تفسير أبي السّعود - ج ٥

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٥

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المصحف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٧

١

١٣ ـ سورة الرعد

(مدنية وآياتها ثلاثة وأربعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (٢)

____________________________________

(سورة الرعد مدنية وقيل مكية إلا قوله (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُو) الآية وآيها ثلاث وأربعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (المر) اسم للسورة ومحله إما الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى هذه السورة مسماة بهذا الاسم وهو أظهر من الرفع على الابتداء إذ لم يسبق العلم بالتسمية كما مر مرارا وقوله تعالى* (تِلْكَ) على الوجه الأول مبتدأ مستقل وعلى الوجه الثانى مبتدأ ثان أو بدل من الأول أشير به إليه إيذانا بفخامته وأما النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اقرأ أو اذكر فتلك مبتدأ كما إذا جعل المر مسرودا على نمط التعديد أو بمعنى أنا الله أعلم وأرى على ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما والخبر* على النقادير قوله تعالى (آياتُ الْكِتابِ) أى الكتاب العجيب الكامل الغنى عن الوصف به المعروف بذلك من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب به فهو عبارة عن جميع القرآن أو عن الجميع المنزل حينئذ حسبما مر فى مطلع سورة يونس إذ هو المتبادر من مطلق الكتاب المستغنى عن النعت وبه يظهر ما أريد من وصف الآيات بوصف ما أضيفت إليه من نعوت الكمال بخلاف ما إذا جعل عبارة عن السورة فإنها ليست بتلك المثابة من الشهرة فى الانصاف بذلك المغنية عن التصريح بالوصف على أنها عبارة عن جميع آياتها فلا بد من جعل تلك إشارة إلى كل واحدة منها وفيه ما لا يخفى من التعسف الذى مر تفصيله* فى سورة يونس (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أى الكتاب المذكور بكماله لا هذه السورة وحدها* (الْحَقُّ) الثابت المطابق للواقع فى كل ما نطق به الحقيق بأن يخص به الحقية لعراقته فيها وليس فيه ما يدل على أن ما عداه ليس بحق أصلا على أن حقيته مستتبعة لحقية سائر الكتب السماوية لكونه مصدقا لما بين يديه ومهبمنا عليه وفى التعبير عنه بالموصول وإسناد الإنزال إليه بصيغة المبنى للمفعول والتعرض لوصف الربوبية مضافا إلى ضميره عليه‌السلام من الدلالة على فخامة المنزل التابعة لجلالة شأن المنزل* وتشريف المنزل إليه والإيماء إلى وجه بناء الخبر ما لا يخفى (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) بذلك الحق المبين لإخلالهم بالنظر والتأمل فيه فعدم إيمانهم متعلق بعنوان حقيته لأنه المرجع للتصديق والتكذيب لا بعنوان كونه منزلا كما قيل ولأنه وارد على طريقة الوصف دون الأخبار (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ)

٢

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣)

____________________________________

أى خلقهن مرتفعات على طريقة قولهم سبحان من كبر الفيل وصغر البعوض لا أنه رفعها بعد أن لم تكن كذلك والجملة مبتدأ وخبر كقوله (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ (بِغَيْرِ عَمَدٍ) أى بغير دعائم جمع عماد كإهاب* وأهب وهو ما يعمد به أى يسند يقال عمدت الحائط أى أدعمته وقرىء عمد على جمع عمود بمعنى عماد كرسل ورسول وإيراد صيغة الجمع لجمع السموات لا لأن المنفى عن كل واحدة منها عمد لا عماد (تَرَوْنَها) * استئناف استشهد به على ما ذكر من رفع السموات بغير عمد وقيل صفة لعمد جىء بها إيهاما لأن لها عمدا غير مرئية هى قدرة الله تعالى (ثُمَّ اسْتَوى) أى استولى (عَلَى الْعَرْشِ) بالحفظ والتدبير أو استوى* أمره وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة لله عزوجل بلا كيف وأياما كان فليس المراد به القصد إلى إيجاد العرش وخلقه فلا حاجة إلى جعل كلمة ثم للتراخى فى الرتبة (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ذللهما* وجعلهما طائعين لما أريد منهما من الحركات وغيرها (كُلٌّ) من الشمس والقمر (يَجْرِي) حسبما أريد منها* (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) لمدة معينة فيها تتم دورته كالسنة للشمس والشهر للقمر فإن كلا منهما يجرى كل يوم على مدار* معين من المدارات اليومية أو لمدة ينتهى فيها حركاتهما ويخرج جميع ما أريد منهما من القوة إلى الفعل أو لغاية يتم عندها ذلك والجملة بيان لحكم تسخيرهما (يُدَبِّرُ) بما صنع من الرفع والاستواء والتسخير أى* يقضى ويقدر حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة (الْأَمْرَ) أمر الخلق كله وأمر ملكوته وربوبيته (يُفَصِّلُ الْآياتِ) الدلالة على كمال قدرته وبالغ حكمته أى يأتى بها مفصلة وهى ما ذكر من الأفعال العجيبة وما يتلوها من الأوضاع الفلكية الحادثة شيئا فشيئا المستتبعة للآثار الغريبة فى السفليات على موجب التدبير والتقدير فالجملتان إما حالان من ضمير استوى وقوله (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) من تتمة الاستواء وإما مفسرتان له أو الأولى حال منه والثانية من الضمير فيها أو كلاهما من ضمائر الأفعال المذكورة وقوله (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) من تتمة التسخير أو خبران عن قوله (اللهُ) خبرا بعد خبر والموصول صفة للمبتدأ جىء به للدلالة على تحقيق الخبر وتعظيم شأنه كما فى قول الفرزدق[إن الذى سمك السماء بنى لنا * بيتا دعائمه أعز وأطول] (لَعَلَّكُمْ) عند معاينتكم لها وعثوركم على تفاصيلها (بِلِقاءِ رَبِّكُمْ) بملاقاته للجزاء (تُوقِنُونَ) * فإن من تدبرها حق التدبر أيقن أن من قدر على إبداع هذه الصنائع البديعة على كل شىء قدير وأن لهذه التدبيرات المتينة عواقب وغايات لا بد من وصولها وقد بينت على ألسنة الأنبياء عليهم‌السلام أن ذلك ابتلاء المكلفين ثم جزاؤهم حسب أعمالهم فإذن لا بد من الإيقان بالجزاء ولما قزر الشواهد العلوية أردفها بذكر الدلائل السفلية فقال (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) أى بسطها طولا وعرضا قال الأصم المدهو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه ففيه دلالة على بعد مداها وسعة أقطارها (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) أى جبالا* ثوابت فى أحيازها من الرسو وهو ثبات الأجسام الثقيلة ولم يذكر الموصوف لإغناء غلبة الوصف بها

٣

عن ذلك وانحصار مجىء فواعل جمعا لفاعل فى فوارس وهو الك ونواكس إنما هو فى صفات العقلاء وأما فى غيرهم فلا يراعى ذلك أصلا كما فى قوله تعالى (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) وقوله (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) إلى غير ذلك فلا حاجة إلى أن يجعل مفردها صفة لجمع القلة أعنى أجبلا ويعتبر فى جمع الكثرة أعنى جبالا انتظامها لطائفة من جموع القلة وتنزيل كل منها منزلة مفردها كما قيل على أنه لا مجال لذلك فإن جمعية كل من صيغتى الجمعين إنما هى باعتبار الأفراد التى تحتها لا باعتبار انتظام جمع القلة للأفراد وجمع الكثرة لجموع القلة فكل منهما جمع جبل لا أن جبالا جمع أجبل كما أن طوائف جمع طائفة ولا إلى أن يلتجأ إلى جعل الوصف المذكور بالغلبة فى عداد الأسماء التى تجمع على فواعل كما ظن على أنه لا وجه له لما أن الغلبة إنما هى فى* الجمع دون المفرد والتعبير عن الجبال بهذا العنوان لبيان تفرع قرار الأرض على ثباتها (وَأَنْهاراً) مجارى واسعة والمراد ما يجرى فيها من المياه وفى نظمها مع الجبال فى معمولية فعل واحد إشارة إلى أن الجبال منشأ للأنهار وبيان لفائدة أخرى للجبال غير كونها حافظة للأرض عن الاضطراب المخل بثبات الإقدام* وتقلب الحيوان متفرعة على تمكنه وتقلبه وهى تعيشه بالماء والكلأ (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) متعلق بجعل فى قوله* تعالى (جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أى اثنينية حقيقية وهما الفردان اللذان كل منهما زوج الآخر وأكد به الزوجين لئلا يفهم أن المراد بذلك الشفعان إذ يطلق الزوج على المجموع ولكن اثنينية ذلك اثنينية اعتبارية أى جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة فى الدنيا ضربين وصنفين إما فى اللون كالأبيض والأسود أو فى الطعم كالحلو والحامض أو فى القدر كالصغير والكبير أو فى الكيفية كالحار والبارد وما أشبه ذلك* ويجوز أن يتعلق بجعل الأول ويكون الثانى استئنافا لبيان كيفية ذلك الجعل (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) استعارة تبعية تمثيلية مبنية على تشبيه إزالة نور الجو بالظلمة بتغطية الأشياء الظاهرة بالأغطية أى يستر النهار بالليل والتركيب وإن احتمل العكس أيضا بالحمل على تقديم المفعول الثانى على الأول فإن ضوء النهار أيضا ساتر لظلمة الليل إلا أن الأنسب بالليل أن يكون هو الغاشى وعد هذا فى تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهرا باعتبار أن ظهوره فى الأرض فإن الليل إنما هو ظلها وفيما فوق موقع ظلها لاليل أصلا ولأن الليل والنهار لهما تعلق بالثمرات من حيث العقد والإنضاج على أنهما أيضا* زوجان متقابلان مثلها وقرىء يغشى من التغشية (إِنَّ فِي ذلِكَ) أى فيما ذكر من مد الأرض وإيتادها بالرواسى وإجراء الأنهار وخلق الثمرات وإغشاء الليل النهار وفى الإشارة بذلك تنبيه على عظم شأن* المشار إليه فى بابه (لَآياتٍ) باهرة وهى آثار تلك الأفاعيل البديعة جلت حكمة صانعها ففى على معناها فإن تلك الآثار مستقرة فى تلك الأفاعيل منوطة بها ويجوز أن يشار بذلك إلى تلك الآثار المدلول عليها* بتلك الأفاعيل ففى تجريدية (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإن التفكر فيها يؤدى إلى الحكم بأن تكوين كل من ذلك على هذا النمط الرائق والأسلوب اللائق لا بدله من مكون قادر حكيم يفعل ما يشاء ويخار ما يريد لا معقب لحكمه وهو الحميد المجيد.

٤

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤)

____________________________________

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ) جملة مستأنفة مشتملة على طائفة أخرى من الآيات أى بقاع كثيرة مختلفة فى الأوصاف فمن طيبة إلى سبخة وكريمة إلى زهيدة وصلبة إلى رخوة إلى غير ذلك (مُتَجاوِراتٌ) أى متلاصقات* وفى بعض المصاحف قطعا متجاورات أى جعل فى الأرض قطعا (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ) أى بساتين* كثيرة منها (وَزَرْعٌ) من كل نوع من أنواع الحبوب وإفراده لمراعاة أصله ولعل تقديم ذكر الجنات* عليه مع كونه عمود المعاش لظهور حالها فى اختلافها ومباينتها لسائرها ورسوخ ذلك فيها وتأخير قوله تعالى (وَنَخِيلٌ) لئلا يقع بينها وبين صفتها وهى قوله تعالى (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) فاصلة والصنوان* جمع صنو كقنوان وقنو وهى النخلة التى لها رأسان وأصلها واحد وقرىء بضم الصاد على لغة بنى تميم وقيس وقرىء جنات بالنصب عطفا على زوجين وبالجر على كل الثمرات فلعل عدم نظم قوله تعالى (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) فى هذا السلك مع أن اختصاص كل من تلك القطع بما لها من الأحوال والصفات بمحض جعل الخالق الحكيم جلت قدرته حين مد الأرض ودحاها للإيماء إلى كون تلك الأحوال صفات راسخة لتلك القطع وقرىء وزرع ونخيل بالجر عطفا على أعناب أو جنات (يُسْقى) أى ما ذكر من* القطع والجنات والزرع والنخيل وقرىء بالتأنيث مراعاة للفظ والأول أوفق بمقام بيان اتحاد الكل فى حالة السقى (بِماءٍ واحِدٍ) لا اختلاف فى طبعه سواء كان السقى بماء الأمطار أو بماء الأنهاء (وَنُفَضِّلُ) * مع تآخذ أسباب التشابه بمحض قدرتنا واختيارنا (بَعْضَها عَلى بَعْضٍ) آخر منها (فِي الْأُكُلِ) فيما يحصل* منها من الثمر والطعم وقرىء بالياء على بناء الفاعل ردا على يدبر ويفصل ويغشى وعلى بناء المفعول وفيه ما لا يخفى من الفخامة والدلالة على أن عدم احتمال استناد الفعل إلى فاعل آخر مغن عن بناء الفعل للفاعل (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذى فصل من أحوال القطع والجنات (لَآياتٍ) كثيرة عظيمة ظاهرة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) * يعلمون على قضية عقولهم فإن من عقل هذه الأحوال العجيبة لا يتعلثم فى الجزم بأن من قدر على إبداع هذه البدائع وخلق تلك الثمار المختلفة فى الأشكال والألوان والطعوم والروائح فى تلك القطع المتباينة المتجاورة وجعلها حدائق ذات بهجة قادر على إعادة ما أبداه بل هى أهون فى القياس وهذه الأحوال وإن كانت هى الآيات أنفسها لا أنها فيها إلا أنه قد جردت عنها أمثالها مبالغة فى كونها آية ففى تجريدية مثلها فى قوله تعالى (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) أو المشار إليه الأحوال الكلية والآيات أفرادها الحادثة شيئا فشيئا فى الأزمنة وآحادها الواقعة فى الأقطار والأمكنة المشاهدة لأهلها ففى على معناها وحيث كانت دلالة هذه الأحوال على مدلولاتها أظهر مما سبق علق كونها آيات بمحض التعقل ولذلك لم يتعرض لغير تفضيل بعضها على بعض فى الأكل الظاهر لكل عاقل مع تحقق ذلك فى الخواص والكيفيات مما يتوقف العثور عليه على نوع تأمل وتفكر كأنه لا حاجة فى ذلك إلى التفكر أيضا وفيه تعريض بأن المشركين غير عاقلين

٥

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) (٦)

____________________________________

(وَإِنْ تَعْجَبْ) يا محمد من شىء (فَعَجَبٌ) لا أعجب منه حقيق بأن يقصر عليه التعجب (قَوْلُهُمْ) بعد مشاهدة* ما عدد لك من الآيات الشاهدة بأنه تعالى على كل شىء قدير (أَإِذا كُنَّا تُراباً) على طريقة الاستفهام الإنكارى المفيد لكمال الاستبعاد والاستنكار وهو فى محل الرفع على البدلية من قولهم على أنه بمعنى المقول أو فى محل النصب على المفعولية منه على أنه مصدر فالعجب على الأول كلامهم وعلى الثانى تكلمهم بذلك* والعامل فى إذا ما دل عليه قوله (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وهو نبعث أو نعاد وتقديم الظرف لتقوية الإنكار بالبعث بتوجيهه إليه فى حالة منافية له وتكرير الهمزة فى قولهم أئنا لتأكيد الإنكار وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين فى الخلق الجديد بالفعل عند كونهم ترابا بل كونهم بعريضة ذلك واستعدادهم له وفيه من الدلالة على عتوهم وتماديهم فى النكير ما لا يخفى وقيل وإن تعجب من قولهم فى إنكار البعث فعجب قولهم والمآل وإن تعجب فقد تعجبت فى موضع التعجب وقيل وإن تعجب من إنكارهم البعث فعجب قولهم الدال عليه فتأمل وقد جوز كون الخطاب لكل من يصلح له أى إن تعجب يا من ينظر فى هذه الآيات من قدرة من هذه أفعاله فازدد تعجبا ممن ينكر مع هذه الدلائل قدرته تعالى على البعث وهو أهون من هذه والأنسب بقوله (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ) هو الأول وقوله تعالى (فَعَجَبٌ) خبر قدم على المبتدأ للقصر والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم ذاك أمرا عجيبا ويجوز أن يكون مبتدأ لكونه موصوفا بالوصف المقدر كما أشير إليه فالمعنى وإن تعجب فالعجب الذى لا عجب وراءه قولهم هذا فاعجب منه وعلى الأول* وإن تعجب فقولهم هذا عجب لا عجب فوقه (أُولئِكَ) مبتدأ والموصول خبره أى أولئك المنكرون لقدرته* تعالى على البعث ربثما عاينوا ما فصل من الآيات الباهرة الملجئة لهم إلى الإيمان لو كانوا يبصرون (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) وتمادوا فى ذلك فإن إنكارهم لقدرته عزوجل كفر به وأى كفر (وَأُولئِكَ) مبتدأ خبره* قوله (الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) أى مقيدون بقيود الضلال لا يرجى خلاصهم أو مغلولون يوم القيامة* (وَأُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر من الصفات (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لا ينفكون عنها وتوسيط ضمير الفصل ليس لتخصيص الخلود بمنكرى البعث خاصة بل بالجميع المدلول عليه بقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ) بالعقوبة التى أنذروها وذلك حين سألوار ول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن* يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بانذاره (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أى العافية والإحسان إليهم بالإمهال (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أى عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها ولا يحترزون حلول مثلها

٦

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (٨)

____________________________________

بهم والجملة الحالية لبيان ركاكة رأيهم فى الاستعجال بطريق الاستهزاء أى يستعجلونك بها مستهزئين بإنذارك منكرين لوقوع ما أنذرتهم إياه والحال أنه قد مضت العقوبات النازلة على أمثالهم من المكذبين والمستهزئين والمثلة بوزن السمرة العقوبة سميت بها لما بينها وبين المعاقب عليه من المماثلة ومنه المثال القصاص وقرىء المثلات بضمتين باتباع الفاء العين والمثلات بفتح الميم وسكون الثاء كما يقال السمرة والمثلات بضم الميم وسكون الثاء تخفيف المثلات جمع مثلة كركبة وركبات (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) عظيمة (لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أنفسهم بالذنوب والمعاصى ومحله النصب على الحالية أى ظالمين والعامل فيه المغفرة والمعنى إن ربك لغفور للناس لا يعجل لهم العقوبة وإن كانوا ظالمين بل يمهلهم بتأخيرها (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) يعاقب من يشاء منهم حين يشاء فتأخير ما استعجلوه ليس للإهمال وعنه عليه الصلاة والسلام لو لا عفو الله وتجاوزه ما هنأ لأحد العيش ولو لا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم المستعجلون أيضا وإنما عدل عن الإضمار إلى الموصول ذما لهم ونعيا عليهم كفرهم بآيات الله تعالى التى تخر لهاصم الجبال حيث لم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من جنس الآيات وقالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) مثل آيات موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام عنادا ومكابرة وإلا ففى أدنى آية أنزلت عليه عليه الصلاة والسلام غنية وعبرة لأولى الألباب (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) مرسل للإنذار من سوء عاقبة ما يأتون* ويذرون كدأب من قبلك من الرسل وليس عليك إلا الإتيان بما يعلم به نبوتك وقد حصل ذلك بما لا مزيد عليه ولا حاجة إلى إلزامهم وإلقامهم الحجر بالإتيان بما اقترحوا من الآيات (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) معين لا* بالذات بل بعنوان الهداية يعنى لكل قوم نبى مخصوص له هداية مخصوصة يقتضى اختصاص كل مهم بما يختص به حكم لا يعلمها إلا الله أو لكل قوم هاد عظيم الشأن قادر على ذلك هو الله سبحانه وما عليك إلا إنذارهم فلا يهمنك عنادهم وإنكارهم للآيات المنزلة عليك وازدراؤهم بها ثم عقبه بما يدل على كمال علمه وقدرته وشمول قضائه وقدره المبنيين على الحكم والمصالح تنبيها على أن تخصيص كل قوم بنبى وكل نبى بجنس معين من الآيات إنما هو للحكم الداعية إلى ذلك إظهار الكمال قدرته على هدايتهم لكن لا يهدى إلا من تعلق بهدايته مشيئته التابعة لحكم استأثر بعلمها فقال (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) أى تحمله فما موصولة أريد بها ما فى بطنها من حين العلوق إلى زمن الولادة لا بعد تكامل الخلق فقط والعلم متعد إلى واحد أو أى شىء تحمل وعلى أى حال هو من الأحوال المتواردة عليه طورا فطورا فهى استفهامية معلقة للعلم أو حملها فهى مصدرية (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) أى تنقصه وتزداده فى الجثة كالخديج والتام وفى المدة كالمولود* فى أقل مدة الحمل والمولود فى أكثرها وفيما بينهما قيل إن الضحاك ولد فى سنتين وهرم بن حيان فى أربع ومن ذلك سمى هرما وفى العدد كالواحد فما فوقه يروى أن شريكا كان رابع أربعة أو يعلم نقصها وازديادها

٧

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) (١١)

____________________________________

لما فيها فالفعلان متعديان كما فى قوله تعالى (وَغِيضَ الْماءُ) وقوله تعالى (وَازْدَادُوا تِسْعاً) وقوله (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) أولا زمان قد أسندا إلى الأرحام مجازا وهما لما فيها (وَكُلُّ شَيْءٍ) من الأشياء (عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) بقدر لا يمكن تجاوزه عنه كقوله (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) فإن كل حادث من الأعيان والأعراض له فى كل مرتبة من مراتب التكوين ومباديها وقت معين وحال مخصوص لا يكاد يجاوزه والمراد بالعندية الحضور العلمى بل العلم الحضورى فإن تحقق الأشياء فى أنفسها فى أى مرتبة كانت من مراتب الوجود والاستعداد لذلك علم له بالنسبة إلى الله عزوجل(عالِمُ الْغَيْبِ) أى الغائب عن الحس (وَالشَّهادَةِ) أى الحاضر له عبر عنهما بهما مبالغة وقيل أريد بالغيب المعدوم وبالشهادة الموجود وهو خبر مبتدأ محذوف أو خبر بعد* خبر وقرىء بالنصب على المدح وهذا كالدليل على ما قبله من قوله تعالى (اللهُ يَعْلَمُ) الخ (الْكَبِيرُ) العظيم* الشأن الذى كل شىء دونه (الْمُتَعالِ) المستعلى على كل شىء بقدرته أو المنزه عن نعوت المخلوقات وبعد ما بين سبحانه أنه عالم بجميع أحوال الإنسان فى مراتب فطرته ومحيط بعالمى الغيب والشهادة بين أنه تعالى عالم بجميع ما يأتون وما يذرون من الأفعال والأقوال وأنه لا فرق بالنسبة إليه بين السر والعلن فقال (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) فى نفسه (وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) أظهره لغيره (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ) مبالغ فى الاختفاء* كأنه مختف (بِاللَّيْلِ) وطالب للزيادة (وَسارِبٌ) بارز يراه كل أحد (بِالنَّهارِ) من سرب سروبا أى برز وهو عطف على من هو مستخف أو على مستخف ومن عبارة عن الاثنين كما فى قوله[تعال فإن عاهدتنى لا تخوننى * نكن مثل من ياذئب يصطحبان] كأنه قيل سواء منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بالنهار والاستواء وإن أسند إلى من أسر ومن جهر وإلى المستخفى والسارب لكنه فى الحقيقة مسند إلى ما أسره وما جهر به أو إلى الفاعل من حيث هو فاعل كما فى الأخيرين وتقديم الأسرار والاستخفاء لإظهار كمال علمه تعالى فكأنه فى التعلق بالخفيات أقدم منه بالظواهر وإلا فنسبته إلى الكل سواء لما عرفته آنفا (لَهُ) أى لكل ممن* أسر أو جهر والمستخفى أو السارب (مُعَقِّباتٌ) ملائكة تعتقب فى حفظه جمع معقبة من عقبه مبالغة عقبه إذا جاء على عقبه كأن بعضهم يعقب بعضا أو لأنهم يعقبون أقواله وأفعاله فيكتبونه أو اعتقب فأدغمت التاء فى الفاف والتاء للمبالغة أو المراد بالمعقبات الجماعات وقرىء معاقيب جمع معقب أو معقبة على* تعويض الياء من إحدى القافين (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) من جميع جوانبه أو من الأعمال ما قدم وأخر* (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) من بأسه حين أذنب بالاستمهال والاستغفار له أو يحفظونه من المضار أو

٨

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) (١٣)

____________________________________

يراقبون أحواله من أجل أمر الله تعالى وقد قرىء به وقيل من بمعنى الباء وقيل من أمر الله صفة ثانية لمعقبات وقيل المعقبات الحراس والجلاوزة حول السلطان يحفظونه فى توهمه من قضاء الله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من النعمة والعافية (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الأعمال الصالحة أو ملكاتها التى هى* فطرة الله التى فطر الناس عليها إلى أضدادها (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً) لسوء اختيارهم واستحقاقهم* لذلك (فَلا مَرَدَّ لَهُ) فلا رد له والعامل فى إذا ما دل عليه الجواب (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) يلى أمرهم* ويدفع عنهم السوء الذى أراده الله بهم بما قدمت أيديهم من تغيير ما بهم وفيه دلالة على أن تخلف مراده تعالى محال وإيذان بأنهم بما باشروه من إنكار البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية قد غيروا ما بأنفسهم من الفطرة واستحقوا لذلك حلول غضب الله تعالى وعذابه (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً) من الصاعقة (وَطَمَعاً) فى المطر فوجه تقديم الخوف على الطمع ظاهر لما أن المخوف عليه النفس أو الرزق العتيد* والمطموع فيه الرزق المترقب وقيل الخوف أيضا من المطر لكن الخائف منه غير الطامع فيه كالخزاف والحراث ويأباه الترتيب اللهم إلا أن يتكلف ما أشير إليه من أن المخوف عتيد والمطموع فيه مترقب وانتصابهما إما على المصدرية أى فتخافون خوفا وتطمعون طمعا أو على الحالية من البرق أو المخاطبين بإضمار ذوى أو بجعل المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل مبالغة أو على العلية بتقدير المضاف أى إرادة خوف وطمع أو بتأويل الإخافة والإطماع ليتحد فاعل العلة والفعل المعلل وأما جعل المعلل هى الرؤية التى تتضمنها الإراءة على طريقة قول النابغة[وحلت بيوتى فى يفاع ممنع * تخال به راعى الحمولة طائرا] * [حذارا على أن لا ينال معاونى * ولا نسوتى حتى يمتن حرائرا] أى أحللت بيوتى حذارا فلا سبيل إليه لأن ما وقع فى معرض العلة الغائية لا سيما الخوف لا يصلح علة لرؤيتهم (وَيُنْشِئُ السَّحابَ) الغمام المنسحب فى الجو* (الثِّقالَ) بالماء وهى جمع ثقيلة وصف بها السحاب لكونها اسم جنس فى معنى الجمع والواحدة سحابة* يقال سحابة ثقيلة وسحاب ثقال كما يقال امرأة كريمة ونسوة كرام (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ) أى سامعوه من العباد الراجين للمطر ملتبسين (بِحَمْدِه) أى يضجون بسبحان الله والحمد لله وإسناده إلى الرعد لحمله لهم* على ذلك أو يسبح الرعد نفسه على أن تسبيحه عبارة عن دلالته على وحدانيته تعالى وفضله المستوجب لحمده وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول سبحان من يسبح الرعد بحمده وإذا اشتد يقول اللهم لا تقلتنا بغضبك ولا نهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك وعن على رضى الله عنه سبحان من سبحت له وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن اليهود سألت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرعد فقال ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار

٩

* يسوق بها السحاب وعن الحسن خلق من خلق الله تعالى ليس بملك (وَالْمَلائِكَةُ) أى يسبح الملائكة (مِنْ خِيفَتِهِ) من هيبته وإجلاله جل جلاله وقيل الضمير للرعد (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) * فيهلكه بذلك (وَهُمْ) أى الكفرة المخاطبون فى قوله تعالى (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) وقد التفت إلى الغيبة إيذانا بإسقاطهم عن درجة الخطاب وإعراضا عنهم وتعديدا لجناياتهم لدى كل من يستحق الخطاب كأنه قيل هو الذى يفعل أمثال هذه الأفاعيل العجيبة من إراءة البرق وإنشاء السحاب الثقال وإرسال الصواعق الدالة على كمال علمه وقدرته ويعقلها من يعقلها من المؤمنين أو الرعد نفسه أو الملك الموكل به والملائكة ويعملون بموجب ذلك من التسبيح والحمد والخوف من هيبته تعالى وهم أى الكفرة الذين* حكيت هناتهم مع ذلهم وهوانهم وحقارة شأنهم (يُجادِلُونَ فِي اللهِ) أى فى شأنه تعالى حيث يفعلون ما يفعلون من إنكار البعث واستعجال العذاب استهزاء واقتراح الآيات فالواو لعطف الجملة على ما قبلها من قوله تعالى (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) الخ أو على قوله (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ) الخ وأما العطف على قوله تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) كما قيل فلا مجال له لان قوله تعالى (اللهُ يَعْلَمُ) الخ استئناف لبيان بطلان قولهم ذلك ونظائره من استعجال العذاب وإنكار البعث قاطع لعطف ما بعده على ما قبله وقيل للحال أى فيصيب بالصواعق من يشاء وهم فى الجدال وقد أريد به ما أصاب أربد بن ربيعة أخا لبيد فإنه أقبل مع عامر بن الطفيل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبغيانه الغوائل فدخلا المسجد وهو عليه الصلاة والسلام جالس فى نفر من من الأصحاب رضى الله عنهم فاستشرفوا لجمال عامر وكان من أجمل الناس وقد كان أوصى إلى أربد أنه إذا رأيتنى أكلم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدر من خلفه واضربه بالسيف فجعل يكلمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدار أربد من خلفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاخترط من سيفه شبرا فحبسه الله تعالى فلم يقدر على سله وجعل عامر يومىء إليه فرأى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحال فقال اللهم اكفنيهما بما شئت فأرسل الله عزوجل على أربد صاعقة فى يوم صحو صائف فأحرقته وولى عامر هاربا فنزل فى بيت امرأة سلولية فلما أصبح ضم عليه سلاحه وتغير لونه وركب فرسه فجعل يركض فى الصحراء ويقول إبرز يا ملك الموت ويقول الشعر ويقول واللات لئن أصحر لى محمد وصاحبه يعنى ملك الموت لأنفذتهما برمحى فأرسل الله تعالى ملكا فلطمه بجناحه فأرداه فى التراب فخرجت على ركبته فى الوقت غدة عظيمة فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول غرة كغرة البعير وموت فى بيت سلولية ثم دعا بفرسه فركبه فأجراه حتى مات على ظهره وقيل أريد به ما روى عن الحسن أنه كان رجل من طواغيت العرب فبعث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفرا من أصحابه يدعونه إلى الله عزوجل فقال لهم أخبرونى عما تدعوننى إليه ما هو ومم هو من ذهب أم من فضة أم من نحاس أم من حديد أم من در فاستعظموا مقالته فرجعوا إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا ما رأينا رجلا أكفر قلبا ولا أعتى على الله منه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارجعوا إليه فرجعوا إليه فما زاد إلا مقالته الأولى وأخبث فرجعوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبروه بما صنع فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارجعوا إليه فرجعوا إليه فبينما هم عنده ينازعونه إذ ارتفعت سحابة ورعدت وبرقت ورمت بصاعقة فاحترق الكافر فجاءوا يسعون ليخبروه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخبر فاستقبلهم الأصحاب فقالوا احترق* صاحبكم قالوا من أين علمتم قالوا أوحى إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) أى والحال أنه شديد لمماحلة والمكابرة والمماكرة لأعدائه من محله إذا كاده وعرضه للهلاك ومنه تمحل إذا تكلف استعمال الحيل وقيل هو محال من

١٠

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (١٥)

____________________________________

المحل بمعنى القوة وقيل محول من الحول أو الحيلة أعل على غير قياس ويعضده أنه قرىء بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال ويجوز أن يكون بمعنى الفقار فيكون مثلا فى القوة والقدرة كقولهم فساعد الله أشد وموساه أحد (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) أى الدعوة الثابتة الواقعة فى محلها المجابة عند وقوعها والإضافة للإيذان بملابستها للحق واختصاصها به وكونه بمعزل من شائبة البطلان والضياع والضلال كما يقال كلمة الحق وقبل له دعوة الله سبحانه أى الدعوة اللائقة بحضرته كما فى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله والتعرض لوصف الحقية لتربية معنى الاستجابة والأولى هو الأول لقوله تعالى (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) وتعلق الجملتين بما قبلهما من حيث إن إهلاك أربد وعامر محال من الله تعالى وإجابة لدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهما إن كانت الآية نزلت فى شأنهما أو من حيث إنه وعيد للكفرة على مجادلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحلول محاله بهم وتحذير لهم بإجابة دعوته عليهم (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) أى الأصنام* الذين يدعوهم المشركون فحذف العائد (مِنْ دُونِهِ) من دون الله عزوجل (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) من طلباتهم* (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ) أى إلا استجابة كائنة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد فالاستجابة* مصدر من المبنى للفاعل على ما يقتضيه الفعل الظاهر أعنى لا يستجيبون ويجوز أن يكون من المبنى للمفعول ويضاف إلى الباسط بناء على استلزام المصدر من المبنى للفاعل للمصدر من المبنى للمفعول وجودا وعدما فكأنه قيل لا يستجيبون لهم بشىء فلا يستجاب لهم إلا استجابة كائنة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء كما فى قوله[وعضة دهر يا ابن مروان لم تدع * من المال إلا مسحت أو بحلف] * أى لم تدع فلم ييق إلا مسحت أو مجلف (لِيَبْلُغَ) أى الماء بنفسه من غير أن يؤخذ بشىء من إناء ونحوه (فاهُ وَما هُوَ) أى الماء (بِبالِغِهِ) ببالغ فيه أبدا* لكونه جمادا لا يشعر بعطشه ولا ببسط يده إليه فضلا عن الاستطاعة لما أراده من البلوغ إلى فيه شبه حال المشركين فى عدم حصولهم فى دعاء آلهتهم على شىء أصلا وركاكة رأيهم فى ذلك بحال عطشان هائم لا يدرى ما يفعل قد بسط كفيه من بعيد إلى الماء يبغى وصوله إلى فيه من غير ملاحظة التشبيه فى جميع مفردات الأطراف فإن الماء فى نفسه شىء نافع بخلاف آلهتهم والمراد نفى الاستجابة رأسا إلا أنه قد أخرج الكلام مخرج التهكم بهم فقيل لا يستجيبون لهم شيئا من الاستجابة إلا استجابة كائنة فى هذه الصورة التى ليست فيها شائبة الاستجابة قطعا فهو فى الحقيقة من باب التعليق بالمحال وقرىء تدعون بالتاء وكباسط بالتنوين (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أى ذهاب وضياع وخسار (وَلِلَّهِ) وحده (يَسْجُدُ) يخضع وينقاد لا لشىء غيره استقلالا ولا اشتراكا فالقصر ينتظم القلب والإفراد (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والثقلين* (طَوْعاً وَكَرْهاً) أى طائعين وكارهين أو انقياد طوع وكره أو حال طوع وكره فإن خضوع الكل لعظمة الله عز*

١١

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١٦)

____________________________________

وجل وانقيادهم لإحداث ما أراده فيهم من أحكام التكوين والإعدام شاءوا أو أبوا وعدم مداخلة حكم* غيره بل غير حكمه تعالى فى تلك الشئون مما لا يخفى على أحد (وَظِلالُهُمْ) أى وتنقاد له تعالى ظلال من من له ظل منهم أعنى الإنس حيث تتصرف على مشيئته وتتاتى لإرادته فى الامتداد والتقلص والفىء* والزوال (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) ظرف السجود المقدر أو حال من الظلال وتخصيص الوقتين بالذكر مع أن انقيادها متحقق فى جميع أوقات وجودها لظهور ذلك فيهما والغدو جميع غداة كفتى فى جمع فتاة والآصال جمع أصيل وقيل جمع أصل وهو جمع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب وقيل الغدو مصدر ويؤيده أنه قرىء والإيصال أى الدخول فى الأصيل هذا وقد قيل إن المراد حقيقة السجود فإن الكفرة حال الاضطرار وهو المعنى بقوله تعالى (وَكَرْهاً) يخصون السجود به سبحانه قال تعالى (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ولا يبعد أن يخلق الله تعالى فى الظلال أفهاما وعقولا بها تسجد لله سبحانه كما خلقها للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهر فيها آثار التجلى كما قاله ابن الأنبارى ويجوز أن يراد بسجودها ما يشاهد فيها من هيئة السجود تبعا لأصحابها وأنت خبير بأن اختصاص سجود الكافر حالة الضرورة والشدة بالله سبحانه لا يجدى فإن سجودهم لأصنامهم حالة الرخاء مخل بالقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور فالوجه حمل السجود على الانقياد ولأن تحقيق انقياد الكل فى الإبداع والإعدام له تعالى أدحل فى التوبيخ على اتخاذ أولياء من دونه من تحقيق سجودهم له تعالى وتخصيص انقياد العقلاء بالذكر مع كون غيرهم أيضا كذلك لأنهم العمدة وانقيادهم دليل انقياد غيرهم على أنه بين ذلك بقوله عزوجل (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنه لتحقيق أن خالقهما ومتولى أمرهما مع ما فيهما على الإطلاق هو* الله سبحانه وقوله تعالى (قُلِ اللهُ) أمر بالجواب من قبله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إشعارا بأنه متعين للجوابية فهو والخصم فى تقريره سواء أو أمر بحكاية اعترافهم إيذانا بأنه أمر لا بد لهم من ذلك كأنه قيل أحك اعترافهم فبكتهم بما يلزمهم من الحجة وألقمهم الحجر أو أمر بتلقينهم ذلك إن تلعثموا فى الجواب حذرا من الإلزام* فإنهم لا يتمالكون إذ ذاك ولا يقدرون على إنكاره (قُلْ) إلزاما لهم وتبكيتا (أَفَاتَّخَذْتُمْ) لأنفسكم والهمزة لإنكار الواقع كما فى قولك أضربت أباك لا لإنكار الوقوع كما فى قولك أضربت أبى والفاء للعطف* على مقدر بعد الهمزة أى أعلمنم أن ربهما هو الله الذى ينقاد لأمره من فيهما كافة فاتخذتم عقيبه (مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) عاجزين (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً) يستجلبونه (وَلا ضَرًّا) يدفعونه عن أنفسهم فضلا عن القدرة على جلب النفع لغيره ودفع الضرر عنه لا على أن يكون الإنكار متوجها إلى المعطوفين معا كما فى قوله تعالى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) إذا قدر المعطوف عليه ألا تسمعون بل إلى ترتب الثانى على الأول مع

١٢

وجوب أن يترتب عليه نقيضه كما إذا قدر أتسمعون والمعنى أبعد أن علمتم أن ربهما هو الله جل جلاله اتخذتم من دونه أولياء عجزة والحال أن قضية العلم بذلك إنما هو الاقتصار على توليه فعكستم الأمر كما فى قوله تعالى (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) ووصف الأولياء ههنا بعدم المالكية للنفع والضر فى ترشيح الإنكار وتأكيده كتقييد الاتخاذ هناك بالجملة الحالية أعنى قوله تعالى (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) فإن كلا منهما مما ينفى الاتخاذ المذكور ويؤكد إنكاره (قُلْ) تصويرا لآرائهم الركيكة* بصورة المحسوس (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى) الذى هو المشرك الجاهل بالعبادة ومستحقها (وَالْبَصِيرُ) * الذى هو الموحد العالم بذلك أو الأول عبارة عن المعبود الغافل والثانى إشارة إلى المعبود العالم بكل شىء (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ) التى هى عبارة عن الكفر والضلال (وَالنُّورُ) الذى هو عبارة عن التوحيد* والإيمان وقرىء بالياء ولما دل النظم الكريم على أن الكفر فيما فعلوا من اتخاذ الأصنام أولياء من دون الله سبحانه فى الضلال المحض والخطأ البحت بحيث لا يخفى بطلانه على أحد وأنهم فى ذلك كالأعمى الذى لا يهتدى إلى شىء أصلا وليس لهم فى ذلك شبهة تصلح أن تكون منشأ لغلطهم وخطئهم فضلا عن الحجة أكد ذلك فقيل (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ) أى بل أجعلوا له (شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) سبحانه والهمزة* لإنكار الوقوع لا لإنكار الواقع مع وقوعه وقوله (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) هو الذى يتوجه إليه الإنكار وأما نفس الجعل فهو واقع لا يتعلق به الإنكار بهذا المعنى والمعنى أنهم لم يجعلوا لله تعالى شركاء خلقوا كخلقه (فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) بسبب ذلك وقالوا هؤلاء خلقوا كخلقه تعالى فاستحقوا بذلك العبادة كما* استحقها ليكون ذلك منشأ لخطئهم بل إنما جعلوا له شركاء ما هو بمعزل من ذلك بالمرة وفيه ما لا يخفى من التعريض بركاكة رأيهم والتهكم بهم (قُلْ) تحقيقا للحق وإرشادا لهم إليه (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) * كافة لا خالق سواه فيشاركه فى استحقاق العبادة (وَهُوَ الْواحِدُ) المتوحد بالألوهية المتفرد بالربوبية* (الْقَهَّارُ) لكل ما سواه فكيف يتوهم أن يكون له شريك وبعد ما مثل المشرك والشرك بالأعمى* والظلمات والموحد والتوحيد بالبصير والنور مثل الحق الذى هو القرآن العظيم فى فيضانه من جناب القدس على قلوب خالية عنه متفاوتة الاستعداد وفى جريانه عليها ملاحظة وحفظا وعلى الألسنة مذاكرة وتلاوة وفى ثباته فيهما مع كونه ممدا لحياتها الروحانية وما يتلوها من الملكات السنية والأعمال المرضية بالماء النازل من السماء السائل فى أودية يابسة لم تجر عادتها بذلك سيلانا مقدرا بمقدار اقتضته الحكمة فى إحياء الأرض وما عليها الباقى فيها حسبما يدور عليه منافع الناس وفى كونه حلية تتحلى به النفوس وتصل إلى البهجة الأبدية ومتاعا يتمتع به فى المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزات التى يتخذ منها أنواع الآلات والأدوات وتبقى منتفعا بها مدة طويلة ومثل الباطل الذى ابتلى به الكفرة لقصور نظرهم بما يظهر فيهما من غير مداخلة له فيهما وإخلال بصفائهما من الزبد الرابى فوقهما المضمحل سريعا فقيل.

١٣

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) (١٧)

____________________________________

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أى من جهتها (السَّماءِ) أى كثيرا أو نوعا منه وهو ماء المطر (فَسالَتْ) بذلك* (أَوْدِيَةٌ) واقعة فى مواقعه لا جميع الأودية إذ الأمطار لا نستوعب الأقطار وهو جمع واد وهو مفرج بين جبال أو تلال أو آكام على الشذوذ كناد وأندية وناج وأنجية قالوا وجهه أن فاعلا يجىء بمعنى فعيل كناصر ونصير وشاهد وشهيد وعالم وعليم وحيث جمع فعيل على أفعلة كجريب وأجربة جمع فاعل أيضا على أفعلة فإن أريد بها ما يسيل فيها مجازا فإسناد السيلان إليها حقيقى وإن أريد معناها الحقيقى فالإسناد مجازى كما فى جرى النهر وإيثار التمثيل بها على الأنهار المستمرة الجريان لوضوح المماثلة بين* شأنها وشأن ما مثل بها كما أشير إليه (بِقَدَرِها) أى سالت ملتبسة بمقدارها الذى عينه الله تعالى واقتضته حكمته فى نفع الناس أو بمقدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت محالها صغرا وكبرا لا بكونها مالئة لها منطبقة عليها بل بمجرد قلتها بصغرها المستلزم لقلة موارد الماء وكثرتها بكبرها المستدعى لكثرة الموارد فإن مورد السيل الجارى فى الوادى الصغير أقل من مورد السيل الجارى فى الوادى الكبير هذا إن أريد بالأودية ما يسيل فيها أما إن أريد بها معناها الحقيقى فالمعنى سالت مياهها بقدر تلك الأودية على نحو ما عرفته آنفا أو يراد بضميرها مياهها بطريق الاستخدام ويراد بقدرها ما ذكر أولا من المعنيين* (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ) الجارى فى تلك الأودية أى حمل معه (زَبَداً) أى غثاء ورغوة وإنما وصف ذلك* بقوله تعالى (رابِياً) أى عاليا منتفخا فوقه بيانا لما أريد بالاحتمال المحتمل لكون الحميل غير طاف كالأشجار الثقيلة وإنما لم يدفع ذلك الاحتمال بأن يقال فاحتمل السيل فوقه للإيذان بأن تلك الفوقية مقتضى شأن الزبد لا من جهة المحتمل تحقيقا للمماثلة بينه وبين ما مثل به من الباطل الذى شأنه الظهور* فى بادى الرأى من غير مداخلة فى الحق (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) أى يفعلون الإيقاد عليه كائنا فى* النار والضمير للناس أضمر مع عدم سبق الذكر لظهوره وقرىء بالخطاب (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ) أى لطلب اتخاذ حلية وهى ما يتزين ويتجمل به كالحلى المتخذة من الذهب والفضة أو اتخاذ متاع وهو ما يتمتع* به من الأوانى والآلات المتخذة من الرصاص والحديد وغير ذلك من الفلزات (زَبَدٌ) خبث (مِثْلُهُ) مثل ما ذكر من زبد الماء فى كونه رابيا فوقه فقوله (زَبَدٌ) مبتدأ خبره الظرف المقدم ومن ابتدائية دالة على مجرد كونه مبتدأ وناشئا منه لا تبعيضية معربة عن كونه بعضا منه كما قيل لإخلال ذلك بالتمثيل وفى التعبير عن ذلك بالموصول والتعرض لما فى حين الصلة من إيقاد النار عليه جرى على سنن الكبرياء بإظهار التهاون به كما فى قوله تعالى (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) وإشارة إلى كيفية حصول الزبد منه بذوبانه وفى زيادة فى النار إشعار بالمبالغة فى الاعتمال للأذابة وحصول الزبد كما أشير إليه وعدم التعرض لإخراجه من

١٤

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٨)

____________________________________

الأرض لعدم دخل ذلك العنوان فى التمثيل كما أن لعنوان إنزال الماء من السماء دخلا فيه حسبما فصل فيما سلف بل له إخلال بذلك (كَذلِكَ) أى مثل ذلك الضرب البديع المشتمل على نكت رائقة (يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أى مثل الحق ومثل الباطل والحذف للإنباء عن كمال التماثل بين الممثل والممثل به كأن المثل المضروب عين الحق والباطل وبعد تحقيق التمثيل مع الإيماء فى تضاعيف ذلك إلى وجوه المماثلة على أبدع وجوه وآنقها حسبما أشير إليه فى مواقعها بين عاقبة كل من الممثلين على وجه التمثيل مع التصريح ببعض ما به المماثلة من الذهاب والبقاء تتمة للغرض من التمثيل من الحث على اتباع الحق الثابت والردع عن الباطل الزائد فقيل (فَأَمَّا الزَّبَدُ) من كل منهما (فَيَذْهَبُ جُفاءً) أى مرميا به وقرىء جفالا والمعنى* واحد (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) منهما كالماء الصافى والفلز الخالص (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) أما الماء فيثبت* بعضه فى منافعه ويسلك بعضه فى عروق الأرض إلى العيون والقنا والآبار وأما الفلز فيصاغ من بعضه أنواع الحلى ويتخذ من بعضه أصناف الآلات والأدوات فينتفع بكل من ذلك أنواع الانتفاعات مدة طويلة فالمراد بالمكث فى الأرض ما هو أعم من المكث فى نفسها ومن البقاء فى أيدى المتقلبين فيها وتغيير ترتيب اللف الواقع فى الفذلكة الموافق للترتيب الواقع فى التمثيل لمراعاة الملاءمة بين حالتى الذهاب والبقاء وبين ذكريهما فإن المعتبر إنما هو بقاء الباقى بعد ذهاب الذاهب لا قبله (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ) أى مثل ذلك الضرب العجيب* يضرب (الْأَمْثالَ) فى كل باب إظهارا لكمال اللطف والعناية فى الإرشاد والهداية وفيه تفخيم لشأن هذا* التمثيل وتأكيد لقوله (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول أو بجعل ذلك إشارة إليهما جميعا وبعد ما بين شأن كل من الحق والباطل حالا ومآلا أكمل بيان شرع فى بيان حال أهل كل منهما مآلا تكميلا للدعوة ترغيبا وترهيبا فقيل (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ) إذ دعاهم إلى الحق بفنون الدعوة التى من جملتها ضرب الأمثال فإنه ألطف ذريعة إلى تفهيم القلوب الغبية وأقوى وسيلة إلى تسخير النفوس الأبية كيف لا وهو تصوير للمعقول بصورة المحسوس وإبراز لأوابد المعانى فى هيئة المأنوس فأى دعوة أولى منه بالاستجابة والقبول (الْحُسْنى) أى المثوبة الحسنى وهى الجنة (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) * وعاندوا الحق الجلى (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ) من أصناف الأموال (جَمِيعاً) بحيث لم يشذ منه شاذ فى* أقطارها أو مجموعا غير متفرق بحسب الأزمان (وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) أى بما فى الأرض ومثله معه* جميعا ليتخلصوا عما بهم وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان فالموصول مبتدأ والشرطية كما هى خبره لكن لا على أنها وضعت موضع السوءى فوقعت فى مقابلة الحسنى الواقعة فى القرينة الأولى لمراعاة حسن المقابلة فصار كأنه قيل والذين لم يستجيبوا له السوءى كما يوهم فإن الشرطية وإن دلت على كمال سوء حالهم لكها بمعزل من القيام مقام لفظ السوءى مصحوبا باللام الداخلة على الموصول أو ضميره

١٥

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) (٢٠)

____________________________________

* وعليه يدور حصول المرام وإنما الوافع فى تلك المقابلة سوء الحساب فى قوله تعالى (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) وحيث كان اسم الإشارة الواقع مبتدأ فى هذه الجملة عبارة عن الموصول الواقع مبتدأ فى الجملة السابقة كان خبرها أعنى الجملة الظرفية خبرا عن الموصول فى الحقيقة ومبينا لإبهام مضمون الشرطية الواقعة خبرا عنه أولا ولذلك ترك العطف فصار كأنه قيل والذين لم يستجيبوا له لهم سوء الحساب وذلك فى قوة أن يقال وللذين لم يستجيبوا له سوء الحساب مع زيادة تأكيد فتم حسن المقابلة على أبلغ وجه* وآكده ثم بين مؤدى ذلك فقيل (وَمَأْواهُمْ) أى مرجعهم (جَهَنَّمُ) وفيه نوع تأكيد لتفسير الحسنى بالجنة* (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أى المستقر والمخصوص بالذم محذوف وقيل اللام فى قوله تعالى (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ) متعلقة بقوله (يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) أى الأمثال السالفة وقوله (الْحُسْنى) صفة للمصدر أى استجابوا الاستجابة الحسنى وقوله (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) معطوف على الموصول الأول وقوله (لَوْ أَنَّ لَهُمْ) الخ كلام مستأنف مسوق لبيان ما أعد لغير المستجيبين من العذاب والمعنى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين المستجيبين والكافرين المعاندين أى هما مثلا الفريقين وأنت خبير بأن عنوان الاستجابة وعدمها لا مناسبة بينه وبين ما يدور عليه أمر التمثيل وأن الاستعمال المستفيض دخول اللام على من يقصد تذكيره بالمثل نعم قد يستعمل فى هذا المعنى أيضا كما فى قوله سبحانه (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) ونظائره على أن بعض الأمثال المضروبة لا سيما المثل الأخير الموصول بالكلام ليس مثل الفريقين بل مثل للحق والباطل ولا مساغ لجعل الفريقين مضروبا لهم أيضا بأن يجعل فى حكم أن يقال كذلك يضرب الله الأمثال للناس إذ لا وجه حينئذ لتنويعهم إلى المستجيبين وغير المستجيبين فتأمل (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) * من القرآن الذى مثل بالماء المنزل من السماء والإبريز الخالص فى المنفعة والجدوى (الْحَقُّ) الذى لا حق* وراءه أو الحق الذى أشير إليه بالأمثال المضروبة فيستجيب له (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) عمى القلب لا يشاهده وهو نار على علم ولا يقدر قدره وهو فى أقصى مراتب العلو والعظم فيبقى حائرا فى ظلمات الجهل وغياهب الضلال أولا يتذكر بما ضرب من الأمثال أى كمن لا يعلم ذلك إلا أنه أريد زيادة تقبيح حاله فعبر عنه بالأعمى وإيراد الفاء بعد الهمزة لتوجيه الإنكار إلى ترتب توهم المماثلة على ظهور حال كل منهما بما ضرب من الأمثال وبين المصير والمآل كأنه قيل أبعد ما بين حال كل من الفريقين ومآلهما يتوهم المماثلة* بينهما ثم استؤنف فقيل (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) بما ذكر من المذكرات فيقف على ما بينهما من التفاوت والتنائى (أُولُوا الْأَلْبابِ) أى العقول الخالصة المبرأة من مشايعة الإلف ومعارضة الوهم (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) بما عقدوا على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته تعالى حين قالوا بلى أو ما عهد الله عليهم فى كتبه (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين

١٦

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) (٢٣)

____________________________________

العباد وهو تعميم بعد تخصيص وفيه تأكيد للاستمرار المفهوم من صيغة المستقبل (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الرحم وموالاة المؤمنين والإيمان بجميع الأنبياء المجمعين على الحق من غير تفريق بين أحد منهم ويندرج فيه مراعاة جميع حقوق الناس بل حقوق كل ما يتعلق بهم من الهر والدجاج (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) خشية جلال وهيبة ورهبة فلا يعصونه فيما أمر به (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) فيحاسبون* أنفسهم قبل أن يحاسبوا وفيه دلالة على كمال فظاعته حسبما ذكر فيما قبل (وَالَّذِينَ صَبَرُوا) على كل ما تكرهه النفس من الأفعال والتروك (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) طلبا لرضاه خاصة من غير أن ينظر إلى جانب الخلق رياء* وسمعة ولا إلى جانب النفس زينة وعجبا وحيث كان الصبر على الوجه المذكور ملاك الأمر فى كل ما ذكر من الصلات السابقة واللاحقة أورد على صيغة الماضى اعتناء بشأنه ودلالة على وجوب تحققه فإن ذلك مما لا بد منه إما فى نفس الصلات كما فيما عدا الأولى والرابعة والخامسة أو فى إظهار أحكامها كما فى الصلات الثلاث المذكورات فإنها وإن استغنت عن الصبر فى أنفسها حيث لا مشقة على النفس فى الاعتراف بالربوبية والخشية والخوف لكن إظهار أحكامها والجرى على موجبها غير خال عن الاحتياج إليه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) * المفروضة (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أى بعضه الذى يجب عليهم إنفاقه (سِرًّا) لمن لم يعرف بالمال أو لمن لا يتهم* بترك الزكاة أو عند إنفاقه وإعطائه من تمنعه المروءة من أخذه ظاهرا (وَعَلانِيَةً) لمن لم يكن كما ذكر أو الأول* فى النطوع والثانى فى الفرض (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ) أى يجازون الإساءة بالإحسان أو يتبعون الحسنة السيئة* فتمحوها. عن ابن عباس رضى الله عنهما يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سىء غيرهم وعن الحسن إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا وعن ابن كيسان إذا أذنبوا تابوا وقيل إذا رأوا منكرا أمروا بتغييره وتقديم المجرور على المنصوب لإظهار كمال العناية بالحسنة (أُولئِكَ) * المنعوتون بالنعوت الجليلة والملكات الجميلة وهو مبتدأ خبره الجملة الظرفية أعنى قوله تعالى (لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) * أى عاقبه الدنيا وما ينبغى أن يكون مآل أمر أهلها وهى الجنة وقيل الجار والمجرور خبر لأولئك وعقبى الدار فاعل الاستقرار وأياما كان فليس فيه قصر حتى يرد أن بعض ما فى حين الصلة ليس من العزائم التى يخل إخلالها بالموصول إلى حسن العاقبة والجملة خبر للموصولات المتعاطفة أو استئناف لبيان ما استوجبوه بتلك الصفات أن جعلت الموصولات المتعاطفة صفات لأولى الألباب على طريقة المدح من غير أن يقصد أن يكون للصلات المذكورة مدخل فى التذكر (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من عقبى الدار أو مبتدأ

١٧

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٢٥)

____________________________________

* خبره (يَدْخُلُونَها) والعدن الإقامة ثم صار علما لجنة من الجنات أى جنات يقيمون فيها وقيل هو بطنان* الجنة (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ) جمع أبوى كل واحد منهم فكأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم (وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) وهو عطف على المرفوع فى يدخلون وإنما ساغ ذلك للفصل بالضمير الآخر أو مفعول معه والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهلهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعا لهم تعظيما لشأنهم وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة وأن الموصوف بتلك الصفات يقرن بعضهم ببعض لما بينهم من القرابة والوصلة فى دخول الجنة زيادة فى أنسهم وفى التقييد بالصلاح قطع للأطماع الفارغة لمن يتمسك بمجرد حبل* الأنساب (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) من أبواب المنازل أو من أبواب الفتوح والتحف قائلين (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) بشارة لهم بدوام السلامة (بِما صَبَرْتُمْ) متعلق بعليكم أو بمحذوف أى هذه الكرامة العظمى بما صبرتم أى بسبب صبركم أو بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ومتاعبه والمعنى لئن تعبتم فى الدنيا لقد استرحتم الساعة وتخصيص الصبر بما ذكر من بين الصلات السابقة لما قدمناه من أن له دخلا فى كل منها ومزية زائدة من حيث إنه ملاك الأمر فى كل منها وإن شيئا منها لا يعتد به إلا بأن يكون* لابتغاء وجه الرب تعالى وتقدس (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) أى فنعم عقبى الدار الجنة وقرىء بفتح النون والأصل نعم فسكن العين بنقل حركتها إلى النون تارة وبدونه أخرى وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يأتى قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار وكذا عن الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) أريد بهم من يقابل الأولين ويعاندهم فى الاتصاف* بنقائض صفاتهم (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) من بعد ما أوثقوه من الاعتراف والقبول (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الإيمان بجميع الأنبياء المجمعين على الحق حيث يؤمنون ببعضهم ويكفرون ببعضهم ومن حقوق الأرحام وموالاة المؤمنين وغير ذلك مما لا يراعون حقوقه من الأمور المعدودة فيما سلف وإنما لم يتعرض لنفى الخشية والخوف عنهم صريحا لدلالة النقض والقطع على ذلك وأما عدم التعرض لنفى الصبر المذكور فلأنه إنما اعتبر تحققه فى ضمن الحسنات المعدودة ليقعن معتدا بهن فلا وجه لنفيه عمن بينه وبين الحسنات بعد المشرقين كما لا وجه لنفى الصلاة والزكاة ممن لا يحوم حول أصل الإيمان بالله تعالى فضلا عن فروع الشرائع وإن أريد بالانفاق التطوع فنفيه مندرج تحت قطع ما أمر الله تعالى بوصله وأما درء السيئة بالحسنة فانتفاؤه عنهم ظاهر مما سبق ولحق فإن من يجازى إحسانه عزوجل بنقض العهد* ومخالفة الأمر ويباشر الفساد بدأ حسبما يحكيه قوله عز وعلا (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) أى بالظلم وتهييج الفتن كيف يتصور منه مجازاة الإساءة بالإحسان على أن ذلك يشعر بأن له دخلا فى الإفضاء إلى

١٨

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (٢٧)

____________________________________

العقوبة التى ينبىء عنها قوله تعالى (أُولئِكَ) الخ أى أولئك الموصوفون بما ذكر من القبائح (لَهُمُ) بسبب ذلك* (اللَّعْنَةُ) أى الإبعاد من رحمة الله تعالى (وَلَهُمْ) مع ذلك (سُوءُ الدَّارِ) أى سوء عاقبة الدنيا أو عذاب* جهنم فإنها دارهم لأن ترتيب الحكم على الموصول مشعر بعلية الصلة له ولا يخفى أنه لا دخل له فى ذلك على أكثر التفاسير فإن مجازاة السيئة بمثلها مأذون فيها ودفع الكلام السيىء بالحسن وكذا الإعطاء عند المنع والعفو عند الظلم والوصل عند القطع ليس مما يورث تركه تبعة وأما ما اعتبر اندراجه تحت الصلة الثانية من الاخلال ببعض الحقوق المندوبة فلا ضير فى ذلك لأن اعتباره من حيث إنه من مستتبعات الإخلال بالعزائم بالكفر ببعض الأنبياء وعقوق الوالدين وترك سائر الحقوق الواجبة وتكرير لهم للتأكيد والإيذان باختلافهما واستقلال كل منهما فى الثبوت (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) أى يوسعه (لِمَنْ يَشاءُ) من عباده (وَيَقْدِرُ) أى يضيقه على من يشاء حسبما تقتضيه الحكمة من غير أن يكون لأحد مدخل فى ذلك* ولا شعور بحكمته فربما يبسطه للكافر إملاء واستدراجا وربما يضيقه على المؤمن زيادة لأجره فلا يغتر ببسط الكافر كما لا يقنط بقدره المؤمن (وَفَرِحُوا) أى أهل مكة فرح أشر وبطر لا فرح سرور بفضل* الله تعالى (بِالْحَياةِ الدُّنْيا) وما بسط لهم فيها من نعيمها (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) وما يتبعها من النعيم (فِي الْآخِرَةِ) * أى فى جنب نعيم الآخرة (إِلَّا مَتاعٌ) إلا شىء نزر يتمتع به كعجالة الراكب وزاد الراعى والمعنى أنهم* رضوا بحظ الدنيا معرضين عن نعيم الآخرة والحال أن ما أشروا به فى جنب ما أعرضوا عنه شىء قليل النفع سريع النفاد (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى أهل مكة وإيثار هذه الطريقة على الإضمار مع ظهور إرادتهم عقيب ذكر فرحهم بالحياة الدنيا لذمهم والتسجيل عليهم بالكفر فيما حكى عنهم من قولهم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) فإن ذلك فى أقصى مراتب المكابرة والعناد كأن ما أنزل عليه عليه‌السلام من الآيات العظام الباهرة ليس بآية حتى اقترحوا ما لا تقتضيه الحكمة من الآيات المحسوسة التى لا يبقى لأحد بعد ذلك طاقة بعدم القبول ولذلك أمر فى الجواب بقوله تعالى (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) إضلاله مشيئة تابعة للحكمة* الداعية إليها أى يخلق فيه الضلال لصرفه اختياره إلى تحصيله ويدعه منهمكا فيه لعلمه بأنه لا ينجع فيه اللطف ولا ينفعه الإرشاد كمن كان على صفتكم فى المكابرة والعناد وشدة الشكيمة والغلو فى الفساد فلا سبيل له إلى الاهتداء ولو جاءته كل آية (وَيَهْدِي إِلَيْهِ) أى إلى جنابه العلى الكبير هداية موصلة إليه لا دلالة* مطلقة على ما يوصل إليه فإن ذلك غير مختص بالمهتدين وفيه من تشريفهم ما لا يوصف (مَنْ أَنابَ) أقبل*

١٩

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) (٣٠)

____________________________________

إلى الحق وتأمل فى تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحة وحقيقة الإنابة الدخول فى نوبة الخير وإيثار إيرادها فى الصلة على إيراد المشيئة كما فى الصلة الأولى للتنبيه على الداعى إلى الهداية بل إلى مشيئتها والإشعار بما دعا إلى المشيئة الأولى من المكابرة وفيه حث للكفرة على الإقلاع عما هم عليه من العتو والعناد وإيثار صيغة الماضى للإيماء إلى استدعاء الهداية لسابقة الإنابة كما أن إيثار صيغة المضارع فى الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئة حسب استمرار مكابرتهم (الَّذِينَ آمَنُوا) بدل ممن أناب فإن أريد بالهداية الهداية المستمرة فالأمر ظاهر لظهور كون الإيمان مؤديا إليها وإن أريد إحداثها فالمراد بالذين آمنوا الذين صار أمرهم إلى الإيمان كما فى قوله تعالى (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) أى الصائرين إلى التقوى وإلا فالإيمان لا يؤدى إلى الهداية نفسها أو خبر مبتدأ* محذوف أى هم الذين آمنوا أو منصوب على المدح (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ) أى تستقر وتسكن (بِذِكْرِ اللهِ) بكلامه المعجز الذى لا ريب فيه كقوله تعالى (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) وقوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ويعلمون أن لا أعظم منه فيقترحوها والعدول إلى صيغة المضارع لإفادة دوام الاطمئنان وتجدده حسب تجدد* الآيات وتعددها (أَلا بِذِكْرِ اللهِ) وحده (تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) دون غيره من الأمور التى تميل إليها الفوس من الدنيا ويات وهذا ظاهر وأما سائر المعجزات فالقصر من حيث إنها ليست فى إفادة الطمأنينة بالنسبة إلى من لم يشاهدها بمثابة القرآن المجيد فإنه معجزة باقية إلى يوم القيامة يشاهدها كل أحد وتطمئن به القلوب كافة وفيه إشعار بأن الكفرة ليست لهم قلوب وأفئدتهم هواء حيث لم يطمئنوا بذكر الله تعالى ولم يعدوه آية وهو أظهر الآيات وأبهرها وقيل تطمئن قلوبهم بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته كقوله تعالى (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) أو بذكر دلائله الدالة على وحدانيته أو بذكره جل وعلا أنسابه وتبتلا إليه فالمراد بالهداية دوامها واستمرارها (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بدل من القلوب على حذف المضاف بدل الكل حسبما رمز إليه أى قلوب الذين آمنوا وفيه إيماء إلى أن* الإنسان إنما هو القلب أو مبتدأ خبره الجملة الدعائية على التأويل أعنى قوله (طُوبى لَهُمْ) أو خبر مبتدأ مضمر أو نصب على المدح فطوبى لهم حال عاملها الفعلان وطوبى مصدر من طاب كبشرى وزلفى والواو منقلبة من الياء كموقن وموسر وقرأ مكوزة الأعرابى طيبى لتسلم الياء والمعنى أصابوا خيرا ومحلها النصب كسلاما لك أو الرفع على الابتداء وإن كانت نكرة لكونها فى معنى الدعاء كسلام عليك يدل على ذلك القراءة فى قوله تعالى (وَحُسْنُ مَآبٍ) بالنصب والرفع واللام فى لهم للبيان مثلها فى سقيا لك (كَذلِكَ)

٢٠