تفسير أبي السّعود - ج ٨

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٨

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

٤٢ ـ سورة الشورى

نزلت بمكة وآياتها ثلاث وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣)

____________________________________

(سورة الشورى مكية وآياتها ثلاث وخمسون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (حم عسق) اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما وعدا آيتين وقيل اسم واحد والفصل ليناسب سائر الحواميم وقرىء حم سق فعلى الأول هما خبران لمبتدأ محذوف وقيل حم مبتدأ وعسق خبره وعلى الثانى الكل خبر واحد وقوله تعالى (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كلام مستأنف وارد لتحقيق أن مضمون السورة موافق لما فى تضاعيف سائر الكتب المنزلة على الرسل المتقدمة فى الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق أو أن إيحاءها مثل إيحائها بعد تنويهها بذكر اسمها والتنبيه على فخامة شأنها والكاف فى حيز النصب على أنه مفعول ليوحى على الأول وعلى أنه نعت لمصدر مؤكد له على الثانى وذلك على الأول إشارة إلى ما فيها وعلى الثانى إلى إيحائها وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته فى الفضل أى مثل ما فى هذه السورة من المعانى أوحى إليك فى سائر السور وإلى من قبلك من الرسل فى كتبهم على أن مناط المماثلة ما أشير إليه من الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق وما فيه صلاح العباد فى المعاش والمعاد أو مثل إيحائها أوحى إليك عند إيحاء سائر السور وإلى سائر الرسل عند إيحاء كتبهم إليهم لا إيحاء مغايرا له كما فى قوله تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) الآية على أن مدار المثلية كونه بواسطة الملك وصيغة المضارع على حكاية الحال الماضية للإيذان باستمرار الوحى وأن إيحاء مثله عادته وفى جعل مضمون السورة أو إيحائها مشبها به من تفخيمها ما لا يخفى وكذا فى وصفه تعالى بوصفى العزة والحكمة وتأخير الفاعل لمراعاة الفواصل مع ما فيه من التشويق وقرىء يوحى على البناء للمفعول على أن كذلك مبتدأ ويوحى خبره المسند إلى ضميره أو مصدر ويوحى مسند إلى إليك والله مرتفع بما دل عليه يوحى كأنه قيل من يوحى فقيل الله والعزيز الحكيم صفتان له أو مبتدأ كما فى قراءة نوحى والعزيز وما بعده خبران له أو العزيز الحكيم صفتان له.

٢١

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٧)

____________________________________

وقوله تعالى (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) خبران له وعلى الوجوه السابقة استئناف مقرر لعزته وحكمته (تَكادُ السَّماواتُ) وقرىء بالياء (يَتَفَطَّرْنَ) يتشققن من عظمة الله تعالى وقيل من دعاء الولد له كما فى سورة مريم وقرىء ينفطرن والأول أبلغ لأنه مطاوع فطر وهذا مطاوع فطر وقرىء تتفطرن بالتاء لتأكيد التأنيث وهو نادر (مِنْ فَوْقِهِنَّ) أى يبتدأ التفطر من جهتهن الفوقانية وتخصيصها على الأول لما أن أعظم الآيات وأدلها على العظمة والجلال من تلك الجهة وعلى الثانى للدلالة على التفطر من تحتهن بالطريق الأولى لأن تلك الكلمة الشنعاء الواقعة فى الأرض حيث أثرت فى جهة الفوق فلأن تؤثر فى جهة التحت أولى وقيل الضمير للأرض فإنها فى معنى الأرضين* (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ينزهونه تعالى عما لا يليق به ملتبسين بحمده (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) بالسعى فيما يستدعى مغفرتهم من الشفاعة والإلهام وترتيب الأسباب المقربة إلى الطاعة واستدعاء تأخير العقوبة طمعا فى إيمان الكافر وتوبة الفاسق وهذا يعم المؤمن والكافر بل لو فسر الاستغفار بالسعى فيما يدفع الخلل المتوقع عم الحيوان بل الجماد وحيث خص بالمؤمنين كما فى قوله* تعالى (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) فالمراد به الشفاعة (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إذ ما من مخلوق إلا وله حظ عظيم من رحمته تعالى والآية على الأول زيادة تقرير لعظمته تعالى وعلى الثانى بيان لكمال تقدسه عما نسب إليه وأن ترك معاجلتهم بالعقاب على تلك الكلمة الشنعاء بسبب استغفار الملائكة وفرط غفرانه ورحمته ففيها رمز إلى أنه تعالى يقبل استغفارهم ويزيدهم على ما طلبوه من المغفرة رحمة (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) شركاء وأندادا (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) رقيب على أحوالهم وأعمالهم فيجازيهم بها (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) بموكل بهم أو بموكول إليه أمرهم وإنما وظيفتك الإنذار (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) ذلك إشارة إلى مصدر أوحينا ومحل الكاف النصب على المصدرية وقرآنا عربيا مفعول لأوحينا أى ومثل ذلك الإيحاء البديع البين المفهم أوحينا إليك قرآنا عربيا لا لبس فيه عليك ولا على قومك وقيل إشارة إلى معنى الآية المتقدمة من أنه تعالى هو الحفيظ عليهم وإنما أنت نذير فحسب فالكاف مفعول به لأوحينا وقرآنا عربيا حال من المفعول

٢٢

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٨)

____________________________________

به أى أوحيناه إليك وهو قرآن عربى بين (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) أى أهلها وهى مكة (وَمَنْ حَوْلَها) من* العرب (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) أى يوم القيامة لأنه يجمع فيه الخلائق قال تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) وقيل تجمع فيه الأرواح والأشباح وقيل الأعمال والعمال والإنذار يتعدى إلى مفعولين وقد يستعمل ثانيهما بالباء وقد حذف ههنا ثانى مفعولى الأول وأول مفعولى الثانى للتهويل وإيهام التعميم وقرىء لينذر بالياء على أن فاعله ضمير القرآن (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراض مقرر لما قبله (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أى بعد جمعهم فى الموقف فإنهم يجمعون فيه أولا ثم يفرقون بعد الحساب والتقدير منهم فريق والضمير للمجموعين لدلالة الجمع عليه وقرئا منصوبين على الحالية منهم أى وتنذر يوم جمعهم متفرقين أى مشارفين للتفرق أو متفرقين فى دارى الثواب والعقاب (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ) أى فى الدنيا (أُمَّةً واحِدَةً) قيل مهتدين أو ضالين وهو تفصيل لما أجمله ابن عباس رضى الله عنهما فى قوله على دين واحد فمعنى قوله تعالى (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أنه تعالى يدخل فى رحمته من يشاء* أن يدخله فيها ويدخل فى عذابه من يشاء أن يدخله فيه ولا ريب فى أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول مدخله ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب اختلاف حال الداخلين فيهما قطعا فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة بل جعلهم فريقين وإنما قيل (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) للإيذان بأن الإدخال فى العذاب من جهة الداخلين بموجب سوء اختيارهم لا من جهته تعالى كما فى الإدخال فى الرحمة لا لما قيل من المبالغة فى الوعيد وقيل مؤمنين كلهم وهو ما فاله مقاتل على دين الإسلام كما فى قوله تعالى (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) وقوله تعالى (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) والمعنى ولو شاء الله مشيئة قدرة لقسرهم على الإيمان ولكنه شاء مشيئة حكمة وكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين فى رحمته وهم المرادون بقوله تعالى (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ) وترك الظالمين بغير ولى ولا نصير وأنت خبير بأن فرض جعل الكل مؤمنين يأباه تصدير الاستدراك بإدخال بعضهم فى رحمته إذ الكل حينئذ داخلون فيها فكان المناسب حينئذ تصديره بإخراج بعضهم من بينهم وإدخالهم فى عذابه فالذى يقتضيه سياق النظم الكريم وسباقه أن يراد الاتحاد فى الكفر كما فى قوله تعالى (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) الآية على أحد الوجهين بأن يراد بهم الذين هم فى فترة إدريس أو فى فترة نوح عليهما‌السلام فالمعنى ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر بأن لا يرسل إليهم رسولا لينذرهم ما ذكر من يوم الجمع وما فيه من ألوان الأهوال فيبقوا على ما هم عليه من الكفر ولكن يدخل من يشاء فى رحمته أى شأنه ذلك فيرسل إلى الكل من ينذرهم ما ذكر فيتأثر بعضهم بالإنذار فيصرفون اختيارهم إلى الحق فيوفقهم الله للإيمان والطاعة ويدخلهم فى رحمته ولا يتأثر به الآخرون ويتمادون فى غيهم وهم الظالمون فيبقون فى الدنيا

٢٣

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١١)

____________________________________

على ما هم عليه من الكفر ويصيرون فى الآخرة إلى السعير من غير ولى يلى أمرهم ولا نصير يخلصهم من العذاب (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من انتفاء أن يكون للظالمين ولى أو نصير وأم منقطعة وما فيها من بل للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها والهمزة لإنكار الوقوع ونفيه على أبلغ وجه وآكده لا لإنكار الواقع واستقباحه كما قيل إذ المراد بيان أن ما فعلوا ليس من اتخاذ الأولياء فى شىء لأن ذلك فرع كون الأصنام أولياء وهو أظهر الممتنعات أى بل أتخذوا* متجاوزين الله أولياء من الأصنام وغيرها هيهات وقوله تعالى (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ) جواب شرط محذوف كأنه قيل بعد إبطال ولاية ما اتخذوه أولياء إن أرادوا وليا فى الحقيقة فالله هو الولى لاولى سواه (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) أى ومن شأنه ذلك (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو الحقيق بأن يتخذ وليا فليخصوه بالاتخاذ دون من لا يقدر على شىء (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) حكاية لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين أى وما خالفكم الكفار فيه من أمور الدين فاخلنفتم أنتم وهم (فَحُكْمُهُ) راجع (إِلَى اللهِ) وهو إثابة المحقين وعقاب المبطلين (ذلِكُمُ) الحاكم العظيم الشأن (اللهُ رَبِّي) مالكى (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فى مجامع أمورى خاصة لا على غيره (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أرجع فى كل ما يعن لى من معضلات الأمور لا إلى أحد سواه وحيث كان التوكل أمرا واحدا مستمرا والإنابة متعددة متجددة حسب تجدد موادها أوثر فى الأول صيغة الماضى وفى الثانى صيغة المضارع وقيل وما اختلفتم فيه وتنازعتم فى شىء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره وقيل وما اختلفتم فيه من تأويل آية واشتبه عليكم فارجعوا فى بيانه إلى المحكم من كتاب الله والظاهر من سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التى لا تتعلق بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه فقولوا الله أعلم كمعرفة الروح ولا مساغ لحمل هذا على الاجتهاد لعدم جوازه بحضرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خبر آخر لذلكم أو خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره (جَعَلَ لَكُمْ) وقرىء بالجر على أنه بدل من الضمير أو وصف للاسم الجليل فى قوله تعالى (إِلَى اللهِ) وما بينهما اعتراض بين الصفة والموصوف (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) من جنسكم (أَزْواجاً) نساء وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح قد مر سره غيره مرة (وَمِنَ الْأَنْعامِ) أى وجعل للأنعام من جنسها (أَزْواجاً) أو خلق لكم من الأنعام أصنافا أو ذكورا وإناثا (يَذْرَؤُكُمْ) يكثركم من الذرء وهو البث وفى معناه الذرو والذر (فِيهِ) أى

٢٤

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (١٣)

____________________________________

فيما ذكر من التدبير فإن جعل الناس والأنعام ازواجا يكون بينهم توالد كالمنبع للبث والتكثير (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أى ليس مثله شىء فى شأن من الشئون التى من جملتها هذا التدبير البديع والمراد من مثله ذاته كما فى قولهم مثلك لا يفعل كذا على قصد المبالغة فى نفيه عنه فإنه إذا نفى عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى ثم سلكت هذه الطريقة فى شأن من لا مثل له وقيل مثله صفته أى ليس كصفته صفة (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) المبالغ فى العلم بكل ما يسمع ويبصر (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى خزائنهما (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) يوسع ويضيق حسبما تقتضيه مشيئته المؤسسة على الحكم البالغة (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) مبالغ فى الإحاطة به فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغى أن يفعل عليه والجملة تعليل لما قبلها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) وإيذان بأن ما شرع لهم صادر عن كمال العلم والحكمة كما أن بيان نسبته إلى المذكورين عليهم الصلاة والسلام تنببه على كونه دينا قديما أجمع عليه الرسل والخطاب لأمته عليه الصلاة والسلام أى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ومن بعده من أرباب الشرائع وأولى العزائم من مشاهير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأمرهم به أمرا مؤكدا على أن تخصيصهم بالذكر لما ذكر من علو شأنهم ولاستمالة قلوب الكفرة إليه لاتفاق الكل على نبوة بعضهم وتفرد اليهود فى شأن موسى عليه‌السلام وتفرد النصارى فى حق عيسى عليه‌السلام وإلا فما من نبى إلا وهو مأمور بما أمروا به وهو عبارة عن التوحيد ودين الإسلام وما لا يختلف باختلاف الأمم وتبدل الأعصار من أصول الشرائع والأحكام كما ينبىء عنه التوصية فإنها معربة عن تأكيد الأمر والاعتناء بشأن المأمور به والمراد بإيحائه إليه عليه الصلاة والسلام إما ما ذكر فى صدر السورة الكريمة وفى قوله تعالى (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا) الآية أو ما يعمهما وغيرهما مما وقع فى سائر المواقع التى من جملتها قوله تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) وقوله تعالى (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وغير ذلك والتعبير عن ذلك عند نسبته إليه عليه الصلاة والسلام بالذى لزيادة تفخيم شأنه من تلك الحيثية وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع فى الآيات المذكورة ولما فى الإيحاء من التصريح برسالته عليه الصلاة والسلام القامع لإنكار الكفرة والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الاعتناء بإيحائه وهو السر فى تقديمه على ما بعده مع تقدمه عليه زمانا وتقديم

٢٥

(وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١٤)

____________________________________

توصية نوح عليه‌السلام للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم دينا قديما وتوجيه الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين للتشريف والتنبيه على أنه تعالى شرعه لهم على لسانه عليه الصلاة والسلام* (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) أى دين الإسلام الذى هو توحيد الله تعالى وطاعته والإيمان بكتبه ورسله وبيوم الجزاء وسائر ما يكون الرجل به مؤمنا والمراد بإقامته تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيغ أو المواظبة عليه والتشمر له ومحل أن أقيموا إما النصب على أنه بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليه أو الرفع على أنه جواب عن سؤال نشأ من إبهام المشروع كأنه قيل وما ذاك فقيل هو إقامة الدين وقيل بدل من ضمير به وليس بذاك لما أنه مع إفضائه إلى خروجه عن حيز الإيحاء إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستلزم لكون الخطاب فى قوله تعالى (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) للأنبياء المذكورين عليهم الصلاة والسلام وتوجيه النهى إلى أممهم تمحل ظاهر مع أن الأظهر أنه متوجه إلى أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنهم المتفرقون كما ستحيط به خبرا أى لا تتفرقوا فى الدين الذى هو عبارة عما ذكر من الأصول دون الفروع المختلفة حسب اختلاف الأمم باختلاف الأعصار كما ينطق* به قوله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) وقوله تعالى (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) شروع فى بيان أحوال بعض من شرع لهم ما شرع من الدين القويم أى عظم وشق عليهم (ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من التوحيد ورفض عبادة الأصنام واستبعدوه حيث قالوا أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشىء عجاب وقوله تعالى (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) استئناف وارد لتحقيق الحق وفيه إشعار بأن منهم من يجيب إلى الدعوة أى الله يجتلب إلى ما تدعوهم إليه من يشاء أن يجتبيه إليه وهو من صرف اختياره إلى ما دعى إليه كما ينبىء عنه قوله تعالى (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أى يقبل إليه حيث يمده بالتوفيق والألطاف وقوله تعالى (وَما تَفَرَّقُوا) شروع فى بيان أحوال أهل الكتاب عقيب الإشارة الإجمالية إلى أحوال أهل الشرك قال ابن عباس رضى الله عنهما هم اليهود والنصارى لقوله تعالى (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أى وما تفرقوا فى الدين الذى دعوا إليه ولم يؤمنوا كما* آمن بعضهم (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بحقيته بما شاهدوا فى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن من دلائل الحقية حسبما وجدوه فى كتابهم أو العلم بمبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال أو من أعم الأوقات أى وما تفرقوا فى حال من الأحوال أو فى وقت من الأوقات إلا حال مجىء العلم أو إلا وقت مجىء العلم (بَغْياً بَيْنَهُمْ) وحمية وطلبا للرياسة لا لأن لهم فى ذلك شبهة (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهى العدة بتأخير العقوبة (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) لأوقع القضاء بينهم باستئصالهم لاستيجاب جناياتهم لذلك قطعا وقوله تعالى (وَإِنَّ الَّذِينَ

٢٦

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٥)

____________________________________

أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) الخ بيان لكيفية كفر المشركين بالقرآن إثر بيان كيفية كفر أهل الكتاب وقرىء ورثوا وورثوا أى وإن المشركين الذين أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من القرآن (مُرِيبٍ) موقع فى القلق أو فى الريبة ولذلك لا يؤمنون به لا لمحض البغى* والمكابرة بعد ما علموا بحقيته كدأب أهل الكتابين هذا وأما ما قيل من أن ضمير تفرقوا لأمم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأن المراد تفرق كل أمة بعد نبيها مع علمهم بأن الفرقة ضلال وفساد وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيرده قوله تعالى (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) وكذا ما قيل من أن الناس كانوا أمة واحدة مؤمنين بعد ما أهلك الله تعالى أهل الأرض بالطوفان فلما مات الآباء اختلف الأبناء فيما بينهم وذلك حين بعث الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين وجاءهم العلم وإنما اختلفوا للبغى بينهم فإن مشاهير الأمم المذكورة قد أصابهم عذاب الاستئصال من غير إنظار وإمهال على أن مساق النظم الكريم لبيان أحوال هذه الأمة وإنما ذكر من ذكر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيدا لوجوب إقامته وتشديدا للزجر عن التفرق والاختلاف فيه فالتعرض لبيان تفرق أممهم عنه ربما يوهم الإخلال بذلك المرام (فَلِذلِكَ) أى فلأجل ما ذكر من التفرق والشك المريب أو فلأجل أنه شرع لهم الدين القويم القديم الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون (فَادْعُ) أى الناس كافة إلى إقامة ذلك الدين والعمل بموجبه فإن كلا من تفرقهم وكونهم فى شك* مريب ومن شرع ذلك الدين لهم على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبب للدعوة إليه والأمر بها وليس المشار إليه ما ذكر من التوصية والأمر بالإقامة والنهى عن التفرق حتى يتوهم شائبة التكرار وقيل المشار إليه نفس الدين المشروع واللام بمعنى إلى كما فى قوله تعالى (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) أى فإلى ذلك الدين فادع (وَاسْتَقِمْ) عليه وعلى الدعوة إليه (كَما أُمِرْتَ) وأوحى إليك (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) * الباطلة (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أى كتاب كان من الكتب المنزلة لا كالذين آمنوا ببعض منها وكفروا ببعض وفيه تحقيق للحق وبيان لاتفاق الكتب فى الأصول وتأليف لقلوب أهل الكتابين وتعريض بهم وقد مر بيان كيفية الإيمان بها فى خاتمة سورة البقرة (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) فى تبليغ الشرائع والأحكام وفصل القضايا عند المحاكمة والخصام وقيل معناه لا سوى بينى وبينكم ولا آمركم بما لا أعمله ولا أخالفكم إلى ما أنها كم عنه ولا أفرق بين أكابركم وأصاغركم واللام إما على حقيقتها والمأمور به محذوف أى أمرت بذلك لأعدل أو زائدة أى أمرت أن أعدل والباء محذوفة (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أى خالقنا جميعا ومتولى أمورنا (لَنا أَعْمالُنا) لا يتخطانا جزاؤها ثوابا كان

٢٧

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (١٨)

____________________________________

أو عقابا (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) لا تجاوزكم آثارها لنستفيد بحسناتكم ونتضرر بسيآتكم (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) لا محاجة ولا خصومة لأن الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة حاجة ولا للمخالفة محمل سوى المكابرة (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) يوم القيامة (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فيظهر هناك حالنا وحالكم وهذا كما ترى محاجزة فى مواقف المجاوبة لا متاركة فى مواطن المحاربة حتى يصار إلى النسخ بآية القتال (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) أى فى دينه (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) من بعد ما استجاب له الناس ودخلوا فيه والتعبير عن ذلك بالاستجابة باعتبار دعوتهم إليه أو من بعد ما استجاب الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأيده بنصره أو من بعد ما استجاب له أهل الكتاب بأن أقروا بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستفتحوا به قبل مبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون للمؤمنين كتابنا قبل* كتابكم ونبينا قبل نبيكم ونحن خير منكم وأولى بالحق (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) زالة زائلة باطلة بل لا حجة لهم أصلا وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة مجاراة معهم على زعمهم الباطل (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) عظيم لمكابرتهم الحق بعد ظهوره (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) لا يقادر قدره (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) أى جنس الكتاب (بِالْحَقِّ) ملتبسا به فى أحكامه وأخباره أو بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام (وَالْمِيزانَ) والشرع الذى يوزن به الحقوق ويسوى بين الناس أو نفس العدل بأن أنزل الأمر به أو آلة الوزن (وَما يُدْرِيكَ) أى أى شىء يجعلك عالما (لَعَلَّ السَّاعَةَ) التى يخبر بمجيئها الكتاب* الناطق بالحق (قَرِيبٌ) أى شىء قريب أو قريب مجيئها وقيل القريب بمعنى ذات قرب أو الساعة بمعنى البعث والمعنى أنها على جناح الإتيان فاتبع الكتاب واعمل به وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذى يوزن فيه الأعمال ويوفى جزاؤها (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) استعجال إنكار واستهزاء كانوا يقولون متى هى ليتها قامت حتى يظهر لنا الحق أهو الذى نحن عليه أم الذى* عليه محمد وأصحابه (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) خائفون منها مع اعتناء بها لتوقع الثواب (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) أى الكائن لا محالة (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) يجادلون فيها من المرية أو من مربت الناقة إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لأن كلا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام* فيه شدة (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحق فإن البعث أشبه الغائبات بالمحسوسات فمن لم يهتد إلى تجويزه فهو عن

٢٨

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٢٢)

____________________________________

الاهتداء إلى ما وراءه أبعد وأبعد (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) أى بر بليغ البر بهم يفيض عليهم من فنون ألطافه ما لا يكاد يناله أيدى الأفكار والظنون (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أن يرزقه كيفما يشاء فيخص كلا من عباده بنوع من البر على ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة (وَهُوَ الْقَوِيُّ) الباهر القدرة الغالب على كل شىء (الْعَزِيزُ) المنيع الذى لا يغلب (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) الحرث فى الأصل إلقاء البذر فى الأرض يطلق على الزرع الحاصل منه ويستعمل فى ثمرات الأعمال ونتائجها بطريق الاستعارة المبنية على تشبيهها بالغلال الحاصلة من البذور المتضمن لتشبيه الأعمال بالبذور أى من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) نضاعف له ثوابه بالواحد عشرة إلى سبعمائة فما فوقها (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ) * بأعماله (حَرْثَ الدُّنْيا) وهو متاعها وطيباتها (نُؤْتِهِ مِنْها) أى شيئا منها حسبما قسمنا له لا ما يريده ويبتغيه (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) إذ كانت همته مقصورة على الدنيا وقد مر تفصيله فى سورة الإسراء (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أى بل ألهم شركاء من الشياطين والهمزة للتقرير والتقريع (شَرَعُوا لَهُمْ) بالتسويل (مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا وقيل شركاؤهم أوثانهم وإضافتها إليهم لأنهم الذين جعلوها شركاء لله تعالى وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم كقوله تعالى (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً) أو تماثيل من سن الضلالة لهم (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) أى القضاء السابق* بتأخير الجزاء أو العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أى بين الكافرين والمؤمنين أو بين المشركين وشركائهم (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وقرىء بالفتح عطفا على كلمة الفصل أى ولو لا* كلمة الفصل وتقدير عذاب الظالمين فى الآخرة لقضى بينهم فى الدنيا فإن العذاب الأليم غالب فى عذاب الآخرة (تَرَى الظَّالِمِينَ) يوم القيامة والخطاب لكل أحد ممن يصلح له للقصد إلى أن سوء حالهم غير مختص برؤية راء دون راء (مُشْفِقِينَ) خائفين (مِمَّا كَسَبُوا) من السيآت (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أى ووباله لا حق بهم لا محالة أشفقوا أو لم يشفقوا والجملة حال من ضمير مشفقين أو اعتراض (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

٢٩

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢٤)

____________________________________

* (الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) مستقرون فى أطيب بقاعها وأنزهها (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أى ما يشتهونه من فنون المستلذات حاصل لهم عند ربهم ظرف للاستقرار العامل فى لهم وقيل ظرف ليشاءون (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من حال المؤمنين وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) الذى لا يقادر قدره ولا يبلغ غايته (ذلِكَ) الفضل الكبير هو (الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) أى يبشرهم به فحذف الجار ثم العائد إلى الموصول كما فى قوله تعالى (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) أو ذلك التبشير الذى يبشره الله تعالى عباده (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وقرىء يبشر من أبشر (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) روى أنه اجتمع المشركون فى مجمع لهم فقال بعضهم لبعض أترون أن محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا فنزلت أى لا أطلب منكم على ما أنا عليه من التبليغ* والبشارة (أَجْراً) نفعا (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أى إلا أن تودونى لقرابتى منكم أو تودوا أهل قرابتى وقيل الاستثناء منقطع والمعنى لا أسألكم أجرا قط ولكن أسألكم المودة وفى القربى حال منها أى إلا المودة ثابتة فى القربى متمكنة فى أهلها أو فى حق القرابة والقربى مصدر كالزلفى بمعنى القرابة روى أنها لما نزلت قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم قال على وفاطمة وابناعما وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتى وآذانى فى عترتى ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقينى يوم القيامة وقيل القربى التقرب إلى الله أى إلا أن تودوا الله ورسوله فى تقربكم إليه بالطاعة والعمل* الصالح وقرىء إلا مودة فى القربى (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) أى يكتسب أى حسنة كانت فتتناول مودة ذى القربى تناولا أوليا وعن السدى أنها المرادة وقيل نزلت فى الصديق رضى الله عنه ومودته فيهم (نَزِدْ لَهُ فِيها) أى فى الحسنة (حُسْناً) بمضاعفة الثواب وقرىء يزد أى يزد الله وقرىء حسنى (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن أذنب (شَكُورٌ) لمن أطاع بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة (أَمْ يَقُولُونَ) بل أيقولون (افْتَرى) محمد (عَلَى اللهِ كَذِباً) بدعوى النبوة وتلاوة القرآن على أن الهمزة للإنكار التوبيخى كأنه قيل أيتمالكون أن ينسبوا مثله عليه‌السلام وهو هو إلى الافتراء لا سيما الافتراء على الله* الذى هو أعظم القرى وأفحشها وقوله تعالى (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) استشهاد على بطلان ما قالوا ببيان أنه عليه‌السلام لو افترى على الله تعالى لمنعه من ذلك قطعا وتحقيقه أن دعوى كون القرآن افتراء عليه تعالى قول منهم بأنه تعالى لا يشاء صدوره عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل يشاء عدم صدوره

٣٠

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) (٢٦)

____________________________________

عنه ومن ضرورته منعه عنه قطعا فكأنه قيل لو كان افتراء عليه تعالى لشاء عدم صدوره عنك وإن يشأ ذلك يختم على قلبك بحيث لم يخطر ببالك معنى من معانيه ولم تنطق بحرف من حروفه وحيث لم يكن الأمر كذلك بل تواتر الوحى حينا فحينا تبين أنه من عند الله تعالى هذا وقيل المعنى إن يشأ يجعلك من المختوم على قلوبهم فإنه لا يجترىء على الافتراء عليه تعالى إلا من كان كذلك ومؤداه استبعاد الافتراء من مثله عليه‌السلام وأنه فى البعد مثل الشرك بالله والدخول فى جملة المختوم على قلوبهم وعن قتادة يختم على قلبك ينسك القرآن ويقطع عنك الوحى يعنى لو افترى على الله الكذب لفعل به ذلك وهذا معنى ما قيل لو كذب على الله لأنساه القرآن وقيل يختم على قلبك يربط عليه بالصبر حتى لا يشق عليك أذاهم (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) استئناف مقرر لنفى الافتراء غير معطوف على يختم كما ينبىء عنه إظهار الاسم الجليل وسقوط الواو كما فى بعض المصاحف لاتباع اللفظ كما فى قوله تعالى (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) أى ومن عادته تعالى أنه يمحو الباطل ويثبت الحق بوحيه أو بقضائه كقوله تعالى (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) فلو كان افتراء كما زعموا لمحقه ودمغه أو عدة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه تعالى يمحو الباطل الذى هم عليه من البهت والتكذيب ويثبت الحق الذى هو عليه بالقرآن أو بقضائه الذى لا مرد له بنصرته عليهم (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيجرى عليها أحكامها اللائقة بها من المحو والإثبات (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) التوبة هى الرجوع عن المعاصى بالندم عليها والعزم على أن لا يعاودها أبدا وروى جابر رضى الله عنه أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال اللهم إنى استغفرك وأتوب إليك وكبر فلما فرغ من صلاته قال له على رضى الله عنه يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين وتوبتك هذه تحتاج إلى التوبة فقال يا أمير المؤمنين وما التوبة قال اسم يقع على ستة معان على الماضى من الذنوب الندامة ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذابة النفس فى الطاعة كما ربيتها فى المعصية وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) صغيرها* وكبيرها لمن يشاء (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) كائنا ما كان من خير وشر فيجازى ويتجاوز حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح وقرىء ما تفعلون بالتاء (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أى يستجيب الله لهم فحذف اللام كما فى قوله تعالى (وَإِذا كالُوهُمْ) أى كالوا لهم والمراد إجابة دعوتهم والإثابة على طاعتهم فإنها كدعاء وطلب لما يترتب عليها ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الدعاء الحمد لله أو يستجيبون الله بالطاعة إذا دعاهم إليها وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له ما بالنا ندعو فلا

٣١

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (٢٩)

____________________________________

نجاب قال لأنه دعاكم ولم تجيبوه ثم قرأ والله يدعو إلى دار السلام (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) على ما سألوا واستحقوا بموجب الوعد (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بدل ما للمؤمنين من الثواب والفضل المزيد (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) لتكبروا وأفسدوا فيها بطرا أو لعلا بعضهم على بعض بالاستيلاء والاستعلاء كما عليه الجبلة البشرية وأصل البغى طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى* من حيث الكمية أو الكيفية (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ) أى بتقدير (ما يَشاءُ) أن ينزله مما تقتضيه مشيئته* (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) محيط بخفايا أمورهم وجلاياها فيقدر لكل واحد منهم فى كل وقت من أوقاتهم ما يليق بشأنهم فيفقر ويغنى ويمنع ويعطى ويقبض ويبسط حسبما تقتضيه الحكمة الربانية ولو أغناهم جميعا لبغوا ولو أفقرهم لهلكوا وروى أن أهل الصفة تمنوا الغنى فنزلت وقيل نزلت فى العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا وإذا أجدبوا انتجعوا (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) أى المطر الذى يغيثهم من الجدب ولذلك خص بالنافع منه وقرىء ينزل من الإنزال (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) يئسوا منه وتقييد تنزيله بذلك مع تحققه بدونه أيضا لتذكر كمال النعمة وقرىء بكسر النون (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) أى بركات الغيث ومنافعه فى كل شىء من السهل والجبل والنبات والحيوان أو رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر انتظاما أوليا (وَهُوَ الْوَلِيُّ) الذى يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة (الْحَمِيدُ) المستحق للحمد على ذلك لا غيره (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) على ما هما عليه من تعاجيب الصنائع فإنها بذاتها وصفاتها تدل على شئونه العظيمة (وَما بَثَّ فِيهِما) عطف على السموات أو الخلق (مِنْ دابَّةٍ) من حى على إطلاق اسم المسبب على السبب أو مما يدب على الأرض فإن ما يختص بأحد الشيئين المتجاورين يصح نسبته إليهما كما فى قوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) وإنما يخرج من الملح وقد جوز أن يكون للملائكة عليهم‌السلام مشى مع الطيران فيوصفوا بالدبيب وأن يخلق الله فى السماء حيوانا يمشون فيها مشى الأناسى على الأرض كما ينبىء عنه قوله تعالى (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) وقد روى أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك العرش العظيم (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ) أى حشرهم بعد البعث للمحاسبة وقوله تعالى (إِذا يَشاءُ) متعلق بما قبله لا بقوله تعالى

٣٢

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ(٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٣٥)

____________________________________

(قَدِيرٌ) فإن المقيد بالمشيئة جمعه تعالى لا قدرته وإذا عند كونها بمعنى الوقت كما تدخل الماضى تدخل المضارع (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) أى مصيبة كانت (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أى فهى معاصيكم التى اكتسبتموها والفاء لأن ما شرطية أو متضمنة لمعنى الشرط وقرىء بدونها اكتفاء بما فى الباء من معنى السببية (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) من الذنوب فلا يعاقب عليها والآية مخصوصة بالمجرمين فإن ما أصاب غيرهم لأسباب أخرى منها تعريضه للثواب بالصبر عليه (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) فائتين ما قضى عليكم من المصائب وإن هربتم من أقطارها كل مهرب (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ) يحميكم منها (وَلا نَصِيرٍ) يدفعها عنكم (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ) السفن الجارية (فِي الْبَحْرِ) وقرىء الجوارى (كَالْأَعْلامِ) أى كالجبال على الإطلاق لا التى عليها النار للاهتداء خاصة (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) التى تجريها وقرىء الرياح (فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) فيبقين ثوابت على ظهر البحر أى غير جاريات لا غير متحركات أصلا (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذى ذكر من السفن اللاتى يجرين تارة ويركدن أخرى على حسب مشيئته تعالى (لَآياتٍ) عظيمة فى أنفسها كثيرة فى العدد دالة على ما ذكر من شئونه تعالى (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) لكل من حبس نفسه عن التوجه إلى ما لا ينبغى ووكل همته بالنظر فى آيات الله تعالى والتفكر فى آلائه أو لكل مؤمن كامل فإن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) عطف على يسكن والمعنى إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يرسلها فيغرقن بعصفها وإيقاع الإيباق عليهن مع أنه حال أهلهن للمبالغة والتهويل وإجراء حكمه على العفو فى قوله تعالى (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) لما أن المعنى أو يرسلها فيوبق ناسا وينج آخرين بطريق العفو عنهم وقرىء ويعفو على الاستئناف (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم وليعلم الخ كما فى قوله تعالى (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) وقوله (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) ونظائرهما وقرىء بالرفع على الاستئناف وبالجزم عطفا على يعف فيكون المعنى وإن يشأ يجمع بين إهلاك قوم وإنجاء قوم وتحذير قوم (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أى من مهرب من العذاب والجملة معلق عنها الفعل.

٣٣

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٤٠)

____________________________________

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) مما ترغبون وتتنافسون فيه (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أى فهو متاعها تتمتعون به* مدة حياتكم (وَما عِنْدَ اللهِ) من ثواب الآخرة (خَيْرٌ) ذاتا لخلوص نفعه (وَأَبْقى) زمانا حيث* لا يزول ولا يفنى (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) لا على غيره أصلا والموصول الأول لما كان متضمنا لمعنى الشرط من حيث أن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع بها فى الحياة الدنيا دخلت جوابها الفاء بخلاف الثانى وعن على رضى الله عنه أنه تصدق أبو بكر رضى الله عنه بماله فلامه جمع من المسلمين فنزلت وقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) أى الكبائر من هذا الجنس (وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) مع ما بعده عطف على الذين آمنوا أو مدح بالنصب أو الرفع وبناء يغفرون على الضمير خبرا له للدلالة على أنهم الأخصاء بالمغفرة حال الغضب لعزة منالها وقرىء كبير الإثم وعن ابن عباس رضى الله عنهما كبير الإثم الشرك (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) نزل فى* الأنصار دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإيمان فاستجابوا له (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أى ذو شورى لا ينفردون برأى حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه وكانوا قبل الهجرة وبعدها إذا حزبهم* أمر اجتمعوا وتشاوروا (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أى فى سبيل الخير ولعل فصله عن قرينه بذكر المشاورة لوقوعها عند اجتماعهم للصلوات (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أى ينتقمون ممن بغى عليهم على ما جعله الله تعالى لهم كراهة التذلل وهو وصف لهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر مهمات الفضائل وهذا لا ينافى وصفهم بالغفران فإن كلا منهما فضيلة محمودة فى موقع نفسه ورذيلة مذمومة فى موقع صاحبه فإن الحلم عن العاجز وعوراء الكرام محمود وعن المتغلب ولغواء اللئام مذموم فإنه إغراء على البغى وعليه قول من قال[إذا أنت أكرمت الكريم ملكته * وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا] * [فوضع الندى فى موضع السيف بالعلا * مضر كوضع السيف فى موضع الندى] وقوله تعالى (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) بيان لوجه كون الانتصار من الخصال الحميدة مع كونه فى نفسه إساءة إلى الغير بالإشارة إلى أن البادىء هو الذى فعله لنفسه فإن الأفعال مستتبعة لأجزيتها حتما إن خيرا فخيرا وإن شرا فشر وفيه تنبيه على حرمة التعدى وإطلاق السيئة على الثانية

٣٤

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) (٤٥)

____________________________________

لأنها تسوء من نزلت به (فَمَنْ عَفا) عن المسىء إليه (وَأَصْلَحَ) بينه وبين من يعاديه بالعفو والإغضاء* كما فى قوله تعالى (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) عدة مبهمة منبئة عن* عظم شأن الموعود وخروجه عن الحد المعهود (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) البادئين بالسيئة والمعتدين فى* الانتقام (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) أى بعد ما ظلم وقد قرىء به (فَأُولئِكَ) إشارة إلى من باعتبار المعنى كما أن الضميرين لها باعتبار اللفظ (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) بالمعاتبة أو المعاقبة (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) يبتدئونهم بالإضرار أو يعتدون فى الانتقام (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أى* يتكبرون فيها تجبرا وفسادا (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر من الظلم والبغى بغير الحق (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بسبب ظلمهم وبغيهم (وَلَمَنْ صَبَرَ) على الأذى (وَغَفَرَ) لمن ظلمه ولم ينتصر وفوض أمره إلى الله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذى ذكر من الصبر والمغفرة (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أى إن ذلك منه فحذف* ثقة بغاية ظهوره كما فى قولهم السمن منوان بدرهم وهذا فى المواد التى لا يؤدى العفو إلى الشر كما أشير إليه (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) من ناصر يتولاه من بعد خذلانه تعالى إياه (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أى حين يرونه وصيغة الماضى للدلالة على التحقق (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ) أى* إلى رجعة إلى الدنيا (مِنْ سَبِيلٍ) حتى نؤمن ونعمل صالحا (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أى على النار المدلول عليها بالعذاب والخطاب فى الموضعين لكل من يتأتى منه الرؤية (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) متذللين* متضائلين مما دهاهم (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) أى يبتدىء نظرهم إلى النار من تحريك لأجفانهم ضعيف* كالمصبور ينظر إلى السيف (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ) أى المتصفين بحقيقة الخسران (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) بالتعريض للعذاب الخالد (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أما ظرف لخسروا فالقول فى*

٣٥

(وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) (٤٩)

____________________________________

الدنيا أو لقال فالقول يوم القيامة أى يقولون حين يرونهم على تلك الحال وصيغة الماضى للدلالة على تحققه وقوله تعالى (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) إما من تمام كلامهم أو تصديق من الله تعالى لهم (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ) رفع العذاب عنهم (مِنْ دُونِ اللهِ) حسبما كانوا يرجون ذلك فى الدنيا (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) يؤدى سلوكه إلى النجاة (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) إذا دعاكم إلى الإيمان على لسان نبيه (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أى لا يرده الله بعد ما حكم به على أن من صلة مرد أو من قبل أن يأتى من الله يوم لا يمكن رده (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) أى مفر تلتجئون إليه (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أى إنكاره لما اقترفتموه لأنه مدون فى صحائف أعمالكم وتشهد عليكم جوارحكم (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) تلوين للكلام وصرف له عن خطاب الناس بعد أمرهم بالاستجابة وتوجيه له إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه فما أرسلناك رقيبا ومحاسبا عليهم (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) وقد فعلت (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) أى نعمة من الصحة والغنى والأمن (فَرِحَ بِها) أريد بالإنسان الجنس لقوله تعالى* (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أى بلاء من مرض وفقر وخوف (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) بليغ الكفر ينسى النعمة رأسا ويذكر البلية ويستعظمها ولا يتأمل سببها بل يزعم أنها أصابته بغير استحقاق لها وإسناد هذه الخصلة إلى الجنس مع كونها من خواص المجرمين لغلبتهم فيما بين الأفراد وتصدير الشرطية الأولى بإذا مع إسناد الإذاقة إلى نون العظمة للتنبيه على أن إيصال النعمة محقق الوجود كثير الوقوع وأنه مقتضى الذات كما أن تصدير الثانية بأن وإسناد الإصابة إلى السيئة وتعليلها بأعمالهم للإيذان بندرة وقوعها وأنها بمعزل عن الانتظام فى سلك الإرادة بالذات ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فمن قضيته أن يملك التصرف فيهما وفى كل ما فيهما كيفما يشاء ومن جملته أن يقسم النعمة والبلية حسبما يريده (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) مما تعلمه ومما لا تعلمه (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) من الأولاد (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ)

٣٦

(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٥١)

____________________________________

منهم من غير أن يكون فى ذلك مدخل لأحد (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) أى يقرن بين الصنفين فيهبهما جميعا (ذُكْراناً وَإِناثاً) قالوا معنى يزوجهم أن تلد غلاما ثم جارية أو جارية ثم غلاما أو تلد ذكرا وأنثى توأمين (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) والمعنى يجعل أحوال العباد فى حق الأولاد مختلفة على ما تقتضيه المشيئة فيهن فيهب لبعض إما صنفا واحدا من ذكر أو أنثى وإما صنفين ويعقم آخرين ولعل تقديم الإناث لأنها أكثر لتكثير النسل أو لأن مساق الآية للدلالة على أن الواقع ما تتعلق به مشيئته تعالى لا ما تتعلق به مشيئة الإنسان والإناث كذلك أو لأن الكلام فى البلاء والعرب تعدهن أعظم البلايا أو لتطييب قلوب آبائهن أو للمحافظة على الفواصل ولذلك عرف الذكور أو لجبر التأخير وتغيير العاطف فى الثالث لانه قسيم المشترك بين القسمين ولا حاجة إليه فى الرابع لإفصاحه بأنه قسيم المشترك بين الأقسام المتقدمة وقيل المراد بيان أحوال الأنبياء عليهم‌السلام حيث وهب لشعيب ولوط إناثا ولإبراهيم ذكورا وللنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكورا وإناثا وجعل يحيى وعيسى عقيمين (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) مبالغ فى العلم والقدرة فيفعل ما فيه حكمة ومصلحة (وَما كانَ لِبَشَرٍ) أى وما صح لفرد من أفراد البشر (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) بوجه من الوجوه (إِلَّا وَحْياً) أى إلا بأن يوحى إليه ويلهمه ويقذف فى قلبه كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليهما‌السلام فى ذبح ولده وقد روى عن مجاهد أوحى الله الزبور إلى دواود عليه‌السلام فى صدره أو بأن يسمعه كلامه الذى يخلقه فى بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه وهو المراد بقوله تعالى (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) فإنه تمثيل له بحال الملك المحتجب الذى يكلم بعض خواصه من وراء الحجاب يسمع صوته ولا يرى شخصه وذلك كما كلم موسى وكما يكلم الملائكة عليهم‌السلام أو بأن يكلمه بواسطة الملك وذلك قوله تعالى (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) أى ملكا (فَيُوحِيَ) ذلك الرسول إلى المرسل إليه الذى هو الرسول البشرى (بِإِذْنِهِ) أى بأمره تعالى وتيسيره (ما يَشاءُ) أن يوحيه إليه وهذا هو الذى يجرى بينه تعالى وبين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فى عامة الأوقات من الكلام وقيل قوله تعالى (وَحْياً) وقوله تعالى (أَوْ يُرْسِلَ) مصدران واقعان موقع الحال وقوله تعالى (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ظرف واقع موقعها والتقدير وما صح أن يكلم الا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا وقرىء أو يرسل بالرفع على إضمار مبتدأ وروى أن اليهود قالت للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه فإنا لن نؤمن حتى تفعل ذلك فقال عليه‌السلام لم ينظر موسى عليه‌السلام إلى الله تعالى فنزلت وعن عائشة رضى الله عنها من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ثم قالت رضى الله عنها

٣٧

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٥٣)

____________________________________

* أو لم تسمعوا ربكم يقول فتلت هذه الآية (إِنَّهُ عَلِيٌّ) متعال عن صفات المخلوقين لا يتأتى جريان* المفاوضة بينه تعالى وبينهم إلا بأحد الوجوه المذكورة (حَكِيمٌ) يجرى أفعاله على سنن الحكمة فيكلم تارة بواسطة وأخرى بدونها إما الهاما وإما خطابا (وَكَذلِكَ) أى ومثل ذلك الإيحاء البديع* (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) هو القرآن الذى هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة* أبدية وقيل جبريل عليه‌السلام ومعنى إيحائه إليه عليهما‌السلام إرساله إليه بالوحى (ما كُنْتَ تَدْرِي) * قبل الوحى (مَا الْكِتابُ) أى أى شىء هو (وَلَا الْإِيمانُ) أى الإيمان بتفاصيل ما فى تضاعيف الكتاب من الأمور التى لا تهتدى إليها العقول لا الإيمان بما يستقل به العقل والنظر فإن درايته عليه* الصلاة والسلام له مما لا ريب فيه قطعا (وَلكِنْ جَعَلْناهُ) أى الروح الذى أوحيناه إليك (نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ) هدايته (مِنْ عِبادِنا) وهو الذى يصرف اختياره نحو الاهتداء به وقوله تعالى* (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) تقرير لهدايته تعالى وبيان لكيفيتها ومفعول لتهدى محذوف ثقة بغاية الظهور أى* وإنك لتهدى بذلك النور من نشاء هدايته (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو الإسلام وسائر الشرائع والأحكام وقرىء لتهدى أى ليهديك الله وقرىء لتدعو (صِراطِ اللهِ) بدل من الأول وإضافته إلى الاسم الجليل* ثم وصفه بقوله تعالى (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لتفخيم شأنه وتقرير استقامته وتأكيد وجوب سلوكه فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى خلقا وملكا وتصرفا مما يوجب ذلك* أتم إيجاب (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أى أمور ما فيهما قاطبة لا إلى غيره ففيه من الوعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم والوعيد للضالين عنه ما لا يخفى. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة حم عسق كان ممن تصلى عليه الملائكة ويستغفرون ويسترحمون له.

٣٨

٤٣ ـ سورة الزخرف

(وآياتها تسع وثمانون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤)

____________________________________

سورة الزخرف مكية مكية وقيل الا قوله (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا) (وآياتها تسع وثمانون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (حم) الكلام فيه كالذى مر فى فاتحة سورة يس خلا أن الظاهر على تقدير إسميته كونه اسما للقرآن لا للسورة كما قيل فإن ذلك مخل بجزالة النظم الكريم (وَالْكِتابِ) بالجر على أنه مقسم به إما ابتداء أو عطفا على حم على تقدير كونه مجرورا بإضمار باء القسم على أن مدار العطف المغايرة فى العنوان ومناط تكرير القسم المبالغة فى تأكيد مضمون الجملة القسمية (الْمُبِينِ) أى البين* لمن أنزل عليهم لكونه بلغتهم وعلى أساليبهم أو المبين لطريق الهدى من طريق الضلالة الموضح لكل ما يحتاج إليه فى أبواب الديانة (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) جواب للقسم لكن لا على أن مرجع التأكيد جعله كذلك كما قيل بل ما هو غايته التى يعرب عنها قوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فإنها المحتاجة إلى التحقيق* والتأكيد لكونها منبئة عن الاعتناء بأمرهم وإتمام النعمة عليهم وإزاحة أعذارهم أى جعلنا ذلك الكتاب قرآنا عربيا لكى تفهموه وتحيطوا بما فيه من النظم الرائق والمعنى الفائق وتقفوا على ما يتضمنه من الشواهد الناطقة بخروجه عن طوق البشر وتعرفوا حق النعمة فى ذلك وتنقطع أعذاركم بالكلية (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) أى فى اللوح المحفوظ فإنه أصل الكتب السماوية وقرىء إم الكتاب بالكسر (لَدَيْنا) أى عندنا (لَعَلِيٌّ) رفيع القدر بين الكتب شريف (حَكِيمٌ) ذو حكمة بالغة أو محكم وهما* خبران لأن وما بينهما بيان لمحل الحكم كأنه قيل بعد بيان اتصافه بما ذكر من الوصفين الجليلين هذا فى أم الكتاب ولدينا والجملة إما عطف على الجملة المقسم عليها داخلة فى حكمها ففى الإقسام بالقرآن على علو قدره عنده تعالى براعة بديعة وإيذان بأنه من علو الشأن بحيث لا يحتاج فى بيان إلى الاستشهاد عليه بالإقسام بغيره بل هو بذاته كاف فى الشهادة على ذلك من حيث الإقسام به كما أنه كاف فيها من حيث إعجازه ورمز إلى أنه لا يخطر بالبال عند ذكره شىء آخر أولى منه بالإقسام به وأما مستأنفة مقررة لعلو شأنه الذى أنبأ عنه الإقسام به على منهاج الاعتراض فى قوله تعالى (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ

٣٩

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٠)

____________________________________

وبعد ما بين علو شأن القرآن العظيم وحقق أن إنزاله على لغتهم ليعقلوه ويؤمنوا به ويعملوا بموجبه عقب ذلك بإنكار أن يكون الأمر بخلافه فقيل (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ) أى ننحيه ونبعده عنكم مجاز من قولهم ضرب الغرائب عن الحوض وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجه الذكر إليهم وملازمته لهم* كأنه يتهافت عليهم والفاء للعطف على محذوف يقتضيه المقام أى أنهملكم فننحى الذكر عنكم (صَفْحاً) أى إعراضا عنكم على أنه مفعول له للمذكور أو مصدر مؤكد لما دل هو عليه فإن التنحية منبئة عن الصفح والإعراض قطعا كأنه قيل أفنصفح عنكم صفحا أو بمعنى الجانب فينتصب على الظرفية أى* أفننحيه عنكم جانبا (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) أى لأن كنتم منهمكين فى الإسراف مصرين عليه على معنى أن حالكم وإن اقتضى تخليتكم وشأنكم حتى تموتوا على الكفر والضلالة وتبقوا فى العذاب الخالد لكنا لسعة رحمتنا لا نفعل ذلك بل نهديكم إلى الحق بإرسال الرسول الأمين وإنزال الكتاب المبين وقرىء إن بالكسر على أن الجملة شرطية مخرجة للمحقق مخرج المشكوك لاستجهالهم والجزاء محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه وقوله تعالى (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) تقرير لما قبله ببيان أن إسراف الأمم السالفة لم يمنعه تعالى من إرسال الأنبياء إليهم وتسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن استهزاء قومه به وقوله تعالى (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أى من هؤلاء القوم المسرفين عدة له عليه الصلاة والسلام ووعيد لهم بمثل ما جرى على الأولين ووصفهم بأشدية البطش لإثبات حكمهم لهؤلاء بطريق الأولوية (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أى سلف فى القرآن غير مرة ذكر قصتهم التى حقها أن تسير مسير المثل (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أى ليسندن خلقها الى من هذا شأنه فى الحقيقة وفى نفس الأمر لا أنهم يعبرون عنه بهذا العنوان وسلوك هذه الطريقة للإشعار بأن اتصافه تعالى بما سرد من جلائل الصفات والأفعال وبما يستلزمه ذلك من البعث والجزاء أمر بين لا ريب فيه وأن الحجة قائمة عليهم شاؤا أو أبوا وقد جوز أن يكون ذلك عين عبارتهم وقوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) استئناف من جهته تعالى أى بسطها لكم تستقرون فيها (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) تسلكونها فى أسفاركم (لَعَلَّكُمْ

٤٠