تفسير أبي السّعود - ج ٨

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٨

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) (١٣)

____________________________________

وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر فى حقهن لكثرة وقوعها فيما بينهن مع اختصاص بعضها بهن (فَبايِعْهُنَّ) * أى على ما ذكر وما لم يذكر لوضوح أمره وظهور أصالته فى المبايعة من الصلاة والزكاة وسائر أركان الدين وشعائر الإسلام وتقييد مبايعتهن بما ذكر من مجيئهن لحثهن على المسارعة إليها مع كمال الرغبة فيها من غير دعوة لهن إليها (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) زيادة على ما فى ضمن المبايعة فإنها عبارة عن ضمان الثواب* من قبله عليه الصلاة والسلام بمقابلة الوفاء بالأمور المذكورة من قبلهن (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أى مبالغ* فى المغفرة والرحمة فيغفر لهن ويرحمهن إذا وفين بما بايعن عليه واختلف فى كيفية مبايعته عليه الصلاة والسلام لهن يومئذ فروى أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من بيعة الرجال جلس على الصفا ومعه عمر رضى الله عنه أسفل منه فجعل عليه الصلاة والسلام يشترط عليهن البيعة وعمر يصافحهن وروى أنه كلف امرأة وقفت على الصفا فبايعتهن وقيل دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده ثم غمسن أيديهن وروى أنه عليه الصلاة والسلام بايعهن وبين يديه وأيديهن ثوب قطرى والأظهر الأشهر ما قالت عائشة رضى الله عنها والله ما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على النساء قط إلا بما أمر الله تعالى وما مست كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كف امرأة قط وكان يقول إذا أخذ عليهن قد بايعتكن كلاما وكان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمتحنهن بقول الله عزوجل يأيها النبى إذا جاءك المؤمنات إلى آخر الآية فإذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن انطلقن فقد بايعتكن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) هم عامة الكفرة وقيل اليهود لما روى أنها نزلت فى بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) لكفرهم بها أو لعلمهم* بأنه لا خلاق لهم فيها لعنادهم الرسول المنعوت فى التوراة المجيد بالآيات (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أى كما يئس منها الذين ماتوا منهم لأنهم وقفوا على حقيقة الحال وشاهدوا حرمانهم من نعيمها المقيم وابتلاءهم بعذابها الأليم والمراد وصفهم بكمال اليأس منها وقيل المعنى كما يئسوا من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا إلى الدنيا أحياء والإظهار فى موقع الإضمار للإشعار بعلة بأسهم. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة.

٢٤١

٦١ ـ سورة الصف

(مدنية وهى أربع عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (٣)

____________________________________

(سورة الصف مدنية وقيل مكية وآياتها أربع عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الكلام فيه كالذى مر فى نظيره (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) روى أن المسلمين قالوا لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا فلما نزل الجهاد كرهوه فنزلت وما قيل من أن النازل قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) بين الاختلال وروى أنهم قالوا يا رسول الله لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لسارعنا إليه فنزلت (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) فولوا يوم أحد وفيه التزام أن ترتيب الآيات الكريمة ليس على ترتيب النزول وقيل لما أخبر الله تعالى بثواب شهداء بدر قالت الصحابة اللهم أشهد لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا ففروا يوم أحد فنزلت وقيل إنها نزلت فيمن يتمدح كاذبا حيث كان الرجل يقول قتلت ولم يقتل ولم يطعن وهكذا وقيل كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر ونكى فيهم فقتله صهيب وانتحل قتله آخر فنزلت فى المنتحل وقيل نزلت فى المنافقين ونداؤهم بالإيمان تهكم بهم وبإيمانهم وليس بذاك كما ستعرفه ولم مركبة من اللام الجارة وما الاستفهامية قد حذفت ألفها تخفيفا لكثرة استعمالهما معا كما فى عم وفيم ونظائرهما معناها لأى شىء تقولون نفعل ما لا تفعلون من الخير والمعروف على أن مدار التعيير والتوبيخ فى الحقيقة عدم فعلهم وإنما وجها إلى قولهم تنبيها على تضاعف معصيتهم ببيان أن المنكر ليس ترك الخير الموعود فقط بل الوعد به أيضا وقد كانوا يحسبونه معروفا ولو قيل لم لا تفعلوا ما تقولون لفهم منه أن المنكر هو ترك الموعود (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) بيان لغاية قبح ما فعلوه وفرط سماجته وكبر من باب نعم وبئس فيه ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده وأن تقولوا هو المخصوص بالذم وقيل قصد فيه التعجب من غير لفظه وأسند إلى أن تقولوا ونصب مقتا على تفسيره دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه كبر عند من يحقر دونه كل عظيم.

٢٤٢

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٥)

____________________________________

وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) بيان لما هو مرضى عنده تعالى بعد بيان ما هو ممقوت عنده وهذا صريح فى أن ما قالوه عبارة عن الوعد بالقتال لا عما تقوله المتمدح أو انتحله المنتحل أو أعاده المنافق وأن مناط التعبير والتوبيخ هو إخلافهم لا وعدهم كما أشير إليه وقرىء يقاتلون بفتح التاء ويقاتلون وصفا مصدر وقع موقع الفاعل أو المفعول ونصبه على الحالية من فاعل يقاتلون أى صافين أنفسهم أو مصفوفين وقوله تعالى (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) حال من المستكن فى الحال* الأولى أى مشبهين فى تراصهم من غير فرجة وخلل ببنيان رص بعضه إلى بعض ورصف حتى صار شيئا واحدا وقوله تعالى (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال* وإذ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبى عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين أى واذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى لبنى إسرائيل حين ندبهم إلى قتال الجبابرة بقوله (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) فلم يمتثلوا بأمره وعصوه أشد عصيان حيث قالوا (يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ) (نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) وأصروا على ذلك وآذوه عليه الصلاة والسلام كل الأذية (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) أى بالمخالفة والعصيان فيما أمرتكم به* وقوله تعالى (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) جملة حالية مؤكدة لإنكار الإيذاء ونفى سببه وقد* لتحقيق العلم وصيغة المضارع للدلالة على استمراره أى والحال أنكم تعلمون علما قطعيا مستمرا بمشاهدة ما ظهر بيدى من المعجزات القاهرة التى معظمها إهلاك عدوكم وإنجاؤكم من ملكته أنى رسول الله إليكم لأرشدكم إلى خير الدنيا والآخرة ومن قضية علمكم بذلك أن تبالغوا فى تعاظيمى وتسارعوا إلى طاعتى (فَلَمَّا زاغُوا) أى أصروا على الزيغ عن الحق الذى جاء به موسى عليه‌السلام واستمروا عليه (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أى صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب لصرف اختيارهم نحو الغى والضلال وقوله تعالى (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله من الإزاغة ومؤذن بعلته* أى لا يهدى القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق المصرين على الغواية هداية موصلة إلى ما يوصل إليها فإنها شاملة للكل والمراد بهم إما المذكورون خاصة والإظهار فى موقع الإضمار لذمهم بالفسق وتعليل عدم الهداية به أو جنس الفاسقين وهم داخلون فى حكمه دخولا أوليا وأيا ما كان فوصفهم بالفسق ناظر إلى ما فى قوله تعالى (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) هذا هو الذى تقتضيه جزالة النظم

٢٤٣

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٨)

____________________________________

الكريم ويرتضيه الذوق السليم. وأما ما قيل بصدد بيان أسباب الأذية من أنهم كانوا يؤذونه عليه الصلاة والسلام بأنواع الأذى من انتقاصه وعيبه فى نفسه وجحود آياته وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه وعبادتهم البقر وطلبهم رؤية الله جهرة والتكذيب الذى هو تضييع حق الله وحقه فمما لا تعلق له بالمقام وقوله تعالى (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) إما معطوف على إذ الأولى معمول لعاملها وإما معمول* لمضمر معطوف على عاملها (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ناداهم بذلك استمالة لقلوبهم إلى تصديقه فى قوله (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) فإن تصديقه عليه الصلاة والسلام إياها من أقوى الدواعى* إلى تصديقهم إياه وقوله تعالى (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي) معطوف على مصدقا داع إلى تصديقه عليه الصلاة والسلام مثله من حيث إن البشارة به واقعة فى التوراة والعامل فيهما ما فى الرسول من معنى الإرسال لا الجار فإنه صلة للرسول والصلات بمعزل من تضمن معنى الفعل وعليه يدور العمل* أى أرسلت إليكم حال كونى مصدقا لما تقدمنى من التوراة ومبشرا بمن يأتى من بعدى من رسول (اسْمُهُ أَحْمَدُ) أى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد أن دينى التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعا ممن تقدم وتأخر* وقرىء من بعدى بفتح الياء (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أى بالمعجزات الظاهرة (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) مشيرين إلى ما جاء به أو إليه عليه الصلاة والسلام وتسميته سحرا للمبالغة ويؤيده قراءة من قرأ هذا ساحر (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) أى أى الناس أشد ظلما ممن يدعى إلى الإسلام الذى يوصله إلى سعادة الدارين فيضع موضع الإجابة الافتراء على الله عزوجل بقوله لكلامه الذى هو دعاء عباده إلى الحق هذا سحر أى هو أظلم من كل ظالم وإن لم يتعرض ظاهر* الكلام لنفى المساوى وقد مر بيانه غير مرة وقرىء يدعى يقال دعاه وادعاه مثل لمسه والتمسه (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أى لا يرشدهم إلى ما فيه فلاحهم لعدم توجههم إليه (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) أى يريدون أن يطفئوا دينه أو كتابه أو حجته النيرة واللام مزيدة لما فيها من معنى الإرادة تأكيدا لها كما زيدت لما فيها من معنى الإضافة تأكيدا لها فى لا أبالك أو يريدون الافتراء ليطفئوا نور الله* (بِأَفْواهِهِمْ) بطعهم فيه مثلت حالهم بحال من ينفخ فى نور الشمس بفيه ليطفئه (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) أى* مبلغه إلى غايته بنشره فى الآفاق وإعلائه وقرىء متم نوره بلا إضافة (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أى إرغاما

٢٤٤

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٣)

____________________________________

لهم والجملة فى حيز الحال على ما بين مرارا (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) بالقرآن أو بالمعجزة (وَدِينِ الْحَقِّ) والملة الحنيفة (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ليعليه على جميع الأديان المخالفة له ولقد أنجز الله عز* وعلا وعده حيث جعله بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ذلك وقرىء هو الذى أرسل نبيه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) وقرىء تنجيكم بالتشديد وقوله تعالى (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) استئناف وقع جوابا عما نشأ مما قبله كأنهم قالوا كيف نعمل أو ماذا نصنع فقيل تؤمنون بالله الخ وهو خبر فى معنى الأمر جىء به للإيذان بوجوب الامتثال فكانه قد وقع فأخبر بوقوعه ويؤيده قراءة من قرأ آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا وقرىء تؤمنوا وتجاهدوا على إضمار لام الأمر (ذلِكُمْ) * إشارة إلى ما ذكر من الإيمان والجهاد بقسميه وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة (خَيْرٌ لَكُمْ) على* الإطلاق أو من أموالكم وأنفسكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أى إن كنتم من أهل العلم فإن الجهلة لا يعتد* بأفعالهم أو إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرا لكم حينئذ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أنفسكم وأموالكم فتخلصون وتفلحون (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر أو لشرط أو استفهام دل عليه الكلام تقديره إن تؤمنوا وتجاهدوا أو هل تقبلون أن أدلكم يغفر لكم وجعله جوابا لهل أدلكم بعيد لأن مجرد الدلالة لا يوجب المغفرة (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ) أى ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنات الموصوفة بما ذكر من الأوصاف الجليلة (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذى لا فوز وراءه (وَأُخْرى) ولكم إلى هذه النعم العظيمة نعمة أخرى عاجلة (تُحِبُّونَها) وترغبون فيها وفيه تعريض بأنهم يؤثرون العاجل* على الآجل وقيل أخرى منصوبة بإضمار يعطكم أو تحبون أو مبتدأ خبره (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) وهو على* الأول بدل أو بيان وعلى تقدير النصب خبر مبتدأ محذوف (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أى عاجل عطف على*

٢٤٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) (١٤)

____________________________________

نصر على الوجوه المذكورة وقرىء نصرا وفتحا قريبا على الاختصاص أو على المصدر أى تنصرون نصرا ويفتح لكم فتحا أو على البدلية من أخرى على تقدير نصبها أى يعطكم نعمة أخرى نصرا* وفتحا (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على محذوف مثل قل يأيها الذين وبشر أو على تؤمنون فإنه فى معنى آمنوا كأنه قيل آمنوا وجاهدوا أيها المؤمنون وبشرهم يأيها الرسول بما وعدتهم على ذلك عاجلا وآجلا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) وقرىء أنصار الله بلا إضافة لأن المعنى كونوا بعض أنصار* الله وقرىء كونوا أنتم أنصار الله (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أى من* جندى متوجها إلى الله كما يقتضيه قوله تعالى (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) والإضافة الأولى إضافة أحد المتشاركين إلى الآخر لما بينهما من الاختصاص والثانية إضافة الفاعل إلى المفعول والتشبيه باعتبار المعنى أى كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصاره حين قال لهم عيسى من أنصارى إلى الله أو قل لهم كونوا كما قال عيسى للحواريين والحواريون أصفياؤه وهم أول من آمن به وكانوا إثنى عشر* رجلا (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أى بعيسى وأطاعوه فيما أمرهم من نصرة الدين (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) أخرى به وقاتلوهم (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) أى قويناهم بالحجة أو بالسيف وذلك* بعد رفع عيسى عليه‌السلام (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) غالبين. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الصف كان عيسى مصليا عليه مستغفرا له مادام فى الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه.

٢٤٦

٦٢ ـ سورة الجمعة

(مدنية وهى إحدى عشرة آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣)

____________________________________

(سورة الجمعة مدنية وآياتها إحدى عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تسبيحا مستمرا (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) وقد قرىء الصفات الأربع بالرفع على المدح (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) أى فى العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرءون قيل بدئت الكتابة بالطائف أخذوها من أهل الحيرة وهم من أهل الأنبار (رَسُولاً مِنْهُمْ) أى كائنا من جملتهم أميا مثلهم (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) مع كونه أميا* مثلهم لم يعهد منه قراءة ولا تعلم (وَيُزَكِّيهِمْ) صفة أخرى لرسولا معطوفة على يتلو أى يحملهم على ما يصيرون* به أزكياء من خبائث العقائد والأعمال (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) صفة أخرى لرسولا مترتبة فى* الوجود على التلاوة وإنما وسط بينهما التزكية التى هى عبارة عن تكميل النفس بحسب قوتها العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كلا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر فلوروعى ترتيب الوجود لتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة كما مر فى سورة البقرة وهو السر فى التعبير عن القرآن تارة بالآيات وأخرى بالكتاب والحكمة رمزا إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة ولا يقدح فيه شمول الحكمة لما فى تضاعيف الأحاديث النبوية من الأحكام والشرائع (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) من الشرك* وخبث الجاهلية وهو بيان لشدة افتقارهم إلى من يرشدهم وإزاحة لما عسى يتوهم من تعلمه عليه الصلاة والسلام من الغير وإن هى المخففة واللام هى الفارقة (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) عطف على الأميين أو على المنصوب فى يعلمهم ويعلم آخرين منهم أى من الأميين وهم الذين جاءوا بعد الصحابة إلى يوم الدين فإن دعوته عليه الصلاة والسلام وتعليمه يعم الجميع (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) صفة لآخرين أى لم يلحقوا بهم بعد* وسيلحقون (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) المبالغ فى العزة والحكمة ولذلك مكن رجلا أميا من ذلك الأمر*

٢٤٧

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٧)

____________________________________

العظيم واصطفاه من بين كافة البشر (ذلِكَ) الذى امتاز به من بين سائر الأفراد (فَضْلُ اللهِ) وإحسانه* (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) تفضيلا وعطية (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الذى يستحقر دونه نعيم الدنيا ونعيم الآخرة (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) أى علموها وكلفوا العمل بها (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) أى لم يعملوا بما فى تضاعيفها* من الآيات التى من جملتها الآيات الناطقة بنبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) أى كتبا من العلم يتعب بحملها ولا ينتفع بها ويحمل إما حال والعامل فيها معنى المثل أو صفة للحمار* إذ ليس المراد به معينا فهو فى حكم النكرة كما فى قول من قال [ولقد أمر على اللئيم يسبنى] (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أى بئس مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله على أن التمييز محذوف والفاعل المفسر به مستتر ومثل القوم هو المخصوص بالذم والموصول صفة للقوم أو بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا الخ على أن مثل القوم فاعل بئس والمخصوص بالذم محذوف وهم اليهود الذين كذبوا* بما فى التوراة من الآيات الشاهدة بصحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الواضعين للتكذيب فى موضع التصديق أو الظالمين لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) أى تهودوا (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ) كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ويدعون أن الدار الآخرة لهم عند الله خالصة ويقولون لن يدخل الجنة إلا من كان هودا فأمر رسول* الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم إظهارا لكذبهم إن زعمتم ذلك (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) أى فنمنوا من* الله أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى دار الكرامة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه إن كنتم صادقين فى زعمكم واثقين بأنه حق فتمنوا الموت فإن من أيقن بأنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليها من هذه الدار التى هى قرارة الأكدار (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) إخبار بما سيكون* منهم والباء فى قوله تعالى (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) متعلقة بما يدل عليه النفى أى يأبون التمنى بسبب ما عملوا من الكفر والمعاصى الموجبة لدخول النار ولما كانت اليد من بين جوارح الإنسان مناط عامة أفاعيله* عبر بها تارة عن النفس وأخرى عن القدرة (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أى بهم وإيثار الإظهار على الإضمار

٢٤٨

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٠)

____________________________________

لذمهم والتسجيل عليهم بأنهم ظالمون فى كل ما يأتون وما يذرون من الأمور التى من جملتها ادعاء ما هم عنه بمعزل والجملة تذييل لما قبلها مقررة لمضمونه أى عليم بهم وبما صدر عنهم من فنون الظلم والمعاصى المفضية إلى أفانين العذاب وبما سيكون منهم من الاحتراز عما يؤدى إلى ذلك فوقع الأمر كما ذكر فلم يتمن منهم موته أحد كما يعرب عنه قوله تعالى (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) فإن ذلك إنما يقال لهم بعد ظهور فرارهم من التمنى وقد قال عليه الصلاة والسلام لو تمنوا لماتوا من ساعتهم وهذه إحدى المعجزات أى إن الموت الذى تفرون منه ولا تجسرون على أن تتمنوه مخافة أن تؤخذوا بوبال كفركم (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار* الوصف وقرىء بدونها وقرىء تفرون منه ملاقيكم (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) الذى لا تخفى* عليه خافية (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الكفر والمعاصى بأن يجازيكم بها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) أى فعل النداء لها أى أذن لها (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) بيان لإذا وتفسير لها وقيل من بمعنى فى كما* فى قوله تعالى (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أى فى الأرض وإنما سمى جمعة لاجتماع الناس فيه للصلاة وقيل أول من سماها جمعة كعب بن لؤى وكانت العرب تسميه العروبة وقيل إن الأنصار قالوا قبل الهجرة لليهود يوم يجتمعون فيه بكل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك فهلموا نجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله فيه ونصلى فقالوا يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة فصلى بهم ركعتين وذكرهم فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه فأنزل الله آية الجمعة فهى أول جمعة كانت فى الإسلام. وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو أنه لما قدم مهاجرا نزل قباء على بنى عمرو بن عوف وأقام بها يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة فى بنى سالم بن عوف فى بطن واد لهم فخطب وصلى الجمعة (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) أى امشوا واقصدوا إلى الخطبة والصلاة (وَذَرُوا الْبَيْعَ) * واتركوا المعاملة (ذلِكُمْ) أى السعى إلى ذكر الله وترك البيع (خَيْرٌ لَكُمْ) من مباشرته فإن نفع الآخرة* أجل وأبقى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أى الخير والشر الحقيقيين أو إن كنتم أهل العلم (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ)

٢٤٩

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١١)

____________________________________

* أى أديت وفرغ منها (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) لإقامة مصالحكم (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) أى الربح فالأمر للإطلاق بعد الحظر وعن ابن عباس رضى الله عنهما لم يؤمروا بطلب شىء من الدنيا إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة أخ فى الله وعن الحسن وسعيد بن المسيب طلب العلم وقيل* صلاة التطوع (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) ذكرا كثيرا أو زمانا كثيرا ولا تخصوا ذكره تعالى بالصلاة (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) كى تفوزوا بخير الدارين (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) روى أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشام والنبى عليه الصلاة والسلام يخطب يوم الجمعة فقاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه فما بقى معه عليه الصلاة والسلام إلا ثمانية وقيل أحد عشر وقيل إثنا عشر وقيل أربعون فقال عليه الصلاة والسلام والذى نفس محمد بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادى نارا وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق وهو المراد باللهو وتخصيص التجارة برجع الضمير لأنها المقصودة أو لأن الإنفضاض للتجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموما فما ظنك بالإنفضاض إلى اللهو وهو المذموم فى نفسه وقيل تقديره إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه فحذف الثانى لدلالة الأول عليه وقرىء* إليهما (وَتَرَكُوكَ قائِماً) أى على المنبر (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ) من الثواب (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) فإن* ذلك نفع محقق مخلد بخلاف ما فيهما من النفع المتوهم (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فإليه اسعوا ومنه اطلبوا الرزق. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الجمعة أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة ومن لم يأتها فى أمصار المسلمين.

٢٥٠

٦٣ ـ سورة المنافقون

(مدنية وهى إحدى عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (٣)

____________________________________

(سورة المنافقون مدنية وآياتها إحدى عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) أى حضروا مجلسك (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) مؤكدين كلامهم بان واللام للإيذان بأن شهادتهم هذه صادرة عن صميم قلوبهم وخلوص اعتقادهم ووفور رغبتهم ونشاطهم وقوله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) اعتراض مقرر لمنطوق كلامهم وسط* بينه وبين قوله تعالى (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) تحقيقا وتعيينا لما نيط به التكذيب من* أنهم قالوه عن اعتقاد كما أشير إليه وإماطة من أول الأمر لما عسى يتوهم من توجه التكذيب إلى منطوق كلامهم أى والله يشهد إنهم لكاذبون فيما ضمنوا مقالتهم من أنها صادرة عن اعتقاد وطمأنينة قلب والإظهار فى موقع الإضمار لذمهم والإشعار بعلة الحكم (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) الفاجرة التى من جملتها ما حكى عنهم (جُنَّةً) أى وقاية عما يتوجه إليهم من مؤاخذة بالقتل والسبى أو غير ذلك واتخاذها جنة عبارة* عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا عن المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية واتخاذ الجنة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة وعن سببها أيضا كما يفصح عنه الفاء فى قوله تعالى (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أى فصدوا من أراد الدخول* فى الإسلام بأنه عليه الصلاة والسلام ليس برسول ومن أراد الإنفاق فى سبيل الله بالنهى عنه كما سيحكى عنهم ولا ريب فى أن هذا الصد منهم متقدم على حلفهم بالفعل وقرىء إيمانهم أى ما ظهروه على ألسنتهم فاتخاذه جنة عبارة عن استعماله بالفعل فإنه وقاية دون دمائهم وأموالهم فمعنى قوله تعالى (فَصَدُّوا) حينئذ فاستمروا على ما كانوا عليه من الصد والإعراض عن سبيله تعالى (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من* النفاق والصد وفى ساء معنى التعجب وتعظيم أمرهم عند السامعين (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم من القول

٢٥١

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (٥)

____________________________________

الناعى عليهم أنهم أسوأ الناس أعمالا أو إلى ما وصف من حالهم فى النفاق والكذب والاستتار بالإيمان الصورى وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مر مرارا من الإشعار ببعد منزلته فى* الشر (بِأَنَّهُمْ) أى بسبب أنهم (آمَنُوا) أى نطقوا بكلمة الشهادة كسائر من يدخل فى الإسلام (ثُمَّ كَفَرُوا) أى ظهر كفرهم بما شوهد منهم من شواهد الكفر ودلائله أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين* ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) حتى تمرنوا على الكفر واطمأنوا به وقرىء على البناء للفاعل وقرىء فطبع الله (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) حقيقة الإيمان ولا يعرفون حقيته أصلا (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) لضخامتها ويروقك منظرهم لصباحة وجوههم (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحلاوة كلامهم وكان ابن أبى جسيما فصيحا يحضر مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى نفر من أمثاله وهم رؤساء المدينة وكان عليه الصلاة والسلام ومن معه يعجبون بهبا كلهم ويسمعون إلى كلامهم وقيل الخطاب لكل أحد ممن يصلح للخطاب ويؤيده قراءة يسمع على البناء* للمفعول وقوله تعالى (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) فى حيز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو كلام مستأنف لا محل له شبهوا فى جلوسهم فى مجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستندين فيها بخشب منصوبة مسندة إلى الحائط فى كونهم أشباحا خالية عن العلم والخير وقرىء خشب على أنه جمع خشبة كبدن جمع بدنة وقيل هو جمع خشباء وهى الخشبة التى دعر جوفها أى فسد شبهوا بها فى نفاقهم وفساد بواطنهم وقرىء* خشب كمدرة ومدر (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أى واقعة عليهم ضارة لهم لجبنهم واستقرار الرعب* فى قلوبهم وقيل كانوا على وجل من أن ينزل الله فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم (هُمُ الْعَدُوُّ) أى هم الكاملون فى العداوة والراسخون فيها فإن أعدى الأعادى العدو المكاشر الذى يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوى والجملة مستأنفة وجعلها مفعولا ثانيا للحسبان مما لا يساعده النظم الكريم أصلا* فإن الفاء فى قوله تعالى (فَاحْذَرْهُمْ) لترتيب الأمر بالحذر على كونهم أعدى الأعداء (قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء عليهم وطلب من ذاته تعالى أن يلعنهم ويخزيهم أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك وقوله تعالى* (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) تعجيب من حالهم أى كيف يصرفون عن الحق إلى ما هم عليه من الكفر والضلال (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) عند ظهور جنايتهم بطريق النصيحة (تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) * أى عطفوها استكبارا (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) يعرضون عن القائل أو عن الاستغفار (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)

٢٥٢

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٨)

____________________________________

عن ذلك (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ) كما إذا جاءوك معتذرين من جناياتهم وقرىء استغفرت بحذف حرف الاستفهام ثقة بدلالة أم عليه وقرىء آستغفرت بإشباع همزة الاستفهام لا بقلب همزة الوصل ألفا (أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) كما إذا أصروا على قبائحهم واستكبروا عن الاعتذار والاستغفار (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أبدا لإصرارهم على الفسق ورسوخهم فى الكفر (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الكاملين* فى الفسق الخارجين عن دائرة الاستصلاح المنهمكين فى الكفر والنفاق والمراد إما هم بأعيانهم والإظهار فى موقع الإضمار لبيان غلوهم فى الفسق أو الجنس وهم داخلون فى زمرتهم دخولا أوليا وقوله تعالى (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ) أى للأنصار (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حَتَّى يَنْفَضُّوا) يعنون فقراء المهاجرين استئناف جار مجرى التعليل لفسقهم أو لعدم مغفرته تعالى لهم وقرىء حتى ينفضوا من انفض القوم إذا فنيت أزوادهم وحقيقته حان لهم أن ينفضوا مزاودهم وقوله تعالى (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) رد وإبطال لما زعموا من أن عدم إنفاقهم يؤدى إلى انفضاض الفقراء من حوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان أن خزائن الأرزاق بيد الله تعالى خاصة يعطى من يشاء ويمنع من يشاء (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) ذلك لجهلهم بالله تعالى وبشئونه ولذلك يقولون من مقالات الكفر* ما يقولون (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) روى أن جهجاه بن سعيد أجير عمر رضى الله عنه نازع سنانا الجهنى حليف ابن أبى واقتتلا فصرخ جهجاه يا للمهاجرين وسنان يا للأنصار فاعان جهجاها جعال من فقراء المهاجرين ولطم سنانا فاشتكى إلى ابن أبى فقال للأنصار لا تنفقوا الخ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل عنى بالأعز نفسه وبالأذل جانب المؤمنين وإسناد القول المذكور إلى المنافقين لرضاهم به فرد عليهم ذلك بقوله تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) * أى ولله الغالبة والقوة ولمن أعزه من رسوله والمؤمنين لا لغيرهم (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) من* فرط جهلهم وغرورهم فيهذون ما يهذون. روى أن عبد الله بن أبى لما أراد أن يدخل المدينة اعترضه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبى وكان مخلصا وقال لئن لم تقر لله ولرسوله بالعز لأضربن عنقك فلما

٢٥٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١١)

____________________________________

رأى منه الجد قال أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابنه جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أى لا يشغلكم الاهتمام بتدبير أمورها والاعتناء بمصالحها والتمتع بها عن الاشتغال بذكره عزوجل من الصلاة وسائر العبادات المذكورة للمعبود والمراد نهيهم عن التلهى بها وتوجيه النهى إليها للمبالغة* كما فى قوله تعالى (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) الخ (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أى التلهى بالدنيا من الدين (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أى الكاملون فى الخسران حيث باعوا العظيم الباقى بالحقير الفانى (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) * أى بعض ما أعطيناكم تفضلا من غير أن يكون حصوله من جهتكم ادخارا للآخرة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) بأن يشاهد دلائله ويعاين أماراته ومخايله وتقديم المفعول على الفاعل لما مر مرارا* من الاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر (فَيَقُولَ) عند تيقنه بحلوله (رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي) أى أمهلتنى* (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أى أمد قصير (فَأَصَّدَّقَ) بالنصب على جواب التمنى وقرىء فأتصدق (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) بالجزم عطفا على محل فأصدق كأنه قيل إن أخرتنى أصدق وأكن وقرىء وأكون بالنصب عطفا على لفظه وقرىء وأكون بالرفع أى وأنا أكون عدة منه بالصلاح (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً) * أى ولن يمهلها (إِذا جاءَ أَجَلُها) أى آخر عمرها أو انتهى إن أريد بالأجل الزمان الممتد من أول* العمر إلى آخره (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فمجاز لكم عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر فسارعوا فى الخيرات واستعدوا لما هو آت وقرىء يعملون بالياء التحتانية. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة المنافقين برىء من النفاق.

٢٥٤

٦٤ ـ سورة التغابن

(مدنية وهى ثمانى عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٤)

____________________________________

(سورة التغابن مدنية مختلف فيها وآياتها ثمانى عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أى ينزهه سبحانه جميع ما فيهما من المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه تنزيها مستمرا (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) لا لغيره إذ هو المبدىء لكل* شىء وهو القائم به والمهيمن عليه وهو المولى لأصول النعم وفروعها وأما ملك غيره فاسترعاء من جنابه وحمد غيره اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة* إلى الكل سواء (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) خلقا بديعا حاويا لجميع مبادى الكمالات العلمية والعملية ومع ذلك (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) أى فبعضكم أو فبعض منكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) مختار للإيمان كاسب له حسبما تقتضيه خلقته وكان الواجب عليكم جميعا أن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليها من سائر النعم فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه بل تشعبتم شعبا وتفرقتم فرقا وتقديم الكفر لأنه الأغلب فيما بينهم والأنسب بمقام التوبيخ وحمله على معنى فمنكم كافر مقدرة كفره موجه إليه ما يحمله عليه ومنكم مؤمن مقدر إيمانه موفق لما يدعوه إليه مما لا يلائم المقام (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم بذلك فاختاروا منه ما يجديكم من الإيمان والطاعة* وإياكم وما يرديكم من الكفر والعصيان (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) بالحكمة البالغة المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) حيث براكم فى أحسن تقويم وأودع فيكم* من القوى والمشاعر الظاهرة والباطنة ما نيط بها عن الكمالات البارزة والكامنة وزينكم بصفوة صفات مصنوعاته وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته وجعلكم أنموذج جميع مخلوقاته فى هذه النشأة (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) * فى النشأة الأخرى لا إلى غيره استلالا أو اشتراكا فأحسنوا سرائركم باستعمال تلك القوى والمشاعر فيما خلقن له (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الأمور الكلية والجزئية والأحوال الجلية والخفية

٢٥٥

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧)

____________________________________

* (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) أى ما تسرونه فيما بينكم وما تظهرونه من الأمور والتصريح به مع اندراجه* فيما قبله لأنه الذى يدور عليه الجزاء ففيه تأكيد للوعد والوعيد وتشديد لهما وقوله تعالى (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) اعتراض تذييلى مقرر لما قبله من شمول علمه تعالى لسرهم وعلنهم أى هو محيط بجميع المضمرات المستكنة فى صدور الناس بحيث لا تفارقها أصلا فكيف يخفى عليه ما يسرونه وما يعلنونه وإظهار الجلالة للإشعار بعلة الحكم وتأكيد استقلال الجملة قيل وتقديم تقرير القدرة على تقرير العلم لأن دلالة المخلوقات على قدرته بالذات وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أيها الكفرة (نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) كقوم نوح ومن بعدهم من الأمم المصرة على الكفر* (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) عطف على كفروا والوبال الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور وأمرهم كفرهم عبر عنه بذلك للإيذان بأنه أمر هائل وجناية عظيمة أى ألم يأتكم خبر الذين كفروا من قبل فذاقوا من غير مهلة ما يستتبعه كفرهم فى الدنيا (وَلَهُمْ) فى الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ) لا يقادر قدره (ذلِكَ) * أى ما ذكر من العذاب الذى ذاقوه فى الدنيا وما سيذوقونه فى الآخرة (بِأَنَّهُ) بسبب أن الشأن (كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أى بالمعجزات الظاهرة (فَقالُوا) عطف على كانت (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أى قال كل قوم من المذكورين فى حق رسولهم الذى أتاهم بالمعجزات منكرين لكون الرسول من جنس البشر متعجبين من ذلك أبشر يهدينا كما قالت ثمود أبشرا منا واحدا نتبعه وقد أجمل فى الحكاية فأسند القول إلى جميع الأقوام وأريد بالبشر الجنس فوصف بالجمع كما أجمل الخطاب والأمر فى قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) (فَكَفَرُوا) أى بالرسل (وَتَوَلَّوْا) عن التدبر فيما أتوا به من* البينات وعن الإيمان بهم (وَاسْتَغْنَى اللهُ) أى أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم حيث أهلكهم وقطع* دابرهم ولو لا غناه تعالى عنهما لما فعل ذلك (وَاللهُ غَنِيٌّ) عن العالمين فضلا عن إيمانهم وطاعتهم (حَمِيدٌ) يحمده كل مخلوق بلسان الحال أو مستحق للحمد بذاته وإن لم يحمده حامد (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) الزعم ادعاء العلم يتعدى إلى مفعولين وقد قام مقامهما أن المخففة مع ما فى حيزها والمراد بالموصول* كفار مكة أى زعموا أن الشأن لن يبعثوا بعد موتهم أبدا (قُلْ) ردا عليهم وإبطالا لزعمهم بإثبات ما نفوه* (بَلى) أى تبعثون وقوله (وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) أى لتحاسبن ولتجزون بأعمالكم جملة

٢٥٦

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١١)

____________________________________

مستقلة داخلة تحت الأمر واردة لتأكيد ما أفاده كلمة بلى من إثبات البعث وبيان تحقق أمر آخر متفرع عليه منوط به ففيه تأكيد لتحقق البعث بوجهين (وَذلِكَ) أى ما ذكر من البعث والجزاء (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لتحقق القدرة التامة وقبول المادة والفاء فى قوله تعالى (فَآمِنُوا) فصيحة مفصحة عن شرط قد حذف ثقة بغاية ظهوره أى إذا كان الأمر كذلك فآمنوا (بِاللهِ وَرَسُولِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم * (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) وهو القرآن فإنه بإعجازه بين بنفسه مبين لغيره كما أن النور كذلك والالتفات* إلى نون العظمة لإبراز كمال العناية بأمر الإنزال (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من الامتثال بالأمر وعدمه (خَبِيرٌ) * فمجاز لكم عليه والجملة اعتراض تذييلى مقرر لما قبله من الأمر موجب للامتثال به بالوعد والوعيد والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وتأكيد استقلال الجملة (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ) ظرف لتنبؤن وقيل لخبير لما فيه من معنى الوعيد كأنه قيل والله مجازيكم ومعاقبتكم يوم يجمعكم أو مفعول لا ذكر وقرىء نجمعكم بنون العظمة (لِيَوْمِ الْجَمْعِ) ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون أى لأجل ما فيه من الحساب* والجزاء (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) أى يوم غبن بعض الناس بعضا بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا* سعداء وبالعكس وفى الحديث ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة وتخصيص التغابن بذلك اليوم للإيذان بأن التغابن فى الحقيقة هو الذى يقع فيه لا ما يقع فى أمور الدنيا (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً) أى عملا صالحا (يُكَفِّرْ) أى الله عزوجل وقرىء بنون العظمة (عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) يوم* القيامة (وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) وقرىء ندخله بنون (ذلِكَ) أى* أى ما ذكر من تكفير السيئات وإدخال الجنات (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذى لا فوز وراءه لا نطوائه على النجاة* من أعظم الهلكات والظفر بأجل الطلبات (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أى النار كأن هاتين الآيتين الكريمتين بيان لكيفية التغابن (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) من المصائب الدنيوية (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أى بتقديره وإرادته كأنها بذاتها متوجهة إلى الإنسان متوقفة* على إذنه تعالى (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) عند إصابتها للثبات والاسترجاع وقيل يهد قلبه حتى يعلم*

٢٥٧

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤)

____________________________________

أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وقيل يهد قلبه أى يلطف به ويشرحه لازدياد الطاعة والخير وقرىء يهد قلبه على البناء للمفعول ورفع قلبه وقرىء بنصبه على نهج سفه نفسه وقرىء* يهدأ قلبه بالهمزة أى يسكن (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء التى من جملتها القلوب وأحوالها (عَلِيمٌ) فيعلم إيمان المؤمن ويهدى قلبه إلى ما ذكر (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) كرر الأمر لتأكيد والإيذان* بالفرق بين الطاعتين فى الكيفية وتوضيح مورد التولى فى قوله تعالى (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أى عن إطاعة الرسول* وقوله تعالى (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) تعليل للجواب المحذوف أى فلا بأس عليه إذ ما عليه إلا التبليغ المبين وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه وإظهار الرسول مضافا إلى نون العظمة فى مقام إضماره لتشريفه عليه الصلاة والسلام والإشعار بمدار الحكم الذى هو كون وظيفته عليه الصلاة والسلام محض البلاغ ولزيادة تشنيع التولى عنه (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) جملة من مبتدأ وخبر أى هو المستحق* للمعبودية لا غيره وفى إضمار خبر لا مثل فى الوجود أو يصح أن يوجد خلاف للنحاة معروف (وَعَلَى اللهِ) أى عليه تعالى خاصة دون غيره لا استقلالا ولا اشتراكا (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) وإظهار الجلالة فى موقع الإضمار للإشعار بعلة التوكل والأمر به فإن الألوهية مقتضية للتبتل إليه تعالى بالكلية وقطع التعلق عما سواه بالمرة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) يشغلونكم عن طاعة* الله تعالى أو يخاصمونكم فى أمور الدين أو الدنيا (فَاحْذَرُوهُمْ) الضمير للعدو فإنه يطلق على الجمع نحو قوله تعالى (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) أو للأزواج والأولاد جميعا فالمأمور به على الأول الحذر عن الكل وعلى الثانى* إما الحذر عن البعض لأن منهم من ليس بعدو وإما الحذر عن مجموع الفريقين لاشتمالهم على العدو (وَإِنْ تَعْفُوا) عن ذنوبهم القابلة للعفو بأن تكون متعلقة بأمور الدنيا أو بأمور الدين لكن مقارنة للتوبة* (وَتَصْفَحُوا) بترك التثريب والتعيير (وَتَغْفِرُوا) بإخفائها وتمهيد عذرها (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعاملكم بمثل ما عملتم ويتفضل عليكم وقيل إن ناسا من المؤمنين أرادوا الهجرة عن مكة فثبطهم أزواجهم وأولادهم وقالوا تنطلقوا وتضيعوننا فرقوا لهم ووقفوا فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا المهاجرين الأولين قد فقهوا فى الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم فزين لهم العفو وقيل قالوا لهم أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم فغضبوا عليهم وقالوا لئن جمعنا الله فى دار الهجرة لم نصبكم بخير فلما هاجروا ومنعوهم الخير فحثوا على أن يعفوا عنهم ويردوا إليهم البر والصلة.

٢٥٨

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨)

____________________________________

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) بلاء ومحنة يوقعونكم فى الائم من حيث لا تحتسبون (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن آثر محبة الله تعالى وطاعته على محبة الأموال والأولاد والسعى فى تدبير مصالحهم (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أى أبذلوا فى تقواه جهدكم وطاقتكم (وَاسْمَعُوا) مواعظه (وَأَطِيعُوا) أوامره (وَأَنْفِقُوا) * مما رزقكم فى الوجوه التى أمركم بالإنفاق فيها خالصا لوجهه (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) أى ائتوا خيرا لأنفسكم* وافعلوا ما هو خير لها وأنفع وهو تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر وبيان لكون الأمور المذكورة خيرا لأنفسهم ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أى إنفاقا خيرا أو خبرا لكان مقدرا جوابا للأوامر أى يكن خيرا لأنفسكم (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بكل مرام* (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ) بصرف أموالكم إلى المصارف التى عينها (قَرْضاً حَسَناً) مقرونا بالإخلاص وطيب النفس (يُضاعِفْهُ لَكُمْ) بالواحد عشرة إلى سبعمائة وأكثر وقرىء يضعفه لكم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) * ببركة الإنفاق ما فرط منكم من بعض الذنوب (وَاللهُ شَكُورٌ) يعطى الجزيل بمقابلة النزر القليل (حَلِيمٌ) * لا يعاجل بالعقوبة مع كثرة ذنوبكم (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) لا يخفى عليه خافية (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) المبالغ فى القدرة والحكمة. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة.

٢٥٩

٦٥ ـ سورة الطلاق

(مدنية وهى إثنتا عشرة آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) (١)

____________________________________

(سورة الطلاق مدنية وآياتها إثنتا عشرة آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) تخصيص النداء به عليه الصلاة والسلام مع عموم الخطاب لأمته أيضا لتشريفه عليه الصلاة والسلام وإظهار جلالة منصبه وتحقيق أنه المخاطب حقيقة ودخولهم فى الخطاب بطريق استتباعه عليه الصلاة والسلام إياهم وتغليبه عليهم لا لأن نداءه كندائهم فإن ذلك الاعتبار لو كان فى حيز الرعاية لكان الخطاب هو الأحق به لشمول حكمه للكل* قطعا والمعنى إذا أردتم تطليقهن وعزمتم عليه كما فى قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أى مستقبلات لها كقولك أتيته لليلة خلت من شهر كذا فإن المرأة إذا طلقت فى طهر يعقبه القرء الأول من إقرائها فقد طلقت مستقبلة لعدتها والمراد أن يطلقن فى طهر لم يقع فيه جماع ثم يخلين حتى* تنقضى عدتها وهذا أحسن الطلاق وأدخله فى السنة (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) واضبطوها وأكملوها ثلاثة* إقراء كوامل (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) فى تطويل العدة عليهن والإضرار بهن وفى وصفه تعالى بربوبيته* لهم تأكيد للأمر ومبالغة فى إيجاب الاتقاء (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) من مساكنهن عند الفراق إلى أن تنقضى عدتهن وإضافتها إليهن وهى لأزواجهن لتأكيد النهى ببيان كمال استحقاقهن لسكناها كأنها* أملاكهن (وَلا يَخْرُجْنَ) ولو بإذن منكم فإن الإذن بالخروج فى حكم الإخراج وقيل المعنى لا يخرجن* باستبداد منهن أما إذا اتفقا على الخروج جاز إذ الحق لا يعدوهما (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) استثناء من الأول قيل هى الزنا فيخرجن لإقامة الحد عليهن وقيل إلا أن يبذون على الأزواج فيحل حينئذ إخراجهن ويؤيده قراءة إلا أن يفحشن عليكم أو من الثانى للمبالغة فى النهى عن الخروج ببيان أن* خروجها فاحشة (تِلْكَ) إشارة إلى ما ذكر من الأحكام وما فى اسم الإشارة من معنى البعد مع قرب* العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو درجتها وبعد منزلتها (حُدُودُ اللهِ) التى عينها لعباده (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) أى حدوده المذكورة بأن أخل بشىء منها على أن الإظهار فى حيز الإضمار لتهويل أمر التعدى* والإشعار بعلة الحكم فى قوله تعالى (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أى أضربها وتفسير الظلم بتعريضها للعقاب يأباه

٢٦٠