تفسير أبي السّعود - ج ٨

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٨

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٣)

____________________________________

قوله تعالى (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية* وقد قالوا إن الأمر الذى يحدثه الله تعالى أن يقلب قلبه عما فعله بالتعدى إلى خلافه فلا بد أن يكون الظلم عبارة عن ضرر دنيوى يلحقه بسبب تعديه ولا يمكن تداركه أو عن مطلق الضرر الشامل للدنيوى والأخروى ويخص التعليل بالدنيوى لكون احتراز الناس منه أشد واهتمامهم بدفعه أقوى وقوله تعالى (لا تَدْرِي) خطاب للمتعدى بطريق الالتفات لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدى لا للنبى عليه الصلاة والسلام كما توهم فالمعنى ومن يتعد حدود الله فقد أضر بنفسه فإنك لا تدرى أيها المتعدى عاقبة الأمر لعل الله يحدث فى قلبك بعد ذلك الذى فعلت من التعدى أمرا يقتضى خلاف ما فعلته فيبدل ببغضها محبة وبالإعراض عنها إقبالا إليها ويتسنى تلافيه رجعة أو استئناف نكاح (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) شارفن آخر عدتهن (فَأَمْسِكُوهُنَّ) فراجعوهن (بِمَعْرُوفٍ) بحسن معاشرة وإنفاق لائق (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) * بإيفاء الحق واتقاء الضرار بأن يراجعها ثم يطلقها تطويلا للعدة (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) عند الرجعة* والفرقة قطعا للتنازع وهذا أمر ندب كما فى قوله تعالى (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) ويروى عن الشافعى أنه للوجوب فى الرجعة (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أيها الشهود عند الحاجة خالصا لوجهه تعالى (ذلِكُمْ) إشارة* إلى الحث على الإشهاد والإقامة أو على جميع ما فى الآية (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) * إذ هو المنتفع به والمقصود تذكيره وقوله تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) الخ جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق* من وجوب مراعاة حدود الله تعالى بالوعد على الاتقاء عن تعديها كما أن ما تقدم من قوله تعالى (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) مؤكد له بالوعيد على تعديها فالمعنى ومن يتق الله فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فى الإشهاد وغيره من الأمور (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) مما عسى يقع* فى شأن الأزواج من الغموم والوقوع فى المضايق ويفرج عنه ما يعتريه من الكروب (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أى من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه ويجوز أن يكون كلاما جىء به على نهج الاستطراد عند ذكر قوله تعالى (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ) إلى آخره فالمعنى ومن يتق الله فى كل ما يأتى وما يذر يجعل له مخرجا ومخلصا من غموم الدنيا والآخرة فيندرج فيه ما نحن فيه اندراجا أوليا عن النبى عليه الصلاة والسلام أنه قرأها فقال مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد

٢٦١

(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) (٥)

____________________________________

يوم القيامة وقال عليه الصلاة والسلام إنى لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ومن يتق الله فما زال يقرؤها ويعيدها. وروى أن عوف بن الأشجعى أسر المشركون ابنه سالما فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أسر ابنى وشكا إليه الفاقة فقال عليه الصلاة والسلام اتق الله وأكثر قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ففعل فبينا فى بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل غفل عنها العدو* فاستاقها فنزلت (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أى كافيه فى جميع أموره (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) بالإضافة أى منفذ أمره وقرىء بتنوين بالغ ونصب أمره أى يبلغ ما يريده لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب وقرىء برفع أمره على أنه مبتدأ وبالغ خبر مقدم والجملة خبر إن أو بالغ خبر إن وأمره مرتفع به على* الفاعلية أى نافذ أمره وقرىء بالغا أمره على أنه حال وخبر إن قوله تعالى (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أى تقديرا وتوقيتا أو مقدارا وهو بيان لوجوب التوكل عليه تعالى وتفويض الأمر إليه لأنه إذا علم أن كل شىء من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى لا يبقى إلا التسليم للقدر والتوكل على الله تعالى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) لكبرهن وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أى شككتم وجهلتم كيف عدتهن (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) بعد لصغرهن أى* فعدتهن أيضا كذلك فحذف ثقة بدلالة ما قبله عليه (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ) أى منتهى عدتهن (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن وقد نسخ به عموم قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) لتراخى نزوله عن ذلك لما هو المشهور من قول ابن مسعود رضى الله عنه من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد التى فى سورة البقرة وقد صح أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك لرسول* الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لها قد حللت فتزوجى (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) فى شأن أحكامه ومراعاة حقوقها (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) أى يسهل عليه أمره ويوقفه للخير (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من الأحكام وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته فى الفضل وإفراد الكاف مع* أن الخطاب للجمع كما يفصح عنه قوله تعالى (أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) لما أنها لمجرد الفرق بين الحاضر والمنقضى لا لتعيين خصوصية المخاطبين وقد مر فى قوله تعالى (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) * من سورة البقرة (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) بالمحافظة على أحكامه (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) فإن الحسنات يذهبن السيئات* (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) بالمضاعفة.

٢٦٢

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) (٩)

____________________________________

وقوله تعالى (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله من الحث على التقوى كأنه قيل كيف نعمل بالتقوى فى شأن المعتدات فقيل أسكنوهن مسكنا من حيث سكنتم أى بعض مكان سكناكم وقوله تعالى (مِنْ وُجْدِكُمْ) أى من وسعكم أى مما تطيقونه عطف بيان لقوله* (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) وتفسير له (وَلا تُضآرُّوهُنَّ) أى فى السكنى (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) وتلتجئوهن إلى* الخروج (وَإِنْ كُنَّ) أى المطلقات (أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) فيخرجن من* العدة أما المتوفى عنهن أزواجهن فلا نفقة لهن (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) بعد ذلك (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) * على الإرضاع (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أى تشاوروا وحقيقته ليأمر بعضكم بعضا بجميل فى* الأرضاع والأجر ولا يكن من الأب مماكسة ولا من الأم معاسرة (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) أى تضايقتم (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) أى فستوجد ولا تعوز مرضعة أخرى وفيه معاتبة للأم على المعاسرة (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) وإن قل أى لينفق كل واحد من الموسر والمعسر ما يبلغه وسعه (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) جل أو قل فإنه تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها وفيه تطييب* لقلب المعسر وترغيب له فى بذل مجهوده وقد أكد ذلك بالوعد حيث قيل (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) * أى عاجلا أو آجلا (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أى كثير من أهل قرية (عَتَتْ) أى أعرضت (عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) بالعتو والتمرد والعناد (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) بالاستقصاء والتنقير والمناقشة فى كل نقير* وقطمير (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) أى منكرا عظيما وقرىء نكرا والمراد حساب الآخرة وعذابها* والتعبير عنهما بلفظ الماضى للدلالة على تحققهما كما فى قوله تعالى (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) هائلا لا خسر وراءه.

٢٦٣

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) (١١)

____________________________________

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) تكرير للوعيد وبيان لكونه مترقبا كأنه قيل أعد الله لهم هذا العذاب* (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) ويجوز أن يراد بالحساب استقصاء ذنوبهم وإثباتها فى صحائف الحفظة وبالعذاب ما أصابهم عاجلا وقد جوز أن يكون عتت وما عطف عليه صفة للقرية وأعد الله لهم جوابا* لقوله تعالى كأى (الَّذِينَ آمَنُوا) منصوب بإضمار أعنى بيانا للمنادى أو عطف بيان له أو نعت وفى* إبداله منه ضعف لتعذر حلوله محله (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) هو جبريل عليه‌السلام سمى به لكثرة ذكره أو لنزوله بالذكر الذى هو القرآن كما ينبىء عنه إبدال قوله تعالى (رَسُولاً) منه أو لأنه مذكور فى السموات وفى الأمم أو أريد بالذكر الشرف كما فى قوله تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) كأنه فى نفسه شرف إما لأنه شرف للمنزل عليه وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله تعالى كقوله تعالى (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أو هو النبى عليه الصلاة والسلام وعليه الأكثر عبر عنه بالذكر لمواظبته على تلاوة القرآن أو تبليغه والتذكير به وعبر عن إرساله بالإنزال بطريق الترشيح أو لأنه مسبب عن إنزال الوحى إليه وأبدل منه رسولا للبيان أو هو القرآن ورسولا منصوب بمقدر مثل أرسل أو بذكرا على أعمال المصدر* المنون أو بدل منه على أنه بمعنى الرسالة وقوله تعالى (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) نعت لرسولا وآيات الله القرآن ومبينات حال منها أى حال كونها مبينات لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام وقرىء مبينات* أى بينها الله تعالى لقوله تعالى (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) واللام فى قوله تعالى (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) متعلقة بيتلو أو بأنزل وفاعل يخرج على الأول ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام أو ضمير الجلالة والموصول عبارة عن المؤمنين بعد إنزاله أى ليحصل لهم الرسول أو الله عز وعلا ما هم* عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح أو ليخرج من علم أو قدر أنه سيؤمن (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) * من الضلالة إلى الهدى (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً) حسبما بين فى تضاعيف ما أنزل من الآيات* المبينات (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وقرىء ندخله بالنون وقوله تعالى (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) حال من مفعول يدخله والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد فى الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها وقوله* تعالى (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) حال أخرى منه أو من الضمير فى خالدين بطريق التداخل وإفراد ضمير له قد مر وجهه وفيه معنى التعجب والتعظيم لما رزقه الله المؤمنين من الثواب.

٢٦٤

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (١٢)

____________________________________

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) مبتدأ وخبر (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) أى خلق من الأرض مثلهن فى العدد وقرىء مثلهن بالرفع على أنه مبتدأ ومن الأرض خبره واختلف فى كيفية طبقات الأرض قالوا الجمهور على أنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض وفى كل أرض سكان من خلق الله تعالى وقال الضحاك مطبقة بعضها فوق بعض من غير فتوق بخلاف السموات قال القرطى والأول أصح لأن الأخبار دالة عليه كما روى البخارى وغيره من أن كعبا حلف بالذى فلق البحر لموسى أن صهيبا حدثه أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما أذرين نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر من فيها وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن نافع بن الأزرق سأله عن تحت الأرضين خلق قال نعم قال فما الخلق قال إما ملائكة أو جن قال الماوردى وعلى هذا تختص دعوة الإسلام بأهل الأرض العليا دون من عداهم وإن كان فيهن من يعقل من خلق وفى مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان أحدهما أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها والثانى أنهم لا يشاهدون السماء وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يشاهدونه وحكى الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما أنها سبع أرضين متفرقة بالبحار وتظل الجميع السماء (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) أى يجرى أمره وقضاؤه* بينهن وينفذ ملكه فيهن وعن قتادة فى كل سماء وفى كل أرض خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه وقيل هو ما يدبر فيهن من عجائب تدبيره وقرىء ينزل الأمر (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) متعلق بخلق أو بيتنزل أو بمضمر يعمهما أى فعل ذلك لتعلموا أن من قدر على ما ذكر قادر على كل شىء (وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) لاستحالة صدور الأفاعيل المذكورة ممن ليس كذلك* ويجوز أن يكون العامل فى اللام بيان ما ذكر من الخلق وتنزل الأمر أى أوحى ذلك وبينه لتعلموا بما ذكر من الأمور التى تشاهدونها والتى تتلقونها من الوحى من عجائب المصنوعات أنه لا يخرج عن قدرته وعلمه شىء ما أصلا وقرىء ليعلموا. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٦٥

٦٦ ـ سورة التحريم

(مدنية وهى إثنتا عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (٣)

____________________________________

(سورة التحريم مدنية وآياتها إثنتا عشرة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) روى أن النبى عليه الصلاة والسلام خلا بمارية فى يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لها اكتمى على فقد حرمت مارية على نفسى وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدى أمر أمتى فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين وقيل خلا بها فى يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم فطلقها واعتزل نساءه فنزل جبريل عليه‌السلام فقال راجعها فإنها صوامة قوامة وإنها لمن نسائك فى الجنة وروى أنه عليه الصلاة والسلام شرب عسلا فى بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا نشم منك ريح المغافير وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم* يكره التفل فحرم العسل فنزلت فمعناه لم تحرم ما أحل الله لك من ملك اليمين أو من العسل (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) إما تفسير لتحرم أو حال من فاعله أو استئناف ببيان ما دعاه إليه مؤذن بعد صلاحيتك* لذلك (وَاللهُ غَفُورٌ) مبالغ فى الغفران قد غفر لك هذه الزلة (رَحِيمٌ) قد رحمك ولم يؤاخذك به وإنما عاتبك محاماة على عصمتك (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أى شرع لكم تحليلها وهو حل ما عقده* بالكفارة أو بالاستثناء متصلا حتى لا يحنث والأول هو المراد ههنا (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) سيدكم ومتولى* أموركم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بما يصلحكم فيشرعه لكم (الْحَكِيمُ) المتقن فى أفعاله وأحكامه فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا حسبما تقتضيه الحكمة (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ) وهى حفصة (حَدِيثاً) أى حديث* تحريم مارية أو العسل أو أمر الخلافة (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أى أخبرت حفصة عائشة بالحديث وأفشته إليها* وقرىء أنبأت به (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أى أطلع الله تعالى النبى عليه الصلاة والسلام على إفشاء حفصة* (عَرَّفَ) أى النبى عليه الصلاة والسلام حفصة (بَعْضَهُ) بعض الحديث الذى أفشته قيل هو حديث الإمامة روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لها ألم أقل لك اكتمى على قالت والذى بعثك بالحق ما ملكت

٢٦٦

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) (٥)

____________________________________

نفسى فرحا بالكرامة التى خص الله تعالى بها أباها (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أى عن تعريف بعض تكرما* قيل هو حديث مارية (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أى أخبر النبى عليه الصلاة والسلام حفصة بما عرفه من الحديث* (قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) أى إفشاءها للحديث (قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) الذى لا تخفى عليه خافية (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) خطاب لحفصة وعائشة على الالتفات للمبالغة فى العتاب (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) الفاء للتعليل* كما فى قولك اعبد ربك فالعبادة حق أى فقد وجد منكما ما يوجب التوبة من ميل قلوبكما عما يجب عليكما من مخالصة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحب ما يحبه وكراهة ما يكرهه وقرىء فقد زاغت (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) بإسقاط إحدى التاءين وقرىء على الأصل وبتشديد الظاء وتظهرا أى تتعاونا عليه بما يسوؤه من الإفراط فى الغير وإفشاء سره (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أى فلن يعدم* من يظاهره فإن الله هو ناصره وجبريل رئيس الكروبيين قرينه ومن صلح من المؤمنين أتباعه وأعوانه قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أراد بصالح المؤمنين أبا بكر وعمر رضى الله عنهما وقد روى ذلك مرفوعا إلى النبى عليه الصلاة والسلام وبه قال عكرمة ومقاتل وهو اللائق بتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم‌السلام فإنه جمع بين الظهير المعنوى والظهير الصورى كيف لا وإن جبريل ظهير له عليهما‌السلام يؤيد ، بالتأييدات الإلهية وهما وزيراه وظهيراه فى تدبير أمور الرسالة وتمشية أحكامها الظاهرة ولأن بيان مظاهرتهما له عليه الصلاة والسلام أشد تأثيرا فى قلوب بنتيهما وتوهينا لأمرهما فكان حقيقا بالتقديم بخلاف ما إذا أريد به جنس الصالحين كما هو المشهور (وَالْمَلائِكَةُ) مع تكاثر عددهم وامتلاء* السموات من جموعهم (بَعْدَ ذلِكَ) قيل أى بعد نصرة الله عزوجل وناموسه الأعظم وصالح المؤمنين* (ظَهِيرٌ) أى فوج مظاهر له كأنهم يد واحدة على من يعاديه فماذا يفيد تظاهر امرأتين على من هؤلاء* ظهراؤه وما ينبىء عنه قوله تعالى (بَعْدَ ذلِكَ) من فضل نصرتهم على نصرة غيرهم من حيث إن نصرة الكل نصرة الله تعالى وإن نصرته تعالى بهم وبمظاهرتهم أفضل من سائر وجوه نصرته هذا ما قالوه ولعل الأنسب أن يجعل ذلك إشارة إلى مظاهرة صالح المؤمنين خاصة ويكون بيان بعدية مظاهرة الملائكة تداركا لما يوهمه الترتيب الذكرى من أفضلية المقدم فكأنه قيل بعد ذكر مظاهرة صالح المؤمنين وسائر الملائكة بعد ذلك ظهير له عليه الصلاة والسلام إيذانا بعلو رتبة مظاهرتهم وبعد منزلتها وجبرا لفصلها عن مظاهرة جبريل عليه‌السلام (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ) أى يعطيه عليه‌السلام بدلكن*

٢٦٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٨)

____________________________________

* (أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ) على التغليب أو تعميم الخطاب وليس فيه ما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يطلق حفصة وأن فى النساء خيرا منهن فإن تعليق طلاق الكل لا ينافى تطليق واحدة وما علق بما لم يقع* لا يجب وقوعه وقرىء أن يبدله بالتشديد (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) مقرات مخلصات أو منقادات مصدقات* (قانِتاتٍ) مصليات أو مواظبات على الطاعة (تائِباتٍ) من الذنوب (عابِداتٍ) متعبدات أو متذللات* لأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (سائِحاتٍ) صائمات سمى الصائم سائحا لأنه يسيح فى النهار بلا زاد أو مهاجرات وقرىء سيحات (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) وسط بينهما العاطف لتنافيهما (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ) بترك المعاصى وفعل الطاعات (وَأَهْلِيكُمْ) بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم وقرىء أهلوكم عطفا على واو قوا فيكون أنفسكم عبارة عن أنفس الكل على تغليب المخاطبين أى قوا أنتم وأهلوكم* أنفسكم (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أى نارا تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب وأمر المؤمنين باتقاء* هذه النار المعدة للكافرين كما نص عليه فى سورة البقرة للمبالغة فى التحذير (عَلَيْها مَلائِكَةٌ) أى تلى* أمرها وتعذيب أهلها وهم الزبانية (غِلاظٌ شِدادٌ) غلاظ الأقوال شداد الأفعال أو غلاظ الخلق شداد* الخلق أقوياء على الأفعال الشديدة (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) أى أمره على أنه بدل اشتمال من الله أو* فيما أمرهم به على نزع الخافض أى لا يمتنعون من قبول الأمر ويلتزمونه (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أى ويؤدون ما يؤمرون به غير تثاقل ولا توان وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) مقول لقول قد حذف ثقة بدلالة الحال عليه أى يقال لهم ذلك عند إدخال الملائكة إياهم النار حسبما أمروا* به (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فى الدنيا من الكفر والمعاصى بعد ما نهيتم عنهما أشد النهى وأمرتم بالإيمان والطاعة فلا عذر لكم قطعا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) أى بالغة فى النصح وصفت التوبة بذلك على الإسناد المجازى وهو وصف التائبين وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم فيأتوا بها على طريقتها وذلك أن يتوبوا عن القبائح لقبحها نادمين عليها مغتمين أشد الاغتمام لارتكابها عازمين على أنهم لا يعودون فى قبيح من القبائح موطنين أنفسهم على ذلك بحيث لا يلويهم عنه صارف أصلا

٢٦٨

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (١٠)

____________________________________

عن على رضى الله عنه أن التوبة يجمعها ستة أشياء على الماضى من الذنوب الندامة وللفرائض الإعادة ورد المظالم واستحلال الخصوم وأن تعزم على أن لا تعود وأن تذيب نفسك فى طاعة الله تعالى كما ربيتها فى المعصية وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية وعن شهر بن حوشب أن لا يعود ولو حز بالسيف وأحرق بالنار وقيل نصوحا من نصاحة الثوب أى توبة ترفو خروقك فى دينك وترم خللك وقيل خالصة من قولهم عسل ناصح إذا خلص من الشمع ويجوز أن يراد توبة تنصح الناس أى تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها فى صاحبها واستعماله الجد والعزيمة فى العمل بمقتضياتها وقرىء توبا نصوحا وقرىء نصوحا وهو مصدر نصح فإن النصح والنصوح كالشكر والشكور أى ذات النصح أو تنصح نصوحا أو توبوا لنصح أنفسكم على أنه مفعول له (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ورود صيغة الأطماع للجرى على سنن الكبرياء والإشعار بأنه تفضل والتوبة غير موجبة له وأن العبد ينبغى أن يكون بين خوف ورجاء وإن بالغ فى إقامة وظائف العبادة (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ) ظرف ليدخلكم (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) عطف على النبى وفيه تعريض بمن أخزاهم* الله تعالى من أهل الكفر والفسوق واستحماد إلى المؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم وقيل هو مبتدأ خبره قوله تعالى (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أى على الصراط وهو على الأول استئناف* أو حال وكذا قوله تعالى (يَقُولُونَ) الخ وعلى الثانى خبر آخر للموصول أى يقولون إذا طفىء نور المنافقين* (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وقيل يدعون تقربا إلى الله مع تمام نورهم* وقيل تفاوت أنوارهم بحسب أعمالهم فيسألون إتمامه تفضلا وقيل السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط وبعضهم كالريح وبعضهم حبوا وزحفا وأولئك الذين يقولون ربنا أتمم لنا نورنا (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف (وَالْمُنافِقِينَ) بالحجة (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) واستعمل الخشونة على الفريقين* فيما تجاهدهما من القتال والمحاجة (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) سيرون فيها عذابا غليظا (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أى جهنم* أو مصيرهم (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ضرب المثل فى أمثال هذه المواقع عبارة عن إيراد حالة غريبة ليعرف بها حالة أخرى مشاكلة لها فى الغرابة أى جعل الله مثلا لحال هؤلاء الكفرة حالا ومآلا على أن مثلا مفعول ثان لضرب واللام متعلقة به وقوله تعالى (امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) أى حالهما* مفعوله الأول أخر عنه ليتصل به ما هو شرح وتفصيل لحالهما ويتضح بذلك حال هؤلاء فقوله تعالى (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) بيان لحالهما الداعية لهما إلى الخير والصلاح أى كانتا فى عصمة* نبيين عظيمى الشأن متمكنين من تحصيل خيرى الدنيا والآخرة وحيازة سعادتيهما وقوله تعالى (فَخانَتاهُما) *

٢٦٩

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) (١٢)

____________________________________

بيان لما صدر عنهما من الجناية العظيمة مع تحقق ما ينفيها من صحبة النبى أى خانتاهما بالكفر والنفاق وهذا تصوير لحالهما المحاكية لحال هؤلاء الكفرة فى خيانتهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكفر* والعصيان مع تمكنهم التام من الإيمان والطاعة وقوله تعالى (فَلَمْ يُغْنِيا) الخ بيان لما أدى إليه خيانتهما* أى فلم يغن النبيان (عَنْهُما) بحق الزواج (مِنَ اللهِ) أى من عذابه تعالى (شَيْئاً) أى شيئا من الإغناء* (وَقِيلَ) لهما عند موتهما أو يوم القيامة (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) أى مع سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم‌السلام (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) أى جعل حالها مثلا لحال المؤمنين فى أن وصلة الكفرة لا تضرهم حيث كانت فى الدنيا تحت أعدى أعداء* الله وهى فى أعلى غرف الجنة وقوله تعالى (إِذْ قالَتْ) ظرف لمحذوف أشير إليه أى ضرب الله مثلا* للمؤمنين حالها إذ قالت (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) قريبا من رحمتك أو فى أعلى درجات المقربين. * روى أنها لما قالت ذلك أريت بيتها فى الجنة درة وانتزع روحها (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) أى من نفسه الخبيثة وعمله السيىء (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) من القبط التابعين له فى الظلم (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ) عطف على امرأة فرعون تسلية للأرامل أى وضرب الله مثلا للذين آمنوا حالها وما أوتيت من كرامة* الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين مع كون قومها كفارا (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ) * وقرىء فيها أى مريم (مِنْ رُوحِنا) من روح خلقناه بلا توسط أصلا (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) بصحفه* المنزلة أو بما أوحى إلى أنبيائه (وَكُتُبِهِ) بجميع كتبه المنزلة وقرىء بكلمة الله وكتابه أى بعيسى* وبالكتاب المنزل عليه وهو الإنجيل (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أى من عداد المواظبين على الطاعة والتذكير للتغليب والإشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعات الرجال حتى عدت من جملتهم أو من نسلهم لأنها من أعقاب هارون أخى موسى عليهما‌السلام. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلوات الله عليه وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة التحريم آتاه الله توبة نصوحا.

(تم الجزء الثامن ويليه الجزء التاسع وأوله سورة الملك)

٢٧٠

فهرست

الجزء الثامن من تفسير قاضى القضاة أبى السعود

صفحة

سورة

صفحة

سورة

٢

فصلت

١٦٧

القمر

٢١

الشورى

١٧٦

الرحمن

٣٩

الزخرف

١٨٨

الواقعة

٥٨

الدخان

٢٠٣

الحديد

٦٧

الجاثية

٢١٥

المجادلة

٧٧

الأحقاف

٢٢٤

الحشر

٩١

محمد صل الله عليه وسلم

٢٣٥

الممتحنة

١٠٣

الفتح

٢٤٢

الصف

١١٥

الحجرات

٢٤٧

الجمعة

١٢٥

ق

٢٥١

المنافقون

١٣٦

الذرايات

٢٥٥

التغابن

١٤٦

الطور

٢٦٠

الطلاق

١٥٤

النجم

٢٦٦

التحريم

(تم الفهرست)

٢٧١