تفسير أبي السّعود - ج ٦

تفسير أبي السّعود - ج ٦

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٨

١

٢٠ ـ سورة طه

(مكية وآياتها مائة وخمس وثلاثون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طه) (١)

____________________________________

(سورة طه مكية إلا آيتى ١٣٠ و ١٣١ فمدنيتان وآياتها ١٣٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (طه) فخمهما قالون وابن كثير وابن عامر وحفص ويعقوب على الأصل والطاء وحده أبو عمرو وورش لاستعلائه وأمالهما الباقون وهو من الفواتح التى يصدر بها السور الكريمة وعليه جمهور المتقنين وقيل معناه يا رجل وهو مروى عن ابن عباس رضى الله عنهما والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة والكلبى إلا أنه عند سعيد على اللغة النبطية وعند قتادة على السريانية وعند عكرمة على الحبشية وعنذ الكلبى على لغة عكا وقيل عكل وهى لغة يمانية قالوا إن صح فلعل أصله يا هذا فتصرفوا فيه بقلب الياء طاء وحذف ذا من هذا وما استشهد به من قول الشاعر[إن السفاهة طه فى خلائقكم * لا قدس الله أخلاق الملاعين] ليس بنص فى ذلك لجواز كونه قسما كما فى حم لا ينصرون وقد جوز أن يكون الأصل طاها بصيغة الأمر من الوطء فقلبت الهمزة فى يطأ ألفا لا نفتاح ما قبلها كما فى قول من قال لا هناك المرتع وها ضمير الأرض على أنه خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يطأ الأرض بقدميه لما كان يقوم فى تهجده على إحدى رجليه مبالغة فى المجاهدة ولكن يأباه كتابتهما على صورة الحرف كما تأبى التفسير بيا رجل فإن الكتابة على صور الحرف مع كون التلفظ بخلافه من خصائص حروف المعجم وقرىء طه إما على أن أصله طأفقلبت همزته هاء كما فى أمثال هرقت أو قلبت الهمزة فى يطأ ألفا كما مر ثم بنى منه الأمر وألحق به هاء السكت وإما على أنه اكتفى فى التلفظ بشطرى الاسمين وأقيما مقامهما فى الدلالة على المسميين فكأنهما اسماهما الدالان عليهما وعلى هذا ينبغى أن يحمل قول من قال أو اكتفى بشطرى الكلمتين وعبر عنهما باسمهما وإلا فالشطران لم يذكرا من حيث إنهما مسميان لاسميهما ليقعا معبرا عنهما بل من حيث إنهما جزءان لهما قد اكتفى بذكرهما عن ذكرهما ولذلك وقع التلفظ بأنفسهما لا بأسميهما بأن يراد بضمير التثنية فى الموضعين الشطران من حيث هما مسميان لا من حيث هما جزءان للاسمين ويراد باسمهما الشطران من حيث هما قائمان مقام الاسمين فالمعنى اكتفى فى التلفظ بشطرى الكلمتين أى الاسمين فعبر عنهما أى عن الشطرين من حيث هما مسميان بهما من حيث هما قائمان مقام الاسمين وأما حمله على معنى أنه اكتفى فى الكتابة بشطرى الكلمتين يعنى طا على تقديرى كونه أمرا وكونه حرف نداءوها على تقديرى كونها كناية عن الأرض وكونها حرف تنبيه وعدل عن ذينك الشطرين فى التلفظ باسمهما فبين البطلان كيف وطاوها على ما ذكر من التقادير ليسا باسمين للحرفين المذكورين بل الأول

٢

(ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٣)

____________________________________

أمر أو حرف نداء والثانى ضمير الأرض أو حرف تنبيه على أن كتابة صورة الحرف والتفلظ بغيره من خواص حروف المعجم كما مر فالحق ما سلف من أنها من الفواتح إما مسرودة على نمط التعديد بأحد الوجهين المذكورين فى مطلع سورة البقرة فلا محل لها من الإعراب وكذا ما بعدها من قوله تعالى (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) فإنه استئناف مسوق لتسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب فإن الشقاء شائع فى ذلك المعنى ومنه أشقى من رائض مهر أى ما أنزلناه عليك لتتعب بالمبالغة فى مكابدة الشدائد فى مقاولة العتاة ومحاورة الطغاة وفرط التأسف على كفرهم به والتحسر على أن يؤمنوا كقوله عزوجل (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) الآية بل للتبليغ والتذكير وقد فعلت فلا عليك إن لم يؤمنوا به بعد ذلك أو لصرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما كان عليه من المبالغة فى المجاهدة فى العبادة كما يروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقوم بالليل حتى ترم قدماه فقال له جبريل عليه‌السلام أبق على نفسك فإن لها عليك حقا أى ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك وحملها على الرياضات الشاقة والشدائد الفادحة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة وقيل إن أبا جهل والنضر ابن الحرث قالا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنك شقى حيث تركت دين آبائك وأن القرآن نزل عليك لتشقى به فرد ذلك بأنا ما أنزلناه عليك لما قالوا والأول هو الأنسب كما يشهد به الاستثناء الآتى هذا وإما اسم للقرآن محله الرفع على أنه مبتدأ وما بعده خبره والقرآن ظاهر أوقع موقع العائد إلى المبتدأ كأنه قيل القرآن ما أنزلناه عليك لتشقى أو النصب على إضمار فعل القسم أو الجر بتقدير حرفه وما بعده جوابه وعلى هذين الوجهين يجوز أن يكون اسما للسورة أيضا بخلاف الوجه الأول فإنه لا يتسنى على ذلك التقدير لكن لا لأن المبتدأ يبقى حينئذ بلا عائد ولا قائم مقامه فإن القرآن صادق على الصورة لا محالة إما بطريق الاتحاد بأن يراد به القدر المشترك بين الكل والبعض أو باعتبار الاندراج إن أريد به الكل بل لأن نفى كون إنزاله للشقاء يستدعى سبق وقوع الشقاء مترتبا على إنزاله قطعا إما بحسب الحقيقة كما لو أريد به معنى التعب أو بحسب زعم الكفرة كما لو أريد به ضد السعادة ولا ريب فى أن ذلك إنما يتصور فى إنزال ما أنزل من قبل وأما إنزال السورة الكريمة فليس مما يمكن ترتب الشقاء السابق عليه حتى يتصدى لنفيه عنه أما باعتبار الاتحاد فظاهر وأما باعتبار الاندراج فلأن مآله أن يقال هذه السورة ما أنزلنا القرآن المشتمل عليها لتشقى ولا يخفى أن جعلها مخبرا عنها مع أنه لا دخل لإنزالها فى الشقاء السابق أصلا مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل وقوله تعالى (إِلَّا تَذْكِرَةً) نصب على أنه مفعول له لأنزلنا لكن لا من حيث إنه معلل بالشقاء على معنى ٣ ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بتبليغه إلا تذكرة الآية كقولك ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقا لما أنه يجب فى أمثاله أن يكون بين العلتين ملابسة بالسببية والمسببية حتما كما فى المثال المذكور وفى قولك ما شافهتك بالسوء لتتأذى إلا زجرا لغيرك فإن التأديب فى الأول مسبب عن الإشفاق والتأذى فى الثانى سبب لزجر

٣

(تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥)

____________________________________

الغير وقد عرفت ما بين الشقاء والتذكرة من التنافى ولا يجدى أن يراد به التعب فى الجملة المجامع للتذكرة لظهور أن لا ملابسة بينهما بما ذكر من السببية والمسببية وإنما يتصور ذلك أن لو قيل مكان إلا تذكرة إلا تكثيرا لثوابك فإن الأجر بقدر التعب ولا من حيث إنه بدل من محل لتشقى كما فى قوله تعالى (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ) لوجوب المجانسة بين البدلين وقد عرفت حالهما بل من حيث إنه معطوف عليه بحسب المعنى بعد نفيه بطريق الاستدارك المستفاد من الاستثناء المنقطع كأنه قيل ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب فى تبليغه* ولكن تذكرة (لِمَنْ يَخْشى) وقد جرد التذكرة عن اللام لكونها فعلا لفاعل الفعل المعلل أى لمن من شأنه أن يخشى الله عز وعلا ويتأثر بالإنذار لرقة قلبه ولين عريكته أو لمن علم الله تعالى أنه يخشى بالتخويف ٤ وتخصيصها بهم مع عموم التذكرة والتبليغ لأنهم المنتفعون بها وقوله تعالى (تَنْزِيلاً) مصدر مؤكد لمضمر مستأنف مقرر لما قبله أى نزل تنزيلا أو لما تفيده الجملة الاستثنائية فإنها متضمنة لأن يقال أنزلناه للتذكرة والأول هو الأنسب بما بعده من الالتفات أو منصوب على المدح والاختصاص وقيل هو منصوب بيخشى على المفعولية أى يخشى تنزيلا من الله تعالى وأنت خبير بأن تعليق الخشية والخوف ونظائرهما بمطلق التنزيل غير معهود نعم قد يعلق ذلك ببعض أجزائه المشتملة على الوعيد ونظائره كما فى قوله تعالى (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) وقيل هو بدل من تذكرة لكن لا على أنه مفعول له لأنزلنا إذ لا يعلل الشىء بنفسه ولا بنوعه بل على أنه مصدر بمعنى الفاعل واقع موقع الحال من الكاف فى عليك أو من القرآن ولا مساغ له إلا بأن يكون قيدا لأنزلنا بعد تقييده بالقيد الأول وقد عرفت حاله فيما سلف وقرىء تنزيل* على أنه خبر لمبتدأ محذوف ومن فى قوله تعالى (مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) متعلقة بتنزيلا أو بمضمر هو صفة له مؤكدة لما فى تنكيره من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ونسبة التنزيل إلى الموصول بطريق الالتفات إلى الغيبة بعد نسبته إلى نون العظمة لبيان فخامته تعالى بحسب الأفعال والصفات إثر بيانها بحسب الذات بطريق الإبهام ثم التفسير لزيادة تحقيق وتقرير وتخصيص خلقهما بالذكر مع أن المراد خلقهما بجميع ما يتعلق بهما كما يفصح عنه قوله تعالى (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الآية لإصالتهما واستتباعهما لما عداهما وتقديم الأرض لكونه أقرب إلى الحس وأظهر عنده ووصف السموات بالعلا وهو جمع العليا تأنيث الأعلى لتأكيد الفخامة مع ما فيه من مراعاة الفواصل وكل ذلك إلى قوله تعالى (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) مسوق لتعظيم شأن المنزل عزوجل المستتبع لتعظيم شأن المنزل الداعى إلى تربية المهابة وإدخال الروعة المؤدية إلى استنزال المتمردين عن رتبة العتو والطغيان واستمالهم نحو الخشية المفضية إلى التذكرة والإيمان (الرَّحْمنُ) رفع على المدح أى هو الرحمن وقد عرفت فى صدر سورة البقرة أن المرفوع مدحا فى حكم الصفة الجارية على ما قبله وإن لم يكن تابعا له فى الاعراب ولذلك التزموا حذف المبتدأ ليكون فى صورة متعلق من

٤

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٨)

____________________________________

متعلقاته وقد قرىء بالجر على أنه صفة صريحة للموصول وما قيل من أن الأسماء الناقصة لا يوصف منها إلا الذى وحده مذهب الكوفيين وأياما كان فوصفه بالرحمانية إثر وصفه بخالقية السموات والأرض للإشعار بأن خلقهما من آثار رحمته تعالى كما أن قوله تعالى (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) للإيذان بأن ربوبيته تعالى بطريق الرحمة وفيه إشارة إلى أن تنزيل القرآن أيضا من أحكام رحمته تعالى كما ينبىء عنه قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أو رفع على الابتداء واللام للعهد والإشارة إلى الموصول والخبر قوله تعالى (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وجعل الرحمة عنوان الموضوع الذى شأنه أن يكون معلوم الثبوت للموضوع عند* المخاطب للإيذان بأن ذلك أمر بين لا سترة به غنى عن الإخبار به صريحا وعلى متعلقة باستوى قدمت عليه لمراعاة الفواصل والجار والمجرور على الأول خبر مبتدأ محذوف كما فى قراءة الجر وقد جوز أن يكون خبرا بعد خبر والاستواء على العرش مجاز عن الملك والسلطان متفرع على الكناية فيمن يجوز عليه القعود على السرير يقال استوى فلان على سرير الملك يراد به ملك وإن لم يقعد على السرير أصلا والمراد بيان تعلق إرادته الشريفة بإيجاد الكائنات وتدبير أمرها وقوله تعالى (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلول فيهما (وَما بَيْنَهُما) من الموجودات الكائنة فى الجو دائما كالهواء والسحاب أو أكثريا كالطير أى له وحده دون غيره لا شركة ولا استقلالا كل ما ذكر ملكا وتصرفا وإحياء وإمانة وإيجادا وإعداما (وَما تَحْتَ الثَّرى) أى ماوراء الترب وذكره مع دخوله تحت ما فى الأرض لزبادة التقرير روى عن محمد بن كعب أنه ما تحت الأرضين السبع وعن السدى أن الثرى هو الصخرة التى عليها الأرض السابعة (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) بيان لإحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء إثر بيان سعة سلطنته وشمول قدرته لجميع الكائنات أى وإن تجهر بذكره تعالى ودعائه فاعلم أنه تعالى غنى عن جهرك (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) أى ما أسررته إلى غيرك وشيئا أخفى من ذلك وهو ما أخطرته ببالك من غير أن* تتفوه به أصلا أو ما أسررته لنفسك وأخفى منه وهو ما ستسره فيما سيأتى وتنكيره للمبالغة فى الخفاء وهذا إما نهى عن الجهر كقوله تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) وإما إرشاد للعباد إلى أن الجهر ليس لإسماعه سبحانه بل لغرض آخر من تصوير النفس بالذكر وتثبيته فيها ومنعها من الاشتغال بغيره وقطع الوسوسة عنها وهضمها بالتضرع والجؤار وقوله تعالى (اللهُ) خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف مسوق لبيان أن ما ذكر من صفات الكمال موصوفها ذلك المعبود بالحق أى ذلك المنعوت بما ذكر من النعوت الجليلة الله عزوجل وقوله تعالى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تحقيق للحق وتصريح بما* تضمنه ما قبله من اختصاص الألوهية به سبحانه فإن ما أسند إليه تعالى من خلق جميع الموجودات

٥

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) (١٠)

____________________________________

والرحمانية والمالكية للكل والعلم الشامل مما يقتضيه اقتضاء بينا وقوله تعالى (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) بيان لكون ما ذكر من الخالقية والرحمانية والمالكية والعالمية أسماءه وصفاته من غير تعدد فى ذاته تعالى فإنه روى أن المشركين حين سمعوا النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول يا ألله يا رحمن قالوا ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر والحسنى تأنيث الأحسن يوصف به الواحدة المؤنثة والجمع من المذكر والمؤنث كمآرب أخرى وآياتنا الكبرى (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) استئناف مسوق لتقرير أمر التوحيد الذى إليه ينتهى مساق الحديث وبيان أنه أمر مستمر فيما بين الأنبياء كابرا عن كابر وقد خوطب به موسى عليه الصلاة والسلام حيث قيل له إنى أنا الله لا إله إلا أنا وبه ختم عليه الصلاة والسلام مقاله حيث قال إنما إلهكم الله الذى لا إله إلا هو وأما ما قيل من أن ذلك لترغيب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الائتساء بموسى عليه الصلاة والسلام فى تحمل أعباء النبوة والصبر على مقاساة الخطوب فى تبليغ أحكام الرسالة فيأباه أن مساق النظم الكريم لصرفه عليه الصلاة والسلام عن اقتحام المشاق وقوله تعالى (إِذْ رَأى ناراً) ظرف للحديث وقيل لمضمر مؤخر أى حين رأى نارا كان كيت وكيت وقيل مفعول لمضمر مقدم أى اذكر وقت رؤيته نارا روى أنه عليه الصلاة والسلام استأذن شعيبا عليهما الصلاة والسلام فى الخروج إلى أمه وأخيه فخرج بأهله وأخذ على غير الطريق مخافة من ملوك الشأم فلما وافى وادى طوى وهو بالجانب الغربى من الطور ولد له ولد فى ليلة مظلمة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصلد زنده فبينما هو فى ذلك إذ رأى نارا على يسار* الطريق من جانب الطور (فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) أى أقيموا مكانكم أمرهم عليه الصلاة والسلام بذلك لئلا يتبعوه فيما عزم عليه عليه الصلاة والسلام من الذهاب إلى النار كما هو المعتاد لا لئلا ينتقلوا إلى موضع آخر فإنه مما لا يخطر بالبال والخطاب للمرأة والولد والخادم وقيل لها وحدها والجمع إما لظاهر لفظ الأهل أو* للتفخيم كما فى قول من قال [وإن شئت حرمت النساء سواكم](إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أى أبصرتها إبصارا بينا لا شبهة فيه وقيل الإيناس خاص بإبصار ما يؤنس به والجملة تعليل للأمر أو المأمور به (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها) أى أجيئكم من النار (بِقَبَسٍ) أى بشعلة مقتبسة من معظم النار وهى المرادة بالجذوة فى سورة* القصص وبالشهاب القبس (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) هاديا يدلنى على الطريق على أنه مصدر سمى به الفاعل مبالغة أو حذف منه المضاف أى ذا هداية أو على أنه إذا وجد الهادى فقد وجد الهدى وقيل هاديا يهدينى إلى أبواب الدين فإن أفكار الأبرار مغمورة بالهمة الدينية فى عامة أحوالهم لا يشغلهم عنها شاغل والأول هو الأظهر لأن مساق النظم الكريم لتسلية أهله وقد نص عليه فى سورة القصص حيث قيل (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ) الآية وكلمة أو فى الموضعين لمنع الخلو دون منع الجمع ومعنى الاستعلاء فى قوله

٦

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) (١٢)

____________________________________

تعالى على النار أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها أو لأنهم عند الاصطلاء يكتنفونها قياما وقعودا فيشرفون عليها ولما كان الإتيان بهما مترقبا غير محقق الوقوع صدر الجملة بكلمة الترجى وهى إما علة لفعل قد حذف ثقة بما يدل عليه من الأمر بالمكث والإخبار بإيناس النار وتفاديا عن التصريح بما يوحشهم وإما حال من فاعله أى فأذهب إليها لآتيكم أوكى آتيكم أو راجيا أن آتيكم منها بقبس الآية وقد مر تحقيق ذلك مفصلا فى تفسير قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (فَلَمَّا أَتاها) أى النار التى آنسها قال ابن عباس رضى الله عنهما رأى شجرة خضراء أطافت بها من أسفلها إلى أعلاها نار بيضاء تتقد كأضوأ ما يكون فوقف متعجبا من شدة ضوئها وشدة خضرة الشجرة فلا النار تغير خضرتها ولا كثرة ماء الشجرة تغير ضوءها. قالوا النار أربعة أصناف صنف يأكل ولا يشرب وهى نار الدنيا وصنف يشرب ولا يأكل وهى نار الشجر الأخضر وصنف يأكل ويشرب وهى نار جهنم وصنف لا يأكل ولا يشرب وهى نار موسى عليه الصلاة والسلام وقالوا أيضا هى أربعة أنواع نوع له نور وإحراق وهى نار الدنيا ونوع لا نور له ولا إحراق وهى نار الأشجار ونوع له نور بلا إحراق وهى نار موسى عليه الصلاة والسلام ونوع له إحراق بلا نور وهى نار جهنم روى أن الشجرة كانت عوسجة وقيل كانت سمرة (نُودِيَ يا مُوسى) أى نودى فقيل يا موسى (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) أو عومل النداء معاملة القول لكونه ضربا منه وقرىء بالفتح أى بأنى وتكرير الضمير لتأكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة روى أنه لما نودى يا موسى قال عليه الصلاة والسلام من المتكلم فقال الله عزوجل أنا ربك فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان فقال أنا عرفت أنه كلام الله تعالى بأنى أسمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء قلت وذلك لأن سماع ما ليس من شأنه ذلك من الأعضاء ليس إلا من آثار قدرة الخلاق العليم تعالى وتقدس وقيل تلقى عليه الصلاة والسلام كلام رب العزة تلقيا روحانيا ثم تمثل ذلك الكلام لبدنه وانتقل إلى الحس المشترك فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أمر عليه الصلاة والسلام* بذلك لأن الحفوة أدخل فى التواضع وحسن الأدب ولذلك كان السلف الصالحون يطوفون بالكعبة حافين وقيل ليباشر الوادى بقدميه تبركا به وقيل لما أن نعليه كانا من جلد حمار غير مدبوغ وقيل معناه فرغ قلبك من الأهل والمال والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها فإن ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من موجبات الأمر ودواعيه وقوله تعالى (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) تعليل لوجوب الخلع المأمور به وبيان* لسبب ورود الأمر بذلك من شرف البقعة وقدسها روى أنه عليه الصلاة والسلام خلعهما وألقاهما وراء الوادى (طُوىً) بضم الطاء غير منون وقرىء منونا وقرىء بالكسر منونا وغير منون فمن نونه أوله* بالمكان دون البقعة وقيل هو كثنى من الطى مصدر لنودى أو المقدس أى نودى نداءين أو قدس مرة

٧

(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي(١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (١٥)

____________________________________

بعد أخرى (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) أى اصطفيتك للنبوة والرسالة وقرىء وإنا اخترناك بالفتح والكسر والفاء فى قوله (فَاسْتَمِعْ) لترتيب الأمر أو المأمور به على ما قبلها فإن اختياره عليه‌السلام لما ذكر مر موجبات الاستماع والأمر به واللام فى قوله تعالى (لِما يُوحى) متعلقة باستمع وما موصولة أو مصدرية أى فاستمع للذى يوحى إليك أو للوحى لا باخترتك كما قيل لكن لا لما قيل من أنه من باب التنازع وإعمال الأول فلا بد حينئذ من إعادة الضمير مع الثانى بل لأن قوله تعالى (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) بدل من ما يوحى ولا ريب فى أن اختياره عليه الصلاة والسلام ليس لهذا الوحى فقط والفاء فى قوله تعالى* (فَاعْبُدْنِي) لترتيب المأمور به على ما قبلها فإن اختصاص الألوهية به سبحانه وتعالى من موجبات تخصيص العبادة به عزوجل (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) خصت الصلاة بالذكر وأفردت بالأمر مع اندراجها فى الأمر بالعبادة لفضلها وإباقها على سائر العبادات بما نيطت به من ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره وذلك قوله تعالى* (لِذِكْرِي) أى لتذكرنى فإن ذكرى كما ينبغى لا يتحقق إلا فى ضمن العبادة والصلاة أو لتذكرنى فيها لاشتمالها على الأذكار أو لذكرى خاصة لا تشوبه بذكر غيرى أو لإخلاص ذكرى وابتغاء وجهى لا ترائى بها ولا تقصد بها غرضا آخر أو لتكون ذاكرا لى غير ناس وقيل لذكرى إياها وأمرى بها فى الكتب أو لأن أذكرك بالمدح والثناء وقيل لأوقات ذكرى وهى مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتى لما روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لأن الله تعالى يقول وأقم الصلاة لذكرى وقرىء لذكرى بألف التأنيث وللذكرى معرفا وللذكر بالتعريف والتنكير وقوله تعالى (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) تعليل لوجوب العبادة وإقامة الصلاة أى كائنة لا محالة وإنما عبر عن ذلك بالإتيان تحقيقا لحصولها بإبرازها* فى معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين (أَكادُ أُخْفِيها) أى لا أظهرها بأن أقول إنها آتية ولو لا أن ما فى الإخبار بذلك من اللطف وقطع الأعذار لما فعلت أو أكاد أظهرها بإيقاعها من أخفاه إذا أظهره بسلب خفائه ويؤيده القراءة بفتح الهمزة من خفاه بمعنى أظهره وقيل أخفاه من الأضداد يجىء بمعنى الإظهار* والستر وقوله تعالى (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) متعلق بآتية وما بينهما اعتراض أو بأخفيها على المعنى الأخير وما مصدرية أى لتجزى كل نفس بسعيها فى تحصيل ما ذكر من الأمور المأمور بها وتخصيصه فى معرض الغاية لإتيانها مع أنه الجزاء كل نفس بما صدر عنها سواء كان سعيا فيما ذكرا وتقاعدا عنه بالمرة أو سعيا فى تحصيل ما يضاده للإيذان بأن المراد بالذات من إتيانها هو الإثابة بالعبادة وأما العقاب بتركها فمن مقتضيات سوء اختيار العصاة وبأن المأمور به فى قوة الوجوب والساعة فى شدة الهول والفظاعة بحيث يوجبان على كل نفس أن تسعى فى الامتثال بالأمر وتجد فى تحصيل ما ينجيها من الطاعات وحينئذ تحترز عن

٨

(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) (١٧)

____________________________________

اقتراف ما يرديها من المعاصى وعليه مدار الأمر فى قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فإن الابتلاء مع شموله لكافة المكلفين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط قد علق بالأخيرين لما ذكر من أن المقصود الأصلى من إبداع تلك البدائع على ذلك النمط الرائع إنما هو ظهور كمال إحسان المحسنين وإن ذلك لكونه على أتم الوجوه الرائقة وأكمل الأنحاء اللائقة يوجب العمل بموجبه بحيث لا يحيد أحد عن سننه المستبين بل يهتدى كل فرد إلى ما يرشد إليه من مطلق الإيمان والطاعة وإنما التفاوت بينهم فى مراتبهما بحسب القوة والضعف وأما الإعراض عن ذلك والوقوع فى مهاوى الضلال فبمعزل من الوقوع فضلا عن أن ينتظم فى سلك الغاية لذلك الصنع البديع وإنما هو عمل يصدر عن عامله بسوء اختياره من غير مصحح له أو مسوغ هذا ويجوز أن يراد بالسعى مطلق العمل (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها) أى عن ذكر الساعة ومراقبتها وقيل عن تصديقها والأول هو الأليق بشأن موسى عليه الصلاة والسلام وإن كان النهى بطريق التهييج والإلهاب وتقديم الجار والمجرور على قوله تعالى (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى* المؤخر فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مستشرفة له فيتمكن عند وروده لها فضل تمكن ولأن فى المؤخر نوع طول ربما يخل تقديمه بجزالة النظم الكريم وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكافر عن صد موسى عليه الصلاة والسلام عن الساعة لكنه فى الحقيقة نهى له عليه الصلاة والسلام عن الانصداد عنها على أبلغ وجه وآكده فإن النهى عن أسباب الشىء ومباديه المؤدية إليه نهى عنه بالطريق البرهانى وإبطال للسببية من أصلها كما فى قوله تعالى (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) الخ فإن صد الكافر حيث كان سببا لانصداده عليه الصلاة والسلام كان النهى عنه نهيا بأصله وموجبه وإبطالا له بالكلية ويجوز أن يكون من باب النهى عن المسبب وإرادة النهى عن السبب على أن يراد نهيه عليه الصلاة والسلام عن إظهار لين الجانب للكفرة فإن ذلك سبب لصدهم إياه عليه الصلاة والسلام كما فى قوله لا أرينك ههنا فإن المراد به نهى المخاطب عن الحضور لديه الموجب لرؤيته (وَاتَّبَعَ هَواهُ) أى ما تهواه نفسه من اللذات الحسية الفانية (فَتَرْدى) أى فتهلك فإن* الإغفال عنها وعن تحصيل ما ينجى عن أهوالها مستتبع للهلاك لا محالة وهو فى محل النصب على جواب النهى أو فى محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أى فأنت تردى (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) شروع فى حكاية ما كلف به عليه الصلاة والسلام من الأمور المتعلقة بالخلق إثر حكاية ما أمر به من الشؤون الخاصة بنفسه فما استفهامية فى حين الرفع بالابتداء وتلك خبره أو بالعكس وهو أدخل بحسب المعنى وأوفق بالجواب وبيمينك متعلق بمضمر وقع حالا أى وما تلك قارة أو مأخوذة بيمينك والعامل معنى الإشارة كما فى قوله عز وعلا (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) وقيل تلك موصولة أى ما التى هى بيمينك وأيا ما كان فالاستفهام

٩

(قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) (٢١)

____________________________________

إيقاظ وتنبيه له عليه الصلاة والسلام على ما سيبد وله من التعاجيب وتكرير النداء لزيادة التأنيس والتنبيه (قالَ هِيَ عَصايَ) نسبها إلى نفسه تحقيقا لوجه كونها بيمينه وتمهيدا لما يعقبه من الأفاعيل المنسوبة إليه عليه الصلاة والسلام وقرىء عصى على لغة هذيل (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أى أعتمد عليها عند الإعياء أو الوقوف على رأس القطيع (وَأَهُشُّ بِها) أى أخيط بها الورق وأسقطه (عَلى غَنَمِي) وقرىء أهش بكسر الهاء وكلاهما من هش الخبز يهش إذا انكسر لهشاشته وقرىء بالسين غير المعجمة وهو زجر الغنم وتعديته بعلى لتضمين معنى الإنحاء والإقبال أى أزجرها منحيا ومقبلا عليها (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) أى حاجات أخر من هذا الباب مثل ما روى أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا سار ألقاها على عاتقة فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب ونحوها وإذا كان فى البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل به وإذا قصر الرشاء وصله بها وإذا تعرضت لغنمه السباع قاتل بها وقيل ومن جملة المآرب أنها كانت ذات شبعتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا أراد كسره لواه بالشعبتين وكأنه عليه الصلاة والسلام فهم أن المقصود من السؤال بيان حقيقتها وتفصيل منافعها بطريق الاستقصاء حتى إذا ظهرت على خلاف تلك الحقيقة وبدت منها خواص بديعة علم أنها آيات باهرة ومعجزات قاهرة أحدثها الله تعالى وليست من الخواص المترتبة عليها فذكر حقيقتها ومنافعها على التفصيل والإجمال على معنى أنها من جنس العصى مستتبعة لمنافع بنات جنسها ليطابق جوابه الغرض الذى فهمه من سؤال العليم الخبير (قالَ) استئناف مبنى على سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قيل فماذا قال عزوجل فقيل قال (أَلْقِها يا مُوسى) لترى من شأنها ما لم يخطر ببالك من الأمور وتكرير النداء لتأكيد التنبيه (فَأَلْقاها) على الأرض (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) روى أنه عليه الصلاة والسلام حين ألقاها انقلبت حية صفراء فى غلظ العصا ثم انتفخت وعظمت فلذلك شبهت بالجان تارة وسميت ثعبانا أخرى وعبر عنها ههنا بالاسم العام للحالين وقيل قد انقلبت من أول الأمر ثعبانا وهو الأليق بالمقام كما يفصح عنه قوله عزوجل (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) وإنما شبهت بالجان فى الجلادة وسرعة الحركة لا فى صغر الجثة وقوله تعالى (تَسْعى) إما صفة لحية أو خبر ثان عند من يجوز كونه جملة (قالَ) استئناف كما سبق (خُذْها وَلا تَخَفْ) عن ابن عباس رضى الله عنهما انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع كل شىء من الصخر والشجر فلما رآه كذلك خاف ونفر وملكه ما يملك البشر عند مشاهدة الأهوال والمخاوف من الفزع والنفار وفى عطف النهى على الأمر إشعار بأن عدم المنهى عنه

١٠

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) (٢٤)

____________________________________

مقصود لذاته لا لتحقيق المأمور به فقط وقوله تعالى (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) مع كونه استئنافا مسوق* لتعليل الامتثال بالأمر والنهى فإن إعادتها إلى ما كانت عليه من موجبات أخذها وعدم الخوف منها عدة كريمة بإظهار معجزة أخرى على يده عليه الصلاة والسلام وإيذان بكونها مسخرة له عليه الصلاة والسلام ليكون على طمأنينة من أمره ولا يعتريه شائبة تزلزل عند محاجة فرعون أى سنعيدها بعد الأخذ إلى حالتها الأولى التى هى الهيئة العصوية قيل بلغ عليه الصلاة والسلام عند ذلك من الثقة وعدم الخوف إلى حيث كان يدخل يده فى فمها ويأخذ بلحييها والسيرة فعلة من السير تجوز بها للطريقة والهيئة وانتصابها على نزع الجار أى إلى سيرتها أو على أن أعاد منقول من عاده بمعنى عاد إليه أو على الظرفية أى سنعيدها فى طريقتها أو على تقدير فعلها وإيقاعها حالا من المفعول أى سنعيدها عصا كما كانت من قبل تسير سيرتها الأولى أى سائرة سيرتها الأولى فتنتفع بها كما كنت تنتفع من قبل (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) أمر عليه الصلاة والسلام بذلك بعد ما أخذ الحية وانقلبت عصا كما كانت أى أدخلها تحت عضدك فإن جناحى الإنسان جنباه كما أن جناحى العسكر ناحيتاه مستعار من جناحى الطائر وقد سميا جناحين لأنه يجنحهما أى يميلهما عند الطيران وقوله تعالى (تَخْرُجْ) جواب الأمر وقوله تعالى (بَيْضاءَ) حال من الضمير فيه وقوله تعالى (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) متعلق بمحذوف هو حال من الضمير فى بيضاء أى كائنة من غير عيب وقبح كنى به عن البرص كما كنى بالسوءة عن العورة لما أن الطباع تعافه وتنفر عنه روى أنه عليه الصلاة والسلام كان آدم فأخرج يده من مدرعته بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس تغشى البصر (آيَةً أُخْرى) أى معجزة أخرى غير العصا وانتصابها* على الحالية إما من الضمير فى تخرج على أنها بدل من الحال الأولى وإما من الضمير فى بيضاء وقيل من الضمير فى الجار والمجرور وقيل هى منصوبة بفعل مضمر نحو خذ أودونك وقوله تعالى (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) متعلق بمضمر ينساق إليه النظم الكريم كأنه قيل فعلنا ما فعلنا من الأمر والإظهار لنريك بذلك بعض آياتنا الكبرى على أن الكبرى صفة لآياتنا أو نريك بذلك من آياتنا ماهى كبرى على أن الكبرى مفعول ثان لنريك ومن آياتنا متعلق بمحذوف هو حال من ذلك المفعول وأياما كان فالآية الكبرى عبارة عن العصا واليد جميعا وإما تعلقه بما دل عليه آية أى دللنا بها لنريك الخ أو بقوله تعالى (وَاضْمُمْ) أو بقوله (تَخْرُجْ) أو بما قدر من نحو خذ ودونك كما قال بكل من ذلك قائل فيؤدى إلى عراء آية العصا عن وصف الكبر فتدبر (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) تخلص إلى ما هو المقصود من تمهيد المقدمات السالفة فصل عما قبله من الأوامر إيذانا بأصالته أى اذهب إليه بما رأيته من الآيات الكبرى وادعه إلى عبادتى وحذره نقمتى وقوله تعالى (إِنَّهُ طَغى) تعليل للأمر أو لوجوب المأمور به أى جاوز الحد فى التكبر والعتو والتجبر حتى تجاسر على

١١

(قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي) (٢٨)

____________________________________

العظيمة التى هى دعوى الربوبية (قالَ) استئناف مبنى على سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قبل فماذا قال عليه الصلاة والسلام حين أمر بهذا الأمر الخطير والخطب العسير فقيل قال مستعينا بربه عزوجل (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) لما أمر بما أمر به من الخطب الجليل تضرع إلى ربه عزوجل وأظهر عجزه بقوله ويضيق صدرى ولا ينطلق لسانى وسأله تعالى أن يوسع صدره ويفسح قلبه ويجعله عليما بشؤون الحق وأحوال الخلق حليما حمولا يستقبل ما عسى يرد عليه من الشدائد والمكاره بجميل الصبر وحسن الثبات ويتلقاها بصدر فسيح وجأش رابط وأن يسها عليه مع ذلك أمره الذى هو أجل الأمور وأعظمها وأصعب الخطوب وأهولها بتوفيق الأسباب ورفع الموانع وفى زيادة كلمة لى مع انتظام الكلام بدونها تأكيد لطلب الشرح والتيسير بإبهام المشروح والميسر أولا وتفسيرهما ثانيا وفى تقديمها وتكريرها إظهار مزيد اعتناء بشأن كل من المطلوبين وفضل اهتمام باستدعاء حصولهما له واختصاصهما به (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) روى أنه كان فى لسانه عليه الصلاة والسلام رتة من جمرة أدخلها فاه فى صغره وذلك أن فرعون حمله ذات يوم فأخذ لحيته ينتفها لما كان فيها من الجواهر فغضب وأمر بقتله فقالت آسية إنه صبى لا يفرق بين الجمر والياقوت فأحضرا بين يديه فأخذ الجمرة فوضعها فى فيه قيل واحترقت يده فاجتهد فرعون فى علاجها فلم تبرأ ثم لما دعاه قال إلى أى رب تدعونى قال إلى الذى أبرأ يدى وقد عجزت عنه واختلف فى زوال العقدة بكمالها فمن قال به تمسك بقوله تعالى (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ) ومن لم يقل به احتج بقوله تعالى (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي) وقوله تعالى (وَلا يَكادُ يُبِينُ) وأجاب عن الأول بأنه لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية بل حل عقدة تمنع الإفهام ولذلك نكرها ووصفها بقوله من لسانى أى عقدة كائنة من عقد لسانى وجعل قوله تعالى (يَفْقَهُوا قَوْلِي) جواب الأمر وغرضا من الدعاء فبحلها فى الجملة بتحقق إيتاء سؤله عليه الصلاة والسلام والحق أن ما ذكر لا يدل على بقائها فى الجملة أما قوله تعالى (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي) فلأنه عليه الصلاة والسلام قاله استدعاء الحل كما ستعرفه على أن أفصحيته منه عليهما للصلاة والسلام لا تستدعى بقاءها أصلا بل تستدعى عدم البقاء لما أن الأفصيحة توجب ثبوت أصل الفصاحة فى المفضول أيضا وذلك مناف للعقدة رأسا وأما قوله تعالى (وَلا يَكادُ يُبِينُ) فمن باب غلو اللعين فى العتو والطغيان وإلالدل على عدم زوالها أصلا وتنكيرها إنما يفيد قلتها فى نفسها لا قلتها باعتبار كونها بعضا من الكثير وتعلق كلمة من فى قوله تعالى (مِنْ لِسانِي) بمحذوف هو صفة لها ليس بمقطوع به بل الظاهر تعلقها بنفس الفعل فإن المحلول إذا كان

١٢

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) (٣٤)

____________________________________

متعلقا بشىء ومتصلا به فكما يتعلق الحل به يتعلق بذلك الشىء أيضا باعتبار إزالته عنه أو ابتداء حصوله منه (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) (هارُونَ أَخِي) أى موازرا يعاوننى فى تحمل أعباء ما كلفته على أن اشتقاقه من الوزر الذى هو الثقل أو ملجأ أعتصم برأيه على أنه من الوزر وهو الملجأ وقيل أصله أزير من الأزر بمعنى القوة فعيل بمعنى فاعل كالعشير والجليس قلبت همزته واوا كقلبها فى موازر ونصبه على أنه مفعول ثان لا جعل قدم على الأول الذى هو قوله تعالى (هارُونَ) اعتناء بشأن الوزارة ولى صلة للجعل أو متعلق بمحذوف هو حال من (وَزِيراً) إذ هو صفة له فى الأصل و (مِنْ أَهْلِي) إما صفة لوزيرا أو صلة لا جعل وقيل مفعولاه (لِي وَزِيراً) و (هارُونَ) عطف بيان للوزير و (مِنْ أَهْلِي) كما مر من الوجهين وأخى فى الوجهين بدل من هرون أو عطف بيان آخر وقيل هما وزيرا من أهلى ولى تبيين كما فى قوله تعالى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ورد بأن شرط المفعولين فى باب النواسخ صحة انعقاد الجملة الاسمية ولا مساغ لجعل وزيرا مبتدأ ويخبر عنه بما بعده (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) كلاهما على صيغة الدعاء أى أحكم به قوتى واجعله شريكى فى أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها كما ينبغى وفصل الأول عن الدعاء السابق لكمال الاتصال بينهما فإن شد الأزر عبارة عن جعله وزيرا وأما الإشراك فى الأمر فحيث كان من أحكام الوزارة توسط بينهما العاطف (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً) (وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) غاية للأدعية الثلاثة الأخيرة فإن فعل فيها كل واحد منهما من التسبيح والذكر مع كونه مكثرا لفعل الآخر ومضاعفا له بسبب انضمامه إليه مكثر له فى نفسه أيضا بسبب تقويته وتأييده إذ ليس المراد بالتسبيح والذكر ما يكون منهما بالقلب أو فى الخلوات حتى لا يتفاوت حاله عند التعدد والانفراد بل ما يكون منهما فى تضاعيف أداء الرسالة ودعوة المردة العتاة إلى الحق وذلك مما لا ريب فى اختلاف حاله فى حالتى التعدد والانفراد فإن كلا منهما يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحق مالا يكاد يصدر عنه مثله فى حال الانفراد وكثيرا فى الموضعين نعت لمصدر محذوف أو زمان محذوف أى ننزهك عما لا يليق بك من الصفات والأفعال التى من جملتها ما يدعيه فرعون الطاغية ويقبله منه فئته الباغية من ادعاء الشركة فى الألوهية ونصفك بما يليق بك من صفات الكمال ونعوت الجمال والجلال تنزيها

١٣

(إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) (٣٨)

____________________________________

كثيرا أو زمانا كثيرا من جملته زمان دعوة فرعون وأوان المحاجة معه وأما ما قيل من أن المعنى كى نصلى لك كثيرا ونحمدك ونثنى عليك فلا يساعده المقام (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) أى عالما بأحوالنا وبأن ما دعوتك به مما يصلحنا ويفيدنا فى تحقيق ما كلفته من إقامة مراسم الرسالة وبأن هرون نعم الردء فى أداء ما أمرت به والباء متعلقة ببصيرا قدمت عليه لمراعاة الفواصل (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ) أى أعطيت سؤلك فعل بمعنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول والإيتاء عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوقوع تلك المطالب وحصولها له عليه‌السلام البتة وتقديره إياها حتما فكلها حاصلة له عليه‌السلام وإن كان وقوع بعضها بالفعل مترقبا بعد كتيسير الأمر وشد الأزر وباعتباره قيل سنشد عضدك بأخيك وقوله تعالى (يا مُوسى) تشريف له عليه‌السلام بشرف الخطاب إثر تشريفه بشرف قبول الدعاء وقوله تعالى (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله وزيادة توطين نفس موسى عليه‌السلام بالقبول ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء منه وطلب فلان ينعم عليه بمثلها وهو طالب* له وداع أولى وأحرى وتصديره بالقسم لكمال الاعتناء بذلك أى وبالله لقد أنعمنا (مَرَّةً أُخْرى) أى فى وقت غير هذا الوقت لا أن ذلك مؤخر عن هذا فإن أخرى تأنيث آخر بمعنى غير والمرة فى الأصل اسم للمرور الواحد ثم أطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات متعدية كانت أو لازمة ثم شاع فى كل فرد واحد من أفراد ماله أفراد متجددة متعددة فصار علما فى ذلك حتى جعل معيارا لما فى معناه من سائر الأشياء فقيل هذا بناء المرة ويقرب منها الكرة والتارة والدفعة والمراد بها ههنا الوقت الممتد الذى وقع فيه ما سيأتى ذكره من المنن العظيمة الكثيرة وقوله تعالى (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) ظرف لمننا والمراد بالإيحاء إما الإيحا على لسان نبى فى وقتها كقوله تعالى (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) الآية وإما الإيحاء بواسطة الملك لا على وجه النبوة كما أوحى إلى مريم وإما الإلهام كما فى قوله تعالى (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) وإما الإراءة فى المنام والمراد بما يوحى ما سيأتى من الأمر بقذفه فى التابوت وقذفه فى البحر أبهم أولا تهويلا له وتفخيما لشأنه ثم فسر ليكون أقر عند النفس وقيل معناه ما ينبغى أن يوحى ولا يخل به لعظم شأنه وفرط الاهتمام به وقيل ما لا يعلم إلا بالوحى وفيه إنه لا يلائم المعنيين الأخيرين للوحى إذ لا تفخيم لشأنه فى أن يكون مما لا يعلم إلا بالإلهام أو بالإراءة فى المنام.

١٤

(أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) (٤٠)

____________________________________

وأن فى قوله تعالى (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) مفسرة لأن الوحى من باب القول أو مصدرية حذف منها الباء أى بأن اقذفيه ومعنى القذف ههنا الوضع وأما فى قوله تعالى (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ) فالإلقاء وهذا التفصيل* هو المراد بقوله تعالى (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) لا القذف بلا تابوت (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) لما كان إلقاء* البحر إياه بالساحل أمرا واجب الوقوع لتعلق الإرادة الربانية به جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمر بذلك وأخرج الجواب مخرج الأمر والضمائر كلها لموسى عليه‌السلام والمقذوف فى البحر والملقى بالساحل وإن كان هو التابوت أصالة لكن لما كان المقصود بالذات ما فيه جعل التابوت تابعا له فى ذلك (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) جواب للأمر بالإلقاء وتكرير العدو للمبالغة والتصريح بالأمر والإشعار بأن عداوته له مع تحققها لا تؤثر فيه ولا تضره بل تؤدى إلى المحبة فإن الأمر بما هو سبب للهلاك صورة من قذفه فى البحر ووقوعه فى يد عدو الله تعالى وعدوه مشعر بأن هناك لطفا خفيا مندرجا تحت قهر صورى وقيل الأول باعتبار الواقع والثانى باعتبار المتوقع وليس المراد بالساحل نفس الشاطىء بل ما يقابل الوسط وهو ما يلى الساحل من البحر بحيث يجرى ماؤه إلى نهر فرعون لما روى أنها جعلت فى التابوت قطنا ووضعته فيه ثم قيرته وألقته فى اليم وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر صغير فدفعه الماء إليه فأتى به إلى بركة فى البستان وكان فرعون جالسا ثمة مع آسية بنت مزاحم فأمر به فأخرج ففتح فإذا هو صبى أصبح الناس وجها فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يكاد يتمالك الصبر عنه وذلك قوله تعالى (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) كلمة من متعلقة* بمحذوف هو صفة لمحبة مؤكدة لما فى تنكيرها من الفخامة الإضافية أى محبة عظيمة كائنة منى قد زرعتها فى القلوب بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك ولذلك أحبك عدو الله وآله وقيل هى متعلقة بألقيت أى أحببتك ومن أحبه الله تعالى أحبته القلوب لا محالة وقوله تعالى (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) متعلق بألقيت معطوف* على علة له مضمرة أى ليتعطف عليك ولتربى بالحنو والشفقة بمراقبتى وحفظى أو بمضمر مؤخر هو عبارة عما قبله من إلقاء المحبة والجملة مبتدأة أى ولتصنع على عينى فعلت ذلك وقرى ولتصنع على صيغة الأمر بسكون اللام وكسرها وقرىء بفتح التاء والنصب أى وليكون عملك على عين منى لئلا يخالف به عن أمرى (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) ظرف (لِتُصْنَعَ) على أن المراد به وقت وقع فيه مشيها إلى بيت فرعون وما ترتب عليه من القول والرجع إلى أمها وتربيتها له بالبر والحنو وهو المصداق لقوله تعالى (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) إذ لا شفقة

١٥

أعظم من شفقة الأم وصنعها على موجب مراعاته تعالى وقيل هو بدل من إذ أوحينا على أن المراد به زمان متسع متباعد الأطراف وهو الأنسب بما سيأتى من قوله تعالى (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) الخ فإن جميع ذلك من المنن الإلهية ولا تعلق لشىء منها بالصنع المذكور وأما كونه ظرفا لألقيت كما جوز فربما يوهم أن إلقاء* المحبة لم يحصل قبل ذلك ولا ريب فى أن معظم آثار إلقائها ظهر عند فتح التابوت (فَتَقُولُ) أى لفرعون وآسية حين رأتهما يطلبان له عليه‌السلام مرضعة يقبل ثديها وكان لا يقبل ثديا وصيغة المضارع فى* الفعلين لحكاية الحال الماضية (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) أى يضمه إلى نفسه ويربيه وذلك إنما يكون بقبوله ثديها يروى أنه فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلاما فى النيل لا يرتضع ثدى امرأة واضطروا إلى تتبع النساء فخرجت أخته مريم لتعرف خبره فجاءتهم متنكرة فقالت ما قالت وقالوا ما قالوا فجاءت* بامه فقبل ثديها فالفاء فى قوله تعالى (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ) فصيحة معربة عن محذوف قبلها يعطف عليه* ما بعدها أى فقالوا دلينا عليها فجاءت بأمك فرجعناك إليها (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بلقائك (وَلا تَحْزَنَ) أى لا يطرأ عليها الحزن بفراقك بعد ذلك وإلا فزوال الحزن مقدم على السرور المعبر عنه بقرة العين فإن التخلية* متقدمة على التحلية وقيل ولا تحزن أنت بفقد إشفاقها (وَقَتَلْتَ نَفْساً) هى نفس القبطى الذى استغاثه* الإسرائيلى عليه (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ) أى غم قتله خوفا من عقاب الله تعالى بالمغفرة ومن اقتصاص فرعون* بالإنجاء منه بالمهاجرة إلى مدين (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أى ابتليناك ابتلاء أو فتونا من الابتلاء على أنه جمع متن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز فى حجزة وبدور فى بدرة أى خلصناك مرة أخرى وهو إجمال ما ناله فى سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقة الإلاف والمشى راجلا وفقد الزاد وقد روى أن سعيد ابن جبير سأل عنه ابن عباس رضى الله عنهما فقال خلصناك من محنة بعد محنة ولد فى عام كان يقتل فيه الولدان فهذه فتنة يا ابن جبير وألقته أمه فى البحر وهم فرعون بقتله وقتل قبطيا وآجر نفسه عشر سنين وضل الطريق وتفرقت غنمه فى ليلة مظلمة وكان يقول عند كل واحدة فهذه فتنة يا ابن جبير ولكن الذى يقتضيه النظم الكريم أن لا تعد إجارة نفسه وما بعدها من تلك الفتون ضرورة أن المراد بها ما وقع قبل وصوله عليه* السلام إلى مدين بقيضة الفاء فى قوله تعالى (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) إذ لا ريب فى أن الإجارة المذكورة وما بعدها مما وقع بعد الوصول إليهم وقد أشير بذكر لبثه عليه‌السلام فيهم دون وصوله إليهم إلى جميع ما فاساه عليه‌السلام فى تضاعيف تلك السنين العشر من فنون الشدائد والمكاره التى كل واحد منها* فتنة وأى فتنة ومدين بلدة شعيب عليه الصلاة والسلام على ثمانى مراحل من مصر (ثُمَّ جِئْتَ) إلى المكان الذى أونس فيه النار ووقع فيه النداء والجؤار وفى كلمة التراخى إيذان بأن مجيئه عليه‌السلام كان بعد اللتيا* والتى من ضلال الطريق وتفرق الغنم فى الليلة المظلمة الشاتية وغير ذلك (عَلى قَدَرٍ) أى تقدير قدرته لأن أكلمك وأستنبئك فى وقت قد عينته لذلك فما جئت إلا على ذلك القدر غير مستقدم ولا مستأجر وقيل على* مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم‌السلام وهو رأس أربعين سنة وقوله تعالى (يا مُوسى) تشريف له عليه الصلاة والسلام وتنبيه على انتهاء الحكاية التى هى تفصيل المرة الأخرى التى وقعت قبل المرة المحكية أولا.

١٦

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٤٤)

____________________________________

وقوله تعالى (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) تذكير لقوله تعالى (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) وتمهيد لإرساله عليه‌السلام إلى فرعون مؤيدا بأخيه حسبما استدعاه بعد تذكير المنن السابغة السابقة تأكيدا لوثوقه عليه‌السلام بحصول نظائرها اللاحقة وهذا تمثيل لما خوله عز وعلا من الكرامة العظمى بتقريب الملك بعض خواصه واصطناعه لنفسه وترشيحه لبعض أموره الجليلة والعدول عن نون العظمة الواقعة فى قوله تعالى (وَفَتَنَّاكَ) ونظيريه السابقين تمهيد لإفراد لفظ النفس اللائق بالمقام فإنه أدخل فى تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص أى اصطفيتك برسالاتى وبكلامى وقوله تعالى (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) أى وليذهب أخوك حسبما استدعيت استئناف مسوق لبيان ما هو المقصود بالاصطناع (بِآياتِي) أى بمعجزاتى التى أريتكها من اليد والعصا فإنهما وإن* كانتا اثنتين لكن فى كل منهما آيات شتى كما فى قوله تعالى (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) فإن انقلاب العصا حيوانا آية وكونها ثعبانا عظيما لا يقادر قدره آية أخرى وسرعة حركته مع عظم جرمه آية أخرى وكونه مع ذلك مسخرا له عليه‌السلام بحيث كان يدخل يده فى فمه فلا يضره آية أخرى ثم انقلابها عصا آية أخرى وكذلك اليد فإن بياضها فى نفسه آية وشعاعها آية ثم رجوعها إلى حالتها الأولى آية أخرى والباء للمصاحبة لا للتعدية إذ المراد ذهابهما إلى فرعون ملتبسين بالآيات متمسكين بها فى إجراء أحكام الرسالة وإكمال أمر الدعوة لا مجرد إذهابها وإيصالها إليه (وَلا تَنِيا) لا تفترا ولا تقصرا وقرىء لا تنيا بكسر التاء للاتباع (فِي ذِكْرِي) * أى بما يليق بى من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة عند تبليغ رسالتى والدعاء إلى وقيل المعنى لا تنيا فى تبلغ رسالتى فإن الذكر يقع على جميع العبادات وهو أجلها وأعظمها وقيل لا تنسيانى حيثما تقلبتما واستمدا بذكرى العون والتأييد وأعلما أن أمرا من الأمور لا يتأتى ولا يتسنى إلا بذكرى (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ) جمعهما فى صيغة أمر الحاضر مع غيبة هرون إذ ذاك للتغليب وكذا الحال فى صيغة النهى روى أنه أوحى إلى هرون وهو بمصر أن يتلقى موسى عليهما‌السلام وقيل سمع بإقباله فتلقاه (إِنَّهُ طَغى) تعليل لموجب الأمر* والفاء فى قوله تعالى (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) لترتيب ما بعدها على طغيانه فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة ويلين عريكة الطغاة قال ابن عباس رضى الله عنهما لا تعنفا فى قولكما وقيل القول اللين مثل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فإنها دعوة فى صورة عرض ومشورة ويرده ما سيجىء من قوله تعالى (فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) الآيتين وقيل كنياه وكان له ثلاث كنى أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة وقيل

١٧

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) (٤٧)

____________________________________

* عداه شبابا لا يهرم ويبقى له لذة المطعم والمشرب ومنكح وملكا لا يزول إلا بالموت وقرىء لينا (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ) بما بلغتماه من ذكرى ويرغب فيما رغبتماه فيه (أَوْ يَخْشى) عقابى ومحل الجملة النصب على الحال من ضمير النثنية أى فقولا له قولا لينا راجين أن يتذكر أو يخشى وكلمة أو لمنع الخلو أى باشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع فى أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه وهو يجتهد بطوقه ويحتشد بأقصى وسعه وجدوى إرسالهما إليه مع العلم بحاله إلزام الحجة وقطع المعذرة (قالا رَبَّنا) أسند القول إليهما مع أن القائل حقيقة هو موسى عليه الصلاة والسلام بطريق التغليب إيذانا بأصالته فى كل قول وفعل وتبعية هرون عليه‌السلام له فى كل ما يأتى ويذر ويجوز أن يكون هرون قد قال ذلك بعد تلاقيهما فحكى ذلك مع قول موسى عليه‌السلام عند نزول الآية كما فى قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) فإن هذا الخطاب قد حكى لنا بصيغة الجمع مع أن كلا من المخاطبين لم يخاطب إلا بطريق الانفراد ضرورة استحالة اجتماعهم فى الوجود فكيف* باجتماعهم فى الخطاب (إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أى يعجل علينا بالعقوبة ولا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار المعجزة من فرط إذا تقدم ومنه الفارط وفرس فارط يسبق الخيل وقرىء يفرط من أفرطه إدا حمله على العجلة أى نخاف أن يحمله حامل من الاستكبار أو الخوف على الملك أو غيرهما على المعاجلة* بالعقاب (أَوْ أَنْ يَطْغى) أى يزداد طغيانا إلى أن يقول فى شأنك مالا ينبغى لكمال جراءته وقساوته وإطلاقه من حسن الأدب وإظهار كلمة أن مع سداد المعنى بدونه لإظهار كمال الاعتناء بالأمر والإشعار بتحقق الخوف من كل منهما (قالَ) استئناف مبنى على السؤال الناشىء من النظم الكريم ولعل إسناد الفعل إلى ضمير الغيبة للإشعار بانتقال الكلام من مساق إلى مساق آخر فإن ما قبله من الأفعال الواردة على صيغة التكلم حكاية لموسى عليه‌السلام بخلاف ما سيأتى من قوله تعالى (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) فإن ما قبله أيضا وارد بطريق الحكاية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قيل فماذا قال لهما ربهما عند تضرعهما إليه فقيل قال* (لا تَخافا) ما توهمتما من الأمرين وقوله تعالى (إِنَّنِي مَعَكُما) تعليل لموجب النهى ومزيد تسلية لهما والمراد* بالمعية كمال الحفظ والنصرة كما ينبىء عنه قوله تعالى (أَسْمَعُ وَأَرى) أى ما يجرى بينكما وبينه من قول وفعل فأفعل فى كل حال ما يليق بها من دفع ضر وشر وجلب نفع وخير ويجوز أن لا يقدر شىء على معنى إننى حافظكما سميعا بصيرا والحافظ الناصر إذا كان كذلك فقد تم وبلغت النصرة غايتها (فَأْتِياهُ) أمرا بإتيانه الذى هو عبارة عن الوصول إليه بعد ما أمرا بالذهاب إليه فلا تكرار وهو عطف على لا تخافا باعتبار

١٨

(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) (٤٩)

____________________________________

تعليله بما بعده (فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) أمرا بذلك تحقيقا للحق من أول الأمر ليعرف الطاغية شأنهما* ويبنى جوابه عليه وكذا التعرض لربوبيته تعالى له والفاء فى قوله تعالى (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) لترتيب* ما بعدها على ما قبلها فإن كونهما رسولى ربه مما يوجب إرسالهم معهما والمراد بالإرسال إطلاقهم من الأسر والقسر وإخراجهم من تحت يده العادية لا تكليفهم أن يذهبوا معهما إلى الشام كما ينبىء عنه قوله تعالى (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) أى بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب فإنهم كانوا تحت ملكة القبط يستخدمونهم فى الأعمال الصعبة الفادحة من الحفر ونقل الأحجار وغيرهما من الأمور الشاقة ويقتلون ذكور أولادهم عامادون عام ويستخدمون نساءهم وتوسيط حكم الإرسال بين بيان رسالتهما وبين ذكر المجىء بآية دالة على صحتها لإظهار الاعتناء به مع ما فيه من تهوين الأمر على فرعون فإن إرسالهم معهما من غير تعرض لنفسه وقومه بفنون التكاليف الشاقة كما هو حكم الرسالة عادة ليس مما يشق عليه كل المشقة ولأن فى بيان مجىء الآية نوع طول كما ترى فتأخير ذلك عنه مخل بتجاوب أطراف النظم الكريم وأما ما قيل من أن ذلك دليل على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان فكلا (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) تقرير لما تضمنه* الكلام السابق من دعوى الرسالة وتعليل لوجوب الإرسال فإن مجيئهما بالآية من جهته تعالى مما يحقق رسالتهما ويقررها ويوجب الامتثال بأمرهما وإظهار اسم الرب فى موضع الإضمار مع الإضافة إلى ضمير المخاطب لتأكيد ما ذكر من التقرير والتعليل وتوحيد الآية مع تعددها لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها لا بيان تعدد الحجة وكذلك قوله تعالى (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ) وقوله تعالى (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) وأما قوله تعالى (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فالظاهر أن المراد بها آية من الآيات (وَالسَّلامُ) المستتبع لسلامة الدارين* من الله تعالى والملائكة وغيرهم من المسلمين (عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) بتصديق آيات الله تعالى الهادية إلى* الحق وفيه من ترغيبه فى اتباعهما على ألطف وجه مالا يخفى (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا) من جهة ربنا (أَنَّ الْعَذابَ) الدنيوى والأخروى (عَلى مَنْ كَذَّبَ) أى بآياته تعالى (وَتَوَلَّى) أى أعرض عن قبولها وفيه من التلطيف فى الوعيد حيث لم يصرح بحلول العذاب به مالا مزبد عليه (قالَ) أى فرعون بعد ما أتياه وبلغاه ما أمرا به وإنما طوى ذكره للإيجاز والإشعار بأنهما كما أمرا بذلك سارعا إلى الامتثال به من غير تلعثم وبأن ذلك من الظهور بحيث لا حاجة إلى التصريح به (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) لم يضف الرب إلى نفسه ولو بطريق حكاية* ما فى قوله تعالى (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) وقوله تعالى (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) لغاية عتوه ونهاية طغيانه بل أضافه إليهما لما أن المرسل لا بد أن يكون ربا للرسول أو لأنهما قد صرحا بربوبيته تعالى للكل بأن قالا إنا رسول رب العالمين كما وقع فى سورة الشعراء والاقتصار ههنا على ذكر ربوبيته تعالى لفرعون لكفايته فيما هو المقصود والفاء لترتيب السؤال على ما سبق من كونهما رسولى ربهما أى إذا كنتما رسولى ربكما فأخبرا من ربكما الذى

١٩

(قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) (٥١)

____________________________________

أرسلكما وتخصيص النداء بموسى عليه الصلاة والسلام مع توجيه الخطاب إليهما لما أنه الأصل فى الرسالة وهرون وزيره وأما ما قيل من أن ذلك لأنه قد عرف أن له عليه الصلاة والسلام رتة فأراد أن يفحمه فيرده ما شاهده منه عليه الصلاة والسلام من حسن البيان القاطع لذلك الطمع الفارغ وأما قوله ولا يكاد يبين فمن غلوه فى الخبث والدعارة كما مر (قالَ) أى موسى عليه الصلاة والسلام مجيبا له (رَبُّنَا) إما مبتدأ* وقوله تعالى (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) خبره أو هو خبر لمبتدأ محذوف والموصول صفته وأياما كان فلم يريدا بضمير المتكلم أنفسهما فقط حسبما أراد اللعين بل جميع المخلوقات تحقيقا للحق وردا عليه كما يفصح عنه ما فى حين الصلة أى هو ربنا الذى أعطى كل شىء من الأشياء خلقه أى صورته وشكله اللائق بما نيط به من الخواص والمنافع أو أعطى مخلوقاته كل شىء تحتاج هى إليه وترتفق به وتقديم المفعول الثانى للاهتمام به أو أعطى كل حيوان نظيره فى الخلق والصورة حيث زوج الحصان بالفرس والبعير بالناقة والرجل بالمرأة ولم يزوج شيئا من ذلك بخلاف جنسه وقرىء خلقه على صيغة الماضى على أن الجملة صفة للمضاف أو المضاف إليه وحذف المفعول الثانى إما للاقتصار على الأول أى كل شىء خلقه الله تعالى لم يحرمه من عطائه وإنعامه أو للاختصار من كونه منويا مدلولا عليه بقرينة الحال أى أعطى كل شىء* خلقه الله تعالى ما يحتاج إليه (ثُمَّ هَدى) أى إلى طريق الانتفاع والارتفاق بما أعطاه وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه وكماله إما اختيارا كما فى الحيوانات أو طبعا كما فى الجمادات والقوى الطبيعية النباتية والحيوانية ولما كان الخلق الذى هو عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام متقدما على الهداية التى هى عبارة عن إيداع القوى المحركة والمدركة فى تلك الأجسام وسط بينهما كلمة التراخى ولقد ساق عليه الصلاة والسلام جوابه على نمط رائق وأسلوب لائق حيث بين أنه تعالى عالم قادر بالذات خالق لجميع الأشياء منعم عليها بجميع ما يليق بها بطريق التفضل وضمنه أن إرساله تعالى إلى الطاغية من جملة هداياته تعالى إياه بعد أن هداه إلى الحق بالهدايات التكوينية حيث ركب فيه العقل وسائر المشاعر والآلات الظاهرة والباطنة (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) لما شاهر اللعين ما نظمه عليه الصلاة والسلام فى سلك الاستدلال من البرهان النير على الطراز الرائع خاف أن يظهر للناس حقية مقالاته عليه الصلاة والسلام وبطلان خرافات نفسه ظهورا بينا فأراد أن يصرفه عليه الصلاة والسلام عن سننه إلى مالا يعنيه من الأمور التى لا تعلق لها بالرسالة من الحكايات ويشغله عما هو بصدده عسى يظهر فيه نوع غفلة فيتسلق بذلك إلى أن يدعى بين يدى قومه نوع معرفة فقال ما حال القرون الماضية والأمم الخالية وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة فأجاب عليه الصلاة والسلام بأن العلم بأحوالهم مفصلة مما لا ملابسة له بمنصب الرسالة وإنما علمها عند الله عزوجل وأما ما قيل من أنه سأله عن حال من خلا من القرون وعن شفاء من شقى منهم وسعادة من سعد فيأباه

٢٠