تفسير أبي السّعود - ج ٨

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٨

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧١

(وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (٩٠)

____________________________________

نفس الحلقوم وتداعت إلى الخروج (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ) أيها الحاضرون حول صاحبها (تَنْظُرُونَ) إلى ما هو من الغمرات (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) علما وقدرة وتصرفا (مِنْكُمْ) حيث لا تعرفون من حاله إلا ما تشاهدونه من آثار الشدة من غير أن تقفوا على كنهها وكيفيتها وأسبابها ولا أن تقدروا على دفع أدنى شىء منها ونحن المتولون لتفاصيل أحواله بعلمنا وقدرتنا أو بملائكة الموت (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) * لا تدركون ذلك لجهلكم بشؤننا وقوله تعالى (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) أى غير مربوبين من دان السلطان رعيته إذا ساسهم واستعبدهم ناظر إلى قوله تعالى (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) فإن التحضيض يستدعى عدم المحضض عليه حتما وقوله تعالى (تَرْجِعُونَها) أى النفس إلى مقرها هو العامل فى إذا والمحضض عليه بلو لا الأولى والثانية مكررة للتأكيد وهى مع ما فى حيزها دليل جواب الشرط والمعنى إن كنتم غير مربوبين كما ينبىء عنه عدم تصديقكم بخلقنا إياكم فهلا ترجعون النفس إلى مقرها عند بلوغها الحلقوم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى اعتقادكم فإن عدم تصديقهم بخالقيته تعالى لهم عبارة عن تصديقهم* بعدم خالقيته تعالى بموجب مذهبهم وقوله تعالى (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) الخ شروع فى بيان حال المتوفى بعد الممات إثر بيان حاله عند الوفاة أى فأما إن كان الذى بين حاله من السابقين من الأزواج الثلاثة عبر عنهم بأجل أوصافهم (فَرَوْحٌ) أى فله استراحة وقرىء فروح بضم الراء وفسر بالرحمة لأنها سبب لحياة المرحوم وبالحياة الدائمة (وَرَيْحانٌ) ورزق (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أى ذات تنعم (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) عبر عنهم بالعنوان السابق إذ لم يذكر لهم فيما سبق وصف واحد ينبىء عن شأنهم سواه كما ذكر للفريقين الآخرين.

٢٠١

(فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٩٦)

____________________________________

وقوله تعالى (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) إخبار من جهته تعالى بتسليم بعضهم على بعض كما يفصح عنه اللام لا حكاية إنشاء سلام بعضهم على بعض وإلا لقيل عليك والالتفات إلى خطاب كل واحد منهم للتشريف (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) وهم أصحاب الشمال عبر عنهم بذلك حسبما وصفوا به عند بيان أحوالهم بقوله تعالى (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) ذما لهم بذلك وإشعارا بسبب ما ابتلوا به من العذاب (فَنُزُلٌ) أى فله نزل كائن (مِنْ حَمِيمٍ) يشرب بعد أكل الزقوم كما فصل فيما قبل (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أى إدخال فى النار وقيل إقامة فيها ومقاساة لألوان عذابها وقيل ذلك ما يجده فى القبر من سموم النار ودخانها (إِنَّ هذا) أى الذى ذكر فى السورة الكريمة (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أى حق الخبر اليقين وقيل الحق الثابت من اليقين والفاء فى قوله تعالى (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) لترتيب التسبيح أو الأمر به على ما قبلها فإن حقية ما فصل فى تضاعيف السورة الكريمة مما يوجب تنزيهه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل من الأمور التى من جملتها الإشراك به والتكذيب بآياته الناطقة بالحق. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الواقعة فى كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا.

٢٠٢

٥٧ ـ سورة الحديد

(مدنية وهى تسع وعشرون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣)

____________________________________

(سورة الحديد مكية وقيل مدنية وآياتها تسع وعشرون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) التسبيح تنزيه الله تعالى اعتقادا وقولا وعملا عما لا يليق بجنابه سبحانه من سبح فى الأرض والماء إذا ذهب وأبعد فيهما وحيث أسند ههنا إلى غير العقلاء أيضا فإن ما فى السموات والأرض يعم جميع ما فيهما سواء كان مستقرا فيهما أو جزءا منهما كما مر فى آية الكرسى أريد به معنى عام مجازى شامل لما نطق به لسان المقال كتسبيح الملائكة والمؤمنين من الثقلين ولسان الحال كتسبيح غيرهم فإن كل فرد من أفراد الموجودات يدل بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم الواجب الوجود المتصف بالكمال المنزه عن النقصان وهو المراد بقوله تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) وهو متعد بنفسه كما فى قوله تعالى (وَسَبِّحُوهُ) واللام إما مزيدة للتأكيد كما فى نصحت له وشكرت له أو للتعليل أى فعل التسبيح لأجل الله تعالى وخالصا لوجهه ومجيئه فى بعض الفواتح ماضيا وفى البعض مضارعا للإيذان بتحققه فى جميع الأوقات وفيه تنبيه على أن حق من شأنه التسبيح الاختيارى أن يسبحه تعالى فى جميع أوقاته كما عليه الملأ الأعلى حيث يسبحون الليل والنهار لا يفترون (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القادر الغالب الذى لا يمانعه ولا ينازعه شىء (الْحَكِيمُ) الذى لا يفعل إلا* ما تقتضيه الحكمة والمصلحة والجملة اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله مشعر بعلة الحكم وكذا قوله تعالى (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى التصرف الكلى فيهما وفيما فيهما من الموجودات من حيث الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات مما نعلمه وما لا نعلمه وقوله تعالى (يُحْيِي وَيُمِيتُ) استئناف مبين* لبعض أحكام الملك والتصرف وجعله حالا من ضمير له ليس كما ينبغى (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء* التى من جملتها ما ذكر من الإحياء والإماتة (قَدِيرٌ) مبالغ فى القدرة (هُوَ الْأَوَّلُ) السابق على سائر الموجودات لما أنه مبدئها ومبدعها (وَالْآخِرُ) الباقى بعد فنائها حقيقة أو نظر إلى ذاتها مع قطع النظر* عن مبقيها فإن جميع الموجودات الممكنة إذا قطع النظر عن علتها فهى فانية (وَالظَّاهِرُ) وجودا لكثرة*

٢٠٣

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (٧)

____________________________________

* دلائله الواضحة (وَالْباطِنُ) حقيقة فلا تحوم حوله العقول والواو الأولى والأخيرة للجمع بين الوصفين المكتنفين بهما والوسطى للجمع بين المجموعين فهو متصف باستمرار الوجود فى جميع الأوقات والظهور والخفاء (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يعزب عن علمه شىء من الظاهر والخفى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) بيان لبعض أحكام ملكهما وقد مر تفسيره مرارا* (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) مر بيانه فى سورة سبأ (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) تمثيل لإحاطة علمه تعالى بهم وتصوير لعدم خروجهم عنه أينما داروا وقوله تعالى (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) عبارة عن إحاطته بأعمالهم فتأخيره عن الخلق لما أن المراد به ما يدور عليه الجزاء من العلم التابع للمعلوم لا لما قيل من أنه دليل عليه وقوله تعالى (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تكرير* للتأكيد وتمهيد لقوله تعالى (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أى إليه وحده لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا ترجع جميع الأمور على البناء للمفعول من رجع رجعا وقرىء على البناء للفاعل من رجع رجوعا (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) مر تفسيره مرارا وقوله تعالى (وَهُوَ عَلِيمٌ) أى مبالغ* فى العلم (بِذاتِ الصُّدُورِ) أى بمكنوناتها اللازمة لها بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه من نياتهم بعد بيان إحاطته بأعمالهم التى يظهرونها (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أى جعلكم خلفاء فى التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة عبر عما بأيديهم من الأموال والأرزاق بذلك تحقيقا للحق وترغيبا لهم فى الإنفاق فإن من علم أنها لله عزوجل وإنما هو بمنزلة الوكيل يصرفها إلى ما عينه الله تعالى من المصارف هان عليه الإنفاق أو جعلكم خلفاء ممن قبلكم فيما كان بأيديهم بتوريثه* إياكم فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم وسينتقل منكم إلى من بعدكم فلا تبخلوا به (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا) حسبما أمروا به (لَهُمْ) بسبب ذلك (أَجْرٌ كَبِيرٌ) وفيه من المبالغات ما لا يخفى حيث

٢٠٤

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٠)

____________________________________

جعل الجملة اسمية وأعيد ذكر الإيمان والإنفاق وكرر الإسناد وفخم الأجر بالتنكير ووصف بالكبير وقوله عزوجل (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) استئناف مسوق لتوبيخهم على ترك الإيمان حسبما أمروا به بإنكار أن يكون لهم فى ذلك عذر ما فى الجملة على أن لا تؤمنون حال من الضمير فى لكم والعامل ما فيه من معنى الاستقرار أى أى شىء حصل لكم غير مؤمنين على توجيه الإنكار والنفى إلى السبب فقط مع تحقق المسبب لا إلى السبب والمسبب جميعا كما فى قوله تعالى (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) فإن همزة الاستفهام كما تكون تارة لإنكار الواقع كما فى أتضرب أباك وأخرى لإنكار الوقوع كما فى أأضرب أبى كذلك ما الاستفهامية قد تكون لإنكار سبب الواقع ونفيه فقط كما فيما نحن فيه وفى قوله تعالى (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) فيكون مضمون الجملة الحالية محققا فإن كلا من عدم الإيمان وعدم الرجاء أمر محقق قد أنكر ونفى سببه وقد تكون لإنكار سبب الوقوع ونفيه فيسريان إلى المسبب أيضا كما فى قوله تعالى (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ) إلى آخره فيكون مضمون الجملة الحالية مفروضا قطعا فإن عدم العبادة أمر مفروض حتما قد أنكر ونفى سببه فانتفى نفسه أيضا وقوله تعالى (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) * حال من ضمير لا تؤمنون مفيدة لتوبيخهم على الكفر مع تحقق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع عدم ما يوجبه أى وأى عذر فى ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه وقوله تعالى (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) حال من مفعول يدعوكم أى وقد أخذ الله تعالى ميثاقكم بالإيمان من قبل وذلك بنصب الأدلة والتمكين من النظر وقرىء وقد أخذ مبنيا للمفعول برفع ميثاقكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الموجب* ما فان هذا موجب لا موجب وراءه (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) حسبما يعن لكم من المصالح (آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات (لِيُخْرِجَكُمْ) أى الله تعالى أو العبد بها (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) من ظلمات الكفر* إلى نور الإيمان (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث يهديكم إلى سعادة الدارين بإرسال الرسول وتنزيل* الآيات بعد نصب الحجج العقلية وقوله تعالى (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) توبيخ لهم على ترك

٢٠٥

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (١١)

____________________________________

الإنفاق المأمور به بعد توبيخهم على ترك الإيمان بإنكار أن يكون لهم فى ذلك أيضا عذر من الأعذار وحذف المفعول لظهور أنه الذى بين حاله فيما سبق وتعيين المنفق فيه لتشديد التوبيخ أى وأى شىء لكم فى أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى الله تعالى ما هو فى الحقيقة وإنما أنتم خلفاؤه فى صرفه إلى ما عينه* من المصارف وقوله تعالى (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) حال من فاعل لا تنفقوا ومفعوله مؤكدة للتوبيخ فإن ترك الإنفاق بغير سبب قبيح منكر ومع تحقق ما يوجب الإنفاق أشد فى القبح وأدخل فى الإنكار فإن بيان بقاء جميع ما فى السموات والأرض من الأموال بالآخرة لله عزوجل من غير أن يبقى من أصحابها أحد أقوى فى إيجاب الإنفاق عليهم من بيان أنها لله تعالى فى الحقيقة وهم خلفاؤه فى التصرف فيها كأنه قيل وما لكم فى ترك إنفاقها فى سبيل الله والحال أنه لا يبقى لكم منها شىء بل* يبقى كلها لله تعالى وإظهار الاسم الجليل فى موقع الإضمار لزيادة التقرير وتربية المهابة وقوله تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) بيان لتفاوت درجات المنفقين حسب تفاوت أحوالهم فى الإنفاق بعد بيان أن لهم أجرا كبيرا على الإطلاق حثا لهم على تحرى الأفضل وعطف القتال على الإنفاق للإيذان بأنه من أهم مواد الإنفاق مع كونه فى نفسه من أفضل العبادات وأنه لا يخلو من الإنفاق أصلا* وقسيم من أنفق محذوف لظهوره ودلالة ما بعده عليه وقرىء قبل الفتح بغير من والفتح فتح مكة (أُولئِكَ) إشارة إلى من أنفق والجمع بالنظر إلى معنى من كما أن إفراد الضميرين السابقين بالنظر إلى لفظها وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار ببعد منزلتهم وعلو طبقتهم فى الفضل ومحله الرفع* على الابتداء أى أولئك المنعوتون بذينك النعتين الجميلين (أَعْظَمُ دَرَجَةً) وأرفع منزلة (مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) لأنهم إنما فعلوا ما فعلوا من الإنفاق والقتال قبل عزة الإسلام وقوة أهله عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وهؤلاء فعلوا* ما فعلوا بعد ظهور الدين ودخول الناس فيه أفواجا وقلة الحاجة إلى الإنفاق والقتال (وَكُلًّا) أى وكل* واحد من الفريقين (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أى المثوبة الحسنى وهى الجنة لا الأولين فقط وقرىء وكل* بالرفع على الابتداء أى وكل وعده الله تعالى (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) بظواهره وبواطنه فيجازيكم بحسبه وقيل نزلت الآية فى أبى بكر رضى الله تعالى عنه فإنه أول من آمن وأول من أنفق فى سبيل الله وخاصم الكفار حتى ضرب ضربا أشرف به على الهلاك وقوله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) ندب بليغ من الله تعالى إلى الإنفاق فى سبيله بعد الأمر به والتوبيخ على تركه وبيان درجات المنفقين أى من ذا الذى ينفق ماله فى سبيله تعالى رجاء أن يعوضه فإنه كمن يقرضه وحسن الإنفاق* بالإخلاص فيه وتحرى أكرم المال وأفضل الجهات (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) بالنصب على جواب الاستفهام* باعتبار المعنى كأنه قيل أيقرض الله أحد فيضاعفه له أى فيعطيه أجره أضعافا (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أى

٢٠٦

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) (١٣)

____________________________________

وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم فى نفسه حقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون وإن لم يضاعف فكيف وقد ضوعف أضعافا كثيرة وقرىء بالرفع عطفا على يقرض أو حملا على تقدير مبتدأ أى فهو يضاعفه وقرىء يضعفه بالرفع والنصب (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ظرف لقوله تعالى (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أو لقوله تعالى (فَيُضاعِفَهُ) أو منصوب باضمار اذكر تفخيما لذلك اليوم وقوله تعالى (يَسْعى نُورُهُمْ) * حال من مفعول ترى قيل نورهم الضياء الذى يرى (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) وقيل هو هداهم وبأيمانهم* كتبهم أى يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم وفى أيمانهم كتب أعمالهم وقيل هو القرآن وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى كالرجل القائم وأدناهم نورا من نوره على إبهام رجله ينطفىء تارة ويلمع أخرى قال الحسن يستضيئون به على الصراط وقال مقاتل يكون لهم دليلا إلى الجنة (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) مقدر بقول هو حال* أو استئناف أى يقال لهم بشراكم أى ما تبشرون به جنات أو بشراكم دخول الجنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ) أى ما ذكر من النور والبشرى بالجنات المخلدة (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذى لا غاية* وراءه وقرىء ذلك الفوز العظيم (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) بدل من يوم ترى (لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا) أى انتظرونا يقولون ذلك لما أن المؤمنين يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف على ركاب تزف بهم وهؤلاء مشاة أو انظروا إلينا فإنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فيستضيئون بالنور الذى بين أيديهم وقرىء أنظرونا من النظرة وهى الإمهال جعل اتئادهم فى المضى إلى أن يلحقوا بهم إنظارا لهم (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) أى نستضىء منه وأصله اتخاذ القبس (قِيلَ) طردا لهم وتهكما بهم من* جهة المؤمنين أو من جهة الملائكة (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) أى إلى الموقف (فَالْتَمِسُوا نُوراً) فإنه من ثم* يقتبس أو إلى الدنيا فالتمسوا النور بتحصيل مباديه من الإيمان والأعمال الصالحة أو ارجعوا خائبين خاسئين فالتمسوا نورا آخر وقد علموا أن لا نور وراءهم وإنما قالوه تخييبا لهم أو أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة الكشيفة تهكما بهم (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ) بين الفريقين (بِسُورٍ) أى حائط والباء زائدة (لَهُ بابٌ باطِنُهُ) أى باطن السور أو الباب وهو الجانب الذى يلى الجنة (فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ) وهو الطرف الذى* يلى النار (مِنْ قِبَلِهِ) من جهته (الْعَذابُ) وقرىء فضرب على البناء للفاعل.*

٢٠٧

(يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (١٦)

____________________________________

(يُنادُونَهُمْ) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا يفعلون بعد ضرب السور ومشاهدة العذاب* فقيل ينادونهم (أَلَمْ نَكُنْ) فى الدنيا (مَعَكُمْ) يريدون به موافقتهم لهم فى الظاهر (قالُوا بَلى) كنتم معنا* بحسب الظاهر (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) محنتموها بالنفاق وأهلكتموها (وَتَرَبَّصْتُمْ) بالمؤمنين الدوائر* (وَارْتَبْتُمْ) فى أمر الدين (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ) الفارغة التى من جملتها الطمع فى انتكاس أمر الإسلام* (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) أى الموت (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ) الكريم (الْغَرُورُ) أى غركم الشيطان بأن الله عفو كريم لا يعذبكم وقرىء الغرور بالضم (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) فداء وقرىء تؤخذ بالتاء (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى ظاهرا وباطنا (مَأْواكُمُ النَّارُ) لا تبرحونها أبدا (هِيَ مَوْلاكُمْ) أى أولى بكم وحقيقته مكانكم الذى يقال فيه هو أولى بكم كما يقال هو مئنة الكرم أى مكان لقول القائل إنه لكريم أو مكانكم عن قريب من الولى وهو القرب أو ناصركم على طريقة قوله [تحية بينهم ضرب وجيع] أو متوليكم تتولا كم كما توليتم موجباتها (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أى النار (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) استئناف ناع عليهم تثاقلهم فى أمور الدين ورخاوة عقدهم فيها واستبطاء لانتدابهم لما ندبوا إليه بالترغيب والترهيب وروى أن المؤمنين كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة وفتروا عما كانوا عليه فنزلت وعن ابن مسعود رضى الله عنه ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين وعن ابن عباس رضى الله عنهما إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن أى ألم نجىء وقت أن تخشع قلوبهم لذكره تعالى وتطمئن به ويسارعوا إلى طاعته بالامتثال بأوامره والانتهاء عما نهوا عنه من غير توان ولا فتور من أنى الأمر إذا جاء* إناه أى وقته وقرىء ألم يئن من آن يئين بمعنى أنى وقرىء ألما يان وفيه دلالة على أن المنفى (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) أى القرآن وهو عطف على ذكر الله فإن كان هو المراد به أيضا فالعطف لتغاير العنوانين فإنه ذكر وموعظة كما أنه حق نازل من السماء وإلا فالعطف كما فى قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) ومعنى الخشوع له الانقياد التام لأوامره ونواهيه والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام التى من جملتها ما سبق وما لحق من الإنفاق فى

٢٠٨

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١٩)

____________________________________

سبيل الله تعالى وقرىء نزل من التنزيل مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل وأنزل (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) عطف على تخشع وقرىء بالتاء على الالتفات للاعتناء بالتحذير وقيل هو نهى عن مماثلة أهل الكتاب فى قسوة القلوب بعد أن وبخوا وذلك أن بنى إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) أى الأجل* وقرىء الأمد بتشديد الدال أى الوقت الأطول وغلبهم الجفاء وزالت عنهم الروعة التى كانت تأتيهم من الكتابين (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فهى كالحجارة أو أشد قسوة (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أى خارجون عن* حدود دينهم رافضون لما فى كتابهم بالكلية (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) تمثيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب فى الخشوع والتحذير عن القساوة (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) التى من جملتها هذه الآيات (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) كى تعقلوا ما فيها وتعملوا بموجبها* فتفوزوا بسعادة الدارين (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) أى المتصدقين والمتصدقات وقد قرىء كذلك وقرىء بتخفيف الصاد من التصديق أى الذين صدقوا الله ورسوله (وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قيل* هو عطف على ما فى المصدقين من معنى الفعل فإنه فى حكم الذين اصدقوا أو صدقوا على القراءتين وعقب بأن فيه فصلا بين أجزاء الصلة بأجنبى وهو المصدقات وأجيب بأن المعنى أن الناس الذين تصدقوا وتصدقن وأقرضوا فهو عطف على الصلة من حيث المعنى من غير فصل وقيل إن المصدقات ليس بعطف على المصدقين بل هو منصوب على الاختصاص كأنه قيل إن المصدقين على العموم تغليبا وأخص المصدقات من بينهم كما تقول إن الذين آمنوا ولا سيما العلماء منهم وعملوا الصالحات لهم كذا لكن لا على أن مدار التخصيص مزيد استحقاقهن لمضاعفة الأجر كما فى المثال المذكور بل زيادة احتياجهن إلى التصدق الداعية إلى الاعتناء بحثهن على التصدق لما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال يا معشر النساء تصدقن فإنى أريتكن أكثر أهل النار وقيل هو صلة لموصول محذوف معطوف على المصدقين كأنه قيل والذين أقرضوا والقرض الحسن عبارة عن التصدق من الطيب عن طيبة النفس وخلوص النية على المستحق للصدقة (يُضاعَفُ لَهُمْ) على البناء للمفعول مسندا إلى ما بعده من الجار والمجرور وقيل إلى مصدر ما فى* حيز الصلة على حذف مضاف أى ثواب التصدق وقرىء على البناء للفاعل أى يضاعف الله تعالى وقرىء يضعف بتشديد العين وفتحها (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) مر ما فيه من الكلام (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ)

٢٠٩

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ) (٢٠)

____________________________________

* كافة وقد مر بيان كيفية الإيمان بهم فى خاتمة سورة البقرة (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصول الذى هو مبتدأ* وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه قد مر سره مرارا وهو مبتدأ ثان وقوله تعالى (هُمُ) * مبتدأ ثالث خبره (الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ) وهو مع خبره خبر للنانى وهو مع خبره خبر للأول أو هم* ضمير الفصل وما بعده خبر لأولئك والجملة خبر للموصول أى أولئك (عِنْدَ رَبِّهِمْ) بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا فى سبيل الله تعالى أو هم المبالغون فى الصدق حيث آمنوا وصدقوا جميع أخباره تعالى ورسله والقائمون بالشهادة* لله تعالى بالوحدانية ولهم بالإيمان أو على الأمم يوم القيامة وقوله تعالى (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) بيان لثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال على أنه جملة من مبتدأ وخبر محلها الرفع على أنه خبر ثان للموصول أو الخبر هو الجار وما بعده مرتفع به على الفاعلية والضمير الأول على الوجه الأول للموصول والأخيران للصديقين والشهداء أى مثل أجرهم ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال وقد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد كما فعل ذلك حيث قيل هم الصديقون والشهداء وليست المماثلة بين ما للفريق الأول من الأجر والنور وبين تمام ما للأول من الأصل والأضعاف وبين ما للأخيرين من الأصل بدون الأضعاف وأما على الوجه الثانى فمرجع الكل واحد والمعنى لهم الأجر والنور* الموعودان لهم أجرهم الخ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ) الموصوفون بتلك الصفة القبيحة (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) بحيث لا يفارقونها أبدا (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) بعد ما بين حال الفريقين فى الآخرة شرح حال الحياة الدنيا التى اطمأن بها الفريق الثانى وأشير إلى أنها من محقرات الأمور التى لا يركن إليها العقلاء فضلا عن الاطمئنان بها وأنها* مع ذلك سريعة الزوال وشيكة الاضمحلال حيث قيل (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ) أى الحراث* (نَباتُهُ) أى النبات الحاصل به (ثُمَّ يَهِيجُ) أى يجف بعد خضرته ونضارته (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) بعد ما رأيته ناضرا مونقا وقرىء مصفارا وإنما لم يقل فيصفر إيذانا بأن اصفراره مقارن لجفافه وإنما المترتب* عليه رؤيته كذلك (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) هشيما متكسرا ومحل الكاف قيل النصب على الحالية من الضمير فى لعب لأنه فى معنى الوصف وقيل الرفع على أنه خبر بعد خبر للحياة الدنيا بتقدير المضاف أى مثل الحياة الدنيا كمثل الخ وبعد ما بين حقارة أمر الدنيا تزهيدا فيها وتنفيرا عن العكوف عليها أشير إلى فخامة شأن الآخرة وعظم ما فيها من اللذات والآلام ترغيبا فى تحصيل نعيمها المقيم وتحذيرا

٢١٠

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (٢٣)

____________________________________

من عذابها الأليم وقد ذكر العذاب فقيل (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل* من أحوال الحياة الدنيا (وَمَغْفِرَةٌ) عظيمة (مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) عظيم لا يقادر قدره (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أى لمن اطمأن بها ولم يجعلها ذريعة إلى الآخرة عن سعيد بن جبير الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى فنعم المتاع ونعم الوسيلة (سابِقُوا) أى سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم فى المضمار (إِلى مَغْفِرَةٍ) عظيمة كائنة (مِنْ رَبِّكُمْ) أى إلى موجباتها* من الأعمال الصالحة (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أى كعرضهما جميعا وإذا كان عرضها* كذلك فما ظنك بطولها وقيل المراد بالعرض البسطة وتقديم المغفرة على الجنة لتقدم التخلية على التحلية (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) فيه دليل على أن الجنة مخلوقة بالفعل وأن الإيمان وحده كاف* فى استحقاقها (ذلِكَ) الذى وعد من المغفرة والجنة (فَضْلُ اللهِ) عطاؤه (يُؤْتِيهِ) تفضلا وإحسانا* (مَنْ يَشاءُ) إيتاءه إياه من غير إيجاب (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) ولذلك يؤتى من يشاء مثل ذلك الفضل* الذى لا غاية وراءه (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) كجدب وعاهة فى الزروع والثمار (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) كمرض وآفة (إِلَّا فِي كِتابٍ) أى إلا مكتوبة مثبتة فى علم الله تعالى أو فى اللوح (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) * أى نخلق الأنفس أو المصائب أو الأرض (إِنَّ ذلِكَ) أى إثباتها فى كتاب (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لاستغنائه* فيه عن العدة والمدة (لِكَيْلا تَأْسَوْا) أى أخبرنا كم بذلك لئلا تحزنوا (عَلى ما فاتَكُمْ) من نعم الدنيا (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أى أعطاكم الله تعالى منها فإن من علم أن الكل مقدر يفوت ما قدر فواته ويأتى* ما قدر إتيانه لا محالة لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت وقرىء بما آتاكم من الإتيان وفى القراءة الأولى إشعار بأن فوات النعم يلحقها إذا خليت وطباعها وأما حصولها وبقاؤها فلا بد لهما من سبب يوجدها ويبقيها وقرىء بما أوتيتم والمراد به نفى الأسى المانع عن التسليم لأمر الله تعالى والفرح الموجب للبطر والاختيال ولذلك عقب بقوله تعالى (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) فإن من فرح* بالحظوظ الدنيوية وعظمت فى نفسه اختال وافتخر بها لا محالة وفى تخصيص التذييل بالنهى عن الفرح المذكور إيذان بأنه أقبح من الأسى.

٢١١

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢٦)

____________________________________

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) بدل من كل مختال فإن المختال بالمال يضن به غالبا ويأمر* غيره به أو مبتدأ خبره محذوف يدل عليه قوله تعالى (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فإن معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله غنى عنه وعن إنفاقه محمود فى ذاته لا يضره الإعراض عن شكره بالتقرب إليه بشىء من نعمه وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق وقرىء فإن الله الغنى (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) أى الملائكة إلى الأنبياء أو الأنبياء إلى الأمم وهو الأظهر (بِالْبَيِّناتِ) * أى الحجج والمعجزات (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أى جنس الكتاب الشامل للكل (وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أى بالعدل روى أن جبريل عليه‌السلام نزل الميزان فدفعه إلى نوح عليه‌السلام* وقال مر قومك يزنوا به وقيل أريد به العدل ليقام به السياسة ويدفع به العدوان (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) قيل نزل آدم عليه‌السلام من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة وروى ومعه المر والمسحات وعن الحسن وأنزلنا الحديد خلقناه كقوله تعالى (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) وذلك أن أوامره تعالى وقضاياه وأحكامه تنزل من السماء وقوله تعالى (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) لأن* آلات الحرب إنما تتخذ منه (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) إذ ما من صنعة إلا والحديد أو ما يعمل بالحديد آلتها* والجملة حال من الحديد وقوله تعالى (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) عطف على محذوف يدل عليه ما قبله فإنه حال متضمنة للتعليل كأنه قيل ليستعملوه وليعلم الله علما يتعلق به الجزاء من ينصره ورسوله باستعمال السيوف والرماح وسائر الأسلحة فى مجاهدة أعدائه أو متعلق بمحذوف مؤخر والواو اعتراضية أى* وليعلم الله من ينصره ورسله أنزله وقيل عطف على قوله تعالى (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) وقوله تعالى (بِالْغَيْبِ) * حال من فاعل ينصر أو مفعوله أى غائبا عنهم أو غائبين عنه وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) اعتراض تذييلى جىء به تحقيقا للحق وتنبيها على أن تكليفهم الجهاد وتعريضهم للقتال ليس لحاجته فى إعلاء كلمته وإظهار دينه إلى نصرتهم بل إنما هو لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب وإلا فهو غنى بقدرته وعزته عنهم فى كل ما يريده (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) نوع تفصيل لما أجمل فى قوله

٢١٢

(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢٧)

____________________________________

تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) الخ وتكرير القسم لإظهار مزيد الاعتناء بالأمر أى وبالله لقد أرسلناهما (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب وقيل المراد بالكتاب الخط بالقلم (فَمِنْهُمْ) أى من الذرية أو من المرسل إليهم المدلول عليهم بذكر الإرسال والمرسلين (مُهْتَدٍ) إلى الحق* (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن الطريق المستقيم والعدول عن سنن المقابلة للمبالغة فى الذم والإيذان* بغلبة الضلال وكثرتهم (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) أى ثم أرسلنا بعدهم رسلنا (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أى أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم عليه‌السلام والضمير لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم أو من عاصرهما من الرسل لا للذرية فإن الرسل المقفى بهم من الذرية (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) * وقرىء بفتح الهمزة فإنه أعجمى لا يلزم فيه مراعاة أبنية العرب (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً) * وقرىء رآفة على فعالة (وَرَحْمَةً) أى وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم ونحوه فى شأن أصحاب النبى عليه* الصلاة والسلام رحماء بينهم (وَرَهْبانِيَّةً) منصوب إما بفعل مضمر يفسره الظاهر أى وابتدعوا رهبانية* (ابْتَدَعُوها) وإما بالعطف على ما قبلها وابتدعوها صفة لها أى وجعلنا فى قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية* مبتدعة من عندهم أى وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها وهى المبالغة فى العبادة بالرياضة والانقطاع عن الناس ومعناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب كخشيان من خشى وقرىء بضم الراء كأنها نسبة إلى الرهبان وهو جمع راهب كراكب وركبان وسبب ابتداعهم إياها أن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى عليه‌السلام فقاتلوهم ثلاث مرات فقاتلوا حتى لم يبق منهم إلا قليل فخافوا أن يفتتنوا فى دينهم فاختاروا الرهبانية فى قلل الجبال فارين بدينهم مخلصين أنفسهم للعبادة وقوله تعالى (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) جملة مستأنفة وقيل صفة أخرى لرهبانية والنفى* على الوجه الأول متوجه إلى أصل الفعل وقوله تعالى (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) استثناء منقطع أى* ما فرضناها نحن عليهم رأسا ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فذمهم حينئذ بقوله تعالى (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) من حيث إن النذر عهد مع الله لا يحل نكثه لا سيما إذا قصد به رضاه تعالى وعلى الوجه الثانى متوجه إلى قيده لا إلى نفسه والاستثناء متصل من أعم العلل أى ما كتبناها عليهم بأن وفقناهم لابتداعها لشىء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله ويستحقوا بها الثواب ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها ويراعوها حق رعايتها فما رعاها كلهم بل بعضهم (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ) إيمانا صحيحا* وهو الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد رعاية رهبانيتهم لا مجرد رعايتها فإنها بعد البعثة لغو محض

٢١٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩)

____________________________________

* وكفر بحت وأنى لها استتباع الأجر (أَجْرَهُمْ) أى ما يخص بهم من الأجر (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن حد الاتباع وحمل الفريقين على من مضى من المراعين لحقوق الرهبانية قبل النسخ والمخلين إذ ذاك بالتثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة من غير تعرض لإيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرهم به مما لا يساعده المقام (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أى بالرسل المتقدمة (اتَّقُوا اللهَ) فيما نهاكم* عنه (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) أى بمحمد عليه الصلاة والسلام وفى إطلاقه إيذان بأنه علم فرد فى الرسالة لا يذهب* الوهم إلى غيره (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) نصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ) لإيمانكم بالرسول وبمن قبله من الرسل عليهم* الصلاة والسلام لكن لا على معنى أن شريعتهم باقية بعد البعثة بل على أنها كانت حقة قبل النسخ (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) يوم القيامة حسبما نطق به قوله تعالى (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ما أسلفتم من الكفر والمعاصى (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أى مبالغ فى المغفرة والرحمة وقوله تعالى (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) متعلق بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط إذ التقدير أن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا يعلم الذين لم يسلموا من أهل الكتاب أى ليعلموا ولا مزيدة* كما ينبىء عنه قراءة ليعلم ولكى يعلم ولأن يعلم بإدغام النون فى الياء وأن فى قوله تعالى (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) مخففة من الثقيلة واسمها الذى هو ضمير الشأن محذوف والجملة فى حيز النصب على أنها مفعول يعلم أى ليعلموا أنه لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله من الكفلين والنور والمغفرة ولا* يتمكنون من نيله حيث لم يأتوا بشرطه الذى هو الإيمان برسوله وقوله تعالى (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) * عطف على أن لا يقدرون وقوله تعالى (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) خبر ثان لأن وقيل هو الخبر والجار حال* لازمة وقوله تعالى (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) اعتراض تذييلى لمضمون ما قبله وقد جوز أن يكون الأمر بالتقوى والإيمان لغير أهل الكتاب فالمعنى اتقوا الله واثبتوا على إيمانكم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين فى قوله تعالى (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) ولا ينقصكم من مثل أجرهم لأنكم مثلهم فى الإيمانين لا تفرقون بين أحد من رسله وروى أن مؤمنى أهل الكتاب افتخروا على سائر المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين وادعوا الفضل عليهم فنزلت وقرىء ليلا بقلب الهمزة ياء لانفتاحها بعد كسرة وقرىء بسكون الياء وفتح اللام كاسم المرأة وبكسر اللام مع سكون الياء وقرىء أن لا يقدروا هذا وقد قيل لا غير مزيدة وضمير لا يقدرون للنبى عليه

٢١٤

٥٨ ـ سورة المجادلة

(مدنية وهى إثنتان وعشرون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (١)

____________________________________

الصلاة والسلام وأصحابه والمعنى لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبى عليه الصلاة والسلام والمؤمنون به على شىء من فضل الله الذى هو عبارة عما أوتوه من سعادة الدارين على أن عدم علمهم بعدم قدرتهم على ذلك كناية عن علمهم بقدرتهم عليه فيكون قوله تعالى (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) الخ عطفا على أن لا يعلم. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله.

(سورة المجادلة مدنية وقيل العشر الأول مكى والباقى مدنى وآياتها إثنتان وعشرون آية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (قَدْ سَمِعَ اللهُ) بإظهار الدال وقرىء بإدغامها فى السين (قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) أى تراجعك الكلام فى شأنه وفيما صدر عنه فى حقها من الظهار وقرىء تحاورك وتحاولك أى تسائلك (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) عطف على تجادلك أى تتضرع إليه تعالى وقيل حال من فاعله أى* تجادلك وهى متضرعة إليه تعالى وهى خولة بنت ثعلبة بن مالك بن خرامة الخزرجية ظاهر عنها زوجها أوس بن الصامت أخو عبادة ثم ندم على ما قال فقال لها ما أظنك إلا قد حرمت على فشق عليها ذلك فاستفتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال حرمت عليه فقالت يا رسول الله ما ذكر طلاقا فقال حرمت عليه وفى رواية ما أراك إلا قد حرمت عليه فى المرار كلها فقالت أشكو إلى الله فاقتى ووجدى وجعلت تراجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلما قال عليه الصلاة والسلام حرمت عليه هتفت وشكت إلى الله تعالى فنزلت وفى كلمة قد إشعار بأن الرسول عليه الصلاة والسلام والمجادلة كانا يتوقعان أن ينزل الله تعالى حكم الحادثة ويفرج عنها كربها كما يلوح به ما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لها عند استفتائها ما عندى فى أمرك شىء وأنها كانت ترفع رأسها إلى السماء وتقول أشكو إليك فأنزل على لسان نبيك ومعنى سمعه تعالى لقولها إجابة دعائها لا مجرد علمه تعالى بذلك كما هو المعنى بقوله تعالى (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) أى يعلم تراجعكما الكلام وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع حسب* استمرار التحاور وتجدده وفى نظمها فى سلك الخطاب تغليبا تشريف لها من جهتين والجملة استئناف مجرى التعليل لما قبله فإن إلحافها فى المسألة ومبالغتها فى التضرع إلى الله تعالى ومدافعته عليه الصلاة والسلام إياها بجواب منبىء عن التوقف وترقب الوحى وعلمه تعالى بحالهما من دواعى الإجابة وقيل

٢١٥

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٣)

____________________________________

* هى حال وهو بعيد وقوله عزوجل (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) تعليل لما قبله بطريق التحقيق أى مبالغ فى العلم بالمسموعات والمبصرات ومن قضيته أن يسمع تحاورهما ويرى ما يقارنه من الهيئات التى من جملتها رفع رأسها إلى السماء وسائر آثار التضرع وإظهار الاسم الجليل فى الموقعين لتربية المهابة وتعليل الحكم بوصف الألوهية وتأكيد استقلال الجمتلين وقوله تعالى (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) شروع فى بيان شأن الظهار فى نفسه وحكمه المترتب عليه شرعا بطريق الاستئناف والظهار أن يقول الرجل لامرأته أنت على كظهر أمى مشتق من الظهر وقد مر تفصيله فى الأحزاب وألحق به الفقهاء تشبيهها بجزء محرم وفى منكم مزيد توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم فيه فإن كان من أيمان أهل جاهليتهم* خاصة دون سائر الأمم وقرىء يظاهرون ويظهرون وقوله تعالى (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) خبر للموصول أى* ما نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة فهو كذب بحت وقرىء أمهاتهم بالرفع على لغة تميم وبأمهاتهم (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ) * أى ما هن (إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) فلا تشبه بهن فى الحرمة إلا من ألحقها الشرع بهن من المرضعات وأزواج* النبى عليه الصلاة والسلام فدخلن بذلك فى حكم الأمهات وأما الزوجات فأبعد شىء من الأمومة (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ) بقولهم ذلك (مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) على أن مناط التأكيد ليس صدور القول عنهم فإنه أمر محقق بل كونه منكرا أى عند الشرع وعند العقل والطبع أيضا كما يشعر به تنكيره ونظيره قوله* تعالى (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) (وَزُوراً) أى محرفا عن الحق (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) أى مبالغ فى العفو والمغفرة فيغفر لما سلف منه على الإطلاق أو بالمتاب عنه وقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) تفصيل لحكم الظهار بعد بيان كونه أمرا منكرا بطريق التشريع الكلى المنتظم لحكم الحادثة انتظاما أوليا أى والذين يقولون ذلك القول المنكر ثم يعودون لما قالوا أى إلى ما قالوا بالتدارك والتلافى لا بالتقرير والتكرير كما فى قوله تعالى (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) فإن اللام وإلى تتعاقبان كثيرا كما فى قوله تعالى (هَدانا لِهذا) وقوله تعالى (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) وقوله تعالى (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ) (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أى فتداركه أو فعليه أو فالواجب إعتاق رقبة أى رقبة كانت وعند الشافعى رحمه‌الله تعالى يشترط الإيمان والفاء للسببية ومن فوائدها الدلالة على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار وقيل ما قالوا عبارة عما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلا للقول منزلة المقول فيه كما ذكر فى قوله تعالى (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) أى المقول فيه من المال والولد فالمعنى ثم يريدون العود للاستمتاع فتحرير

٢١٦

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) (٥)

____________________________________

رقبة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أى من قبل أن يستمتع كل من المظاهر والمظاهر منها بالآخر جماعا ولمسا* ونظرا إلى الفرج بشهوة وإن وقع شىء من ذلك قبل التكفير يجب عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر وإن أعتق بعض الرقبة ثم مس عليه أن يستأنف عند أبى حنيفة رحمه‌الله تعالى (ذلِكُمْ) إشارة* إلى الحكم المذكور وهو مبتدأ خبره (تُوعَظُونَ بِهِ) أى تزجرون به عن ارتكاب المنكر المذكور* فإن الغرامات مزاجر عن تعاطى الجنايات والمراد بذكره بيان أن المقصود من شرع هذا الحكم ليس تعريضكم للثواب بمباشرتكم لتحرير الرقبة الذى هو علم فى استتباع الثواب العظيم بل هو ردعكم وزجركم عن مباشرة ما يوجبه (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من الأعمال التى من جملتها التكفير وما يوجبه من* جناية الظهار (خَبِيرٌ) أى عالم بظواهرها وبواطنها ومجازيكم بها فحافظوا على حدود ما شرع لكم ولا* تخلوا بشىء منها (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أى الرقبة (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ) أى فعليه صيام شهرين (مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ليلا أو نهارا عمادا أو خطأ (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أى الصيام لسبب من الأسباب (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من غيره ويجب تقديمه على المسيس لكن لا يستأنف إن مس فى خلال الإطعام (ذلِكَ) إشارة إلى ما مر من البيان والتعليم للأحكام والتنبيه عليها وما فيه* من معنى البعد قد مر سره مرارا ومحله إما الرفع على الابتداء أو النصب بمضمر معلل بما بعده أى ذلك واقع أو فعلنا ذلك (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) وتعملوا بشرائعه التى شرعها لكم وترفضوا ما كنتم عليه* فى جاهليتكم (وَتِلْكَ) إشارة إلى الأحكام المذكورة وما فيه من معنى البعد لتعظيمها كما مر غير مرة* (حُدُودُ اللهِ) التى لا يجوز تعديها (وَلِلْكافِرِينَ) أى الذين لا يعملون بها (عَذابٌ أَلِيمٌ) عبر عنه بذلك* للتغليظ على طريقة قوله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أى يعادونهما ويشاقونهما فإن كلا من المتعاديين كما أنه يكون فى عدوة وشق غير عدوة الآخر وشقه كذلك يكون فى حد غير حد الآخر غير أن لورود المحادة فى أثناء ذكر حدود الله دون المعاداة والمشاقة من حسن الموقع ما لا غاية وراءه (كُبِتُوا) أى أخزوا وقيل خذلوا وقيل أذلوا وقيل أهلكوا وقيل* لعنوا وقيل غيظوا وهو ما وقع يوم الخندق قالوا معنى كبتوا سيكبتون على طريقة قوله تعالى (أَتى أَمْرُ اللهِ) وقيل أصل الكبت الكب (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من كفار الأمم الماضية المعادين للرسل عليهم*

٢١٧

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧)

____________________________________

* الصلاة والسلام (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) حال من واو كبتوا اى كبتوا لمحادتهم والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله ورسوله ممن قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم وقيل آيات تدل على صدق* وصحة ما جاء به (وَلِلْكافِرِينَ) أى بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به فيدخل فيه تلك الآيات دخولا أوليا (عَذابٌ مُهِينٌ) يذهب بعزهم وكبرهم (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ) منصوب بما تعلق به اللام من* الاستقرار أو بمهين أو بإضمار اذكر تعظيما لليوم وتهويلا له (جَمِيعاً) أى كلهم بحيث لا يبقى منهم أحد* غير مبعوث أو مجتمعين فى حالة واحدة (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) من القبائح ببيان صدورها عنهم أو بتصويرها فى تلك النشأة بما يليق بها من الصور الهائلة على رؤس الأشهاد تخجيلا لهم وتشهيرا بحالهم وتشديدا* لعذابهم وقوله تعالى (أَحْصاهُ اللهُ) استئناف وقع جوابا عما نشأ مما قبله من السؤال إما عن كيفية التنبئة أو عن سببها كأنه قيل كيف ينبئهم بأعمالهم وهى أعراض متقضية متلاشية فقيل أحصاه الله* عددا لم يفته منه شىء فقوله تعالى (وَنَسُوهُ) حينئذ حال من مفعول أحصى بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور أو قيل لم ينبئهم بذلك فقيل أحصاه الله ونسوه فينبئهم به ليعرفوا أن ما عاينوه من* العذاب إنما حاق بهم لأجله وفيه مزيد توبيخ وتنديم لهم غير التخجيل والتشهير (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) لا يغيب عنه أمر من الأمور قط والجملة اعتراض تذييلى مقرر لإحصائه تعالى وقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) استشهاد على شمول شهادته تعالى كما فى قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) وفى قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) أى ألم تعلم علما يقينيا متاخما للمشاهدة بأنه تعالى يعلم ما فيهما من الموجودات سواء كان ذلك بالاستقرار فيهما أو بالجزئية منهما* وقوله تعالى (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) الخ استئناف مقرر لما قبله من سعة علمه تعالى ومبين لكيفيته ويكون من كان التامة وقرىء تكون بالتاء اعتبارا لتأنيث النجوى وإن كان غير حقيقى أى ما يقع من تناجى ثلاثة نفر أى من مسارتهم على أن نجوى مضافة إلى ثلاثة أو على أنها موصوفة بها إما بتقدير* مضاف أى من أهل نجوى ثلاثة أو بجعلهم نجوى فى أنفسهم (إِلَّا هُوَ) أى الله عزوجل (رابِعُهُمْ) أى جاعلهم أربعة من حيث إنه تعالى يشاركهم فى الاطلاع عليها وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال* (وَلا خَمْسَةٍ) ولا نجوى خمسة (إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) وتخصيص العددين بالذكر إما لخصوص الواقعة فإن الآية نزلت فى تناجى المنافقين وإما لبناء الكلام على أغلب عادات المتناجين وقد عمم الحكم بعد

٢١٨

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٠)

____________________________________

ذلك فقيل (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) أى مما ذكر كالواحد والإثنين (وَلا أَكْثَرَ) كالستة وما فوقها (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) يعلم ما يجرى بينهم وقرىء ولا أكثر بالرفع عطفا على محل من نجوى أو محل ولا أدنى بأن جعل لا لنفى الجنس (أَيْنَ ما كانُوا) من الأماكن ولو كانوا تحت الأرض فإن علمه تعالى بالأشياء ليس* لقرب مكانى حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة قربا وبعدا (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ) وقرىء ينبئهم بالتخفيف (بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) تفضيحا لهم وإظهارا لما يوجب عذابهم (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لأن نسبة ذاته المقتضية* للعلم إلى الكل سواء (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) نزلت فى اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعيانهم إذا رأوا المؤمنين فنهاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم عادوا لمثل فعلهم والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام والهمزة للتعجيب من حالهم وصيغة المضارع للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة وقوله تعالى (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) عطف عليه داخل فى حكمه أى بما هو إثم فى نفسه وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهين إليه عليه الصلاة والسلام لزيادة تشنيعهم واستعظام معصيتهم وقرىء وينتجون بالإثم والعدوان بكسر العين ومعصيات الرسول (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) فيقولون السام عليك أو أنعم صباحا والله سبحانه يقول وسلام* على المرسلين (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أى فيما بينهم (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) أى هلا يعذبنا الله بذلك* لو كان محمد نبيا (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) عذابا (يَصْلَوْنَها) يدخلونها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أى جهنم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ) فى أنديتكم وفى خلواتكم (فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) كما يفعله* المنافقون وقرىء فلا تنتجوا وفلا تناجوا بحذف إحدى التاءين (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) أى بما* يتضمن خير المؤمنين والاتقاء عن معصية الرسول عليه الصلاة والسلام (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) وحده لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا فيجازيكم بكل ما تأتون وما تذرون (إِنَّمَا النَّجْوى)

٢١٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢)

____________________________________

* المعهودة التى هى التناجى بالإثم والعدوان (مِنَ الشَّيْطانِ) لا من غيره فإنه المزين لها والحامل عليها* وقوله تعالى (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) خبر آخر أى إنما هى ليحزن المؤمنين بتوهمهم أنها فى نكبة أصابتهم* (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ) أى الشيطان أو التناجى بضار المؤمنين (شَيْئاً) من الأشياء أو شيئا من الضرر (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أى بمشيئته (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ولا يبالوا بنجواهم فإنه تعالى يعصمهم من شره (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا) أى توسعوا وليفسح بعضكم عن بعض ولا تتضاموا من* قولهم افسح عنى أى تنح وقرىء تفاسحوا وقوله تعالى (فِي الْمَجالِسِ) متعلق بقيل وقرىء فى المجلس على أن المراد به الجنس وقيل مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام وكانوا يتضامون تنافسا فى القرب منه عليه الصلاة والسلام وحرصا على استماع كلامه وقيل هو المجلس من مجالس القتال وهى مراكز الغزاة كقوله تعالى (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) قيل كان الرجل يأتى الصف ويقول تفسحوا فيأبون لحرصهم على الشهادة وقرىء فى المجلس بفتح اللام فهو متعلق بتفسحوا قطعا أى توسعوا فى جلوسكم ولا تتضايقوا* فيه (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أى فى كل ما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق والصدر والقبر* وغيرها (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) أى انهضوا للتوسعة على المقبلين أو لما أمرتم به من صلاة أو جهاد أو* غيرهما من أعمال الخير (فَانْشُزُوا) فانهضوا ولا تتثبطوا ولا تفرطوا وقرىء بكسر الشين (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) بالنصر وحسن الذكر فى الدنيا والإيواء إلى غرف الجنان فى الآخرة (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) منهم خصوصا (دَرَجاتٍ) عالية بما جمعوا من أثرتى العلم والعمل فإن العلم مع علو رتبته يقتضى العمل المقرون به مزيد رفعة لا يدرك شأوه العمل العارى عنه وإن كان فى غاية الصلاح ولذلك يقتدى بالعالم فى أفعاله ولا يقتدى بغيره وفى الحديث فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على* سائر الكواكب (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) تهديد لمن لم يمتثل بالأمر وقرىء يعملون بالياء التحتانية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) فى بعض شؤنكم المهمة الداعية إلى مناجاته عليه الصلاة والسلام* (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أى فتصدقوا قبلها مستعار ممن له يدان وفى هذا الأمر تعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانفاع الفقراء والزجر عن الإفراط فى السؤال والتمييز بين المخلص والمنافق

٢٢٠