تفسير أبي السّعود - ج ٨

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٨

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) (١٢)

____________________________________

وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا قال أرأيتم إن أسلم عبد الله قالوا أعاذه الله من ذلك فخرج إليهم عبد الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقالوا شرنا وابن شرنا وانتقصوه قال هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر قال سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأحد يمشى على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله ابن سلام وفيه نزل (وَشَهِدَ شاهِدٌ) الآية وقيل الشاهد موسى عليه‌السلام وشهادته بما فى التوراة من بعثة النبى عليهما الصلاة والسلام وبه قال الشعبى وقال مسروق والله ما نزلت فى عبد الله بن سلام فإن آل حم نزلت بمكة وإنما أسلم عبد الله بالمدينة وأجاب الكلبى بأن الآية مدنية وإن كانت السورة مكية (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) عطف على شهد شاهد وجواب الشرط محذوف والمعنى أخبرونى إن كان من عند الله* تعالى وشهد على ذلك أعلم بنى إسرائيل فآمن به من غير تلعثم واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه المرتبة من أضل منكم بقرينة قوله تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فإن عدم الهداية مما ينبىء عن الضلال قطعا ووصفهم* بالظلم للإشعار بعلة الحكم فإن تركه تعالى لهدايتهم لظلمهم (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) حكاية لبعض آخر من أقاويلهم الباطلة فى حق القرآن العظيم والمؤمنين به أى قال كفار مكة (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أى لأجلهم* (لَوْ كانَ) أى ما جاء به عليه الصلاة والسلام من القرآن والدين (خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) فإن معالى الأمور* لا ينالها أيدى الأراذل وهم سقاط عامتهم فقراء وموال ورعاة قالوه زعما منهم أن الرياسة الدينية مما ينال بأسباب دنيوية كما قالوا لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وزل عنهم أنها منوطة بكمالات نفسانية وملكات روحانية مبناها الإعراض عن زخارف الدنيا الدنية والإقبال على الآخرة بالكلية وأن من فاز بها فقد حازها بحذافيرها ومن حرمها فماله منها من خلاق وقيل قاله بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع لما أسلم جهينة ومزينة وأسلم وغفار وقيل قالته اليهود حين أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ويأباه أن السورة مكية ولا بد حينئذ من الالتجاء إلى ادعاء أن الآية نزلت بالمدينة (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) ظرف لمحذوف* يدل عليه ما قبله ويترتب عليه ما بعده أى وإذ لم يهتدوا بالقرآن قالوا ما قالوا (فَسَيَقُولُونَ) غير مكتفين* بنفى خيريته (هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) كما قالوا أساطير الأولين وقيل المحذوف ظهر عنادهم وليس بذاك (وَمِنْ قَبْلِهِ) أى من قبل القرآن وهو خبر لقوله تعالى (كِتابُ مُوسى) قيل والجملة حالية أو مستأنفة وأيا*

٨١

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (١٥)

____________________________________

ما كان فهو لرد قولهم هذا إفك قديم وإبطاله فإن كونه مصدقا لكتاب موسى مقرر لحقيته قطعا* (إِماماً وَرَحْمَةً) حالان من كتاب موسى أى إماما يقتدى به فى دين الله تعالى وشرائعه كما يقتدى* بالإمام ورحمة من الله تعالى لمن آمن به وعمل بموجبه (وَهذا) الذى يقولون فى حقه ما يقولون (كِتابُ) * عظيم الشأن (مُصَدِّقٌ) أى لكتاب موسى الذى هو إمام ورحمة أو لما من بين يديه من جميع الكتب* الإلهية وقد قرىء كذلك (لِساناً عَرَبِيًّا) حال من ضمير الكتاب فى مصدق أو من نفسه لتخصصه* بالصفة وعاملها معنى الإشارة وعلى الأول مصدق وقيل مفعول لمصدق أى يصدق ذا لسان عربى (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) متعلق بمصدق وفيه ضمير الكتاب أو الله أو الرسول عليه الصلاة والسلام ويؤيد الأخير* القراءة بتاء الخطاب (وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) فى حيز النصب عطفا على محل لينذر وقيل فى محل الرفع على أنه خبر مبتدأ مضمر أى وبشرى وقيل على أنه عطف على مصدق (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) أى جمعوا بين التوحيد الذى هو خلاصة العلم والاستقامة فى أمور الدين التى هى منتهى* العمل وثم للدلالة على تراخى رتبة العمل وتوقف الاعتداد به على التوحيد (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من* لحوق مكروه (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) من فوات محبوب والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط والمراد بيان دوام نفى الحزن لا بيان نفى دوام الحزن كما يوهمه كون الخبر مضارعا وقد مر بيانه مرارا (أُولئِكَ) * الموصوفون بما ذكر من الوصفين الجليلين (أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) حال من المستكن فى أصحاب* وقوله تعالى (جَزاءً) منصوب إما بعامل مقدر أى يجزون جزاء أو بمعنى ما تقدم فإن قوله تعالى (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) فى معنى جازيناهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الحسنات العلمية والعملية (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) * بأن يحسن (بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) وقرىء حسنا أى بأن يفعل بهما حسنا أى فعلا ذا حسن أو كأنه فى ذاته نفس الحسن لفرط حسنه وقرىء بضم السين أيضا وبفتحهما أى بأن يفعل بهما فعلا حسنا* أو وصيناه إيصاء حسنا (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أى ذات كره أو حملا ذا كره وهو المشقة* وقرىء بالفتح وهما لغتان كالفقر والفقر وقيل المضموم اسم والمفتوح مصدر (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ) أى مدة حمله وفصاله وهو الفطام وقرىء وفصله والفصل والفصال كالفطم والفطام بناء ومعنى والمراد

٨٢

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٧)

____________________________________

به الرضاع التام المنتهى به كما أراد بالأمد المدة من قال[كل حى مستكمل مدة العمر * ومود إذا انتهى أمده] (ثَلاثُونَ شَهْراً) تمضى عليها بمعاناة المشاق ومقاساة الشدائد لأجله وهذا دليل على أن أقل مدة* الحمل ستة أشهر لما أنه إذا حط عنه للفصال حولان لقوله تعالى (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) يبقى للحمل ذلك قيل ولعل تعيين أقل مدة الحمل وأكثر مدة الرضاع لانضباطهما وتحقق ارتباط النسب والرضاع بهما (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أى اكتهل واستحكم قوته وعقله (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) قيل لم يبعث* نبى قبل أربعين وقرىء حتى إذا استوى وبلغ أشده (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أى ألهمنى وأصله أو لعنى* من أوزعته بكذا (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) أى نعمة الدين أو ما يعمها وغيرها* (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) التنكير للتفخيم والتكثير (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أى واجعل الصلاح* ساريا فى ذريتى راسخا فيهم كما فى قوله [يجرح فى عراقيبها نصلى] قال ابن عباس أجاب الله تعالى دعاء أبى بكر رضى الله عنهم فأعتق تسعة من المؤمنين منهم بلال وعامر بن فهيرة ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله تعالى عليه ودعا أيضا فقال وأصلح لى فى ذريتى فأجابه الله عزوجل فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعا فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعا فأدرك أبوه أبو قحافة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابنه عبد الرحمن بن أبى بكر وابن عبد الرحمن أبو عتيق كلهم أدركوا النبى عليه الصلاة والسلام ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) عما لا ترضاه أو عما يشغلنى عن* ذكرك (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الذين أخلصوا لك أنفسهم (أُولئِكَ) إشارة إلى الإنسان والجمع لأن المراد به الجنس المتصف بالوصف المحكى عنه وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته أى أولئك المنعوتون بما ذكر من النعوت الجليلة (الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) من الطاعات* فإن المباح حسن ولا يثاب عليه (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) وقرىء الفعلان بالياء على إسنادهما إلى* الله تعالى وعلى بنائهما للمفعول ورفع أحسن على أنه قائم مقام الفاعل وكذا الجار والمجرور (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أى كائنين فى عدادهم منتظمين فى سلكهم (وَعْدَ الصِّدْقِ) مصدر مؤكد لما أن قوله تعالى* (نَتَقَبَّلُ) و (نَتَجاوَزُ) وعد من الله تعالى لهم بالتقبل والتجاوز (الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) على ألسنة الرسل* (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) عند دعوتهما له إلى الإيمان (أُفٍّ لَكُما) هو صوت يصدر عن المرء عند تضجره واللام لبيان المؤفف له كما فى هيت لك وقرىء أف بالفتح والكسر بغير تنوين وبالحركات الثلاث مع التنوين والموصول عبارة عن الجنس القائل ذلك القول ولذلك أخبر عنه بالمجموع كما سبق قيل هو

٨٣

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (٢٠)

____________________________________

فى الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث وعن قتادة هو نعت عبد سوء عاق لوالديه فاجر لربه وما روى من أنها نزلت فى عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهما قبل إسلامه يرده ما سيأتى من قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) الآية فإنه كان من أفاصل المسلمين وسرواتهم وقد كذبت الصديقة رضى الله* عنها من قال ذلك (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أبعث من القبر بعد الموت وقرىء أخرج من الخروج (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) ولم يبعث منهم أحد (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) يسألانه أن يغيثه ويوفقه للإيمان* (وَيْلَكَ) أى قائلين له ويلك وهو فى الأصل دعاء عليه بالثبور أريد به الحث والتحريض على الإيمان* لا حقيقة الهلاك (آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) أى البعث أضافا إليه تعالى تحقيقا للحق وتنبيها على خطئه* فى إسناد الوعد إليهما وقرىء أن وعد الله أى آمن بأن وعد الله حق (فَيَقُولُ) مكذبا لهما (ما هذا) * الذى تسميانه وعد الله (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أباطيلهم التى سطروها فى الكتب من غير أن يكون لها حقيقة (أُولئِكَ) القائلون هذه المقالات (الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) وهو قوله تعالى لإبليس (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) كما ينبىء عنه قوله تعالى (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) * وقد مر تفسيره فى سورة الم السجدة (إِنَّهُمْ) جميعا (كانُوا خاسِرِينَ) قد ضيعوا فطرتهم الأصلية الجارية مجرى رؤس أموالهم باتباعهم الشيطان والجملة تعليل للحكم بطريق الاستئناف التحقيقى (وَلِكُلٍّ) من* الفريقين المذكورين (دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) مراتب من أجزية ما عملوا من الخير والشر والدرجات غالبة* فى مراتب المثوبة وإيرادها بطريق التغليب (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) أى أجزية أعمالهم وقرىء بنون العظمة* (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب الأولين وزيادة عقاب الآخرين والجملة إما حال مؤكدة للتوفية أو استئناف مقرر لها واللام متعلقة بمحذوف مؤخر كأنه قيل وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم فعل ما فعل من تقدير الأجزية على مقادير أعمالهم فجعل الثواب والعقاب دركات (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) أى يعذبون بها من قولهم عرض الأسارى على السيف أى قتلوا وقيل يعرض النار* عليهم بطريق القلب مبالغة (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) أى يقال لهم ذلك وهو الناصب للظرف وقرىء أأذهبتم بهمزتين وبألف بينهما على الاستفهام التوبيخى أى أصبتم أو أخذتم ما كتب لكم من حظوظ الدنيا* ولذائذها (فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) فلم يبق لكم بعد ذلك شىء منها (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ

٨٤

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٤)

____________________________________

الْهُونِ) أى الهوان وقد قرىء كذلك (بِما كُنْتُمْ) فى الدنيا (تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) * بغير استحقاق لذلك (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أى تخرجون عن طاعة الله عزوجل أى بسبب استكباركم* وفسقكم المستمرين وقرىء تفسقون بكسر السين (وَاذْكُرْ) أى لكفار مكة (أَخا عادٍ) أى هودا عليه السلام (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ) بدل اشتمال منه أى وقت إنذاره إياهم (بِالْأَحْقافِ) جمع حقف وهو رمل* مستطيل مرتفع فيه إنحناء من احقوقف الشىء إذا اعوج وكانت عاد أصحاب عمد يسكنون بين رمال مشرفة على البحر بأرض يقال لها الشجر من بلاد اليمن وقيل بين عمان ومهرة (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) أى* الرسل جمع نذير بمعنى المنذر (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) أى من قبله (وَمِنْ خَلْفِهِ) أى من بعده والجملة اعتراض* مقرر لما قبله مؤكد لوجوب العمل بموجب الإنذار وسط بين أنذر قومه وبين قوله (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) مسارعة إلى ما ذكر من التقرير والتأكيد وإيذانا باشتراكهم فى العبارة المحكية والمعنى واذكر لقومك إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه قومهم مثل ذلك فاذكرهم وأما جعلها حالا من فاعل أنذر على معنى أنه عليه الصلاة والسلام أنذرهم وقال لهم لا تعبدوا إلا الله (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وقد أعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين* سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره فمع ما فيه من تكلف تقدير الأعلام لا بد فى نسبة الخلو إلى من بعده من الرسل من تنزيل الآتى منزلة الخالى (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) أى تصرفنا (عَنْ آلِهَتِنا) عن عبادتها (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب العظيم (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فى وعدك بنزوله بنا (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ) أى بوقت نزوله أو العلم بجميع الأشياء التى من جملتها ذلك (عِنْدَ اللهِ) وحده لا علم لى بوقت* نزوله ولا مدخل لى فى إتيانه وحلوله وإنما علمه عند الله تعالى فيأتيكم به فى وقته المقدر له (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) من مواجب الرسالة التى من جملتها بيان نزول العذاب إن لم تنتهوا عن الشرك من غير وقوف على وقت نزوله وقرىء أبلغكم من الإبلاغ (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) حيث تقترحون* على ما ليس من وظائف الرسل من الإتيان بالعذاب وتعيين وقته والفاء فى قوله تعالى (فَلَمَّا رَأَوْهُ) فصيحة

٨٥

(تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٢٦)

____________________________________

* والضمير إما مبهم يوضحه قوله تعالى (عارِضاً) إما تمييزا أو حالا أو راجع إلى ما استعجلوه بقولهم فأئتنا* بما تعدنا أى فأتاهم فلما رأوه سحابا يعرض فى أفق السماء (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) أى متوجه أوديتهم والإضافة* فيه لفظية كما فى قوله تعالى (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) ولذلك وقعا وصفين للنكرة (بَلْ هُوَ) أى قال* هود وقد قرىء كذلك وقرىء قل وهو رد عليهم أى ليس الأمر كذلك بل هو (مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب (رِيحٌ) بدل من ما أو خبر لمبتدأ محذوف (فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) صفة لريح وكذا قوله تعالى (تُدَمِّرُ) * أى تهلك (كُلَّ شَيْءٍ) من نفوسهم وأموالهم (بِأَمْرِ رَبِّها) وقرىء يدمر كل شىء من دمر دمارا إذا هلك فالعائد إلى الموصوف محذوف أو هو الهاء فى ربها ويجوز أن يكون استئنافا واردا لبيان أن لكل ممكن فناء مقضيا منوطا بأمر بارئه وتكون الهاء لكل شىء لكونه بمعنى الأشياء وفى ذكر الأمر والرب والإضافة إلى الريح من الدلالة على عظمة شأنه عزوجل ما لا يخفى والفاء فى قوله تعالى* (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) فصيحة أى فجاءتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا بحيث لا يرى إلا مساكنهم وقرىء ترى بالتاء ونصب مساكنهم خطابا لكل أحد يتأتى منه الرؤية تنبيها على أن حالهم بحيث* لو حضر كل أحد بلادهم لا يرى فيها إلا مساكنهم (كَذلِكَ) أى مثل ذلك الجزاء الفظيع (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) وقد مر تفصيل القصة فى سورة الأعراف وقد روى أن الريح كانت تحمل الفسطاط والظعينة فترفعها فى الجو حتى ترى كأنها جرادة قيل أول من أبصر العذاب امرأة منهم قالت رأيت ريحا فيها كشهب النار وروى أن أول ما عرفوا به أنه عذاب ما رأوا ما كان فى الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير بها الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم فأمال الله تعالى الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين ثم كشفت الريح عنهم فاحتملتهم فطرحتهم فى البحر وروى أن هودا عليه‌السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع وعن ابن عباس رضى الله عنهما اعتزل هود ومن معه فى حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا مايلين على الجلود وتلذه الأنفس وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ) أى قررنا عادا أو أقدرناهم وما فى قوله تعالى (فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) موصولة أو موصوفة وإن نافية أى فى الذى أو فى شىء ما مكناكم فيه من السعة والبسطة وطول الأعمار وسائر مبادى التصرفات كما فى قوله تعالى ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم فى الأرض ما لم نمكن لكم ومما يحسن

٨٦

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٨)

____________________________________

موقع إن ههنا التفصى عن تكرر لفظة ما وهو الداعى إلى قلب ألفها هاء فى مهما وجعلها شرطية أو زائدة مما لا يليق بالمقام (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) ليستعملوها فيما خلقت له ويعرفوا بكل* منها ما نيطت به معرفته من فنون النعم ويستدلوا بها على شؤن منعهما عزوجل ويداوموا على شكره (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ) حيث لم يستعملوه فى استماع الوحى ومواعظ الرسل (وَلا أَبْصارُهُمْ) حيث* لم يجتلوا بها الآيات التكوينية المنصوبة فى صحائف العلم (وَلا أَفْئِدَتُهُمْ) حيث لم يستعملوها فى معرفة* الله تعالى (مِنْ شَيْءٍ) أى شيئا من الإغناء ومن مزيدة للتأكيد وقوله تعالى (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) متعلق بما أغنى وهو ظرف جرى مجرى التعليل من حيث إن الحكم مرتب على ما أضيف إليه فإن قولك أكرمته إذ أكرمنى فى قوة قولك أكرمته لإكرامه إذا أكرمته وقت إكرامه فإنما أكرمته فيه لوجود إكرامه فيه كذا الحال فى حيث (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب الذى كانوا* يستعجلونه بطريق الاستهزاء ويقولون فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ) يأهل مكة (مِنَ الْقُرى) كحجر ثمود وقرى قوم لوط (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) كررناها لهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) * لكى يرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصى (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) القربان ما يتقرب به إلى الله تعالى وأحد مفعولى اتخذوا ضمير الموصول المحذوف والثانى آلهة وقربانا حال والتقدير فهلا نصرهم وخلصهم من العذاب الذين اتخذوهم آلهة حال كونها متقربا بها إلى الله تعالى حيث كانوا يقولون (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) و (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) وفيه تهكم بهم ولا مساغ لجعل قربانا مفعولا ثانيا آلهة بدلا منه لفساد المعنى فإن البدل وإن كان هو المقصود لكنه لا بد فى غير بدل الغلط من صحة المعنى بدونه ولا ريب فى أن قولنا اتخذوهم من دون الله قربانا أى متقربا به ما لا صحة له قطعا لأنه تعالى متقرب إليه لا متقرب به فلا يصح أنهم اتخذوهم قربانا متجاوزين الله فى ذلك وقرىء قربانا بضم الراء (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أى غابوا عنهم وفيه تهكم آخر بهم كأن عدم* نصرهم لغيبتهم أو ضاعوا عنهم أى ظهر ضياعهم عنهم بالكلية وقيل امتنع نصرهم امتناع نصر الغائب عن المنصور (وَذلِكَ) أى ضياع آلهتهم عنهم وامتناع نصرهم (إِفْكُهُمْ) أى إثر إفكهم الذى هو* اتخاذهم إياها آلهة ونتيجة شركهم وقرىء إفكهم وكلاهما مصدر كالحذر والحذر وقرىء إفكهم على صيغة الماضى فذلك إشارة حينئذ إلى الاتخاذ أى وذلك الاتخاذ الذى هو ثمرته وعاقبته صرفهم عن الحق وقرىء إفكهم بالتشديد للمبالغة وآفكهم من الأفعال أى جعلهم آفكين وقرىء آفكهم على صيغة اسم الفاعل مضافا إلى ضميرهم أى قولهم الإفك كما يقال قول كاذب (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) عطف على*

٨٧

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٠)

____________________________________

إفكهم أى وأثر افترائهم على الله أو أثر ما كانوا يفترونه عليه تعالى وقرىء وذلك إفك مما كانوا يفترون أى بعض ما كانوا يفترون من الإفك (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ) أملناهم إليك وأقبلنا* بهم نحوك وقرىء صرفنا بالتشديد للتكثير لأنهم جماعة وهو السر فى جمع الضمير فى قوله تعالى (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) وما بعده وهو حال مقدرة من نفرا لتخصصه بالصفة أو صفة أخرى له أى واذكر لقومك* وقت صرفنا إليك نفرا كائنا من الجن مقدرا استماعهم القرآن (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أى القرآن عند تلاوته* أو الرسول عند تلاوته له على الالتفات والأول هو الأظهر (قالُوا) أى قال بعضهم لبعض (أَنْصِتُوا) * أى استكنوا لنسمعه (فَلَمَّا قُضِيَ) أتم وفرغ عن تلاوته وقرىء على البناء للفاعل وهو ضمير الرسول* عليه الصلاة والسلام وهذا يؤيد ضمير حضروه إليه عليه الصلاة والسلام (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) مقدرين إنذارهم عند رجوعهم إليهم. روى أن الجن كانت تسترق السمع فلما حرست السماء ورجموا بالشهب قالوا ما هذا إلا لنبأ حدث فنهض سبعة نفر أو ستة نفر من أشراف جن نصيبين أو نينوى منهم زوبعة فضربوا حتى بلغوا تهامة ثم اندفعوا إلى وادى نخلة فوافوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قائم فى جوف الليل يصلى أو فى صلاة الفجر فاستمعوا لقراءته وذلك عند منصرفه من الطائف وعن سعيد بن جبير ما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجن ولا رآهم وإنما كان يتلو فى صلاته فمروا به فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر بهم فأنبأه الله تعالى باستماعهم وقيل بل أمره الله تعالى أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فصرف إليه نفرا منهم جمعهم له فقال عليه الصلاة والسلام إنى أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فمن يتبعنى قالها ثلاثا فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة فى شعب الجحون خط لى خطا فقال لا تخرج منه حتى أعود إليك ثم افتتح القرآن وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغشيته أسودة كثيرة حالت بينى وبينه حتى ما أسمع صوته عليه الصلاة والسلام ثم انقطعوا كقطع السحاب فقال لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل رأيت شيئا قلت نعم رجالا سودا مستشعرى ثياب بيض فقال أولئك جن نصيبين وكانوا إثنى عشر ألفا والسورة التى قرأها عليهم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (قالُوا) أى عند رجوعهم إلى قومهم (يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) قيل قالوه لأنهم كانوا على اليهودية وعن ابن عباس رضى الله عنهما* أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه‌السلام (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أرادوا به التوراة (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) من العقائد الصحيحة (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) موصل إليه وهو الشرائع والأعمال الصالحة

٨٨

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ لْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٣)

____________________________________

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ) أرادوا به ما سمعوه من الكتاب وصفوه بالدعوة إلى الله تعالى بعد ما وصفوه بالهداية إلى الحق والصراط المستقيم لتلازمهما دعوهم إلى ذلك بعد بيان حقيته واستقامته ترغيبا لهم فى الإجابة ثم أكدوه بقولهم (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أى بعض ذنوبكم وهو ما كان فى* خالص حق الله تعالى فإن حقوق العباد لا تغفر بالإيمان (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) معد للكفرة واختلف* فى أن لهم أجرا غير هذا أولا والأظهر أنهم فى حكم بنى آدم ثوابا وعقابا وقوله تعالى (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) إيجاب للإجابة بطريق الترهيب إثر إيجابها بطريق الترغيب وتحقيق لكونهم منذرين وإظهار داعى الله من غير اكتفاء بأحد الضميرين للمبالغة فى الإيجاب بزيادة التقرير وتربية المهابة وإدخال الروعة وتقييد الإعجاز بكونه فى الأرض لتوسيع الدائرة أى فليس بمعجز له تعالى بالهرب وإن هرب كل مهرب من أقطارها أو دخل فى أعماقها وقوله تعالى (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) بيان لاستحالة نجاته بواسطة الغير إثر بيان استحالة نجاته بنفسه وجمع الأولياء باعتبار معنى من فيكون من باب مقابلة الجمع بالجمع لانقسام الآحاد إلى الآحاد كما أن الجمع فى قوله تعالى (أُولئِكَ) * بذلك الاعتبار أى أولئك الموصوفون بعدم إجابة داعى الله (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أى ظاهر كونه ضلالا* بحيث لا يخفى على أحد أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه (أَوَلَمْ يَرَوْا) الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يستدعيه المقام والرؤية قلبية أى ألم يتفكروا ولم يعلموا علما جازما متاخما للمشاهدة والعيان (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ابتداء من غير مثال يجتذيه ولا قانون ينتحيه (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ) أى لم يتعب ولم ينصب بذلك أصلا أو لم يعجز عنه يقال عييت بالأمر إذا لم يعرف وجهه* وقوله تعالى (بِقادِرٍ) فى حيز الرفع لأنه خبر إن كما ينبىء عنه القراءة بغير باء ووجه دخولها فى القراءة* الأولى اشتمال النفى الوارد فى صدر الآية على أن وما فى حيزها كأنه قيل أو ليس الله بقادر (عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) ولذلك أجيب عنه بقوله تعالى (بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تقريرا للقدرة على وجه عام* يكون كالبرهان على المقصود.

٨٩

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (٣٥)

____________________________________

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) ظرف عامله قول مضمر مقوله (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) على أن الإشارة إلى ما يشاهدونه حينئذ من حيث هو من غير أن يخطر بالبال لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه إذ هو اللائق بتهويله وتفخيمه وقد مر فى سورة الأحزاب وقيل هى إلى العذاب وفيه تهكم* بهم وتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم وما نحن بمعذبين (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) أكد* جوابهم بالقسم كأنهم يطمعون فى الخلاص بالاعتراف بحقيتها كما فى الدنيا وأنى لهم ذلك (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بها فى الدنيا ومعنى الأمر الإهانة بهم والتوبيخ لهم والفاء فى قوله تعالى (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) جواب شرط محذوف أى إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر فاصبر على ما يصيبك من جهتهم كما صبر أولو الثبات والحزم من الرسل فإنك من جملتهم بل من عليتهم ومن للتبيين والمراد بأولى العزم أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا فى تأسيسها وتقريرها وصبروا على تحمل مشاقها ومعاداة الطاعنين فيها ومشاهيرهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وقيل هم الصابرون على بلاء الله كنوح صبر على أذية قومه كانوا يضربونه حتى يغشى عليه وإبراهيم صبر على النار وعلى ذبح ولده والذبيح على الذبح ويعقوب على فقد الولد والبصر ويوسف على الجب والسجن وأيوب على الضر وموسى قال له قومه إنا لمدركون قال كلا إن معى ربى سيهدين وداود بكى* على خطيئته أربعين سنة وعيسى لم يضع لبنة على لبنة صلوات الله تعالى عليهم أجمعين (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أى لكفار مكة بالعذاب فإنه على شرف النزول بهم (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) من العذاب* (لَمْ يَلْبَثُوا) فى الدنيا (إِلَّا ساعَةً) يسيرة (مِنْ نَهارٍ) لما يشاهدون من شدة العذاب وطول مدته وقوله* تعالى (بَلاغٌ) خبر مبتدأ محذوف أى هذا الذى وعظتم به كفاية فى الموعظة أو تبليغ من الرسول* ويؤيده أنه قرىء بلغ وقرىء بلاغا أى بلغوا بلاغا (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) أى الخارجون عن الاتعاظ به أو عن الطاعة وقرىء بفتح الياء وكسر اللام وبفتحهما من هلك وهلك وبنون العظمة من الإهلاك ونصب القوم ووصفه. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الأحقاف كتب له عشر حسنات بعدد كل رملة فى الدنيا.

٩٠

٤٧ ـ سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(مكية وآياتها ثمان وثلاثون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) (٣)

____________________________________

(سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسمى سورة القتال وهى مدنية وقيل مكية وآياتها ثمان وثلاثون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أى أعرضوا عن الإسلام وسلوك طريقه من صد صدودا أو منعوا الناس عن ذلك من صده صدا كالمطعمين يوم بدر وقيل هم إثنا عشر رجلا من أهل الشرك كانوا يصدون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر وقيل أهل الكتاب الذين كفروا وصدوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل فى الإسلام وقيل هو عام فى كل من كفر وصد (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أى أبطلها وأحبطها وجعلها ضائعة لا أثر لها أصلا لكن لا بمعنى أنه* أبطلها وأحبطها بعد أن لم تكن كذلك بل بمعنى أنه حكم ببطلانها وضياعها فإن ما كانوا يعملون من أعمال البر كصلة الأرحام وقرى الأضياف وفك الأسارى وغيرها من المكارم ليس لها أثر من أصلها لعدم مقارنتها للإيمان أو أبطل ما عملوا من الكيد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصد عن سبيله بنصر رسوله وإظهار دينه على الدين كله وهو الأوفق لما سيأتى قوله تعالى (فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) وقوله (فَإِذا لَقِيتُمُ) الخ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قيل هم ناس من قريش وقبل من الأنصار وقيل هم مؤمنوا أهل الكتاب وقيل عام للكل (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) خص بالذكر الإيمان بذلك مع* اندارجه فيما قبله تنويها بشأنه وتنبيها على سمو مكانه من بين سائر ما يجب الإيمان به وأنه الأصل فى الكل ولذلك أكد بقوله تعالى (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) بطريق حصر الحقية فيه وقيل حقيته بكونه* ناسخا غير منسوخ فالحق على هذا مقابل الزائل وعلى الأول مقابل الباطل وأيا ما كان فقوله تعالى (مِنْ رَبِّهِمْ) حال من ضمير الحق وقرىء نزل على البناء للفاعل وأنزل على البناءين ونزل بالتخفيف (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أى سترها بالإيمان والعمل الصالح (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أى حال فى الدين والدنيا بالتأييد* والتوفيق (ذلِكَ) إشارة إلى ما مر من إضلال الأعمال وتكفير السيئات وإصلاح البال وهو مبتدأ

٩١

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) (٤)

____________________________________

* خبره قوله تعالى (بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) أى ذلك كائن بسبب أن الأولين اتبعوا الشيطان كما قاله مجاهد ففعلوا ما فعلوا من الكفر والصدفبيان سببية اتباعه للإضلال المذكور متضمن لبيان سببيتهما له لكونه أصلا مستتبعا لهما قطعا وبسبب أن الآخرين اتبعوا الحق الذى لا محيد عنه كائنا من ربهم ففعلوا ما فعلوا من الإيمان به وبكتابه ومن الأعمال الصالحة فبيان سببية اتباعه لما ذكر من التكفير والإصلاح بعد الإشعار بسببية الإيمان والعمل الصالح له متضمن لبيان سببيتهما له لكونه مبدأ ومنشأ لهما حتما فلا تدافع بين الإشعار والتصريح فى شىء من الموضعين ويجوز أن يحمل الباطل ما يقابل الحق وهو الزائل الذاهب الذى لا أصل له أصلا فالتصريح بسببية اتباعه لإضلال أعمالهم وإبطالها لبيان أن إبطالها لبطلان مبناها وزواله وأما حمله على ما لا ينتفع به فليس كما ينبغى لما أن الكفر والصد أفحش منه فلا وجه للتصريح بسببيته لما ذكر من إضلال أعمالهم بطريق القصر بعد الإشعار بسببيتهما له فتدبر ويجوز أن يراد بالباطل نفس الكفر والصد وبالحق نفس الإيمان والأعمال الصالحة فيكون التنصيص على سببيتهما لما ذكر من الإضلال ومن التكفير والإصلاح* تصريحا بالسببية المشعر بها فى الموقعين (كَذلِكَ) أى مثل ذلك الضرب البديع (يَضْرِبُ اللهُ) أى يبين* (لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أى أحوال الفريقين وأوصافهما الجارية فى الغرابة مجرى الأمثال وهى اتباع الأولين الباطل وخيبتهم وخسرانهم واتباع الآخرين الحق وفوزهم وفلاحهم والفاء فى قوله تعالى (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) لترتيب ما فى حيزها من الأمر على ما قبلها فإن ضلال أعمال الكفرة وخيبتهم وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم مما يوجب أن يرتب على كل من الجانبين ما يليق من الأحكام أى فإذا كان* الأمر كما ذكر فإذا لقيتموهم فى المحاربة (فَضَرْبَ الرِّقابِ) أصله فاضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وقدم المصدر وأنيب منابه مضافا إلى المفعول وفيه اختصار وتأكيد بليغ والتعبير به عن القتل تصوير* له بأشنع صورة وتهويل لأمره وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون منه (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أى أكثرتم قتلهم وأغلظتموه من الشىء الثخين وهو الغليظ أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض* (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) فأسروهم واحفظوهم والوثاق اسم لما يوثق به وكذا الوثاق بالكسر وقد قرىء* بذلك (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) أى فإما تمنون منا بعد ذلك أو تفدون فداء والمعنى التخيير بين القتل والاسترقاق والمن والفداء وهذا ثابت عند الشافعى رحمه‌الله تعالى وعندنا منسوخ قالوا نزل ذلك يوم بدر ثم نسخ والحكم إما القتل أو الاسترقاق وعن مجاهد ليس اليوم من ولا فداء إنما هو الإسلام* أو ضرب العنق وقرىء فدا كعصا (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أوزار الحرب آلاتها وأثقالها التى

٩٢

(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٩)

____________________________________

لا تقوم إلا بها من السلاح والكراع وأسند وضعها إليها وهو لأهلها إسنادا مجازيا وحتى غاية عند الشافعى لأحد الأمور الأربعة أو للمجموع والمعنى أنهم لا يزالون على ذلك أبدا إلى أن لا يكون مع المشركين حرب بأن لا تبقى لهم شوكة وقيل بأن ينزل عيسى عليه‌السلام وأما عند أبى حنيفة رحمه‌الله تعالى فإن حمل الحرب على حرب بدر فهى غاية للمن والفداء والمعنى يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها وإن حملت على الجنس فهى غاية للضرب والشد والمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى يضع جنس الحرب أوزارها بأن لا يبقى للمشركين شوكة وقيل أوزارها آثامها أى حتى يترك المشركون شركهم ومعاصيهم بأن أسلموا (ذلِكَ) أى الأمر ذلك أو افعلوا ذلك (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) لانتقم منهم ببعض أسباب الهلكة والاستئصال (وَلكِنْ) لم يشأ ذلك (لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) * فأمركم بالقتال وبلاكم بالكافرين لتجاهدوهم فتستوجيبوا الثواب العظيم بموجب الوعد والكافرين بكم ليعاجلهم على أيديكم ببعض عذابهم كى يرتدع بعضهم عن الكفر (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أى* استشهدوا وقرىء قاتلوا أى جاهدوا وقتلوا وقتلوا (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) أى فلن يضيعها وقرىء يضل* أعمالهم على البناء للمفعول ويضل أعمالهم من ضل وعن قتادة أنها نزلت فى يوم أحد (سَيَهْدِيهِمْ) فى الدنيا إلى أرشد الأمور وفى الآخرة إلى الثواب أو سيثبت هدايتهم (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) فى الدنيا بذكر أوصافها بحيث اشتاقوا إليها أو بينها لهم بحيث يعلم كل أحد منزله ويهتدى إليه كأنه كان ساكنه منذ خلق وعن مقاتل أن الملك الموكل بعمله فى الدنيا يمشى بين يديه فيعرفه كل شىء أعطاه الله تعالى أو طيبها لهم من العرف وهو طيب الرائحة أو حددها لهم وأفرزها من عرف الدار فجنة كل منهم محددة مفرزة والجملة إما مستأنفة أو حال بإضمار قد أو بدونه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) أى دينه ورسوله (يَنْصُرْكُمْ) على أعدائكم ويفتح لكم (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) فى مواطن* الحرب ومواقفها أو على محجة الإسلام (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) التعس الهلاك والعثار والسقوط ٨ والشر والبعد والانحطاط ورجل تاعس وتعس وانتصابه بفعله الواجب حذفه سماعا أى فقال تعسا لهم أو فقضى تعسا لهم وقوله تعالى (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) عطف عليه داخل معه فى حيز الخبرية للموصول* (ذلِكَ) أى ما ذكر من التعس وإضلال الأعمال (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن

٩٣

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) (١٣)

____________________________________

* لما فيه من التوحيد وسائر الأحكام المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمارة بالسوء (فَأَحْبَطَ) لأجل ذلك (أَعْمالَهُمْ) التى لو كانوا عملوها مع الإيمان لأثيبوا عليها (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أى أقعدوا* فى أماكنهم فلم يسيروا فيها (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المكذبة فإن آثار ديارهم* تنبىء عن أخبارهم وقوله تعالى (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) استئناف مبنى على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل كيف كان عاقبتهم فقيل استأصل الله تعالى عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم يقال* دمره أهلكه ودمر عليه أهلك عليه ما يختص به (وَلِلْكافِرِينَ) أى ولهؤلاء الكافرين السائرين بسيرتهم* (أَمْثالُها) أمثال عواقبهم أو عقوباتهم لكن لا على أن لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافه بل مثله وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة حسب تعدد الأمم المعذبة وقيل يجوز أن يكون عذابهم أشد من عذاب الأولين وقد قتلوا وأسروا بأيدى من كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم والقتل بيد المثل أشد ألما من الهلاك بسبب عام وقيل المراد بالكافرين المتقدمون بطريق وضع الظاهر موضع الضمير كأنه قيل دمر الله عليهم فى الدنيا ولهم فى الآخرة أمثالها (ذلِكَ) إشارة إلى ثبوت أمثال عقوبة الأمم* السالفة لهؤلاء (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أى ناصرهم على أعدائهم وقرىء ولى الذين (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) فيدفع عنهم ما حل بهم من العقوبة والعذاب ولا يخالف هذا قوله تعالى (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) فإن المولى هناك بمعنى المالك (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) بيان لحكم ولايته تعالى لهم وثمرتها الأخروية (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) أى ينتفعون* فى الدنيا بمتاعها (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) غافلين عن عواقبهم (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أى منزل ثواء وإقامة والجملة إما حال مقدرة من واو يأكلون أو استئناف (وَكَأَيِّنْ) كلمة مركبة من الكاف وأى* بمعنى كم الخبرية ومحلها الرفع بالابتداء وقوله تعالى (مِنْ قَرْيَةٍ) تمييز لها وقوله تعالى (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) صفة لقرية كما أن قوله تعالى (الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) صفة لقريتك وقد حذف عنهما المضاف وأجرى* أحكامه عليهما كما يفصح عنه الخبر الذى هو قوله تعالى (أَهْلَكْناهُمْ) أى وكم من أهل قرية هم أشد

٩٤

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (١٥)

____________________________________

قوة من أهل قريتك الذين كانوا سببا لخروجك من بينهم ووصف القرية الأولى بشدة القوة للإيذان بأولوية الثانية منها بالإهلاك لضعف قوتها كما أن وصف الثانية بإخراجه عليه الصلاة والسلام للإيذان بأولويتها به لقوة جنايتها وعلى طريقته قول النابغة[كليب لعمرى كان أكثر ناصرا * وأيسر جرما منك ضرج بالدم] وقوله تعالى (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) بيان لعدم خلاصهم من العذاب بواسطة الأعوان* والأنصار إثر بيان عدم خلاصهم منه بأنفسهم والفاء لترتيب ذكر ما بالغير على ذكر ما بالذات وهو حكاية حال ماضية (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) تقرير لتباين حالى فريفى المؤمنين والكافرين وكون الأولين فى أعلى عليين والآخرين فى أسفل سافلين وبيان لعلة ما لكل منهما من الحال والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقد قرىء بدونها ومن عبارة عن المؤمنين المتمسكين بأدلة الدين وجعلها عبارة عن النبى عليه الصلاة والسلام أو عنه وعن المؤمنين لا يساعده النظم الكريم على أن الموازنة بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم مما يأباه منصبه الجليل والتقدير أليس الأمر كما ذكر فمن كان مستقرا على حجة ظاهرة وبرهان نير من مالك أمره ومربيه وهو القرآن الكريم وسائر المعجزات والحجج العقلية (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) من الشرك وسائر المعاصى مع كونه فى نفسه أقبح القبائح (وَاتَّبَعُوا) * بسبب ذلك التزيين (أَهْواءَهُمْ) الزائغة وانهمكوا فى فنون الضلالات من غير أن يكون لهم شبهة توهم* صحة ما هم عليه فضلا عن حجة تدل عليه وجمع الضميرين الأخيرين باعتبار معنى من كما أن إفراد الأولين باعتبار لفظها (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) استئناف مسوق لشرح محاسن الجنة الموعودة آنفا للمؤمنين وبيان كيفية أنهارها التى أشير إلى جريانها من تحتها وعبر عنهم بالمتقين إيذانا بأن الإيمان والعمل الصالح من باب التقوى الذى هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها وترك السيئات عن آخرها ومثلها وصفها العجيب الشأن وهو مبتدأ محذوف الخبر فقدره النضر بن شميل مثل الجنة ما تسمعون وقوله تعالى (فِيها أَنْهارٌ) الخ مفسر له وقدره سيبويه فيما يتلى عليكم مثل الجنة والأول هو الأنسب لصدر النظم الكريم وقيل المثل زائدة كزيادة الاسم فى قول من قال [إلى الحول ثم اسم السلام عليكما] والجنة مبتدأ خبره فيها أنهار الخ (مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) غير متغير الطعم والرائحة وقرىء غير آسن (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) بأن صار قارصا ولا خازرا كألبان الدنيا (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) لذيذة ليس فيها كراهة* طعم وريح ولا غائلة سكر ولا خمار وإنما هى تلذذ محض ولذة إما تأنيث لذ بمعنى لذيذ أو مصدر نعت

٩٥

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) (١٨)

____________________________________

* به مبالغة وقرىء لذة بالرفع على أنها صفة أنهار وبالنصب على العلة أى لأجل لذة للشاربين (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) لا يخالطه الشمع وفضلات النحل وغيرها وفى هذا تمثيل لما يجرى مجرى الأشربة فى الجنة بأنواع ما يستطاب منها ويستلذ فى الدنيا بالتخلية عما ينغصها وينقصها والتحلية بما يوجب غزارتها* ودوامها (وَلَهُمْ فِيها) مع ما ذكر من فنون الأنهار (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أى صنف من كل الثمرات (وَمَغْفِرَةٌ) * أى ولهم مغفرة عظيمة لا يقادر قدرها وقوله تعالى (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلق بمحذوف هو صفة لمغفرة مؤكدة* لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أى كائنة من ربهم وقوله تعالى (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) خبر لمبتدأ محذوف تقديره أمن هو خالد فى هذه الجنة حسبما جرى به الوعد كمن هو خالد فى النار كما نطق به قوله تعالى (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) وقيل هو خبر لمثل الجنة على أن فى الكلام حذفا تقديره أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد فى النار أو أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد فى النار فعرى عن حرف الإنكار وحذف ما حذف تصويرا لمكابرة من يسوى بين المتمسك بالبينة وبين التابع للهوى* بمكابرة من سوى بين الجنة الموصوفة بما فصل من الصفات الجليلة وبين النار (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) مكان* تلك الأشربة (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) من فرط الحرارة قيل إذا دنا منهم شوى وجوههم وانمارت فروة رؤسهم فإذا شربوه قطع أمعاءهم (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) هم المنافقون وإفراد الضمير باعتبار لفظ من كما أن جمعه فيما سيأتى باعتبار معناها كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسمعون كلامه* ولا يعونه ولا يراعونه حق رعايته تهاونا منهم (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) * من الصحابة رضى الله عنهم (ما ذا قالَ آنِفاً) أى ما الذى قال الساعة على طريقة الاستهزاء وإن كان بصورة الاستعلام وآنفا من قولهم أنف الشىء لما تقدم منه مستعار من الجارحة ومنه استأنف الشىء* وائتنف وهو ظرف بمعنى وقتا مؤتنفا أو حال من الضمير فى قال وقرىء أنفا (أُولئِكَ) الموصوفون* بما ذكر (الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) لعدم توجههم نحو الخير أصلا (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) الباطلة فلذلك فعلوا ما فعلوا مما لا خير فيه (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) إلى طريق الحق (زادَهُمْ) أى الله تعالى (هُدىً) بالتوفيق والإلهام (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أعانهم على تقواهم أو أعطاهم جزاءها أو بين لهم ما يتقون (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) أى القيامة وقوله تعالى (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أى تباغتهم بغتة وهى المفاجأة بدل اشتمال من

٩٦

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ) (٢٠)

____________________________________

الساعة والمعنى أنهم لا يتذكرون بذكر أهوال الأمم الخالية ولا بالإخبار بإتيان الساعة وما فيها من عظائم الأهوال وما ينتظرون للتذكر إلا إتيان نفس الساعة بغتة وقرىء بغتة بفتح الغين وقوله تعالى (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) تعليل لمفاجأتها لا لإتيانها مطلقا على معنى أنه لم يبق من الأمور الموجبة للتذكر* أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة إذ قد جاء أشراطها فلم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من مبادى إتيانها فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة والأشراط جمع شرط بالتحريك وهى العلامة والمراد بها مبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانشقاق القمر ونحوهما وقوله تعالى (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) * حكم بخطئهم وفساد رأيهم فى تأخير التذكر إلى إتيانها ببيان استحالة نفع التذكر حينئذ كقوله تعالى (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أى وكيف لهم ذكراهم إذا جاءتهم على أن أنى خبر مقدم وذكراهم مبتدأ وإذا جاءتهم اعتراض وسط بينهما رمزا إلى غاية سرعة مجيئها وإطلاق المجىء عن قيد البغتة لما أن مدار استحالة نفع التذكر كونه عند مجيئه مطلقا لا مقيدا بقيد البغتة وقرىء إن تأتهم على أنه شرط مستأنف جزاؤه فأنى لهم الخ والمعنى إن تأتهم الساعة بغتة لأنه قد ظهر أماراتها فكيف لهم تذكرهم واتعاظهم إذا جاءتهم (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) أى إذا علمت أن مدار السعادة هو التوحيد والطاعة ومناط الشقاوة هو الإشراك والعصيان فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية والعمل بموجبه (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) وهو الذى ربما يصدر* عنه عليه الصلاة والسلام من ترك الأولى عبر عنه بالذنب نظرا إلى منصبه الجليل كيف لا وحسنات الأبرار سيئات المقربين وإرشاد له عليه الصلاة والسلام إلى التواضع وهضم النفس واستقصار العمل (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أى لذنوبهم بالدعاء لهم وترغيبهم فيما يستدعى غفرانهم وفى إعادة صلة الاستغفار* تنبيه على اختلاف متعلقيه جنسا وفى حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه إشعار بعراقتهم فى الذنب وفرط افتقارهم إلى الاستغفار (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) فى الدنيا فإنها مراحل لا بد من قطعها* لا محالة (وَمَثْواكُمْ) فى العقبى فإنها مواطن إقامتكم فلا يأمركم إلا بما هو خير لكم فيهما فبادروا إلى الامتثال* بما أمركم به فإنه المهم لكم فى المقامين وقيل يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه شىء منها (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) حرصا منهم على الجهاد (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) أى هلا نزلت سورة نؤمر فيها بالجهاد (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) بطريق الأمر به أى سورة مبينة لا تشابه ولا احتمال فيها لوجه آخر سوى وجوب القتال. عن قتادة كل سورة فيها ذكر القتال فهى محكمة لم تنسخ وقرىء فإذا نزلت

٩٧

(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) (٢٢)

____________________________________

* سورة وقرىء وذكر على إسناد الفعل إلى ضميره تعالى ونصب القتال (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) * أى ضعف فى الدين وقيل نفاق وهو الأظهر الأوفق لسياق النظم الكريم (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أى تشخص أبصارهم جبنا وهلعا كدأب من أصابته غشية الموت (فَأَوْلى لَهُمْ) أى فويل لهم وهو أفعل من الولى وهو القرب وقيل من آل ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه أو يؤول إليه أمرهم وقيل هو مشتق من الويل وأصله أويل نقلت العين إلى ما بعد اللام فوزنه أفلع (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) كلام مستأنف أى أمرهم طاعة الخ أو طاعة وقول معروف خير لهم أو حكاية لقولهم* ويؤيده قراءة أبى يقولون طاعة وقول معروف أى أمرنا ذلك (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أسند العزم وهو الجد إلى الأمر وهو لأصحابه مجازا كما فى قوله تعالى (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وعامل الظرف محذوف* أى خالفوا وتخلفوا وقيل ناقضوا وقيل كرهوا وقيل هو قوله تعالى (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) على طريقة قولك إذا حضرنى طعام فلو جئتنى لأطعمتك أى فلو صدقوه تعالى فيما قالوا من الكلام المنبىء عن الحرص* على الجهاد بالجرى على موجبه (لَكانَ) أى الصدق (خَيْراً لَهُمْ) وفيه دلالة على اشتراك الكل فيما حكى عنهم من قوله تعالى (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) وقيل فلو صدقوه فى الإيمان وواطأت قلوبهم فى ذلك ألسنتهم وأيا ما كان فالمراد بهم الذين فى قلوبهم مرض وهم المخاطبون بقوله تعالى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) الخ بطريق* الالتفات لتأكيد التوبيخ وتشديد التقريع أى هل يتوقع منكم (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أمور الناس وتأمرتم عليهم* (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) تناحرا على الملك وتهالكا على الدنيا فإن من شاهد أحوالكم الدالة على الضعف فى الدين والحرص على الدنيا حين أمرتم بالجهاد الذى هو عبارة عن إحراز كل خير وصلاح ودفع كل شر وفساد وأنتم مأمورون شأنكم الطاعة والقول المعروف يتوقع منكم إذا أطلقت أعنتكم وصرتم آمرين ما ذكر من الإفساد وقطع الأرحام وقيل إن أعرضتم عن الإسلام أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه فى الجاهلية من الإفساد فى الأرض بالتغاور والتناهب وقطع الأرحام بمقاتلة بعض الأقارب بعضا ووأد البنات وفيه أن الواقع فى حيز الشرط فى مثل هذا المقام لا بد أن تكون محذوريته باعتبار ما يستتبعه من المفاسد لا باعتبار ذاته ولا ريب فى أن الإعراض عن الإسلام رأس كل شر وفساد فحقه أن يجعل عمدة فى التوبيخ لا وسيلة للتوبيخ بما دونه من المفاسد وقرىء وليتم على البناء للمفعول أى جعلتم ولاة وقرىء توليتم أى تولاكم ولاة جور خرجتم معهم وساعدتموهم فى الإفساد وقطيعة الرحم وقرىء وتقطعوا من التقطع بحذف إحدى التاءين فانتصاب أرحامكم حينئذ على نزع الجار أى فى أرحامكم وقرىء وتقطعوا من القطع وإلحاق الضمير بعسى لغة أهل الحجاز وأما بنو

٩٨

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) (٢٦)

____________________________________

تميم فيقولون عسى أن تفعل وعسى أن تفعلوا (أُولئِكَ) إشارة إلى المخاطبين بطريق الالتفات إيذانا بأن ذكر هناتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم وهو مبتدأ خبره (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أى أبعدهم من رحمته (فَأَصَمَّهُمْ) عن استماع الحق لتصامهم عنه بسوء اختيارهم* (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) لتعاميهم عما يشاهدونه من الآيات المنصوبة فى الأنفس والآفاق (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) أى ألا يلاحظونه ولا يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) فلا يكاد يصل إليها ذكر أصلا وأم منقطعة وما فيها من معنى* بل للانتقال من التوبيخ بعدم التدبر إلى التوبيخ بكون قلوبهم مقفلة لا تقبل التدبر والتفكر والهمزة للتقرير وتنكير القلوب إما لتهويل حالها وتفظيع شأنها بإبهام أمرها فى القساوة والجهالة كأنه قيل على قلوب منكرة لا يعرف حالها ولا يقادر قدرها فى القساوة وإما لأن المراد بها قلوب بعض منهم وهم المنافقون وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أنها أقفال مخصوصة بها مناسبة لها غير مجانسة لسائر الأقفال المعهودة وقرىء أقفلها وأقفالها على المصدر (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) أى رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفروهم المنافقون الذين وصفوا فيما سلف بمرض القلوب وغيره من قبائح الأفعال والأحوال فإنهم قد كفروا به عليه الصلاة والسلام (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) بالدلائل الظاهرة والمعجزات* القاهرة وقيل هم اليهود وقيل أهل الكتابين جميعا كفروا به عليه الصلاة والسلام بعد ما وجدوا نعته فى كتابهم وعرفوا أنه المنعوت بذلك وقوله تعالى (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) جملة من مبتدأ وخبر وقعت* خبرا لأن أى سهل لهم ركوب العظائم من السول وهو الاسترخاء وقيل من السول المخفف من السؤل لاستمرار القلب فمعنى سول له أمرا حينئذ أوقعه فى أمنيته فإن السؤل الأمنية وقرىء سول مبنيا للمفعول على حذف المضاف أى كيد الشيطان (وَأَمْلى لَهُمْ) ومد لهم فى الأمانى والآمال وقيل أمهلهم* الله تعالى ولم يعاجلهم بالعقوبة وقرىء وأملى لهم على صيغة المتكلم فالمعنى أن الشيطان يغويهم وأنا أنظرهم فالواو للحال أو للاستئناف وقرىء أملى لهم على البناء للمفعول أى أمهلوا ومد فى عمرهم (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من ارتدادهم لا إلى الإملاء كما نقل عن الواحدى ولا إلى التسويل كما قيل لأن شيئا منهما ليس مسببا عن القول الآتى وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (بِأَنَّهُمْ) أى بسبب أنهم (قالُوا) يعنى* المنافقين المذكورين لا لليهود الكافرين به عليه الصلاة والسلام بعد ما وجدوا نعته فى التوراة كما قيل

٩٩

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) (٢٩)

____________________________________

فإن كفرهم به ليس بسبب هذا القول ولو فرض صدوره عنهم سواء كان المقول لهم المنافقين أو المشركين* على رأى القائل بل من حين بعثته عليه الصلاة والسلام (لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) أى لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع علمهم بأنه من عند الله تعالى حسدا وطمعا فى نزوله* عليهم لا للمشركين كما قيل فإن قوله تعالى (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) عبارة قطعا عما حكى عنهم بقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) وهم بنو قريظة والنضير الذين كانوا يوالونهم ويوادونهم وأرادوا بالبعض الذى أشاروا إلى عدم إطاعتهم فيه إظهار كفرهم وإعلان أمرهم بالفعل قبل قتالهم وإخراجهم من ديارهم فإنهم كانوا يأبون ذلك قبل مساس الحاجة الضرورية الداعية إليه لما كان لهم فى إظهار الإيمان من المنافع الدنيوية وإنما كانوا يقولون لهم ما يقولون سرا كما يعرب عنه* قوله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أى إخفاءهم لما يقولونه لليهود وقرىء أسرارهم أى جميع أسرارهم التى من جملتها قولهم هذا والجملة اعتراض مقرر لما قبله متضمن للإفشاء فى الدنيا والتعذيب فى الآخرة والفاء فى قوله تعالى (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها وكيف منصوب بفعل محذوف هو العامل فى الظرف كأنه قيل يفعلون فى حياتهم ما يفعلون من الحيل فكيف يفعلون إذا توفتهم الملائكة وقيل مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى فكيف حالهم أو حيلتهم إذا توفتهم الخ وقرىء* توفاهم على أنه إما ماض أو مضارع قد حذف إحدى تاءيه (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) حال من فاعل توفتهم أو من مفعوله وهو تصوير لتوفيهم على أهول الوجوه وأفظعها وعن ابن عباس رضى الله عنهما لا يتوفى أحد على معصية إلا يضرب الملائكة وجهه ودبره (ذلِكَ) التوفى الهائل (بِأَنَّهُمُ) * أى بسبب أنهم (اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) من الكفر والمعاصى (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) أى ما يرضاه من* الإيمان والطاعة حيث كفروا بعد الإيمان وخرجوا عن الطاعة بما صنعوا من المعاملة مع اليهود (فَأَحْبَطَ) * لأجل ذلك (أَعْمالَهُمْ) التى عملوها حال إيمانهم من الطاعات أو بعد ذلك من أعمال البر التى لو عملوها حال الإيمان لانتفعوا بها (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم المنافقون الذين فصلت أحوالهم* الشنيعة وصفوا بوصفهم السابق لكونه مدار لمانعى عليهم بقوله تعالى (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) فأم منقطعة وأن مخففة من أن وضمير الشأن الذى هو اسمها محذوف ولن بما فى حيزها خبرها والأضغان جمع ضغن وهو الحقد أى بل أحسب الذين فى قلوبهم حقدا وعداوة للمؤمنين أنه لن يخرج الله أحقادهم

١٠٠