تفسير أبي السّعود - ج ٨

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٨

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١١)

____________________________________

الإثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بالطريق الأولوية لتضاعف الفتنة والفساد فيه وقيل المراد بالأخوين الأوس والخزرج وقرىء بين أخوتكم وإخوانكم (وَاتَّقُوا اللهَ) فى كل* ما تأتون وما تذرون ومن الأمور التى من جملتها ما أمرتم به من الإصلاح (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) راجين أن* ترحموا على تقواكم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ) أى منكم (مِنْ قَوْمٍ) آخرين أيضا منكم وقوله تعالى (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) تعليل للنهى أو لموجبه أى عسى أن يكون المسخور منهم خيرا* عند الله تعالى من الساخرين والقوم مختص بالرجال لأنهم القوام على النساء وهو فى الأصل إما جمع قائم كصوم وزور فى جمع صائم وزائر أو مصدر نعت به فشاع فى الجمع وأما تعميمه للفريقين فى مثل قوم عاد وقوم فرعون فإما للتغليب أو لأنهن توابع واختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية فى المجمع والتنكير إما للتعميم أو للقصد إلى نهى بعضهم عن سخرية بعض لما أنها مما يجرى بين بعض وبعض (وَلا نِساءٌ) أى ولا تسخر نساء من المؤمنات (مِنْ نِساءٍ) منهن (عَسى أَنْ يَكُنَّ) أى المسخور منهن* (خَيْراً مِنْهُنَّ) أى من الساخرات فإن مناط الخيرية فى الفريقين ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال* ولا الأوضاع والأطوار التى عليها يدور أمر السخرية غالبا بل إنما هو الأمور الكامنة فى القلوب فلا يجترىء أحد على استحقار أحد فلعله أجمع منه لما نيط به الخيرية عند الله تعالى فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى والاستهانة بمن عظمه الله تعالى وقرىء عسوا أن يكونوا وعسين أن يكن فعسى حينئذ هى ذات الخبر كما فى قوله تعالى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) وأما على الأول فهى التى لا خبرها (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أى ولا يعب بعضكم بعضا فإن المؤمنين كنفس واحدة أو لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه واللمز الطعن باللسان وقرىء بضم الميم (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) * أى ولا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء فإن النبز مختص به عرفا (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) * أى بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسق بعد دخولهم الإيمان أو اشتهارهم به فإن الاسم ههنا بمعنى الذكر من قولهم طار اسمه فى الناس بالكرم أو باللؤم والمراد به إما تهجين نسبة الكفر والفسوق إلى المؤمنين خصوصا إذ روى أن الآية نزلت فى صفية بنت حيى أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت إن النساء يقلن لى يا يهودية بنت يهوديين فقال عليه الصلاة والسلام هلا قلت إن أبى هرون وعمى موسى وزوجى محمد عليهم‌السلام أو الدلالة على أن التنابز فسق والجمع بينه وبين الإيمان قبيح (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) عما نهى عنه (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض*

١٢١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (١٢)

____________________________________

النفس للعذاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) أى كونوا على جانب منه وإبهام الكثير لإيجاب الاحتياط والتأمل فى كل ظن ظن حتى يعلم أنه من أى قبيل فإن من الظن ما يجب اتباعه كالظن فيما لا قاطع فيه من العمليات وحسن الظن بالله تعالى ومنه ما يحرم كالظن فى الإلهيات والنبوات وحيث* يخالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين ومنه ما يباح كالظن فى الأمور المعاشية (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) تعليل للأمر بالاجتناب أو لموجبه بطريق الاستئناف التحقيقى والإثم الذنب الذى يستحق العقوبة عليه* وهمزته منقلبة من الواو كأنه يثم الأعمال أى يكسرها (وَلا تَجَسَّسُوا) أى ولا تبحثوا عن عورات المسلمين تفعل من الجس لما فيه من معنى الطلب كما أن التلمس بمعنى التطلب لما فى اللمس من الطلب وقد جاء بمعنى الطلب فى قوله تعالى (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) وقرىء بالحاء من الحس الذى هو إثر الجس وغايته ولتقاربهما يقال للمشاعر الحواس بالحاء والجيم وفى الحديث لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع* عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو فى جوف بيته (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أى لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء فى غيبته وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الغيبة فقال أن تذكر أخاك بما يكره فإن كان فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته وعن ابن عباس رضى الله عنهما الغيبة إدام* كلاب الناس (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) تمثيل وتصوير لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه وأشنعه طبعا وعقلا وشرعا مع مبالغات من فنون شتى الاستفهام التقريرى وإسناد الفعل إلى أحد إيذانا بأن أحدا من الأحدين لا يفعل ذلك وتعليق المحبة بما هو فى غاية الكراهة وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان وجعل المأكول أخا للآكل وميتا وإخراج تماثلها مخرج أمر بين غنى عن الإخبار به وقرىء ميتا بالتشديد وانتصابه على الحالية* من اللحم وقيل من الأخ والفاء فى قوله تعالى (فَكَرِهْتُمُوهُ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها من التمثيل كأنه* قيل وحيث كان الأمر كما ذكر فقد كرهتموه وقرى كرهتموه أى جبلتم على كراهته (وَاتَّقُوا اللهَ) * بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما صدر عنكم من قبل (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) مبالغ فى قبول التوبة وإفاضة الرحمة حيث يجعل التائب كمن لم يذنب ولا يخص ذلك بتائب دون تائب بل يعم الجميع وإن كثرت ذنوبهم روى أن رجلين من الصحابة رضى الله عنهم بعثا سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبغى لهما إداما وكان أسامة على طعامه عليه الصلاة والسلام فقال ما عندى شىء فأخبرهما سلمان فقالا لو بعثنا سليمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها فلما راحا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهما مالى أرى خضرة اللحم فى أفواهكما فقالا ما تناولنا لحما فقال عليه الصلاة والسلام إنكما قد اغتبتما

١٢٢

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤)

____________________________________

فنزلت (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) من آدم وحواء أو خلقنا كل واحد منكم من أب وأم فالكل سواء فى ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب وقد جوز أن يكون تأكيدا للنهى السابق بتقرير الأخوة المانعة من الاغتياب (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) الشعب الجمع العظيم المنتسبون إلى* أصل واحد وهو يجمع القبائل والقبيلة تجمع العمائر والعمارة تجمع البطون والبطن يجمع الأفخاذ والفخذ يجمع الفصائل فخزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصى بطن وهاشم فخذ والعباس فصيلة وقيل الشعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب (لِتَعارَفُوا) ليعرف بعضكم بعضا بحسب الأنساب فلا* يعتزى أحد إلى غير آبائه لا لتتفاخروا بالآباء والقبائل وتدعوا التفاوت والتفاضل فى الأنساب وقرىء لتتعارفوا على الأصل ولتعارفوا بالإدغام ولتعرفوا (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) تعليل للنهى عن* التفاخر بالأنساب المستفاد من الكلام بطريق الاستئناف التحقيقى كأنه قيل إن الأكرم عنده تعالى هو الأتقى فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى وقرىء بأن المفتوحة على حذف لام التعليل كأنه قيل لم لا تتفاخروا بالأنساب فقيل لأن أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم فإن مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى فمن رام نيل الدرجات العلا فعليه بالتقوى قال عليه الصلاة والسلام من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله وقال عليه الصلاة والسلام يأيها الناس إنما الناس رجلان مؤمن تقى كريم على الله تعالى وفاجر شقى هين على الله تعالى وعن ابن عباس رضى الله عنهما كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بكم وبأعمالكم (خَبِيرٌ) ببواطن أحوالكم (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) نزلت فى نفر من بنى أسد قدموا المدينة فى سنة جدب فأظهروا الشهادتين وكانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون الصدقة ويمنون عليه عليه الصلاة والسلام ما فعلوا (قُلْ) ردا لهم (لَمْ تُؤْمِنُوا) إذ الإيمان هو التصديق المقارن للثقة* وطمأنينة القلب ولم يحصل لكم ذلك وإلا لما مننتم على ما ذكرتم كما ينبىء عنه آخر السورة (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) فإن الإسلام انقياد ودخول فى السلم وإظهار الشهادة وترك المحاربة مشعر به وإيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا أو لم تؤمنوا ولكن أسلمتم للاحتراز من النهى عن التلفظ بالإيمان وللتفادى عن إخراج قولهم مخرج التسليم والاعتداد به مع كونه تقولا محضا (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) حال من ضمير قولوا أى ولكن قولوا أسلمنا حال عدم مواطأة* قلوبكم لألسنتكم وما فى لما من معنى التوقع مشعر بأن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) *

١٢٣

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨)

____________________________________

* بالإخلاص وترك النفاق (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ) لا ينقصكم (شَيْئاً) من أجورها من لات يليت ليتا* إذا نقص وقرىء لا يألتكم من الألت وهى لغة غطفان أو شيئا من النقص (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما فرط من المطيعين (رَحِيمٌ) بالتفضل عليهم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) لم يشكوا من ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه فى الشك مع التهمة وفيه إشارة إلى أن فيهم ما يوجب نفى الإيمان عنهم وثم للإشعار بأن اشتراط عدم الارتياب فى اعتبار الإيمان ليس فى حال إنشائه فقط بل وفيما* يستقبل فهى كما فى قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَقامُوا) * (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) فى طاعته على* تكثر فنونها من العبادات البدنية المحضة والمالية الصرفة والمشتملة عليها معا كالحج والجهاد (أُولئِكَ) * الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الجميلة (هُمُ الصَّادِقُونَ) أى الذين صدقوا فى دعوى الإيمان لا غيرهم روى أنه لما نزلت الآية جاؤا وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون فنزل لتكذيبهم قوله تعالى (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) أى أتخبرونه بذلك بقولكم آمنا والتعبير عنه بالتعليم لغاية تشنيعهم (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) حال من مفعول تعلمون مؤكدة لتشنيعهم وقوله تعالى (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تذييل مقرر لما قبله أى مبالغ فى العلم بجميع الأشياء التى من جملتها ما أخفوه من الكفر عند إظهارهم الإيمان وفيه مزيد تجهيل وتوبيخ لهم (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أى يعدون إسلامهم منة عليك وهى النعمة التى لا يطلب موليها ثوابا ممن أنعم بها عليه من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها* قطع حاجته وقيل النعمة الثقيلة من المن (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) أى لا تعدوا إسلامكم منة على أو* لا تمنوا على بإسلامكم فنصب بنزع الخافض (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) على ما زعمتم مع أن* الهداية لا تستلزم الاهتداء وقرىء أن هداكم وإذ هداكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى ادعاء الإيمان وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله أى فلله المنة عليكم وفى سياق النظم الكريم من اللطف ما لا يخفى فإنهم لما سموا ما صدر عنهم إيمانا ومنوا به فنفى كونه إيمانا وسمى إسلاما قيل يمنون عليك بما هو فى الحقيقة إسلام وليس بجدير بالمن بل لو صح ادعاؤهم للإيمان فلله المنة عليهم بالهداية إليه لا لهم (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى ما غاب فيهما (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فى سركم وعلانيتكم فكيف يخفى عليه

١٢٤

٥٠ ـ سورة ق

(مكية وهى خمس وأربعون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (٣)

____________________________________

ما فى ضمائركم وقرىء بالياء. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الحجرات أعطى من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه.

(سورة ق مكية وأياتها خمس وأربعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أى ذى المجد والشرف على سائر الكتب أو لأنه كلام المجيد أو لأن من علم معانيه وعمل بما فيه مجد عند الله تعالى وعند الناس والكلام فيه كالذى فصل فى مطلع سورة ص وقوله تعالى (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أى لأن جاءهم منذر من جنسهم لا من جنس الملك أو من جلدتهم إضراب عما ينبىء عنه جواب القسم المحذوف كأنه قيل والقرآن المجيد أنزلناه إليك لتنذر به الناس حسبما ورد فى صدر سورة الأعراف كأنه قيل بعد ذلك لم يؤمنوا به بل جعلوا كلا من المنذر والمنذر به عرضة للنكير والتعجيب مع كونهما أوفق شىء لقضية العقول وأقربه إلى التلقى بالقبول وقيل التقدير والقرآن المجيد إنك لمنذر ثم قيل بعده إنهم شكوا فيه ثم أضرب عنه وقيل بل عجبوا أى لم يكتفوا بالشك والرد بل جزموا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة وقيل هو إضراب عما يفهم من وصف القرآن بالمجيد كأنه قيل ليس سبب امتناعهم من الإيمان بالقرآن أنه لا مجد له ولكن لجهلهم (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) تفسير لتعجيبهم وبيان لكونه مقارنا* لغاية الإنكار مع زيادة تفصيل لمحل التعجب وهذا إشارة إلى كونه عليه الصلاة والسلام منذرا بالقرآن وإضمارهم أولا للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم وإظهارهم ثانيا للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه أو عطف لتعجبهم من البعثة على أن هذا إشارة إلى مبهم يفسره ما بعده من الجملة الإنكارية ووضع المظهر موضع المضمر إما لسبق اتصافهم بما يوجب كفرهم وإما للإيذان بأن تعجبهم من البعث لدلالته على استقصارهم لقدرة الله سبحانه عنه مع معاينتهم لقدرته تعالى على ما هو أشق منه فى قياس العقل من مصنوعاته البديعة أشنع من الأول وأعرق فى كونه كفرا (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) تقرير للتعجيب وتأكيد للإنكار

١٢٥

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٨)

____________________________________

والعامل فى إذا مضمر غنى عن البيان لغاية شهرته مع دلالة ما بعده عليه أى أحين نموت ونصير ترابا نرجع كما ينطق به النذير والمنذر به مع كمال التباين بيننا وبين الحياة حينئذ وقرىء إذا متنا على لفظ* الخبر أو على حذف أداة الإنكار (ذلِكَ) إشارة إلى محل النزاع (رَجْعٌ بَعِيدٌ) أى عن الأوهام أو العادة أو الإمكان وقيل الرجع بمعنى المرجوع الذى هو الجواب فناصب الظرف حينئذ ما ينبىء عنه المنذر من البعث (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) زد لاستبعادهم وإزاحة له فإن من عم علمه ولطف حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى وتأكل من لحومهم وعظامهم كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب وقيل ما تنقص* الأرض منهم ما يموت فيدفن فى الأرض منهم (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) حافظ لتفاصيل الأشياء كلها أو محفوظ من التغير والمراد إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها بعلم من عنده كتاب محيط يتلقى منه كل شىء أو تأكيد لعلمه تعالى بها بثبوتها فى اللوح المحفوظ عنده (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ) إضراب وانتقال من بيان شناعتهم السابقة إلى بيان ما هو أشنع منه وأفظع وهو تكذيبهم للنبوة الثابتة بالمعجزات* الباهرة (لَمَّا جاءَهُمْ) من غير تأمل وتفكر وقرىء لما جاءهم بالكسر على أن اللام للتوقيت أى وقت* مجيئه إياهم وقيل الحق القرآن أو الإخبار بالبعث (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أى مضطرب لا قرار له من مرج الخاتم فى أصبعه حيث يقولون تارة إنه شاعر وتارة ساحر وأخرى كاهن (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا) أى* أغفلوا أو أعموا فلم ينظروا (إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) بحيث يشاهدونها كل وقت (كَيْفَ بَنَيْناها) أى رفعناها* بغير عمد (وَزَيَّنَّاها) بما فيها من الكواكب المرتبة على نظام بديع (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) من فتوق لملاستها وسلامتها من كل عيب وخلل ولعل تأخير هذا لمراعاة الفواصل (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أى بسطناها* (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) جبالا ثوابت من رسا الشىء إذا ثبت والتعبير عنها بهذا الوصف للإيذان بأن إلقاءها بإرساء الأرض بها (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) من كل صنف (بَهِيجٍ) حسن (تَبْصِرَةً وَذِكْرى) علتان للأفعال المذكورة معنى وإن انتصبتا بالفعل الأخير أو لفعل مقدر بطريق الاستئناف أى فعلنا* ما فعلنا تبصيرا وتذكيرا (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أى راجع إلى ربه متفكر فى بدائع صنائعه.

١٢٦

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ) (١٣)

____________________________________

وقوله تعالى (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) أى كثير المنافع شروع فى بيان كيفية إنبات ما ذكر من كل روج بهيج وهو عطف على أنبتنا وما بينهما على الوجه الأخير اعتراض مقرر لما قبله ومنبه على ما بعده (فَأَنْبَتْنا بِهِ) أى بذلك الماء (جَنَّاتٍ) كثيرة أى أشجارا ذوات ثمار (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أى* حب الزرع الذى شأنه أن يحصد من البر والشعير وأمثالهما وتخصيص إنبات حبه بالذكر لأنه المقصود بالذات (وَالنَّخْلَ) عطف على (جَنَّاتٍ) وتخصيصها بالذكر مع اندراجها فى الجنات لبيان فضلها على سائر الأشجار وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتيازها عن البقية مع ما فيها من مراعاة الفواصل (باسِقاتٍ) أى طوالا أو حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون من باب أفعل فهو فاعل وقرىء* باصقات لأجل القاف (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) أى منضود بعضه فوق بعض والمراد تراكم الطلع أو كثرة* ما فيه من الثمر والجملة حال من النخل كباسقات بطريق الترادف أو من ضميرها فى باسقات على التداخل أو الحال هو الجار والمجرور وطلع مرتفع به على الفاعلية وقوله تعالى (رِزْقاً لِلْعِبادِ) أى لنرزقهم علة لقوله تعالى (فَأَنْبَتْنا) وفى تعليله بذلك بعد تعليل أنبتنا الأول بالتبصرة والتذكير تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار أهم وأقدم من تمتعه به من حيث الرزق وقيل رزقا مصدر من معنى أنبتنا لأن الإنبات رزق (وَأَحْيَيْنا بِهِ) أى بذلك الماء (بَلْدَةً مَيْتاً) أرضا* جدبة لا نماء فيها أصلا بأن جعلناها بحيث ربت وأنبتت أنواع النبات والأزهار فصارت تهتز بها بعد ما كانت جامدة هامدة وتذكير ميتا لأن البلدة بمعنى البلد والمكان (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) جملة قدم فيها الخبر للقصد إلى* القصر وذلك إشارة إلى الحياة المستفادة من الإحياء وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد رتبتها أى مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور لا شىء مخالف لها وفى التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء وعن حياة الموتى بالخروج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث وتحقيق للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس وتقريبه إلى أفهام الناس وقوله تعالى (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) الخ استئناف وارد لتقرير حقية البعث ببيان كافة الرسل عليهم‌السلام عليها وتعذيب منكريها (وَأَصْحابُ الرَّسِّ) قيل هم ممن بعث إليهم شعيب عليه‌السلام وقيل وقيل* كما مر فى سورة الفرقان على التفصيل (وَثَمُودُ) (وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ) أى هو وقومه ليلائم ما قبله وما بعده

١٢٧

(وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (١٧)

____________________________________

(وَإِخْوانُ لُوطٍ) قيل كانوا من أصهاره عليه الصلاة والسلام (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) هم ممن بعث إليهم* شعيب عليه‌السلام غير أهل مدين (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) سبق شرح حالهم فى سورة الدخان (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) أى فيما أرسلوا به من الشرائع التى من جملتها البعث الذى أجمعوا عليه قاطبة أى كل قوم من الأقوام المذكورين كذبوا رسولهم أو كذب جميعهم جميع الرسل بالمعنى المذكور وإفراد الضمير باعتبار لفظ الكل أو كل واحد منهم كذب جمع الرسل لاتفاقهم على الدعوة إلى التوحيد والإنذار بالبعث والحشر فتكذيب واحد منهم تكذيب للكل وهذا على تقدير رسالة تبع ظاهر وأما على تقدير عدمها وهو الأظهر فمعنى تكذيب قومه الرسل تكذيبهم بمن قبلهم من الرسل المجمعين على التوحيد والبعث وإلى* ذلك كان يدعوهم تبع (فَحَقَّ وَعِيدِ) أى فوجب وحل عليهم وعيدى وهى كلمة العذاب وفيه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد لهم (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) استئناف مقرر لصحة البعث الذى حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة والعى بالأمر العجز عنه يقال عى بالأمر وعيى به إذا لم يهتد لوجه عمله والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينبىء عنه العى من القصد والمباشرة كأنه* قيل أقصدنا الخلق الأول فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) عطف على مقدر يدل عليه ما قبله كأنه قيل هم غير منكرين لقدرتنا على خلق الأول بل هم فى خلط وشبهة فى خلق مستأنف لما فيه من مخالفة العادة وتنكير خلق لتفخيم شأنه والإشعار بخروجه عن حدود العادات والإيذان بأنه حقيق بأن يبحث عنه ويهتم بمعرفته (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أى ما تحدثه به نفسه وهو يخطر بالبال والوسوسة الصوت الخفى ومنه وسواس الحلى والضمير* لما إن جعلت موصولة والباء كما فى صوت بكذا أو للإنسان وإن جعلت مصدرية والباء للتعدية (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) أى أعلم بحاله ممن كان أقرب إليه من حبل الوريد عبر عن قرب العلم بقرب الذات تجوزا لأنه موجب له وحبل الوريد مثل فى فرط القرب والحبل العرق وإضافته بيانية والوريدان عرقان مكتنفان بصفحتى العنق فى مقدمها متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه وقيل سمى وريدا لأن الروح ترده (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) منصوب بما فى أقرب من معنى الفعل والمعنى أنه لطيف يتوصل علمه إلى ما لا شىء أخفى منه وهو أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى ويتلقن الحفيظان ما يتلفظ به وفيه إيذان بأنه تعالى غنى عن استحفاظهما لإحاطة علمه بما يخفى عليهما وإنما ذلك لما فى كتبتهما وحفظهما لأعمال العبد وعرض صحائفهما يوم يقوم الأشهاد وعلم العبد بذلك مع علمه

١٢٨

(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١٩)

____________________________________

بإحاطته تعالى بتفاصيل أحواله خبرا من زيادة لطف له فى الكف عن السيئات والرغبة فى الحسنات وعنه عليه الصلاة والسلام أن مقعد ملكيك على ثنيتيك ولسانك قلبهما وريقك مدادهما وأنت تجرى فيما لا يعنيك لا تستحيى من الله ولا منهما وقد جوز أن يكون تلقى الملكين بيانا للقرب على معنى أنا أقرب إليه مطلعون على أعماله لأن حفظتنا وكتبتنا موكلون به (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أى* عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد أى مقاعد كالجليس بمعنى المجالس لفظا ومعنى فحذف الأول لدلالة الثانى عليه كما فى قول من قال [رمانى بأمر كنت منه ووالدى * بريئا ومن أجل الطوى رمانى] وقيل يطلق الفعيل على الواحد والمتعدد كما فى قوله تعالى (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) ما يرمى به من فيه من خير أو شر وقرىء ما يلفظ على البناء للمفعول (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ) ملك يرقب قوله ويكتبه* فإن كان خيرا فهو صاحب اليمين بعينه وإلا فهو صاحب الشمال ووجه تغيير العنوان غنى عن البيان والإفراد مع وقوفهما معا على ما صدر عنه لما أن كلا منهما رقيب لما فوض إليه لا لما فوض إلى صاحبه كما ينبىء عنه قوله تعالى (عَتِيدٌ) أى معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير أو الشر ومن لم يتنبه له توهم* أن معناه رقيبان عتيدان وتخصيص القول بالذكر لإثبات الحكم فى الفعل بدلالة النص واختلف فيما يكتبانه فقيل يكتبان كل شىء حتى أنينه فى مرضه وقيل إنما يكتبان ما فيه من أجر أو وزر وهو الأظهر كما ينبىء عنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يساره وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) بعد ما ذكر استبعادهم للبعث والجزاء وأزيح ذلك بتحقيق قدرته تعالى وعلمه وبين أن جميع أعمالهم محفوظة مكتوبة عليهم أتبع ذلك ببيان ما يلاقونه لا محالة من الموت والبعث وما يتفرع عليه من الأحوال والأهوال وقد عبر عن وقوع كل منها بصيغة الماضى إيذانا بتحقيقها وغاية اقترابها وسكرة الموت شدته الذاهبة بالعقل والباء إما للتعدية كما فى قولك جاء الرسول بالخبر والمعنى أحضره سكرة الموت حقيقة الأمر الذى نطقت به كتب الله ورسله أو حقيقة الأمر وجلية الحال من سعادة الميت وشقاوته وقيل الحق الذى لا بد أن يكون لا محالة من الموت أو الجزاء فإن الإنسان خلق له وإما للملابسة كالتى فى قوله تعالى (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أى ملتبسة بالحق أى بحقيقة الأمر أو بالحكمة والغاية الجميلة وقرىء سكرة الحق بالموت والمعنى أنها السكرة التى كتبت على الإنسان بموجب الحكمة وأنها لشدتها توجب زهوق الروح أو تستعقبه وقيل الباء بمعنى مع وقيل سكرة الحق سكرة الله تعالى على أن الإضافة للتهويل

١٢٩

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) (٢٤)

____________________________________

* وقرىء سكرات الموت (ذلِكَ) أى الموت (ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أى تميل وتنفر عنه والخطاب للإنسان فإن النفرة عنه شاملة لكل فرد من أفراده طبعا (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) هى النفخة الثانية (ذلِكَ) أى* وقت ذلك النفخ على حذف المضاف (يَوْمُ الْوَعِيدِ) أى يوم إنجاز الوعيد الواقع فى الدنيا أى يوم وقوع الوعيد على أنه عبارة عن العذاب الموعود وقيل ذلك إشارة إلى الزمان المفهوم من نفخ فإن الفعل كما يدل على الحدث يدل على الزمان وتخصيص الوعيد بالذكر مع أنه يوم الوعد أيضا لتهويله ولذلك بدىء ببيان حال الكفرة (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ) من النفوس البرة والفاجرة (مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) وإن اختلفت كيفية السوق والشهادة حسب اختلاف النفوس عملا أى معها ملكان أحدهما يسوقها إلى المحشر والآخر يشهد بعملها أو ملك جامع بين الوصفين كأنه قيل معهاملك يسوقها ويشهد عليها وقيل السائق كاتب السيئات والشهيد كاتب الحسنات وقيل السائق نفسه أو قرينه والشهيد جوارحه أو أعماله ومحل معها النصب على الحالية من كل لإضافته إلى ما هو فى حكم المعرفة كأنه قيل كل النفوس أو الجر على أنه وصف لنفس أو الرفع على أنه وصف لكل وقوله تعالى (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) محكى بإضمار قول هو إما صفة أخرى لنفس أو حال أخرى منها أو استئناف مبنى على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل فماذا يفعل بها فقيل يقال لقد كنت فى غفلة الخ وخطاب الكل بذلك لما أنه ما من أحد إلا وله غفلة ما من الآخرة وقيل الخطاب للكافر وقرىء كنت بكسر التاء على اعتبار تأنيث النفس والتذكير على القراءة المشهورة بتأويل الشخص كما فى قول جبلة بن حريث[يا نفس إنك باللذات مسرورا * فاذكر فهل ينفعك اليوم تذكير] (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) الغطاء الحجاب المغطى لأمور المعاد وهو* الغفلة والانهماك فى المحسوسات والألف بها وقصر النظر عليها (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) نافذ لزوال المانع للإبصار وقرىء بكسر الكاف فى المواضع الثلاثة (وَقالَ قَرِينُهُ) أى الشيطان المقيض له مشيرا إليه* (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) أى هذا ما عندى وفى ملكتى عتيد لجهنم قد هيأته لها بإغوائى وإضلالى وقيل قال الملك الموكل به مشيرا إلى ما معه من كتاب عمله هذا مكتوب عندى عتيد مهيأ للعرض وما إن جعلت موصوفة فعتيد صفتها وإن جعلت موصولة فهى بدل منها أو خبر بعد خبر أو خبر لمبتدأ محذوف (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ) خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد أو للملكين من خزنة النار

١٣٠

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (٢٩)

____________________________________

أو لواحد على تنزيل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل وتكريره كقول من قال[فإن تزجرانى يا ابن عفان أنزجر * وإن تدعانى أحم عرضا ممنعا] أو على أن الألف بدل من نون التأكيد على إجراء الوصل مجرى الوقف ويؤيده أنه قرىء ألقين بالنون الخفيفة (عَنِيدٍ) معاند للحق (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) كثير المنع للمال عن حقوقه المفروضة وقيل المراد بالخير الإسلام فإن الآية نزلت فى الوليد بن المغيرة لما منع بنى أخيه منه (مُعْتَدٍ) ظالم متخط للحق (مُرِيبٍ) شاك فى الله وفى دينه (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) مبتدأ متضمن لمعنى الشرط خبره (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) أو بدل من (كُلَّ كَفَّارٍ) وقوله تعالى (فَأَلْقِياهُ) تكرير* للتوكيد أو مفعول لمضمر يفسره فألقياه (قالَ قَرِينُهُ) أى الشيطان المقيض له وإنما استؤنف استئناف الجمل الواقعة فى حكاية المقاولة لما أنه جواب لمحذوف دل عليه قوله تعالى (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) فإنه منبىء* عن سابقة كلام اعتذر به الكافر كأنه قال هو أطغانى فأجاب قرينه بتكذيبه وإسناد الطغيان إليه بخلاف الجملة الأولى فإنها واجبة العطف على ما قبلها دلالة على أن الجمع بين مفهوميهما فى الحصول أعنى مجىء كل نفس مع الملكين وقول قرينه (وَلكِنْ كانَ) هو بالذات (فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) من الحق فأعنته* عليه بالإغواء والدعوة إليه من غير فسر وإلجاء كما فى قوله تعالى (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) (قالَ) استئناف مبنى على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل فماذا قال الله تعالى فقيل قال (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) أى فى موقف الحساب والجزاء إذ لا فائدة فى ذلك (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) * على الطغيان فى دار الكسب فى كتبى وعلى ألسنة رسلى فلا تطمعوا فى الخلاص عنه بما أنتم فيه من التعلل بالمعاذير الباطلة والجملة حال فيها تعليل للنهى على معنى لا تختصموا وقد صح عندكم أنى قدمت إليكم بالوعيد حيث قلت لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين فاتبعتموه معرضين عن الحق فلا وجه للاختصام فى هذا الوقت والباء مزيدة أو معدية على أن قدم بمعنى تقدم وقد جوز أن يكون قدمت واقعا على قوله تعالى (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) الخ ويكون بالوعيد متعلقا بمحذوف هو حال من المفعول أو الفاعل أى وقد قدمت إليكم هذا القول ملتبسا بالوعيد مقترنا به أو قدمته إليكم موعدا لكم به فلا تطمعوا أن أبدل وعيدى والعفو عن بعض المذنبين لأسباب داعية إليه ليس بتبديل فإن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد وقوله تعالى (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) وارد لتحقيق الحق على الوجه*

١٣١

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) (٣٢)

____________________________________

الكلى وتبيين أن عدم تبديل القول وتحقيق موجب الوعيد ليس من جهته تعالى من غير استحقاق له منهم بل إنما ذلك بما صدر عنهم من الجنايات الموجبة له حسبما أشير إليه آنفا أى وما أنا بمعذب للعبيد بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلا عن كونه ظلما مفرطا لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب فى معرض المبالغة فى الظلم وقيل هى لرعاية جمعية العبيد من قولهم فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده على أنها مبالغة كما لا كيفا (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) سؤال وجواب جىء بهما على منهاج التمثيل والتخييل لتهويل أمرها والمعنى أنها مع اتساعها وتباعد أقطارها تطرح فيها من الجنة والناس فوجا بعد فوج حتى تمتلىء أو أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها بعد محل فارغ أو أنها لغيظها على العصاة تطلب زيادتهم وقرىء يقول بالياء والمزيد إما مصدر كالمحيد والمجيد أو مفعول كالمبيع ويوم إما منصوب باذكر أو أنذر أو ظرف لنفخ فتكون ذلك حينئذ إشارة إليه من غير حاجة إلى تقدير مضاف أو لمقدر مؤخر أى يكون من الأحوال والأهوال ما يقصر عنه المقال (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) شروع فى بيان حال المؤمنين بعد النفخ ومجىء النفوس إلى موقف الحساب وقد مر سر تقديم بيان حال الكفرة عليه وهو عطف على نفخ أى قربت للمتقين عن الكفر والمعاصى بحيث يشاهدونها من الموقف ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن فيبتهجون* بأنهم محشورون إليها فائزون بها وقوله تعالى (غَيْرَ بَعِيدٍ) تأكيد للإزلاف أى مكانا غير بعيد بحيث يشاهدونها أو حال كونها غير بعيد أى شيئا غير بعيد ويجوز أن يكون التذكير لكونه على زنة المصدر الذى يستوى فى الوصف به المذكر والمؤنث أو لتأويل الجنة بالبستان (هذا ما تُوعَدُونَ) إشارة إلى الجنة والتذكير لما أن المشار إليه هو المسمى من غير أن يخطر بالبال لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه فإنهما من أحكام اللفظ العربى كما مر فى قوله تعالى (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) وقوله تعالى (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) ويجوز أن يكون ذلك لتذكير الخبر وقيل هو إشارة إلى ثواب وقيل إلى مصدر أزلفت وقرىء يوعدون والجملة إما اعتراض بين البدل والمبدل منه وإما مقدر بقول هو حال من المتقين أو من الجنة والعامل أزلفت أى مقولا لهم أو مقولا* فى حقها هذا ما توعدون (لِكُلِّ أَوَّابٍ) أى رجاع إلى الله تعالى بدل من المتقين بإعادة الجار (حَفِيظٍ) حافظ لتوبته من النقض وقيل هو الذى يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها ويستغفر منها وقيل هو الحافظ لأوامر الله تعالى وقيل لما استودعه الله تعالى من حقوقها.

١٣٢

(مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) (٣٦)

____________________________________

(مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) بدل بعد بدل أو بدل من موصوف أواب ولا يجوز أن يكون فى حكمه لأن من لا يوصف به ولا يوصف إلا بالذى أو مبتدأ خبره (ادْخُلُوها) بتأويل يقال لهم ادخلوها والجمع باعتبار معنى من وقوله تعالى (بِالْغَيْبِ) متعلق بمحذوف هو حال من فاعل خشى أو مفعوله أو صفة لمصدره أى خشية ملتبسة بالغيب حيث خشى عقابه وهو غائب عن الأعين لا يراه أحد والتعرض لعنوان الرحمانية للإشارة بأنهم مع خشيتهم عقابه راجون رحمته أو بأن علمهم بسعة رحمته تعالى لا يصدهم عن خشيته تعالى وأنهم عاملون بموجب قوله تعالى (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) ووصف القلب بالإنابة لما أن العبرة برجوعه إلى الله تعالى (بِسَلامٍ) * متعلق بمحذوف هو حال من فاعل ادخلوها أى ملتبسين بسلامة من العذاب وزوال النعم أو بسلام من جهة الله تعالى وملائكته (ذلِكَ) إشارة إلى الزمان الممتد الذى وقع فى بعض منه ما ذكر من الأمور* (يَوْمُ الْخُلُودِ) إذ لا انتهاء له أبدا (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ) من فنون المطالب كائنا ما كان (فِيها) متعلق بيشاؤن وقيل بمحذوف هو حال من الموصول أو من عائده المحذوف من صلته (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) هو* ما لا يخطر ببالهم ولا يندرج تحت مشيئتهم من معالى الكرامات التى لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وقيل إن السحاب تمر بأهل الجنة فتمطرهم الحور فتقول نحن المزيد الذى قال تعالى (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) أى قبل قومك (مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أى قوة كعاد وأضرابها (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أى خرقوا فيها ودوخوا وتصرفوا فى أقطارها أو جالوا فى أكناف الأرض كل* مجال حذار الموت وأصل التنقيب والنقب التنقير عن الأمر والبحث والطلب والفاء للدلالة على أن شدة بطشهم أقدرتهم على التنقيب قيل هى عاطفة فى المعنى كأنه قيل اشتد بطشهم فنقبوا الخ وقرىء بالتخفيف (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أى هل لهم من مخلص من أمر الله تعالى والجملة إما على إضمار قول هو* حال من واو نقبوا أى فنقبوا فى البلاد قائلين هل من محيص أو على إجراء التنقيب لما فيه من معنى التتبع والتفتيش مجرى القول أو هو كلام مستأنف وارد لنفى أن يكون لهم محيص وقيل ضمير نقبوا لأهل مكة أى ساروا فى مسايرهم وأسفارهم فى بلاد القرون فهل رأوا لهم محيصا حتى يؤملوا مثله لأنفسهم ويعضده القراءة على صيغة الأمر وقرىء فنقبوا بكسر القاف من النقب وهو أن ينتقب خف البعير أى أكثروا السير حتى نقبت أقدامهم أو أخفاف إبلهم.

١٣٣

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (٤١)

____________________________________

(إِنَّ فِي ذلِكَ) أى فيما ذكر من قصتهم وقيل فيما ذكر فى السورة (لَذِكْرى) لتذكرة وعظة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أى قلب سليم يدرك به كنه ما يشاهده من الأمور ويتفكر فيها كما ينبغى فإن من كان له ذلك يعلم* أن مدار دمارهم هو الكفر فيرتدع عنه بمجرد مشاهدة الآثار من غير تذكير (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أى إلى ما يتلى عليه من الوحى الناطق بما جرى عليهم فإن من فعله يقف على جلية الأمر فينزجر عما يؤدى إليه من الكفر فكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع فإن إلقاء السمع لا يجدى بدون سلامة القلب كما يلوح* به قوله تعالى (وَهُوَ شَهِيدٌ) أى حاضر بفطنته لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب وتجريد القلب عما ذكر من الصفات للإيذان بأن من عرى قلبه عنها كمن لا قلب له أصلا (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من أصناف المخلوقات (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا) بذلك مع كونه مما لا يفى به القوى والقدر* (مِنْ لُغُوبٍ) من إعياء ما ولا تعب فى الجملة وهذا رد على جهلة اليهود فى زعمهم أنه تعالى بدأ خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أى ما يقوله المشركون فى شأن البعث من الأباطيل المبنية على الإنكار والاستبعاد فإن من فعل هذه الأفاعيل بلا فتور قادر على بعثهم والانتقام منهم أو ما يقوله اليهود من* مقالات الكفر والتشبيه (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أى نزهه تعالى عن العجز عما يمكن وعن وقوع الخلف فى إخباره التى من جملتها الإخبار بوقوع البعث وعن وصفه تعالى بما يوجب التشبيه حامدا له تعالى* على ما أنعم به عليك من إصابة الحق وغيرها (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) هما وقت الفجر والعصر وفضيلتهما مشهورة (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) وسبحه بعض الليل (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) وأعقاب الصلوات جمع دبر وقرىء بالكسر من أدبرت الصلاة إذا انقضت وتمت ومعناه وقت انقضاء السجود وقيل المراد بالتسبيح الصلوات فالمراد بما قبل الطلوع صلاة الفجر وبما قبل الغروب الظهر والعصر وبما من الليل العشاءان والتهجد وما يصلى بأدبار السجود النوافل بعد المكتوبات (وَاسْتَمِعْ) أى* لما يوحى إليك من أحوال القيامة وفيه تهويل وتفظيع للمخبر به (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) أى إسرافيل أو جبريل عليهما‌السلام فيقول أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن* أن تجتمعن لفصل القضاء وقيل إسرافيل ينفخ وجبريل ينادى بالحشر (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) بحيث يصل

١٣٤

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٤٥)

____________________________________

نداؤه إلى الكل على سواء وقيل من صخرة بيت المقدس وقيل من تحت أقدامهم وقيل من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة ولعل ذلك فى الإعادة مثل كن فى البدء (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ) بدل من يوم ينادى الخ وهى النفخة الثانية (بِالْحَقِّ) متعلق بالصيحة والعامل فى الظرف ما يدل عليه قوله تعالى (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) أى يوم يسمعون الصيحة ملتبسة بالحق الذى هو البعث يخرجون من القبور (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) فى الدنيا من غير أن يشاركنا فى ذلك أحد (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) للجزاء فى الآخرة لا إلى* غيرنا لا استقلالا ولا اشتراكا (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ) بحذف إحدى التاءين من تتشقق وقرىء بتشديد الشين وتشقق على البناء للمفعول من التفعيل وتنشق (سِراعاً) مسرعين (ذلِكَ حَشْرٌ) بعث* وجمع وسوق (عَلَيْنا يَسِيرٌ) أى هين وتقديم الجار والمجرور لتخصيص اليسر به تعالى (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) من نفى البعث وتكذيب الآيات الناطقة به وغير ذلك مما لا خير فيه (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) * بمتسلط تقسرهم على الإيمان أو تفعل بهم ما تريد وإنما أنت مذكر (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) * وأما من عداهم فنحن نفعل بهم ما توحيه أقوالهم وتستدعيه أعمالهم من ألوان العقاب وفنون العذاب. عن النبى عليه الصلاة والسلام من قرأ سورة ق هون الله عليه ثأرات الموت وسكراته.

١٣٥

٥١ ـ سورة الذرايات

(مكية وهى ستون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً(٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦)

____________________________________

(سورة الذاريات مكية وآياتها ستون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) أى الرياح التى تذرو التراب وغيرها وقرىء بإدغام التاء فى الذال (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) أى السحب الحاملة للمطر أو الرياح الحاملة للسحاب وقرىء وقرأ على تسمية المحمول بالمصدر (فَالْجارِياتِ يُسْراً) أى السفن الجارية فى البحر أو الرياح الجارية فى مهابها أو السحب الجارية فى الجو بسوق الرياح أو الكواكب الجارية فى مجاريها ومنازلها ويسرا صفة لمصدر محذوف أى جريا ذا يسر (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) أى الملائكة التى تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها أو السحب التى يقسم الله تعالى بها أرزاق العباد وقد جوز أن يراد بالكل الرياح تنزيلا لاختلاف العنوان منزلة اختلاف الذات فإنها كما تذر وما تذروه تثير السحاب وتحمله وتجرى فى الجو جريا سهلا وتقسم الأمطار بتصريف السحاب فى الأقطار فإن حملت الأمور المقسم بها على ذوات مختلفة فالفاء لترتيب الأقسام باعتبار ما بينها من التفاوت فى الدلالة على كمال القدرة وإلا فهى لترتيب ما صدر عن الريح من الأفاعيل فإنها تذر الأبخرة إلى الجو حتى تنعقد سحابا فتجرى به باسطة له إلى ما أمرت به فتقسم المطر وقوله تعالى (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) جواب للقسم وفى تخصيص الأمور المذكورة بالأقسام بها رمز إلى شهادتها بتحقق مضمون الجملة المقسم عليها من حيث أنها أمور بديعة مخالفة لمقتضى الطبيعة فمن قدر عليها فهو قادر على البعث الموعود وما موصولة أو مصدرية ووصف الوعد بالصدق كوصف العيشة بالرضا والدين الجزاء ووقوعه حصوله.

١٣٦

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (١٣)

____________________________________

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) قال ابن عباس وقتادة وعكرمة ذات الخلق المستوى وقال سعيد بن جبير ذات الزينة وقال مجاهد هى المتقنة البنيان وقال مقاتل والكلبى والضحاك ذات الطرائق والمراد إما الطرائق المحسوسة التى هى مسير الكواكب أو المعقولة التى يسلكها النظار أو النجوم فإن لها طرائق وعن الحسن حبكها نجومها حيث تزينها كما تزين الموشى طرائق الوشى وهى إما جمع حباك أو حبيكة كمثال ومثل وطريقة وطرق وقرىء الحبك بوزن السلك والحبك كالجبل والحبك كالبرق والحبك كالنعم والحبك كالإبل (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) أى متخالف متناقض وهو قولهم فى حقه عليه الصلاة والسلام تارة شاعر وأخرى ساحر وأخرى مجنون وفى شأن القرآن الكريم تارة شعر وأخرى سحر وأخرى أساطير وفى هذا الجواب تأييد لكون الحبك عبارة عن الاستواء كما يلوح به ما نقل عن الضحاك من أن قول الكفرة لا يكون مستويا إنما هو متناقض مختلف وقيل النكتة فى هذا القسم تشبيه أقوالهم فى اختلافها وتنافى أغراضها بطرائق السموات فى تباعدها واختلاف غاياتها وليس بذاك (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أى يصرف عن القرآن أو الرسول عليه الصلاة والسلام من صرف إذ لا صرف أفظع منه وأشد وقيل يصرف عنه من صرف فى علم الله تعالى وقضائه ويجوز أن يكون الضمير للقول المختلف على معنى يصدر إفك من أفك عن ذلك القول وقرىء من أفك عن ذلك القول وقرىء من أفك أى من أفك الناس وهم قريش حيث كانوا يصدون الناس عن الإيمان (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) دعاء عليهم كقوله تعالى (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) وأصله الدعاء بالقتل والهلاك ثم جرى مجرى لعن والخراصون الكذابون المقدرون ما لا صحة له وهم أصحاب القول المختلف كأنه قيل قتل هؤلاء الخراصون وقرىء قتل الخراصين أى قتل الله (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ) من الجهل والضلال (ساهُونَ) غافلون عما أمروا به (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أى متى وقوع بوم الجزاء لكن لا بطريق الاستعلام حقيقة بل بطريق الاستعجال استهزاء وقرىء إيان بكسر الهمزة (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) جواب للسؤال أى يقع يوم هم على النار يحرقون

١٣٧

(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (٢٠)

____________________________________

ويعذبون ويجوز أن يكون يوم خبرا لمبتدأ محذوف أى هو يوم هم الخ والفتح لإضافته إلى غير متمكن ويؤيده أنه قرىء بالرفع (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أى مقولا لهم هذا القول وقوله تعالى (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) جملة من مبتدأ وخبر داخلة تحت القول المضمر أى هذا ما كنتم تستعجلون به بطريق الاستهزاء ويجوز أن يكون هذا بدلا من فتنتكم بتأويل العذاب والذى صفته (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) لا يبلغ كنهها ولا يقادر قدرها (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أى قابلين لما أعطاهم راضين به على* معنى أن كل ما آتاهم حسن مرضى يتلقى بحسن القبول (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) فى الدنيا (مُحْسِنِينَ) أى لأعمالهم الصالحة آتين بها على ما ينبغى فلذلك نالوا ما نالوا من الفوز العظيم ومعنى الإحسان بالإجمال ما أشار إليه عليه الصلاة والسلام بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك وقد فسر بقوله تعالى (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أى كانوا يهجعون فى طائفة قليلة من الليل على أن قليلا ظرف أو كانوا يهجعون هجوعا قليلا على أنه صفة للمصدر وما مزيدة فى الوجهين ويجوز أن تكون مصدرية أو موصولة مرتفعة بقليلا على الفاعلية أى كانوا قليلا من الليل هجوعهم أو ما يهجعون فيه وفيه للمبالغات فى تقليل نومهم واستراحتهم ذكر القليل والليل الذى هو وقت الراحة والهجوع الذى هو الغرار من النوم وزيادة ما ولا مساغ لجعل ما نافية على معنى أنهم لا يهجعون من الليل قليلا بل يحيونه كله لما أن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أى هم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار فى الأسحار كأنهم أسلفوا ليلهم باقتراف الجرائم وفى بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الأحقاء بأن يوصفوا بالاستغفار كأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ) أى نصيب وافر يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله تعالى* وإشفاقا على الناس (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) للمستجدى والمتعفف الذى يحسبه الناس غنيا فيحرم الصادقة (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) أى دلائل واضحة على شؤنه تعالى على التفاصيل من حيث أنها مدحوة

١٣٨

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) (٢٥)

____________________________________

كالبساط الممهد وفيها مسالك وفجاج للمتقلبين فى أقطارها والسالكين فى مناكبها وفيها سهل وجبل وبر وبحر وقطع متجاورات وعيون متفجرة ومعادن مفتنة وأنها تلقح بألوان النبات وأنواع الأشجار وأصناف الثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح وفيها دواب منبثة قد رتب كلها ودبر لمنافع ساكنها ومصالحهم فى صحتهم واعتلالهم (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) أى وفى أنفسكم آيات إذ ليس فى العالم شىء إلا وفى الأنفس له نظير يدل دلالته على ما انفرد به من الهيئات النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنائع المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أى ألا* تنظرون فلا تبصرون بعين البصيرة (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) أى أسباب رزقكم أو تقديره وقيل المراد بالسماء السحاب وبالرزق المطر فإنه سبب الأقوات (وَما تُوعَدُونَ) من الثواب لأن الجنة فى السماء* السابعة أو لأن الأعمال وثوابها مكتوبة مقدرة فى السماء وقيل إنه مبتدأ خبره قوله تعالى (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) على أن الضمير لما وأما على الأول فأماله وأما لما ذكر من أمر الآيات والرزق على أنه مستعار لاسم الإشارة (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أى كما أنه لا شك لكم فى أنكم تنطقون ينبغى* أن لا تشكوا فى حقيته ونصبه على الحالية من المستكن فى لحق أو على أنه وصف لمصدر محذوف أى إنه لحق حقا مثل نطقكم وقيل إنه مبنى على الفتح لإضافته إلى غير متمكن وهو ما إن كانت عبارة عن شىء وأن بما فى حيزها إن جعلت زائدة ومحله الرفع على أنه صفة لحق ويؤيده القراءة بالرفع (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) تفخيم لشأن الحديث وتنبيه على أنه ليس مما علمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير طريق الوحى والضيف فى الأصل مصدر ضافه ولذلك يطلق على الواحد والجماعة كالزور والصوم وكانوا اثنى عشر ملكا وقيل تسعة عاشرهم جبريل وقيل ثلاثة جبريل وميكائيل وملك آخر معهما عليهم‌السلام وتسميتهم ضيفا لأنهم كانوا فى صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم عليه‌السلام أو لأنهم كانوا فى حسبانه كذلك (الْمُكْرَمِينَ) أى المكرمين عند الله تعالى أو عند إبراهيم حيث خدمهم* بنفسه وبزوجته (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) طرف للحديث أو لما فى الضيف من معنى الفعل أو المكرمين إن فسر بإكرام إبراهيم (فَقالُوا سَلاماً) أى نسلم عليك سلاما (قالَ) أى إبراهيم (سَلامٌ) أى عليكم* سلام عدل به إلى الرفع بالابتداء للقصد إلى الثبات والدوام حتى تكون تحيته عليه الصلاة والسلام

١٣٩

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) (٣١)

____________________________________

* أحسن من تحيتهم وقرئا مرفوعين وقرىء سلم وقرىء منصوبا والمعنى واحد (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أنكرهم عليه الصلاة والسلام للسلام الذى هو علم للإسلام أو لأنهم ليسوا ممن عهدهم من الناس أو لأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس ولعله عليه الصلاة والسلام إنما قاله فى نفسه من غير أن يشعرهم بذلك لا أنه خاطبهم به جهرا أو سألهم أن يعرفوه أنفسهم كما قيل وإلا لكشفوا أحوالهم عند ذلك ولم يتصد عليه الصلاة والسلام لمقدمات الضيافة (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) أى ذهب إليهم على خفية من ضيفه فإن من أدب المضيف أن يبادره بالقرى ويبادر به حذارا من أن يكفه ويعذره أو يصير منتفارا* والفاء فى قوله تعالى (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) فصيحة مفصحة عن جمل قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذانا بكمال سرعة المجىء بالطعام كما فى قوله تعالى (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) أى فذبح عجلا فحنذه فجاء به (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) بأن وضعه لديهم حسبما هو المعتاد (فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ) إنكارا لعدم تعرضهم للأكل (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ) أضمر فى نفسه (خِيفَةً) لتوهم أنهم جاؤا للشر وقيل وقع فى قلبه أنهم ملائكة* جاؤا للعذاب (قالُوا لا تَخَفْ) قيل مسح جبريل عليه‌السلام العجل بجناحه فقام يندرج حتى لحق بأمه* فعرفهم وأمن منهم (وَبَشَّرُوهُ) وفى سورة الصافات وبشرناه أى بواسطتهم (بِغُلامٍ) هو إسحاق عليه‌السلام (عَلِيمٍ) عنه بلوغه واستوائه (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ) سارة لما سمعت بشارتهم إلى بيتها وكانت* فى زاوية تنظر إليهم (فِي صَرَّةٍ) فى صيحة من الصرير ومحله النصب على الحالية أو المفعولية إن جعل* أقبلت بمعنى أخذت كما يقال أقبل يشتمنى (فَصَكَّتْ وَجْهَها) أى لطمته من الحياء لما أنها وجدت حرارة دم* الطمث وقيل ضربت بأطراف أصابعها جبينها كما يفعله المتعجب (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أى أنا عجوز عاقر فكيف ألد (قالُوا كَذلِكَ) مثل ذلك القول الكريم (قالَ رَبُّكِ) وإنما نحن معبرون نخبرك به عنه تعالى* لا أنا نقوله من تلقاء أنفسنا (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) فيكون قوله حقا وفعله متقنا لا محالة. روى أن جبريل عليه‌السلام قال لها انظرى إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة ولم تكن هذه المفاوضة مع سارة فقط بل مع إبراهيم عليه‌السلام أيضا حسبما شرح فى سورة الحجر وإنما لم يذكر ههنا اكتفاء بما ذكر هناك كما أنه لم يذكر هناك سارة اكتفاء بما ذكر ههنا وفى سورة هود (قالَ)

١٤٠