روح المعاني - ج ٨

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٨

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٨

أي من جهة العقل الذي هو أقوى جانبيه (فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) ويأخذون أجور أعمالهم المكتوبة فيه (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أدنى شيء حقير من ذلك (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) عن الاهتداء إلى الحق فهو في الآخرة أعمى أيضا (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) لبطلان الكسب هناك وهذا الذي يؤتى كتابه بشماله أي من جهة النفس التي هي أضعف جانبيه إلا أنه عبر عنه بما ذكر لما قدمنا ، والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل ، ثم إنه عزوجل لما عدد نعمه على بني آدم ثم ذكر حالهم في الآخرة وانقسامهم إلى قسمين سعداء وأشقياء أتبع ذلك بذكر بعض مساوئ بعض الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبيس على سيد أهل السعادة المقطوع له بالعصمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي ذلك إشارة إلى أنهم داخلون فيمن عمي عن الاهتداء في الدنيا دخولا أوليا فقال سبحانه وتعالى :

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ

١٢١

الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)(١١١)

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) قيل نزلت في ثقيف قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا ننحني في الصلاة وكل ربا لنا فهو لنا وكل ربا علينا فهو موضوع عنا وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة فإن قالت العرب : لم فعلت ذلك؟ فقل : إن الله تعالى أمرني ، وروى ذلك الثعلبي عن ابن عباس ولم يذكر له سندا.

وقال العراقي فيه : إنا لم نجده في كتب الحديث ؛ ونقله الزمخشري بزيادة ، ونقل غيره أنهم طلبوا ثلاث خصال عدم التجبية في الصلاة وكسر أصنامهم بأيديهم وتمتيعهم باللات سنة من غير أن يعبدوها بل ليأخذوا ما يهدى لها فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود» وأما كسر أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأما الطاغية اللات فإني غير

١٢٢

ممتعكم بها» وقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : ما بالكم آذيتم رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه لا يدع الأصنام في أرض العرب فما زالوا به حتى أنزل الله تعالى الآية.

وأخرج ابن أبي إسحاق وابن مردويه وغيرهما عنه رضي الله تعالى عنه أن أمية بن خلف. وأبا جهل. ورجالا من قريش أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : تعال فتمسح بآلهتنا وندخل معك في دينك وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرق لهم فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله سبحانه : (نَصِيراً) ، وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن باذان عن جابر بن عبد الله مثله.

وأخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير أن قريشا أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له : إن كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقّاط الناس ومواليهم لنكون نحن أصحابك فنزلت ، وقيل : إنهم قالوا له عليه الصلاة والسلام : اجعل لنا آية رحمة آية عذاب. وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك فنزلت.

وفي ذلك روايات أخر مختلفة أيضا وفي بعضها ما لا يصح نسبته إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يكاد يؤول وذلك يدل على الوضع والتفسير لا يتوقف على شيء من ذلك ، وأيّا ما كان فضمير الجمع للكفار وهم إما ثقيف أو قريش ، و (إِنْ) مخففة من المثقلة واسمها ضمير شان مقدر واللام هي الفارقة بين المخففة وغيرها أي إن الشان قاربوا في ظنهم أن يوقعوك في الفتنة صار فيك (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) لتتقول علينا غير الذي أوحيناه إليك مما اقترح عليك ثقيف من تحريم وج مثلا أو قريش من جعل آية الرحمة آية عذاب وبالعكس ، وقيل : المعنى لتحل محل المفتري علينا لأنك إن اتبعت أهواءهم أو همت أنك تفعل ذلك عن وحينا لأنك رسولنا فكنت كالمفتري.

(وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) أي لو فعلت ليتخذنك صديقا لهم ، وكان المراد ليكونن بينك وبينهم مخالة وصداقة وهم أعداء الله تعالى فمخالتهم تقتضي الانقطاع عن ولايته عزوجل كما قيل :

إذا صافى صديقك من تعادي

فقد عاداك وانقطع الكلام

وقيل : الخليل هذا من الخلة بمعنى الحاجة أي لاتخذوك فقيرا محتاجا إليهم وهو كما ترى (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) أي لو لا تثبيتنا إياك على ما أنت عليه من الحق بعصمتنا لك (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) من الركون الذي هو أدنى ميل ، وأصله الميل إلى ركن ، وذكروا. نه إذا أطلق يقع على أدنى الميل ، ونصب (شَيْئاً) على المصدرية أي لو لا ذلك لقاربت أن تميل إليهم شيئا يسيرا من الميل اليسير لقوة خدعهم وشدة احتيالهم لكن أدركتك العصمة فمنعتك من أن تقرب أدنى الأدنى من الميل إليهم فضلا عن نفس الميل إليهم ، وهذا صريح في أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يهم بإجابتهم ولم يكد ، وبه يرد على من زعم أنه عليه الصلاة والسلام هم فمنعه نزول الآية وكأنه غره ظواهر بعض الروايات في بيان سبب النزول كرق في رواية ابن إسحاق ومن معه عن الحبر ولا يخفى أن في قوله سبحانه (إِلَيْهِمْ) دون إلى إجابتهم ما يقوي الدلالة على أنه عليه الصلاة والسلام بمعزل عن الإجابة في أقصى الغايات ، وهذا الذي ذكر في معنى الآية هو الظاهر المتبادر للأفهام ؛ وذهب ابن الأنباري إلى أن المعنى لقد كادوا أن يخبروا عنك أنك ركنت إليهم ونسب فعلهم إليه عليه الصلاة والسلام مجازا واتساعا كما تقول للرجل كدت تقتل نفسك أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت وهو من الألغاز المستغنى عنه.

واستدل بالآية على أن العصمة بتوفيق الله تعالى وعنايته.

وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق وابن مصرف «تركن» بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وهو على قراءة الجمهور

١٢٣

مضارع ركن بكسر الكاف ، وقيل : بفتحها أيضا وجعل ذلك من تداخل اللغتين (إِذاً) أي لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركنة (لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ) أي مضاعف الحياة وهو صفة محذوف والإضافة على معنى في أو للملابسة أي عذابا مضاعفا في الحياة ، والمراد بها الحياة الدنيا لأنه المتبادر عند إطلاق لفظها وكذا يقال في قوله تعالى : (وَضِعْفَ الْمَماتِ) أي وعذابا ضعفا في الممات ، والمراد به ما يشمل العذاب في القبر وبعد البعث ، واستسهل بعض المحققين أن يكون التقدير من أول الأمر لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات وتكون الإضافة لامية والقرينة على تقدير العذاب (لَأَذَقْناكَ) والمعنى لو قاربت ما ذكرنا لنضاعفن لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا والعذاب المؤجل لهم بعد الموت.

وقيل المراد بالحياة حياة الآخرة وبعذاب الممات ما يكون في القبر وأمر الإضافة والتقدير على حاله ، والمعنى لو قاربت لنضاعفن لك عذاب القبر وعذاب يوم القيامة المدخرين للعصاة ، وفي هذه الشرطية إجلال عظيم بمكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنبيه على أن الأقرب أشد خطرا وذلك أنه أوعد بضعف العذاب على مقاربة أدنى ركون وقد وضع عنا الركون ما لم يصدقه العمل ، ونظير ذلك من وجه ما جاء في نسائه عليه الصلاة والسلام من قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب : ٣٠] وذكر في وجه مضاعفة جزاء خطأ الخطير أنه يكون سببا لارتكاب غيره مثله والاحتجاج به فكأنه سن ذلك وقد جاء «من سن سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» وعلى هذا يضاعف عذاب الخطير في خطئه أضعافا مضاعفة ، ولا يلزم من إثبات الضعف الواحد نفي الضعف المتعدد ، وقيل الضعف من أسماء العذاب وأنشدوا على ذلك قوله :

لمقتل مالك إذ بان مني

أبيت الليل في ضعف أليم

وذكر بعضهم أن الضعف ليس من أسماء العذاب وضعا لكنه يعبر به عنه لكثرة وصف العذاب به كما في قوله تعالى : (عَذاباً ضِعْفاً) [الأعراف : ٣٨ ، ص : ٦١] وزعم أن ذلك مراد القائل والله تعالى أعلم ، واللام في (لَأَذَقْناكَ) و (لَاتَّخَذُوكَ) لام القسم على ما نص عليه الحوفي ، والماضي في الموضعين واقع موقع المضارع الدال عليه اللام ، والنون على ما نص عليه أبو حيان وأشرنا إليه فيما سبق (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) يدفع العذاب أو يرفعه عنك ، روي عن قتادة أنه لما نزل قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا) إلى هنا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، وينبغي للمؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها وأن يستشعر الخشية وازدياد التصلب في دين الله تعالى ويقول كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنْ كادُوا) أي أهل مكة كما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ليزعجونك ويستخفونك بعداوتهم ومكرهم (مِنَ الْأَرْضِ) أي الأرض التي أنت فيها وهي أرض مكة (لِيُخْرِجُوكَ) أي ليتسببوا إلى خروجك (مِنْها) وكان هذا الاستفزاز بما فعلوا من حصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشعب والتضييق عليه عليه الصلاة والسلام ووقع ذلك بعد نزول الآية كما في البحر وصار سببا لخروجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهاجرا.

(وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ) أي إن استفزوك فخرجت لا يبقون (خِلافَكَ) أي بعدك وبه قرأ عطاء بن رباح واستحسن أنها تفسير لا قراءة لمخالفتها سواد المصحف وأنشدوا :

عفت الديار خلافهم فكأنما

بسط الشواطب بينهن حصيرا

وقرأ أهل الحجاز وأبو بكر وأبو عمرو «خلفك» بغير ألف والمعنى واحد واللفظان في الأصل من الظروف المكانية فتجوز فيهما واستعملا للزمان وقد اطرد إضافتهما كقبل وبعد إلى أسماء الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله أي لا يلبثون خلف استفزازك وخروجك (إِلَّا قَلِيلاً) أي إلا زمانا قليلا ، وجوز أن يكون التقدير إلا لبثا

١٢٤

قليلا والمعنيان متقاربان ، واختير التقدير الأول لأن التوسع أعني إقامة الوصف مقام الموصوف بالظروف أشبه ، وهذا وعيد لهم بإهلاك مجموعهم من حيث هو مجموع بعد خروجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقليل وتحقق بإفناء البعض في بدر لا سيما وقد كانوا صناديدهم والرءوس ، وأنت تعرف أن معظم الشيء يقام مقام كله ، وكان الزمان القليل على ما روى ابن أبي حاتم عن السدي ثمانية عشر شهرا ، ويجوز أن يفسر الإخراج بالإكراه على الخروج والوعيد بإهلاك كل واحد منهم أي لو أخرجوك لاستؤصلوا على بكرة أبيهم لكن لم يقع المقدم لأن الإكراه على الخروج مباشرة وقد خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهاجرا بأمر ربه عزوجل فلم يقع التالي وهذا هو التفسير المروي عن مجاهد قال : أرادت قريش ذلك ولم تفعل لأنه سبحانه أراد استبقاءها وعدم استئصالها ليسلم منها ومن أعقابها من يسلم فأذن لرسوله عليه الصلاة والسلام بالهجرة فخرج بإذنه لا بإخراج قريش وقهرهم ، والإخراج في قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) [محمد : ١٣] محمول على المعنى الأول ، وكذا في قول ورقة : يا ليتني كنت جذعا إذ يخرجك قومك وقوله عليه الصلاة والسلام «أو مخرجيّ هم» فلم تتضمن الآية وكذا الخبر إثبات إخراج قلنا بنفيه هنا ، والقول بأنه يلزم على هذا التناقض بين هذه الآية والآية السابقة بناء على تفسير الإخراج فيها بالتسبب إلى الخروج لأن كاد تدل على مقاربته لا حصوله وهذه الآية دلت على حصوله مجاب عنه بأن قصارى ما دلت عليه الآية السابقة على التفسير الأول قرب حصول الاستفزاز منهم ليتسببوا به إلى خروجهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه لم يكن حاصلا وقت نزول الآية لا أنه لا يكون حاصلا أبدا ليناقض حصوله بعد. وحكى الزجاج أن استفزازهم ما أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد من الأرض وجه البسيطة مطلقا ، وقال أبو حيان : المراد ما على هذا الدنيا ، وقيل ضمير (كادُوا) وما بعده لليهود ، فقد أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل. وابن عساكر عن عبد الرحمن بن غنم قال : إن اليهود أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا إن كنت نبيا فالحق بالشام فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء فصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قالوا فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ـ إلى ـ (تَحْوِيلاً) وأمره بالرجوع إلى المدينة وقال فيها محياك وفيها مماتك ومنها تبعث ، وفي رواية أنهم قالوا : يا أبا القاسم إن الشام أرض مقدسة وهي أرض الأنبياء فلو خرجت إليها لآمنا بك وقد علمنا أنك تخاف الروم فإن كنت نبيا فاخرج إليها فان الله تعالى سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء فخرج عليه الصلاة والسلام بسبب قولهم وعسكر بذي الحليفة وأقام ينتظر أصحابه فنزلت هذه الآية فرجع صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم إنه عليه الصلاة والسلام قتل منهم بني قريظة وأجلى بني النضير بقليل. وتعقب بأنه ضعيف لم يقع في سيرة ولا كتاب يعتمد عليه ، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة وكيفما كان يكون المراد من الأرض عليه المدينة ، وقيل أرض العرب ، وكأن من ذهب إلى أن هذه الآية مدنية يستند إلى ما ذكر من الروايات ، وقد صرح الخفاجي بأن هذا المذهب غير مرضي والله تعالى أعلم.

وقرأ عطاء «لا يلبّثون» بضم الياء وفتح اللام والباء مشددة. وقرأ يعقوب كذلك إلا أنه كسر الباء وقرأ أبي «وإذا لا يلبثوا» بحذف النون وكذا في مصحف عبد الله ، وتوجيه الإثبات والحذف أن النحويين عدوا من جملة شروط عمل إذن كونها في أول الجملة فعلى قراءة الحذف تكون الجملة معطوفة على جملة (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) وهي خبر كاد فيكون الشرط منخرما لتوسطها حينئذ في الكلام لكون ما بعدها خبر كاد كالمعطوف هو عليه ، وعلى قراءة الإثبات تكون الجملة معطوفة على جملة (وَإِنْ كادُوا) فيتحقق الشرط والعطف لا يضر في ذلك ، ووجه أبو حيان الإهمال بأن (لا يَلْبَثُونَ) جواب قسم محذوف أي والله إن استفزوك فخرجت لا يلبثون وقد توسطت إذا بين القسم المقدر والفعل فأهملت ثم قال ويحتمل أن يكون لا يلبثون خبرا لمبتدإ محذوف يدل عليه المعنى تقديره وهم إذا لا يلبثون

١٢٥

فتكون إذا واقعة بين المبتدأ وخبره ولذلك ألغيت وكلا التوجيهين ليس بوجيه كما لا يخفى.

(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) نصب على المصدرية أي سننّا سنة من إلخ وهي أن لا ندع أمة تستفز رسولها لتخرجه من بين ظهرانيها تلبث بعده إلا قليلا فالسنة لله عزوجل وأضيفت للرسل عليهم‌السلام لأنها سنت لأجلهم ، ويدل على ذلك قوله سبحانه (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) حيث أضاف السنة إليه تعالى ، وقال الفراء : انتصب (سُنَّةَ) على إسقاط الخافض أي كسنة فلا يوقف على قوله تعالى : (قَلِيلاً) فالمراد تشبيه حاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحال من قبله لا تشبيه الفرد بفرد من ذلك النوع ؛ وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولا به لفعل محذوف أي اتبع سنة إلخ كما قال سبحانه (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] والأنسب بما قبل ما قبل ، وكأنه اعتبر الأوامر بعد وهو خلاف ما عليه عامة المفسرين ، والتحويل التغيير أي لا تجد لما أجرينا به العادة تغييرا أي لا يغيره أحد.

والمراد من نفي الوجدان هنا وفيما أشبهه نفي الوجود ودليل نفي وجود من يغير عادة الله تعالى أظهر من الشمس في رابعة النهار ، وللإمام كلام في هذا المقام لا يخلو عن بحث ، ثم أنه تعالى بعد أن ذكر كيد الكفار وسلى نبيه عليه الصلاة والسلام بما سلى أمره أن يقبل على شأنه من عبادة ربه تعالى شأنه ووعده بما يغبطه عليه كل الخلق ويتضمن ذلك إرشاده إلى أن لا يشغل قلبه بهم أو أنه سبحانه بعد أن قدم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات أمر بأشرف العبادات بعد الإيمان وهي الصلاة فقال جل وعلا (أَقِمِ الصَّلاةَ) أي المفروضة (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي لزوالها عن دائرة نصف النهار وهو المروي عن عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس في رواية ، وأنس وأبي برزة الأسلمي والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد ، ورواه الإمامية عن أبي جعفر. وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما وخلق آخرين ، وأخرج ابن جرير. وإسحاق بن راهويه في مسنده وابن مردويه في تفسيره. والبيهقي في المعرفة عن أبي مسعود عقبة بن عامر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاني جبريل عليه‌السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر ، وقيل لغروبها (١) وهو المروي عندنا عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وأخرجه ابن مردويه والطبراني والحاكم وصححه ، وغيرهم عن ابن مسعود ، وابن المنذر وغيره عن ابن مسعود ، وروى عن زيد بن أسلم والنخعي والضحاك والسدي ، وإليه ذهب الفراء وابن قتيبة ، وأنشد لذي الرمة :

مصابيح ليست باللواتي يقودها

نجوم ولا بالأفلاك الدوالك

وأصل مادة د ل ك تدل على الانتقال ففي الزوال انتقال من دائرة نصف النهار إلى ما يليها وفي الغروب انتقال من دائرة الأفق إلى ما تحتها وكذا في الدلك المعروف انتقال اليد من محل إلى آخر بل كل ما أوله دال ولام مع قطع النظر عن آخره يدل على ذلك كدلج بالجيم من الدلجة وهي سير الليل وكذا دلج بالدلو إذا مشى بها من رأس البئر للمصب ودلح بالحاء المهملة إذا مشى مشيا متثاقلا ودلع بالعين المهملة إذا أخرج لسانه ودلف بالفاء إذا مشى مشية المقيد وبالقاف إذا أخرج المائع من مقره ووله إذا ذهب عقله وفيه انتقال معنوي إلى غير ذلك ، وهذا المعنى يشمل كلا المعنيين السابقين وإن قيل إن الانتقال في الغروب أتم لأنه انتقال من مكان إلى مكان ومن ظهور إلى خفاء وليس في الزوال إلا الأول ، وقيل إن الدلوك مصدر مزيد مأخوذ من المصدر المجرد أعني الدلك المعروف وهو أظهر في الزوال لأن من نظر إلى الشمس حينئذ يدلك عينه ويكون على هذا في دلوك الشمس تجوز عن دلوك ناظرها ، وقد يستأنس في ترجيح القول الأول مع ما سبق بأن أول صلاة صلاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهار ليلة الإسراء الظهر ، وقد صح أن

__________________

(١) أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن المنذر وابن أبي حاتم اه منه.

١٢٦

جبريل عليه‌السلام ابتدأ بها حين علم النبي عليه الصلاة والسلام كيفية الصلاة في يومين ، وقال المبرد : دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها فالأمر بإقامة الصلاة لدلوكها أمر بصلاتين الظهر والعصر ، وعلى القولين الآخرين أمر بصلاة واحدة الظهر أو العصر ، واللام للتاقيت متعلقة بأقم وهي بمعنى بعد كما في قول متمم بن نويرة يرثي أخاه:

فلما تفرقنا كأني ومالكا

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

ومنه كتبته لثلاث خلون من شهر كذا وتكون بمعنى عند أيضا ، وقال الواحدي : هي للتعليل لأن دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أي إلى شدة ظلمته كما قال الراغب وغيره وهو وقت العشاء.

وأخرج ابن الأنباري في الوقف عن ابن عباس أن نافع بن الأرزق قال له : أخبرني ما الغسق؟ فقال : دخول الليل بظلمته وأنشد قول زهير بن أبي سلمى :

ظلت تجود يداها وهي لاهية

حتى إذا جنح الإظلام والغسق

وقال النضر بن شميل : غسق الليل دخول أوله ، قال الشاعر :

إن هذا الليل قد غسقا

واشتكيت الهم والأرقا

وهو عنده وقت المغرب ، وروي ذلك عن مجاهد ، وأصله من السيلان يقال غسقت العين تغسق إذا هملت بالماء كأن الظلمة تنصب على العالم ، وقيل : المراد من غسق الليل ما يعم وقتي المغرب والعشاء وهو ممتد إلى الفجر كما أن المراد بدلوك الشمس ما يعم وقتي الظهر والعصر ففي الآية بدخول الغاية تحت المغيا وبضم ما بعد إشارة إلى أوقات الصلوات الخمس ، واختاره جماعة من الشيعة واستدلوا بها على أن وقت الظهر موسع إلى غروب الشمس ووقت المغرب موسع إلى انتصاف الليل وهي أحد أدلة الجمع في الحضر بلا عذر الذي ذهبوا إليه وأبدوا ذلك مما رواه العياشي بإسناده عن عبيدة ، وزرارة عن أبي عبد الله أنه قال في هذه الآية : إن الله تعالى افترض أربع صلوات أول وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروبها إلا أن هذه قبل هذه ومنها صلاتان أول وقتهما غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه وهو مرتضى المرتضى في أوقات الصلاة ، والمعتمد عليه عند جمهور المفسرين أن دلوك الشمس وقت الظهر وغسق الليل وقت العشاء كما ينبئ عنه إقحام الغسق وعدم الاكتفاء بإلى الليل ، والجار والمجرور متعلق بأقم ، وأجاز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالا من الصلاة أي ممدودة إلى الليل والأول أولى وليس المراد بإقامة الصلاة فيما بين هذين الوقتين على وجه الاستمرار بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها ببيان جبريل عليه‌السلام الثابت في الروايات الصحيحة التي لم يروها ـ من شهد ـ أحد من الأئمة الطاهرين بزندقتهم ونجاسة بواطنهم كما أن أعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه عليه الصلاة والسلام ، ولعل الاكتفاء ببيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلاة من غير فصل بينها لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة فبعضها متصل ببعض بخلاف وقت العشاء والفجر فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم عادة ينقطع أحدهما عن الآخر ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات ، ثم إن المستدل من الشيعة بالآية لا يتم له الاستدلال بها على جواز الجمع بين صلاتي الظهر والعصر ، وبين صلاتي المغرب والعشاء ما لم يضم إلى ذلك شيئا من الأخبار فإنها إذا لم يضم إليها ذلك أولى بأن يستدل بها على جواز الجمع بين الأربعة جميعها لا بين الاثنتين والاثنتين ولا يخفى ما في الاستدلال بها على هذا المطلب ولذا لم يرتضه أبو جعفر منهم ، نعم ما ذهبوا إليه مما يؤيده ظواهر بعض الأحاديث الصحيحة كحديث ابن عباس وهو في صحيح مسلم صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر والعصر جمعا بالمدينة ،

١٢٧

وفي رواية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى ثمانيا جميعا وسبعا جميعا من غير خوف ولا سفر.

واختلف في تأويله فمنهم من أوله بأنه جمع بعذر المطر والجمع بسبب ذلك تقديما وتأخيرا مذهب الشافعي في القديم وتقديما فقط في الجديد بالشرط المذكور في كتبهم ، وخص مالك جواز الجمع بالمطر في المغرب والعشاء ، وهذا التأويل مشهور عن جماعة من الكبار المتقدمين وهو ضعيف لما في صحيح مسلم عنه أيضا جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر ، وكون المراد ولا مطر كثير لا يرتضيه ذو إنصاف قليل والشذوذ غير مسلم ، ومنهم من أوله بأنه كان في غيم فصلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر ثم انكشف الغيم وبان أن أول وقت العصر دخل فصلاها ، وفيه أنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر إلا أنه لا احتمال في المغرب والعشاء ، ومنهم من أوله بأنه عليه الصلاة والسلام أخر الأولى إلى آخر وقتها فصلاها فيه فلما فرغ منها دخل وقت الثانية فصلاها فصارت الصورة صورة جمع ، وفيه أنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل ، ويرده أيضا ما صح عن عبد الله بن شقيق قال : خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون : الصلاة الصلاة فجاء رجل من بني تميم فجعل لا يفتر ولا ينثني الصلاة الصلاة فقال ابن عباس : أتعلمني بالسنة لا أم لك رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال عبد الله بن شقيق : فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته ، ومنهم من قال : هو محمول على الجمع بعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه من الأعذار وهذا قول الإمام أحمد والقاضي حسين من الشافعية واختاره منهم الخطابي والمتولي والروياني.

وقال النووي : هو المختار في التأويل ومذهب جماعة من الأئمة جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الإمام الشافعي ، وعن أبي إسحاق المروزي ، وعن جماعة من أصحاب الحديث واختاره ابن المنذر ويؤيده ظاهر ما صح عن ابن عباس ورواه مسلم أيضا أنه لما قال : جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر قيل له : لم فعل ذلك؟ فقال : أراد أن لا يخرج أحدا من أمته وهو من الحرج بمعنى المشقة فلم يعلله بمرض ولا غيره ، ويعلم مما ذكرنا أن قول الترمذي في آخر كتابه ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة ناشئ من عدم التتبع. نعم ما قاله في الحديث الثاني صحيح فقد صرحوا بأنه حديث منسوخ دل الإجماع على نسخه.

وقال ابن الهمام : إن حديث ابن عباس معارض بما في مسلم من حديث ليلة التعريس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى» وللبحث في ذلك مجال.

ومذهب الإمام أبي حنيفة عدم جواز جمع صلاتي الظهر والعصر في وقت إحداهما والمغرب والعشاء كذلك مطلقا إلا بعرفات فيجمع فيها بين الظهر والعصر بسبب النسك وإلا بمزدلفة فيجمع فيها بين المغرب والعشاء بسبب ذلك أيضا واستدل بما استدل. وفي الصحيحين وسنن أبي داود وغيره ما لا يساعده على التخصيص ، وأنت تعلم أن الاحتياط فيما ذهب إليه الإمام رضي الله تعالى عنه فالمحتاط لا يخرج صلاة الظهر مثلا عن وقتها المتيقن الذي لا خلاف فيه إلى وقت فيه خلاف ، وقد صرح غير واحد بأنه إذا وقع التعارض يقدم الأحوط وتعارض الأخبار في هذا الفصل مما لا يخفى على المتتبع ، هذا وزعم بعضهم أن المراد بالصلاة المأمور بإقامتها صلاة المغرب والتحديد المذكور بيان لمبدأ وقتها ومنتهاه على أن الغاية خارجة واستدل به على امتداده إلى غروب الشفق وهو خلاف ما

١٢٨

ذهب إليه الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجديد من أنه ينقضي بمضي قدر زمن وضوء وغسل وتيمم ، وطلب خفيف وإزالة خبث مغلظ يعم البدن والثوب والمحل وستر عورة واجتهاد في القبلة وأذان وإقامة وألحق بهما سائر سنن الصلاة المتقدمة كتعمم وتقمص ومشي لمحل الجماعة وأكل جائع حتى يشبع وسبع ركعات ولعل الزمان الذي يسع كل هذا يزيد على زمن ما بين غروب الشمس وغروب الشفق أي شفق كان في أكثر الإعراض ، ثم لا يخفى أنه إذا كان المراد من غسق الليل وقت العشاء وفسر الغسق باجتماع الظلمة وشدتها كان ذلك مؤيدا لما في ظاهر الرواية عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من أن أول وقت العشاء حين يغيب الشفق بمعنى البياض الذي يعقب الخمرة في الأفق الغربي لأن الظلمة لا تجتمع ولا تشتد ما لم يغب ، ولا يأبى ذلك أن الأحاديث الصحيحة صريحة في أن أول وقتها حين يغيب الشفق وهو اللغة الحمرة المعلومة لأن تفسيره بالبياض قد جاء أيضا ، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعمر ومعاذ بن جبل وعائشة رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، ورواه عبد الرازق عن أبي هريرة وعن عمر بن عبد العزيز ، وبه قال الأوزاعي والمزني وابن المنذر والخطابي ، واختاره المبرد وثعلب ، وما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أول وقت العشاء حين يغيب الأفق» ظاهر في كون الشفق البياض إذ لا غيبوبة للأفق إلا بسقوطه ؛ نعم ذهب صاحباه إلى أنه الحمرة وهو (١) قول ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم ، ورواه أسد بن عمرو عن الإمام أيضا لكنه خلاف ظاهر الرواية عنه ، والصحيح المفتي به عندنا ما جاء في ظاهر الرواية ، وقد نص على ذلك المحقق ابن الهمام والعلامة قاسم وابن نجيم وغيرهما ، وما قاله الإمام أبو المفاخر من أن الإمام رجع إلى قولهما وقال إنه الحمرة لما ثبت عنده من حمل عامة الصحابة إياه على ذلك وعليه الفتوى وتبعه المحبوبي وصدر الشريعة ليس بشيء لأن الرجوع لم يثبت ودون إثباته مع نقل الكافة عن الكافة خلافه خرط القتاد ، وكذا دعوى حمل عامة الصحابة خلاف المنقول كما سمعت حتى أن البيهقي لم يرو أن الشفق الحمرة إلا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.

وما رواه الدار قطني عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الشفق الحمرة فإذا غاب وجبت الصلاة» قال البيهقي والنووي فيه الصحيح أنه موقوف على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ومثل هذا الاختلاف الاختلاف في أول وقت العصر فقال الإمام : هو إذا صار ظل كل شيء مثليه بعد ظل الزوال وقالا : إذا صار ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال ، وفتوى المحققين على قوله رحمة الله تعالى عليه بل قال ابن نجيم : إن الإفتاء بغيره لا يجوز وقد أطال الكلام في ذلك في رسالته رفع الغشاء عن وقتي العصر والعشاء (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) عطف على مفعول «أقم» أو نصب على الإغراء كما قال الزجاج وأبو البقاء والجمهور على الأول ، والمراد بقرآن الفجر صلاته كما روي عن ابن عباس ومجاهد ، وسميت قرآنا أي قراءة لأنها ركنها كما سميت ركوعا وسجودا وهذه حجة على ابن علية. والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن في الصلاة قاله في الكشاف ورد بأن ذلك لا يدل على الركنية لجواز كون مدار التجوز كون القراءة مندوبة فيها وفي الكشف أنه مدفوع بأن العلاقة المعتبرة في إطلاق غير الصلاة وإرادة الصلاة هي علاقة الكل والجزء بدليل النظائر وهاهنا إذ ورد تجوزا فحمله على معلوم النظير من الاستقراء واجب على أن الندبية لا تصلح علاقة معتبرة إلا بالتكلف ، وجعل ، سبح بمعنى صلى لأن التسبيح بمعنى التنزيه البالغ والمصلى مسبح قولا بقراءة الفاتحة بل بالتكبير الواجب بالاتفاق وفعلا أيضا بالركوع والسجود مثلا الدالين على كمال التعظيم والتبجيل فهو الركن كله لا لأن التسبيح بمعنى

__________________

(١) أي في رواية اه منه.

١٢٩

قول سبحان الله ليقال تجوز عن الصلاة بما هو مندوب فيها. وتعقب بأن الاكتفاء بعلاقة الندبية التي يقول بها الأصم وابن علية لا تكلف فيه فإن القرآن جزء من الصلاة الكاملة فيكون ذلك كالنظائر بلا ضرر ولا ضير ، وبأن مذهبهما في التكبير غير معلوم فدعوى الاتفاق غير مسلمة منه ولو كان كما ذكره لكان الوجوب كافيا في علاقة أخرى وهي اللزوم وفيه بحث ، وأبقى الجصاص القرآن على حقيقته وقال في الآية دلالة على وجوب القراءة في صلاة الفجر لأن التقدير فيها وأقم قرآن الفجر والأمر للوجوب ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة وزعم أن كون المعنى صلوا الفجر غلط من وجهين الأول أنه صرف عن الحقيقة بغير دليل ، والثاني أن (فَتَهَجَّدْ بِهِ) فيما بعد يأباه إذ لا معنى للتهجد بصلاة الفجر ، وفيه أن الدليل قائم وهو (أَقِمِ) لاشتهار (أَقِمِ الصَّلاةَ) دون أقم القراءة وضمير (بِهِ) فيما بعد يجوز أن يرجع إلى القرآن بمعناه الحقيقي استخداما وهو أكثر من أن يحصى ثم متى دلت الآية على وجوب القراءة في صلاة الفجر نصا كان ثبوت وجوبها في غيرها من الصلاة قياسا ، وذكر بعضهم أن في التعبير عن صلاة الفجر بخصوصها بما ذكر إشارة إلى أنه يطلب فيها من تطويل القراءة ما لم يطلب في غيرها وهو حسن ، وقال الإمام : إن في الآية دلالة على أنه يسن التغليس في صلاة الفجر لأنه أضيف فيها القرآن إلى الفجر على معنى أقم قرآن الفجر والأمر للوجوب والفجر أول طلوع الصبح لانفجار ظلمة الليل عن نور الصباح حينئذ ولذلك سمي الفجر فجرا فيقتضي ذلك وجوب إقامة صلاة الفجر أول الطلوع وحيث أجمع على عدم وجوب ذلك بقي الندب لأن الوجوب عبارة عن رجحان مانع الترك فإذا منع مانع من تحقق الوجوب كالإجماع هنا وجب أن يرتفع المنع من الترك وأن يبقى أصل الرجحان حتى تقل مخالفة الدليل.

وأنت تعلم ما للعلماء من الخلاف في الباقي بعد رفع الوجوب ، وما ذكر قول في المسألة لكنه لا يفيد المطلوب لأن صلاة الفجر اسم للصلاة المخصوصة سواء وقعت بغلس أم اسفار ، والأخبار الصحيحة تدل على سنية الأسفار بها كخبر الترمذي وهو كما قال : حسن صحيح «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» وحمله على تبين الفجر حتى لا يكون شك في طلوعه ليس بشيء إذ ما لم يتبين لا يحكم بجواز الصلاة فضلا عن إصابة الأجر المفاد بآخر الخبر ولو حمل أعظم فيه على عظيم ورد أن المناسب في التعليل فإنه لا تصح الصلاة بدونه على أنه على ما فيه ينفيه رواية الطحاوي أسفروا بالفجر فكلما أسفرتم فهو أعظم الأجر أو لأجوركم أو كما قال ، وروي بسنده الصحيح عن إبراهيم قال : ما اجتمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على شيء ما اجتمعوا على التنوير ، ومحال نظرا إلى علو شأنهم أن يجتمعوا على خلاف ما فارقهم عليه حبيبهم رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وفي الصحيحين عن ابن مسعود وما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى صلاة لميقاتها إلا صلاتين صلاة المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها مع أنه كان بعد الفجر كما يفيده لفظ البخاري فيكون المراد قبل ميقاتها الذي اعتاد الأداء فيه ، والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعتاد التغليس إلا أنه فعله يومئذ ليمتد الوقوف ، ونحن نقول بسنيته بفجر جمع لهذا الحديث.

وخبر عائشة رضي الله تعالى عنها «كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي الصبح بغلس فتشهد معه نساء ملتفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس» حمل الغلس فيه بعض أصحابنا على غلس داخل المسجد ، ويأباه قولها : ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس إذ لا يمكن حمل هذا الغلس المانع من معرفتهن في طريق رجوعهن إلى بيوتهن على غلس داخل المسجد ، وكون المراد ما يعرفهن أحد في داخل المسجد من الغلس خلاف الظاهر على تقدير جعل الجملة حالا من ضمير يرجعن.

١٣٠

والظاهر ما أشرنا إليه ، وكذا جعل الجملة حالا من نساء أو صفة لها كأنه قيل فتشهد معه نساء ملتفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس ثم يرجعن إلى بيوتهن ، وقيل كان ذلك في يوم غيم ، ويبعده كان فإنها شائعة الاستعمال فيما كان يداوم عليه عليه الصلاة والسلام ، وقيل هو منسوخ كما يدل عليه اجتماع الصحابة على التنوير ، ويبعد ذلك أن النسخ يقتضي سابقية وجود المنسوخ ، وقول ابن مسعود : ما رأيت إلخ يفيد أن لا سابقية له. وقال بعضهم : ترجح في الأخبار المتعارضة هنا رواية الرجال خصوصا مثل ابن مسعود فإن الحال أكشف لهم في صلاة الجماعة فتأمل.

وذكر الطحاوي أن الذي ينبغي الدخول في الفجر وقت التغليس والخروج وقت الأسفار ، وهو قول الإمام أبي حنيفة وصاحبيه وهو خلاف ما يذكره الأصحاب عنهم من البدء والختم في الأسفار وهو الذي يفيده حديث الترمذي وغيره والله تعالى أعلم ، ثم إن صلاة الفجر وإن كانت إحدى الصلوات الخمس التي فرضت ليلة الإسراء عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أمته ودلت هذه الآية على وجوب إقامتها كذلك إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يصلها صبح تلك الليلة لعدم العلم بكيفيتها حينئذ وإنما علم الكيفية بعد.

وقد قدمنا قريبا أن البداءة وقعت في صلاة الظهر إشارة إلى أن دينه عليه الصلاة والسلام سيظهر على الأديان ظهورها على بقية الصلوات ، ونوه سبحانه هنا بشأن صلاة الفجر بقوله عزوجل :

(إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ) حيث لم يقل سبحانه إنه (كانَ مَشْهُوداً) أخرج أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي والحاكم وصححاه وجماعة عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في تفسير ذلك : تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، وفي الصحيحين عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر ثم قال أبو هريرة : «اقرءوا إن شئتم (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً)».

والمراد بهؤلاء الملائكة الكتبة والحفظة فتنزل ملائكة النهار وتصعد ملائكة الليل وتلتقي الطائفتان في ذلك الوقت ، وكذا تلتقي الطائفتان وأمر النزول والصعود على العكس وقت العصر كما جاء في الآثار ، وهذا مما يعكر على الإمام في زعمه أن هذا أيضا دليل قوي على أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان إذا شرع في الصلاة من أول الصبح يكون ملائكة الليل حاضرين لبقاء الظلمة فإذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضر ملائكة النهار فإنه يلزمه على هذا البيان الذي لا يروج إلا على الصبيان القول بأن تأخير صلاة العصر إلى أن يزول الضوء وتظهر الظلمة وهو لا يقول به بل لا يقول به أحد.

وهل الطائفة التي تشهد اليوم مثلا تشهد غدا أو كل يوم تشهد طائفة أخرى لم تشهد قبل ولا تشهد بعد فيه خلاف ، وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى فيما يتعلق بذلك.

وقيل يشهد الكثير من المصلين في العادة ، وقيل من حقه أن تشهده الجماعة الكثيرة ، وقيل تشهده وتحضر فيه شواهد القدرة من تبدل الضياء بالظلمة والانتباه بالنوم الذي هو أخو الموت ، وهو احتمال أبداه الإمام وبسط الكلام فيه ، ثم قال : وهذا المراد من قوله تعالى (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) ثم ذكر احتمال كون المراد مشهودا بالجماعة الكثيرة وبسط الكلام أيضا في تحقيقه ، وأنت تعلم أنه لا وجه للحصر المدلول عليه بقوله : وهذا هو المراد ، ثم إبداء ذلك الاحتمال على أنه بعد ما صح تفسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له بما سمعت لا ينبغي أن يقال في غيره هذا هو المراد ، ولا يخفى ما في هذه الجملة من الترغيب والحث على الاعتناء بأمر صلاة الفجر لأن العبد في ذلك الوقت مشيع كراما ومتلقى كراما فينبغي أن يكون على أحسن حال يتحدث به الراحل ويرتاح له النازل.

١٣١

(وَمِنَ اللَّيْلِ) قيل أي وعليك بعض الليل ، وظاهره أنه من باب الإغراء كما نقل عن الزجاج وأبي البقاء في قوله تعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) وتعقبه أبو حيان بأن المغرى به لا يكون حرفا ، ولا يجدي نفعا كون من للتبعيض لأن ذلك لا يجعلها اسما ألا ترى إجماع النحاة على أن واو مع حرف وإن قدرت بمع ، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون القائل بذلك قائلا باسمية (مِنَ) في مثل ذلك كما قالوا باسمية الكاف في نحو (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) [الفيل : ٥] وعن في نحو من عن يمين تارة وشمالي وعلى نحو من عليه ، وكذا القائل بأن ذلك نصب على الظرفية بمقدر أي وقم بعض الليل ، واختار الحوفي أن من متعلقة بفعل دل عليه معنى الكلام أي وأسهر من الليل فالفاء في قوله تعالى : (فَتَهَجَّدْ بِهِ) إما عاطفة على ذلك المقدر أو مفسرة بناء على أنه من أسلوب (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠] وفي الكشف أن الإغراء هو الظاهر هاهنا بخلافه فيما تقدم لأن النصب على التفسير والصلات مختلفة لا يتضح كل الاتضاح ، ومعنى الإغراء من السابق واللاحق تتعاضد الأدلة عليه ، وفيه منع ظاهر ، والتهجد على ما نقل عن الليث الاستيقاظ من النوم للصلاة ويطلق على نفس الصلاة بعد القيام من النوم ليلا يقال : تهجد أي صلى في الليل بعد الاستيقاظ وكذا هجد وهذا يقتضي سابقية النوم في تحقق التهجد فلو لم ينم وصلى ما شاء لا يقال له تهجد ، وهو المروي عن مجاهد والأسود وعلقمة وغيرهم ، وقال المبرد : هو السهر للصلاة أو لذكر الله تعالى ، وقيل : السهر للطاعة وظاهره عدم اشتراط سابقية النوم في تحققه ، والمشهور أن ذلك يسمى قياما وما بعد النوم يسمى تهجدا ، وأغرب الحجاج بن عمرو المازني فإنه روي عنه أنه قال : أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد إنما التهجد الصلاة بعد الرقاد ثم صلاة أخرى بعد رقدة ثم صلاة أخرى بعد رقدة هكذا كانت صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وأنا أقول : إن تخلل النوم بين الصلوات جاء في صحيح مسلم من رواية حصين عن حبيب بن أبي ثابت ، وهي مما استدركها الدار قطني على مسلم لاضطرابها فقد قال وروي عنه على سبعة أوجه وخالف فيه الجمهور يعني الخبر الذي فيه تخلل النوم ، والكثير من الروايات ليس فيه ذلك فليحفظ. واشترط أن لا تكون الصلاة إحدى الخمس فلو نام عن العشاء ثم قام فصلاها لا يسمى متهجدا ولا ضرر في كونها واجبة كأن نام عن الوتر ثم قام إليها ، وفي القاموس الهجود النوم كالتهجد وتهجد استيقظ كهجد ضد ، وقال ابن الأعرابي : هجد الرجل صلى من الليل وهجد نام بالليل ، وقال أبو عبيدة : الهاجد النائم والمصلي ، وفي مجمع البيان أنه يقال هجدته إذا أنمته ، وعليه قول لبيد :

قلت هجدنا فقال طال السرى

ونقل عن ابن برزخ أنه يقال : هجدته إذا أيقظته ومصدر هذا التهجيد ، وصرح في القاموس بأنه من الأضداد أيضا. وذكر بعضهم أن المعروف في كلام العرب كون الهجود بمعنى النوم وفسر التهجد بترك الهجود أي النوم على أن التفعل للسلب كالتأثم والتحنث وهو مأخذ من فسره بالاستيقاظ ، ويجوز أن يقال : إن التفعل للتكلف أي تكلف الهجود بمعنى اليقظة ، ورجح هذا بأن مجيء التفعل للتكلف أكثر من مجيئه للسلب.

وعورض بأن استعمال الهجود في اليقظة مختلف في ثبوته وإن ثبت فهو أقل من استعماله في النوم ، والضمير المجرور في (بِهِ) للقرآن من حيث هو لا بقيد إضافته إلى الفجر ، واستدل بذلك على تطويل القراءة في صلاة التهجد ، وقد صرح العلماء بندب ذلك ، وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة «صليت وراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية تسبيح سبح» الخبر ويجوز أن يكون للبعض المفهوم من قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ) والباء للظرفية أي فتهجد في ذلك البعض.

١٣٢

وقال ابن عطية : هو عائد على الوقت المقدر في النظم الكريم أي قم وقتا من الليل فتهجد فيه (نافِلَةً لَكَ) فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة خاصة بك دون الأمة ، ولعله الوجه في تأخير ذكرها عن ذكر صلاة الفجر مع تقدم وقتها على وقتها ، واستدل به على أن ما أمر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمته مأمورون به أيضا إلا أن يدل دليل على الاختصاص كما هنا ويدل على أن المراد ما ذكر ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في ذلك يعني خاصة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقيام الليل وكتب عليه لكن صحح النون أنه نسخ عنه عليه الصلاة والسلام فرضية التهجد ونقله أبو حامد من الشافعية وقالوا إنه الصحيح.

وقيل الخطاب في (لَكَ) له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد هو وأمته على حد الخطاب في (أَقِمِ الصَّلاةَ) فيما سبق أي فريضة زائدة على الصلوات الخمس لنفعكم ففيه دليل على فرضية التهجد عليه عليه الصلاة والسلام وعلى أمته لكن نسخ ذلك في حق الأمة وبقي في حقه عليه الصلاة والسلام بناء على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك قال : نسخ قيام الليل إلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو ونسخ في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا بناء على الصحيح ، وهو خلاف الظاهر جدا ، ويجوز أن يراد بالنافلة الفضيلة إما لأنه عليه الصلاة والسلام فضل على أمته بوجوبها وأن نسخ بعد أو لأنها فضيلة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزيادة في درجاته وليست بالنسبة إليه مكفرة للذنوب وسادّة للخلل الواقع في الفرائض كما أنها وسائر النوافل بالنسبة إلى الأمة كذلك لكونه عليه الصلاة والسلام قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وفرائضه وسائر تعبداته واقعة على الوجه الأكمل.

وقد أخرج هذا الأخير البيهقي في الدلائل وابن جرير وغيرهما عن مجاهد ، وابن أبي حاتم عن قتادة ، وابن المنذر عن الحسن ، واستحسنه الإمام ، وضعفه الطبري ، وجوز ابن عطية عموم الخطاب كما سمعت آنفا إلا أنه حمل نافلة على تطوعا وليس بشيء أيضا ، وربما يختلج في بعض الأذهان بناء على ما تقدم عن أبي البقاء في قوله تعالى : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) من أنه بتقدير اتبع سنة كما قال سبحانه : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] احتمال أن يكون قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ) إلخ بيانا للاتباع المأمور به ، وهو متضمن للأمر بالصلوات الخمس ، وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يصلونها على ما يدل قول جبريل عليه‌السلام في خبر تعليمه عليه الصلاة والسلام كيفية الصلاة بعد صلاته الخمس : هذا وقت الأنبياء من قبلك فإنه ظاهر في أنهم عليهم‌السلام كانوا يصلونها ، غاية ما في الباب أنه على القول بأنها لم تجتمع لغير نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الصحيح يحتمل أن المراد أنه وقتهم على الإجمال وإن اختص من اختص منهم بوقت ، حيث ورد أن الصبح لآدم ، والظهر لداود ، وفي رواية لإبراهيم ، والعصر لسليمان ، وفي رواية ليونس ، والمغرب ليعقوب ، وفي رواية لعيسى ، والعشاء ليونس ، وفي رواية لموسى عليهم‌السلام إلا أن ذلك لا يضر بل هو أنسب بالأمر باتباع سنة جميعهم ، وقد استدل الإمام على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من سائر الأنبياء عليهم‌السلام بقوله تعالى : «فبهداهم اقتده» من جهة أنه عليه الصلاة والسلام أمر بالاقتداء بهدي جميعهم وامتثل ذلك فكان عنده من الهدى ما عند الجميع فيكون أفضل من كل واحد منهم ، وحينئذ يقال معنى كون ذلك نافلة له عليه الصلاة والسلام أنه زائد على الصلوات الخمس خاص به صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون سائر الأنبياء عليهم‌السلام المأمور باتباع سنتهم ، وهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ويعول عليه بل اللائق به أن يجعل من قبيل حديث النفس وتخيلها بحرا من مسك موجه الذهب فإن فساده تأصيلا وتفريعا مما لا يخفى على من له أدنى مسكة وأقل اطلاع ، والله تعالى العاصم من الزلل والحافظ من الخطأ والخطل ، وانتصاب (نافِلَةً) إما على المصدرية بتقدير تنفل ؛ وقدر الحوفي نفلناك أو بجعل تهجد بمعنى تنفل أو بجعل نافلة بمعنى تهجدا ، فإن ذلك عبادة زائدة ، وإما على الحال من الضمير الراجع إلى القرآن أي حال كونه صلاة نافلة كما

١٣٣

قال أبو البقاء ، وإما على المفعول لتهجد كما جوزه الحوفي إذا كان بمعنى صل ، وجعل الضمير المجرور للبعض المفهوم ، أو للوقت المقدر أي فصل فيه نافلة لك (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ) الذي يبلغك إلى كمالك اللائق بك من بعد الموت الأكبر لما انبعثت من الموت الأصغر بالصلاة والعبادة ، فالمعنى على التعليل والتهوين لمشقة قيام الليل حتى زعم بعضهم أن عسى بمعنى كي ، وهو وهم بل هي كما قال أهل المعاني للأطماع ، ولما كان إطماع الكريم إنسانا بشيء ثم حرمانه منه غرورا والله عزوجل أجل وأكرم من أن يغر أحدا فيطمعه في شيء ثم لا يعطيه قالوا هي للوجوب منه تعالى مجده على معنى أن المطمع به يكون ولا بد للوعد ، وقيل هي على بابها للترجي لكن يصرف إلى المخاطب أي لتكن على رجاء من أن يبعثك ربك (مَقاماً مَحْمُوداً) وهي تامة و (أَنْ يَبْعَثَكَ) فاعلها و (رَبُّكَ) فاعله و (مَقاماً) كما قال جمع منصوب على الظرفية إما على إضمار فعل الإقامة أو على تضمين الفعل المذكور ذلك أي عسى أن يبعثك فيقيمك مقاما أي في مقام ، أو يقيمك في مقام محمود باعثا إذ لا يصح أن يعمل في مثل هذا الظرف إلا فعل فيه معنى الاستقرار خلافا للكسائي ، واستظهر في البحر كونه معمولا ليبعثك ، وهو مصدر من غير لفظ الفعل لأن نبعث بمعنى نقيم تقول أقيم من قبره ، وبعث من قبره.

وجوز أبو البقاء وغيره كونه حالا بتقدير مضاف أي نبعثك ذا مقام ، وقيل يجوز أن يكون مفعولا به ليبعثك على تضمينه معنى نعطيك ، وجوز أبو حيان أن تكون عسى ناقصة و (رَبُّكَ) الفاعل على تقدير أن ينتصب (مَقاماً) بمحذوف لا يبعث لئلا يلزم الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي ، وتنكير (مَقاماً) للتعظيم ، والمراد بذلك المقام مقام الشفاعة العظمى في فصل القضاء حيث لا أحد إلا وهو تحت لوائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول لست بصاحب ذلك ثم موسى فيقول كذلك ثم محمد فيشفع فيقضي الله تعالى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة فيومئذ يبعثه الله تعالى مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم».

وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ويبدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك فيقول إني أذنبت ذنبا أهبطت منه إلى الأرض ولكن ائتوا نوحا فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ولكن اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقول ائتوا موسى (١) فيقول إني قتلت نفسا ولكن ائتوا عيسى فيقول إني عبدت من دون الله تعالى ولكن ائتوا محمدا فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال من هذا فأقول محمد فيفتحون لي ويقولون مرحبا فأخر ساجدا فيلهمني الله تعالى من الثناء والحمد والمجد فيقال ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع وقل يسمع لقولك فهو المقام المحمود الذي قال الله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً).

وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام يسجد أربع سجدات أي كسجود الصلاة كما هو الظاهر تحت العرش فيجاب لما فزعوا إليه ، وذكر الغزالي في الدرة الفاخرة أن بين إتيانهم نبيا وإتيانهم ما بعده ألف سنة ولا أصل له كما قال الحافظ ابن حجر ، وقيل هو مقام الشفاعة لأمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي في الدلائل.

__________________

(١) قوله فيقول ائتوا موسى إلخ كذا في نسخة المؤلف وعبارة صحيح الترمذي فيقول إني كذبت ثلاث كذبات ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله ولكن ائتوا موسى فيأتون موسى فيقول إلخ.

١٣٤

عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن المقام المحمود في الآية فقال : «هو المقام الذي شفع فيه لأمتي» وأجاب من ذهب إلى الأول بأنه يحتمل أن يكون المراد المقام الذي أشفع فيه أولا لأمتي فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أيضا من حديث طويل في الشفاعة فيه فزع الناس إلى آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام واعتذار كل منهم ما عدا عيسى عليه‌السلام بذنب أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فيأتوني ـ يعني الناس ـ بعد من علمت من الأنبياء عليهم‌السلام فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله تعالى لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله تعالى علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب فيقال يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب» ومن الناس من فسره بمقام الشفاعة في موقف الحشر حيث يعترف الجميع بالعجز أعم من أن تكون عامة كالشفاعة لفصل القضاء أو خاصة كالشفاعة لبعض عصاة أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العفو عنهم ، والاقتصار على أحد الأمرين في بعض الأخبار لنكتة اقتضاها الحال ولكل مقام مقال ، وحمل هذا الشفاعة للأمة في خبر أبي هريرة المتقدم على الشفاعة لبعض عصاتهم في الموقف قبل دخولهم النار وإلا فلو أريد الشفاعة لهم بعد الحساب ودخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار كما روي عن أبي سعيد لم يتيسر الجمع بين الروايات إلا بأن يقال : المقام المحمود هو مقام الشفاعة أعم من أن تكون في الموقف عامة وخاصة وأن تكون بعد ذلك ويكون الاقتصار لنكتة ، وقد جاء تفسيره بمقام الشفاعة مطلقا ، فقد أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المقام المحمود فقال : هو الشفاعة ، وأخرج ابن جرير عن وهب عن أبي هريرة «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : المقام المحمود الشفاعة».

وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه فسره بذلك ، ثم الشفاعة من حيث هي وإن شاركه فيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم غيره من الملائكة والأنبياء عليهم‌السلام وبعض المؤمنين إلا أن الشفاعة الكاملة والأنواع الفاضلة لا تثبت لغيره عليه الصلاة والسلام ، وقد أوصل بعضهم الشفاعة المختصة به صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عشر وذكره بعض شراح البخاري فليراجع ، ووصف المقام بأنه محمود على ما ذكر باعتبار أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحمد فيه على أنعامه الواصل إلى الخاص والعام من أصناف الأنام.

وأخرج النسائي والحاكم وصححه وجماعة عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال : «يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر حفاة عراة كما خلقوا قياما لا تكلم نفس إلا بإذنه فينادي يا محمد فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت» فهذا المقام المحمود وأخرج الطبراني عن ابن عباس أنه قال في الآية : يجلسه فيما بينه وبين جبريل عليه‌السلام ويشفع لأمته فذلك المقام المحمود.

وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنه قال : المقام المحمود أن يجلسه معه على عرشه ، وأنت تعلم أن الحمد على أكثر ما في هذه الروايات مجاز عند من يقول : إنه مختص بالثناء على الأنعام ، وأما عند من يقول بعدم الاختصاص فلا مجاز ، وتعقب الواحدي القول بأن المقام المحمود إجلاسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عزوجل على العرش بعد ذكر روايته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بأنه قول رذل موحش فظيع لا يصح مثله عن ابن عباس ، ونص الكتاب ينادي بفساده من وجوه ، الأول أن البعث ضد الإجلاس يقال بعث الله تعالى الميت إذا أقامه من قبره وبعثت البارك والقاعد فانبعث فتفسيره به تفسير الضد بالضد ، الثاني لو كان جالسا سبحانه وتعالى على العرش لكان محدودا متناهيا فيكون محدثا تعالى عن

١٣٥

ذلك علوا كبيرا ، الثالث أنه سبحانه قال (مَقاماً) ولم يقل مقعدا والمقام موضع القيام لا القعود ، الرابع أن الحمقى والجهال يقولون : إن أهل الجنة كلهم يجلسون معه تعالى ويسألهم عن أحوالهم الدنياوية فلا مزية لهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بإجلاسه معه عزوجل ؛ الخامس أنه إذا قيل : بعث السلطان فلانا يفهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه انتهى. وأبو عمر لم يطلع إلا على رواية ذلك عن مجاهد فقال : إن مجاهدا وإن كان أحد الأئمة بتأويل القرآن حتى قيل : إذا جاءك التأويل عن مجاهد فحسبك إلا أن له قولين مهجورين عند أهل العلم ، أحدهما تأويل المقام المحمود بهذا الإجلاس ، والثاني تأويل إلى ربها ناظرة بانتظار الثواب.

وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال : من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم فما زال أهل العلم يحدثون به ، قال ابن عطية : أراد من أنكره على تأويله فهو متهم وقد يؤول قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلسني معه على رفع محله وتشريفه على خلقه كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) [الأعراف : ٢٠٦] وقوله سبحانه : حكاية (ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً) [التحريم : ١١] وقوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت : ٦٩] إلى غير ذلك مما هو كناية عن المكانة لا عن المكان.

وأنت تعلم أنه لا ينبغي لمجاهد ولا لغيره أن يفسر المقام المحمود بالإجلاس على العرش حسبما سمعت من غير أن يثبت عنده ذلك الإجلاس في خبر كخبر الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله سبحانه : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ) إلخ يجلسني معه على السرير» فإن تمسك المفسر بهذا أو نحوه لم يناظر إلا بالطعن في صحته وبعد إثبات الصحة لا مجال للمؤن إلا التسليم ، وما ذكره الواحدي لا يستلزم عدم الصحة فكم وكم من حديث نصوا على صحته ويلزم من ظاهره المحال كحديث أبي سعيد الخدري المشتمل على رؤية المؤمنين الله عزوجل ثم إتيانه إياهم في أدنى صورة من التي رأوه فيها ، وقوله تعالى لهم : (أَنَا رَبُّكُمْ) [الأنبياء : ٩٢] وقولهم نعوذ بالله تعالى منك حتى يكشف لهم عن ساق فيسجدون ثم يرفعون رءوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة وهو في الصحيحين ، وحديث لقيط بن عامر المشتمل على قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تلبثون ما لبثتم ثم يتوفى نبيكم ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصائحة ـ لعمر إلهك ـ لا تدع على ظهرها شيئا إلا مات والملائكة الذين مع ربك عزوجل فأصبح ربك يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد» الحديث ، وقد رواه أئمة السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد إلى ما لا يحصى من هذا القبيل ، ومذاهب المحدثين وأهل الفكر من العلماء في الكلام على ذلك مما لا تخفى ، ومتى أجريت هناك فلتجر هنا فالكل قريب من قريب. والصوفية يقولون : إن لله عزوجل الظهور فيما يشاء على ما يشاء وهو سبحانه في حال ظهوره باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق فإنه العزيز الحكيم ومتى ظهر جل وعلا في صورة أجريت عليه سبحانه أحكامها من حيث الظهور فيوصف عز مجده عندهم بالجلوس ونحوه من تلك الحيثية وينحل بذلك أمور كثيرة إلا أنه مبني على ما دون إثباته خرط القتاد ويرد على ما ذكره الواحدي في الوجه الثالث أن المقام وإن كان في الأصل بمعنى محل القيام إلا أنه شاع في مطلق المحل ويطلق على الرتبة والشرف ، وعلى ما ذكره في الوجه الأول أنه ليس هناك إلا تفسير المقام المحمود بالإجلاس لا تفسير البعث بالإجلاس نعم فيه مسامحة ، والمراد أن إحلاله في المحل المحمود هو إجلاسه على العرش ، وهذا المعنى يتأتى بإبقاء البعث على معناه وتقدير فيقيمك بمعنى فيحلك وبتفسيره بالإقامة بمعنى الإحلال ، وقد يقال : لا مسامحة والمراد من المقام الرتبة ، والبعث متضمن معنى الإعطاء أي عسى يعطيك ربك رتبة محمودة وهي إجلاسه إياك على عرشه باعثا ، وما ذكره في الوجه الثاني حق لو أريد من الجلوس على العرش ظاهره أن أريد معنى آخر فلا نسلم اللازم وباب التأويل واسع ، وقد أول

١٣٦

الإجلاس معه على رفع المحل والتشريف وهو مقول بالتشكيك فمتى صح أن أهل الجنة كلهم يجلسون معه آمنا به مع إثبات المزية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاندفع ما ذكره في الوجه الرابع ، ويرد على ما في الوجه الخامس أن الإجلاس معه لم يفهم من مجرد البعث وما ادعى أحد ذلك فكون بعث السلطان فلانا يفهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه لا يضرنا كما لا يخفى على منصف.

وبالجملة كل ما قيل أو يقال لا يصغى إليه إن صح التفسير عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكن يبقى حينئذ أنه يلزم التعارض بين ظواهر الروايات ، ومن هنا قال بعضهم : المراد بالمقام المحمود ما ينتظم كل مقام يتضمن كرامة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والاقتصار في بعض الروايات على بعض لنكتة نحو ما مر ، ووصفه بكونه محمودا إما باعتبار أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحمد لله تعالى عليه أبلغ الحمد أو باعتبار أن كل من يشاهده يحمده ولم يشترط أن يكون الحمد في مقابلة النعمة ويدخل في هذا كل مقام له صلى‌الله‌عليه‌وسلم محمود في الجنة.

وكذا يدخل فيه ما جوز مفتي الصوفية سيدي شهاب الدين السهروردي أن يكون المقام المحمود وهو إعطاؤه عليه الصلاة والسلام مرتبة من العلم لم تعط لغيره من الخلق أصلا فإنه ذكر في رسالة له في العقائد أن علم عوام المؤمنين يكون يوم القيامة كعلم علمائهم في الدنيا ويكون علم العلماء إذ ذاك كعلم الأنبياء عليهم‌السلام ويكون علم الأنبياء كعلم نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعطى نبينا عليه الصلاة والسلام من العلم ما لم يعط أحد من العالمين ولعله المقام المحمود ولم أر ذلك لغيره عليه الرحمة والله تعالى أعلم.

ثم هذا الاختلاف في المقام المحمود هنا لم يقع فيه في دعاء الأذان بل ادعى العلامة ابن حجر الهيتمي أنه فيه مقام الشفاعة العظمى لفصل القضاء اتفاقا فتأمل في هذا المقام والله تعالى ولي الإنعام والإفهام.

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) أي إدخالا مرضيا جيدا لا يرى فيه ما يكره ، والإضافة للمبالغة.

(وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) نظير الأول واختلف في تعيين المراد من ذلك فأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم أن المراد إدخال المدينة والإخراج من مكة ويدل عليه ما قيل قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) إلخ.

وأيد بما أخرجه أحمد والطبراني والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة فأنزل الله تعالى عليه (وَقُلْ رَبِ) الآية ، وبدأ بالإدخال لأنه الأهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه الإدخال في القبر والإخراج منه وأيد بذكره بعد البعث ، وقيل إدخال مكة ظاهرا عليها بالفتح وإخراجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها آمنا من المشركين ، وقيل إخراجه من المدينة وإدخال مكة بالفتح ، وقال محمد بن المنكدر : إدخاله الغار وإخراجه منه ، وقيل الإدخال في الجنة والإخراج من مكة ، وقيل الإدخال في الصلاة والإخراج منها ، وقيل الإدخال في المأمورات والإخراج عن المنهيات وقيل الإدخال فيما حمله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أعباء النبوة وأداء الشرع وإخراجه منه مؤديا لما كلفه من غير تفريط ، وقيل الإدخال في بحار التوحيد والتنزيه والإخراج من الاشتغال بالدليل إلى معرفة المدلول والتأمل في الآثار إلى الاستغراق في معرفة الواحد القهار. وقيل وقيل والأظهر أن المراد إدخاله عليه الصلاة والسلام في كل ما يدخل فيه ويلابسه من مكان أو أمر وإخراجه منه فيكون عاما في جميع الموارد والمصادر واستظهر ذلك أبو حيان وفي الكشف أنه الوجه الموافق لظاهر اللفظ والمطابق لمقتضى النظم فسابقه ولا حقه لا يختصان بمكان دون آخر ، وكفاك قوله تعالى (وَاجْعَلْ لِي) إلخ شاهد صدق على إيثاره.

وقرأ قتادة وأبو حيوة وحميد وإبراهيم بن أبي عبلة «مدخل» و «مخرج» بفتح الميم فيهما ، قال صاحب اللوامح :

١٣٧

وهما مصدران من دخل وخرج لكنهما جاءا من معنى أدخلني وأخرجني السابقين دون لفظهما ومثل ذلك (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] ويجوز أن يكونا اسمي مكان وانتصابهما على الظرفية ، وقال غيره من المحققين : هما مصدران منصوبان على تقدير فعلين ثلاثيين إذ مصدر المزيدين مضموم الميم كما في القراءة المتواترة أي أدخلني فادخل مدخل صدق وأخرجني فاخرج مخرج صدق.

(وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) أي حجة تنصرني على من خالفني وهو مراد مجاهد بقوله حجة بينة ، وفي رواية أخرى عنه أنه كتاب يحوي الحدود والأحكام وعن الحسن أنه أريد التسلط على الكافرين بالسيف وعلى المنافقين بإقامة الحدود ، وقريب ما قيل إن المراد قهرا وعزا تنصر به الإسلام على غيره.

وزعم بعضهم أنه فتح مكة ، وقيل السلطان أحد السلاطين الملوك فكأن المراد الدعاء بأن يكون في كل عصر ملك ينصر دين الله تعالى ، قيل وهو ظاهر ما أخرجه البيهقي في الدلائل والحاكم وصححه عن قتادة قال : أخرجه الله تعالى من مكة مخرج صدق وأدخله المدينة مدخل صدق وعلم نبي الله أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله تعالى وحدوده وفرائضه فإن السلطان عزة من الله عزوجل جعلها بين أظهر عباده لو لا ذلك لأغار بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم وفيه نظر ، وفعيل على سائر الأوجه مبالغ في فاعل.

وجوز أن يكون في بعضها بمعنى مفعول ، والحق أن المراد من السلطان كل ما يفيده الغلبة على أعداء الله تعالى وظهور دينه جل شأنه ووصفه بنصيرا للمبالغة (وَقُلْ جاءَ الْحَقُ) الإسلام والدين الثابت الراسخ.

والجملة عطف على جملة (قُلْ) أولا واحتمال أنها من مقول القول الأول لما فيها من الدلالة على الاستجابة في غاية البعد.

(وَزَهَقَ الْباطِلُ) أي زال واضمحل ولم يثبت الشرك والكفر وتسويلات الشيطان من زهقت نفسه إذا خرجت من الأسف ، وعن قتادة أن الحق القرآن والباطل الشيطان ، وعن ابن جريج أن الأول الجهاد والثاني الشرك وعن مقاتل الحق عبادة الله تعالى والباطل عبادة الشيطان وهذا قريب مما ذكرنا.

(إِنَّ الْباطِلَ) كائنا ما كان (كانَ زَهُوقاً) مضمحلا غير ثابت الآن أو فيما بعد أو مطلقا لكونه كان لم يكن ، وصيغة فعول للمبالغة.

أخرج الشيخان وجماعة عن ابن مسعود قال : دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده وقول (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ، وفي رواية الطبراني في الصغير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخر لوجهه فيقول (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) حتى مر عليها كلها.

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ما هو في تقديم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي للمرضى ، و (مِنَ) للبيان وقدم اهتماما بشأنه ، وأنكر أبو حيان جواز التقديم واختار هنا كون من لابتداء الغاية وهو إنكار غير مسموع فيفيد أن كل القرآن كذلك. وفي الخبر من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى أو للتبعيض ومعناه على ما في الكشف وننزل ما هو شفاء أي تدرج في نزوله شفاء فشفاء وليس معناه أنه منقسم إلى ما هو شفاء وليس بشفاء والمنزل الأول كما وهم الحوفي فأنكر جواز إرادة التبعيض وإنما المعنى أن ما لم ينزل بعد ليس بشفاء للمؤمنين لعدم الاطلاع وأن كل ما ينزل فهو شفاء لداء خاص يتجدد نزول الشفاء كفاء تجدد الداء.

١٣٨

وفيه أيضا أن هذا الوجه أوفق لمقتضى المقام ولا يخفى عليك بعده ولذا اختير في توجيه التبعيض أنه باعتبار الشفاء الجسماني وهو من خواص بعض دون بعض ومن البعض الأول الفاتحة وفيها آثار مشهورة ، وآيات الشفاء وهي ست (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) [التوبة : ١٤] (شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) [يونس : ٥٧] ، (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) [النحل : ٦٩] (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء : ٨٠] (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) [فصلت : ٤٤].

قال السبكي : وقد جربت كثيرا ، وعن القشيري أنه مرض له ولد أيس من حياته فرأى الله تعالى في منامه فشكى له سبحانه ذلك فقال له : اجمع آيات الشفاء واقرأها عليه أو اكتبها في إناء واسقه فيه ما محيت به ففعل فشفاه الله تعالى ، والأطباء معترفون بأن من الأمور والرقى ما يشفي بخاصية روحانية كما فصله الأندلسي في مفرداته ، وكذا داود في الجلد الثاني من تذكرته ، ومن ينكر لا يعبأ به ، نعم اختلف العلماء في جواز نحو ما صنعه القشيري عن الرؤيا وهو نوع من النشرة وعرفوها بأنها أن يكتب شيء من أسماء الله تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقاه فمنع ذلك الحسن والنخعي ومجاهد ، وروى أبو داود من حديث جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن النشرة فقال : هي من عمل الشيطان ، وأجاز ذلك ابن المسيب ، والنشرة التي قال فيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال هي النشرة التي كانت تفعل في الجاهلية وهي أنواع ، منها ما يفعله أهل التعزيم في غالب الإعصار من قراءة أشياء غير معلومة المعنى ولم تثبت في السنة أو كتابتها وتعليقها أو سقيها ، وقال مالك : لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بذلك مدافعة العين ، وعنى بذلك أنه لا بأس بالتعليق بعد نزول البلاء رجاء الفرج والبر. كالرقي التي وردت السنة بها من العين ، وأما قبل النزول ففيه بأس وهو غريب ، وعند ابن المسيب يجوز تعليق العوذة من كتاب الله تعالى في قصبة ونحوها وتوضع عند الجماع ، وعند الغائط ولم يقيد بقبل أو بعد ، ورخص الباقر في العوذة تعلق على الصبيان مطلقا ، وكان ابن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان كبيرا أو صغيرا مطلقا ، وهو الذي عليه الناس قديما وحديثا في سائر الأمصار لكن توجيه التبعيض بما ذكر لا يساعده قوله سبحانه :

(وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) أي لا يزيد القرآن كله أو كل بعض منه الكافرين المكذبين به الواضعين للأشياء في غير موضعها مع كونه في نفسه شفاء لما في الصدور من أدواء الريب وأسقام الأوهام إلا خسارا أي هلاكا بكفرهم وتكذيبهم وزيادتهم من حيث إنهم كلما جددوا الكفر والتكذيب بالآية النازلة تدريجا ازدادوا بذلك هلاكا ، وفسر بعضهم الخسار بالنقصان ، ورجح أبو السعود الأول بأن ما بهم من داء الكفر والضلال حقيق بأن يعبر عنه بالهلاك لا بالنقصان المنبئ عن حصول بعض مبادئ الإسلام فيهم ، وفيه كما قال إيماء إلا أن ما بالمؤمنين من الشبه والشكوك المعترية لهم في أثناء الاهتداء والاسترشاد بمنزلة الأمراض ، وما بالكفرة من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك ، وإسناد الزيادة المذكورة إلى القرآن مع أنهم المزدادون في ذلك لسوء صنيعهم باعتبار كونه سببا لذلك ، وفيه تعجيب من أمره من حيث كونه مدارا للشفاء والهلاك :

كماء صار في الأصداف درا

وفي ثغر الأفاعي صار سما

هذا وربما يقال : إن انقسام القرآن إلى ما هو شفاء من أدواء الريب وإسقام الوهم وإلى ما ليس كذلك مما لا ينبغي أن يكون فيه ريب لأن الشافي من أدواء الريب إنما هو الأدلة كالآيات الدالة على بطلان الشرك وثبوت الوحدانية له تعالى وكالآيات الدالة على إمكان الحشر الجسماني وليس كل آيات القرآن كذلك فإن منه ما هو أمر بصلاة وصوم وزكاة ومنه ما هو نهي عن قتل وزنى وسرقة ونحو ذلك وهو لا يشفي به أدواء الريب وإسقام الوهم وكذا آيات

١٣٩

القصص ، نعم فيما ذكر نفع غير الشفاء من تلك الأدواء فهو رحمة وحينئذ يقال في الآية حذف أي ننزل من القرآن ما هو شفاء وما هو رحمة على معنى ننزل من القرآن آيات هي شفاء وآيات هي رحمة.

وفيه أن الريب غير مختص فيما يتعلق بالله عزوجل وبإمكان الحشر بل يكون أيضا في الرسالة وصدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعواها ، وما من آية في القرآن إلا وهي مستقلة أو لها دخل في الشفاء من ذلك الداء لما فيها من الإعجاز وكذا ما من آية إلا وفيها نفع من جهة أخرى فكل آية رحمة كما أن كلها شفاء لكن كونه رحمة بالنسبة إلى كل واحد واحد من المؤمنين إذ كل مؤمن ينتفع به نوعا من الانتفاع وكونه شفاء بالفعل بالنسبة إلى من عرض له شيء من أدواء الريب وأسقام الوهم وليس كل المؤمنين كذلك ، والقول بأن كلا كذلك في أول الإيمان غير مسلم ولا يحتاج إليه كما لا يخفى.

والإمام عمم شفائيته وقد أحسن فقال : هو شفاء للأمراض الروحانية وهي نوعان : اعتقادات باطلة وأخلاق مذمومة فلاشتماله على الدلائل الحقة الكاشفة عن المذاهب الباطلة في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر المبينة لبطلانها يشفي عن النوع الأول من الأمراض ولاشتماله على تفاصيل الأخلاق المذمومة وتعريف ما فيها من المفاسد والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة والأعمال المحمودة يشفي عن النوع الآخر ، والشفاء إشارة إلى التخلية والرحمة إشارة إلى التحلية ولأن الأولى أهم من الثانية قدم الشفاء على الرحمة فتأمل والله تعالى الموفق.

وقرأ البصريان «ننزل» بالنون والتخفيف ، وقرأ مجاهد بالياء والتخفيف ورواها المروزي عن حفص.

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «شفاء ورحمة» بنصبهما ، قال أبو حيان : ويتخرج ذلك على أنهما حالان والخبر للمؤمنين والعامل في الحال ما في الجار والمجرور من الفعل ، ونظير ذلك (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧] في قراءة نصب «مطويات» وقول الشاعر :

رهط ابن كوز محقبى أدراعهم

فيهم ورهط ربيعة بن حذار

ثم قال : وتقديم الحال على العامل فيه من الظرف لا يجوز إلا عند الأخفش ، ومن منع جعله منصوبا على إضمار أعني ، وأنت تعلم أن من يجوز مجيء الحال من المبتدأ لا يحتاج إلى ذلك (وَإِذا أَنْعَمْنا) بالصحة والسعة ونحوهما (عَلَى الْإِنْسانِ) أي جنسه فيكفي في صحة الحكم وجوده في بعض الأفراد ولا يضر وجود نقيضه في البعض الآخر ، وقيل المراد به الوليد بن المغيرة (أَعْرَضَ) عن ذكرنا كأنه مستغن عنا فضلا عن القيام بمواجب شكرنا (وَنَأى بِجانِبِهِ) لوى عطفه عن طاعتنا وولاها ظهره ، وأصل معنى النأي البعد وهو تأكيد للإعراض بتصوير صورته فهو أوفى بتأدية المراد منه ، ومثله يجوز عطفه لإيهام المغايرة بينهما وهو أبلغ من ترك العطف على ما بين في محله ، على أن ما ذكره أهل المعاني من أن التأكيد يتعين فيه ترك العطف لكمال الاتصال غير مسلم ، والجانب على ظاهره والمراد ترك ذلك ، ويجوز أن يكون كناية عن الاستكبار فإن ثنى العطف من أفعال المستكبرين ولا يبعد أن يراد بالجانب النفس كما يقال جاء من جانب فلان كذا أي منه وهو كناية أيضا كما يعبر بالمقام والمجلس عن صاحبه ، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان «وناء» هنا وفي [فصلت : ٥١] فقيل ذلك من باب القلب ووضع العين محل اللام كراء ووراء ، وقيل لا قلب وناء بمعنى نهض كما في قوله :

حتى إذا ما التأمت مفاصله

وناء في شق الشمال كاهله

أي نهض متوكئا على شماله ، وفسر نهض هنا بأسرع والكلام على تقدير مضاف أي أسرع بصرف جانبه ، وقيل : معناه تثاقل عن أداء الشكر فعل المعرض (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) من مرض أو فقر أو نازلة من النوازل (كانَ

١٤٠