تفسير أبي السّعود - ج ٨

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٨

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ) (٣٣)

____________________________________

إليه فى ذواتهم ووجوداتهم حدوثا وبقاء وسائر أحوالهم سؤالا مستمرا بلسان المقال أو بلسان الحال فإنهم كفة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل من استحقاق الوجود وما يتفرع عليه من الكمالات بالمرة بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلاقة لم يشموا رائحة الوجود أصلافهم فى كل آن مستمرون على الاستدعاء والسؤال وقد مر فى تفسير قوله تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) من سورة إبراهيم عليه‌السلام (كُلَّ يَوْمٍ) أى كل وقت من الأوقات (هُوَ فِي شَأْنٍ) من الشؤن التى* من جملتها إعطاء ما سألوا فإنه تعالى لا يزال ينشىء أشخاصا ويفنى آخرين ويأتى بأحوال ويذهب بأحوال حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة وفى الحديث من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين قبل وفيه رد على اليهود حيث يقولون إن الله لا يقضى يوم السبت شيئا (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مع مشاهدتكم لما ذكر من إحسانه (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) أى سنتجرد لحسابكم وجزائكم وذلك يوم القيامة عند انتهاء شؤن الخلق المشار إليها بقوله تعالى (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فلا يبقى حينئذ إلا شأن واحد هو الجزاء فعبر عنه بالفراغ لهم بطريق التمثيل وقيل هو مستعار من قول المتهدد لصاحبه سأفرغ لك أى سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلنى عنه والمراد التوفر على النكاية فيه والانتقام منه وقرىء سيفرغ مبنيا للفاعل وللمفعول وقرىء سنفرغ إليكم أى سنقصد إليكم (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) هما الإنس والجن سميا بذلك لثقلهما على الأرض أو لرزانة آرائهما أو لأنهما مثقلان* بالتكليف (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما) التى من جملتها التنبيه على ما سيلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدى إلى سوء الحساب (تُكَذِّبانِ) بأقوالكما وأعمالكما (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) هما الثقلان خوطبا باسم جنسهما لزيادة التقرير ولأن الجن مشهورون بالقدرة على الأفاعيل الشاقة فخوطبوا بما ينبىء عن ذلك لبيان أن قدرتهم لا تفى بما كلفوه (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ) إن قدرتم على (أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) * أى أن تهربوا من قضائى وتخرجوا من ملكوتى ومن أقطار سمواتى وأرضى (فَانْفُذُوا) منها وخلصوا* أنفسكم من عقابى (لا تَنْفُذُونَ) لا تقدرون على النفوذ (إِلَّا بِسُلْطانٍ) أى بقوة وقهر وأنتم من ذلك* بمعزل بعيد روى أن الملائكة تنزل فتحيط بالخلائق فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجها

١٨١

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٠)

____________________________________

إلا وجدوا الملائكة أحاطت به (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أى من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة على العقوبة (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ) قيل هو اللهب الخالص وقيل المختلط بالدخان وقيل اللهب الأحمر وقيل اللهب الأخضر المنقطع من النار وقيل هو الدخان الخارج من اللهب وقيل هو* النار والدخان جميعا وقرىء شواظ بكسر الشين (مِنْ نارٍ) متعلق بيرسل أو بمضمر هو صفة لشواظ* أى كائن من نار والتنوين للتفخيم (وَنُحاسٌ) أى دخان وقيل صفر مذاب يصب على رؤسهم وقرىء بكسر النون وقرىء بالجر عطفا على نار وقرىء نرسل بنون العظمة ونصب شواظا ونحاسا وقرىء* نحس جمع نحاس مثل لحاف ولحف وقرىء ونحس أى نقتل بالعذاب (فَلا تَنْتَصِرانِ) أى لا تمتنعان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن بيان عاقبة ما هم عليه من الكفر والمعاصى لطف وأى لطف ونعمة وأى نعمة (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) أى انصدعت يوم القيامة (فَكانَتْ وَرْدَةً) كوردة حمراء وقرىء وردة بالرفع على أن كان تامة أى حصلت سماء وردة فيكون من باب التجريد كقول من قال[ولئن بقيت لأرحلن بغزوة * تحوى الغنائم أو يموت كريم] (كَالدِّهانِ) خبر ثان لكانت أو نعت لوردة أو حال من اسم كانت أى كدهن الزيت وهو إما جمع دهن أو اسم لما يدهن به كالحزام والإدام وقيل هو الأديم الأحمر وجواب إذا محذوف أى يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به دائرة المقال (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مع عظم شأنها (فَيَوْمَئِذٍ) أى يوم إذ تنشق السماء حسبما ذكر (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) لأنهم يعرفون بسيماهم وذلك أول ما يخرجون من القبور ويحشرون إلى الموقف ذودا ذودا على اختلاف مراتبهم وأما قوله تعالى (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ونحوه ففى موقف المناقشة والحساب وضمير ذنبه للإنس لتقدمه رتبة وإفراده لما أن المراد فرد من الإنس كأنه قيل لا يسأل ذنبه إنسى ولا جنى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مع كثرة منافعها فإن الإخبار بما ذكر مما يزجركم عن

١٨٢

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٤٦)

____________________________________

الشر المؤدى إليه وأما ما قيل مما أنعم الله على عباده المؤمنين فى هذا اليوم فلا تعلق له بالمقام وقوله تعالى (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) استئناف يجرى مجرى التعليل لعدم السؤال قيل يعرفون بسواد الوجوه وزرقة العيون وقيل بما يعلوهم من الكآبة والحزن (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) الجار والمجرور* هو القائم مقام الفاعل يقال أخذه إذا كان المأخوذ مقصودا بالأخذ ومنه قوله تعالى (خُذُوا حِذْرَكُمْ) ونحوه وأخذ به إذا كان المأخوذ شيئا من ملابسات المقصود بالأخذ ومنه قوله تعالى (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) وقول المستغيث خذ بيدى أخذ الله بيدك أى يجمع بين نواصيهم وأقدامهم فى سلسلة من وراء ظهورهم وقيل تسحبهم الملائكة تارة تأخذ بالنواصى وتارة تأخذ بالأقدام (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله تعالى (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) على إرادة القول أى يقال لهم ذلك بطريق التوبيخ على أن الجملة إما استئناف وقع جوابا عن سؤال ناشىء من حكاية الأخذ بالنواصى والأقدام كأنه قيل فماذا يفعل بهم عند ذلك فقيل يقال الخ أو حال من أصحاب النواصى والأقدام لأن الألف واللام عوض عن المضاف إليه وما بينهما اعتراض (يَطُوفُونَ بَيْنَها) أى بين النار يحرقون بها (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) ماء بالغ من الحرارة أقصاها يصب عليهم أو يسقون منه وقيل إذا استغاثوا من النار أغيثوا بالحميم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقد أشير إلى سر كون بيان أمثال هذه الأمور من قبيل الآلاء مرارا (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) شروع فى تعداد الآلاء الفائضة عليهم فى الآخرة بعد تعداد ما وصل إليهم فى الدنيا من الآلاء الدينية والدنيوية واعلم أن ما عدد فيما بين هذه الآية وبين خاتمة السورة الكريمة من فنون الكرامات كما أن أنفسها آلاء جليلة واصلة إليهم فى الآخرة كذلك حكاياتها الواصلة إليهم فى الدنيا آلاء عظيمة لكونها داعية لهم إلى السعى فى تحصيل ما يؤدى إلى نيلها من الإيمان والطاعة وأن ما فصل من فاتحة السورة الكريمة إلى قوله تعالى (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) من النعم الدينية والدنيوية الأنفسية والآفاقية آلاء جليلة واصلة إليهم فى الدنيا وكذلك حكاياتها من حيث إيجابها للشكر والمثابرة على

١٨٣

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٣)

____________________________________

ما يؤدى إلى استدامتها وأما ما عدد فيما بين قوله تعالى (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) وبين هذه الآية من الأحوال الهائلة التى ستقع فى الآخرة فليست هى من قبيل الآلاء وإنما الآلاء حكاياتها الوجية للانزجار عما يؤدى إلى الابتلاء بها من الكفر والمعاصى كما أشير إليه فى تضاعيف تعدادها ومقامه تعالى موقفه الذى يقف فيه العباد للحساب يوم يقوم الناس لرب العالمين أو قيامه تعالى على أحواله من قام عليه إذا راقبه أو مقام الخائف* عند ربه للحساب بأحد المعنيين وإضافته إلى الرب للتفخيم والتهويل أو مقحم للتعظيم (جَنَّتانِ) جنة للخائف الأنسى وجنة للخائف الجنى فإن الخطاب للفريقين فالمعنى لكل خائفين منكما أو لكل واحد جنة لعقيدته وأخرى لعمله أو جنة لفعل الطاعات وأخرى لترك المعاصى أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه أو روحانية وجسمانية وكذا ما جاء مثنى بعد (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله تعالى (ذَواتا أَفْنانٍ) صفة لجنتان وما بينهما اعتراض وسط بينهما تنبيها على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة موجب للإنكار والتوبيخ والأفنان إما جمع فن أى ذواتا أنواع من الأشجار والثمار أو جمع فنن أى ذواتا أغصان متشعبة من فروع الشجر وتخصيصها بالذكر لأنها التى تورق وتثمر وتمد ، الظل (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وليس فيها شىء يقبل التكذيب (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) صفة أخرى لجنتان أى فى كل واحدة منهما عين تجرى كيف يشاء صاحبها فى الأعالى والأسافل وقيل تجريان من جبل من مسك وعن ابن عباس والحسن تجريان بالماء الزلال إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل وقيل إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين قال أبو بكر الوراق فيهما عينان تجريان لمن كانت عيناه فى الدنيا تجريان من مخافة الله عزوجل (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله تعالى (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) أى صنفان معروف وغريب أو رطب ويابس صفة أخرى لجنتان وتوسيط الاعتراض بين الصفات لما مر آنفا (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

١٨٤

(مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ) (٦٠)

____________________________________

وقوله تعالى (مُتَّكِئِينَ) حال من الخائفين لأن من خاف فى معنى الجمع أو نصب على المدح (عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) من ديباج ثخين وحيث كانت بطائنها كذلك فما ظنك بظهائرها وقيل ظهائرها من سندس وقيل من نور (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) أى ما يجتنى من أشجارها من الثمار قريب يناله القائم والقاعد والمضطجع* قال ابن عباس رضى الله عنهما تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولى الله إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء مضطجعا وقرىء بكسر الجيم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله تعالى (فِيهِنَّ) أى فى الجنان المدلول عليها بقوله تعالى (جَنَّتانِ) لما عرفت أنهما لكل خائفين من الثقلين أو لكل خائف حسب تعدد عمله وقد اعتبر الجمعية فى قوله تعالى (مُتَّكِئِينَ) وقيل فيما فيهما من الأماكن والقصور وقيل فى هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والفاكهة والفرش (قاصِراتُ الطَّرْفِ) نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن* لا ينظرن إلى غيرهم (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) أى لم يمس الإنسيات أحد من الإنس ولا الجنيات* أحد من الجن قبل أزواجهن المدلول عليهم بقاصرات الطرف وقيل بقوله تعالى (مُتَّكِئِينَ) وفيه دليل على أن الجن يطمثون وقرىء يطمثهن بضم الميم والجملة صفة لقاصرات الطرف لأن إضافتها لفظية أو حال منها لتخصصها بالإضافة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله تعالى (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) إما صفة لقاصرات الطرف أو حال منها كالتى قبلها أى مشبهات بالياقوت فى حمرة الوجنة والمرجان أى صغار الدر فى بياض البشر وصفائها فإن صغار الدر أنصع بياضا من كباره قيل إن الحوراء تلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر فى الزجاجة البيضاء (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله تعالى (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) استئناف مقرر لمضمون ما فصل قبله أى ما جزاء الإحسان فى العمل إلا الإحسان فى الثواب.

١٨٥

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) (٧٠)

____________________________________

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله تعالى (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) مبتدأ وخبر أى ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للخائفين المقربين جنتان أخريان لمن دونهن من أصحاب اليمين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله تعالى (مُدْهامَّتانِ) صفة لجنتان وسط بينهما الاعتراض لما ذكر من التنبيه على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة حقيق نالإنكار والتوبيخ أى خضراوان تضربان إلى السواد من شدة الخضرة وفيه إشعار بأن الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض وعلى الأولين الأشجار والفواكه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) أى فوارتان بالماء والنضخ أكثر من النضح بالحاء المهملة وهو الرش (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) عطف الأخيران على الفاكهة عطف جبريل وميكال على الملائكة بيانا لفضلهما فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء والرمان فاكهة ودواء وعن هذا قال أبو حنيفة رحمه‌الله من حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله تعالى (فِيهِنَّ خَيْراتٌ) صفة أخرى لجنتان كالجملة التى قبلها والكلام فى جميع الضمير كالذى مر فيما مر* وخيرات مخففة من خيرات لأن خيرا الذى بمعنى أخير لا يجمع وقد قرىء على الأصل (حِسانٌ) أى حسان الخلق والخلق.

١٨٦

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٧٨)

____________________________________

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله تعالى (حُورٌ) بدل من خيرات (مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) قصرن فى خدورهن يقال امرأة قصيرة وقصورة أى مخدرة أو مقصورات الطرف على أزواجهن وقيل إن الخيمة من خيامهن درة مجوفة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله تعالى (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) كالذى مر فى نظيره من جميع الوجوه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (مُتَّكِئِينَ) نصب على الاختصاص (عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) الرفرف إما اسم جنس أو اسم جمع واحده رفرفة قيل هو ما تدلى* من الأسرة من أعالى الثياب وقيل هو ضرب من البسط أو البسط وقيل الوسائد وقيل النمارق وقيل كل ثوب عريض رفرف وقيل لأطراف البسط وفضول الفسطاط رفارف ورفرف السحاب هيدبه (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) العبقرى منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد الجن فينسبون إليه كل شىء* عجيب والمراد به الجنس ولذلك وصف بالجمع حملا على المعنى كما فى رفرف على أحد الوجهين وقرىء على رفارف خضر بضمتين وعباقرى كمدائنى نسبة إلى عباقر فى اسم البلد (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله تعالى (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) تنزيه وتقديس له تعالى فيه تقرير لما ذكر فى السورة الكريمة من آلائه الفائضة على الأنام أى تعالى اسمه الجليل الذى من جملته ما صدرت به السورة من اسم الرحمن المنبىء عن إفاضته الآلاء المفصلة وارتفع عما لا يليق بشأنه من الأمور التى من جملتها جحود نعمائه وتكذيبها وإذا كان حال اسمه بملابسة دلالته عليه فما ظنك بذاته الأقدس الأعلى وقيل الاسم بمعنى الصفة وقيل مقحم كما فى قول من قال [إلى الحول ثم اسم السلام عليكما] (ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) * وصف به الرب تكميلا لما ذكر من التنزيه والتقرير وقرىء ذو الجلال على أنه نعت للاسم. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الرحمن أدى شكر ما أنعم الله عليه.

١٨٧

٥٦ ـ سورة الواقعة

(مكية وهى ست وتسعون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) (٥)

____________________________________

(سورة الواقعة مكية إلا آية ٨١ ، ٨٢ فمدنيتان وآياتها ست وتسعون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أى إذا قامت القيامة وذلك عند النفخة الثانية والتعبير عنها بالواقعة للإيذان بتحقق وقوعها لا محالة كأنها واقعة فى نفسها مع قطع النظر عن الوقوع الواقع فى حيز الشرط كأنه قيل كانت الكائنة وحدثت الحادثة وانتصاب إذا بمضمر ينبىء عن الهول والفظاعة كأنه قيل إذا وقعت الواقعة يكون من الأهوال ما لا يفى به المقال وقيل بالنفى المفهوم من قوله تعالى (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أى لا يكون عند وقوعها نفس تكذب على الله تعالى أو تكذب فى نفيها كما تكذب اليوم واللام كهى فى قوله تعالى (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) وهذه الجملة على الوجه الأول اعتراض مقرر لمضمون الشرط على أن الكاذبة مصدر كالعافية أى ليس لأجل وقعتها وفى حقها كذب أصلا بل كل ما ورد فى شأنها من الأخبار حق صادق لا ريب فيه وقوله تعالى (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) خبر مبتدأ محذوف أى هى خافضة لأقوام رافعة لآخرين وهو تقرير لعظمتها وتهويل لأمرها فإن الوقائع العظام شأنها كذلك أو بيان لما يكون يومئذ من حط الأشقياء إلى الدركات ورفع السعداء إلى الدرجات ومن زلزلة الأشياء وإزالة الأجرام عن مقارها بنثر الكواكب وإسقاط السماء كسفا وتسيير الجبال فى الجو كالسحاب وتقديم الخفض على الرفع للتشديد فى التهويل وقرىء خافضة رافعة بالنصب على الحال من الواقعة وقوله تعالى (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أى زلزلت زلزالا شديدا بحث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل متعلق بخافضة رافعة أى تخفض وترفع وقت رج الأرض إذ عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض أو بدل من إذا وقعت (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أى فتتت حتى صارت

١٨٨

(فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (١٠)

____________________________________

مثل السويق الملتوت من بس السويق إذالته أو سيقت وسيرت من أماكنها من بس الغنم إذا ساقها كقوله تعالى (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) وقرىء رجت وبست أى ارتجت وذهبت (فَكانَتْ) أى فصارت بسبب ذلك (هَباءً) غبارا (مُنْبَثًّا) منتشرا (وَكُنْتُمْ) إما خطاب للأمة الحاضرة والأمم السالفة تغليبا أو للحاضرة (أَزْواجاً) أى أصنافا (ثَلاثَةً) فكل صنف يكون مع صنف آخر فى الوجود أو فى الذكر فهو زوج* وقوله تعالى (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) تقسيم وتنويع للأزواج الثلاثة مع الإشارة الإجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها فقوله تعالى (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) مبتدأ وقوله (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) خبره على أن ما الاستفهامية مبتدأ ثان ما بعده خبره والجملة خبر الأول والأصل ما هم أى أى شىء هم فى حالهم وصفتهم فإن ما وإن شاعت فى طلب مفهوم الاسم والحقيقة لكنها قد يطلب بها الصفة والحال تقول ما زيد فيقال عالم أو طبيب فوضع الظاهر موضع الضمير لكونه أدخل فى التفخيم وكذا الكلام فى قوله تعالى (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) والمراد تعجيب السامع من شأن الفريقين فى الفخامة والفظاعة كأنه قيل فأصحاب الميمنة فى غاية حسن الحال وأصحاب المشأمة فى نهاية سوء الحال وتكلموا فى الفريقين فقيل أصحاب الميمنة أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المشأمة أصحاب المنزلة الدنية أخذا من تيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل وقيل الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم وقيل الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة والذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار وقيل أصحاب اليمين وأصحاب الشؤم فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم عليها بمعاصيهم وقوله تعالى (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) هو القسم الثالث من الأزواج الثلاثة ولعل تأخير ذكرهم مع كونهم أسبق الأقسام وأقدمهم فى الفضل ليقترن ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم على أن يرادهم بعنوان السبق مطلقا معرب عن إحرازهم لقصب السبق من جميع الوجوه وتكلموا فيهم أيضا فقيل هم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة عند ظهور الحق من غير تلعثم وتوان وقيل الذين سبقوا فى حيازة الفضائل والكمالات وقيل هم الذين صلوا إلى القبلتين كما قال تعالى (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) وقيل هم السابقون إلى صلوات الخمس وقيل المسارعون فى الخيرات وأيا ما كان فالجملة مبتدأ وخبر

١٨٩

(أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (١٤)

____________________________________

والمعنى والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت محاسنهم كقول أبى النجم [أنا أبو النجم وشعرى شعرى] وفيه من تفخيم شأنهم والإيذان بشيوع فضلهم واستغنائهم عن الوصف بالجميل ما لا يخفى وقيل والسابقون إلى طاعة الله تعالى السابقون إلى رحمته أو السابقون إلى الخير والسابقون إلى الجنة وقوله تعالى (أُولئِكَ) إشارة إلى السابقين وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلتهم فى الفضل ومحله الرفع على الابتداء خبره ما بعده أى أولئك الموصوفون بذلك النعت* الجليل (الْمُقَرَّبُونَ) أى الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم وأعليت مراتبهم ورقيت إلى حظائر القدس نفوسهم الزكية هذا أظهر ما ذكر فى إعراب هذه الجمل وأشهره والذى تقتضيه جزالة التنزيل أن قوله تعالى (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) خبر مبتدأ محذوف وكذا قوله تعالى (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) وقوله تعالى (وَالسَّابِقُونَ) فإن المترقب عند بيان انقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام الثلاثة وأما أوصافها وأحوالها فحقها أن تبين بعد ذلك بإسنادها إليها والتقدير فأحدها أصحاب الميمنة والآخر أصحاب المشأمة والثالث السابقون خلا أنه لما أخر بيان أحوال القسمين الأولين عقب كل منهما بجملة معترضة بين القسمين منبئة عن ترامى أحوالهما فى الخير والشر إنباء إجماليا مشعرا بأن لأحوال كل منهما تفصيلا مترقبا لكن لا على أن ما الاستفهامية مبتدأ وما بعدها خبر على ما رآه سيبويه فى أمثاله بل على أنها خبر لما بعدها فإن مناط الإفادة بيان أن أصحاب الميمنة أمر بديع كما يفيده كون ما خبر إلا بيان أن أمرا بديعا أصحاب الميمنة كما يفيده كونها مبتدأ وكذا الحال فى ما أصحاب المشأمة وأما القسم الأخير فحيث قرن بيان محاسن أحواله بذكره لم يحتج فيه إلى تقديم إلا نموذج فقوله تعالى (السَّابِقُونَ) مبتدأ والإظهار فى مقام الإضمار للتفخيم وأولئك مبتدأ ثان أو بدل من الأول وما بعده خبر له أو الثانى والجملة خبر للأول وقوله تعالى (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) متعلق بالمقربون أو بمضمر هو حال من ضميره أى كائنين فى جنات النعيم وقيل خبر ثان لاسم الإشارة وفيه أن الأخبار بكونهم مقربين ليس فيه مزيد مزية وقرىء فى جنة النعيم وقوله تعالى (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) خبر مبتدأ محذوف أى هم أمة جمة من الأولين وهم الأمم السالفة من لدن آدم إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وعلى من بينهما من الأنبياء العظام (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أى من هذه الأمة ولا يخالفه قوله عليه الصلاة والسلام إن أمتى يكثرون

١٩٠

(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٢١)

____________________________________

سائر الأمم فإن أكثرية سابقى الأمم السالفة من سابقى هذه الأمة لا تمنع أكثرية تابعى هؤلاء من تابعى أولئك ولا يرده قوله تعالى فى أصحاب اليمين (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) لأن كثرة كل من الفريقين فى أنفسهما لا تنافى أكثرية أحدهما من الآخر وسيأتى أن الثلثين من هذه الأمة وقد روى مرفوعا أن الأولين والآخرين ههنا أيضا متقدمو هذه الأمة ومتأخروهم واشتقاق الثلة من الثل وهو الكسر (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) حال أخرى من المقربين أو من ضميرهم فى الحال الأولى وقيل خبر آخر للضمير والموضونة المنسوجة بالذهب مشبكة بالدر والياقوت أو المتواصلة من الوضن وهو النسج (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) حالان من الضمير المستكن فيما تعلق به على سرر أى مستقرين على سرر متكئين عليها متقابلين لا ينظر بعضهم من أقفاء بعض وهو وصف لهم بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق والآداب (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) حال أخرى أو استئناف أى يدور حولهم للخدمة (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أى مبقون أبدا على شكل الولدان وطرواتهم لا يتحولون عنها وقيل مقرطون والخلد القرط قيل هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها روى ذلك عن على رضى الله عنه وعن الحسن رحمه‌الله وفى الحديث أولاد الكفار خدام أهل الجنة (بِأَكْوابٍ) بآنية لا عرى لها ولا خراطيم (وَأَبارِيقَ) أى آنية ذات عرى وخراطيم (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أى خمر جارية من العيون قيل إنما* أفرد الكأس لأنها لا تسمى كأسا إلا إذا كانت مملوءة (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) أى بسببها وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها وقرىء لا يصدعون أى لا يتصدعون ولا يتفرقون كقوله تعالى (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) وقرىء لا يصدعون أى لا يفرق بعضهم بعضا (وَلا يُنْزِفُونَ) أى لا يسكرون من أنزف الشارب إذا نفد عقله* أو شرابه (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) أى يختارونه ويأخذون خبره وأفضله (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أى يتمنون وقرىء ولحوم طير.

١٩١

(وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩)

____________________________________

(وَحُورٌ عِينٌ) بالرفع عطف على ولدان أو مبتدأ محذوف الخبر أى وفيها أو لهم حور وقرىء بالجر عطفا على جنات النعيم كأنه قيل هم فى جنات وفاكهة ولحم ومصاحبة حور أو على أكواب لأن معنى يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب ينعمون بأكواب وبالنصب أى ويؤتون حورا (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) صفة لحور أو حال (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) مفعول له أى يفعل بهم ذلك جزاء بأعمالهم أو مصدر مؤكد أى يجزون جزاء (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) أى باطلا (وَلا تَأْثِيماً) أى ولا نسبة إلى الإثم أى لا لغو فيها ولا تأثيم ولا سماع كقوله [ولا ترى الضب بها ينجحر] (إِلَّا قِيلاً) أى قولا* (سَلاماً سَلاماً) بدل من (قِيلاً) كقوله تعالى (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) أو صفته أو مفعوله بمعنى لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاما سلاما والمعنى أنهم يفشون السلام فيسلمون سلاما بعد سلام أولا يسمع كل من المسلم والمسلم عليه الإسلام الآخر بدءا أو ردا وقرىء سلام سلام على الحكاية وقوله تعالى (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ) شروع فى تفصيل ما أجمل عند تقسيم من شؤنهم الفاضلة إثر تفصيل شؤن* السابقين وهو مبتدأ وقوله تعالى (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) جملة استفهامية مسوقة لتفخيمهم والتعجيب من حالهم وقد عرفت كيفية سبكها محلها إما الرفع على أنها خبر للمبتدأ أو معترضة لا محل لها والخبر قوله تعالى (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) وهو على الأول خبر ثان للمبتدأ أو خبر لمبتدأ محذوف والجملة استئناف لبيان ما أبهم فى قوله تعالى (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) من علو الشأن أى هم فى سدر غير ذى شوك لا كسدر الدنيا وهو شجر النبق كأنه خضد شوكه أى قطع وقيل مخضود أى مثنى أغصانه لكثرة حمله من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) قد نضد حمله من أسفله إلى أعلاه ليست له ساق بارزة وهو شجر

١٩٢

(وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً) (٣٧)

____________________________________

الموز أو أم غيلان وله أنوار كثيرة منتظمة طيبة الرائحة وعن السدى شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل وعن على رضى الله عنه أنه قرأ وطلع وما شأن الطلح وقرأ قوله تعالى (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) فقيل أو نحو لها قال آى القرآن لا تهاج ولا تحول وعن ابن عباس نحوه (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) ممتد منبسط لا يتقلص ولا يتعاون كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) يسكب لهم أينما شاؤا وكيفما أرادوا بلا تعب أو مصبوب سائل يجرى على الأرض فى غير أخدود كأنه مثل حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن وقال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البوادى إيذان بالتعاون بين الحالين (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) بحسب الأنواع والأجناس (لا مَقْطُوعَةٍ) فى وقت من الأوقات كفواكه الدنيا (وَلا مَمْنُوعَةٍ) عن متناوليها بوجه من الوجوه لا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا وقرىء* فاكهة كثيرة بالرفع على وهناك فاكهة الخ كقوله تعالى (وَحُورٌ عِينٌ) (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) أى رفيعة القدر أو منضدة مرتفعة أو مرفوعة على الأسرة وقيل الفرش النساء حيث يكنى بالفراش عن المرأة وارتفاعها كونهن على الأرائك قال تعالى (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) ويدل عليه قوله تعالى (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) وعلى التفسير الأول أضمر لهن لدلالة ذكر الفرش التى هى المضاجع عليهن دلالة بينة والمعنى ابتدأنا خلقهن ابتداء جديدا أو أبدعناهن من غير ولاد إبداء أو إعادة وفى الحديث هن اللواتى قبضن فى دار الدنيا عجائز شمطا رمصا جعلهن الله تعالى بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد فى الاستواء كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا وقوله تعالى (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) وقوله تعالى (عُرُباً)

١٩٣

(لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) (٤٥)

____________________________________

* جمع عروب وهى المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل وقرىء عربا بسكون الراء (أَتْراباً) مستويات فى السن بنات ثلاث وثلاثين سنة وكذا أزواجهن واللام فى قوله تعالى (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) متعلقة بأنشأنا أو جعلنا أو باترابا كقولك هذا ترب لهذا أى مساوله فى السن وقيل بمحذوف هو صفة لأبكار أى كائنات لأصحاب اليمين أو خبر مبتدأ محذوف أى هن لأصحاب اليمين وقيل خبر لقوله تعالى (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وهو بعيد بل هو خبر مبتدأ محذوف ختمت به قصة أصحاب اليمين أى هم أمة من الأولين وأمة من الآخرين وقد مر الكلام فيهما وعن أبى العالية ومجاهد وعطاء والضحاك ثلة من الأولين أى من سابقى هذه الأمة وثلة من الآخرين من هذه الأمة فى آخر الزمان وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما فى هذه الآية قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم جميعا من أمتى (وَأَصْحابُ الشِّمالِ) شروع فى تفصيل أحوالهم التى أشير عند التنويع إلى هولها وفظاعتها بعد* تفصيل حسن حال أصحاب اليمين والكلام فى قوله تعالى (ما أَصْحابُ الشِّمالِ) عين ما فصل فى نظيره وكذا فى قوله تعالى (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ) والسموم حر نار ينفذ فى المسام والحميم الماء المتناهى فى الحرارة ، (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) من دخان أسود بهيم (لا بارِدٍ) كسائر الظلال (وَلا كَرِيمٍ) فيه خير ما فى الجملة سمى ذلك ظلا ثم نفى عنه وصفاه البرد والكرم الذى عبر به عن دفع أذى الحر لتحقيق أنه ليس بظل وقرىء لا بارد ولا كريم بالرفع أى لا هو بارد ولا كريم وقوله تعالى (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب أى إنهم كانوا قبل ما ذكر من سوء العذاب فى الدنيا منعمين بأنواع النعم من المآكل والمشارب والمساكن الطيبة والمقامات الكريمة منهمكين فى الشهوات فلا جرم عذبوا

١٩٤

(وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) (٥١)

____________________________________

بنقائضها (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) أى الذنب العظيم الذى هو الشرك ومنه قولهم بلغ الغلام الحنث أى الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب (وَكانُوا يَقُولُونَ) لغاية عتوهم وعنادهم (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً) أى كان بعض أجزائنا من اللحم والجلد ترابا وبعضها عظاما نخرة وتقديم التراب لعراقته فى الاستبعاد وانقلابه من الأجزاء البادية وإذا متمحضة للظرفية والعامل فيها ما دل عليه قوله تعالى (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) لا نفسه لأن ما بعد إن واللام والهمزة لا يعمل فيما قبلها وهو نبعث وهو المرجع للإنكار* وتقييده بالوقت المذكور ليس لتخصيص إنكاره به فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله بل لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إليه فى حالة منافية له بالكلية وتكرير الهمزة لتأكيد النكير وتحلية الجملة بأن لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما عسى يتوهم من ظاهر النظم فإن تقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة كما فى مثل قوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) على رأى الجمهور فإن المعنى عندهم تعقيب الإنكار لا إنكار التعقيب كما هو المشهور وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين فى المبعوثية بالفعل فى حال كونهم ترابا وعظاما بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له ومرجعه إلى إنكار البعث بعد تلك الحالة وفيه من الدلالة على غلوهم فى الكفر وتماديهم فى الضلال ما لا مزيد عليه وتكرير الهمزة فى قوله تعالى (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) لتأكيد النكير والواو للعطف على المستكن فى لبمعوثون وحسن ذلك الفصل بالهمزة يعنون أن بعث آبائهم الأولين أبعد من الوقوع وقرىء أو آباؤنا (قُلْ) ردا لإنكارهم وتحققا للحق (إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) من الأمم الذين من جملتهم أنتم وآباؤكم وفى تقديم الأولين مبالغة فى* الرد حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشد من إنكارهم لبعثهم مع مراعاة الترتيب الوجودى (لَمَجْمُوعُونَ) بعد البعث وقرىء لمجمعون (إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم والإضافة* بمعنى من كخاتم فضة (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) عطف على أن الأولين داخل تحت القول وثم للتراخى زمانا أو رتبة (الْمُكَذِّبُونَ) أى بالبعث والخطاب لأهل مكة وأضرابهم.*

١٩٥

(لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) (٥٧)

____________________________________

(لَآكِلُونَ) بعد البعث والجمع ودخول جهنم (مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) من الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الشجر وتفسيره أى مبتدئون الأكل من شجر هو زقوم وقيل من الثانية متعلقة بمضمر هو وصف لشجر أى كائن من زقوم (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) أى بطونكم من شدة الجوع (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) عقيب ذلك بلا ريث (مِنَ الْحَمِيمِ) أى الماء الحار فى الغاية وتأنيث ضمير الشجر أولا وتذكيره ثانيا باعتبار المعنى واللفظ وقرىء من شجرة فضمير عليه حينئذ للزقوم وقيل للآكل وقوله تعالى (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) كالتفسير لما قبله على طريقة قوله تعالى (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) أى لا يكون شربكم شربا معتادا بل يكون مثل شرب الهيم وهى الإبل التى بها الهيام وهو داء يصيبها فتشرب ولا تروى جمع أهيم وهيماء وقيل الهيم الرمال على أنه جمع الهيام بفتح الهاء وهو الرمل التى لا يتماسك جمع على فعل كسحاب وسحب ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع والتهاب النار فى أحشائهم ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذى هو كالمهل فإذا ملؤا منه بطونهم وهو فى غاية الحرارة والمرارة سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذى يقطع أمعاءهم فيشربون شرب الهيم وقرىء شرب الهيم بالفتح وهو أيضا مصدر وقرىء بالكسر على أنه اسم المشروب (هذا) الذى ذكر* من أنواع العذاب (نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) أى يوم الجزاء فإذا كان ذلك نزلهم وهو ما يعد للنازل مما حضر فما ظنك بما لهم بعد ما استقر لهم القرار واطمأنت بهم الدار فى النار وفيه من التهكم بهم ما لا يخفى وقرىء نزلهم بسكون الزاى تخفيفا والجملة مسوقة من جهته تعالى بطريق الفذلكة مقررة لمضمون الكلام الملقن غير داخلة تحت القول وقوله تعالى (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة بطريق الإلزام والتبكيت والفاء لترتيب التحضيض على ما قبلها أى فهلا تصدقون بالخلق فإن ما لا يحققه العمل ولا يساعده بل ينبىء عن خلافه ليس من التصديق فى شىء وقيل بالبعث استدلالا عليه بالإنشاء فإن من قدر عليه قدر على الإعادة حتما والأول هو الوجه كما ستحيط به خبرا.

١٩٦

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) (٦٥)

____________________________________

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) أى تقذفون فى الأرحام من النطف وقرىء بفتح التاء من منى النطفة بمعنى أمناها (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) أى تقدرونه وتصورونه بشرا سويا (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) له من غير دخل شىء فيه وأم قيل منقطعة لأن ما بعدها جملة فالمعنى بل أنحن الخالقون على أن الاستفهام للتقرير وقيل متصلة ومجىء الخالقون بعد نحن بطريق التأكيد لا بطريق الخبرية أصالة (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) أى قسمناه عليكم ووقتنا موت كل أحد بوقت معين حسبما تقتضيه مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة وقرىء قدرنا مخففة (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أى إنا قادرون (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) لا يغلبنا أحد على أن نذهبكم ونأتى مكانكم أشباهكم من الخلق (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) من الخلق والأطوار ولا تعهدون بمثلها قال الحسن* رحمه‌الله أى نجعلكم قردة وخنازير وقيل المعنى وننشئكم فى البعث على غير صوركم فى الدنيا فمن هذا شأنه كيف يعجز عن إعادتكم وقيل المعنى وما يسبقنا أحد فيهرب من الموت أو يغير وقته وعلى أن نبدل الخ إما حال من فاعل قدرنا أو علة للتقدير وعلى بمعنى اللام وما بينهما اعتراض (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) هى خلقهم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وقيل هى فطرة آدم عليه‌السلام من التراب (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) فهلا تتذكرون أن من قدر عليها قدر على النشأة الأخرى حتما فإنه أقل صنعا لحصول* المواد وتخصص الأجزاء وسبق المثال وفيه دليل على صحة القياس وقرىء فلو لا تذكرون من الثلاثى وفى الخبر عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) أى تبذرون حبه وتعملون فى أرضه (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) تنبتونه وتردونه نباتا يرف (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) أى المنبتون لا أنتم والكلام فى أم كما مر* آنفا (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) هشيما متكسرا متفتتا بعد ما أنبتناه وصار بحيث طمعتم فى حيازة غلاله

١٩٧

(إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) (٧٢)

____________________________________

* (فَظَلْتُمْ) بسبب ذلك (تَفَكَّهُونَ) تتعجبون من سوء حاله إثر ما شاهدتموه على أحسن ما يكون من الحال أو تندمون على ما تعبتم فيه وأنفقتم عليه أو على ما اقترفتم لأجله من المعاصى فتتحدثون فيه والتفكه التنقل بصنوف الفاكهة وقد استعير للتنقل بالحديث وقرىء تفكنون أى تتندمون وقرىء فظلتم بالكسر وفظللتم على الأصل (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أى لملزمون غرامة ما أنفقنا أو مهلكون بهلاك رزقنا من الغرام وهو الهلاك وقرىء أئنا على الاستفهام والجملة على القراءتين مقدرة بقول هو فى حيز النصب على الحالية من فاعل تفكهون أى قائلين أو تقولون إنا لمغرمون (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) حرمنا رزقنا أو محارفون محدودون لا حظ لنا ولا بخت لا مجدودون (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) عذبا فراتا وتخصيص هذا الوصف بالذكر مع كثرة منافعه لأن الشرب أهم المقاصد المنوطة به (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) أى من السحاب واحده مزنة وقيل هو السحاب الأبيض وماؤه أعذب (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) له بقدرتنا (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) ملحا زعاقا لا يمكن شربه وحذف اللام ههنا مع إثباتها فى الشرطية الأولى للتعويل على علم السامع أو الفرق بين المطعوم والمشروب فى الأهمية وصعوبة الفقد والشرطيتان مستأنفتان مسوقتان لبيان أن عصمته تعالى للزرع والماء عما يخل بالتمتع بهما نعمة أخرى بعد نعمة الإنبات والإنزال مستوجبة للشكر فقوله تعالى (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) تحضيض على شكر الكل (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) أى تقدحونها وتستخرجونها من الزناد (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) التى منها الزناد وهى* المرخ والعفار (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) لها بقدرتنا والتعبير عن خلقها بالإنشاء المنبىء عن بديع الصنع المعرب عن كمال القدرة والحكمة لما فيه من الغرابة الفارقة بينها وبين سائر الشجر التى لا تخلو عن النار حتى قيل فى كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار كما أن التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء فى قوله تعالى (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) لذلك.

١٩٨

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٧٧)

____________________________________

وقوله تعالى (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) استئناف مبين لمنافعها أى جعلناها تذكيرا لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها ويذكروا ما أعدوا به من نار جهنم أو تذكرة وأنموذجا من نار جهنم لما روى عن النبى عليه الصلاة والسلام ناركم هذه التى يوقدها بنو آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم وقيل تبصرة فى أمر البعث فإنه ليس بأبدع من إخراج النار من الشىء الرطب (وَمَتاعاً) * ومنفعة (لِلْمُقْوِينَ) للذين ينزلون القواء وهى القفر وتخصيصهم بذلك لأنهم أحوج إليها فإن المقيمين* أو النازلين بقرب منهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد وقد جوز أن يراد بالمقوين الذين خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام وهو بعيد لعدم انحصار ما يهمهم ويسد خللهم فيما لا يؤكل إلا بالطبخ وتأخير هذه المنفعة للتنبيه على أن الأهم هو النفع الأخروى والفاء فى قوله تعالى (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) لترتيب ما بعدها على ما عدد من بدائع صنعه تعالى وروائع نعمه الموجبة لتسبيحه تعالى إما تنزيها له تعالى عما يقوله الجاحدون بوحدانيته الكافرون بنعمته مع عظمها وكثرتها أو تعجبا من أمرهم فى غمط تلك النعم الباهرة مع جلالة قدرها وظهور أمرها أو شكرا على تلك النعم السابقة أى فأحدث التسبيح بذكر اسمه تعالى أو بذكره فإن إطلاق الاسم للشىء ذكر له والعظيم صفة للاسم أو الرب (فَلا أُقْسِمُ) أى فأقسم ولا مزيدة للتأكيد كما فى قوله تعالى (لِئَلَّا يَعْلَمَ) أو فلأنا أقسم فحذف المبتدأ وأشبع فتحة لام الابتداء ويعضده قراءة من قرأ فلأقسم أو فلا رد لكلام يخالف المقسم عليه وأما ما قيل من أن المعنى فلا أقسم إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم فيأباه تعيين المقسم به وتفخيم شأن القسم به (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) أى بمساقطها وهى مغاربها وتخصيصها بالقسم لما فى غروبها من زوال* أثرها والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير أو لأن ذلك وقت قيام المتهجدين والمبتهلين إليه تعالى وأوان نزول الرحمة والرضوان عليهم أو بمنازلها ومجاريها فإن له تعالى فى ذلك من الدليل على عظم قدرته وكمال حكمته ما لا يحيط به البيان وقيل النجوم نجوم القرآن ومواقعها أوقات نزولها وقوله تعالى (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) اعتراض فى اعتراض قصد به المبالغة فى تحقيق مضمون الجملة القسمية وتأكيده حيث اعترض بقوله (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) بين القسم وجوابه الذى هو قوله تعالى (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)

١٩٩

(فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) (٨٣)

____________________________________

أى كثير النفع لاشتماله على أصول العلوم المهمة فى صلاح المعاش والمعاد أو حسن مرضى أو كريم عند الله تعالى وبقوله تعالى (لَوْ تَعْلَمُونَ) بين الموصوف وصفته وجواب لو إما متروك أريد به نفى علمهم أو محذوف ثقة بظهوره أى لعظمتموه أو لعملتم بموجبه (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أى مصون من غير المقربين من الملائكة لا يطلع عليه من سواهم وهو اللوح (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) إما صفة أخرى لكتاب فالمراد بالمطهرين الملائكة المنزهون عن الكدورات الجسمانية وأوضار الأوزار أو للقرآن فالمراد بهم المطهرون من الأحداث فيكون نفيا بمعنى النهى أى لا ينبغى أن يمسه إلا من كان على طهارة من الناس على طريقة قوله عليه الصلاة والسلام المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه أى لا ينبغى له أن يظلمه وقيل لا يطلبه إلا المطهرون من الكفر وقرىء المتطهرون والمطهرون بالإدغام والمطهرون من أطهره بمعنى طهره والمطهرون أى أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار أو غيره (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) صفة أخرى للقرآن وهو مصدر نعت به حتى جرى مجرى اسمه وقرىء تنزيلا (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) * الذى ذكرت نعوته الجليلة الموجبة لإعظامه وإجلاله وهو القرآن الكريم (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أى متهاونون به كمن يدهن فى الأمر أى يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) أى* شكر رزقكم (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أى تضعون التكذيب موضع الشكر وقرىء وتجعلون شكركم أنكم تكذبون أى تجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به وقيل الرزق المطر والمعنى وتجعلون شكر ما يرزقكم الله تعالى من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله تعالى حيث تنسبونه إلى الأنواء والأول هو الأوفق لسباق النظم الكريم وسياقه فإن قوله عزوجل (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) الخ تبكيت مبنى على تكذيبهم بالقرآن فيما نطق به قوله تعالى (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) إلى هنا من القوارع الدالة على كونهم تحت ملكوته تعالى من حيث ذواتهم ومن حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معايشهم كما ستقف عليه ولو لا للتحضيض لإظهار عجزهم وإذا ظرفية أى فهلا إذا بلغت النفس أى الروح وقيل

٢٠٠