تفسير أبي السّعود - ج ٨

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٨

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

١

٤١ ـ سورة فصلت

(مكية وآياتها أربع وخمسون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) (٥)

____________________________________

(سورة فصلت مكية وآياتها أربع وخمسون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (حم) إن جعل اسما للسورة فهو إما خبر لمبتدأ محذوف وهو الأظهر لما مر سره مرارا أو مبتدأ خبره (تَنْزِيلٌ) وهو على الأول خبر بعد خبر وخبر لمبتدأ محذوف إن جعل مسرودا على نمط التعديد وقوله تعالى (مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) متعلق به مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أو خبر آخر أو تنزيل مبتدأ لتخصصه بالصفة خبره (كِتابٌ) وهو على الوجوه الأول بدل منه أو خبر آخر أو خبر لمحذوف ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم للإيذان بأنه مدار للمصالح الدينية والدنيوية واقع بمقتضى الرحمة الربانية حسبما ينبئ عنه قوله تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (فُصِّلَتْ آياتُهُ) ميزت بحسب النظم والمعنى وجعلت تفاصيل فى أساليب مختلفة ومعان متغايرة من أحكام وقصص ومواعظ وأمثال ووعد ووعيد وقرئ فصلت أى فرقت بين الحق والباطل أو فصل بعضها من بعض باختلاف الأساليب والمعانى من قولك فصل من البلد فصولا* (قُرْآناً عَرَبِيًّا) نصب على المدح أو الحالية من كتاب لتخصصه بالصفة أو من آياته (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أى معانيه لكونه على لسانهم وقيل لأهل العلم والنظر لأنهم المنتفعون به واللام متعلقة بمحذوف هو صفة أخرى لقرآنا أى كائنا لقوم الخ أو بتنزيل على أن من الرحمن الرحيم ليست بصفة له أو بفصلت (بَشِيراً وَنَذِيراً) صفتان أخريان لقرآنا أى بشيرا لأهل الطاعة ونذيرا لأهل المعصية أو حالان من كتاب أو من آياته وقرئا بالرفع على الوصفية لكتاب أو الخبرية لمحذوف (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) عن تدبره مع كونه على لغتهم (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماع تفكرو تأمل حتى يفهموا جلالة قدره فيؤمنوا به (وَقالُوا)

٢

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٨)

____________________________________

أى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند دعوته إياهم إلى الإيمان والعمل بما فى القرآن (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أى أغطية متكاثفة (مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أى صمم وأصله الثقل وقرئ بالكسر وقرئ بفتح القاف (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) غليظ بمنعنا عن التواصل ومن للدلالة على أن* الحجاب مبتدأ من الجانبين بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة ولم يبق ثمة فراغ أصلا وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله ومج أسماعهم له كأن بها صمما وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَاعْمَلْ) أى على دينك وقيل فى إبطال أمرنا (إِنَّنا عامِلُونَ) أى على ديننا وقيل فى إبطال أمرك والأول هو الأظهر فإن قوله تعالى (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) تلقين للجواب عنه أى لست من جنس مغاير لكم حتى يكون بينى وبينكم حجاب وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان كما ينبئ عنه قولكم فاعمل إننا عاملون بل إنما أنا بشر مثلكم مأمور بما أمرتم به حيث أخبرنا جميعا بالتوحيد بخظاب جامع بينى وبينكم فإن الخطاب فى إلهكم محكى منتظم للكل لا أنه خطاب منه عليه الصلاة والسلام للكفرة كما فى مثلكم وقيل المعنى لست ملكا ولا جنيا لا يمكنكم التلقى منه ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول والأسماع وإنما أدعوكم إلى التوحيد والاستقامة فى العمل وقد تدل عليهما دلائل العقل وشواهد النقل وقيل المعنى إنى لست بملك وإنما أنا بشر مثلكم وقد أوحى إلى دونكم فصحت بالوحى إلى وأنا بشر نبوتى وإذا صحت نبوتى وجب عليكم اتباعى فتأمل والفاء فى قوله تعالى (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها من إيحاء* الوحدانية فإن ذلك موجب لاستقامتهم إليه تعالى بالتوحيد والإخلاص فى الأعمال (وَاسْتَغْفِرُوهُ) مما كنتم عليه من سوء العقيدة والعمل وقوله تعالى (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) ترهيب وتنفير لهم عن الشرك إثر ترغيبهم فى التوحيد ووصفهم بقوله تعالى (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) لزيادة التحذير والتخويف عن منع الزكاة حيث جعل من أوصاف المشركين وقرن بالكفر بالآخرة حيث قيل (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) وهو عطف على لا يؤتون داخل فى حيز الصلة واختلافهما بالفعلية والاسمية لما أن عدم إيتائها متجدد والكفر أمر مستمر ونقل عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه فسر لا يؤتون الزكاة بقوله لا يقولون لا إله إلا الله فإنها زكاة الأنفس والمعنى لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد وهو مأخوذ من قوله تعالى (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) وقال لضحاك ومقاتل لا ينفقون فى الطاعات ولا يتصدقون وقال مجاهد لا يزكون أعمالهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أى

٣

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) (١٠)

____________________________________

لا يمن به عليهم من المن وأصله الثقل أولا يقطع من مننت الحبل قطعته وقيل نزلت فى المرضى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملونه (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ) إنكار وتشنيع لكفرهم وإن واللام إما لتأكيد الإنكار وتقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة لا لإنكار التأكيد وإما للإشعار بأن كفرهم من البعد بحيث ينكر العقلاء وقوعه فيحتاج إلى التأكيد وإنما علق* كفرهم بالموصول حيث قيل (بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) لتفخيم شأنه تعالى واستعظام كفرهم به أى بالعظيم الشأن الذى قدر وجودها أى حكم بأنها ستوجد فى مقدار يومين أو فى نوبتين على أن ما يوجد فى كل نوبة يوجد بأسرع ما يكون وإلا فاليوم الحقيقى إنما يتحقق بعد وجودها وتسوية* السموات وإبداع نيراتها وترتيب حركاتها (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) عطف على تكفرون داخل فى حكم الإنكار والتوبيخ وجمع الأنداد باعتبار ما هو الواقع لا بأن يكون مدار الإنكار هو التعدد أى* وتجعلون له أندادا والحال أنه لا يمكن أن يكون له ند واحد (ذلِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته فى العظمة وإفراد الكاف لما مر مرارا من أن المراد ليس تعيين المخاطبين وهو مبتدأ خبره ما بعده أى ذلك العظيم الشأن الذى فعل ما ذكر (رَبُّ الْعالَمِينَ) أى خالق جميع الموجودات ومربيها دون الأرض خاصة فكيف يتصور أن يكون أخس مخلوقاته ندا له وقوله تعالى (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) عطف على خلق داخل فى حكم الصلة والجعل إبداعى وحديث لزوم الفصل بينهما بجملتين خارجتين عن حيز الصلة مدفوع بأن الأولى متحدة بقوله تعالى تكفرون فهو بمنزلة الإعادة له والثانية اعتراضية مقررة لمضمون الكلام بمنزلة التأكيد فالفصل بهما كلا فصل على أن فيه فائدة التنبيه على أن مجرد المعطوف عليه كاف فى تحقق ربوبيته للعالمين واستحالة أن يجعل له ند فكيف إذا انضم إليه المعطوفات وقيل هو عطف على مقدر أى خلقها وجعل الخ وقيل هو كلام مستأنف وأيا ما كان فالمراد تقدير الجعل* لا الجعل بالفعل وقوله تعالى (مِنْ فَوْقِها) متعلق بجعل أو بمضمر هو صفة لرواسى أى كائنة من فوقها مرتفعة عليها لتكون منافعها معرضة لأهلها ويظهر للنظار ما فيها من مراصد الاعتبار ومطارح* الأفكار (وَبارَكَ فِيها) أى قدر أن يكثر خيرها بأن يخلق أنواع الحيوانات التى من جملتها الإنسان وأصناف النبات التى منها معايشهم (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أى حكم بالفعل بأن يوجد فيما سيأتى لأهلها من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة وقرىء وقسم فيها أقواتها

٤

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (١٢)

____________________________________

(فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) متعلق بحصول الأمور المذكورة لا بتقديرها أى قدر حصولها فى يومين وإنما قيل فى أربعة أيام أى تتمة أربعة تصريحا بالفذلكة (سَواءً) مصدر مؤكد لمضمر هو صفة لأيام أى استوت* سواء أى استواء كما ينبىء عنه القراءة بالجر وقيل هو حال من الضمير فى أقواتها أو فى فيها وقرىء بالرفع أى هى سواء (لِلسَّائِلِينَ) متعلق بمحذوف تقديره هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها أو بقدر أى قدر فيها أقواتها لأجل السائلين أى الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين وقوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) شروع فى بيان كيفية التكوين إثر بيان كيفية التقدير ولعل تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وأهلها لما أن بيان اعتنائه تعالى بأمر المخاطبين وترتيب مبادى معايشهم قبل خلقهم مما يحملهم على الإيمان ويزجرهم عن الكفر والطغيان أى ثم قصد نحوها قصدا سويا لا يلوى على غيره (وَهِيَ دُخانٌ) أى أمر ظلمانى عبر به عن مادتها أو عن الأجزاء المتصغرة التى ركبت هى منها أو دخان مرتفع من الماء كما سيأتى وإنما خص الاستواء بالسماء مع أن الخطاب المترتب عليه متوجه إليهما معا حسبما ينطق به قوله تعالى (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ) اكتفاء بذكر تقديرها وتقدير ما فيها كأنه قيل* فقال لها وللأرض التى قدر وجودها ووجود ما فيها (ائْتِيا) أى كونا واحدثا على وجه معين وفى وقت مقدر لكل منكما وهو عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقا فعليا بطريق التمثيل بعد تقدير أمرهما من غير أن يكون هناك أمر ومأمور كما فى قوله تعالى (كُنْ) وقوله تعالى (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) تمثيل* لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما واستحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع والكره لهما وهما مصدران وقعا موقع الحال أى طائعتين أو كارهتين وقوله تعالى (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) أى منقادين تمثيل لكمال* تأثرهما بالذات عن القدرة الربانية وحصولهما كما أمرتا به وتصوير لكون وجودهما كما هما عليه جاريا على مقتضى الحكمة البالغة فإن الطوع منبىء عن ذلك والكره موهم لخلافه وإنما قيل طائعين باعتبار كونهما فى معرض الخطاب والجواب كقوله تعالى (السَّاجِدِينَ) وقوله تعالى (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) تفسير وتفصيل لتكوين السماء المجمل المعبر عنه بالأمر وجوابه لا أنه فعل مترتب على تكوينها أى خلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة والضمير إما للسماء على المعنى أو مبهم وسبع سموات حال على الأول تمييز على الثانى (فِي يَوْمَيْنِ) فى وقت مقدر بيومين وقد بين مقدار زمان خلق الأرض وخلق ما فيها عند بيان تقديرهما فكان خلق الكل فى ستة أيام حسبما نص عليه فى مواقع من التنزيل (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) عطف على قضاهن أى خلق فى كل منها ما فيها من الملائكة*

٥

والنيرات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى كما قاله قتادة والسدى فالوحى عبارة عن التكوين كالأمر مقيد بما قيد به المعطوف عليه من الوقت أو أوحى إلى أهل كل منها أو امره وكلفهم ما يليق بهم من التكاليف فهو بمعناه ومطلق عن القيد المذكور وأيا ما كان فعلى ما قرر من التفصيل لا دلالة فى الآية الكريمة على الترتيب بين إيجاد الأرض وإيجاد السماء وإنما الترتيب بين التقدير والإيجاد وأما على تقدير كون الخلق وما عطف عليه من الأفعال الثلاثة على معانيها الظاهرة فهى وما فى سورة البقرة من قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) تدلان على تقدم خلق الأرض وما فيها على خلق السماء وما فيها وعليه إطباق أكثر أهل التفسير وقد روى أن العرش العظيم كان قبل خلق السموات والأرض على الماء ثم إنه تعالى أحدث فى الماء اضطرابا فأزبد فارتفع منه دخان فأما الزبد فبقى على وجه الماء فخلق فيه اليبوسة فجعله أرضا واحدة ثم فتقها فجعلها أرضين وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق منه السموات وروى أنه تعالى خلق جرم الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق السموات وما فيهن يوم الخميس ويوم الجمعة وخلق آدم عليه‌السلام فى آخر ساعة منه وهى الساعة التى تقوم فيها القيامة وقيل إن خلق جرم الأرض مقدم على خلق السموات لكن دحوها وخلق ما فيها مؤخر عنه لقوله تعالى (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) ولما روى عن الحسن رحمه‌الله من أنه تعالى خلق الأرض فى موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليه دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر فى موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) الآية وليس المراد بنظمها مع السماء فى سلك الأمر بالإتيان إنشاءها وإحداثها بل إنشاء دحوها وجعلها على وجه خاص يليق بها من شكل معين ووصف مخصوص كأنه قيل ائتيا على ما ينبغى أن تأتيا عليه ائتى يا أرض مدحوة قرارا ومهادا لأهلك وائتى يا سماء مقبية سقفا لهم ومعنى الإتيان الحصول على ذلك الوجه كما تنبىء عنه قراءة آتيا وآتينا من المواتاة وهى الموافقة وأنت خبير بأن المذكور قبل الأمر بالإتيان ليس مجرد خلق جرم الأرض حتى يتأتى ما ذكر بل خلق ما فيها أيضا من الأمور المتأخرة عن دحوها قطعا فالأظهر أن يسلك مسلك الأولين ويحمل الأمر بالإتيان على تكوينهما متوافقتين على الوجه المذكور وليس من ضرورته أن يكون دحوها مترتبا على ذلك التكوين وإنما اللازم ترتب حصول التوافق عليه ولا ريب فى أن تكوين السماء على الوجه اللائق بها كاف فى حصوله ولا يقدح فى ذلك تكوين الأرض على الوجه المذكور قبل ذلك وأن يجعل الأرض فى قوله تعالى (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) منصوبا بمضمر قد حذف على شرطية التفسير ويجعل ذلك إشارة إلى ذكر ما ذكر من بناء السماء ورفع سمكها وتسويتها وغيرها لا إلى أنفسها وتحمل البعدية إما على أنه قاصر عن الأول فى الدلالة على القدرة القاهرة كما قيل وإما على أنه أدخل فى الإلزام لما أن المنافع المنوطة بما فى الأرض أكثر وتعلق مصالح الناس بذلك أظهر وإحاطتهم بتفاصيلها أكمل وليس ما روى عن الحسن

٦

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (١٤)

____________________________________

رضى الله عنه نصا فى تأخر دحو الأرض عن خلق السماء فإن بسط الأرض معطوف على إصعاد الدخان وخلق السماء بالواو فلا دلالة فى ذلك على الترتيب قطعا وقد نقل الإمام الواحدى عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلا عن دحوها فلا بد من حمل الأمر بإتيانهما حينئذ أيضا على ما ذكر من التوافق والمواتاة ولا يقدح فى ذلك تقدم خلق السماء على خلق الأرض كما لم يقدح فيه تقدم خلق الأرض على خلق السماء هذا كله على تقدير كون كلمة ثم للتراخى الزمانى وأما على تقدير كونها للتراخى الرتبى كما جنح إليه الأكثرون فلا دلالة فى الآية الكريمة على الترتيب كما فى الوجه الأول وعلى ذلك بنى الكلام فى تفسير قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) الآية وإنما لم يحمل الخلق هناك على معنى التقدير كما حمل عليه ههنا لتوفية مقام الامتنان حقه (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) من الكواكب فإنها كلها ترى متلألئة عليها كأنها فيها والالتفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية بالأمر وقوله تعالى (وَحِفْظاً) مصدر مؤكد لفعل معطوف على زينا أى وحفظناها من الآفات أو من المسترقة حفظا وقيل مفعول له على المعنى كأنه قيل وخلقنا المصابيح زينة وحفظا (ذلِكَ) الذى ذكر بتفاصيله (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) المبالغ فى القدرة والعلم (فَإِنْ أَعْرَضُوا) متصل بقوله تعالى (قُلْ أَإِنَّكُمْ) الخ أى فإن أعرضوا عن التدبر فيما ذكر من عظائم الأمور الداعية إلى الإيمان أو عن الإيمان بعد هذا البيان (فَقُلْ) لهم (أَنْذَرْتُكُمْ) أى أنذركم وصيغة الماضى للدلالة على* تحقق الإنذار المنبىء عن تحقق المنذر به (صاعِقَةً) أى عذابا هائلا شديد الوقع كأنه صاعقة (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) وقرىء صعقة مثل صعقة عاد وثمود وهى المرة من الصعق أو الصعق يقال صعقه الصاعقة صعقا فصعق صعقا وهو من باب فعلته ففعل (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) حال من صاعقة عاد ولا سداد لجعله ظرفا لأنذرتكم أو صفة لصاعقة لفساد المعنى وأما جعله صفة لصاعقة عاد أى الكائنة إذ جاءتهم ففيه حذف الموصول مع بعض صلته (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) متعلق بجاءتهم أى من* جميع جوانبهم واجتهدوا بهم من كل جهة أو من جهة الزمان الماضى بالإنذار عما جرى فيه على الكفار ومن جهة المستقبل بالتحذير عما سيحيق بهم من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وقيل المعنى جاءتهم الرسل المتقدمون والمتأخرون على تنزيل مجىء كلامهم ودعوتهم إلى الحق منزلة مجىء أنفسهم فإن هودا وصالحا كانا داعيين لهم إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم أى من قبلهم وممن يجىء من خلفهم أى من بعدهم فكان الرسل قد جاءوهم وخاطبوهم بقوله تعالى (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أى بأن لا تعبدوا على أن أن مصدرية أو أى لا تعبدوا على أنها مفسرة (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا) أى

٧

(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) (١٦)

____________________________________

إرسال الرسل لا إنزال الملائكة كما قيل فإنه عار عن إفادة ما أرادوه من نفى رسالة البشر وقد مر* فيما سلف (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أى لأرسلهم لكن لما كان إرسالهم بطريق الإنزال قيل لأنزل (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أى على زعمكم وفيه ضرب تهكم بهم (كافِرُونَ) لما أنكم بشر مثلنا من غير فضل لكم علينا روى أن أبا جهل قال فى ملأ من قريش قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره فقال عتبة بن ربيعة والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما وما يخفى على فأتاه فقال أنت يا محمد خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله فبم تشتم آلهتنا وتضللنا فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسا وإن تك بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختارهن أى بنات قريش شئت وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغنى ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساكت فلما فرغ عتبة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسم الله الرحمن الرحيم حم إلى قوله تعالى (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فأمسك عتبة على فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قالوا ما نرى عتبة إلا قد صبأ فانطلقوا إليه وقالوا يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت فغضب ثم قال والله لقد كلمته فأجابنى بشىء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ولما بلغ صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ) شروع فى حكاية ما يخص بكل واحدة من الطائفتين من الجناية والعذاب إثر حكاية ما يعم الكل من الكفر المطلق أى فتعظموا فيها على أهلها أو استعلوا فيها واستولوا على أهلها (بِغَيْرِ الْحَقِّ) أى بغير* استحقاق للتعظم والولاية (وَقالُوا) مدلين بشدتهم وقوتهم (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) حيث كانوا ذوى أجسام طوال وخلق عظيم وقد بلغ من قوتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من جبل فيقتلعها بيده* (أَوَلَمْ يَرَوْا) أى أغفلوا أو ألم ينظروا ولم يعلموا علما جليا شبيها بالمشاهدة والعيان (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أى قدرة فإنه تعالى قادر بالذات مقتدر على ما لا يتناهى قوى على ما لا يقدر عليه غير مفيض للقوى والقدر على كل قوى وقادر وإنما أورد فى حيز الصلة خلقهم دون خلق* السموات والأرض لا دعائهم الشدة فى القوة وفيه ضرب من التهكم بهم (وَكانُوا بِآياتِنا) المنزلة على الرسل (يَجْحَدُونَ) أى ينكرونها وهم يعرفون حقيتها وهو عطف على (فَاسْتَكْبَرُوا) كقوله تعالى (وَقالُوا) وما بينهما اعتراض للرد على كلمتهم الشنعاء (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) أى باردة تهلك وتحرق بشدة

٨

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٠)

____________________________________

بردها من الصر وهو البرد الذى يصر أى يجمع ويقبض أو عاصفة تصوت فى هبوبها من الصرير (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) جمع نحسة من نحس نحسا نقيض سعد سعدا وقرىء بالسكون على التخفيف أو على أنه نعت على فعل أو وصف بمصدر مبالغة قيل كن آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وما عذب قوم إلا فى يوم الأربعاء (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وقرىء لتذيقهم على إسناد الإذاقة إلى الريح أو إلى الأيام وأضيف العذاب إلى الخزى الذى هو الذل والاستكانة على أنه وصف له كما يعرب عنه قوله تعالى (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) وهو فى الحقيقة وصف للمعذب وقد وصف به العذاب للمبالغة (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) فدللناهم على الحق بنصب الآيات التكوينية وإرسال الرسل وإنزال الآيات التشريعية وأزحنا عللهم بالكلية وقد مر تحقيق معنى الهدى فى تفسير قوله تعالى (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وقرىء ثمود بالنصب بفعل يفسره ما بعده ومنونا فى الحالين وبضم الثاء (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أى اختاروا الضلالة على الهداية (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) داهية العذاب وقارعة العذاب والهون الهوان وصف به العذاب مبالغة أو أبدل منه (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من اختيار الضلالة (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) من تلك الصاعقة (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ) شروع فى بيان عقوباتهم الآجلة إثر بيان عقوباتهم العاجلة والتعبير عنهم بأعداء الله تعالى لذمهم والإيذان بعلة ما يحيق بهم من الوان العذاب وقيل المراد بهم الكفار من الأولين والآخرين ويرده ما سيأتى من قوله تعالى (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) وقرىء يحشر على بناء الفاعل ونصب أعداء الله وبنون العظمة وضم الشين وكسرها (إِلَى النَّارِ) أى إلى* موقف الحساب إذ هناك تتحقق الشهادة الآتية لا بعد تمام السؤال والجواب وسوقهم إلى النار والتعبير عنه بالنار إما للإيذان بأنها عاقبة حشرهم وأنهم على شرف دخولها وإما لأن حسابهم يكون على شفيرها ويوم اما منصوب باذكر أو ظرف لمضمر مؤخر قد حذف ايهاما لقصور العبارة عن تفصيله كما مر فى قوله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) وقيل ظرف لما يدل عليه قوله تعالى (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أى يحبس* أولهم على آخرهم ليتلاحقوا وهو عبارة عن كثرتهم وقيل يساقون ويدفعون إلى النار وقوله تعالى (حَتَّى

٩

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٢)

____________________________________

إِذا ما جاؤُها) أى جميعا غاية ليحشر أو ليوزعون أى حتى إذا حضروها وما مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) فى الدنيا من فنون الكفر والمعاصى بأن ينطقها الله تعالى أو يظهر عليها آثار ما اقترفوا بها وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن المراد بشهادة الجلود شهادة الفروج وهو الأنسب بتخصيص السؤال بها فى قوله تعالى (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقبحا وأجلب للخزى والعقوبة مما يشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطهما وقيل المراد بالجلود الجوارح أى سألوها سؤال توبيخ لما روى أنهم قالوا لها فعنكن كنا نناضل وفى رواية بعدا لكن* وسحقا عنكن كنت أجادل وصيغة جمع العقلاء فى خطاب الجلود وفى قوله تعالى (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) لوقوعها فى موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء أى أنطقنا الله الذى أنطق وأقدرنا على بيان الواقع فشهدنا عليكم بما عملتم بواسطتنا من القبائح وما كتمناها وقيل ما نطقنا باختيارنا بل أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء وليس بذاك لما فيه من إيهام الاضطرار فى الأخبار وقيل سألوها سؤال تعجب فالمعنى حينئذ ليس نطقنا بعجب من قدرة الله الذى أنطق كل* حى (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فإن من قدر على خلقكم وإنشائكم أولا وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ثانيا لا يتعجب من انطاقه لجوارحكم ولعل صيغة المضارع مع أن هذه المحاورة بعد البعث والرجع لما أن المراد بالرجع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالبعث بل ما يعمه وما يترتب عليه من العذاب الخالد المترقب عند التخاطب على تغليب المتوقع على الواقع على أن فيه مراعاة الفواصل وقوله تعالى (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) حكاية لما سيقال لهم يومئذ من جهته تعالى بطريق التوبيخ والتقريع تقريرا لجواب الجلود أى ما كنتم تستترون فى الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك كما كنتم تستترون* من الناس مخافة الافتضاح عندهم بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء رأسا (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) من القبائح المخفية فلا يظهرها فى الآخرة ولذلك اجترأتم على ما فعلتم وفيه إيذان بأن شهادة الجوارح بأعلامه تعالى حبنئذ لا بأنها كانت عالمة بما شهدت به عند صدوره عنهم. عن ابن مسعود رضى الله عنه كنت مستترا بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر ثقفيان وقرشى أو قرشيان وثقفى فقال أحدهم أترون أن الله يسمع ما نقول قال الآخر يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن

١٠

(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ(٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢٦)

____________________________________

أخفينا فذكرت ذلك للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) الآية فالحكم المحكى حينئذ يكون خاصا بمن كان على ذلك الاعتقاد من الكفرة ولعل الأنسب أن يراد بالظن معنى مجازى يعم معناه الحقيقى وما يجرى مجراه من الأعمال المنبئة عنه كما فى قوله تعالى (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) ليعم ما حكى من الحال جميع أصناف الكفرة فتدبر (وَذلِكُمْ) إشارة إلى ما ذكر من ظنهم وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية بعد منزلته فى الشر والسوء وهو مبتدأ وقوله تعالى (ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) خبران له ويجوز أن يكون ظنكم بدلا وأرداكم خبرا (فَأَصْبَحْتُمْ) بسبب ذلك الظن السوء الذى أهلككم (مِنَ الْخاسِرِينَ) إذ صار ما منحوا لنيل سعادة الدارين سببا لشقاء النشأتين (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أى محل ثواء وإقامة أبدية لهم بحيث لا براح لهم منها والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء حالهم أن يعرض عنهم ويحكى سوء حالهم لغيرهم أو للإشعار بإبعادهم عن حيز الخطاب وإلقائهم فى غاية دركات النار (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) أى يسألوا العتبى وهو الرجوع إلى ما يحبونه جزعا مما هم فيه (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) * المجابين إليها ونظيره قوله تعالى (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) وقرىء وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين أى إن يسألوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون لفوات المكنة (وَقَيَّضْنا لَهُمْ) أى قدرنا وقرنا للكفرة فى الدنيا (قُرَناءَ) جمع قرين أى أخدانا من الشياطين يستولون عليهم استيلاء القيض على البيض وهو القشر وقيل أصل القيض البدل ومنه المقايضة للمعاوضة (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) * من أمور الدنيا واتباع الشهوات (وَما خَلْفَهُمْ) من أمور الآخرة حيث أروهم أن لا بعث ولا حساب ولا مكروه قط (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أى ثبت وتقرر عليهم كلمة العذاب وتحقق موجبها ومصداقها* وهو قوله تعالى لإبليس (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) وقوله تعالى (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) كما مر مرارا (فِي أُمَمٍ) حال من الضمير المجرور أى كائنين* فى جملة أمم وقيل فى بمعنى مع وهذا كما ترى صريح فى أن المراد بأعداء الله تعالى فيما سبق المعهودون من عاد وثمود لا الكفار من الأولين والآخرين كما قيل (قَدْ خَلَتْ) صفة لأمم أى مضت (مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) على الكفر والعصيان كدأب هؤلاء (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) تعليل لاستحقاقهم العذاب والضمير للأولين والآخرين (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من رؤساء المشركين لأعقابهم أو قال

١١

(فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٣٠)

____________________________________

بعضهم لبعض (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) أى لا تنصوا له (وَالْغَوْا فِيهِ) وعارضوه بالخرافات من الرجز والشعر والتصدية والمكاء أو أرفعوا أصواتكم بها لتشوشوه على القارىء وقرىء بضم الغين والمعنى واحد يقال لغى يلغى كلقى يلقى ولغا يلغو إذا هذى (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) أى تغلبونه على قراءته (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى فو الله لنذيقن هؤلاء القائلين واللاغين أو جميع الكفار وهم داخلون فيهم دخولا أوليا (عَذاباً شَدِيداً) لا يقادر قدره (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أى جزاء سيئات أعمالهم التى هى فى أنفسها أسوأ وقيل إنه لا يجازيهم بمحاسن أعمالهم كإغاثة الملهوفين وصلة الأرحام وقرى الأضياف لأنها محبطة بالكفر وعن ابن عباس رضى الله عنهما عذابا شديدا يوم بدر وأسوأ الذى كانوا يعملون فى الآخرة (ذلِكَ) مبتدأ وقوله تعالى (جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) خبره أى ما ذكر من الجزاء جزاء معد لأعدائه تعالى وقوله تعالى (النَّارُ) عطف بيان للجزاء أو ذلك خبر مبتدأ محذوف أى الأمر ذلك على أنه عبارة عن مضمون الجملة لا عن الجزاء وما بعده جملة مستقلة مبينة لما قبلها وقوله تعالى* (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) جملة مستقلة مقررة لما قبلها أو النار مبتدأ هى خبره أى هى بعينها دار إقامتهم على أن فى للتجريد وهو أن ينتزع من أمر ذى صفة أمر آخر مثله مبالغة لكماله فيها كما يقال فى البيضة عشرون منا حديد وقيل هى على معناها والمراد أن لهم فى النار المشتملة على الدركات دارا مخصوصة* هم فيها خالدون (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) منصوب بفعل مقدر أى يجزون جزاء أو بالمصدر السابق فإن المصدر ينتصب بمثله كما فى قوله تعالى (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) والباء الأولى متعلقة بجزاء والثانية بيجحدون قدمت عليه لمراعاة الفواصل أى بسبب ما كانوا يجحدون بآياتنا الحقة أو يلغون فيها وذكر الجحود لكونه سببا للغو (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) يعنون فريقى شياطين النوعين المقيضين لهم الحاملين لهم على الكفر والمعاصى بالتسويل والتزيين وقيل هما إبليس وقابيل فإنهما سنا الكفر والقتل بغير حق وقرىء أرنا تخفيفا كفخذ فى فخذ وقيل معناه أعطناهما وقرىء باختلاس كسرة الراء (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) أى ندسهما انتقاما منهما وقيل نجعلهما فى الدرك الأسفل (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) أى ذلا ومهانة أو مكانا (إِنَ

١٢

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٣)

____________________________________

الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) شروع فى بيان حسن أحوال المؤمنين فى الدنيا والآخرة بعد بيان سوء حال الكفرة فيهما أى قالوه اعترافا بربوبيته تعالى وإقرارا بوحدانيته (ثُمَّ اسْتَقامُوا) أى ثبتوا على الإقرار ومقتضياته* على أن ثم للتراخى فى الزمان أو فى الرتبة فإن الاستقامة لها الشأن كله وما روى عن الخلفاء الراشدين رضى الله تعالى عنهم فى معناها من الثبات على الإيمان وإخلاص العمل وأداء الفرائض بيان لجزئياتها (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) من جهته تعالى يمدونهم فيما يعن لهم من الأمور الدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإلهام كما أن الكفرة يغويهم ما قيض لهم من قرناء السوء بتزيين القبائح وقيل تتنزل عند الموت بالبشرى وقيل إذا قاموا من قبورهم وقيل البشرى فى مواطن ثلاثة عند الموت وفى القبر وعند البعث والأظهر هو العموم والإطلاق كما ستعرفه (أَلَّا تَخافُوا) ما تقدمون عليه فإن الخوف غم* يلحق لتوقع المكروه (وَلا تَحْزَنُوا) على ما خلفتم فإنه غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار* وقيل المراد نهيهم عن الغموم على الإطلاق والمعنى أن الله تعالى كتب لكم الأمن من كل غم فلن تذوقوه أبدا وأن إما مفسرة أو مخففة من الثقيلة والأصل بأنه لا تخافوا والهاء ضمير الشأن وقرىء لا تخافوا أى يقولون لا تخافوا على أنه حال من الملائكة أو استئناف (وَأَبْشِرُوا) أى سروا (بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فى الدنيا على ألسنة الرسل هذا من بشاراتهم فى أحد المواطن الثلاثة وقوله تعالى (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الخ من بشاراتهم فى الدنيا أى أعوانكم فى أموركم نلهمكم الحق ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم ولعل ذلك عبارة عما يخطر ببال المؤمنين المستمرين على الطاعات من أن ذلك بتوفيق الله تعالى وتأييده لهم بواسطة الملائكة عليهم‌السلام (وَفِي الْآخِرَةِ) نمدكم بالشفاعة* ونتلقاكم بالكرامة حين يقع بين الكفرة وقرنائهم ما يقع من التعادى والخصام (وَلَكُمْ فِيها) أى فى الآخرة (ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من فنون الطيبات (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) ما تمنون افتعال من الدعاء* بمعنى الطلب أى تدعون لأنفسكم وهو أعم من الأول ولكم فى الموضعين خبر وما مبتدأ وفيها حال من ضميره فى الخبر وعدم الاكتفاء بعطف ما تدعون على ما تشتهى للإشباع فى البشارة والإيذان باستقلال كل منهما (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) حال مما تدعون مفيدة لكون ما يتمنونه بالنسبة إلى ما يعطون من عظائم الأجور كالنزل للضيف (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) أى إلى توحيده تعالى وطاعته. عن ابن عباس رضى الله عنهما هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا إلى الإسلام

١٣

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (٣٧)

____________________________________

وعنه أنهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل نزلت فى المؤذنين والحق أن حكمها عام لكل* من جمع ما فيها من الخصال الحميدة وإن نزلت فيمن ذكر (وَعَمِلَ صالِحاً) فيما بينه وبين ربه (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ابتهاجا بأنه منهم أو اتخاذا للإسلام دينا ونحلة من قولهم هذا قول فلان أى مذهبه لا أنه تكلم بذلك وقرىء إنى بنون واحدة (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) جملة مستأنفة سيقت لبيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد إثر بيان محاسن الأعمال الجارية بين العبد وبين الرب عزوجل ترغيبا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الصبر على أذية المشركين ومقابلة إسابتهم بالإحسان أى لا تستوى الخصلة الحسنة والسيئة فى الآثار والأحكام ولا التانية مزيدة لتأكيد النفى وقوله تعالى* (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الخ استئناف مبين لحسن عاقبة الحسنة أى ادفع السيئة حيث اعترضتك من بعض أعاديك بالتى هى أحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات كالإحسان إلى من أساء فإنه أحسن من العفو وإخراجه مخرج الجواب عن سؤال من قال كيف أصنع للمبالغة ولذلك وضع أحسن موضع الحسنة وقوله تعالى (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) بيان لنتيجة الدفع المأمور به أى فإذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولى الشفيق (وَما يُلَقَّاها) أى ما يلقى هذه الخصلة والسجية التى هى مقابلة الإساءة بالإحسان (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أى شأنهم الصبر (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من الخير وكمال النفس وقيل الحظ العظيم الجنة وقيل هو الثواب وقيل نزلت فى أبى سفيان بن حرب وكان مؤذيا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصار وليا مصافيا (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) النزغ والنسغ بمعنى وهو شبه النخس شبه به وسوسة الشيطان لأنها بعث على الشر وجعل نازغا على طريقة جد جده أو أريد وإما ينزغنك نازغ وصفا للشيطان بالمصدر أى وإن* صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتى هى أحسن (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من شره ولا قطعه (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) باستعاذتك (الْعَلِيمُ) بنيتك أو بصلاحك وفى جعل ترك الدفع بالأحسن من آثار نزغات الشيطان مزيد تحذير وتنفير عنه (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على شئونه العظيمة (اللَّيْلُ وَالنَّهارُ).

١٤

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) (٤١)

____________________________________

وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) كل منها مخلوق من مخلوقاته مسخر لأمره (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) لأنهما من جملة مخلوقاته المسخرة لأوامره مثلكم (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) الضمير للأربعة لأن حكم جماعة* ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث أو لأنها عبارة عن الآيات وتعليق الفعل بالكل مع كفاية بيان مخلوقية الشمس والقمر للإيذان بكمال سقوطهما عن رتبة المسجودية بنظمهما فى المخلوقية فى سلك الأعراض التى لا قيام لها بذاتها وهو السر فى نظم الكل فى سلك آياته تعالى (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) * فإن السجود أقصى مراتب العبادة فلا بد من تخصيصه به سبحانه وهو موضع للسجود عند الشافعى رحمه‌الله وعندنا آخر الآية الأخرى لأنه تمام المعنى (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) عن الامتثال (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) من الملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أى دائما (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) لا يفترون ولا يملون وقرىء لا يسأمون بكسر الياء (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) يابسة متطامنة مستعار من الخشوع بمعنى التذلل (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) أى المطر (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أى تحركت بالنبات وانتفخت لأن النبت إذا دنا أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت ثم تصدعت عن النبات وقيل تزخرفت بالنبات وقرىء ربأت أى ارتفعت (إِنَّ الَّذِي أَحْياها) بما ذكر بعد موتها (لَمُحْيِ الْمَوْتى) بالبعث (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء التى من جملتها الإحياء (قَدِيرٌ) مبالغ فى القدرة (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) يميلون عن الاستقامة وقرىء يلحدون (فِي آياتِنا) بالطعن فيها وتحريفها بحملها على المحامل الباطلة (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) فنجازيهم بإلحادهم وقوله تعالى (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) تنبيه على كيفية الجزاء (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) من الأعمال المؤدية إلى ما ذكر من الإلقاء فى النار والإتيان آمنا وفيه تهديد شديد (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم بحسب أعمالكم وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) بدل من قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) الخ وخبر إن هو الخبر السابق وقيل مستأنف وخبرها محذوف وقال الكسائى سد مسده الخبر السابق والذكر القرآن وقوله تعالى (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أى كثير المنافع عديم النظير أو منيع لا تتأتى معارضته جملة حالية مفيدة لغاية*

١٥

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٤٤)

____________________________________

شناعة الكفر به وقوله تعالى (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أى لا يتطرق إليه الباطل من جهة من الجهات صفة أخرى لكتاب وقوله تعالى (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) خبر لمبتدأ محذوف أو صفة أخرى لكتاب مفيدة لفخامته الإضافية كما أن الصفتين السابقتين مفيدتان لفخامته الذاتية وقوله تعالى (لا يَأْتِيهِ) الخ اعتراض عند من لا يجوز تقديم غير الصريحمن الصفات على الصريح كل ذلك لتأكيد بطلان الكفر بالقرآن وقوله تعالى (ما يُقالُ لَكَ) الخ تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يصيبه من أذية الكفار أى ما يقال فى شأنك وشأن ما أنزل إليك من القرآن من جهة كفار قومك (إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) أى إلا مثل ما قد قيل فى حقهم مما لا خير فيه (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) لأنبيائه (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) لأعدائهم وقد نصر من قبلك من الرسل وانتقم من أعدائهم وسيفعل مثل ذلك بك وبأعدائك أيضا (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) جواب لقولهم هلا أنزل القرآن بلغة العجم والضمير للذكر (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أى بينت بلسان نفقهه وقوله تعالى (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) إنكار مقرر للتحضيض والأعجمى يقال لكلام لا يفهم وللمتكلم به والياء للمبالغة فى الوصف كأحمرى والمعنى أكلام أعجمى ورسول أو مرسل إليه عربى على أن الإفراد مع كون المرسل إليهم أمة جمة لما أن المراد بيان التنافى والتنافر بين الكلام وبين المخاطب به لا بيان كون المخاطب واحدا أو جمعا وقرىء أعجمى أى أكلام منسوب إلى أمة العجم وقرىء أعجمى على الإخبار بأن القرآن أعجمى والمتكلم والمخاطب عربى ويجوز أن يراد هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم وبعضها عربيا لإفهام العرب* وأياما كان فالمقصود بيان أن آيات الله تعالى على أى وجه جاءتهم وجدوا فيها متعنتا يتعللون به (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) يهديهم إلى الحق (وَشِفاءٌ) لما فى الصدور من شك وشبهة (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) مبتدأ خبره (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) على أن التقدير هو أى القرآن فى آذانهم وقر على أن وقر خبر للضمير المقدر وفى آذانهم متعلق بمحذوف وقع حالا من وقر وهو أوفق لقوله تعالى (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) وقيل خبر الموصول فى آذانهم ووقر فاعل الظرف وقيل وقر مبتدأ والظرف خبره والجملة خبر للموصول وقيل التقدير والذين لا يؤمنون فى آذانهم منه وقر ومن جوز العطف على عاملين عطف الموصول على الموصول الأول أى هو للأولين هدى وشفاء وللآخرين وقر فى آذانهم (أُولئِكَ) إشارة إلى

١٦

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ(٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) (٤٧)

____________________________________

الموصول الثانى باعتبار اتصافه بما فى حيز صلته وملاحظة ما أثبت له وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته فى الشرمع ما فيه من كمال المناسبة للنداء من بعيد أى أولئك البعداء الموصوفون بما ذكر من التصام عن الحق الذى يسمعونه والتعامى عن الآيات الظاهرة التى يشاهدونها (يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) تمثيل لهم فى عدم قبولهم واستماعهم له بمن ينادى من مسافة نائية لا يكاد يسمع من مثلها الأصوات (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن الاختلاف فى شأن الكتب عادة قديمة للأمم غير مختص بقومك على منهاج قوله تعالى (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) أى وبالله لقد آتيناه التوراة فاختلف فيها فمن مصدق لها ومكذب وهكذا حال قومك فى شأن ما آتيناك من القرآن فمن مؤمن به وكافر (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) فى حق* أمتك المكذبة وهى العدة بتأخير عذابهم وفصل ما بينهم وبين المؤمنين من الخصومة إلى يوم القيامة بنحو قوله تعالى (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) وقوله تعالى (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى* (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) باستئصال* المكذبين كما فعل بمكذبى الأمم السالفة (وَإِنَّهُمْ) أى كفار قومك (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أى من القرآن وجعل الضمير الأول لليهود والثانى للتوراة مما لا وجه له (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) بأن آمن بالكتب وعمل بموجبها (فَلِنَفْسِهِ) أى فلنفسه يعمله أو فنفعه لنفسه لا لغيره (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ضرره لا على غيره (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله مبنى على تنزيل ترك إثابة المحسن* بعمله أو إثابة الغير بعمله وتنزيل التعذيب بغير إساءة أو بإساءة غيره منزلة الظلم الذى يستحيل صدوره عنه سبحانه وتعالى وقد مر ما فى المقام من التحقيق والتفصيل فى سورة آل عمران وسورة الأنفال (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أى إذا سئل عنها يقال الله يعلم أو لا يعلمها إلا الله تعالى (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) أى من أوعيتها جمع كم بالكسر وهو وعاء الثمرة كجف الطلعة وقرىء من ثمرة على إرادة الجنس والجمع لاختلاف الأنواع وقد قرىء بجمع الضمير أيضا وما نافية ومن الأولى مزيدة للاستغراق واحتمال أن تكون ما موصولة معطوفة على الساعة ومن مبينة بعيد (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ) أى حملها وقوله تعالى (إِلَّا بِعِلْمِهِ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال أى وما يحدث شىء

١٧

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) (٥٠)

____________________________________

من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع ملابسا بشىء من الأشياء إلا ملابسا بعلمه المحيط* (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي) أى بزعمكم كما نص عليه فى قوله تعالى (نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) وفيه تهكم بهم وتقريع لهم ويوم منصوب باذكر أو ظرف لمضمر مؤخر قد ترك إيذانا بقصور البيان عنه كما مر* فى قوله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) (قالُوا آذَنَّاكَ) أى أخبرناك (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) من أحد يشهد لهم بالشركة إذ تبرأنا منهم لما عاينا الحال وما منا أحد إلا وهو موحد لك أو ما منا من أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم حينئذ وقيل هو قول الشركاء أى ما منا من شهيد يشهد لهم بأنهم كانوا محقين وقولهم آذناك إما لأن هذا التوبيخ مسبوق بتوبيخ آخر مجاب بهذا الجواب أو لأن معناه أنك علمت من قلوبنا وعقائدنا الآن أنا لا نشهد تلك الشهادة الباطلة لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنهم أعلموه أو لأن معناه الإنشاء لا الإخبار بإيذان قد كان قبل ذلك (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ) أى يعبدون (مِنْ قَبْلُ) أى غابوا عنهم أو ظهر عدم نفعهم فكان حضورهم كغيبتهم (وَظَنُّوا) أى أيقنوا (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) مهرب والظن معلق عنه بحرف النفى (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ) أى لا يمل ولا يفتر (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) من طلب السعة فى النعمة وأسباب المعيشة وقرىء من دعاء بالخير (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) أى العسر والضيقة (فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) فيه مبالغة من جهة البناء ومن جهة التكرير ومن جهة أن القنوط عبارة عن يأس مفرط يظهر أثره فى الشخص فيتضاءل وينكسر أى مبالغ فى قطع الرجاء من فضل الله تعالى ورحمته وهذا وصف للجنس بوصف غالب أفراده لما أن اليأس من رحمته تعالى لا يتأتى إلا من الكافر وسيصرح به (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) بتفريجها عنه (لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أى حقى أستحقه لما لى من الفضل والعمل أولى لا لغيرى فلا يزول عنى أبدا (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أى تقوم فيما سيأتى (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي) على تقدير قيامها (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أى للحالة الحسنى من الكرامة وذلك لاعتقاده أن ما أصابه من نعم الدنيا لاستحقاقه له وأن نعم الآخرة كذلك (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) أى لنعلمنهم بحقيقة أعمالهم حين أظهرناها بصورها الحقيقة وقد مر تحقيقه فى سورة الأعراف عند قوله تعالى (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) وفى قوله تعالى (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) من سورة يونس (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه.

١٨

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥٣)

____________________________________

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ) أى عن الشكر (وَنَأى بِجانِبِهِ) أى ذهب بنفسه وتباعد بكليته تكبرا وتعظما والجانب مجاز عن النفس كما فى قوله تعالى (فِي جَنْبِ اللهِ) ويجوز أن يراد به عطفه ويكون عبارة عن الانحراف والازورار كما قالوا ثنى عطفه وتولى بركنه (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أى كثير مستعار* مما له عرض متسع للإشعار بكثرته واستمراره وهو أبلغ من الطويل إذ الطول أطول الامتدادين فإذا كان عرضه كذلك فما ظنك بطوله ولعل هذا شأن بعض غير البعض الذى حكى عنه اليأس والقنوط أو شأن الكل فى بعض الأوقات (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أى أخبرونى (إِنْ كانَ) أى القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) مع تعاضد موجبات الإيمان به (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أى من أضل منكم فوضع الموصول موضع الضمير شرحا لحالهم وتعليلا لمزيد ضلالهم (سَنُرِيهِمْ آياتِنا) الدالة على حقيته وكونه من عند الله (فِي الْآفاقِ) هو ما أخبرهم به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحوادث الآتية وآثار النوازل الماضية وما يسر الله تعالى له ولخلفائه من الفتوح والظهور على آفاق الدنيا والاستيلاء على بلاد المشارق والمغارب على وجه خارق للعادة (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) هو ما ظهر فيما بين أهل مكة وما حل بهم وقال ابن عباس رضى الله* عنهما فى الآفاق أى منازل الأمم الخالية وآثارهم وفى أنفسهم يوم بدر وقال مجاهد والحسن والسدى فى الآفاق ما يفتح الله من القرى عليه عليه الصلاة والسلام والمسلمين وفى أنفسهم فتح مكة وقيل فى الآفاق أى فى أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم وما يترتب عليها من الليل والنهار والأضواء والظلال والظلمات ومن النبات والأشجار والأنهار وفى أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة فى تكوين الأجنة فى ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتركيبات الغريبة كقوله تعالى (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) واعتذر بأن معنى السين مع أن إراءة تلك الآيات قد حصلت قبل ذلك أنه تعالى سيطلعهم على تلك الآيات زمانا فزمانا ويزيدهم وقوفا على حقائقها يوما فيوما (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ) بذلك (أَنَّهُ الْحَقُّ) أى القرآن أو الإسلام والتوحيد (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ) استئناف وارد لتوبيخهم على ترددهم فى شأن القرآن وعنادهم المحوج إلى إراءة الآيات وعدم اكتفائهم بإخباره تعالى والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أى ألم يغن ولم يكف ربك والباء مزيدة للتأكيد ولا تكاد تزاد إلا مع كفى وقوله تعالى (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) بدل منه أى ألم يغنهم عن* إراءة الآيات الموعودة المبينة لحقية القرآن ولم يكفهم فى ذلك أنه تعالى شهيد على جميع الأشياء وقد أخبر بأنه من عنده وقيل معناه إن هذا الموعود من إظهار آيات الله فى الآفاق وفى أنفسهم سيرونه

١٩

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٥٤)

____________________________________

ويشاهدونه فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب الذى هو على كل شىء شهيد أى مطلع يستوى عنده غيبه وشهادته فيكفيهم ذلك دليلا على أنه حق وأنه من عنده ولو لم يكن كذلك لما قوى هذه القوة ولما نصر حاملوه هذه النصرة فتأمل وأما ما قيل من أن المعنى أو لم يكفك أنه تعالى على كل شىء شهيد محقق له فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياء الموعودة فمع إشعاره بما لا يليق بجلالة منصبه عليه‌السلام من التردد فيما ذكر من تحقيق الموعود يرده قوله تعالى (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) أى فى شك عظيم من ذلك بالبعث والجزاء فإنه صريح فى أن عدم* الكفاية معتبر بالنسبة إليهم وقرىء مرية بالضم وهو لغة فيها (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) عالم بجميع الأشياء جملها وتفاصيلها وظواهرها وبواطنها فلا تخفى عليه خافية منهم وهو مجازيهم على كفرهم ومريتهم لا محالة. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة السجدة أعطاه الله تعالى بكل حرف عشر حسنات والله أعلم.

٢٠