اللغة رقة القلب والانعطاف ومنه الرحم لانعطافها على ما فيها والمراد ههنا التفضل والإحسان وإرادتهما بطريق إطلاق اسم السبب بالنسبة إلينا على مسببه البعيد أو القريب فإن أسماء الله تعالى تؤخذ باعتبار الغايات التى هى أفعال دون المبادىء التى هى انفعالات والأول من الصفات الغالبة حيث لم يطلق على غيره تعالى وإنما امتنع صرفه إلحاقا له بالأغلب فى بابه من غير نظر إلى الاختصاص العارض فإنه كما حظر وجود فعلى حظر وجود فعلانة فاعتباره يوجب اجتماع الصرف وعدمه فلزم الرجوع إلى أصل هذه الكلمة قبل الاختصاص بأن تقاس إلى نظائرها من باب فعل يفعل فإذا كان كلها ممنوعة من الصرف لتحقق وجود فعلى فيها علم أن هذه الكلمة أيضا فى أصلها مما تحقق فيها وجود فعلى فتمنع من الصرف وفيه من المبالغة ما ليس فى الرحيم ولذلك قيل يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا وتقديمه مع كون القياس تأخيره رعاية لأسلوب الترقى إلى الأعلى كما فى قولهم فلان عالم نحرير وشجاع باسل وجواد فياض لأنه باختصاصه به عزوجل صار حقيقا بأن يكون قرينا للاسم الجليل الخاص به تعالى ولأن ما يدل على جلائل النعم وعظائمها وأصولها أحق بالتقديم مما يدل على دقائقها وفروعها وإفراد الوصفين الشريفين بالذكر لتحريك سلسلة الرحمة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الحمد هو النعت بالجميل على الجميل اختياريا كان أو مبدأ له على وجه يشعر ذلك بتوجيهه إلى المنعوت وبهذه الحيثية يمتاز عن المدح فإنه خال عنها يرشدك إلى ذلك ما نرى بينهما من الاختلاف فى كيفية التعلق بالمفعول فى قولك حمدته ومدحته فإن تعلق الثانى بمفعوله على منهاج تعلق عامة الأفعال بمفعولاتها وأما الأول فتعلقه بمفعوله منبىء عن معنى الإنهاء كما فى قولك كلمته فإنه معرب عما يقيده لام التبليغ فى قولك قلت له ونظيره وشكرته وعبدته وخدمته فإن تعلق كل منها منبئ عن المعنى المذكور وتحقيقه أن مفعول كل فعل فى الحقيقة هو الحدث الصادر عن فاعله ولا يتصور فى كيفية تعلق الفعل به أى فعل كان اختلاف أصلا وأما المفعول به الذى هو محله وموقعه فلما كان تعلقه به ووقوعه عليه على أنحاء مختلفة حسبما يقتضيه خصوصيات الأفعال بحسب معانيها المختلفة فإن بعضها يقتضى أن يلابسه ملابسة تامة مؤثرة فيه كعامة الأفعال وبعضها يستدعى أن يلابسه أدنى ملابسة إما بالانتهاء إليه كالإعانة مثلا أو بالإبتداء منه كالإستعانة مثلا اعتبر فى كل نحو من أنحاء تعلقه به كيفية لائقة بذلك النحو مغايرة لما اعتبر فى النحوين الأخيرين فنظم القسم الأول من التعلق فى سلك التعلق بالمفعول الحقيقى مراعاة لقوة الملابسة وجعل كل واحد من القسمين الأخيرين

١١

من قبيل التعلق بواسطة الجار المناسب له فإن قولك أعنته مشعر بانتهاء الإعانة إليه وقولك استعنته بابتدائها منه وقد يكون لفعل واحد مفعولان يتعلق بأحدهما على الكيفية الأولى وبالآخر على الثانية أو الثالثة كما فى قولك حدثنى الحديث وسألنى المال فإن التحديث مع كونه فعلا واحدا قد تعلق بك على الكيفية الثانية وبالحديث على الأولى وكذا السؤال فإنه فعل واحد وقد تعلق بك على الكيفية الثالثة وبالمال على الأولى ولا ريب فى أن اختلاف هذه الكيفيات الثلاث وتباينها واختصاص كل من المفاعيل المذكورة بما نسب إليه منها مما لا يتصور فيه تردد ولا نكير وإن كان لا يتضح حق الاتضاح إلا عند الترجمة والتفسير وإن مدار ذلك الاختلاف ليس إلا اختلاف الفعل أو اختلاف المفعول وإذ لاختلاف فى مفعول الحمد والمدح تعين أن اختلافهما فى كيفية التعلق لاختلافهما فى المعنى قطعا هذا وقد قيل المدح مطلق عن قيد الإختيار يقال مدحت زيدا على حسنه ورشاقة قده وأيا ما كان فليس بينهما ترادف بل أخوة من جهة الاشتقاق الكبير وتناسب تام فى المعنى كالنصر والتأييد فإنهما متناسبان معنى من غير ترادف لما ترى بينهما من الاختلاف فى كيفية التعلق بالمفعول وإنما مرادف النصر الإعانة ومرادف التأييد التقوية فتدبر ثم إن ما ذكر من التفسير هو المشهور من معنى الحمد واللائق بالإرادة فى مقام التعظيم وأما ما ذكر فى كتب اللغة من معنى الرضى مطلقا كما فى قوله تعالى (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) وفى قولهم لهذا الأمر عاقبة حميدة وفى قول الأطباء بحران محمود مما لا يختص بالفاعل فضلا عن الإختيار فبمعزل عن استحقاق الإرادة ههنا استقلالا أو استتباعا بحمل الحمد على ما يعم المعنيين إذ ليس فى إثباته له عزوجل فائدة يعتد بها وأما الشكر فهو مقابلة النعمة بالثناء وآداب الجوارح وعقد القلب على وصف المنعم بنعت الكمال كما قال من قال[أفادتكم النعماء منى ثلاثة يدى ولسانى والضمير المحجبا فإذن هو أعم منهما من جهة وأخص من أخرى ونقيضه الكفران ولما كان الحمد من بين شعب الشكر أدخل فى إشاعة النعمة والاعتداد بشأنها وأدل على مكانها لما فى عمل القلب من الخفاء وفى أعمال الجوارح من الاحتمال جعل الحمد رأس الشكر وملاكا لأمره فى قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده وارتفاعه بالابتداء وخبره الظرف وأصله النصب كما هو شأن المصادر المنصوبة بأفعالها المضمرة التى لا تكاد تستعمل معها نحو شكرا وعجبا كأنه قيل نحمد الله حمدا بنون الحكاية ليوافق ما فى قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لاتحاد الفاعل فى الكل وأما ما قيل من أنه بيان لحمدهم له تعالى كأنه قيل كيف تحمدون فقيل إياك نعبد فمع أنه لا حاجة إليه مما لا صحة له فى نفسه فإن السؤال المقدر لابد أن يكون بحيث يقتضيه انتظام الكلام وينساق إليه الأذهان والأفهام ولا ريب فى أن الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفية اللائقة لا يخطر ببال أحد أن يسأل عن كيفيته على أن ما قدر من السؤال غير مطابق للجواب فإنه مسوق لتعيين المعبود لا لبيان العبادة حتى يتوهم كونه بيانا لكيفية حمدهم والاعتذار بأن المعنى نخصك بالعبادة وبه يتبين كيفية الحمد تعكيس للأمر وتمحل لتوفيق المنزل المقرر بالموهوم المقدر وبعد اللتيا والتى أن فرض السؤال من جهته عزوجل فأتت نكتت الإلتفات التى أجمع عليها السلف والخلف وإن فرض من جهة الغير يختل النظام لابتناء الجواب على خطابه تعالى

١٢

وبهذا يتضح فساد ما قيل أنه استئناف جوابا لسؤال يقتضيه إجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها فكأنه قيل ما شأنكم معه وكيف توجهكم إليه فأجيب بحصر العبادة والاستعانة فيه فإن تناسى جانب السائل بالكلية وبناء الجواب على خطابه عز وعلا مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله والحق الذى لا محيد عنه أنه استئناف صدر عن الحامد بمحض ملاحظة اتصافه تعالى بما ذكر من النعوت الجليلة الموجبة للإقبال الكلى عليه من غير أن يتوسط هناك شىء آخر كما ستحيط به خبرا وإيثار الرفع على النصب الذى هو الأصل للإيذان بأن ثبوت الحمد له تعالى لذاته لا لإثبات مثبت وأن ذلك أمر دائم مستمر لا حادث متجدد كما تفيده قراءة النصب وهو السر فى كون تحية الخليل للملائكة عليهم التحية والسلام أحسن من تحيتهم له فى قوله تعالى (قالُوا سَلاماً) قال سلام وتعريفه للجنس ومعناه الإشارة إلى الحقيقة من حيث هى حاضرة فى ذهن السامع والمراد تخصيص حقيقة الحمد به تعالى المستدعى لتخصيص جميع أفرادها به سبحانه على الطريق البرهانى لكن لا بناء على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى فتكون الأفراد الواقعة بمقابلة ما صدر عنهم من الأفعال الجميلة راجعة إليه تعالى بل بناء على تنزيل تلك الأفراد ودواعيها فى المقام الخطابى منزلة العدم كيفا وكما وقد قيل للإستغراق الحاصل بالقصد إلى الحقيقة من حيث تحققها فى ضمن جميع افرادها حسبما يقتضيه المقام وقرىء الحمد لله بكسر الدال اتباعا لها باللام وبضم اللام اتباعا لها بالدال بناء على تنزيل الكلمتين لكثرة استعمالهما مقترنتين منزلة كلمة واحدة مثل المغيرة ومنحدر الجبل. (رَبِّ الْعالَمِينَ) بالجر على أنه صفة لله فإن إضافته حقيقية مفيدة للتعريف على كل حال ضرورة تعين إرادة الاستمرار وقرىء منصوبا على المدح أو بما دل عليه الجملة السابقة كأنه قيل نحمد الله رب العالمين ولا مساغ لنصبه بالحمد لقلة أعمال المصدر المحلى باللام وللزوم الفصل بين العامل والمعمول بالخبر والرب فى الأصل مصدر بمعنى التربية وهى تبليغ الشىء إلى كماله شيئا فشيئا وصف به الفاعل مبالغة كالعدل وقيل صفة مشبهة من ربه يربه مثل نمه ينمه بعد جعله لازما بنقله إلى فعل بالضم كما هو المشهور سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيد كرب الدار ورب الدابة ومنه قوله تعالى (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) وقوله تعالى (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) وما فى الصحيحين من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا يقل أحدكم أطعم ربك وضىء ربك ولا يقل أحدكم ربى وليقل سيدى ومولاى فقد قيل إن النهى فيه للتنزيه وأما الأرباب فحيث لم يكن إطلاقه على الله سبحانه جاز فى إطلاقه الإطلاق والتقييد كما فى قوله تعالى (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ) الآية والعالم اسم لما يعلم به كالخاتم والقالب غلب فيما يعلم به الصانع تعالى من المصنوعات أى فى القدر المشترك بين أجناسها وبين مجموعها فإنه كما يطلق على كل جنس جنس منها فى قولهم عالم الأفلاك وعالم العناصر وعالم النبات وعالم الحيوان إلى غير ذلك يطلق على المجموع أيضا كما فى قولنا العالم بجميع أجزائه محدث وقيل هو اسم لأولى العلم من الملائكة والثقلين وتناوله لما سواهم بطريق الاستتباع وقيل أريد به الناس فقط فإن كل واحد منهم من حيث اشتماله على نظائر ما فى العالم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم بما فيه عالم على حياله ولذلك أمر بالنظر فى الأنفس كالنظر فى الآفاق فقيل (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) والأول هو الأحق الأظهر وإيثار صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع

١٣

الأجناس والتعريف لاستغراق أفراد كل منها بأسرها إذ لو أفرد لربما توهم أن المقصود بالتعريف هو الحقيقة من حيث هى أو استغراق إفراد جنس واحد على الوجه الذى أشير إليه فى تعريف الحمد وحيث صح ذلك بمساعدة التعريف نزل العالم وإن لم ينطلق على آحاد مدلوله منزلة الجمع حتى قيل أنه جمع لا واحد له من لفظه فكما أن الجمع المعرف يستغرق آحاد مفرده وإن لم يصدق عليها كما فى مثل قوله تعالى (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أى كل محسن كذلك العالم يشمل أفراد الجنس المسمى به وإن لم ينطلق عليها كأنها آحاد مفرده التقديرى ومن قضية هذا التنزيل تنزيل جمعه منزلة جمع الجمع فكما أن الأقاويل يتناول كل واحد من آحاد الأقوال يتناول لفظ العالمين كل واحد من آحاد الأجناس التى لا تكاد تحصى روى عن وهب ابن منبه أنه قال لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم والدنيا عالم منها وإنما جمع بالواو والنون مع اختصاص ذلك بصفات العقلاء وما فى حكمها من الأعلام لدلالته على معنى العلم مع اعتبار تغليب العقلاء على غيرهم واعلم أن عدم انطلاق اسم العالم على كل واحد من تلك الآحاد ليس إلا باعتبار الغلبة والاصطلاح وأما باعتبار الأصل فلا ريب فى صحة الإطلاق قطعا لتحقق المصداق حتما فإنه كما يستدل على الله سبحانه بمجموع ما سواه وبكل جنس من أجناسه يستدل عليه تعالى بكل جزء من أجزاء ذلك المجموع وبكل فرد من أفراد تلك الأجناس لتحقق الحاجة إلى المؤثر الواجب لذاته فى الكل فإن كل ما ظهر فى المظاهر مما عز وهان وحضر فى هذه المحاضر كائنا ما كان دليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى عالم التوحيد وأما شمول ربوبيته عزوجل للكل فمما لا حاجة إلى بيانه إذ لا شىء مما أحدق به نطاق الإمكان والوجود من العلويات والسفليات والمجردات والماديات والروحانيات والجسمانيات إلا وهو فى حد ذاته بحيث لو فرض انقطاع آثار التربية عنه آنا واحدا لما استقر له القرار ولا اطمأنت به الدار إلا فى مطمورة العدم ومهاوى البوار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس فى كل زمان يمضى وكل آن يمر وينقضى من فنون الفيوض المتعلقة بذاته ووجوده وصفاته وكمالاته ما لا يحيط به فلك التعبير ولا يعلمه إلا العليم الخبير ضرورة أنه كما لا يستحق شىء من الممكنات بذاته الوجود ابتداء لا يستحقه بقاء وإنما ذلك من جناب المبدأ الأول عز وعلا فكما لا يتصور وجوده ابتداء ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلى لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارىء لما أن الدوام من خصائص الوجود الواجبى وظاهر أن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التى هى علله وشرائطه وإن كانت متناهية لوجوب تناهى ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التى لها دخل فى وجوده وهى المعبر عنها بارتفاع الموانع ليست كذلك إذ لا استحالة فى أن يكون لشىء واحد موانع غير متناهية يتوقف وجوده أو بقاؤه على ارتفاعها أى بقائها على العدم مع إمكان وجودها فى نفسها فإبقاء تلك الموانع التى لا تتناهى على العدم تربية لذلك الشىء من وجوه غير متناهية وبالجملة فآثار تربيته عزوجل الفائضة على كل فرد من أفراد الموجودات فى كل آن من آنات الوجود غير متناهية فسبحانه سبحانه ما أعظم سلطانه لا تلاحظه العيون بأنظارها ولا تطالعه العقول بأفكارها شأنه لا يضاهى وإحسانه لا يتناهى ونحن فى معرفته حائرون وفى إقامة مراسم شكره قاصرون نسألك اللهم الهداية

١٤

إلى مناهج معرفتك والتوفيق لأداء حقوق نعمتك لا نحصى ثناء عليك لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) صفتان لله فإن أريد بما فيهما من الرحمة ما يختص بالعقلاء من العالمين أو ما يفيض على الكل بعد الخروج إلى طور الوجود من النعم فوجه تأخيرهما عن وصف الربوبية ظاهر وإن أريد ما يعم الكل فى الأطوار كلها حسبما فى قوله تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فوجه الترتيب أن التربية لا تقتضى المقارنة للرحمة فإيرادهما فى عقبها للإيذان بأنه تعالى متفضل فيها فاعل بقضية رحمته السابقة من غير وجوب عليه وبأنها واقعة على أحسن ما يكون والاقتصار على نعته تعالى بهما فى التسمية لما أنه الأنسب بحال المتبرك المستعين باسمه الجليل والأوفق لمقاصده. (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) صفة رابعة له تعالى وتأخيرها عن الصفات الأول مما لا حاجة إلى بيان وجهه وقرأ أهل الحرمين المحترمين ملك من الملك الذى هو عبارة عن السلطان القاهر والإستيلاء الباهر والغلبة التامة والقدرة على التصرف الكلى فى أمور العامة بالأمر والنهى وهو الأنسب بمقام الإضافة إلى يوم الدين كما فى قوله تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) وقرىء ملك بالتخفيف وملك بلفظ الماضى ومالك بالنصب على المدح أو الحال وبالرفع منونا ومضافا على أنه خبر مبتدأ محذوف وملك مضافا بالرفع والنصب واليوم فى العرف عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها من الزمان وفى الشرع عما بين طلوع الفجر الثانى وغروب الشمس والمراد ههنا مطلق الوقت والدين الجزاء خيرا كان أو شرا ومنه الثانى فى المثل السائر كما تدين تدان والأول فى بيت الحماسة[ولم يبق سوى العدوان دناهم كما دانوا وأما الأول فى الأول والثانى فى الثانى فليس بجزاء حقيقة وإنما سمى به مشاكلة أو تسمية للشىء باسم مسببه كما سميت إرادة القيام والقراءة باسمهما فى قوله عز اسمه (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) وقوله تعالى (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) ولعله هو السر فى بناء المفاعلة من الأفعال التى تقوم أسبابها بمفعولاتها نحو عاقبت اللص ونظائره فإن قيام السرقة التى هى سبب للعقوبة باللص نزل منزلة قيام المسبب به وهى العقوبة فصار كأنها قامت بالجانبين وصدرت عنهما فبنيت صيغة المفاعلة الدالة على المشاركة بين الإثنين وإضافة اليوم إليه لأدنى ملابسة كإضافة سائر الظروف الزمانية إلى ما وقع فيها من الحوادث كيوم الأحزاب وعام الفتح وتخصيصه من بين سائر ما يقع فيه من القيامة والجمع والحساب لكونه أدخل فى الترغيب والترهيب فإن ما ذكر من القيامة وغيرها من مبادىء الجزاء ومقدماته وإضافة مالك إلى اليوم من إضافة اسم الفاعل إلى الظرف على نهج الإتساع المبنى على إجرائه مجرى المفعول به مع بقاء المعنى على حاله كقولهم يا سارق الليلة أهل الدار أى مالك أمور العالمين كلها فى يوم الدين وخلو إضافته عن إفادة التعريف المسوغ لوقوعه صفة للمعرفة إنما هو إذا أريد به الحال أو الإستقبال وأما عند إرادة الإستمرار الثبوتى كما هو اللائق بالمقام فلا ريب فى كونها إضافة حقيقية كإضافة الصفة المشبهة إلى غير معمولها فى قراءة ملك يوم الدين ويوم الدين وإن لم يكن مستمرا فى جميع الأزمنة إلا أنه لتحقق وقوعه وبقائه أبدا أجرى مجرى المتحقق المستمر ويجوز أن يراد به الماضى بهذا الاعتبار كما يشهد به القراءة على صيغة الماضى وما ذكر من إجراء الظرف مجرى المفعول به إنما هو من حيث المعنى لا من حيث الإعراب حتى يلزم كون الإضافة لفظية ألا ترى أنك تقول فى مالك عبده

١٥

أمس أنه مضاف إلى المفعول به على معنى أنه كذلك معنى لا أنه منصوب محلا وتخصيصه بالإضافة إما لتعظيمه وتهويله أو لبيان تفرده تعالى بإجراء الأمر فيه وانقطاع العلائق المجازية بين الملاك والأملاك حينئذ بالكلية وإجراء هاتيك الصفات الجليلة عليه سبحانه تعليل لما سبق من اختصاص الحمد به تعالى المستلزم لاختصاص استحقاقه به تعالى وتمهيد لما لحق من اقتصار العبادة والإستعانة عليه فإن كل واحدة منها مفصحة عن وجوب ثبوت كل واحد منها له تعالى وامتناع ثبوتها لما سواه أما الأولى والرابعة فظاهر لأنهما متعرضتان صراحة لكونه تعالى ربا مالكا وما سواه مربوبا مملوكا له تعالى وأما الثانية والثالثة فلأن اتصافه تعالى بهما ليس إلا بالنسبة إلى ما سواه من العالمين وذلك يستدعى أن يكون الكل منعما عليهم فظهر أن كل واحدة من تلك الصفات كما دلت على وجوب ثبوت الأمور المذكورة له تعالى دلت على امتناع ثبوتها لما عداه على الإطلاق وهو المعنى بالإختصاص. (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) التفات من الغيبة إلى الخطاب وتلوين للنظم من باب إلى باب جار على نهج البلاغة فى افتنان الكلام ومسلك البراعة حسبما يقتضى المقام لما أن التنقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل فى استجلاب النفوس واستمالة القلوب يقع من كل واحد من التكلم والخطاب والغيبة إلى كل واحد من الآخرين كما فى قوله عزوجل (اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) الآية وقوله تعالى (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) إلى غير ذلك من الإلتفاتات الواردة فى التنزيل لأسرار تقتضيها ومزايا تستدعيها ومما استأثر به هذا المقام الجليل من النكت الرائقة الدالة على أن تخصيص العبادة والإستعانة به تعالى لما أجرى عليه من النعوت الجليلة التى أوجبت له تعالى أكمل تميز وأتم ظهور بحيث تبدل خفاء الغيبة بجلاء الحضور فاستدعى استعمال صيغة الخطاب والإيذان بأن حق التالى بعد ما تأمل فيما سلف من تفرده تعالى بذاته الأقدس المستوجب للمعبودية وامتيازه بذاته عما سواه بالكلية واستبداده بجلائل الصفات وأحكام الربوبية المميزة له عن جميع أفراد العالمين وافتقار الكل إليه فى الذات والوجود ابتداء وبقاء على التفصيل الذى مرت إليه الإشارة أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان وينتقل من عالم الغيبة إلى معالم الشهود ويلاحظ نفسه فى حظائر القدس حاضرا فى محاضر الأنس كأنه واقف لدى مولاه ماثل بين يديه وهو يدعو بالخضوع والإخبات ويقرع بالضراعة باب المناجاة قائلا يا من هذه شئون ذاته وصفاته نخصك بالعبادة والإستعانة فإن كل ما سواك كائنا ما كان بمعزل من استحقاق الوجود فضلا عن استحقاق أن يعبد أو يستعان ولعل هذا هو السر فى اختصاص السورة الكريمة بوجوب القراءة فى كل ركعة من الصلاة التى هى مناجاة العبد لمولاه ومئنة للتبتل إليه بالكلية و(إيا) ضمير منفصل منصوب وما يلحقه من الكاف والياء والهاء حروف زيدت لتعيين الخطاب والتكلم والغيبة لا محل لها من الإعراب كالتاء فى أنت والكاف فى أرأيتك وما ادعاه الخليل من الإضافة محتجا عليه بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب فمما لا يعول عليه وقيل هى الضمائر وإيا دعامة لها لتصيرها منفصلة وقيل الضمير هو المجموع وقرىء إياك بالتخفيف وبفتح الهمزة والتشديد وهياك بقلب الهمزة هاء والعبادة أقصى غاية التذلل والخضوع ومنه طريق معبد أى مذلل والعبودية أدنى منها وقيل العبادة فعل ما يرضى به الله والعبودية

١٦

الرضى بما فعل الله تعالى والاستعانة طلب المعونة على الوجه الذى مر بيانه وتقديم المفعول فيهما لما ذكر من القصر والتخصيص كما فى قوله تعالى (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) مع ما فيه من التعظيم والاهتمام به قال ابن عباس رضى الله عنهما معناه نعبدك ولا نعبد غيرك وتكرير الضمير المنصوب للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة من العبادة والاستعانة ولإبراز الاستلذاذ بالمناجاة والخطاب وتقديم العبادة لما أنها من مقتضيات مدلول الاسم الجليل وإن ساعده الصفات المجراة عليه أيضا وأما الاستعانة فمن الأحكام المبنية على الصفات المذكورة ولأن العبادة من حقوق الله تعالى والاستعانة من حقوق المستعين ولأن العبادة واجبة حتما والاستعانة تابعة للمستعان فيه فى الوجوب وعدمه وقيل لأن تقديم الوسيلة على المسئول أدعى إلى الإجابة والقبول هذا على تقدير كون إطلاق الاستعانة على المفعول فيه ليتناول كل مستعان فيه كما قالوا وقد قيل إنه لما أن المسئول هو المعونة فى العبادة والتوفيق لإقامة مراسمها على ما ينبغى وهو اللائق بشأن التنزيل والمناسب لحال الحامد فإن استعانته مسبوقة بملاحظة فعل من أفعاله ليستعينه تعالى فى إيقاعه ومن البين أنه عند استغراقه فى ملاحظة شئونه تعالى واشتغاله بأداء ما يوجبه تلك الملاحظة من الحمد والثناء لا يكاد يخطر بباله من أفعاله وأحواله إلا الإقبال الكلى عليه والتوجه التام إليه ولقد فعل ذلك بتخصيص العبادة به تعالى أولا وباستدعاء الهداية إلى ما يوصل إليه آخرا فكيف يتصور أن يشتغل فيما بينهما بما لا يعنيه من أمور دنياه أو بما يعمها وغيرها كأنه قيل وإياك نستعين فى ذلك فإنا غير قادرين على أداء حقوقه من غير إعانة منك فوجه الترتيب حينئذ واضح وفيه من الإشعار بعلو رتبة عبادته تعالى وعزة منالها وبكونها عند العابد أشرف المباغى والمقاصد وبكونها من مواهبه تعالى لا من أعمال نفسه ومن الملائمة لما يعقبه من الدعاء ما لا يخفى وقيل الواو للحال أى إياك نعبد مستعينين بك وإيثار صيغة المتكلم مع الغير فى الفعلين للإيذان بقصور نفسه وعدم لياقته بالوقوف فى مواقف الكبرياء منفردا وعرض العبادة واستدعاء المعونة والهداية مستقلا وأن ذلك إنما يتصور من عصابة هو من جملتهم وجماعة هو من زمرتهم كما هو ديدن الملوك أو للإشعار باشتراك سائر الموحدين له فى الحال العارضة له بناء على تعاضد الأدلة الملجئة إلى ذلك وقرىء نستعين بكسر النون على لغة بنى تميم. (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إفراد لمعظم أفراد المعونة المسئولة بالذكر وتعيين لما هو الأهم أو بيان لها كأنه قيل كيف أعينكم فقيل اهدنا والهداية دلالة بلطف على ما يوصل إلى البغية ولذلك اختصت بالخير وقوله تعالى (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) وارد على نهج التهكم والأصل تعديته بإلى واللام كما فى قوله تعالى (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) فعومل معاملة اختار فى قوله تعالى (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) وعليه قوله تعالى (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) وهداية الله تعالى مع تنوعها إلى أنواع لا تكاد تحصر منحصرة فى أجناس مترتبة منها أنفسية كإفاضة القوى الطبيعية والحيوانية التى بها يصدر عن المرء أفاعيله الطبيعية والحيوانية والقوى المدركة والمشاعر الظاهرة والباطنة التى بها يتمكن من إقامة مصالحه المعاشية والمعادية ومنها آفاقية فإما تكوينية معربة عن الحق بلسان الحال وهى نصب الأدلة المودعة فى كل فرد من أفراد العالم حسبما لوح به فيما سلف وإما تنزيلية مفصحة عن تفاصيل الأحكام النظرية والعملية بلسان المقال بإرسال الرسل

١٧

وإنزال الكتب المنطوية على فنون الهدايات التى من جملتها الإرشاد إلى مسلك الاستدلال بتلك الأدلة التكوينية الآفافية والأنفسية والتنبيه على مكانها كما أشير إليه مجملا فى قوله تعالى (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) وفى قوله عز وعلا (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) ومنها الهداية الخاصة وهى كشف الأسرار على قلب المهدى بالوحى أو الإلهام ولكل مرتبة من هذه المراتب صاحب ينتحيها وطالب يستدعيها والمطلوب إما زيادتها كما فى قوله تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) وإما الثبات عليها كما روى عن على وأبى رضى الله عنهما اهدنا ثبتنا ولفظ الهداية على الوجه الأخير مجاز قطعا وأما على الأول فإن اعتبر مفهوم الزيادة داخلا فى المعنى المستعمل فيه كان مجازا أيضا وإن اعتبر خارجا عنه مدلولا عليه بالقرائن كان حقيقة لأن الهداية الزائدة هداية كما أن العبادة الزائدة عبادة فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وقرىء أرشدنا والصراط الجادة أصله السين قلبت صادا لمكان الطاء كمصيطر فى مسيطر من سرط الشىء إذا ابتلعه سميت به لأنها تسترط السابلة إذا سلكوها كما سميت لقما لأنها تلتقمهم وقد تشم الصاد صوت الزاى تحريا للقرب من المبدل منه وقد قرىء بهن جميعا وفصحاهن إخلاص الصاد وهى لغة قريش وهى الثابتة فى الإمام وجمعه صرط ككتاب وكتب وهو كالطريق والسبيل فى التذكير والتأنيث والمستقيم المستوى والمراد به طريق الحق وهى الملة الحنيفية السمحة المتوسطة بين الإفراط والتفريط. (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بدل من الأول بدل الكل وهو فى حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة وفائدته التأكيد والتنصيص على أن طريق الذين أنعم الله عليهم وهم المسلمون هو العلم فى الاستقامة والمشهود له بالاستواء يحيث لا يذهب الوهم عند ذكر الطريق المستقيم إلا إليه وإطلاق الإنعام لقصد الشمول فإن نعمة الإسلام عنوان النعم كلها فمن فاز بها فقد حازها بحذافيرها وقيل المراد بهم الأنبياء عليهم‌السلام ولعل الأظهر أنهم المذكورون فى قوله عز قائلا (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) بشهادة ما قبله من قوله تعالى (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وقيل هم أصحاب موسى وعيسى عليهما‌السلام قبل النسخ والتحريف وقرىء صراط من أنعمت عليهم والإنعام إيصال النعمة وهى فى الأصل الحالة التى يستلذها الإنسان من النعمة وهى اللين ثم أطلقت على ما تستلذه النفس من طيبات الدنيا. ونعم الله تعالى مع استحالة إحصائها ينحصر أصولها فى دنيوى وأخروى والأول قسمان وهبى وكسبى والوهبى أيضا قسمان روحانى كنفخ الروح فيه وإمداده بالعقل وما يتبعه من القوى المدركة فإنها مع كونها من قبيل الهدايات نعم جليلة فى أنفسها وجسمانى كتخليق البدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وسلامة الأعضاء والكسبى تخلية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والملكات البهية وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المرضية وحصول الجاه والمال. والثانى مغفرة ما فرط منه والرضى عنه وتبوئته فى أعلى عليين مع المقربين والمطلوب هو القسم الأخير وما هو ذريعة إلى نيله من القسم الأول اللهم ارزقنا ذلك بفضلك العظيم ورحمتك الواسعة. (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) صفة للموصول على أنه عبارة عن إحدى الطوائف المذكورة المشهورة بالإنعام عليهم وباستقامة المسلك ومن ضرورة

١٨

هذه الشهرة شهرتهم بالمغايرة لما أضيف إليه كلمة غير من المتصفين بضدى الوصفين المذكورين أعنى مطلق المغضوب عليهم والضالين فاكتسبت بذلك تعرفا مصححا لوقوعها صفة للمعرفة كما فى قولك عليك بالحركة غير السكون وصفوا بذلك تكملة لما قبله وإيذانا بأن السلامة مما ابتلى به أولئك نعمة جليلة فى نفسها أى الذين جمعوا بين النعمة المطلقة التى هى نعمة الإيمان ونعمة السلامة من الغضب والضلال وقيل المراد بالموصول طائفة من المؤمنين لا بأعيانهم فيكون بمعنى النكرة كذى اللام إذا أريد به الجنس فى ضمن بعض الأفراد لا بعينه وهو المسمى بالمعهود الذهنى وبالمغضوب عليهم والضالين اليهود والنصارى كما ورد فى مسند أحمد والترمذى فيبقى لفظ غير على إبهامه نكرة كمثل موصوفة وأنت خبير بأن جعل الموصول عبارة عما ذكر من طائفة غير معينة مخل ببدلية ما أضيف إليه مما قبله فإن مدارها كون صراط المؤمنين علما فى الاستقامة مشهودا له بالاستواء على الوجه الذى تحققته فيما سلف ومن البين أن ذلك من حيث إضافته وانتسابه إلى كلهم لا إلى بعض مبهم منهم وبهذا تبين أن لا سبيل إلى جعل غير المغضوب عليهم بدلا من الموصول لما عرفت من أن شأن البدل أن يفيد متبوعه مزيد تأكيد وتقرير وفضل إيضاح وتفسير ولا ريب فى أن قصارى أمر ما نحن فيه أن يكتسب مما أضيف إليه نوع تعرف مصحح لوقوعه صفة للموصول وأما استحقاق أن يكون مقصودا بالنسبة مفيدا لما ذكر من الفوائد فكلا وقرىء بالنصب على الحال والعامل أنعمت أو على المدح أو على الاستثناء إن فسر النعمة بما يعم القبيلين والغصب هيجان النفس لإرادة الانتقام وعند إسناده إلى الله سبحانه يراد به غايته بطريق إطلاق اسم السبب بالنسبة إلينا على مسببه القريب إن أريد به إرادة الانتقام وعلى مسببه البعيد إن أريد به نفس الانتقام ويجوز حمل الكلام على التمثيل بأن يشبه الهيئة المنتزعة من سخطه تعالى للعصاة وإرادة الانتقام منهم لمعاصيهم بما ينتزع من حال الملك إذا غضب على الذين عصوه وأراد أن ينتقم منهم ويعاقبهم وعليهم مرتفع بالمغصوب قائم مقام فاعله والعدول عن إسناد الغضب إليه تعالى كالإنعام جرى على منهاج الآداب التنزيلية فى نسبة النعم والخيرات إليه عزوجل دون أضدادها كما فى قوله تعالى (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) وقوله تعالى (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) ولا مزيدة لتأكيد ما أفاده غير من معنى النفى كأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين ولذلك جاز أنا زيدا غير ضارب جواز أنا زيدا لا ضارب وإن امتنع أنا زيدا مثل ضارب والضلال هو العدول عن الصراط السوى وقرىء وغير الضالين وقرىء ولا الضألين بالهمزة على لغة من جد فى الهرب من التقاء الساكنين. (أمين) اسم فعل هو استجب وعن ابن عباس رضى الله عنهما سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن معنى آمين فقال افعل بنى على الفتح كأين لالتقاء الساكنين وفيه لغتان مدألفه وقصرها قال ويرحم الله عبدا قال آمينا وقال آمين فزاد الله ما بيننا بعدا عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقننى جبريل آمين عند فراغى من قراءة فاتحة الكتاب وقال إنه كالختم على الكتاب وليست من القرآن وفاقا ولكن يسن ختم السورة الكريمة بها والمشهور عن أبى حنيفة رحمه‌الله أن المصلى يأتى بها مخافتة وعنه أنه لا يأتى بها الإمام لأنه الداعى وعن الحسن رحمه‌الله مثله وروى الإخفاء عبد الله بن مغفل وأنس بن مالك عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٩

(الم)(١)

____________________________________

وعند الشافعى رحمه‌الله يجهر بها لما روى وائل بن حجر أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ (وَلَا الضَّالِّينَ) قال آمين ورفع بها صوته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لأبى بن كعب ألا أخبرك بسورة لم ينزل فى التوراة والإنجيل والقرآن مثلها قلت بلى يا رسول الله قال فاتحة الكتاب إنها السبع المثانى والقرآن العظيم الذي أوتيته. وعن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبى من صبيانهم فى الكتاب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة.

(سورة البقرة مدنية وهى مائتان وسبع وثمانون آية)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (الم) الألفاظ التى يعبر بها عن حروف المعجم التى من جملتها المقطعات المرقومة فى فواتح السور الكريمة أسماء لها لاندراجها تحت حد الاسم ويشهد به ما يعتريها من التعريف والتنكير والجمع والتصغير وغير ذلك من خصائص الاسم وقد نص على ذلك أساطين أئمة العربية وما وقع فى عبارات المتقدمين من التصريح بحرفيتها محمول على المسامحة وأما ما روى عن ابن مسعود رضى الله عنه من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول (الم) حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف وفى رواية التزمذى والدارمى لا أقول (الم) حرف و (ذلِكَ الْكِتابُ) حرف ولكن الألف حرف واللام حرف والميم حرف والذال حرف والكاف حرف فلا تعلق له بما نحن فيه قطعا فإن إطلاق الحرف على ما يقابل الاسم والفعل عرف جديد اخترعه أئمة الصناعة وإنما الحرف عند الأوائل ما يتركب منه الكلم من الحروف المبسوطة وربما يطلق على الكلمة أيضا تجوزا فأريد بالحديث الشريف دفع توهم التجوز وزيادة تعيين إرادة المعنى الحقيقى ليتبين بذلك أن الحسنة الموعودة ليست بعدد الكلمات القرآنية بل بعدد حروفها المكتوبة فى المصاحف كما يلوح به ذكر كتاب الله دون كلام الله أو القرآن وليس هذا من تسمية الشىء باسم مدلوله فى شىء كما قبل كيف لا والمحكوم عليه بالحرفية واستتباع الحسنة إنما هى المسميات البسيطة الواقعة فى كتاب الله عزوجل سواء عبر عنها بأسمائها أو بأنفسها كما فى قولك السين مهملة والشين معجمة مثلثة وغير ذلك مما لا يصدق المحمول إلا على ذات الموضوع لا أسماؤها المؤلفة كما إذا قلت الألف مؤلف من ثلاثة أحرف فكما أن الحسنات فى قراءة قوله تعالى (ذلِكَ الْكِتابُ) بمقابلة حروفه البسيطة وموافقة لعددها كذلك فى قراءة قوله تعالى (الم) بمقابلة حروفه الثلاثة المكتوبة وموافقة لعددها لا بمقابلة أسمائها الملفوظة وإلالفات الموافقة فى العدد إذ الحكم بأن كلا منها حرف واحد مستلزم للحكم بأنه مستتبع لحسنة واحدة فالعبرة فى ذلك بالمعبر عنه دون المعبر به ولعل السر فيه أن استتباع الحسنة منوط بإفادة المعنى المراد بالكلمات القرآنية فكما أن سائر الكلمات الشريفة لا تفيد معانيها إلا بتلفظ حروفها بأنفسها كذلك الفواتح المكتوبة لا تفيد المعانى المقصودة بها إلا بالتعبير عنها بأسمائها فجعل ذلك تلفظا بالمسميات كالقسم

٢٠