تفسير أبي السّعود - ج ٢

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٢

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٧

١

٣ ـ سورةءال عمران

مدنية وهى مائتا آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) آل عمران

اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (٢) آل عمران

(سورة آل عمران مدنية وهى مائتا آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) قد سلف أن ما لا تكون من هذه الفواتح مفردة كصاد وقاف ونون ولا موازنة لمفرد كحاميم وطاسين وياسين الموازنة لقابيل وهابيل وكطاسين ميم الموازنة لدارابجرد حسبما ذكره سيبويه فى الكتاب فطريق التلفظ بها الحكاية فقط ساكنة الأعجاز على الوقف سواء جعلت أسماء أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لما أنه مغتفر فى باب الوقف قطعا فحق هذه الفاتحة أن يوقف عليها ثم يبدأ بما بعدها كما فعله أبو بكر رضى الله عنه رواية عن عاصم وأما ما فيها من الفتح على القراءة المشهورة فإنما هى حركه همزة الجلالة ألقيت على الميم لتدل على ثبوتها إذ ليس إسقاطها للدرج بل للتخفيف فهى ببقاء حركتها فى حكم الثابت المبتدأ به والميم بكون الحركة لغيرها فى حكم الوقف على السكون دون الحركة كما توهم واعترض بأنه غير معهود فى الكلام وقيل هى حركة لالتقاء السواكن التى هى الياء والميم ولام الجلالة بعد سقوط همزتها وأنت خبير بأن سقوطها مبنى على وقوعها فى الدرج وقد عرفت أن سكون الميم وقفى موجب لانقطاعها عما بعدها مستدع لثبات الهمزة على حالها لا كما فى الحروف والأسماء المبنية على السكون فإن حقها الاتصال بما بعدها وضعا واستعمالا فتسقط بها همزة الوصل وتحرك أعجازها لالتقاء الساكنين ثم إن جعلت مسرودة على نمط التعديد فلا محل لها من الإعراب كسائر الفواتح وإن جعلت اسما للسورة فمحلها إما الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف وإما النصب على إضمار فعل يليق بالمقام ذكر أو اقرأ أو نحوهما وأما الرفع بالابتداء أو النصب بتقدير فعل القسم أو الجر بتقدير حرفه فلا مساغ لشىء منها لما أن ما بعدها غير صالح للخبرية ولا للإقسام عليه فإن الاسم الجليل مبتدأ وما بعده خبره والجملة مستأنفة أى هو المستحق للمعبودية لا غير وقوله عزوجل (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) خبر آخر له أو لمبتدأ محذوف أى هو الحى القيوم لا غيره وقيل هو صفة للمبتدأ أو بدل منه أو من الخبر الأول أو هو الخبر وما قبله اعتراض بين المبتدأ والخبر مقرر لما يفيده الاسم الجليل أو حال منه وأيا ما كان فهو كالدليل على اختصاص استحقاق المعبودية به سبحانه وتعالى لما مر من أن معنى الحى الباقى الذى لا سبيل عليه للموت والفناء ومعنى القيوم الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه ومن ضرورة اختصاص ذينك الوصفين به تعالى اختصاص استحقاق المعبودية به تعالى لاستحالة

٢

تحققه بدونهما وقد روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال اسم الله الأعظم فى ثلاث سور فى سورة البقرة (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وفى آل عمران (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وفى طه (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) وروى أن بنى إسرائيل سألوا موسى عليه‌السلام عن اسم الله الأعظم قال الحى القيوم ويروى أن عيسى عليه‌السلام كان إذا أراد إحياء الموتى يدعو يا حى يا قيوم ويقال إن آصف بن برخياحين أتى بعرش بلقيس دعا بذلك وقرىء الحى القيام وهذا رد على من زعم أن عيسى عليه‌السلام كان ربا فإنه روى أن وفد نجران قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا ستين راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ثلاثة منهم أكابر إليهم يئول أمرهم أحدهم أميرهم وصاحب مشورتهم العاقب واسمه عبد المسيح وثانيهم وزيرهم ومشيرهم السيد واسمه الأيهم وثالثهم حبرهم وأسقفهم وصاحب مدارسهم أبو حارثة بن علقمة أحد بنى بكر بن وائل وقد كان ملوك الروم شرفوه ومولوه وأكرموه لما شاهدوا من علمه واجتهاده فى دينهم وبنوا له كنائس فلما خرجوا من نجران ركب أبو حارثة بغلته وكان أخوه كرز بن علقمة إلى جنبه فبينا بغلة أبى حارثة تسير إذ عثرت فقال كرز تعسا للأبعد يريد به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له أبو حارثة بل تعست أمك فقال كرز ولم يا أخى قال إنه والله النبى الذى كنا ننتظره فقال له كرز فما يمنعك عنه وأنت تعلم هذا قال لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالا كثيرة وأكرمونا فلو آمنا به لأخذوا منا كلها فوقع ذلك فى قلب كرز وأضمره إلى أن أسلم فكان يحدث بذلك فأتوا المدينة ثم دخلوا مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد صلاة العصر عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية فاخرة يقول بعض من رآهم من أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رأينا وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا ليصلوا فى المسجد فقال عليه‌السلام دعوهم فصلوا إلى المشرق ثم تكلم أولئك الثلاثة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا تارة عيسى هو الله لأنه كان يحيى الموتى ويبرىء الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير وتارة أخرى هو ابن الله إذ لم يكن له أب يعلم وتارة أخرى إنه ثالث ثلاثة لقوله تعالى (فَعَلْنا) وقلنا ولو كان واحدا لقال فعلت وقلت فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسلموا قالوا أسلمنا قبلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذبتم يمنعكم من الإسلام دعاؤكم لله تعالى ولدا قالوا إن لم يكن ولدا لله فمن أبوه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه فقالوا بلى قال ألستم تعلمون أن ربنا حى لا يموت وأن عيسى يأتى عليه الفناء قالوا بلى قال عليه‌السلام ألستم تعلمون أن ربنا قيوم على كل شىء يحفظه ويرزقه قالوا بلى قال عليه‌السلام فهل يملك عيسى من ذلك شيئا قالوا لا فقال عليه‌السلام ألستم تعلمون أن الله تعالى لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء قالوا بلى قال عليه‌السلام فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم قالوا بلى قال عليه‌السلام ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى فى الرحم كيف شاء وأن ربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث قالوا بلى قال عليه‌السلام ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذى كما يغذى الصبى ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث قالوا بلى قال عليه‌السلام فكيف يكون هذا كما زعمتم فسكتوا وأبوا إلا جحودا فأنزل الله عزوجل من أول السورة إلى نيف وثمانين آية تقريرا لما احتج به عليه‌السلام عليهم وأجاب

٣

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) (٤)

____________________________________

به عن شبههم وتحقيقا للحق الذى فيه يمترون (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) أى القرآن عبر عنه باسم الجنس إيذانا بكمال تفوقه على بقية الأفراد فى حيازة كمالات الجنس كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه كما يلوح به التصريح باسمى التوراة والإنجيل وصيغة التفعيل للدلالة على التنجيم وتقديم الظرف على المفعول لما مر من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والجملة إما مستأنفة أو خبر آخر عن الاسم الجليل أو هى الخبر وقوله تعالى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) اعتراض أو حال وقوله عزوجل (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) صفة أو بدل كما مر وقرىء نزل عليك الكتاب بالتخفيف ورفع الكتاب فالظاهر حينئذ أن تكون مستأنفة وقيل يجوز كونها خبرا بحذف العائد أى نزل الكتاب من عنده (بِالْحَقِّ) حال من الفاعل أو المفعول أى نزله محقا فى تنزيله على ما هو عليه أو ملتبسا بالعدل فى أحكامه أو بالصدق فى أخباره التى من جملتها خبر التوحيد وما يليه وفى وعده ووعيده أو بما يحقق أنه من عند الله تعالى من الحجج البينة (مُصَدِّقاً) حال من الكتاب بالاتفاق على تقدير كون قوله تعالى (بِالْحَقِ) حالا من فاعل نزل وأما على تقدير حاليته من الكتاب فهو عند من يجوز تعدد الحال بلا عطف ولا بدلية حال منه بعد حال وأما عند من يمنعه فقد قيل إنه حال من محل الحال الأولى على البدلية وقيل من المستكن فى الجار والمجرور لأنه حينئذ يتحمل ضميرا لقيامه مقام عامله المتحمل له فيكون حالا متداخلة وعلى كل حال فهى حال مؤكدة وفائدة تقييد التنزيل بها حث أهل الكتابين على الإيمان بالمنزل وتنبيههم على وجوبه فإن الإيمان بالمصدق موجب للإيمان بما يصدقه حتما (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) مفعول لمصدقا واللام دعامة لتقوية العمل نحو فعال لما يريد أى مصدقا لما قبله من الكتب السالفة وفيه إيماء إلى حضورها وكمال ظهور أمرها بين الناس وتصديقه إياها فى الدعوة إلى الإيمان والتوحيد وتنزيه الله عزوجل عما لا يليق بشأنه الجليل والأمر بالعدل والإحسان وكذا فى أنباء الأنبياء والأمم الخالية وكذا فى نزوله على النعت المذكور فيها وكذا فى الشرائع التى لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار ظاهر لا ريب فيه وأما فى الشرائع المختلفة باختلافهما فمن حيث إن أحكام كل واحد منها واردة حسبما تقتضيه الحكمة التشريعية بالنسبة إلى خصوصيات الأمم المكلفة بها مشتملة على المصالح اللائقة بشأنهم (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) تعيين لما بين يديه وتبيين لرفعة محله تأكيدا لما قبله وتمهيدا لما بعده إذ بذلك يترقى شأن ما يصدقه رفعة ونباهة ويزداد فى القلوب قبولا ومهابة ويتفاحش حال من كفر بهما فى الشناعة واستتباع ما سيذكر من العذاب الشديد والانتقام أى أنزلهما جملة على موسى وعيسى عليهما‌السلام وإنما لم يذكرا لأن الكلام فى الكتابين لا فيمن أنزلا عليه وهما اسمان أعجميان الأول عبرى والثانى سريانى ويعضده القراءة بفتح همزة الإنجيل فإن أفعيل ليس من أبنية العرب والتصدى لاشتقاقهما من الورى والنجل تعسف (مِنْ قَبْلُ) متعلق بأنزل

٤

أى أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب والتصريح به مع ظهور الأمر للمبالغة فى البيان (هُدىً لِلنَّاسِ) فى حيز النصب على أنه علة للإنزال أى أنزلهما لهداية الناس أو على أنه حال منهما أى أنزلهما حال كونهما هدى لهم والإفراد لما أنه مصدر جعلا نفس الهدى مبالغة أو حذف منه المضاف أى ذوى هدى ثم إن أريد هدايتهما بجميع ما فيهما من حيث هو جميع فالمراد بالناس الأمم الماضية من حين نزولهما إلى زمان نسخهما وإن أريد هدايتهما على الإطلاق وهو الأنسب بالمقام فالناس على عمومه لما أن هدايتهما بما عدا الشرائع المنسوخة من الأمور التى يصدقهما القرآن فيها ومن جملتها البشارة بنزوله وبمبعث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعم الناس قاطبة (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) الفرقان فى الأصل مصدر كالغفران أطلق على الفاعل مبالغة والمراد به ههنا إما جنس الكتب الإلهية عبر عنها بوصف شامل لما ذكر منها وما لم يذكر على طريق التتميم بالتعميم إثر تخصيص بعض مشاهيرها بالذكر كما فى قوله عزوجل (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً) إلى قوله تعالى (وَفاكِهَةً) وإما نفس الكتب المذكورة أعيد ذكرها بوصف خاص لم يذكر فيما سبق على طريقة العطف بتكرير لفظ الإنزال تنزيلا للتغاير الوصفى منزلة التغاير الذاتى كما فى قوله سبحانه ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وإما الزبور فإنه مشتمل على المواعظ الفارقة بين الحق والباطل الداعية إلى الخير والرشاد الزاجرة عن الشر والفساد وتقديم الإنجيل عليه مع تأخره عنه نزولا لقوة مناسبته للتوراة فى الاشتمال على الأحكام والشرائع وشيوع اقترانهما فى الذكر وإما القرآن نفسه ذكر بنعت مادح له بعد ما ذكر باسم الجنس تعظيما لشأنه ورفعا لمكانه وقد بين أولا تنزيله التدريجى إلى الأرض وثانيا إنزاله الدفعى إلى السماء الدنيا أو أريد بالإنزال القدر المشترك العارى عن قيد التدريج وعدمه وإما المعجزات المقرونة بإنزال الكتب المذكورة الفارقة بين المحق والمبطل (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) وضع موضع الضمير العائد إلى ما فصل من الكتب المنزلة أو منها ومن المعجزات وآيات مضافة إلى الاسم الجليل تعيينا لحيثية كفرهم وتهويلا لأمرهم وتأكيدا لاستحقاقهم العذاب الشديد وإيذانا بأن ذلك الاستحقاق لا يشترط فيه الكفر بالكل بل يكفى فيه الكفر ببعض منها والمراد بالموصول إما أهل الكتابين وهو الأنسب بمقام المحاجة معهم أو جنس الكفرة وهم داخلون فيه دخولا أوليا أى إن الذين كفروا بما ذكر من آيات الله الناطقة بالحق لا سيما بتوحيده تعالى وتنزيهه عما لا يليق بشأنه الجليل كلا أو بعضا مع ما بها من النعوت الموجبة للإيمان بها بأن كذبوا بالقرآن أصالة وبسائر الكتب الإلهية تبعا لما أن تكذيب المصدق موجب لتكذيب ما يصدقه حتما وأصالة أيضا بأن كذبوا بآياتها الناطقة بالتوحيد والتنزيه وآياتها المبشرة بنزول القرآن ومبعث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيروها (لَهُمْ) بسبب كفرهم بها (عَذابٌ) مرتفع إما على الفاعلية من الجار والمجرور أو على الابتداء والجملة خبر إن والتنوين للتفخيم أى أى عذاب (شَدِيدٌ) لا يقادر قدره وهو وعيد جىء به إثر تقرير أمر التوحيد الذاتى والوصفى والإشارة إلى ما ينطق بذلك من الكتب الإلهية حملا على القبول والإذعان وزجرا عن الكفر والعصيان (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يغالب يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (ذُو انْتِقامٍ) عظيم خارج عن أفراد جنسه وهو افتعال من النقمة وهى السطوة والتسلط يقال انتقم منه إذا عاقبه بجنايته والجملة اعتراض تذييلى مقرر للوعيد

٥

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦)

____________________________________

ومؤكد له (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) استئناف كلام سيق لبيان سعة علمه تعالى وإحاطته بجميع ما فى العالم من الأشياء التى من جملتها ما صدر عنهم من الكفر والفسوق سرا وجهرا إثر بيان كمال قدرته وعزته تربية لما قبله من الوعيد وتنبيها على أن الوقوف على بعض المغيبات كما كان فى عيسى عليه‌السلام بمعزل من بلوغ رتبة الصفات الإلهية وإنما عبر عن علمه عزوجل بما ذكر بعدم خفائه عليه كما فى قوله سبحانه وما يخفى على الله من شىء فى الأرض ولا فى السماء إيذانا بأن علمه تعالى بمعلوماته وإن كانت فى أقصى الغايات الخفية ليس من شأنه أن يكون على وجه يمكن أن يقارنه شائبة خفاء بوجه من الوجوه كما فى علوم المخلوقين بل هو فى غاية الوضوح والجلاء والجملة المنفية خبر لإن وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وكلمة فى متعلقة بمحذوف وقع صفة لشىء مؤكدة لعمومه المستفاد من وقوعه فى سياق النفى أى لا يخفى عليه شىء ما كائن فى الأرض ولا فى السماء أعم من أن يكون ذلك بطريق الاستقرار فيهما أو الجزئية منهما وقيل متعلقة بيخفى وإنما عبر بهما عن كل العالم لأنهما قطراه وتقديم الأرض على السماء لإظهار الاعتناء بشأن أحوال أهلها وتوسيط حرف النفى بينهما للدلالة على الترقى من الأدنى إلى الأعلى باعتبار القرب والبعد منا المستدعيين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا وقوله عزوجل (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) جملة مستأنفة ناطقة ببعض أحكام قيوميته تعالى وجريان أحوال الخلق فى أطوار الوجود حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة مقررة لكمال علمه مع زيادة بيان لتعلقه بالأشياء قبل دخولها تحت الوجود ضرورة وجوب علمه تعالى بالصور المختلفة المترتبة على التصوير المترتب على المشيئة قبل تحققها بمراتب وكلمة فى متعلقة بيصوركم أو بمحذوف وقع حالا من ضمير المفعول أى يصوركم وأنتم فى الأرحام مضغ وكيف معمول ليشاء والجملة فى محل النصب على الحالية إما من فاعل يصوركم أى يصوركم كائنا على مشيئته تعالى أى مريدا أو من مفعوله أى يصوركم كائنين على مشيئته تعالى تابعين لها فى قبول الأحوال المتغايرة من كونكم نطفا ثم علقا ثم مضغا غير مخلقة ثم مخلقة وفى الإتصاف بالصفات المختلفة من الذكورة والأنوثة والحسن والقبح وغير ذلك من الصفات وفيه من الدلالة على بطلان زعم من زعم ربوبية عيسى عليه‌السلام وهو من جملة أبناء النواسيت المتقلبين فى هذه الأطوار على مشيئة البارى عزوجل وكمال ركاكة عقولهم ما لا يخفى وقرىء تصوركم على صيغة الماضى من التفعل أى صوركم لنفسه وعبادته (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ لا يتصف بشىء مما ذكر من الشئون العظيمة الخاصة بالألوهية أحد ليتوهم ألوهيته (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) المتناهى فى القدرة والحكمة ولذلك يخلقكم على ما ذكر من النمط البديع

٦

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٧)

____________________________________

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) شروع فى إبطال شبههم الناشئة عما نطق به القرآن فى نعت عيسى عليه‌السلام بطريق الاستئناف إثر بيان اختصاص الربوبية ومناطها به سبحانه وتعالى تارة بعد أخرى وكون كل من عداه مقهورا تحت ملكوته تابعا لمشيئته. قيل إن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألست تزعم يا محمد أن عيسى كلمة الله وروح منه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلى قالوا فحسبنا ذلك فنعى عليهم زيغهم وفتنتهم وبين أن الكتاب مؤسس على أصول رصينة وفروع مبنية عليها ناطقة بالحق قاضية ببطلان ما هم عليه من الضلال والمراد بالإنزال القدر المشترك المجرد عن الدلالة على قيد التدريج وعدمه ولام الكتاب للعهد وتقديم الظرف عليه لما أشير إليه فيما قبل من الاعتناء بشأن بشارته عليه‌السلام بتشريف الإنزال عليه ومن التشويق إلى ما أنزل فإن النفس عند تأخير ما حقه التقديم لا سيما بعد الإشعار برفعة شأنه أو بمنفعته تبقى مترقبة له فيتمكن لديها عند وروده عليها فضل تمكن وليتصل به تقسيمه إلى قسميه (مِنْهُ آياتٌ) الظرف خبر وأيات مبتدأ أو بالعكس بتأويل مر تحقيقه فى قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) الآية والأول أوفق بقواعد الصناعة والثانى أدخل فى جزالة المعنى إذ المقصود الأصلى انقسام الكتاب إلى القسمين المعهودين لا كونهما من الكتاب فتذكر والجملة مستأنفة أو فى حيز النصب على الحالية من الكتاب أى هو الذى أنزل الكتاب كائنا على هذه الحال أى منقسما إلى محكم ومتشابه أو الظرف هو الحال وحده وآيات مرتفع به على الفاعلية (مُحْكَماتٌ) صفة آيات أى قطعية الدلالة على المعنى المراد محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال والاشتباه (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أى أصل فيه وعمدة يرد إليها غيرها فالمراد بالكتاب كله والإضافة بمعنى فى كما فى واحد العشرة لا بمعنى اللام فإن ذلك يؤدى إلى كون الكتاب عبارة عما عدا المحكمات والجملة إما صفة لما قبلها أو مستأنفة وإنما أفرد الأم مع تعدد الآيات لما أن المراد بيان أصلية كل واحدة منها أو بيان أن الكل بمنزلة آية واحدة كما فى قوله تعالى (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) وقيل اكتفى بالمفرد عن الجمع كما فى قول الشاعر[بها جيف الحصرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب] أى وأما جلودها (وَأُخَرُ) نعت لمحذوف معطوف على آيات أى وآيات أخر وهى جمع أخرى وإنما لم ينصرف لأنه وصف معدول عن الأخر أو عن آخر من (مُتَشابِهاتٌ) صفة لأخر وفى الحقيقة صفة للمحذوف أى محتملات لمعان متشابهة لا يمتاز بعضها من بعض فى استحقاق الإرادة بها ولا يتضح الأمر إلا بالنظر الدقيق والتأمل الأنيق فالتشابه فى الحقيقة وصف لتلك المعانى وصف به الآيات على طريقة وصف الدال بوصف المدلول وقيل لما كان من شأن الأمور المتشابهة أن يعجز العقل عن التمييز بينها سمى كل ما لا يهتدى إليه العقل متشابها وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه

٧

كما أن المشكل فى الأصل ما دخل فى أشكاله وأمثاله ولم يعلم بعينه ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضه من تلك الجهة وإنما جعل ذلك كذلك ليظهر فضل العلماء ويزداد حرصهم على الاجتهاد فى تدبرها وتحصيل العلوم التى نيط بها استنباط ما أريد بها من الأحكام الحقة فينالوا بها وبإتعاب القرائح فى استخراج مقاصدها الرائفة ومعانيها اللائقة المدارج العالية ويعرجوا بالتوفيق بينها وبين المحكمات من اليقين والاطمئنان إلى المعارج القاصية وأما قوله عزوجل (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) فمعناه أنها حفظت من اعتراء الخلل أو من النسخ أو أيدت بالحجج القاطعة الدالة على حقيتها أو جعلت حكيمة لا نطوائها على جلائل الحكم البالغة ودقائقها وقوله تعالى (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) معناه متشابه الأجزاء أى يشبه بعضها بعضا فى صحة المعنى وجزالة النظم وحقية المدلول (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أى ميل عن الحق إلى الأهواء الباطلة. قال الراغب الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين وفى جعل قلوبهم مقرا للزيغ مبالغة فى عدولهم عن سنن الرشاد وإصرارهم على الشر والفساد (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) معرضين عن المحكمات أى يتعلقون بظاهر المتشابه من الكتاب أو بتأويل باطل لا تحريا للحق بعد الإيمان بكونه من عند الله تعالى بل (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أى طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه كما نقل عن الوفد (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أى وطلب أن يؤلوه حسبما يشتهونه من التأويلات الزائغة والحال أنهم بمعزل من تلك الرتبة وذلك قوله عزوجل (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) فإنه حال من ضمير فيتبعون باعتبار العلة الأخيرة أى يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله والحال أنه مخصوص به تعالى وبمن وفقه له من عباده الراسخين فى العلم أى الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم يتزلزلوا فى مزال الأقدام فى تعليل الاتباع بابتغاء تأويله دون نفس تأويله وتجريد التأويل عن الوصف بالصحة أو الحقية إيذان بأنهم ليسوا من التأويل فى شىء وأن ما يبتغونه ليس بتأويل أصلا لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر صاحبه ومن وقف على إلا الله فسر المتشابه بما استأثر الله عز وعلا بعلمه كمدة بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة وخواص الأعداد كعدد الزبانية أو بما دل القاطع على عدم إرادة ظاهره ولم يدل على ما هو المراد به (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) أى بالمتشابه وعدم التعرض لإيمانهم بالمحكم لظهوره أو بالكتاب والجملة على الأول استئناف موضح لحال الراسخين أو حال منه وعلى الثانى خبر لقوله تعالى (وَالرَّاسِخُونَ) وقوله تعالى (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) من تمام المقول مقرر لما قبله ومؤكد له أى كل واحد منه ومن المحكم أو كل واحد من متشابهه ومحكمه منزل من عنده تعالى لا مخالفة بينهما أو آمنا به وبحقيته على مراده تعالى (وَما يَذَّكَّرُ) حق التذكر (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أى العقول الخالصة عن الركون إلى الأهواء الزائغة وهو تذييل سيق من جهته تعالى مدحا للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر وإشارة إلى ما به استعدوا للاهتداء إلى تأويله من تجرد العقل عن غواشى الحس وتعلق الآية الكريمة بما قبلها من حيث إنها جواب عما تشبث به النصارى من نحو قوله تعالى (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) على وجه الإجمال وسيجىء الجواب المفصل بقوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

٨

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٩)

____________________________________

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) من تمام مقالة الراسخين أى لا تزغ قلوبنا عن نهج الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه على الحق وإن شاء أزاغه عنه وقيل معناه لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) أى إلى الحق والتأويل الصحيح أو إلى الإيمان بالقسمين وبعد نصب بلا تزغ على الظرف وإذ فى محل الجر بإضافته إليه خارج من الظرفية أى بعد وقت هدايتك إيانا وقيل إنه بمعنى أن (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ) كلا الجارين متعلق بهب وتقديم الأول لما مر مرارا ويجوز تعلق الثانى بمحذوف هو حال من المفعول أى كائنة من لدنك ومن لابتداء الغاية المجازية ولدن فى الأصل ظرف بمعنى أول غاية زمان أو مكان أو غيرهما من الذوات نحو من لدن زيد وليست مرادفة لعند إذ قد تكون فضلة وكذا لدى وبعضهم يخصها بظرف المكان وتضاف إلى صريح الزمان كما فى قوله[تنتفض الرعدة فى ظهيرى من لدن الظهر إلى العصير] ولا تقطع عن الإضافة بحال وأكثر ما تضاف إلى المفردات وقد تضاف إلى أن وصلتها كما فى قوله[ولم تقطع أصلا من لدن أن وليتنا قرابة ذى رحم ولا حق مسلم] أى من لدن ولايتك إيانا وقد تضاف إلى الجملة الاسمية كما فى قوله [تذكر نعماه لدن أنت يافع] وإلى الجملة الفعلية أيضا كما فى قوله[لزمنا لدن سالمتمونا وفاتكم فلا يك منكم للخلاف جنوح] وقلما تخلو عن من كما فى البيتين الأخيرين (رَحْمَةً) واسعة تزلفنا إليك ونفوز بها عندك أو توفيقا للثبات على الحق وتأخير المفعول الصريح عن الجارين لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مترقبة لوروده لا سيما عند الإشعار بكونه من المنافع باللام فإذا أورده يتمكن عندها فضل تمكن (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) تعليل للسؤال أو لإعطاء المسئول وأنت إما مبتدأ أو فصل أو تأكيد لاسم إن وإطلاق الوهاب ليتناول كل موهوب وفيه دلالة على أن الهدى والضلال من قبله تعالى وأنه متفضل بما ينعم به على عباده من غير أن يجب عليه شىء (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ) أى الحساب يوم أو الجزاء يوم حذف المضاف وأقيم مقامه المضاف إليه تهويلا له وتفظيعا لما يقع فيه (لا رَيْبَ فِيهِ) أى فى وقوعه ووقوع ما فيه من الحشر والحساب والجزاء ومقصودهم بهذا عرض كمال افتقارهم إلى الرحمة وأنها المقصد الأسنى عندهم والتأكيد لإظهار ما هم عليه من كمال الطمأنينة وقوة اليقين بأحوال الآخرة (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) تعليل لمضمون الجملة المؤكدة أو لانتفاء الريب والتأكيد لما مر وإظهار الاسم الجليل مع الالتفات لإبراز كمال التعظيم والإجلال الناشىء من ذكر اليوم المهيب الهائل بخلاف ما فى آخر السورة الكريمة فإنه مقام طلب الإنعام كما سيأتى وللإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية منافية للإخلاف وقد جوز أن تكون الجمله مسوقة من جهته تعالى لتقرير قول الراسخين والميعاد مصدر كالميقات واستدل به الوعيدية

٩

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١١)

____________________________________

وأجيب بأن وعيد الفساق مشروط بعدم العفو بدلائل مفصلة كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) إثر ما بين الدين الحق والتوحيد وذكر أحوال الكتب الناطقة به وشرح شأن القرآن العظيم وكيفية إيمان العلماء الراسخين به شرع فى بيان حال من كفر به والمراد بالموصول جنس الكفرة الشامل لجميع الأصناف وقيل وفد نجران أو اليهود من قريظة والنضير أو مشركو العرب (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ) أى لن تنفعهم وقرىء بالتذكير وبسكون الياء جدا فى استثقال الحركة على حروف اللين (أَمْوالُهُمْ) التى يبذلونها فى جلب المنافع ودفع المضار (وَلا أَوْلادُهُمْ) الذين بهم ينتصرون فى الأمور المهمة وعليهم يعولون فى الخطوب الملة وتأخير الأولاد عن الأموال مع توسيط حرف النفى بينهما إما لعراقة الأولاد فى كشف الكروب أو لأن الأموال أول عدة يفزع إليها عند نزول الخطوب (مِنَ اللهِ) من عذابه تعالى (شَيْئاً) أى شيئا من الإغنياء وقيل كلمة من بمعنى البدل والمعنى بدل رحمة الله أو بدل طاعته كما فى قوله تعالى (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أى بدل الحق ومنه قوله ولا ينفع ذا الجد منك الجد أى لا ينفعه جده بدلك أى بدل رحمتك كما فى قوله تعالى (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) وأنت خبير بأن احتمال سد أموالهم وأولادهم مسد رحمة الله تعالى أو طاعته مما لا يخطر ببال أحد حتى يتصدى لنفيه والأول هو الأليق بتفظيع حال الكفرة وتهويل أمرهم والأنسب بما بعده من قوله تعالى (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) ومن قوله تعالى (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أى أولئك المتصفون بالكفر حطب النار وحصبها الذى تسعر به فإن أريد بيان حالهم عند التسعير فإيثار الجملة الاسمية للدلالة على تحقق الأمر وتقرره وإلا فهو للإيذان بأن حقيقة حالهم ذلك وأن أحوالهم الظاهرة بمنزلة العدم فهم حال كونهم فى الدنيا وقود النار بأعيانهم وفيه من الدلالة على كمال ملابستهم بالنار ما لا يخفى وهم يحتمل الابتداء وأن يكون ضمير الفصل والجملة إما مستأنفة مقررة لعدم الإغنياء أو معطوفة على خبر إن وأيا ما كان ففيها تعيين للعذاب الذى بين أن أموالهم وأولادهم لا تغنى عنهم منه شيئا وقرىء وقود النار بضم الواو وهو مصدر أى أهل وقودها (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) الدأب مصدر دأب فى العمل إذا كدح فيه وتعب غلب استعماله فى معنى الشأن والحال والعادة ومحل الكاف الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وقد جوز النصب بلن تغنى أو بالوقود أى لن تغنى عنهم كما لم تغن عن أولئك أو توقد بهم النار كما توقد بهم وأنت خبير بأن المذكور فى تفسير الدأب إنما هو التكذيب والأخذ من غير تعرض لعدم الإغناء لا سيما على تقدير كون من بمعنى البدل كما هو رأى المجوز ولا لإيقاد النار فيحمل على التعلبل وهو خلاف

١٠

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٢)

____________________________________

الظاهر على أنه يلزم الفصل بين العامل والمعمول بالأجنبى على تقدير النصب بلن تغنى وهو قوله تعالى (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) إلا أن يجعل استئنافا معطوفا على خبر إن فالوجه هو الرفع على الخبرية أى دأب هؤلاء فى الكفر وعدم النجاة من أخذ الله تعالى وعذابه كدأب آل فرعون (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أى من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة فالموصول فى محل الجر عطفا على ما قبله وقوله تعالى (كَذَّبُوا بِآياتِنا) بيان وتفسير لدأبهم الذى فعلوا على طريق الاستئناف المبنى على السؤال كأنه قيل كيف كان دأبهم فقيل كذبوا بآياتنا وقوله تعالى (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) تفسير لدأبهم الذى فعل بهم أى فأخذهم الله وعاقبهم ولم يجدوا من بأس الله تعالى محيصا فدأب هؤلاء الكفرة أيضا كدأبهم وقيل كذبوا الخ حال من آل فرعون والذين من قبلهم على إضمار قد أى دأب هؤلاء كدأب أولئك وقد كذبوا الخ وأما كونه خبر عن الموصول كما قيل فمما يذهب برونق النظم الكريم والالتفات إلى التكلم أولا للجرى على سنن الكبرياء وإلى الغيبة ثانيا بإظهار الجلالة لتربية المهابة وإدخال الروعة (بِذُنُوبِهِمْ) إن أريد بها تكذيبهم بالآيات فالباء للسببية جىء بها تأكيدا لما تفيده الفاء من سببية ما قبلها لما بعدها وإن أريد بها سائر ذنوبهم فالباء للملابسة جىء بها للدلالة على أن لهم ذنوبا أخر أى فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غير تائبين عنها كما فى قوله تعالى (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) والذنب فى الأصل التلو والتابع وسمى الجريمة ذنبا لأنها تتلو أى تتبع عقابها فاعلها (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ وتكملة له (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) المراد بهم اليهود لما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن يهود المدينة لما شاهدوا غلبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المشركين يوم بدر قالوا والله إنه النبى الأمى الذى بشرنا به موسى وفى التوراة نعته وهموا باتباعه فقال بعضهم لا تعجلوا حتى ننظر إلى واقعة له أخرى فلما كان يوم أحد شكوا وقد كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد إلى مدة فنقضوه وانطلق كعب بن الأشرف فى ستين راكبا إلى أهل مكة فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت وعن سعيد بن جبير وعكرمة وعن ابن عباس رضى الله عنهم أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أصاب قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود فى سوق بنى قينقاع فحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش فقالوا لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة لئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس فنزلت أى قل لهم (سَتُغْلَبُونَ) البتة عن قريب فى الدنيا وقد صدق الله عزوجل وعده بقتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من عداهم وهو من أوضح شواهد النبوة وأما ما روى عن مقاتل من أنها نزلت قبل بدر وأن الموصول عبارة عن مشركى مكة ولذلك قال لهم النبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر إن الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم وبئس المهاد فيؤدى إلى انقطاع الآية الكريمة عما بعدها لنزوله بعد وقعة بدر (وَتُحْشَرُونَ) أى فى الآخرة (إِلى جَهَنَّمَ) وقرىء الفعلان بالياء على أنه عليه‌السلام أمر بأن يحكى لهم ما أخبر الله تعالى به من وعيدهم بعبارته كأنه قيل أد إليهم هذا القول (وَبِئْسَ الْمِهادُ) إما من تمام ما يقال لهم أو استئناف لتهويل جهنم وتفظيع حال أهلها والمخصوص بالذم

١١

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (١٣)

____________________________________

محذوف أى وبئس المهاد جهنم أو ما مهدوه لأنفسهم (قَدْ كانَ لَكُمْ) جواب قسم محذوف وهو من تمام القول المأمور به جىء به لتقرير مضمون ما قبله وتحقيقه والخطاب لليهود أيضا والظرف خبر كان على أنها ناقصة ولتوسطه بينها وبين اسمها ترك التأنيت كما فى قوله[إن امرأ غره منكن واحدة بعدى وبعدك فى الدنيا لمغرور] على أن التأنيث ههنا غير حقيقى أو هو متعلق بكان على أنها تامه وإنما قدم على فاعلها لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر أى والله قد كان لكم أيها المغترون بعددهم وعددهم (آيَةٌ) عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم إنكم ستغلبون (فِي فِئَتَيْنِ) أى فرقتين أو جماعتين فإن المغلوبة منهما كانت مدلة بكثرتها معجبة بعزتها وقد لقيها ما لقيها فسيصيبكم ما يصيبكم ومحل الظرف الرفع على أنه صفة لآية وقيل النصب على خبرية كان والظرف الأول متعلق بمحذوف وقع حالا من آية (الْتَقَتا) فى حيز الجر على أنه صفة فئتين أى تلاقتا بالقتال يوم بدر (فِئَةٌ) بالرفع خبر مبتدأ محذوف أى إحداهما فئة كما فى قوله[إذا مت كان الناس حزبين شامت وآخر مثن بالذى كنت أصنع] أى أحدهما شامت والآخر مثن وقوله[حتى إذا ما استقل النجم فى غلس وغودر البقل ملوى ومحصود] والجملة مع ما عطف عليها مستأنفة لتقرير ما فى الفئتين من الآية وقوله تعالى (تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) فى محل الرفع على أنه صفة فئة كاملة كأنه قيل فئة مؤمنة ولكن ذكر مكانه من أحكام الإيمان ما يليق بالمقام مدحا لهم واعتدادا بقتالهم وإيذانا بأنه المدار فى تحقق الآية وهى رؤية القليل كثيرا وقرىء يقاتل على تأول الفئة بالقوم أو الفريق (وَأُخْرى) نعت لمبتدأ محذوف معطوف على ما حذف من الجملة الأولى أى وفئة أخرى وإنما نكرت والقياس تعريفها كقرينتها لوضوح أن التفريق لنفس المثنى المقدم ذكره وعدم الحاجة إلى التعريف وقوله تعالى (كافِرَةٌ) خبر المبتدأ المحذوف وإنما لم توصف هذه الفئة بما يقابل صفة الفئة الأولى إسقاطا لقتالهم عن درجة الاعتبار وإيذانا بأنهم لم يتصدوا للقتال لما اعتراهم من الرعب والهيبة وقيل كل من المتعاطفين بدل من الضمير فى التقتا وما بعدهما صفة فلا بد من ضمير محذوف عائد إلى المبدل منه مسوغ لوصف البدل بالجملة العارية عن ضميره أى فئة منهما تقاتل الخ وفئة أخرى كافرة ويجوز أن يكون كل منهما مبتدأ وما بعدهما خبرا أى فئة منهما تقاتل الخ وفئة أخرى كافرة وقيل كل منهما مبتدأ محذوف الخبر أى منهما فئة تقاتل الخ وقرىء فئة بالجر على البدلبة من فئتين بدل بعض من كل وقد مر أنه لابد من ضمير عائد إلى المبدل منه ويسمى بدلا تفصيليا كما فى قول كثير عزة[وكنت كذى رجلين رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت] وقرىء فئة الخ بالنصب على المدح أو الذم أو على الحالية من ضمير التقتا كأنه قيل التقتا مؤمنة وكافرة فيكون فئة وأخرى توطئة لما هو الحال حقيقة إذ المقصود بالذكر وصفاهما كما فى قولك جاءنى زيد رجلا صالحا (يَرَوْنَهُمْ) أى يرى الفئة الأخيرة الفئة الأولى وإيثار

١٢

صيغة الجمع للدلالة على شمول الرؤية لكل واحد واحد من آحاد الفئة والجملة فى محل الرفع على أنها صفة للفئة الأخيرة أو مستأنفة مبينة لكيفية الآية (مِثْلَيْهِمْ) أى مثلى عدد الرائين قريبا من ألفين إذ كانوا قريبا من ألف. كانوا تسعمائة وخمسين مقاتلا رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وفيهم أبو سفيان وأبو جهل وكان فيهم من الخيل والإبل مائة فرس وسبعمائة بعير ومن أصناف الأسلحة عدد لا يحصى. عن محمد بن أبى الفرات عن سعد بن أوس أنه قال أسر المشركون رجلا من المسلمين فسألوه كم كنتم قال ثلثمائة وبضعة عشر قالوا ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا أو مثلى عدد المرئيين أى ستمائة ونيفا وعشرين حيث كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وكان صاحب راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمهاجرين على بن أبى طالب رضى الله عنه وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة الخزرجى وكان فى العسكر تسعون بعيرا وفرسان أحدهما للمقداد بن عمرو والآخر لمرثد بن أبى مرثد وست أدرع وثمانية سيوف وجميع من استشهد يومئذ من المسلمين أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أراهم الله عزوجل كذلك مع قلتهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم مددا لهم منه سبحانه كما أمدهم بالملائكة عليهم‌السلام وكان ذلك عند التقاء الفئتين بعد أن قللهم فى أعينهم عند ترائيهما ليجترئوا عليهم ولا يهربوا من أول الأمر حين ينجيهم الهرب وقيل يرى الفئة الأولى الفئة الأخيرة مثلى أنفسهم مع كونهم ثلاثة أمثالهم ليثبتوا ويطمئنوا بالنصر الموعود فى قوله تعالى (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) والأول هو الأولى لأن رؤية المثلين غير المتعينة من جانب المؤمنين بل قد وقعت رؤية المثل بل أقل منه أيضا فإنه روى أن ابن مسعود رضى الله عنه قال قد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ثم قللهم الله تعالى أيضا فى أعينهم حتى رأتهم عددا يسيرا أقل من أنفسهم. قال ابن مسعود رضى الله عنه لقد قللوا فى أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبى تراهم سبعين قال أراهم مائة فأسرنا منهم رجلا فقلناكم كنتم قال ألفا فلو أريد رؤية المؤمنين المشركين أقل من عددهم فى نفس الأمر كما فى سورة الأنفال لكانت رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر فى كونها آية من رؤيتهم مثليهم على أن إبانة آثار قدرة الله تعالى وحكمته للكفرة بإراءتهم القليل كثيرا والضعيف قويا وإلقاء الرعب فى قلوبهم بسبب ذلك أدخل فى كونها آية لهم وحجة عليهم وأقرب إلى اعتراف المخاطبين بذلك لكثرة مخالطتهم الكفرة المشاهدين للحال وكذا تعلق الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلا وأبعدهما مفعولا سواء جعل الجملة صفة أو مستأنفة أولى من العكس هذا ما تقتضيه جزالة التنزيل على قراءة الجمهور ولا ينبغى جعل الخطاب لمشركى مكة كما قيل أما إن جعل الوعيد عبارة عن هزيمة بدر كما صرحوا به فظاهر لا سترة به وأما إن جعل عبارة عن هزيمة أخرى فلأن الفئة التى شاهدت تلك الآية الهائلة هم المخاطبون حينئذ فالتعبير عنهم بفئة مبهمة تارة وموصوفة أخرى ثم إسناد المشاهدة إليها مع كون إسنادها إلى المخاطبين أوقع فى إلزام الحجة وأدخل فى التبكيت مما لا داعى إليه وبهذا يتبين حال جعل الخطاب الثانى للمؤمنين وأما قراءة ترونهم بتاء

١٣

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (١٤)

____________________________________

الخطاب فظاهرها وإن اقتضى توجيه الخطاب الثانى إلى المشركين لكنه ليس بنص فى ذلك لأنه وإن اندفع به المحذور الأخير فالأول باق بحاله فلعل رؤية المشركين نزلت منزلة رؤية اليهود لما بينهم من الاتحاد فى الكفر والاتفاق فى الكلمة لا سيما بعد ما وقع بينهم بواسطة كعب بن الأشرف من العهد والميثاق فأسندت الرؤية إليهم مبالغة فى البيان وتحقيقا لعروض مثل تلك الحالة لهم فتدبر وقيل المراد جميع الكفرة ولا ريب فى صحته وسداده وقرىء يرونهم وترونهم على البناء للمفعول من الإراءة أى يريهم أو يريكم الله تعالى كذلك (رَأْيَ الْعَيْنِ) مصدر مؤكد ليرونهم إن كانت الرؤية بصرية أو مصدر تشبيهى إن كانت قلبية أى رؤية ظاهرة مكشوفة جارية مجرى رؤية العين (وَاللهُ يُؤَيِّدُ) أى يقوى (بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) أن يؤيده من غير توسيط الأسباب العادية كما أيد الفئة المقاتلة فى سبيله بما ذكر من النصر وهو من تمام القول المأمور به (إِنَّ فِي ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من رؤية القليل كثيرا المستتبعة لغلبة القليل العديم العدة على الكثير الشاكى السلاح وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه فى الفضل (لَعِبْرَةً) العبرة فعلة من العبور كالركبة من الركوب والجلسة من الجلوس والمراد بها الاتعاظ فإنه نوع من العبور أى لعبرة عظيمة كائنة (لِأُولِي الْأَبْصارِ) لذوى العقول والبصائر وقيل لمن أبصرهم وهو إما من تمام الكلام الداخل تحت القول مقرر لما قبله بطريق التذييل وإما وارد من جهته تعالى تصديقا لمقالته عليه الصلاة والسلام (زُيِّنَ لِلنَّاسِ) كلام مستأنف سيق لبيان حقارة شأن الحظوظ الدنيوية بأصنافها وتزهيد للناس فيها وتوجيه رغباتهم إلى ما عنده تعالى إثر بيان عدم نفعها للكفرة الذين كانوا يتعززون بها والمراد بالناس الجنس (حُبُّ الشَّهَواتِ) الشهوة نزوع النفس إلى ما تريده والمراد ههنا المشتهيات عبر عنها بالشهوات مبالغة فى كونها مشتهاة مرغوبا فيها كأنها نفس الشهوات أو إيذانا بانهما كهم فى حبها بحيث أحبوا شهواتها كما فى قوله تعالى (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) أو استرذالا لها فإن للشهوة مسترذلة مذمومة من صفات البهائم والمزين هو البارى سبحانه وتعالى إذ هو الخالق لجميع الأفعال والدواعى والحكمة فى ذلك ابتلاؤهم قال تعالى (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ) الآية فإنها ذريعة لنيل سعادة الدارين عند كون تعاطيها على نهج الشريعة الشريفة وسيلة إلى بقاء النوع وإيثار صيغة المبنى للمفعول للجرى على سنن الكبرياء وقرىء على البناء للفاعل وقيل المزين هو الشيطان لما أن مساق الآية الكريمة على ذمها وفرق الجبائى بين المباحات فأسند تزيينها إليه تعالى وبين المحرمات فنسب تزيينها إلى الشيطان (مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) فى محل النصب على أنه حال من الشهوات وهى مفسرة لها فى المعنى وقيل من لبيان الجنس وتقديم النساء على البنين لعراقتهن فى معنى الشهوة فإنهن حبائل الشيطان وعدم التعرض للبنات لعدم الاطراد فى حبهن (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) جمع قنطار وهو المال الكثير وقيل مائة ألف دينار وقيل ملء مسك ثور وقيل

١٤

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (١٥)

____________________________________

سبعون ألفا وقيل أربعون ألف مثقال وقيل ثمانون ألفا وقيل مائة رطل وقيل ألف ومائتا مثقال وقيل ألفا دينار وقيل مائة من ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم وقيل دية النفس واختلف فى أن وزنه فعلال أو فنعال ولفظ المقنطرة مأخوذ منه للتأكيد كقولهم بدرة مبدرة وقيل المقنطرة المحكمة المحصنة وقيل الكثيرة المنضدة بعضها على بعض أو المدفونة وقيل المضروبة المنقوشة (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) بيان للقناطير أو حال (وَالْخَيْلِ) عطف على القناطير قيل هى جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط الواحد فرس وقيل واحده خائل وهو مشتق من الخيلاء (الْمُسَوَّمَةِ) أى المعلمة من السومة وهى العلامة أو المرعية من أسام الدابة وسومها إذا أرسلها وسيبها للرعى أو المطهمة التامة الخلق (وَالْأَنْعامِ) أى الإبل والبقر والغنم (وَالْحَرْثِ) أى الزرع مصدر بمعنى المفعول (ذلِكَ) أى ما ذكر من الأشياء المعهودة (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أى ما يتمتع به فى الحياة الدنيا أياما قلائل فتفنى سريعا (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) حسن المرجع وفيه دلالة على أن ليس فيما عدد عاقبة حميدة وفى تكرير الإسناد بجعل الجلالة مبتدأ وإسناد الجملة الظرفية إليه زيادة تأكيد وتفخيم ومزيد اعتناء بالترغيب فيما عند الله عزوجل من النعم المقيم والتزهيد فى ملاذ الدنيا وطيباتها الفانية (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) إثر ما بين شأن مزخرفات الدنيا وذكر ما عنده تعالى من حسن المآب إجمالا أمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتفاصيل ذلك المجمل للناس مبالغة فى الترغيب والخطاب للجميع والهمزة للتقرير أى أأخبركم بما هو خير مما فصل من تلك المستلذات المزينة لكم وإبهام الخير لتفخيم شأنه والتشويق إليه وقوله تعالى (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) استئناف مبين لذلك المبهم على أن جنات مبتدأ والجار والمجرور خبر أو على أن جنات مرتفع به على الفاعلية عند من لا يشترط فى ذلك اعتماد الجار على ما فصل فى محله والمراد بالتقوى هو التبتل إلى الله تعالى والإعراض عما سواه على ما تنبئ عنه النعوت الآتية وتعليق حصول الجنات وما بعدها من فنون الخيرات به للترغيب فى تحصيله والثبات عليه وعند نصب على الحالية من جنات أو متعلق بما تعلق به الجار من معنى الاستقرار مفيد لكمال علو رتبة الجنات وسمو طبقتها والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المتقين لإظهار مزيد اللطف بهم وقيل اللام متعلقة بخير وكذا الظرف وجنات خبر مبتدأ محذوف والجملة مبينة لخير ويؤيده قراءة جنات بالجر على البدلية من خير ولا يخفى أن تعليق الإخبار والبيان بما هو خير لطائفة ربما يوهم أن هناك خيرا آخر لآخرين (تَجْرِي) فى محل الرفع والجر صفة لجنات على حسب القراءتين (مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) متعلق بتجرى فإن أريد بالجنات نفس الأشجار كما هو الظاهر فجريانها من تحتها ظاهر وإن أريد بها مجموع الأرض والأشجار فهو باعتبار جزئها الظاهر كما مر تفصيله مرارا (خالِدِينَ فِيها) حال مقدرة من المستكن فى للذين والعامل ما فيه من معنى الاستقرار (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) عطف على جنات أى مبرأة مما يستقذر من النساء من

١٥

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨)

____________________________________

الأحوال البدنية والطبيعية (وَرِضْوانٌ) التنوين للتفخيم وقوله تعالى (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف وقع صفة له مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة أى رضوان وأى رضوان لا يقادر قدره كائن من الله عزوجل وقرىء بضم الراء (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) وبأعمالهم فيثيب ويعاقب حسبما يليق بها أو بصير بأحوال الذين اتقوا ولذلك أعدلهم ما ذكر وفيه إشعار بأنهم المستحقون للتسمية باسم العبد (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) فى محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل من أولئك المتقون الفائزون بهذه الكرامات السنية فقيل هم الذين الخ أو النصب على المدح أو الجر على أنه تابع للمتقين نعتا أو بدلا أو للعباد كذلك والأول أظهر وقوله تعالى (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) حينئذ معترضة وتأكيد الجملة لإظهار أن إيمانهم ناشىء من وفور الرغبة وكمال النشاط وفى ترتيب الدعاء بقولهم (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ) على مجرد الإيمان دلالة على كفايته فى استحقاق المغفرة والوقاية من النار (الصَّابِرِينَ) هو على تقدير كون الموصول فى محل الرفع منصوب على المدح بإضمار أعنى وأما على تقدير كونه فى محل النصب أو الجر فهو نعت له والمراد بالصبر هو الصبر على مشاق الطاعات وعلى البأساء والضراء وحين البأس (وَالصَّادِقِينَ) فى أقوالهم ونياتهم وعزائمهم (وَالْقانِتِينَ) المداومين على الطاعات المواظبين على العبادات (وَالْمُنْفِقِينَ) أموالهم فى سبيل الله تعالى (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) قال مجاهد وقتادة والكلبى أى المصلين بالأسحار وعن زيد بن أسلم هم الذين يصلون الصبح فى جماعة وقال الحسن مدوا الصلاة إلى السحر ثم استغفروا وقال نافع كان ابن عمر رضى الله عنه يحيى الليلة ثم يقول يا نافع أسحرنا فأقول لا فيعاود الصلاة فإذا قلت نعم قعد يستغفر الله ويدعو حتى يصبح وعن الحسن كانوا يصلون فى أول الليل حتى إذا كان السحر أخذوا فى الدعاء والاستغفار وتخصيص الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة إذ العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والروح أجمع لا سيما للمجتهدين وتوسيط الواو بين الصفات المعدودة للدلالة على استقلال كل منها وكمالهم فيها أو لتغاير الموصوفين بها (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ) بفتح الهمزة أى بأنه أو على أنه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أى بين وحدانيته بنصب الدلائل التكوينية فى الآفاق والأنفس وإيزال الآيات التشريعية الناطقة بذلك عبر عنه بالشهادة على طريقة الاستعارة إيذانا بقوته فى إثبات المطلوب وإشعارا بإنكار المنكر وقرىء إنه بكسر الهمزة إما بإجراء شهد مجرى قال وإما بجعل الجملة اعتراضا وإيقاع الفعل على قوله تعالى (إِنَّ الدِّينَ) الخ على قراءة أن بفتح الهمزة كما سيأتى وقرىء شهداء لله بالنصب على أنه

١٦

حال من المذكورين أو على المدح وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ومآله الرفع على المدح أى هم شهداء لله وهو إما جمع شهيد كظرفاء فى جمع ظريف أو جمع شاهد كشعراء فى جمع شاعر (وَالْمَلائِكَةُ) عطف على الاسم الجليل بحمل الشهادة على معنى مجازى شامل للإقرار والإيمان بطريق عموم المجاز أى أقروا بذلك (وَأُولُوا الْعِلْمِ) أى آمنوا به واحتجوا عليه بما ذكر من الأدلة التكوينية والتشريعية قيل المراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل المهاجرون والأنصار وقيل علماء مؤمنى أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه وقيل جميع علماء المؤمنين الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل القاطعة وارتفاعهما على القراءتين الأخيرتين قيل بالعطف على الضمير فى شهداء لوقوع الفصل بينهما وأنت خبير بأن ذلك على قراءة النصب على الحالية يؤدى إلى تقييد حال المذكورين بشهادة الملائكة وأولى العلم وليس فيه كثير فائدة فالوجه حينئذ كون ارتفاعهما بالابتداء والخبر محذوف لدلاله الكلام عليه أى والملائكة وأولو العلم شهداء بذلك ولك أن تحمل القراءتين على المدح نصبا ورفعا فحينئذ يحسن العطف على المستتر على كل حال وقوله تعالى (قائِماً بِالْقِسْطِ) أى مقيما للعدل فى جميع أموره بيان لكماله تعالى فى أفعاله إثر بيان كماله فى ذاته وانتصابه على الحالية من الله كما فى قوله تعالى (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) وإنما جاز إفراده مع عدم جواز جاء زيد وعمرو راكبا لعدم اللبس كقوله تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) ولعل تأخيره عن المعطوفين للدلالة على علو رتبتهما وقرب منزلتهما والمسارعة إلى إقامة شهود التوحيد اعتناء بشأنه ورفعا لمحله والسر فى تقديمه على المعطوفين مع ما فيه من الإيذان بأصالته تعالى فى الشهادة به كما مر فى قوله تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) أو من هو وهو الأوجه والعامل فيها معنى الجملة أى تفرد أو أحقه لأنها حال مؤكدة أو على المدح وقيل على أنه صفة للمنفى أى لا إله قائما الخ والفصل بينهما من قبيل توسعاتهم وهو مندرج فى المشهود به إذا جعل صفة أو حالا من الضمير أو نصبا على المدح منه وقرىء القائم بالقسط على البدلية من هو فيلزم الفصل بينهما كما فى الصفة أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف وقرىء قيما بالقسط (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تكرير للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلة التوحيد والحكم به بعد إقامة الحجة وليجرى عليه قوله تعالى (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فيعلم أنه المنعوت بهما ووجه الترتيب تقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته تعالى ورفعهما على البدلية من الضمير أو الوصفية لفاعل شهد أو الخبرية لمبتدأ مضمر وقد روى فى فضلها أنه عليه‌السلام قال يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله عزوجل إن لعبدى هذا عندى عهدا وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدى الجنة وهو دليل على فضل علم أصول الدين وشرف أهله وروى عن سعيد بن جبير أنه كان حول البيت ثلثمائة وستون صنما فلما نزلت هذه الآية الكريمة خررن سجدا وقيل نزلت فى نصارى نجران وقال الكلبى قدم على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبران من أحبار الشأم فلما أبصرا المدينة قال أحدهما ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبى الذى يخرج فى آخر الزمان فلما دخلا عليه عليه‌السلام عرفاه بالصفة فقالا له عليه‌السلام أنت محمد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعم قالا وأنت أحمد قال عليه‌السلام أنا محمد وأحمد قالا فإنا نسألك عن شىء فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك قال عليه‌السلام سلا فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة فى كتاب الله عزوجل فأنزل

١٧

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٢٠)

____________________________________

الله تعالى هذه الآية الكريمة فأسلم الرجلان (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) جملة مستأنفة مؤكدة للأولى أى لا دين مرضيا لله تعالى سوى الإسلام الذى هو التوحيد والتدرع بالشريعة الشريفة وعن قتادة أنه شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله تعالى وقرىء إن الدين عند الله للإسلام وقرىء إن الدين الخ على أنه بدل من أنه بدل الكل إن فسر الإسلام بالإيمان أو بما يتضمنه وبدل الاشتمال إن فسر بالشريعة أو على أن شهد واقع عليه على تقدير قراءة إنه بالكسر كما أشير إليه (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) نزلت فى اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام الذى جاء به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنكروا نبوته والتعبير عنهم بالموصول وجعل إيتاء الكتاب صلة له لزيادة تقبيح حالهم فإن الاختلاف ممن أوتى ما يزيله ويقطع شأفته فى غاية القبح والسماجة وقوله تعالى (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال أو أعم الأوقات أى وما اختلفوا فى حال من الأحوال أو فى وقت من الأوقات إلا بعد أن علموا بأنه الحق الذى لا محيد عنه أو بعد أن علموا حقيقة الأمر وتمكنوا من العلم بها بالحجج النيرة والآيات الباهرة وفيه من الدلالة على ترامى حالهم فى الضلالة ما لا مزيد عليه فإن الاختلاف بعد حصول تلك المرتبة مما لا يصدر عن العاقل وقوله تعالى (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أى حسدا كائنا بينهم وطلبا للرياسة لا لشبهة وخفاء فى الأمر تشنيع إثر تشنيع (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ) أى بآياته الناطقة بما ذكر من أن الدين عند الله تعالى هو الإسلام ولم يعمل بمقتضاها أو بأية آية كانت من آياته تعالى على أن يدخل فيها ما نحن فيه دخولا أوليا (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) قائم مقام جواب الشرط علة له أى ومن يكفر بآياته تعالى فإنه تعالى يجازيه ويعاقبه عن قريب فإنه سريع الحساب أى يأتى حسابه عن قريب أو يتم ذلك بسرعة وإظهار الجلالة لتربية المهابة وإدخال الروعة وفى ترتيب العقاب على مطلق الكفر بآياته تعالى من غير تعرض لخصوصية حالهم من كون كفرهم بعد إيتاء الكتاب وحصول الاطلاع على ما فيه وكون ذلك للبغى دلالة على كمال شدة عقابهم (فَإِنْ حَاجُّوكَ) أى فى كون الدين عند الله الإسلام أو جادلوك فيه بعد ما أقمت عليهم الحجج (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) أى أخلصت نفسى وقلبى وجملتى وإنما عبر عنها بالوجه لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى والمشاعر ومجمع معظم ما يقع به العبادة من السجود والقراءة وبه يحصل التوجه إلى كل شىء (لِلَّهِ) لا أشرك به فيها غيره وهو الدين القويم الذى قامت عليه الحجج ودعت إليه الآيات والرسل عليهم‌السلام (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) عطف على المتصل فى أسلمت وحسن ذلك لمكان الفصل الجارى

١٨

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢١)

____________________________________

مجرى التأكيد بالمنفصل أى وأسلم من اتبعنى أو مفعول معه (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أى من اليهود والنصارى وضع الموصول موضع الضمير لرعاية التقابل بين وصفى المتعاطفين (وَالْأُمِّيِّينَ) أى الذين لا كتاب لهم من مشركى العرب (أَأَسْلَمْتُمْ) متبعين لى كما فعل المؤمنون فإنه قد أتاكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه لا محالة فهل أسلمتم وعملتم بقضيتها أو أنتم على كفركم بعد كما يقول من لخص لصاحبه المسألة ولم يدع من طرق التوضيح والبيان مسلكا إلا سلكه فهل فهمتها على منهاج قوله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) إثر تفصيل الصوارف عن تعاطى الخمر والميسر وفيه من استقصارهم وتعييرهم بالمعاندة وقلة الإنصاف وتوبيخهم بالبلادة وكلة القريحة ما لا يخفى (فَإِنْ أَسْلَمُوا) أى كما أسلمتم وإنما لم يصرح به كما فى قوله تعالى (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) حسما لباب إطلاق اسم الإسلام على شىء آخر بالكلية (فَقَدِ اهْتَدَوْا) أى فازوا بالحظ الأوفر ونجوا عن مهاوى الضلال (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أى أعرضوا عن الاتباع وقبول الإسلام (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) قائم مقام الجواب أى لم يضروك شيئا إذ ما عليك إلا البلاغ وقد فعلت على أبلغ وجه. روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قرأ هذه الآية على أهل الكتاب قالوا أسلمنا فقال عليه‌السلام لليهود أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله فقالوا معاذ الله وقال عليه الصلاة والسلام للنصارى أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله فقالوا معاذ الله أن يكون عيسى عبدا وذلك قوله عزوجل وإن تولوا (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) عالم بجميع أحوالهم وهو تذييل فيه وعد ووعيد (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أى آية كانت فيدخل فيهم الكافرون بالآيات الناطقة بحقية الإسلام على الوجه الذى مر تفصيله دخولا أوليا (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) هم أهل الكتاب قتل أولوهم الأنبياء عليهم‌السلام وقتلوا أتباعهم وهم راضون بما فعلوا وكانوا قاتلهم الله تعالى حائمين حول قتل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو لا أن عصم الله تعالى ساحته المنيعة وقد أشير إليه بصيغة الاستقبال وقرىء بالتشديد للتكثير والتقييد بغير حق للإيذان بأنه كان عندهم أيضا بغير حق (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) أى بالعدل ولعل تكرير الفعل للإشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافهما فى الوقت عن أبى عبيدة بن الجراح قلت يا رسول الله أى الناس أشد عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم قرأها ثم قال يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار فى ساعة واحدة فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بنى إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار وقرىء ويقاتلون الذين (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) خبر إن والفاء لتضمن اسمها معنى الشرط فإنها بالنسخ لا تغير معنى الابتداء بل تزيده تأكيدا وكذا الحال فى النسخ بأن المفتوحة كما فى قوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) وكذا النسخ بلكن كما فى قوله[فو الله ما فارقتكم عن ملالة ولكن ما يقضى فسوف يكون] وإنما يتغير معنى الابتداء

١٩

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣)

____________________________________

فى النسخ بليت ولعل وقد ذهب سيبويه والأخفش إلى منع دخول الفاء عند النسخ مطلقا فالخبر عندهما قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) كما فى قولك الشيطان فاحذر عدو مبين وعلى الأول هو استئناف واسم الإشارة مبتدأ وما فيه من معنى البعد للدلالة على ترامى أمرهم فى الضلال وبعد منزلتهم فى فظاعة الحال والموصول بما فى حيز صلته خبره أى أولئك المتصفون بتلك الصفات القبيحة أو المبتلون بأسوأ الحال الذين بطلت أعمالهم التى عملوها من البر والحسنات ولم يبق لها أثر فى الدارين بل بقى لهم اللعنة والخزى فى الدنيا وعذاب أليم فى الآخرة (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم من بأس الله وعذابه فى إحدى الدارين وصيغة الجميع لرعاية ما وقع فى مقابلته لا لنفى تعدد الأنصار من كل واحد منهم كما فى قوله تعالى (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (أَلَمْ تَرَ) تعجيب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يتأتى منه الرؤية من حال أهل الكتاب وسوء صنيعهم وتقرير لما سبق من أن اختلافهم فى الإسلام إنما كان بعد ما جاءهم العلم بحقيته أى ألم تنظر (إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) أى التوراة على أن اللام للعهد وحمله على جنس الكتب الإلهية تطويل للمسافة إذ تمام التقريب حينئذ بكون التوراة من جملتها لأن مدار التشنيع والتعجيب إنما هو إعراضهم عن المحاكمة إلى ما دعوا إليه وهم لم يدعوا إلا إلى التوراة والمراد بما أوتوه منها ما بين لهم فيها من العلوم والأحكام التى من جملتها ما علموه من نعوت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحقية الإسلام والتعبير عنه بالنصيب للإشعار بكمال اختصاصه بهم وكونه حقا من حقوقهم التى يجب مراعاتها والعمل بموجبها وما فيه من التنكير للتفخيم وحمله على التحقير لا يساعده مقام المبالغة فى تقبيح حالهم (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) الذى أوتوا نصيبا منه وهو التوراة والإظهار فى مقام الإضمار لإيجاب الإجابة وإضافته إلى الاسم الجليل لتشريفه وتأكيد وجوب المراجعة إليه والجملة استئناف مبين لمحل التعجيب مبنى على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم فقيل يدعون إلى كتاب الله تعالى وقيل حال من الموصول (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل مدارسهم فدعاهم إلى الإيمان فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد على أى دين أنت قال عليه الصلاة والسلام على ملة إبراهيم قالا إن إبراهيم كان يهوديا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهما إن بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها فأبيا وقيل نزلت فى الرجم وقد اختلفوا فيه وقيل كتاب الله القرآن فإنهم قد علموا أنه كتاب الله ولم يشكوا فيه وقرىء ليحكم على بناء المجهول فيكون الاختلاف بينهم بأن أسلم بعضهم كعبد الله بن سلام وأضرابه وعاداهم الآخرون (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) استبعاد لتوليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع إليه (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) إما حال من فريق لتخصصه بالصفة أى يتولون من المجلس وهم معرضون بقلوبهم أو اعتراض أى وهم قوم ديدنهم الإعراض عن الحق والإصرار على الباطل.

٢٠