روح المعاني - ج ٨

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٨

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٨

فعصيت أمري (قالَ يَا بْنَ أُمَ) خص الأم بالإضافة استعطافا وترقيقا لقلبه لا لما قيل من أنه كان أخاه لأمه فإن الجمهور على أنهما كانا شقيقين.

وقرأ حمزة والكسائي «يا بن أم» بكسر الميم (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) أي بشعر رأسي فإن الأخذ أنسب به ، وزعم بعضهم أن قوله (بِلِحْيَتِي) على معنى بشعر لحيتي أيضا لأن أصل وضع اللحية للعضو النابت عليه الشعر ولا يناسبه الأخذ كثير مناسبة ، وأنت تعلم أن المشهور استعمال اللحية في الشعر النابت على العضو المخصوص ، وظاهر الآيات والأخبار أنه عليه‌السلام أخذ بذلك. روي أنه أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله وكان عليه‌السلام حديدا متصلبا غضوبا لله تعالى وقد شاهد ما شاهد وغلب على ظنه تقصير في هارون عليه‌السلام يستحق به وإن لم يخرجه عن دائرة العصمة الثابتة للأنبياء عليهم‌السلام التأديب ففعل به ما فعل وباشر ذلك بنفسه ولا محذور فيه أصلا ولا مخالفة للشرع فلا يرد ما توهمه الإمام فقال : لا يخلو الغضب من أن يزيل عقله أولا والأول لا يعتقده مسلم والثاني لا يزيل السؤال بلزوم عدم العصمة. وأجاب بما لا طائل تحته.

وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي «بلحيتي» بفتح اللام وهي لغة أهل الحجاز (إِنِّي خَشِيتُ) إلخ استئناف لتعليل موجب النهي بتحقيق أنه غير عاص أمره ولا مقصر في المصلحة أي خشيت لو قاتلت بعضهم ببعض وتفانوا وتفرقوا أو خشيت لو لحقتك بمن آمن (أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) برأيك مع كونهم أبناء واحد كما ينبئ عن ذلك ذكرهم بهذا العنوان دون القوم ونحوه ، واستلزام المقاتلة التفريق ظاهر ، وكذا اللحوق بموسى عليه‌السلام مع من آمن وربما يجر ذلك إلى المقاتلة. وقيل : أراد عليه‌السلام بالتفريق على التفسير الأول ما يستتبعه القتال من التفريق الذي لا يرجى بعده الاجتماع.

(وَلَمْ تَرْقُبْ) أي ولم تراع (قَوْلِي) والجملة عطف على (فَرَّقْتَ) أي خشيت أن تقول مجموع الجملتين وتنسب إلى تفريق بني إسرائيل وعدم مراعاة قولك لي ووصيتك إياي ، وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من ضمير (فَرَّقْتَ) أي خشيت أن تقول فرقت بينهم غير مراع قولي أي خشيت أن تقول مجموع هذا الكلام ، وأراد بقول موسى المضاف إلى الياء قوله عليه‌السلام (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) إلخ ، وحاصل اعتذاره عليه‌السلام إني رأيت الإصلاح في حفظ الدهماء والمداراة معهم وزجرهم على وجه لا يختل به أمر انتظامهم واجتماعهم ولا يكون سببا للومك إياي إلى أن ترجع إليهم فتكون أنت المتدارك للأمر حسبما تراه لا سيما والقوم قد استضعفوني وقربوا من أن يقتلوني كما أفصح عليه‌السلام بهذا في آية أخرى.

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج ما يدل على أن المراد من القول المضاف قول هارون عليه‌السلام ، وجملة (لَمْ تَرْقُبْ) في موضع الحال من ضمير (تَقُولَ) أي خشيت أن تقول ذلك غير منتظر قولي وبيان حقيقة الحال فتأمل.

وقرأ أبو جعفر «ولم ترقب» بضم التاء وكسر القاف مضارع أرقب (قالَ) استئناف وقع جوابا عما نشأ من حكاية ما سلف من اعتذار القوم بإسناد الفساد إلى السامري واعتذار هارون عليه‌السلام كأنه قيل : فما ذا صنع موسى عليه‌السلام بعد سماع ما حكي من الاعتذارين واستقرار أصل الفتنة على السامري؟ فقيل قال موبخا له إذا كان الأمر هذا (فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) أي ما شأنك والأمر العظيم الصادر عنك ؛ وما سؤال عن السبب الباعث لذلك ، وتفسير الخطب بذلك هو المشهور ، وفي الصحاح الخطب سبب الأمر.

وقال بعض الثقات : هو في الأصل مصدر خطب الأمر إذا طلبه فإذا قيل لمن يفعل شيئا : ما خطبك؟ فمعناه ما

٥٦١

طلبك له وشاع في الشأن والأمر العظيم لأنه يطلب ويرغب فيه ، واختير في الآية تفسيره بالأصل ليكون الكلام عليه أبلغ حيث لم يسأله عليه‌السلام عما صدر منه ولا عن سببه بل عن سبب طلبه ، وجعل الراغب الأصل لهذا الشائع الخطب بمعنى التخاطب أي المراجعة في الكلام ، وأطلق عليه لأن الأمر العظيم يكثر فيه التخاطب ، وجعل في الأساس الخطب بمعنى الطلب مجازا فقال : ومن المجاز فلان يخطب عمل كذا يطلبه وما خطبك ما شأنك الذي تخطبه ، وفرق ابن عطية بين الخطب والشأن بأن الخطب يقتضي انتهارا ويستعمل في المكاره دون الشأن ثم قال فكأنه قيل : ما نحسك وما شؤمك وما هذا الخطب الذي جاء منك انتهى.

وليس ذلك بمطرد فقد قال إبراهيم عليه‌السلام للملائكة عليهم‌السلام : (فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) [الحجر : ٥٧ ، الذاريات : ٣١] ولا يتأتى فيه ما ذكر.

وزعم بعض من جعل اشتقاقه من الخطاب أن المعنى ما حملك على أن خاطبت بني إسرائيل بما خاطبت.

وفعلت معهم ما فعلت وليس بشيء ، وخطابه عليه‌السلام إياه بذلك ليظهر للناس بطلان كيده باعترافه ويفعل به وبما أخرجه ما يكون نكالا للمفتونين ولمن خلفهم من الأمم.

(قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)(١١٠)

(قالَ) أي السامري مجيبا له عليه‌السلام (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) بضم الصاد فيهما أي علمت ما لم يعلمه القوم وفطنت لما لم يفطنوا له ، قال الزجاج يقال : بصر بالشيء إذا علمه وأبصر إذا نظر ، وقيل : بصره وأبصره بمعنى واحد : وقال الراغب : البصر يقال : للجارحة الناظرة وللقوة التي فيها ويقال : لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر ويقال من الأول أبصرت. ومن الثاني أبصرته وبصرت به. وقلما يقال : بصرت في الحاسة إذا لم يضامه رؤية القلب اه.

وقرأ الأعمش وأبو السمال «بصرت» بكسر الصاد «بما لم يبصروا» بفتح الصاد. وقرأ عمرو بن عبيد «بصرت» بضم الباء وكسر الصاد «بما لم تبصروا» بضم التاء المثناة من فوق وفتح الصاد على البناء للمفعول.

وقرأ الكسائي وحمزة وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وابن سعدان وقعنب «بما لم

٥٦٢

تبصروا» بالتاء الفوقانية المفتوحة وبضم الصاد. والخطاب لموسى عليه‌السلام وقومه. وقيل : له عليه‌السلام وحده وضمير الجمع للتعظيم كما قيل في قوله تعالى (رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون : ٩٩] وهذا منقول عن قدماء النحاة وقد صرح به الثعالبي في سر العربية ، فما ذكره الرضي من أن التعظيم إنما يكون في ضمير المتكلم مع الغير كفعلنا غير مرتضى وإن تبعه كثير. وادعى بعضهم أن الأنسب بما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله : (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) تفسير بصر برأى لا سيما على القراءة بالخطاب فإن ادعاء علم ما لم يعلمه موسى عليه‌السلام جراءة عظيمة لا تليق بشأنه ولا بمقامه بخلاف ادعاء رؤية ما لم يره عليه‌السلام فإنه مما يقع بحسب ما يتفق. وقد كان فيما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رأى جبريل عليه‌السلام يوم فلق البحر على فرس فعرفه لما أنه كان يغذوه صغيرا حين خافت عليه أمه فألقته في غار فأخذ قبضة من تحت حافر الفرس وألقى في روعه أنه لا يلقيها على شيء فيقول : كن كذا إلا كان.

وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه رآه عليه‌السلام راكبا على فرس حين جاء ليذهب بموسى عليهما‌السلام إلى الميقات ولم يره أحد غيره من قوم موسى عليه‌السلام فأخذ من موطئ فرسه قبضة من التراب. وفي بعض الآثار أنه رآه كلما رفع الفرس يديه أو رجليه على التراب اليبس يخرج النبات فعرف أن له شأنا فأخذ من موطئه حفنة ، وذلك قوله تعالى (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) أي من أثر فرس الرسول. وكذا قرأ عبد الله ، فالكلام على حذف مضاف كما عليه أكثر المفسرين. وأثر الفرس التراب الذي تحت حافره. وقيل : لا حاجة إلى تقدير مضاف لأن أثر فرسه أثره عليه‌السلام.

ولعل ذكر جبريل عليه‌السلام بعنوان الرسالة لأنه لم يعرفه إلا بهذا العنوان أو للإشعار بوقوفه على ما لم يقف عليه القوم من الأسرار الإلهية تأكيدا لما صدر به مقالته والتنبيه كما قيل على وقت أخذ ما أخذ.

والقبضة المرة من القبض أطلقت على المقبوض مرة ، وبذلك يرد على القائلين بأن المصدر الواقع كذلك لا يؤنث بالتاء فيقولون : هذه حلة نسيج اليمن ولا يقولون : نسيجة اليمن. والجواب بأن الممنوع إنما هو التاء الدالة على التحديد لا على مجرد التأنيث كما هنا والمناسب على هذا أن لا تعتبره المرة كما لا يخفى.

وقرأ عبد الله وأبي وابن الزبير والحسن وحميد «قبصت قبصة» بالصاد فيهما ؛ وفرقوا بين القبض بالضاد المعجمة والقبص بالصاد بأن الأول الأخذ بجميع الكف والثاني الأخذ بأطراف الأصابع ونحوهما الخضم بالخاء للأكل بجميع الفم والقضم بالقاف للأكل بأطراف الأسنان. وذكر أن ذلك مما غير لفظه لمناسبة معناه فإن الضاد المعجمة للثقل واستطالة مخرجها جعلت فيما يدل على الأكثر والصاد لضيق محلها وخفائه جعلت فيما يدل على القليل.

وقرأ الحسن بخلاف عنه. وقتادة ونصر بن عاصم بضم القاف والصاد المهملة وهو اسم للمقبوض كالمضغة اسم للممضوغ (فَنَبَذْتُها) أي ألقيتها في الحلي المذاب. وقيل : في جوف العجل فكان ما كان.

(وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) أي زينته وحسنته إلي والإشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعد. وذلك على حد قوله تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] وحاصل جوابه أن ما فعله إنما صدر عنه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة بالسوء لا لشيء آخر من البرهان العقلي أو النقلي أو من الإلهام الإلهي. هذا ثم ما ذكر من تفسير الآية هو المأثور عن الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم وتبعهم جل أجلة المفسرين ، وقال أبو مسلم الأصبهاني : ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكروه. وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه‌السلام وأثره سنته ورسمه

٥٦٣

الذي أمر به ودرج عليه فقد يقول الرجل : فلان يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه ، وتقرير الآية على ذلك أن موسى عليه‌السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم بالعجل قال : بصرت بما لم يبصروا به أي عرفت أن الذي عليه القوم ليس بحق وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أي شيئا من دينك فنبذتها أي طرحتها ولم أتمسك بها. وتعبيره عن موسى عليه‌السلام بلفظ الغائب على نحو قول من يخاطب الأمير ما قول الأمير في كذا. ويكون إطلاق الرسول منه عليه عليه‌السلام نوعا من التهكم حيث كان كافرا مكذبا به على حد قوله تعالى حكاية عن الكفرة (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] انتهى ، وانتصر له بعضهم بأنه أقرب إلى التحقيق. ويبعد قول المفسرين أن جبريل عليه‌السلام ليس معهودا باسم الرسول ولم ير له فيما تقدم ذكر حتى تكون اللام في الرسول لسابق في الذكر وأن ما قالوه لا بد له من تقدير المضاف والتقدير خلاف الأصل وأن اختصاص السامري برؤية جبريل عليه‌السلام ومعرفته من بين سائر الناس بعيد جدا. وأيضا كيف عرف أن أثر حافر فرسه يؤثر هذا الأمر الغريب العجيب من حياة الجماد وصيرورته لحما ودما على أنه لو كان كذلك لكان الأثر نفسه أولى بالحياة. وأيضا متى اطلع كافر على تراب هذا شأنه فلقائل أن يقول لعل موسى عليه‌السلام اطلع شيء آخر يشبه هذا فلأجله أتى بالمعجزات فيكون ذلك فيما أتى به المرسلون عليهم‌السلام من الخوارق ، وأيضا يبعد الكفر والإقدام على الإضلال بعد أن عرف نبوة موسى عليه‌السلام بمجيء هذا الرسول الكريم إليه انتهى.

وأجيب بأنه قد عهد في القرآن العظيم إطلاق الرسول على جبريل عليه‌السلام فقد قال سبحانه (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [الحاقة : ٤٠ ، التكوير : ١٩] وعدم جريان ذكر له فيما تقدم لا يمنع من أن يكون معهودا ، ويجوز أن يكون إطلاق الرسول عليه عليه‌السلام شائعا في بني إسرائيل لا سيما إن قلنا بصحة ما روي أنه عليه‌السلام كان يغذي من يلقى من أطفالهم في الغار في زمان قتل فرعون لهم ، وبأن تقدير المضاف في الكلام أكثر من أن يحصى وقد عهد ذلك في كتاب الله تعالى غير مرة ، وبأن رؤيته جبريل عليه‌السلام دون الناس كان ابتلاء منه تعالى ليقضي الله أمرا كان مفعولا. وبأن معرفته تأثير ذلك الأثر ما ذكر كانت لما ألقى في روعه أنه لا يلقيه على شيء فيقول كن كذا إلا كان كما في خبر ابن عباس أو كانت لما شاهد من خروج النبات بالوطء كما في بعض الآثار. ويحتمل أن يكون سمع ذلك من موسى عليه‌السلام ، وبأن ما ذكر من أولوية الأثر نفسه بالحياة غير مسلم ألا ترى أن الإكسير يجعل ما يلقي هو عليه ذهبا ولا يكون هو بنفسه ذهبا. وبأن المعجزة مقرونة بدعوى الرسالة من الله تعالى والتحدي وقد قالوا : متى ادعى أحد الرسالة وأظهر الخارق وكان لسبب خفي يجهله المرسل إليهم قبض الله تعالى ولا بد من بين حقيقة ذلك بإظهار مثله غير مقرون بالدعوى أو نحو ذلك أو جعل المدعي بحيث لا يقدم على فعل ذلك الخارق بذلك السبب بأن يسلب قوة التأثير أو نحو ذلك لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وتكون له عزوجل الحجة البالغة ، وجوزوا ظهور الخارق لا عن سبب أو عن سبب خفي على يد مدعي الألوهية لأن كذبه ظاهر عقلا ونقلا. ولا تتوقف إقامة الحجة على تكذيبه بنحو ما تقدم. وبأن ما ذكر من بعد الكفر والإضلال من السامري بعد أن عرف نبوة موسى عليه‌السلام في غاية السقوط فقد قال تعالى (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النمل : ١٤] وليس كفر السامري بأبعد من كفر فرعون وقد رأى ما رأى. ويرد على ما ذكره أبو مسلم مع مخالفته للمأثور عن خير القرون مما لا يقال مثله من قبل الرأي فله حكم المرفوع أن التعبير عن موسى عليه‌السلام بلفظ الغائب بعيد. وإرادة وقد كنت قبضت قبضة إلخ من النظم الكريم أبعد. وأن نبذ ما عرف أنه ليس بحق لا يعد من تسويل النفس في شيء فلا يناسب ختم جوابه بذلك. فزعم أن ما ذكره أقرب إلى التحقيق باطل عند أرباب التدقيق.

٥٦٤

وزعمت اليهود أن ما ألقاه السامري كان قطعة من الحلي منقوشا عليها بعض الطلسمات وكان يعقوب عليه‌السلام قد علقها في عنق يوسف عليه‌السلام إذ كان صغيرا كما يعلق الناس اليوم في أعناق أطفالهم التمائم وربما تكون من الذهب والفضة منقوشا عليها شيء من الآيات أو الأسماء أو الطلسمات وقد ظفر بها من حيث ظفر فنبذها مع حلي بني إسرائيل فكان ما كان لخاصية ما نقش عليها فيكون على هذا قد أراد بالرسول رسول بني إسرائيل في مصر من قبل وهو يوسف عليه‌السلام. ولم يجىء عندنا خبر صحيح ولا ضعيف بل ولا موضوع فيما زعموا. نعم جاء عندنا أن يعقوب كان قد جعل القميص المتوارث في تعويذ وعلقه في عنق يوسف عليه‌السلام.

وفسر بعضهم بذلك قوله تعالى (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) [يوسف : ٩٣] إلخ. وما أغفل أولئك البهت عن زعم أن الأثر هو ذلك القميص فإنه قد عهد منه ما تقدم في أحسن القصص في قوله تعالى : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) فبين معافاة المبتلي وحياة الجماد مناسبة كلية فهذا الكذب لو ارتكبوه لربما كان أروج قبولا عند أمثال الأصبهاني الذين ينبذون ما روي عن الصحابة مما لا يقال مثله بالرأي وراء ظهورهم نعوذ بالله تعالى من الضلال.

(قالَ) استئناف كما مر غير مرة أي قال موسى عليه‌السلام إذا كان الأمر كما ذكرت (فَاذْهَبْ) أي من بين الناس ، وقوله تعالى (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ) إلى آخره تعليل لموجب الأمر. و «في» متعلقة بالاستقرار العامل في (لَكَ) أي ثابت لك في الحياة أو بمحذوف وقع حالا من الكاف ، والعامل معنى الاستقرار المذكور أيضا لاعتماده على ما هو مبتدأ معنى أعني قوله تعالى (أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) ولم يجوز تعلقه بتقول لمكان أن ؛ وقد تقدم آنفا عذر من يعلق الظرف المتقدم بما بعدها. ولا يظهر ما يشفي الخاطر في وجه تعليق العلامة أبي السعود ـ إذ ـ في قوله تعالى (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) فيما بعد أن وعدم تجويز تعليق (فِي الْحَياةِ) فيما بعدها أي إن لك مدة حياتك أن تفارق الناس مفارقة كلية لكن لا بحسب الاختيار بموجب التكليف بل بحسب الاضطرار الملجئ إليها ، وذلك أنه تعالى رماه بداء عقام لا يكاد يمس أحدا أو يمسه أحد كائنا من كان إلا حم من ساعته حمى شديدة فتحامى الناس وتحاموه وكان يصيح بأقصى صوته لا مساس وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومؤاكلته ومبايعته وغير ذلك مما يعتاد جريانه فيما بين الناس من المعاملات وصار بين الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم ومن الوحشي النافر في البيداء ، وذكر أنه لزم البرية وهجر البرية ، وذكر الطبرسي عن ابن عباس أن المراد أن لك ولولدك أن تقول إلخ ، وخص عمرو الحمى بما إذا كان الماس أجنبيا ، وذكر أن بقايا ولده باق فيهم تلك الحال إلى اليوم ، وقيل : ابتلي بالوسواس حين قال له موسى عليه‌السلام ذلك ، وعليه حمل قول الشاعر :

فأصبح ذلك كالسامري

إذ قال موسى له لا مساسا

وأنكر الجبائي ما تقدم من حديث عرو الحمى عند المس وقال : إنه خاف وهرب وجعل يهيم في البرية لا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار لبعده عن الناس كالقائل لا مساس وصحح الأول ، والمساس مصدر ماس كقتال مصدر قاتل وهو منفي بلا التي لنفي الجنس وأريد بالنفي النهي أي لا تمسني ولا أمسك. وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب «لا مساس» بفتح الميم وكسر السين آخره وهو بوزن فجار ، ونحوه قولهم في الظباء إن وردت الماء فلا عباب وإن فقدته فلا أباب. وهي كما قال الزمخشري وابن عطية اعلام للمسة والعبة والأبة وهي المرة من الأب أي الطلب ، ومن هذا قول الشاعر :

تميم كرهط السامري وقوله

ألا لا يريد السامري مساس

و «لا» على هذا ليست النافية للجنس لأنها مختصة بالنكرات وهذا معرفة من أعلام الأجناس ولا داخلة معنى

٥٦٥

عليه فإن المعنى لا يكون أو لا يكن منك مس لنا. وهذا أولى من أن يكون المعنى لا أقول مساس.

وظاهر كلام ابن جني أنه اسم فعل كنزال. والمراد نفي الفعل أي لا أمسك والسر في عقوبته على جنايته بما ذكر على ما قيل : إنه ضد ما قصده من إظهار ذلك ليجتمع عليه الناس ويعززوه فكان سببا لبعدهم عنه وتحقيره وصار لديهم أبغض من الطلياء وأهون من معبأة.

وقيل : لعل السر في ذلك ما بينهما من مناسبة التضاد فإنه لما أنشأ الفتنة بما كانت ملابسته سببا لحياة الموات عوقب بما يضاده حيث جعلت ملابسته سببا للحمى التي هي من أسباب موت الأحياء ، وقيل : عوقب بذلك ليكون الجزاء من جنس العمل حيث نبذ فنبذ فإن ذلك التحامي أشبه شيء بالنبذ وكانت هذه العقوبة على ما في البحر باجتهاد من موسى عليه‌السلام ، وحكي فيه القول بأنه أراد قتله فمنعه الله تعالى عن ذلك لأنه كان سخيا ، وروي ذلك عن الصادق رضي الله تعالى عنه ، وعن بعض الشيوخ أنه قد وقع ما يقرب من ذلك في شرعنا في قضية الثلاثة الذين خلفوا فقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يكلموا ولا يخالطوا وأن يعتزلوا نساءهم حتى تاب الله تعالى عليهم. ومذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في القاتل اللاجئ إلى الحرم نحو ذلك ليضطر إلى الخروج فيقتل في الحل (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) أي في الآخرة (لَنْ تُخْلَفَهُ) أي لن يخلفك الله تعالى ذلك الوعد بل ينجزه لك البتة بعد ما عاقبك في الدنيا.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والأعمش بضم التاء وكسر اللام على البناء للفاعل على أنه من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا كأجبنته إذا وجدته جبانا. وعلى ذلك قول الأعشى :

أثوى وقصر ليله ليزودا

فمضى وأخلف من قتيلة موعدا

وجوز أن يكون التقدير لن تخلف الواعد إياه فحذف المفعول الأول وذكر الثاني لأنه المقصود. والمعنى لن تقدر أن تجعل الواعد مخلفا لوعده بل سيفعله ، ونقل ابن خالويه عن ابن نهيك أنه قرأ «لن تخلفه» بفتح التاء المثناة من فوق وضم اللام ، وفي اللوامح أنه قرئ «لن يخلفه» بفتح الياء المثناة من تحت وضم اللام وهو من خلفه يخلفه إذا جاء بعده ، قيل : المعنى على الرواية الأولى وإن لك موعدا لا بد أن تصادفه ، وعلى الرواية الثانية وإن لك موعدا لا يدفع قول لا مساس فافهم.

وقرأ ابن مسعود والحسن بخلاف عنه «لن نخلفه» بالنون المفتوحة وكسر اللام على أن ذلك حكاية قول الله عزوجل ، وقال ابن جني : أي لن نصادفه خلفا فيكون من كلام موسى عليه‌السلام لا على سبيل الحكاية وهو ظاهر لو كانت النون مضمومة (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ) أي معبودك (الَّذِي ظَلْتَ) أي ظللت كما قرأ بذلك أبي والأعمش فحذفت اللام الأولى تخفيفا ، ونقل أبو حيان عن سيبويه أن هذا الحذف من شذوذ القياس ولا يكون ذلك إلا إذا سكن آخر الفعل ، وعن بعض معاصريه أن ذلك منقاس في كل مضاعف العين واللام في لغة بني سليم حيث سكن آخر الفعل ، وقال بعضهم : إنه مقيس في المضاعف إذا كانت عينه مكسورة أو مضمومة.

وقرأ ابن مسعود وقتادة والأعمش بخلاف عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن يعمر بخلاف عنه أيضا «ظلت» بكسر الظاء على أنه نقل حركة اللام إليها بعد حذف حركتها ، وعن ابن يعمر أنه ضم الظاء وكأنه مبني على مجيء الفعل في بعض اللغات على فعل بضم العين وحينئذ يقال بالنقل كما في الكسر (عَلَيْهِ) أي على عبادته (عاكِفاً) أي مقيما ، وخاطبه عليه‌السلام دون سائر العاكفين على عبادته القائلين : (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) [طه : ٩١] لأنه رأس الضلال ورئيس أولئك الجهال (لَنُحَرِّقَنَّهُ) جواب قسم محذوف أي بالله تعالى لنحرقنه بالنار كما أخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، ويؤيده قراءة الحسن وقتادة وأبي جعفر في

٥٦٦

رواية. وأبي رجاء والكلبي «لنحرقنّه» مخففا من أحرق رباعيا فإن الإحراق شائع فيما يكون بالنار وهذا ظاهر في أنه صار ذا لحم ودم. وكذا ما في مصحف أبي وعبد الله «لنذبحنه ثم لنحرقنه».

وجوز أبو علي أن يكون نحرق مبالغة في حرق الحديد حرقا بفتح الراء إذا برده بالمبرد. ويؤيده قراءة علي كرم الله تعالى وجه. وحميد وعمرو بن فائد وأبي جعفر في رواية. وكذا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لنحرقنّه» بفتح النون وسكون الحاء وضم الراء فإن حرق يحرق بالضم مختص بهذا المعنى كما قيل ، وهذا ظاهر في أنه لم يصر ذا لحم ودم بل كان باقيا على الجمادية.

وزعم بعضهم أنه لا بعد على تقدير كونه حيا في تحريقه بالمبرد إذ يجوز خلق الحياة في الذهب مع بقائه على الذهبية عند أهل الحق ، وقال بعض القائلين بأنه صار حيوانا ذا لحم ودم : إن التحريق بالمبرد كان للعظام وهو كما ترى ، وقال النسفي : تفريقه بالمبرد طريق تحريقه بالنار فإنه لا يفرق الذهب إلا بهذا الطريق. وجوز على هذا أن يقال : إن موسى عليه‌السلام حرقه بالمبرد ثم أحرقه بالنار. وتعقب بأن النار تذيبه وتجمعه ولا تحرقه وتجعله رمادا فلعل ذلك كان بالحيل الإكسيرية أو نحو ذلك (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ) أي لنذرينه. وقرأت فرقة منهم عيسى بضم السين. وقرأ ابن مقسم «لننسفنّه» بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين (فِي الْيَمِ) أي في البحر كما أخرج ذلك ابن أبي حاتم عن ابن عباس.

وأخرج عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه فسره بالنهر ، وقوله تعالى (نَسْفاً) مصدر مؤكد أي لنفعلن به ذلك بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر ولا يصادف منه شيء فيؤخذ ، ولقد فعل عليه‌السلام ما أقسم عليه كله كما يشهد به الأمر بالنظر ، وإنما لم يصرح به تنبيها على كمال ظهوره واستحالة الخلف في وعده المؤكد باليمين ، وفي ذلك زيادة عقوبة للسامري وإظهار لغباوة المفتتنين ، وقال في البحر بيانا لسر هذا الفعل : يظهر أنه لما كان قد أخذ السامري القبضة من أثر فرس جبريل عليه‌السلام وهو داخل البحر ناسب أن ينسف ذلك العجل الذي صاغه من الحلي الذي كان أصله للقبط وألقى فيه القبضة في البحر ليكون ذلك تنبيها على أن ما كان به قيام الحياة آل إلى العدم وألقى في محل ما قامت به الحياة وأن أموال القبط قذفها الله تعالى في البحر لا ينتفع بها كما قذف سبحانه أشخاص مالكيها وغرقهم فيه ولا يخفى ما فيه.

(إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ) استئناف مسوق لتحقيق الحق إثر إبطال الباطل بتلوين الخطاب وتوجيهه إلى الكل أي إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله عزوجل (الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وحده من غير أن يشاركه شيء من الأشياء بوجه من الوجوه التي من جملتها أحكام الألوهية. وقرأ طلحة «الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم رب العرش» (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي وسع علمه كل ما من شأنه أن يعلم فالشيء هنا شامل للموجود والمعدوم وانتصب (عِلْماً) على التمييز المحول عن الفاعل ، والجملة بدل من الصلة كأنه قيل : إنما إلهكم الذي وسع كل شيء علما لا غيره كائنا ما كان فيدخل فيه العجل الذي هو مثل في الغباوة دخولا أوليا.

وقرأ مجاهد. وقتادة «وسّع» بفتح السين مشددة فيكون انتصاب (عِلْماً) على أنه مفعول ثان ، ولما كان في القراءة الأولى فاعلا معنى صح نقله بالتعدية إلى المفعولية كما تقول في خاف زيد عمرا : خوفت زيدا عمرا أي جعلت زيدا يخاف عمرا فيكون المعنى هنا على هذا جعل علمه يسع كل شيء ، لكن أنت تعلم أن الكلام ليس على ظاهره لأن علمه سبحانه غير مجعول ولا ينبغي أن يتوهم أن اقتضاء الذات له على تقدير الزيادة جعلا وبهذا تم حديث موسى عليه‌السلام ، وقوله تعالى (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ) كلام مستأنف خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الوعد الجميل بتنزيل أمثال ما مر من أنباء الأمم السالفة. والجار والمجرور في موضع الصفة لمصدر مقدر أو الكاف في محل نصب صفة

٥٦٧

لذلك المصدر أي نقص عليك (مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) من الحوادث الماضية الجارية على الأمم الخالية قصا كائنا كذلك القص المار أو قصا مثل ذلك ، والتقديم للقصر المفيد لزيادة التعيين أي كذلك لا ناقصا عنه ، و (مِنْ) في (مِنْ أَنْباءِ) إما متعلق بمحذوف هو صفة للمفعول أي نقص عليك نبأ أو بعضا كائنا من أنباء.

وجوز أن يكون في حيز النصب على أنه مفعول (نَقُصُ) باعتبار مضمونه أي نقص بعض أنباء ، وتأخيره عن (عَلَيْكَ) لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، ويجوز أن يكون (كَذلِكَ نَقُصُ) مثل قوله تعالى (كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] على أن الإشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعد ، وقد مر تحقيق ذلك.

وفائدة هذا القص توفير علمه عليه الصلاة والسلام وتكثير معجزاته وتسليته وتذكرة المستبصرين من أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) كتابا منطويا على هذه الأقاصيص والأخبار حقيقا بالتذكر والتفكر فيه والاعتبار ، و (مِنْ) متعلق بآتيناك ، وتنكير ذكرا للتفخيم ، وتأخيره عن الجار والمجرور لما أن مرجع الإفادة في الجملة كون المؤتى من لدنه تعالى ذكرا عظيما وقرآنا كريما جامعا لكل كمال لا كون ذلك الذكر مؤتى من لدنه عزوجل مع ما فيه من نوع طول بما بعده من الصفة.

وجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال من (ذِكْراً) وليس بذاك ، وتفسير الذكر بالقرآن هو الذي ذهب إليه الجمهور ؛ وروي عن ابن زيد ، وقال مقاتل : أي بيانا ومآله ما ذكر ، وقال أبو سهل : أي شرفا وذكرا في الناس ، ولا يلائمه قوله تعالى (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) إذ الظاهر أن ضمير (عَنْهُ) للذكر ، والجملة في موضع الصفة له ، ولا يحسن وصف الشرف أو الذكر في الناس بذلك ، وقيل : الضمير لله تعالى على سبيل الالتفات وهو خلاف الظاهر جدا ، و (مَنْ) إما شرطية أو موصولة أي من أعرض عن الذكر العظيم الشأن المستتبع لسعادة الدارين ولم يؤمن به (فَإِنَّهُ) أي المعرض عنه (يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) أي عقوبة ثقيلة على إعراضه وسائر ذنوبه.

والوزر في الأصل يطلق على معنيين الحمل الثقيل والإثم ، وإطلاقه على العقوبة نظرا إلى المعنى الأول على سبيل الاستعارة المصرحة حيث شبهت. الثاني على سبيل المجاز المرسل من حيث إن العقوبة بالحمل الثقيل. ثم استعير لها بقرينة ذكر يوم القيامة ، ونظرا إلى المعنى الثاني على سبيل المجاز المرسل من حيث إن العقوبة جزاء الإثم فهي لازمة له أو مسببة ، والأول هو الأنسب بقوله تعالى فيما بعد (وَساءَ) إلخ لأنه ترشيح له ، ويؤيده قوله تعالى في آية أخرى (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) [العنكبوت : ١٣] وتفسير الوزر بالإثم وحمل الكلام على حذف المضاف أي عقوبة أو جزاء إثم ليس بذاك. وقرأت فرقة منهم داود بن رفيع «يحمّل» مشدد الميم مبنيا للمفعول لأنه يكلف ذلك لا أنه يحمله طوعا ويكون (وِزْراً) على هذا مفعولا ثانيا (خالِدِينَ فِيهِ) أي في الوزر المراد منه العقوبة.

وجوز أن يكون الضمير لمصدر (يَحْمِلُ) ونصب (خالِدِينَ) على الحال من المستكن في (يَحْمِلُ) والجمع بالنظر إلى معنى (مَنْ) لما أن الخلود في النار مما يتحقق حال اجتماع أهلها كما أن الأفراد فيما سبق من الضمائر الثلاثة بالنظر إلى لفظها (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) إنشاء للذم على أن ساء فعل ذم بمعنى بئس وهو أحد معنييه المشهورين ، وفاعله على هذا هنا مستتر يعود على (حِمْلاً) الواقع تمييز الأعلى وزرا لأن فاعل بئس لا يكون إلا ضميرا مبهما يفسره التمييز العائد هو إليه وإن تأخر لأنه من خصائص هذا الباب والمخصوص بالذم محذوف والتقدير ساء حملهم حملا وزرهم ، ولام (لَهُمْ) للبيان كما في «سقيا له» و (هَيْتَ لَكَ) [يوسف : ٢٣] وهي متعلقة بمحذوف كأنه قيل : لمن يقال هذا؟ فقيل : هو يقال لهم وفي شأنهم وإعادة (يَوْمَ الْقِيامَةِ) لزيادة التقرير وتهويل الأمر ، وجوز أن يكون (ساءَ) بمعنى أحزن وهو المعنى الآخر من المعنيين ؛ والتقدير على ما قيل وأحزنهم الوزر حال كونه حملا لهم.

٥٦٨

وتعقبه في الكشف بأنه أي فائدة فيه والوزر أدل على الثقل من قيده ثم التقييد بلهم مع الاستغناء عنه وتقديمه الذي لا يطابق المقام وحذف المفعول وبعد هذا كله لا يلائم ما سبق له الكلام ولا مبالغة في الوعيد بذلك بعد ما تقدم ثم قال : وكذلك ما قاله العلامة الطيبي من أن المعنى وأحزنهم حمل الوزر على أن (حِمْلاً) تمييز واللام في (لَهُمْ) للبيان لما ذكر من فوات فخامة المعنى ، وأن البيان إن كان لاختصاص الحمل بهم ففيه غنية ، وإن كان لمحل الأحزان فلا كذلك طريق بيانه ، وإن كان على أن هذا الوعيد لهم فليس موقعه قبل يوم القيامة وأن المناسب حينئذ وزرا ساء لهم حملا على الوصف لا هكذا معترضا مؤكدا انتهى. ولا مجال لتوجيه الإتيان باللام إلى اعتبار التضمين لعدم تحقق فعل مما يلائم الفعل المذكور مناسبا لها لأنها ظاهرة في الاختصاص النافع والفعل في الحدث الضار ، والقول بازديادها كما في (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ٧٢] أو الحمل على التهكم تمحل لتصحيح اللفظ من غير داع إليه ويبقى معه أمر فخامة المعنى ، والحاصل أن ما ذكر لا يساعده اللفظ ولا المعنى ، وجوز أن يكون (ساءَ) بمعنى قبح فقد ذكر استعماله بهذا المعنى وإن كان في كونه معنى حقيقيا نظر ، و (حِمْلاً) تمييزا و (لَهُمْ) حالا و (يَوْمَ الْقِيامَةِ) متعلقا بالظرف أي قبح ذلك الوزر من جهة كونه حملا لهم في يوم القيامة وفيه ما فيه.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) منصوب بإضمار الذكر ، وجوز أن يكون ظرف المضمر حذف للإيذان بضيق العبارة عن حصره وبيانه أو بدلا من (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أو بيانا له أو ظرفا ليتخافتون ، وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وحميد «ننفخ» بنون العظمة على إسناد الفعل إلى الآمر به وهو الله سبحانه تعظيما للنفخ لأن ما يصدر من العظيم عظيم أو للنافخ بجعل فعله بمنزلة فعله تعالى وهو إنما يقال لمن له مزيد اختصاص وقرب مرتبة ، وقيل : إنه يجوز أن يكون لليوم الواقع هو فيه. وقرئ «ينفخ» بالياء المفتوحة على أن ضميره لله عزوجل أو لإسرافيل عليه‌السلام وإن لم يجر ذكره لشهرته ؛ وقرأ الحسن وابن عياض في جماعة (فِي الصُّورِ) بضم الصاد وفتح الواو جمع صورة كغرفة وغرف ، والمراد به الجسم المصور. وأورد أن النفخ يتكرر لقوله تعالى (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) [الزمر : ٦٨] والنفخ في الصورة إحياء والإحياء غير متكرر بعد الموت وما في القبر ليس بمراد من النفخة الأولى بالاتفاق.

وأجيب بأنه لا نسلم أن كل نفخ إحياء ، وبعضهم فسر الصور على القراءة المشهورة بذلك أيضا ، والحق تفسيره بالقرن الذي ينفخ فيه (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ ينفخ في الصور ، وذكر ذلك صريحا مع تعين أن الحشر لا يكون إلا يومئذ للتهويل ، وقرأ الحسن «يحشر» بالياء والبناء للمفعول و «المجرمون» بالرفع على النيابة عن الفاعل ، وقرئ أيضا «يحشر» بالياء والبناء للفاعل وهو ضميره عزوجل أي ويحشر الله تعالى المجرمين (زُرْقاً) حال كونهم زرق الأبدان وذلك غاية في التشويه ولا تزرق الأبدان إلا من مكابدة الشدائد وجفوف رطوبتها ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما زرق العيون فهو وصف للشيء بصفة جزئه كما يقال غلام أكحل وأحول والكحل والحول من صفات العين ، ولعله مجاز مشهور ، وجوز أن يكون حقيقة كرجل أعمى وإنما جعلوا كذلك لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب فإن الروم الذين كانوا أشد أعدائهم عداوة زرق ، ولذلك قالوا في وصف العدو أسود الكبد أصهب السبال أزرق العين ، وقال الشاعر :

وما كنت أخشى أن تكون وفاته

بكفي سبنتى أزرق العين مطرق

وكانوا يهجون بالزرقة كما في قوله :

لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر

الا كل ضبيّ من اللؤم أزرق

وسئل ابن عباس عن الجمع بين (زُرْقاً) على ما روي عنه وعميا في آية أخرى فقال : ليوم القيامة حالات فحالة يكونون فيها عميا وحالة يكونون فيها زرقا. وعن الفراء المراد من (زُرْقاً) عميا لأن العين إذا ذهب نورها ازرق ناظرها ،

٥٦٩

ووجه الجمع عليه ظاهر ، وعن الأزهري المراد عطاشا لأن العطش الشديد يغير سواد العين فيجعله كالأزرق ، وقيل : يجعله أبيض ، وجاء الأزرق بمعنى الأبيض ومنه سنان أزرق ، وقوله : فلما وردنا الماء زرقا جمامه ويلائم تفسيره بعطاشا قوله تعالى على ما سمعت (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم : ٨٦].

(يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) أي يخفضون أصواتهم ويخفونها لشدة هول المطلع ، والجملة استئناف لبيان ما يأتون وما يذرون حينئذ أو حال أخرى من (الْمُجْرِمِينَ) ، وقوله تعالى : (إِنْ لَبِثْتُمْ) بتقدير قول وقع حالا من ضمير (يَتَخافَتُونَ) أي قائلين ما لبثتم في القبور (إِلَّا عَشْراً) أي عشر ليال أو عشرة أيام ، ولعله أوفق بقول الأمثل.

والمذكر إذا حذف وأبقى عدده قد لا يؤتى بالتاء حكى الكسائي صمنا من الشهر خمسا ، ومنه ما جاء في الحديث «ثم أتبعه بست من شوال» فإن المراد ستة أيام ، وحسن الحذف هنا كون ذلك فاصلة ، ومرادهم من هذا القول استقصار المدة وسرعة انقضائها والتنديم على ما كانوا يزعمون حيث تبين الأمر على خلاف ما كانوا عليه من إنكار البعث وعده من قبيل المحالات كأنهم قالوا : قد بعثتم وما لبثتم في القبر إلا مدة يسيرة وقد كنتم تزعمون أنكم لن تقوموا منه أبدا ، وعن قتادة أنهم عنوا لبثهم في الدنيا وقالوا ذلك استقصارا لمدة لبثهم فيها لزوالها ولاستطالتهم مدة الآخرة أو لتأسفهم عليها لما عاينوا الشدائد وأيقنوا أنهم استحقوها على إضاعة الأيام في قضاء الأوطار واتباع الشهوات ، وتعقب بأنهم في شغل شاغل عن تذكر ذلك فالأوفق بحالهم ما تقدم ، وبأن قوله تعالى : (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) [الروم : ٥٦] صريح في أنه اللبث في القبور وفيه بحث.

وفي مجمع البيان عن ابن عباس. وقتادة أنهم عنوا لبثهم بين النفختين يلبثون أربعين سنة مرفوعا عنهم العذاب (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) أي بالذي يقولونه وهو مدة لبثهم (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أي أعدلهم رأيا وأرجحهم عقلا و (إِذْ) ظرف يقولون (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) واحدا وإليه ينتهي العدد في القلة.

وقيل : المراد باليوم مطلق الوقت وتنكيره للتقليل والتحقير فالمراد إلا زمنا قليلا ، وظاهر المقابلة بالعشر يبعده ، ونسبة هذا القول إلى (أَمْثَلُهُمْ) استرجاح منه تعالى له لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق بل لكونه أعظم في التنديم أو لكونه أدل على شدة الهول وهذا يدل على كون قائله أعلم بفظاعة الأمر وشدة العذاب.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) السائلون منكرو البعث من قريش على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جرير قالوا على سبيل الاستهزاء كيف يفعل ربك بالجبال يوم القيامة ، وقيل : جماعة من ثقيف ، وقيل : أناس من المؤمنين (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) يجعلها سبحانه كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها ، والفاء للمسارعة إلى إزالة ما في ذهن السائل من بقاء الجبال بناء على ظن أن ذلك من توابع عدم الحشر ألا ترى أن منكري الحشر يقولون بعدم تبدل هذا النظام المشاهد في الأرض والسموات أو للمسارعة إلى تحقيق الحق حفظا من أن يتوهم ما يقضي بفساد الاعتقاد.

وهذا مبني على أن السائل من المؤمنين والأول : على أنه من منكري البعث ، ومن هنا قال الإمام : إن مقصود السائلين الطعن في الحشر والنشر فلا جرم أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجواب مقرونا بحرف التعقيب لأن تأخير البيان في هذه المسألة الأصولية غير جائز وأما تأخيره في المسائل الفروعية فجائز ولذا لم يؤت بالفاء في الأمر بالجواب في قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) [البقرة : ٢١٩] الآية ، وقوله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة : ٢١٩] وقوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [الأنفال : ١] وقوله سبحانه (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) [البقرة : ٢٢٠] إلى غير ذلك ، وقال في موضع آخر : إن السؤال المذكور إما عن قدم الجبال أو عن وجوب بقائها وهذه المسألة من أمهات مسائل أصول الدين فلا جرم أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيبه بالفاء

٥٧٠

المفيدة للتعقيب كأنه سبحانه قال : يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال من غير تأخير لأن القول بقدمها أو وجوب بقائها كفر ، ودلالة الجواب على نفي ذلك من جهة أن النسف ممكن لأنه ممكن في كل جزء من أجزاء الجبل والحس يدل عليه فوجب أن يكون ممكنا في حق كل الجبل فليس بقديم ولا واجب الوجود لأن القديم لا يجوز عليه التغير والنسف انتهى.

واعترض بأن عدم جواز التغير والنسف إنما يسلم في حق القديم بالذات ولم يذهب أحد من السائلين إلى كون الجبال قديمة كذلك ، وأما القديم بالزمان فلا يمتنع عليه لذاته ذلك بل إذا امتنع فإنما يمتنع لأمر آخر على أن في كون الجبال قديمة بالزمان عند السائلين وكذا غيرهم من الفلاسفة نظرا بل الظاهر أن الفلاسفة قائلون بحدوثها الزماني وإن لم يعلموا مبدأ معينا لحدوثها فتأمل ، ثم إنه ذكر رحمه‌الله تعالى أن السؤال والجواب قد ذكرا في عدة مواضع من كتاب الله تعالى منها فروعية ومنها أصولية والأصولية في أربعة مواضع في هذه الآية وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) [البقرة : ١٨٩] وقوله سبحانه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] وقوله عزوجل (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) [النازعات : ٤٢] ولا يخفى أن عد جميع ما ذكر من الأصولية غير ظاهر ، وعلى تقدير ظهور ذلك في الجميع يرد السؤال عن سر اقتران الأمر بالجواب بالفاء في بعضها دون بعض.

وكون ما اقترن بالفاء هو الأهم في حيز المنع فإن الأمر بالجواب عن السؤال عن الروح إن كان عن القدم ونحوه فمهم كالأمر بالجواب فيما نحن فيه بل لعله أهم منه لتحقق القائل بالقدم الزماني للروح بناء على أنها النفس الناطقة كأفلاطون وأتباعه ، وقد يقال : لما كان الجواب هنا لدفع السؤال عن الكلام السابق أعني قوله تعالى :

(يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) كأنه قيل كيف يصح تخافت المجرمين المقتضي لا لاجتماعهم والجبال في البين مانعة عن ذلك فمتى قلتم بصحته فبينوا لنا كيف يفعل الله تعالى بها؟ فأجيب بأن الجبال تنسف في ذلك الوقت فلا يبقى مانع عن الاجتماع والتخافت ، وقرن الأمر بالفاء للمسارعة إلى الذب عن الدعوة السابقة ، والآيات التي لم يقرن الأمر فيها بالفاء لم تسق هذا المساق كما لا يخفى على أرباب الأذواق ، وقال النسفي. وغيره : الفاء في جواب شرط مقدر أي إذا سألوك عن الجبال فقل ، وهو مبني على أنه لم يقع السؤال عن ذلك كما وقع في قصة الروح وغيرها فلذا لم يؤت بالفاء ثمة وأتي به هنا فيسألونك متمحض للاستقبال ، واستبعد ذلك أبو حيان ، وما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج من أن قريشا قالوا : يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة فنزلت (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) الآية ، يدل على خلافه ، وقال الخفاجي : الظاهر أنه إنما قرن بها هنا ولم يقرن بها ثمة للإشارة إلى أن الجواب معلوم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ذلك فأمر عليه الصلاة والسلام بالمبادرة إليه بخلاف ذلك انتهى.

وأنت تعلم أن القول بأن الجواب عن سؤال الروح ، وعن سؤال المحيض ونحو ذلك لم يكن معلوما له صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل لم يتجاسر عليه أحد من عوام الناس فضلا عن خواصهم فما ذكره مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. ومما يضحك الثكلى أن بعض المعاصرين سمع السؤال عن سر اقتران الأمل هنا بالفاء وعدم اقترانه بها في الآيات الأخر فقال : ما أجهل هذا السائل بما يجوز وما لا يجوز من المسائل أما سمع قوله تعالى (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣] أما درى أن معناه نهي من يريد السؤال عن أن يسأل. وأدل من هذا على جهل الرجل أنه دون ما قال ولم يبال بما قيل ويقال ، ونقلي لذلك من باب التحميض وتذكير من سلم من مثل هذا الداء بما من الله تعالى عليه من الفضل الطويل العريض ، وأمر الفاء في قوله تعالى (فَيَذَرُها) ظاهر جدا ، والضمير إما للجبال باعتبار أجزائها السافلة الباقية بعد النسف وهي مقارها ومراكزها أي فنذر ما انبسط منها وساوى سطحه سطوح سائر أجزاء الأرض بعد نسف ما نتأ منها ونشز وإما

٥٧١

للأرض المدلول عليها بقرينة الحال لأنها الباقية بعد نسف الجبال. وعلى التقديرين يذر سبحانه الكل (قاعاً صَفْصَفاً) لأن الجبال إذا سويت وجعل سطحها مساويا لسطوح أجزاء الأرض فقد جعل الكل سطحا واحدا والقاع قيل : السهل ، وقال الجوهري : المستوي من الأرض. ومنه قول ضرار بن الخطاب :

لتكونن بالبطاح قريش

فقعة القاع في أكف الإماء

وقال ابن الأعرابي : الأرض الملساء لا نبات فيها ولا بناء. وحكى مكي أنه المكان المنكشف ، وقيل : المستوي الصلب من الأرض ، وقيل مستنقع الماء وليس بمراد. وجمعه أقوع وأقواع وقيعان والصفصف الأرض المستوية الملساء كان أجزاؤه صف واحد من كل جهة ، وقيل : الأرض التي لا نبات فيها ، وعن ابن عباس. ومجاهد جعل القاع والصفصف بمعنى واحد وهو المستوي الذي لا نبات فيه وانتصاب (قاعاً) على الحالية من الضمير المنصوب وهو مفعول ثان ليذر على تضمين معنى التصيير. و (صَفْصَفاً) إما حال ثانية أو بدل من المفعول الثاني ، وقوله تعالى (لا تَرى فِيها) أي في مقار الجبال أو في الأرض على ما فصل (عِوَجاً وَلا أَمْتاً) استئناف مبين كيفية ما سبق من القاع الصفصف أو حال أخرى أو صفة لقاع والرؤية بصرية والخطاب لكل من يتأتى منه. وعلقت بالعوج وهو بكسر العين ما لا يدرك بفتحها بل بالبصيرة لأن المراد به ما خفي من الاعوجاج حتى احتاج إثباته إلى المساحة الهندسية المدركة بالعقل فألحق بما هو عقلي صرف فأطلق عليه ذلك لذلك وهذا بخلاف العوج بفتح العين فإنه ما يدرك بفتحها كعوج الحائط والعود وبهذا فرق بينهما في الجمهرة وغيرها.

واختار المرزوقي في شرح الفصيح أنه لا فرق بينهما ، وقال أبو عمرو : يقال لعدم الاستقامة المعنوية والحسية عوج بالكسر ، وأما العوج بالفتح فمصدر عوج ، وصح الواو فيه لأنه منقوص من أعوج. ولما صح في الفعل صح في المصدر أيضا ، والأمت النتوء ، والتنكير فيها للتقليل. وعن ابن عباس عوجا ميلا ولا أمتا أثرا مثل الشراك. وفي رواية أخرى عنه عوجا واديا ولا أمتا رابية. وعن قتادة عوجا صدعا ولا أمتا أكمة ، وقيل : الأمت الشقوق في الأرض. وقال الزجاج : هو أن يغلظ مكان ويدق مكان ، وقيل : الأمت في الآية العوج في السماء تجاه الهواء والعوج في الأرض مختص بالعرض. وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة.

وقوله تعالى (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ تنسف الجبال على إضافة يوم إلى وقت النسف من إضافة العام إلى الخاص فلا يلزم أن يكون للزمان ظرف وإن كان لا مانع عنه عند من عرفه بمتجدد يقدر به متجدد آخر. وقيل : هو من إضافة المسمى إلى الاسم كما قيل في شهر رمضان. وهو ظرف لقوله تعالى (يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) وقيل : بدل من يوم القيامة. فالعامل فيه هو العامل فيه ، وفيه الفصل الكثير وفوات ارتباط يتبعون بما قبله. وعليه فقوله تعالى : «ويسألونك» إلخ استطراد معترض وما بعده استئناف وضمير (يَتَّبِعُونَ) للناس. والمراد بالداعي داعي الله عزوجل إلى المحشر وهو إسرافيل عليه‌السلام يضع الصور في فيه ويدعو الناس عند النفخة الثانية قائما على صخرة بيت المقدس ويقول : أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلموا إلى العرض إلى الرحمن فيقبلون من كل صوب إلى صوته. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : يحشر الله تعالى الناس يوم القيامة في ظلمة تطوى السماء وتتناثر النجوم ويذهب الشمس والقمر وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه فذلك قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) إلخ ، وقال علي بن عيسى : (الدَّاعِيَ) هنا الرسول الذي كان يدعوهم إلى الله عزوجل والأول أصح.

(لا عِوَجَ لَهُ) أي للداعي على معنى لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه ، وهذا كما يقال : لا عصيان له أي لا يعصى ولا ظلم له أي لا يظلم ، وأصله أن اختصاص الفعل بمتعلقه ثابت كما هو بالفاعل ، وقيل : أي لا عوج لدعائه فلا

٥٧٢

يعصى ولا ظلم له أي لا يظلم ، وأصله أن اختصاص الفعل بمتعلقه ثابت كما هو بالفاعل ، وقيل : أي لا عوج لدعائه فلا يميل إلى ناس دون ناس بل يسمع جميعهم وحكي ذلك عن أبي مسلم.

وقيل : هو على القلب أي لا عوج لهم عنه بل يأتون مقبلين إليه متبعين لصوته من غير انحراف وحكي ذلك عن الجبائي وليس بشيء ، والجملة في موضع الحال من الداعي أو مستأنفة كما قال ابن عطية : يحتمل أن يكون المعنى لا شك فيه ولا يخالف وجوده خبره (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) أي خفيت لمهابته تعالى وشدة هول المطلع ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : سكنت والخشوع مجاز في ذلك ، وقيل : لا مجاز والكلام على حذف مضاف أي أصحاب الأصوات وليس بذاك (فَلا تَسْمَعُ) خطاب لكل من يصح منه السمع (إِلَّا هَمْساً) أي صوتا خفيا خافتا كما قال أبو عبيدة. وعن مجاهد هو الكلام الخفي ، ويؤيده قراءة أبي «فلا ينطقون إلا همسا» وعن ابن عباس هو تحريك الشفاه بغير نطق ، واستبعد بأن ذلك مما يرى لا مما يسمع ، وفي رواية أخرى عنه أنه خفق الأقدام وروي ذلك عن عكرمة وابن جبير والحسن ، واختاره الفراء والزجاج.

ومنه قول الشاعر : وهن يمشين بنا هميسا. وذكر أنه يقال للأسد الهموس لخفاء وطئه فالمعنى سكنت أصواتهم وانقطعت كلماتهم فلم يسمع منهم إلا خفق أقدامهم ونقلها إلى المحشر (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة وهو ظرف لقوله تعالى : (لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) وجوز أن يكون بدلا من يوم القيامة أو من (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ) ، والمراد لا تنفع الشفاعة من الشفعاء أحدا (إِلَّا مَنْ أَذِنَ) في الشفاعة.

(لَهُ الرَّحْمنُ) فالاستثناء من أعم المفاعيل و (مَنْ) مفعول (تَنْفَعُ) وهي عبارة عن المشفوع له و (لَهُ) متعلق بمقدر متعلق بإذن ، وفي البحر أن اللام للتعليل وكذا في قوله تعالى (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أي ورضي لأجله قول الشافع وفي شأنه أو رضي قول الشافع لأجله وفي شأنه فالمراد بالقول على التقديرين قول الشافع ، وجوز فيه أيضا أن لا يكون للتعليل ، والمعنى ورضي قولا كائنا له فالمراد بالقول قول المشفوع وهو على ما روي عن ابن عباس لا إله إلا الله ، وحاصل المعنى عليه لا تنفع الشفاعة أحدا إلا من أذن الرحمن في أن يشفع له وكان مؤمنا ، والمراد على كل تقدير أنه لا تنفع الشفاعة أحدا إلا من أذن الرحمن في أن يشفع له وكان مؤمنا ، والمراد على كل تقدير أنه لا تنفع الشفاعة أحدا إلا من ذكر وأما من عداه فلا تكاد تنفعه وإن فرض صدورها عن الشفعاء المتصدين للشفاعة للناس كقوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨].

وجوز في البحر والدر المصون أن لا يقدر مفعول لتنفع تنزيلا له منزلة اللازم والاستثناء من شفاعة ومن في محل رفع على البدلية منها بتقدير مضاف أو في محل نصب على الاستثناء بتقديره أيضا أي إلا شفاعة من أذن إلخ ، ومن عبارة عن الشافع والاستثناء متصل ويجوز أن يكون منقطعا إذا لم يقدر شيء ومحل «من» حينئذ نصب على لغة الحجاز ورفع على لغة تميم ، واعترض كون الاستثناء من الشفاعة على تقدير المضاف بأن حكم الشفاعة ممن لم يؤذن له أن يملكها ولا تصدر عنه أصلا ومعنى «لا يقبل منها شفاعة» لا يؤذن لها فيها لا أنها لا تقبل بعد وقوعها فالأخبار عنها بمجرد عدم نفعها للمشفوع له ربما يوهم إمكان صدورها حين لم يأذن له مع إخلاله بمقتضى مقام تهويل اليوم.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) الظاهر أن ضمير الجمع عائد على الخلق المحشورين ، وهم متبعو الداعي ، وقيل : على الناس لا بقيد الحشر والاتباع ، وقيل : على الملائكة عليهم‌السلام وهو خلاف الظاهر جدا ، والمراد من الموصولين على ما قيل ما تقدمهم من الأحوال وما بعدهم مما يستقبلونه أو بالعكس أو أمور الدنيا وأمور الآخرة أو بالعكس أو ما يدركونه وما لا يدركونه وقد مر الكلام في ذلك.

(وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) أي لا يحيط علمهم بمعلوماته تعالى فعلما تمييز محول عن الفاعل وضمير «به» لله

٥٧٣

تعالى والكلام على تقدير مضاف. وقيل : المراد لا يحيط علمهم بذاته سبحانه أي من حيث اتصافه بصفات الكمال التي من جملتها العلم الشامل ويقتضي صحة أن يقال : علمت الله تعالى إذ المنفي العلم على طريق الإحاطة.

وقال الجبائي : الضمير لمجموع الموصولين فإنهم لا يعلمون جميع ما ذكر ولا تفصيل ما علموا منه ، وجوز أن يكون لأحد الموصولين لا على التعيين.

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ

٥٧٤

السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى)(١٣٥)

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) أي ذلت وخضعت خضوع العناة أي الأسارى ، والمراد بالوجوه إما الذوات وإما الأعضاء المعلومة وتخصيصها بالذكر لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة وآثار الذل أول ما تظهر فيها ، وأل فيها للعهد أو عوض عن المضاف إليه أي وجوه المجرمين فتكون الآية نظير قوله تعالى : (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الملك : ٢٧] واختار ذلك الزمخشري وجعل قوله تعالى : (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) اعتراضا ووضع الموصول موضع ضميرهم ليكون أبلغ ، وقيل : الوجوه الأشراف أي عظماء الكفرة لأن المقام مقام الهيبة ولصوق الذلة بهم أولى والظلم الشرك وجملة (وَقَدْ خابَ) إلخ حال والرابط الواو لا معترضة لأنها في مقابلة وهو مؤمن فيما بعد انتهى. قال صاحب الكشف : الظاهر مع الزمخشري والتقابل المعنوي كاف فإن الاعتراض لا يتقاعد عن الحال انتهى.

وأنت تعلم أن تفسير الظلم بالشرك مما لا يختص بتفسير الوجوه بالإشراف وجعل الجملة حالا بل يكون على الوجه الأول أيضا بناء على أن المراد بالمجرمين الكفار ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال في قوله تعالى : (وَقَدْ خابَ) إلخ خسر من أشرك بالله تعالى ولم يتب ، وقال غير واحد : الظاهر أن أل للاستغراق أي خضعت واستسلمت جميع الوجوه وقوله تعالى (وَقَدْ خابَ) إلخ يحتمل الاستئناف والحالية ، والمراد بالموصول إما المشركون وإما ما يعمهم وغيرهم من العصاة وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم فخيبة المشرك دائمة وخيبة المؤمن العاصي مقيدة بوقت العقوبة إن عوقب. وقد تقدم لك معنى ـ الحي القيوم ـ في آية الكرسي. والظاهر أن قوله تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) قسيم لقوله سبحانه (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) إلى آخر ما تقدم ولقوله عزوجل «وقد خاب من حمل ظلما» على هذا كما صرح به ابن عطية وغيره أي ومن يعمل بعض الصالحات أو بعضا من الصالحات (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي بما يجب الإيمان به. والجملة في موضع الحال والتقييد بذلك لأن الإيمان شرط في صحة الطاعات وقبول الحسنات (فَلا يَخافُ ظُلْماً) أي منع ثواب مستحق بموجب الوعد (وَلا هَضْماً) ولا منع بعض منه تقول العرب هضمت حقي أي نقصت منه ومنه هضيم الكشحين أي ضامرهما وهضم الطعام تلاشى في المعدة. روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أن المعنى فلا يخاف أن يظلم فيزاد في سيئاته ولا أن يهضم فينقص من حسناته. والأول مروي عن ابن زيد ، وقيل الكلام على حذف مضاف أي فلا يخاف جزاء ظلم وهضم إذ لم يصدر عنه ظلم ولا هضم حق أحد حتى يخاف ذلك أو أنه أريد من الظلم والهضم جزاؤهما مجازا ، ولعل المراد على ما قيل نفي الخوف عنه من ذلك من حيث إيمانه وعمله بعض الصالحات ويتضمن ذلك نفي أن يكون العمل الصالح مع الإيمان ظلما أو هضما.

وقيل : المراد أن من يعمل ذلك وهو مؤمن هذا شأنه لصون الله تعالى إياه عن الظلم أو الهضم ولأنه لا يعتد بالعمل الصالح معه. فلا يرد ما قيل إنه لا يلزم من الإيمان وبعض العمل أن لا يظلم غيره ويهضم حقه ولا يخفى عليك أن القول بحذف المضاف والتجوز في هذه الآية في غاية البعد وما قيل من الاعتراض قوي وما أجيب به كما ترى. ثم إن ظاهر كلام الجوهري أنه لا فرق بين الظلم والهضم ، وظاهر الآية قاض بالفرق وكذا قول المتوكل الليثي :

إن الأذلة واللئام لمعشر

مولاهم المتهضم المظلوم

وممن صرح به الماوردي حيث قال : الفرق بينهما أن الظلم منع الحق كله والهضم منه بعضه. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد «فلا يخف» على النهي. قال الطيبي : قراءة الجمهور توافق قوله تعالى : (وَقَدْ خابَ) إلخ من

٥٧٥

حيث الأخبار وأبلغ من القراءة الأخرى من حيث الاستمرار والأخرى أبلغ من حيث إنها لا تقبل التردد في الأخبار.

(وَكَذلِكَ) عطف على (كَذلِكَ نَقُصُ) [طه : ٩٩] والإشارة إلى إنزال ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد المنبئة عما سيقع من أحوال القيامة وأهوالها أي مثل ذلك الإنزال (أَنْزَلْناهُ) أي القرآن كله وهو تشبيه لإنزال الكل بانزال الجزء والمراد أنه على نمط واحد ، وإضماره من غير سبق ذكره للإيذان بنباهة شأنه وكونه مركوزا في العقول حاضرا في الأذهان (قُرْآناً عَرَبِيًّا) ليفهمه العرب ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز الدال على كونه خارجا عن طوق الآدميين نازلا من رب العالمين (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) أي كررنا فيه بعض الوعيد أو بعضا من الوعيد ، والجملة عطف على جملة (أَنْزَلْناهُ) وجعلها حالا قيد الإنزال خلاف الظاهر جدا.

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) المفعول محذوف وتقدم الكلام في لعل ، والمراد لعلهم يتقون الكفر والمعاصي بالفعل (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) أي عظة واعتبارا مؤديا في الآخرة إلى الاتقاء ، وكأنه لما كانت التقوى هي المطلوبة بالذات منهم أسند فعلها إليهم ولما لم يكن الذكر كذلك غير الأسلوب إلى ما سمعت كذا قيل ، وقيل : المراد بالتقوى ملكتها ، وأسندت إليهم لأنها ملكة نفسانية تناسب الإسناد لمن قامت به ، وبالذكر العظة الحاصلة من استماع القرآن المثبطة عن المعاصي ، ولما كانت أمرا يتجدد بسبب استماعه ناسب الإسناد إليه ، ووصفه بالحدوث المناسب لتجدد الألفاظ المسموعة ، ولا يخفى بعد تفسير التقوى بملكتها على أن في القلب من التعليل شيئا.

وفي البحر أسند ترجي التقوى إليهم لأن التقوى عبارة عن انتفاء فعل القبيح وذلك استمرار على العدم الأصلي ، وأسند ترجي أحداث الذكر للقرآن لأن ذلك أمر حدث بعد أن لم يكن انتهى ، وهو مأخوذ من كلام الإمام وفي قوله : لأن التقوى إلى آخره على إطلاقه منع ظاهر ، وفسر بعضهم التقوى بترك المعاصي والذكر بفعل الطاعات فإنه يطلق عليه مجاز لما بينهما من السببية والمسببية فكلمة أو على ما قيل للتنويع ، وفي الكلام إشارة إلى أن مدار الأمر التخلية والتحلية. والإمام ذكر في الآية وجهين ، الأول أن المعنى إنما أنزلنا القرآن ليصيروا محترزين عن فعل ما لا ينبغي أو يحدث لهم ذكرا يدعوهم إلى فعل ما ينبغي فالكلام مشير أيضا إلى التخلية والتحلية إلا أنه ليس فيه ارتكاب المجار ، والثاني أن المعنى أنزلنا القرآن ليتقوا فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يحدث لهم ذكرا وشرفا وصيتا حسنا ، ولا يخفى أن هذا ليس بشيء ، وقال الطيبي : إن المعنى وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا أي فصيحا ناطقا بالحق ساطعا بيناته لعلهم يحدث لهم التأمل والتفكر في آياته وبيناته الوافية الشافية فيذعنون ويطيعون وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون العذاب. ففي الآية لف من غير ترتيب وهي على وزان قوله تعالى (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] وعندي كون الآية متضمنة للتخلية والتحلية لا يخلو عن حسن فتأمل.

وقرأ الحسن «أو يحدث» بسكون الثاء ، وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو حيوة والحسن في رواية والجحدري وسلام «أو نحدث» بالنون وسكون الثاء وذلك حمل وصل على وقف أو تسكين حرف الإعراب استثقالا لحركته كما قال ابن جنى نحو قول امرئ القيس :

اليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغلي

وقول جرير :

سيروا بني العم فالأهواز منزلكم

ونهر تيري ولا يعرفكم العرب

(فَتَعالَى اللهُ) استعظام له تعالى ولما صرف في القرآن من الوعد والوعيد والأوامر والنواهي وغير ذلك وتنزيه لذاته المتعالية أن لا يكون إنزال قرآنه الكريم منتهيا إلى غاية الكمالية من تسببه لترك من أنزل عليهم المعاصي ، ولفعلهم

٥٧٦

الطاعات وفيه تعجيب واستدعاء للإقبال عليه وعلى تعظيمه ، وفي وصفه تعالى بقوله سبحانه (الْمَلِكُ) أي المتصرف بالأمر والنهي الحقيق بأن يرجى وعده ويخشى وعيده ما يدل على أن قوارع القرآن سياسات إلهية يتضمن صلاح الدارين لا يحيد عنها إلا مخذول هالك ، وقوله تعالى (الْحَقُ) صفة بعد صفة لله تعالى أي الثابت في ذاته وصفاته عزوجل ، وفسره الراغب بموجد الشيء على ما تقتضيه الحكمة.

وجوز غير واحد كونه صفة للملك ومعناه خلاف الباطل أي الحق في ملكيته يستحقها سبحانه لذاته ، وفيه إيماء إلى أن القرآن وما تضمنه من الوعد والوعيد حق كله لا يحوم حول حماه الباطل بوجه وأن المحق من أقبل عليه بشرا شره وأن المبطل من أعرض عن تدبر زواجره ، وفيه تمهيد لوصل النهي عن العجلة به في قوله سبحانه (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ) أي يتم (وَحْيُهُ) أي تبليغ جبريل عليه‌السلام إياه فإن من حق الإقبال ذلك وكذلك من حق تعظيمه.

وذكر الطيبي أن هذه الجملة عطف على قوله تعالى (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) لما فيه من إنشاء التعجب فكأنه قيل حيث نبهت على عظمة جلالة المنزل وأرشدت إلى فخامة المنزل فعظم جنابه الملك الحق المتصرف في الملك والملكوت ، وأقبل بكلك على تحفظ كتابه وتحقق مبانيه ولا تعجل به ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ألقى عليه جبريل عليه‌السلام القرآن يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة خوفا أن يصعد عليه‌السلام ولم يحفظه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنهى عليه الصلاة والسلام عن ذلك إذ ربما يشغل التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها ، ونزل عليه أيضا (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة : ٦٦] الآية ، وأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم باستفاضة العلم واستزادته منه سبحانه فقيل : (وَقُلْ) أي في نفسك (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي سل الله عزوجل بدل الاستعجال زيادة العلم مطلقا أو في القرآن فإن تحت كل كلمة بل كل حرف منه أسرارا ورموزا وعلوما جمة وذلك هو الأنفع لك ، وقيل : وجملة (وَلا تَعْجَلْ) مستأنفة ذكرت بعد الإنزال على سبيل الاستطراد ، وقيل : إن ذلك نهي عن تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتي بيانه وليس بذاك ، فإن تبليغ المجمل وتلاوته قبل البيان مما لا ريب في صحته ومشروعيته.

ومثله ما قيل : إنه نهي عن الأمر بكتابته قبل أن تفسر له المعاني وتتقرر عنده عليه الصلاة والسلام بل هو دونه بكثير ، وقيل : إنه نهي عن الحكم بما من شأنه أن ينزل فيه قرآن بناء على ما أخرج جماعة عن الحسن أن امرأة شكت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن زوجها لطمها فقال لها : بينكما القصاص فنزلت هذه الآية فوقف صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزل (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) [النساء : ٣٤] ، وقال الماوردي : إنه نهي عن العجلة بطلب نزوله. وذلك أن أهل مكة وأسقف نجران قالوا : يا محمد أخبرنا عن كذا وقد ضربنا لك أجلا ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه وفشت المقالة بين اليهود وزعموا أنه عليه الصلاة والسلام قد غلب فشق ذلك عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستعجل الوحي فنزلت (وَلا تَعْجَلْ) إلخ وفي كلا القولين ما لا يخفى.

وقرأ عبد الله والجحدري والحسن وأبو حيوة وسلام ويعقوب والزعفراني وابن مقسم «نفضي» بنون العظمة مفتوح الياء «وحيه» بالنصب. وقرأ الأعمش كذلك إلا أنه سكن الياء من «نقضي» ، قال صاحب اللوامح : وذلك على لغة من لا يرى فتح الياء بحال إذا انكسر ما قبلها وحلت طرفا ، واستدل بالآية على فضل العلم حيث أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطلب زيادته ، وذكر بعضهم أنه ما أمر عليه الصلاة والسلام بطلب الزيادة في شيء إلا العلم. وأخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علما والحمد لله على كل حال».

٥٧٧

وأخرج سعيد بن منصور. وعبد بن حميد عن ابن مسعود أنه كان يدعو «اللهم زدني إيمانا وفقها ويقينا وعلما» وما هذا إلا لزيادة فضل العلم وفضله أظهر من أن يذكر ، نسأل الله تعالى أن يرزقنا الزيادة فيه ويوفقنا للعمل بما يقتضيه (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ) كأنه لما مدح سبحانه القرآن ، وحرض على استعمال التؤدة والرفق في أخذه وعهد على العزيمة بأمره وترك النسيان فيه ضرب حديث آدم مثلا للنسيان وترك العزيمة.

وذكر ابن عطية أن في ذلك مزيد تحذير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العجلة وعدم التؤدة لئلا يقع فيما لا ينبغي كما وقع آدم عليه‌السلام ، فالكلام متعلق بقوله تعالى (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) إلخ ، وقال الزمخشري : هو عطف على (صَرَّفْنا) عطف القصة على القصة ، والتخالف فيه إنشاء وخبرية لا يضر مع أن المقصود بالعطف جواب القسم. وحاصل المعنى عليه صرفنا الوعيد وكررناه لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا لكنهم لم يلتفتوا لذلك ونسوه كما لم يلتفت أبوهم إلى الوعيد ونسي العهد إليه. والفائدة في ذلك الإشارة إلى أن مخالفتهم شنشنة أخزمية وأن أساس أمرهم ذلك وعرقهم راسخ فيه ، وحكي نحو هذا عن الطبري.

وتعقبه ابن عطية بأنه ضعيف لما فيه من الغضاضة من مقام آدم عليه‌السلام حيث جعلت قصته مثلا للجاحدين لآيات الله تعالى وهو عليه‌السلام إنما وقع منه ما وقع بتأويل انتهى ، والإنصاف يقضي بحسنه فلا تلتفت إلى ما قيل : إن فيه نظرا ، وقال أبو مسلم : إنه عطف على قوله تعالى (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) [طه : ٩٩] وليس بذاك ، نعم فيه مع ما تقدم إنجاز الموعود في تلك الآية ، واستظهر ابن عطية فيه أحد أمرين التعلق بلا تعجل وكونه ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله ، وهذا الأخير وإن قدمه في كلامه ناشئ من ضيق العطن كما لا يخفى ، والعهد الوصية يقال عهد إليه الملك ووغر إليه وعزم عليه وتقدم إليه إذا أمره ووصاه ، والمعهود محذوف يدل عليه ما بعده ، واللام واقعة في جواب قسم محذوف أي وأقسم بالله لقد أمرناه ووصيناه (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذا الزمان ، وقيل : أي من قبل وجود هؤلاء المخالفين.

وعن الحسن أي من قبل إنزال القرآن ، وقيل : أي من قبل أن يأكل من الشجرة (فَنَسِيَ) العهد ولم يهتم به ولم يشتغل بحفظه حتى غفل عنه ، والعتاب جاء من ترك الاهتمام ، ومثله عليه‌السلام يعاتب على مثل ذلك ، وعن ابن عباس (١) والحسن أن المراد فترك ما وصى به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها فالنسيان مجاز عن الترك والفاء للتعقيب وهو عرفي ، وقيل : فصيحة أي لم يهتم به فنسي والمفعول محذوف وهو ما أشرنا إليه ، وقيل : المنسي الوعيد بخروج الجنة إن أكل ، وقيل قوله تعالى : (إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) وقيل : الاستدلال على أن النهي عن الجنس دون الشخص ، والظاهر ما أشرنا إليه.

وقرأ اليماني والأعمش «فنسّي» بضم النون وتشديد السين أي نساه الشيطان (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) تصميم رأي وثبات قدم في الأمور ، وهذا جاء على القولين في النسيان ، نعم قيل : إنه أنسب بالثاني وأوفق بسياق الآية على ما ذكرنا أولا. وروي جماعة عن ابن عباس وقتادة أن المعنى لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة ، وعن ابن زيد وجماعة أن المعنى لم نجد له عزما على الذنب فإنه عليه‌السلام أخطأ ولم يتعمد وهو قول من قال : إن النسيان على حقيقته ؛ وجاء عن ابن عباس ما يقتضيه ، فقد أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عنه قال قال لي عمر رضي الله تعالى عنه إن صاحبكم هذا ـ يعني علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه ـ إن ولي زهد ولكني أخشى عجب نفسه أن يذهب به

__________________

(١) رواه عنه جماعة اه منه.

٥٧٨

قلت : يا أمير المؤمنين إن صاحبنا من قد علمت والله ما نقول : إنه غير ولا بدل ولا أسخط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيام صحبته فقال ولا في بنت أبي جهل وهو يريد أن يخطبها على فاطمة قلت قال الله تعالى في معصية آدم عليه‌السلام (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) فصاحبنا لم يعزم على إسخاط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن الخواطر التي لا يقدر أحد دفعها عن نفسه وربما كانت من الفقيه في دين الله تعالى العالم بأمر الله سبحانه فإذا نبه عليها رجع وأناب فقال : يا ابن عباس من ظن أنه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظن عجزا ، لكن لا يخفى عليك أن هذا التفسير غير متبادر ولا كثير المناسبة للمقام. وحاصل لم نجد إلخ عليه أنه نسي فيتكرر مع ما قبله.

ثم إن (لَمْ نَجِدْ) إن كان من الوجود العلمي ، ـ فله عزما ـ مفعولاه قدم الثاني على الأول لكونه ظرفا وإن كان من الوجود المقابل للعدم كما اختاره بعضهم ـ فله ـ متعلق به قدم على مفعوله لما مر غير مرة أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله المنكر ، والمعنى على هذا ولم نصادف له عزما (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) شروع في بيان المعهود وكيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه ، (وَإِذْ) منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي واذكر وقت قولنا للملائكة إلخ. قيل : وهو معطوف على مقدر أي اذكر هذا واذكر إذ قلنا أو من عطف القصة على القصة. وأيّا ما كان فالمراد اذكر ما وقع في ذلك الوقت منا ومنه حتى يتبين لك نسيانه وفقدان عزمه (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) قد مر الكلام فيه مرارا (أَبى) جملة مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ عن الأخبار بعدم سجوده كأنه قيل : فما باله لم يسجد؟ فقل : (أَبى) والإباء الامتناع أو شدته ومفعوله إما محذوف أي أبى السجود كما في قوله تعالى (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) [الحجر : ٣١] أو غير منوي رأسا بتنزيله منزلة اللازم أي فعل الإباء وأظهره (فَقُلْنا) عقيب ذلك اعتناء بنصح آدم عليه‌السلام (يا آدَمُ إِنَّ هذا) الذي رأيت منه ما رأيت (عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) أعيد اللام لأنه لا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار عند الجمهور. وقيل : أعيد للدلالة على أن عداوة اللعين للزوجة أصالة لا تبعا. وهو على القول بعدم لزوم إعادة الجار في مثله كما ذهب إليه ابن مالك ظاهر. وأما على القول باللزوم فقد قيل في توجيهه. إن كون الشيء لازما بحسب القاعدة النحوية لا ينافي قصد إفادة ما يقتضيه المقام.

وقد صرح السيد السند في شرح المفتاح في توجيه جعل صاحب المفتاح تنكير التمييز في قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] لإفادة المبالغة بما يرشد إلى ذلك ، ولا يخفى ما في التعبير بزوجك دون حواء من مزيد التنفير والتحذير منه ، واختلف في سبب العداوة فقيل مجرد الحسد وهو لعنه الله تعالى ولعن أتباعه أول من حسد ، وقيل : كونه شيخا جاهلا وكون آدم عليه‌السلام شابا عالما ، والشيخ الجاهل يكون أبدا عدوا للشاب العالم بل الجاهل مطلقا عدو للعالم كذلك كما قيل : والجاهلون لأهل العلم أعداء وقيل : تنافي الأصلين فإن اللعين خلق من نار وآدم عليه‌السلام خلق من طين وحواء خلقت منه ، وقد ذكر جميع ذلك الإمام الرازي.

(فَلا يُخْرِجَنَّكُما) أي فلا يكونن سببا لإخراجكما (مِنَ الْجَنَّةِ) وهذا كناية عن نهيهما عن أن يكونا بحيث يتسبب الشيطان في إخراجهما منها نحو قوله تعالى : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) [الأعراف : ٢] والفاء لترتيب موجب النهي على عداوته لهما أو على الأخبار بها (فَتَشْقى) أي فتتعب بمتاعب الدنيا وهي لا تكاد تحصى ولا يسلم منها أحد وإسناد ذلك إليه عليه‌السلام خاصة بعد تعليق الإخراج الموجب له بهما معا لأصالته في الأمور واستلزام تعبه لتعبها مع ما في ذلك من مراعاة الفواصل على أتم وجه ، وقيل : المراد بالشقاء التعب في تحصيل مبادئ المعاش وهو من وظائف الرجال ، وأيد هذا بما أخرجه عبد بن حميد وابن عساكر. وجماعة عن سعيد بن جبير قال : «إن آدم عليه‌السلام لما أهبط من الجنة استقبله ثور أبلق فقيل له : اعمل عليه فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول : هذا ما

٥٧٩

وعدني ربي (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) ثم نادى حواء حواء أنت عملت بي هذا فليس من ولد آدم أحد يعمل على ثور إلا قال : حو دخلت عليهم من قبل آدم عليه‌السلام ، وكذا أيد بالآية بعد وفيه تأمل ، ولعل القول بالعموم أولى ، و «تشقى» يحتمل أن يكون منصوبا بإضمار أن في جواب النهي ، ويحتمل أن يكون مرفوعا على الاستئناف بتقدير فأنت تشقى ، واستبعد هذا بأنه ليس المراد الأخبار عنه بالشقاء بل المراد أن وقع الإخراج حصل ذلك.

(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) أي ولا تصيبك الشمس يقال : ضحا كسعى وضحى كرضى ضحوا وضحيا إذا أصابته الشمس ، ويقال ضحا وضحوا وضحوا وضحيا إذا برز لها ، وأنشدوا قول عمرو بن أبي ربيعة :

رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت

فيضحى وأما بالعشي فيخصر

وفسر بعضهم ما في الآية بذلك والتفسير الأول مروي عن عكرمة ، وأيّا ما كان فالمراد نفي أن يكون بلا كن ، والجملة تعليل لما يوجبه النهي فإن اجتماع أسباب الراحة فيها مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل مبادئ البقاء فيها والجد في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها ، والعدول عن التصريح بأن له عليه‌السلام فيها تنعما بفنون النعم من المآكل والمشارب وتمتعا بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية مع أن فيه من الترغيب في الإبقاء فيها ما لا يخفى إلى ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعرى والضحو لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره سبحانه عنها ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها ، ومعنى (أَلَّا تَجُوعَ) إلخ أن لا يصيبه شيء من الأمور الأربعة أصلا فإن الشبع والري والكسوة والكن قد تحصل بعد عروض أضدادها وليس الأمر فيها كذلك بل كلما وقع فيها شهوة وميل إلى شيء من الأمور المذكورة تمتع به من غير أن يصل إلى حد الضرورة على أن الترغيب قد حصل بما سوغ له من التمتع بجميع ما فيها سوى الشجرة حسبما ينطق به قوله تعالى : (يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) [البقرة : ٣٥] وقد طوي ذكره هاهنا اكتفاء بذلك واقتصر على ما ذكر من الترغيب المتضمن للترهيب ، وقال بعضهم : إن الاقتصار على ما ذكر لما وقع في سؤال آدم عليه‌السلام فإنه روي أنه لما أمره سبحانه بسكنى الجنة قال إلهي ألي فيها ما آكل ألي فيها ما ألبس ألي فيها ما أشرب ألي فيها ما أستظل به فأجيب بما ذكر ، وفي القلب من صحة الرواية شيء.

ووجه إفراده عليه‌السلام بما ذكر ما مر آنفا ، وقيل : كونه السائل وكان الظاهر عدم الفصل بين الجوع والظمأ والعري والضحو للتجانس والتقارب إلا أنه عدل عن المناسبة المكشوفة إلى مناسبة أتم منها وهي أن الجوع خلو الباطن والعري خلو الظاهر فكأنه قيل لا يخلو باطنك وظاهرك عما يهمهما ، وجمع بين الظمأ المورث حرارة الباطن والبروز للشمس وهو الضحو المورث حرارة الظاهر فكأنه قيل : لا يؤلمك حرارة الباطن والظاهر وذلك الوصل الخفي وهو سر بديع من أسرار البلاغة ، وفي الكشف إنما عدل إلى المنزل تنبيها على أن الشبع والكسوة أصلان وأن الأخيرين متممان على الترتيب فالامتنان على هذا الوجه أظهر ولهذا فرق بين القرينتين فقيل أولا (إِنَّ لَكَ) وثانيا (أَنَّكَ) ، وقد ذكر هذه العلامة الطيبي أيضا ثم قال : وفي تنسيق المذكورات الأربعة مرتبة هكذا مقدما ما هو الأهم فالأهم ثم في جعلها تفصيلا لمضمون قوله تعالى (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) وتكرير لفظة فيها وإخراجها في صيغة النفي مكررة الأداة الإيماء إلى التعريض بأحوال الدنيا وأن لا بد من مقاساتها (فِيها) لأنها خلقت لذلك وأن الجنة ما خلقت إلا للتنعم ولا يتصور فيها غيره.

٥٨٠