تفسير أبي السّعود - ج ٨

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٨

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

(ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٣١)

____________________________________

لا تزيده الدعوة إلى خلافها إلا عنادا وإصرارا على الباطل (ذلِكَ) أى ما أداهم إلى ما هم فيه من التولى وقصر الإرادة على الحياة الدنيا (مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) لا يكادون يجاوزونه إلى غيره حتى تجديهم الدعوة* والإرشاد وجمع الضمير فى مبلغهم باعتبار معنى من كما أن إفراده فيما سبق باعتبار لفظها والمراد بالعلم مطلق الإدراك المنتظم للظن الفاسد والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) تعليل للأمر بالإعراض* وتكرير قوله تعالى (هُوَ أَعْلَمُ) لزيادة التقرير والإيذان بكمال تباين المعلومين والمراد بمن ضل من أصر عليه ولم يرجع إلى الهدى أصلا وبمن اهتدى من من شأنه الاهتداء فى الجملة أى هو المبالغ فى العلم بمن لا يرعوى عن الضلال أبدا وبمن يقبل الاهتداء فى الجملة لا غيره فلا تتعب نفسك فى دعوتهم فإنهم من القبيل الأول وفى تعليل الأمر بإعراضه عليه‌السلام عن الاعتناء بأمرهم باقتصار العلم بأحوال الفريقين عليه تعالى رمز إلى أنه تعالى يعاملهم بموجب علمه بهم فيجزى كلا منهم بما يليق به من الجزاء ففيه وعيد ووعد ضمنا كما سيأتى صريحا (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أى خلقا وملكا لا لغيره أصلا لا استقلالا ولا اشتراكا وقوله تعالى (لِيَجْزِيَ) الخ متعلق بما دل عليه أعلم الخ وما بينهما* اعتراض مقرر لما قبله فإن كون الكل مخلوقا له تعالى مما يقرر علمه تعالى بأحوالهم ألا يعلم من خلق كأنه قيل فيعلم ضلال من ضل واهتداء من اهتدى ويحفظهما ليجزى (الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) أى* بعقاب ما عملوا من الضلال الذى عبر عنه بالإساءة بيانا لحاله أو بسبب ما عملوا (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا) * أى اهتدوا (بِالْحُسْنَى) أى بالمثوبة الحسنى التى هى الجنة أو بسبب أعمالهم الحسنى وقيل متعلق بما دل* عليه قوله تعالى (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كأنه قيل خلق ما فيهما ليجزى الخ وقيل متعلق بضل واهتدى على أن اللام للعاقبة أى هو أعلم بمن ضل ليؤول أمره إلى أن يجزيه الله تعالى بعمله وبمن اهتدى ليؤول أمره إلى أن يجزيه بالحسنى وفيه من البعد ما لا يخفى وتكرير الفعل لإبراز كمال الاعتناء بأمر الجزاء والتنبيه على تباين الجزاءين.

١٦١

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) (٣٤)

____________________________________

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) بدل من الموصول الثانى وصيغة الاستقبال فى صلته للدلالة على تجدد الاجتناب واستمراره أو بيان أو نعت أو منصوب على المدح وكبائر الإثم ما يكبر عقابه من الذنوب* وهو ما رتب عليه الوعيد بخصوصه وقرىء كبير الإثم على إرادة الجنس أو الشرك (وَالْفَواحِشَ) وما* فحش من الكبائر خصوصا (إِلَّا اللَّمَمَ) أى إلا ما قل وصغر فإنه مغفور ممن يجتنب الكبائر قيل هى النظرة والغمزة والقبلة وقيل هى الخطرة من الذنب وقيل كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا ولا عذابا* وقيل عادة النفس الحين بعد الحين والاستثناء منقطع (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر فالجملة تعليل لاستثناء اللمم وتنبيه على أن إخراجه عن حكم المؤاخذة به ليس لخلوه عن الذنب فى نفسه بل لسعة المغفرة الربانية وقيل المعنى له أن يغفر لمن يشاء من المؤمنين ما يشاء من الذنوب صغيرها وكبيرها لعل تعقيب وعد المسييئين ووعد المحسنين بذلك حينئذ لئلا ييأس صاحب* الكبيرة من رحمته تعالى ولا يتوهم وجوب العقاب عليه تعالى (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) أى بأحولكم يعلمها* (إِذْ أَنْشَأَكُمْ) فى ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه‌السلام (مِنَ الْأَرْضِ) إنشاء إجماليا حسبما مر تقريره* مرارا (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ) أى وقت كونكم أجنة (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) على أطوار مختلفة مترتبة لا يخفى عليه حال من أحوالكم وعمل من أعمالكم التى من جملتها اللمم الذى لو لا المغفرة الواسعة لأصابكم* وباله فالجملة استئناف مقرر لما قبلها والفاء فى قوله تعالى (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) لترتيب النهى عن تزكية النفس على ما سبق من أن عدم المؤاخذة باللمم ليس لعدم كونه من قبيل الذنوب بل لمحض مغفرته تعالى مع علمه بصدوره عنكم أى إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا عليها بالطهارة عن المعاصى بالكلية* أو بما يستلزمها من زكاء العمل ونماء الخير بل اشكروا الله تعالى على فضله ومغفرته (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) المعاصى جميعا وهو استئناف مقرر للنهى ومشعر بأن فيهم من يتقيها بأسرها وقيل كان ناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا فنزلت وهذا إذا كان بطريق الإعجاب أو الرياء فأما من اعتقد أن ما عمله من الأعمال الصالحة من الله تعالى وبتوفيقه وتأييده ولم يقصد به التمدح لم يكن من المزكين أنفسهم فإن المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) أى عن اتباع الحق والثبات عليه (وَأَعْطى قَلِيلاً) أى شيئا قليلا أو إعطاء قليلا (وَأَكْدى) أى قطع العطاء

١٦٢

(أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى) (٣٩)

____________________________________

من قولهم أكدى الحافر إذا بلغ الكدية أى الصلابة كالصخرة فلا يمكنه أن يحفر قالوا نزلت فى الوليد ابن المغيرة كان يتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعيره بعض المشركين وقال له تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال أخشى عذاب الله فضمن أن يتحمل عنه العذاب إن أعطاه بعض ماله فارتد وأعطاه بعض المشروط وبخل بالباقى وقيل نزلت فى العاص بن وائل السهمى لما كان يوافق النبى عليه الصلاة والسلام فى بعض الأمور وقيل فى أبى جهل كان ربما يوافق الرسول عليه الصلاة والسلام فى بعض الأمور وكان يقول والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق وذلك قوله تعالى (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) والأول هو الأشهر المناسب لما بعده من قوله تعالى (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) الخ أى أعنده علم بالأمور الغيبية التى من جملتها تحمل صاحبه عنه يوم القيامة (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى) (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) أى وفر وأتم ما ابتلى به من الكلمات أو أمر به أو بالغ فى الوفاء بما عاهد الله وتخصيصه بذلك لاحتماله ما لم يحتمله غيره كالصبر على نار نمروذ حتى إذا أنه أتاه جبريل عليه‌السلام حين يلقى فى النار فقال ألك حاجة فقال أما إليك فلا وعلى ذبح الولد ويروى أنه كان يمشى كل يوم فرسخا يرتاد ضيفا فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم وتقديم موسى لما أن صحفه التى هى التوراة أشهر عندهم وأكثر (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أى أنه لا تحمل نفس من شأنها الحمل حمل نفس أخرى على أن أن هى المخففة من الثقيلة وضمير الشأن الذى هو اسمها محذوف والجملة المنفية خبرها ومحل الجملة الجر على أنها بدل مما فى صحف موسى أو الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل ما فى صحفهما فقيل هو أن لا تزر الخ والمعنى أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ليتخلص الثانى عن عقابه ولا يقدح فى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة فإن ذلك وزر الإضلال الذى هو وزره وقوله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) بيان لعدم انتفاع الإنسان بعمل غيره من حيث جلب النفع إليه إثر بيان عدم انتفاعه به من حيث دفع الضرر عنه وأما شفاعة الأنبياء عليهم‌السلام واستغفار الملائكة عليهم‌السلام ودعاء الأحياء للأموات وصدقتهم عنهم وغير ذلك مما لا يكاد يحصى من الأمور النافعة للإنسان مع أنها ليست من عمله قطعا فحيث كان مناط منفعة كل منها عمله الذى هو الإيمان والصلاح ولم يكن لشىء منها نفع ما بدونه جعل النافع نفس عمله وإن

١٦٣

(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) (٥٠)

____________________________________

كان بانضمام عمل غيره إليه وأن مخففة كأختها معطوفة عليها وكذا قوله تعالى (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) أى يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة فى صحيفته وميزانه من أريته الشىء (ثُمَّ يُجْزاهُ) أى يجزى الإنسان سعيه يقال جزاه الله بعمله وجزاه على عمله وجزاه عمله بحذف الجار وإيصال الفعل ويجوز* أن يجعل الضمير للجزاء ثم يفسر بقوله تعالى (الْجَزاءَ الْأَوْفى) أو يبدل هو عنه كما فى قوله تعالى (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أى انتهاء الخلق ورجوعهم إليه تعالى لا إلى غيره استقلالا ولا اشتراكا وقرىء بكسر إن على الابتداء (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) أى هو خلق قوتى الضحك والبكاء (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) لا يقدر على الإماتة والإحياء غيره فإن أثر القاتل نقض البنية وتفريق الاتصال ، وإنما يحصل الموت عنده بفعل الله تعالى على العادة (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) تدفق فى الرحم أو تخلق أو يقدر منها الولد من منى بمعنى قدر (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أى الإحياء بعد الموت وفاء بوعده وقرىء النشاءة بالمد وهى أيضا مصدر نشأه (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) وأعطى القنية وهى ما يتأثل من الأموال وإفردها بالذكر لأنها أشرف الأموال أو أرضى وتحقيقه جعل الرضا له قنية (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) أى رب معبودهم وهى العبور وهى أشد ضياء من الغميصاء وكانت خزاعة تعبدها سن لهم ذلك أبو كبشة رجل من أشرافهم وكانت قريش تقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو كبشة تشبيها له عليه الصلاة والسلام به لمخالفته إياهم فى دينهم (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ

١٦٤

(وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) (٥٦)

____________________________________

(عاداً الْأُولى) هى قوم هود عليه‌السلام وعاد الأخرى إرم وقيل الأولى القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح وقرىء عاد الاولى بحذف الهمزة ونقل ضمتها إلى اللام وعاد لولى بادغام التنوين فى اللام وطرح همزة أولى وثقل حركتها إلى لام التعريف (وَثَمُودَ) عطف على عادا لأن ما بعده لا يعمل فيه وقرىء وثمودا بالتنوين (فَما أَبْقى) أى أحدا من الفريقين (وَقَوْمَ نُوحٍ) عطف عليه أيضا (مِنْ قَبْلُ) أى من قبل إهلاك عاد وثمود (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) من الفريقين حيث كانوا يؤذونه* وينفرون الناس عنه وكانوا يحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه وكانوا يضربونه عليه الصلاة والسلام حتى لا يكون به حراك وما أثر فيهم دعاؤه قريبا من ألف سنة (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) هى قرى قوم لوط ائتفكت بأهلها أى انقلبت بهم (أَهْوى) أى أسقطها إلى الأرض بعد أن رفعها على جناح جبريل عليه‌السلام* إلى السماء (فَغَشَّاها ما غَشَّى) من فنون العذاب وفيه من التهويل والتفظيع ما لا غاية وراءه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) تتشكك والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام على طريقة قوله تعالى لئن أشركت ليحبطن عملك أو لكل أحد وإسناد فعل التمارى إلى الواحد باعتبار تعدده بحسب تعدد متعلقه فإن صيغة التفاعل وإن كانت موضوعة لإفادة صدور الفعل عن المتعدد ووقوعه عليه بحيث يكون كل من ذلك فاعلا ومفعولا معا لكنها قد تجرد عن المعنى الثانى فيراد بها المعنى الأول فقط كما فى يتداعونهم أى يدعونهم وقد تجرد عنهم أيضا فيكتفى بتعدد الفعل بتعدد متعلقه كما فيما نحن فيه فإن المراء متعدد بتعدد الآلاء فتدبر وتسمية الأمور المعدودة آلاء مع أن بعضها نقم لما أنها أيضا نعم من حيث إنها نصرة للأنبياء والمؤمنين وانتقام لهم وفيها عظات وعبر للمعتبرين (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) هذا إما إشارة إلى القرآن والنذير مصدر أو إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والنذير بمعنى المنذر وأيا ما كان فالتنوين للتفخيم ومن متعلقة بمحذوف هو نعت لنذير مقرر له ومتضمن للوعيد أى هذا القرآن الذى تشاهدونه نذير من قبيل الإنذارات المتقدمة التى سمعتم عاقبتها أو هذا الرسول منذر من جنس المنذرين الأولين والأولى على تأويل الجماعة لمراعاة الفواصل وقد علمتم أحوال قومهم المنذرين وفى

١٦٥

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (٦٢)

____________________________________

تعقيبه بقوله تعالى (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) إشعار بأن تعذيبهم مؤخر إلى يوم القيامة أى دنت الساعة الموصوفة بالدنو فى نحو قوله تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) أى ليس لها نفس قادرة على كشفها عند وقوعها إلا الله تعالى لكنه لا يكشفها أو ليس لها الآن نفس كاشفة بتأخيرها إلا الله تعالى فإنه المؤخر لها أو ليس لها كاشفة لوقتها إلا الله تعالى كقوله تعالى (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) أو ليس لها من غير الله تعالى كشف على أن كاشفة مصدر كالعافية (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) أى القرآن (تَعْجَبُونَ) إنكارا (وَتَضْحَكُونَ) استهزاء مع كونه أبعد شىء من ذلك (وَلا تَبْكُونَ) حزنا على ما فرطتم فى شأنه وخوفا من أن يحيق بكم ما حاق بالأمم المذكورة (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أى لاهون أو مستكبرون من سمد البعير إذا رفع رأسه أو مغنون لتشغلوا الناس عن استماعه من السمود بمعنى الغناء على لغة حمير أو خاشعون جامدون من السمود بمعنى الجمود والخشوع كما فى قول من قال[رمى الحدثان نسوة آل سعد * بمقدار سمدن له سمودا] * [فرد شعورهن السود بيضا * ورد وجوههن البيض سودا] والجملة حال من فاعل لا تبكون خلا أن مضمونها على الوجه الأخير قيد للمنفى والإنكار وارد على نفى البكاء والسمود معا وعلى الوجوه الأول قيد للنفى والإنكار متوجه إلى نفى البكاء ووجود السمود والأول أو فى بحق المقام فتدبر والفاء فى قوله تعالى (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) لترتيب الأمر أو موجبه على ما تقرر من بطلان مقابلة القرآن بالإنكار والاستهزاء ووجوب تلقيه بالإيمان مع كمال الخضوع والخشوع أى وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله الذى أنزله واعبدوا. عن النبى عليه الصلاة والسلام من قرأ سورة النجم أعطاه الله تعالى عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وجحد به بمكة شرفها الله تعالى.

١٦٦

٥٤ ـ سورة القمر

(مكية وهى خمس وخمسون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) (٣)

____________________________________

(سورة القمر مكية إلا الآيات ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٦ فمدنية وآياتها خمس وخمسون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) روى أن الكفار سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية فانشق القمر قال ابن عباس رضى الله عنهما انفلق فلقتين فلقة ذهبت وتلقة بقيت وقال ابن مسعود رأيت حراء بين فلقتى القمر وعن عثمان بن عطاء عن أبيه أن معناه سينشق يوم القيامة ويرده قوله تعالى (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) فإنه ناطق بأنه قد وقع وأنهم قد شاهدوه بعد مشاهدة نظائره وقرىء وقد انشق القمر أى اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق ومعنى الاستمرار الاطراد أو الاستحكام أى وإن يروا آية من آيات الله يعرضوا عن التأمل فيها ليقفوا على حقيتها وعلو طبقتها ويقولوا سحر مطرد دائم يأتى به محمد على مر الزمان لا يكاد يختلف بحال كسائر أنواع السحر أو قوى مستحكم لا يمكن إزالته وقيل مستمر ذاهب يزول ولا يبقى تمنية لأنفسهم وتعليلا وهو الأنسب بغلوهم فى العناد والمكابرة ويؤيده ما سيأتى لرده وقرىء وإن يروا على البناء للمفعول من الإراءة (وَكَذَّبُوا) أى بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما عاينوه مما أظهره الله تعالى على يده من المعجزات (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) التى زينها الشيطان لهم أو كذبوا* الآية التى هى انشقاق القمر واتبعوا أهواءهم وقالوا سحر القمر أو سحر أعيننا والقمر بحاله وصيغة الماضى للدلالة على التحقق وقوله تعالى (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) استئناف مسوق لإقناطهم عما علقوا به* أمانيهم الفارغة من عدم استقرر أمره عليه الصلاة والسلام حسبما قالوا سحر مستمر ببيان ثباته ورسوخه أى وكل أمر من الأمور مستقر أى منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة ومن جملتها أمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسيصير إلى غاية يتبين عندها حقيته وعلو شأنه وإبهام المستقر عليه للتنبيه على كمال ظهور الحال وعدم الحاجة إلى التصريح به وقيل المعنى كل أمر من أمرهم وأمره عليه الصلاة والسلام مستقر أى سيثبت ويستقر على حالة خذلان أو نصرة فى الدنيا وشقاوة أو سعادة فى الآخرة وقرىء بالفتح على أنه مصدر أو اسم مكان أو اسم زمان أى ذو استقرار أو ذو موضع استقرار أو ذو زمان استقرار

١٦٧

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) (٩)

____________________________________

وبالكسر والجر على أنه صفة أمر وكل عطف على الساعة أى اقتربت الساعة وكل أمر مستقر (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) أى فى القرآن وقوله تعالى (مِنَ الْأَنْباءِ) أى أنباء القرون الخالية أو أنباء الآخرة متعلق بمحذوف* هو حال مما بعده أى وبالله لقد جاءهم كائنا من الأنباء (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أى ازدجار من تعذيب أو وعيد أو موضع ازدجار على أن تجريدية والمعنى أنه فى نفسه موضع ازدجار وتاء الافتعال تقلب دالا مع الدال والذال والزاى للتناسب وقرىء مزجر بقلبها زاء وإدغامها (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) غايتها لا خلل فيها وهى بدل ما أو خبر لمحذوف وقرىء بالنصب حالا منها فإنها موصولة أو موصوفة تخصصت بصفتها فساغ* نصب الحال عنها (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) نفى للإغناء أو إنكار له والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجىء الحكمة البالغة مع كونه مظنة للإغناء وصيغة المضارع للدلالة على تجدد عدم الإغناء واستمراره حسب تجدد مجىء الزواجر واستمراره وما على الوجه الثانى منصوبة أى فأى إغناء تغنى النذر وهو جمع نذير بمعنى المنذر أو مصدر بمعنى الإنذار (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) لعلمك بأن الإنذار لا يؤثر فيهم البتة (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) منصوب بيخرجون أو باذكر والداعى إسرافيل عليه‌السلام ويجوز أن يكون الدعاء فيه كالأمر فى* قوله تعالى (كُنْ فَيَكُونُ) وإسقاط الياء للاكتفاء بالكسر تخفيفا (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) أى منكر فظيع تنكره النفوس لعدم العهد بمثله وهو هول القيامة وقرىء نكر بالتخفيف ونكر بمعنى أنكر (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) * حال من فاعل (يَخْرُجُونَ) والتقديم لأن العامل متصرف أى يخرجون (مِنَ الْأَجْداثِ) أذلة أبصارهم من شدة الهول وقرىء خاشعا والإفراد والتذكير لأن فاعله ظاهر غير حقيقى التأنيث وقرىء خاشعة* على الأصل وقرىء خشع أبصارهم على الابتداء والخبر على أن الجملة حال (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) فى الكثرة والتموج والتفرق فى الأقطار (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) مسرعين مادى أعناقهم إليه أو ناظرين* إليه (يَقُولُ الْكافِرُونَ) استئناف وقع جوابا عما نشأ من وصف اليوم والأهوال وأهله بسوء الحال* كأنه قيل فماذا يكون حينئذ فقيل يقول الكافرون (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أى صعب شديد وفى إسناد القول المذكور إلى الكفار تلويح بأن المؤمنين ليسوا فى تلك المرتبة من الشدة (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) شروع

١٦٨

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) (١٤)

____________________________________

فى تعداد بعض ما ذكر من الأنباء الموجبة للإزدجار ونوع تفصيل لها وبيان لعدم تأثرهم بها تقريرا لفحوى قوله تعالى (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) أى فعل التكذيب قبل تكذيب قومك قوم نوح وقوله تعالى (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) تفسير لذلك التكذيب المبهم كما فى قوله تعالى (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِ) الخ وفيه مزيد تقرير وتحقيق للتكذيب وقيل معناه كذبوه تكذيبا إثر تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذب جاء عقبيه قرن آخر مكذب مثله وقيل كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا لأنه من جملتهم وفى ذكره عليه الصلاة والسلام بعنوان العبودية مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم له عليه الصلاة والسلام ورفع لمحله وزيادة تشنيع لمكذبيه (وَقالُوا مَجْنُونٌ) أى لم يقتصروا على مجرد النكذيب بل نسبوه إلى الجنون* (وَازْدُجِرَ) عطف على قالوا أى وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية وقيل هو من جملة ما قالوه أى هو* مجنون وقد ازدجرته الجن وتخبطته (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي) أى بأنى وقرىء بالكسر على إرادة القول (مَغْلُوبٌ) أى من جهة قومى مالى قدرة على الانتقام منهم (فَانْتَصِرْ) أى فانتقم لى منهم وذلك بعد تقرر يأسه منهم* بعد اللتيا والتى فقد روى أن الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشيا عليه ويقول اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) منصب وهو تمثيل لكثرة الأمطار وشدة انصبابها وقرىء ففتحنا بالتشديد لكثرة الأبواب (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أى جعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة وأصله وفجرنا عيون الأرض فغير قضاء لحق المقام (فَالْتَقَى الْماءُ) أى ماء السماء وماء الأرض* والإفراد لتحقيق أن التقاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة والتقارب بل بطريق الاختلاط والاتحاد وقرىء الماءان لاختلاف النوعين والماوان بقلب الهمزة واو (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أى كائنا على حال* قد قدرها الله تعالى من غير تفاوت أو على حال قدرت وسويت وهو أن قدر ما أنزل على قدر ما أخرج أو على أمر قدره الله تعالى وهو هلاك قوم نوح بالطوفان (وَحَمَلْناهُ) أى نوحا عليه‌السلام (عَلى ذاتِ أَلْواحٍ) أى أخشاب عريضة (وَدُسُرٍ) ومسامير جمع دسار من الدسر وهو الدفع وهى صفة للسفينة* أقيمت مقامها من حيث أنها كالشرح لها تؤدى مؤداها (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) بمر أى منا أى محفوظة بحفظنا

١٦٩

(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) (١٩)

____________________________________

* (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أى فعلنا ذلك جزاء لنوح عليه‌السلام لأنه كان نعمة كفروها فإن كل نبى نعمة من الله تعالى على أمته ورحمة وأى نعمة وأى رحمة وقد جوز أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل إلى الضمير واستتاره فى الفعل بعد انقلابه مرفوعا وقرىء لمن كفر أى للكافرين (وَلَقَدْ تَرَكْناها) * أى السفينة أو الفعلة (آيَةً) يعتبر بها من يقف على خبرها وقال قتادة أبقاها الله تعالى بأرض الجزيرة* وقيل على الجودى دهرا طويلا حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أى معتبر بتلك الآية الحقيقة بالاعتبار وقرىء مذتكر على الأصل ومذكر بقلب التاء ذالا والإدغام فيها (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) استفهام تعظيم وتعجيب أى كانا على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف والنذر جمع نذير بمعنى الإنذار (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ) الخ جملة قسمية وردت فى أواخر القصص الأربع تقريرا لمضمون ما سبق من قوله تعالى (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) وتنبيها على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادكار كافية فى الازدجار ومع ذلك لم تقع واحدة فى حيز الاعتبار أى وبالله ولقد سهلنا القرآن لقومك بأن أنزلناه على لغتهم وشحناه بأنواع المواعظ والعبر وصرفنا فيه* من الوعيد والوعد (لِلذِّكْرِ) أى للتذكر والاتعاظ (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) إنكار ونفى للمتعظ على أبلغ وجه وآكده حيث يدل على أنه لا يقدر أحد أن يجيب المستفهم بنعم وحمل تيسيره على تسهيل حفظه بجزالة نظمه وعذوبة ألفاظه وعباراته مما لا يساعده المقام (كَذَّبَتْ عادٌ) أى هودا عليه‌السلام ولم يتعرض لكيفية تكذيبهم له روما للاختصار ومسارعة إلى بيان ما فيه الازدجار من العذاب وقوله* تعالى (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) لتوجيه قلوب السامعين نحو الإصغاء إلى ما يلقى إليهم قبل ذكره لا لتهويله وتعظيمه وتعجيبهم من حاله بعد بيانه كما قبله وما بعده كأنه قيل كذبت عاد فهل سمعتم أو فاسمعوا كيف كان عذابى وإنذاراتى لهم وقوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) استئناف ببيان* ما أجمل أولا أى أرسلنا عليهم ريحا باردة أو شديدة الصوت (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) شؤم (مُسْتَمِرٍّ) أى شؤمه أو مستمر عليهم إلى أن أهلكهم أو شامل لجميعهم كبيرهم وصغيرهم أو مشتد مرارته وكان يوم الأربعاء آخر الشهر.

١٧٠

(تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) (٢٦)

____________________________________

(تَنْزِعُ النَّاسَ) تقلعهم روى أنهم دخلوا الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فنزعتهم الريح وصرعتهم موتى (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أى منقلع عن مغارسه قيل شبهوا بأعجاز النخل وهى أصولها بلا فروع* لأن الريح كانت تقلع رؤسهم فتبقى أجسادا وجثثا بلا رؤس وتذكير صفة نخل للنظر إلى اللفظ كما أن تأنيثها فى قوله تعالى (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) للنظر إلى المعنى وقوله تعالى (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) تهويل لهما وتعجيب من أمرهما بعد بيانهما فليس فيه شائبة تكرار وما قيل من أن الأول لما حاق بهم فى الدنيا والثانى لما يحيق بهم فى الآخرة يرده ترتيب الثانى على العذاب الدنيوى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) الكلام فيه كالذى مر فيما سبق (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) أى الإنذارات والمواعظ التى سمعوها من صالح أو بالرسل عليهم‌السلام فإن تكذيب أحدهم تكذيب للكل لاتفاقهم على أصول الشرائع (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا) أى كائنا من جنسنا وانتصابه بفعل يفسره ما بعده (واحِداً) أى منفردا لا تبع له أو واحدا من آحادهم لا من أشرافهم وهو صفة أخرى لبشرا وتأخيره عن الصفة المؤولة للتنبيه على أن كلا من الجنسية والوحدة مما يمنع الاتباع ولو قدم عليها لفاتت هذه النكتة وقرىء أبشر منا واحد على الابتداء وقوله تعالى (نَتَّبِعُهُ) خبره والأول أوجه للاستفهام (إِنَّا إِذاً) أى على تقدير اتباعنا* له وهو منفرد ونحن أمة جمة (لَفِي ضَلالٍ) عن الصواب (وَسُعُرٍ) أى جنون فإن ذلك بمعزل من مقتضى* العقل وقيل كان يقول لهم إن لم تتبعونى كنتم فى ضلال عن الحق وسعر أى نيران جمع سعير فعكسوا عليه عليه‌السلام لغاية عتوهم فقالوا إن اتبعناك كنا إذن كما تقول (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ) أى الكتاب والوحى (عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) وفينا من هو أحق منه بذلك (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أى ليس الأمر كذلك بل هو* كذا وكذا حمله بطره على الترفع علينا بما ادعاه وقوله تعالى (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) حكاية لما قاله تعالى لصالح عليه‌السلام وعدا له ووعيدا لقومه والسين لتقريب مضمون الجملة وتأكيده والمراد

١٧١

(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) (٣٥)

____________________________________

بالغد وقت نزول العذاب أى سيعلمون البتة عن قريب من الكذاب الأشر الذى حمله أشره وبطره على الترفع أصالح هو أم من كذبه وقرىء ستعلمون على الالتفات لتشديد التوبيخ أو على حكاية ما أجابهم به صالح وقرىء الأشر كقولهم حذر فى حذر وقرىء الأشر أى الأبلغ فى الشرارة وهو أصل مرفوض كالأخير وقيل المراد بالغد يوم القيامة ويأباه قوله تعالى (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) الخ فإنه استئناف مسوق* لبيان مبادى الموعود حتما أى مخرجوها من الهضبة حسبما سألوا (فِتْنَةً لَهُمْ) أى امتحانا (فَارْتَقِبْهُمْ) أى فانتظرهم وتبصر ما يصنعون (وَاصْطَبِرْ) على أذيتهم (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) مقسوم لها يوم ولهم يوم وبينهم لتغليب العقلاء (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) يحضره صاحبه فى نوبته (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) هو* قدار بن سلف أحيمر ثمود (فَتَعاطى فَعَقَرَ) فاجترأ على تعاطى الأمر العظيم غير مكترث له فأحدث العقر بالناقة وقيل فتعاطى الناقة فعقرها أو فتعاطى السيف فقتلها والتعاطى تناول الشىء بتكلف (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) الكلام فيه كالذى مر فى صدر قصة عاد (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) * هى صيحة جبريل عليه‌السلام (فَكانُوا) أى فصاروا (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) أى كالشجر اليابس الذى يتخذه من يعمل الحظيرة لأجلها أو كالحشيش اليابس الذى يجمعه صاحب الحظيرة لما شيته فى الشتاء وقرىء بفتح الظاء أى كهشيم الحظيرة أو الشجرة المتخذ لها (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) أى ريحا تحصبهم أى ترميهم بالحصباء (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) فى سحر وهو آخر الليل وقيل هو السدس الأخير منه أى ملتبسين بسحر (نِعْمَةً

١٧٢

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) (٤٣)

____________________________________

مِنْ عِنْدِنا) أى إنعاما منا وهو علة لنجينا (كَذلِكَ) أى مثل ذلك الجزاء العجيب (نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) * نعمتنا بالإيمان والطاعة (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) لوط عليه‌السلام (بَطْشَتَنا) أى أخذتنا الشديدة بالعذاب (فَتَمارَوْا) فكذبوا (بِالنُّذُرِ) متشاكين (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) قصدوا الفجور بهم (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) فمسحناها وسويناها كسائر الوجه روى أنه لما دخلوا داره عنوة صفقهم جبريل عليه‌السلام صفقة فتركهم يترددون لا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط عليه‌السلام (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) * أى فقلنا لهم ذوقوا على ألسنة الملائكة أو ظاهر الحال والمراد به الطمس فإنه من جملة ما أنذروه من العذاب (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً) وقرىء بكرة غير مصروفة على أن المراد بها أول نهار مخصوصة (عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) لا يفارقم حتى يسلموا إلى النار وفى وصفه بالاستقرار إيماء إلى أن ما قبله من عذاب* الطمس ينتهى إليه (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) حكاية لما قيل حينئذ من جهته تعالى تشديدا للعذاب (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) مر ما فيه من الكلام (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) صدرت قصتهم بالتوكيد القسمى لإبراز كمال الاعتناء بشأنها لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها وهول ما لا قوه من العذاب وقوة إيجابها للاتعاظ والاكتفاء بذكر آل فرعون للعلم بأن نفسه أولى بذلك أى وبالله لقد جاءهم الإنذارات وقوله تعالى (كَذَّبُوا بِآياتِنا) استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية مجىء النذر كأنه قيل فماذا فعلوا حينئذ فقيل كذبوا بجميع آياتنا وهى الآيات التسع (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ) لا يغالب (مُقْتَدِرٍ) لا يعجزه شىء (أَكُفَّارُكُمْ) يا معشر العرب (خَيْرٌ) قوة وشدة وعدة وعدة أو مكانة (مِنْ أُولئِكُمْ) الكفار المعدودين والمعنى أنه أصابهم ما أصابهم مع ظهور خيريتهم منكم فيما ذكر*

١٧٣

(أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤٩)

____________________________________

من الأمور فهل تطمعون أن لا يصيبكم مثل ذلك وأنتم شر منهم مكانا وأسوأ حالا وقوله تعالى* (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) إضراب وانتقال من التبكيت بوجه آخر أى بل ألكم براءة وأمن من تبعات ما تعملون من الكفر والمعاصى وغوائلهما فى الكتب السماوية فلذلك تصرون على ما أنتم عليه وقوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) إضراب من التبكيت والالتفات للإيذان باقتضاء حالهم للإعراض عنهم وإسقاطهم عن رتبة الخطاب وحكاية قبائحهم لغيرهم أى بل أيقولون واثقين بشوكتهم نحن أو لو حزم ورأى أمرنا مجتمع لا نرام ولا نضام أو منتصر من الأعداء لا نغلب أو متناصر ينصر بعضنا بعضا والإفراد باعتبار لفظ الجميع وقوله تعالى (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) رد وإبطال لذلك والسين للتأكيد* أى يهزم جمعهم البتة (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أى الأدبار وقد قرىء كذلك والتوحيد لإرادة الجنس أو إرادة أن كل واحد منهم يولى دبره وقد كان كذلك يوم بدر قال سعيد بن المسيب سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول لما نزلت سيهزم الجمع ويولون الدبر كنت لا أدرى أى جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلبس الدرع ويقول سيهزم الجمع ويولون الدبر فعرفت تأويلها وقرىء سيهزم الجمع أى الله عز وعلا (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) أى ليس هذا تمام عقوبتهم بل الساعة موعد* أصل عذابهم وهذا من طلائعه (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أى فى أقصى غاية من الفظاعة والمرارة والداهية الأمر الفظيع الذى لا يهتدى إلى الخلاص عنه وإظهار الساعة فى موقع إضمارها لتربية تهويلها (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) من الأولين والآخرين (فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أى فى هلاك ونيران مسعرة وقيل فى ضلال عن الحق فى الدنيا ونيران فى الآخرة وقوله تعالى (يَوْمَ يُسْحَبُونَ) الخ منصوب إما بما يفهم من قوله* تعالى (فِي ضَلالٍ) أى كائنون فى ضلال وسعر يوم يجرون (فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) وإما يقول مقدر* بعده أى يوم يسحبون يقال لهم (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أى قاسوا حرها وألمها وسقر علم جهنم ولذلك لم يصرف من سقرته النار وصقرته إذا لوحته والقول المقدر على الوجه الأول حال من ضمير يسحبون (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ) من الأشياء (خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أى ملتبسا بقدر معين اقتضته الحكمة التى عليها يدور

١٧٤

(وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٥٥)

____________________________________

أمر التكوين أو مقدرا مكتوبا فى اللوح قبل وقوعه وكل شىء منصوب بفعل يفسره ما بعده وقرىء بالرفع على أنه مبتدأ وخلقناه خبره (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) أى كلمة واحدة سريعة التكوين وهو قوله تعالى (كُنْ) أو إلا فعلة واحدة هو الإيجاد بلا معالجة (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) فى اليسر والسرعة وقيل معناه* قوله تعالى (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أى أشباهكم فى الكفر من الأمم وقيل أتباعكم (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يتعظ بذلك (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ) من الكفر والمعاصى مكتوب على التفصيل (فِي الزُّبُرِ) أى فى ديوان الحفظة (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) من الأعمال (مُسْتَطَرٌ) مسطور فى اللوح المحفوظ بتفاصيله ولما كان بيان سوء حال الكفرة بقوله تعالى (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) الخ مما يستدعى بيان حسن حال المؤمنين ليتكافأ الترهيب والترغيب بين ما لهم من حسن الحال بطريق الإجمال فقيل (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أى من الكفر والمعاصى (فِي جَنَّاتٍ) عظيمة الشأن (وَنَهَرٍ) أى أنهار كذلك والإفراد للاكتفاء* باسم الجنس مراعاة للفواصل وقرىء نهر جمع نهر كأسد وأسد (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) فى مكان مرضى وقرىء فى مقاعد صدق (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) أى مقربين عند مليك لا يقادر قدر ملكه وسلطانه فلا شىء إلا* وهو تحت ملكوته سبحانه ما أعظم شأنه. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة القمر فى كل غب بعثه الله تعالى يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر.

١٧٥

٥٥ ـ سورة الرحمن

(مدنية وهى ثمان وسبعون آية)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (٥)

____________________________________

(سورة الرحمن مكية أو مدنية أو متبعضة وآياتها ثمان وسبعون)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لما عد فى السورة السابقة ما نزل بالأمم السالفة من ضروب نقم الله عزوجل وبين عقيب كل ضرب منها أن القرآن قد يسر لحمل الناس على التذكر والاتعاظ ونعى عليهم إعراضهم عن ذلك عدد فى هذه السورة الكريمة ما أفاض على كافة الأنام من فنون نعمه الدينية والدنيوية الأنفسية والآفاقية وأنكر عليهم إثر كل فن منها إخلالهم بمواجب شكرها وبدىء بتعليم القرآن فقيل (الرَّحْمنُ) (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) لأنه أعظم النعم شأنا وأرفعها مكانا كيف لا وهو مدار للسعادة الدينية والدنيوية عيار على سائر الكتب السماوية ما من مرصد يرنو إليه أحداق الأمم إلا وهو منشؤه ومناطه ولا مقصد يمتد إليه أعناق الهمم إلا وهو منهجه وصراطه وإسناد تعليمه إلى اسم الرحمن للإيذان بأنه من آثار الرحمة الواسعة وأحكامها وقد اقتصر على ذكره تنبيها على أصالته وجلالة قدره ثم قيل (خَلَقَ الْإِنْسانَ) (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) تعيينا للمعلم وتبيينا لكيفية التعليم والمراد بخلق الإنسان إنشاؤه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة والبيان هو التعبير عما فى الضمير وليس المراد بتعليمه مجرد تمكين الإنسان من بيان نفسه بل منه ومن فهم بيان غيره أيضا إذ هو الذى يدور عليه تعليم القرآن والجمل الثلاث أخبار مترادفة للرحمن وإخلاء الأخيرتين عن العاطف لورودها على منهاج التعديد (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أى يجريان بحساب مقدر فى بروجهما ومنازلهما بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات وتعلم السنون والحساب.

١٧٦

(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) (٩)

____________________________________

(وَالنَّجْمُ) أى النبات الذى ينجم أى يطلع من الأرض ولا ساق له (وَالشَّجَرُ) أى الذى له ساق (يَسْجُدانِ) أى ينقادان له تعالى فيما يريد بهما طبعا انقياد الساجدين من المكلفين طوعا والجملتان خبران* آخران للرحمن جردتا عن الرابط اللفظى تعويلا على كمال قوة الارتباط المعنوى إذ لا يتوهم ذهاب الوهم إلى كون حال الشمس والقمر بتسخير غيره تعالى ولا إلى كون سجود النجم والشجر لما سواه تعالى كأنه قيل الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان له وإخلاء الجملة الأولى عن العاطف لما ذكر من قبل وتوسيط العاطف بينها وبين الثانية لتناسبهما من حيث التقابل لما أن الشمس والقمر علويان والنجم والشجر سفليان ومن حيث إن كلا من حال العلويين وحال السفليين من باب الانقياد لأمر الله عزوجل(وَالسَّماءَ رَفَعَها) أى خلقها مرفوعة محلا ورتبة حيث جعلها منشأ أحكامه وقضاياه ومتنزل أوامره ومحل ملائكته وفيه من التنبيه على كبرياء شأنه وعظم ملكه وسلطانه ما لا يخفى وقرىء بالرفع على الابتداء (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أى شرع العدل وأمر به بأن وفر كل مستحق ما استحقه* ووفى كل ذى حق حقه حتى انتظم به أمر العالم واستقام كما قال عليه الصلاة والسلام بالعدل قامت السموات والأرض قيل فعلى هذا الميزان القرآن وهو قول الحسين بن الفضل كما فى قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) وقيل هو ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما وهو قول الحسن وقتادة والضحاك فالمعنى خلقه موضوعا مخفوضا على الأرض حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم وما تعبدهم به من التسوية والتعديل فى أخذهم وإعطائهم (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أى لئلا تطغوا فيه على أن أن ناصبة ولا نافية ولام العلة مقدرة متعلقة بقوله تعالى (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أو أى لا تطغوا على أنها مفسرة لما فى الشرع من معنى القول ولا ناهية أى لا تعتدوا ولا تتجاوزوا الإنصاف وقرىء لا تطغوا على إرادة القول (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) قوموا وزنكم بالعدل وقيل أقيموا لسان الميزان بالقسط والعدل وقيل الإقامة باليد والقسط بالقلب (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أى لا تنقصوه أمر أولا* بالتسوية ثم نهى عن الطغيان الذى هو اعتداء وزيادة ثم عن الخسران الذى هو تطفيف ونقصان وكرر لفظ الميزان تشديدا للتوصية به وتأكيدا للأمر باستعماله والحث عليه وقرىء ولا تخسروا بفتح التاء وضم السين وكسرها يقال خسر الميزان يخسره ويخسره وبفتح السين أيضا على أن الأصل ولا تخسروا

١٧٧

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣)

____________________________________

فى الميزان فحذف الجار وأوصل الفعل (وَالْأَرْضَ وَضَعَها) أى خفضها مدحوة على الماء (لِلْأَنامِ) أى الخلق قيل المراد به كل ذى روح وقيل كل ما على ظهر الأرض من دابة وقيل الثقلان وقوله تعالى (فِيها فاكِهَةٌ) الخ استئناف مسوق لتقرير ما أفادته الجملة السابقة من كون الأرض موضوعة لمنافع الأنام وتفصيل المنافع العائدة إلى البشر وقيل حال مقدرة من الأرض فالأحسن حينئذ أن يكون الحال هو* الجار والمجرور وفاكهة رفع على الفاعلية أى فبها ضروب كثيرة مما يتفكه به (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) هى أوعية الثمر جمع كم أو كل ما يكم أى يغطى من ليف وسعف وكفرى فإنه مما ينتفع به كالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه (وَالْحَبُّ) هو ما يتغذى به كالحنطة والشعير (ذُو الْعَصْفِ) هو ورق الزرع* وقيل التبن (وَالرَّيْحانُ) قيل هو الرزق أريد به اللب أى فيها ما يتلذذ به من الفواكه والجامع بين التلذذ والتغذى وهو ثمر النخل وما يتغذى به وهو الحب الذى له عصف هو علف الأنعام وريحان هو مطعم الناس وقرىء والحب ذا العصف والريحان أى خلق الحب والريحان أو أخص ويجوز أن يراد وذا الريحان فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه والريحان إما فعيلان من روح فقلبت الواو ياء وأدغم ثم خفف أو فعلان قلبت واوه ياء للتخفيف أو للفرق بينه وبين الروحان وهو ما له روح قاله القرطبى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) الخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله تعالى (لِلْأَنامِ) وسينطق به قوله تعالى (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) والفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فصل من فنون النعماء وصنوف الآلاء الموجبة للإيمان والشكر حتما والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ ومعنى تكذيبهم بآلائه تعالى كفرهم بها إما بإنكار كونه نعمة فى نفسه كتعليم القرآن وما يستند إليه من النعم الدينية وإما بإنكار كونه من الله تعالى مع الاعتراف بكونه نعمة فى نفسه كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره تعالى استقلالا أو اشتراكا صريحا أو دلالة فإن إشراكهم لآلهتهم به تعالى فى العبادة من دواعى إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر شهادة منها بذلك فكفرهم بها تكذيب بها لا محالة أى فإذا كان الأمر كما فصل فبأى فرد من أفراد آلاء مالككما ومربيكما بتلك الآلاء تكذبان مع أن كلا منها ناطق بالحق شاهد بالصدق

١٧٨

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢٢)

____________________________________

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتى كل واحد من الثقلين والصلصال الطين اليابس الذى له صلصال والفخار الخزف وقد خلق الله تعالى آدم عليه‌السلام من تراب جعله طينا ثم حمأ مسنونا ثم صلصالا فلا تنافى بين الآية الناطقة بأحدها وبين ما نطق بأحد الآخرين (وَخَلَقَ الْجَانَّ) أى الجن أو أبا الجن (مِنْ مارِجٍ) من لهب صاف (مِنْ نارٍ) بيان لمارج فإنه فى الأصل للمضطرب من مرج إذا اضطرب (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مما أفاض عليكما فى تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) بالرفع على خبرية مبتدأ محذوف أى الذى فعل ما ذكر من الأفاعيل البديعة رب مشرقى الصيف والشتاء ومغربيهما ومن قضيته أن يكون رب ما بينهما من الموجودات قاطبة وقيل على الابتداء والخبر قوله تعالى (مَرَجَ) الخ وقرىء بالجر على أنه بدل من ربكما (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مما فى ذلك من فوائد لا تحصى من اعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل فى وقته إلى غير ذلك (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أى أرسلهما من مرجت الدابة إذا أرسلتها والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب (يَلْتَقِيانِ) أى* يتجاوران ويتماس سطوحهما لا فصل بينهما فى مرأى العين وقيل أرسل بحرى فارس والروم يلتقيان فى المحيط لأنهما خليجان يتشعبان منه (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) أى حاجز من قدرة الله عزوجل أو من الأرض (لا يَبْغِيانِ) أى لا يبغى أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية أو لا يتجاوزان حديهما بإغراق* ما بينهما (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وليس منهما شىء يقبل التكذيب (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ)

١٧٩

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢٩)

____________________________________

اللؤلؤ الدر والمرجان الخرز الأحمر المشهور وقيل اللؤلؤ كبار الدر والمرجان صغاره فنسبة خروجهما حينئذ إلى البحرين مع أنهما إنما يخرجان من الملح على ما قالوا لما قيل أنهما لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب أو لأنهما لما التقيا وصارا كالشىء الواحد ساغ أن يقال يخرجان من البحر مع أنهما لا يخرجان من جمع البحر ولكن من بعضه وهو الأظهر وقرىء يخرج مبنيا للمفعول من الإخراج ومبنيا للفاعل بنصب اللؤلؤ والمرجان وبنون العظمة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (وَلَهُ الْجَوارِ) أى السفن جمع جارية وقرىء برفع الراء وبحذف الياء كقول من قال[لها ثنايا أربع حسان * وأربع* فكلها ثمان] (الْمُنْشَآتُ) المرفوعات الشرع أو المصنوعات وقرىء بكسر الشين أى الرافعات الشرع* أو اللاتى ينشئن الأمواج بجريهن (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) كالجبال الشاهقة جمع علم وهو الجبل الطويل (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) من خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وجرائها فى البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه (كُلُّ مَنْ عَلَيْها) أى على الأرض من الحيوانات أو المركبات ومن للتغليب أو من الثقلين (فانٍ) هالك لا محالة (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) أى* ذاته عزوجل (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أى ذو الاستغناء المطبق والفضل التام وقيل الذى عنده الجلال والإكرام للمخلصين من عباده وهذه من عظائم صفاته تعالى ولقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألظوا بياذا الجلال والإكرام وعنه عليه الصلاة والسلام أنه مر برجل وهو يصلى ويقول يا ذا الجلال والإكرام فقال استجيب لك وقرىء ذى الجلال والإكرام على أنه صفة ربك وأيا ما كان ففى وصفه تعالى بذلك بعد ذكر فناء الخلق وبقائه تعالى إيذان بأنه تعالى يفيض عليهم بعد فنائهم أيضا آثار لطفه وكرمه حسبما ينبىء عنه قوله تعالى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن إحياؤهم بالحياة الأبدية وإثابتهم بالنعيم المقيم أجل النعماء وأعظم الآلاء (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قاطبة ما يحتاجون

١٨٠