روح المعاني - ج ٨

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٨

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٨

من أموالنا. والفاء لتفريع العرض على إفسادهم في الأرض. وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي وحمزة والكسائي «خراجا» بألف بعد الراء وكلاهما بمعنى واحد كالنول والنوال. وقيل الخرج المصدر أطلق على الخراج والخراج الاسم لما يخرج. وقال ابن الأعرابي : الخرج على الرءوس بقال : أد خراج أرضك وقال ثعلب : الخرج أخص من الخراج. وقيل : الخرج المال يخرج مرة والخراج الخرج المتكرر وقيل الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك أداؤه (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) حاجزا يمنعهم من الوصول إلينا. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر سدا بضم السين.

(قالَ ما مَكَّنِّي) بالإدغام ، وقرأ بن كثير وحميد بالفك أي الذي مكنني (فِيهِ رَبِّي) وجعلني فيه سبحانه مكينا قادرا من الملك والمال وسائر الأسباب (خَيْرٌ) أي مما تريدون أن تبذلوه إلى من الخرج فلا حاجة بي إليه (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) أي بما يتقوى به على المقصود من الآلات كزبر الحديد أو من الناس أو الأعم منهما ، والفاء لتفريع الأمر بالإعانة على خيرية ما مكنه الله تعالى فيه من مالهم أو على عدم قبول خرجهم (أَجْعَلْ) جواب الأمر (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ) تقديم إضافة الظرف إلى ضمير المخاطبين على إضافته إلى ضمير يأجوج ومأجوج لإظهار كمال العناية بمصالحهم كما راعوه في قولهم (بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) أي حاجزا حصينا وحجابا متينا وهو أكبر من السد وأوثق يقال : ثوب مردم أي فيه رقاع فوق رقاع ، ويقال : سحاب مردم أي متكاثف بعضه فوق بعض ، وذكر أن أصل معناه سد الثلمة بالحجارة ونحوها ، وقيل : سد الخلل مطلقا ، ومنه قول عنترة:

هل غادر الشعراء من متردم

ثم أطلق على ما ذكر ، وقيل : هو والسد بمعنى ، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : هو كأشد الحجاب وعليه يكون قد وعدهم بالإسعاف بمرامهم فوق ما يرجونه وهو اللائق بشأن الملوك (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) جمع زبرة كغرف في غرفة وهي القطعة العظيمة ، وأصل الزبر الاجتماع ومنه زبرت الكتاب جمعت حروفه وزبرة الأسد لما اجتمع على كاهله من الشعر ، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن (زُبَرَ الْحَدِيدِ) فقال : قطعة وأنشد قول كعب بن مالك :

تلظى عليهم حين شد حميها

بزبر الحديد والحجارة شاجر

وطلب إيتاء الزبر لا ينافي أنه لم يقبل منهم شيئا لأن المراد من الإيتاء المأمور به الإيتاء بالثمن أو مجرد المناولة والإيصال وإن كان ما آتوه له لا إعطاء ما هو لهم فهو معونة مطلوبة ، وعلى تسليم كون الإيتاء بمعنى الإعطاء لا المناولة يقال : إن إعطاء الآلة للعمل لا يلزمه تملكها ولو تملكها لا يعد ذلك جعلا فإنه إعطاء المال لا إعطاء مثل هذا ، وينبئ عن أن المراد ليس الإعطاء قراءة أبي بكر عن عاصم «ردما ائتوني» بكسر التنوين ووصل الهمزة من أتاه بكذا إذ جاء به له وعلى هذه القراءة نصب (زُبُراً) بنزع الخافض أي جيئوني بزبر الحديد وتخصيص زبر الحديد بالذكر دون الصخور والحطب ونحوهما لما أن الحاجة إليها أمس إذ هي الركن القوي في السد ووجودها أعز.

وقرأ الحسن «زبر» بضم الباء كالزاي (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) في الكلام حذف أي فأتوه إياها فأخذ يبني شيئا فشيئا حتى إذا جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويا لهما في العلو فبين مفعول ساوى وفاعله ضمير ذي القرنين ، وقيل : الفاعل ضمير السد المفهوم من الكلام أي فأتوه إياها فأخذ يسد بها حتى إذا ساوى السد الفضاء الذي بين الصدفين ويفهم من ذلك مساواة السد في العلو للجبلين ، والصدف كما أشرنا إليه جانب الجبل وأصله على ما قيل : الميل ، ونقل في الكشف أنه لا يقال للمنفرد صدف حتى يصادفه الآخر ثم قال : فهو من الأسماء المتضايفة

٣٦١

كالزوج وأمثاله ، وقال أبو عبيدة : وهو كل بناء عظيم مرتفع ولا يخفى أنه ليس بالمراد هنا.

وزعم بعضهم أن المراد به هنا الجبل وهو خلاف ما عليه الجمهور. وقرأ قتادة سوى من التسوية.

وقرأ ابن أبي أمية عن أبي بكر عن عاصم «سووي» بالبناء للمجهول ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والزهري ومجاهد والحسن «الصدفين» بضم الصاد والدال وهي لغة حمير كما أن فتحهما في قراءة الأكثرين لغة تميم ، وقرأ أبو بكر وابن محيصن وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن «الصدفين» بضم فسكون.

وقرأ ابن جندب بفتح فسكون ، وروي ذلك عن قتادة ، وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ بضم ففتح وهي قراءة أبان عن عاصم ، وقرأ الماجشون بفتح فضم.

(قالَ) للعملة (انْفُخُوا) أي بالكيران في زبر الحديد الموضوعة بين الصدفين ففعلوا (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ) أي جعل المنفوخ فيه (ناراً) أي كالنار في الحرارة والهيئة فهو من التشبيه البليغ ، وإسناد الجعل المذكور إلى ذي القرنين مع أنه فعل الفعلة للتنبيه على أنه العمدة في ذلك وهم بمنزلة الآلة (قالَ) الذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها ، وقيل لأولئك النافخين قال لهم بعد أن نفخوا في ذلك حتى صار كالنار وتم ما أراده منهم أولا (آتُونِي) من الذين يتولون أمر النحاس (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أي آتوني قطرا أفرغ عليه قطرا فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، وبه تمسك البصريون على أن إعمال الثاني في باب التنازع أولى إذ لو كان (قِطْراً) مفعول (آتُونِي) لأضمر مفعول (أُفْرِغْ) وحذفه وإن جاز لكونه فضلة إلا أنه يوقع في لبس.

والقطر كما أشرنا إليه النحاس المذاب وهو قول الأكثرين ، وقيل : الرصاص المذاب ، وقيل : الحديد المذاب وليس بذاك ، وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة وأبو بكر بخلاف عنه «ائتوني» بهمزة الوصل أي جيئوني كأنه يستدعيهم للإغاثة باليد عند الإفراغ ، وإسناد الإفراغ إلى نفسه للسر الذي وقفت عليه آنفا ، وكذا الكلام في قوله اجعل وقوله (ساوى) على أحد القولين (فَمَا اسْطاعُوا) بحذف تاء الافتعال تخفيفا وحذرا عن تلاقي المتقاربين في المخرج وهما الطاء والتاء.

وقرأ حمزة وطلحة بإدغام التاء في الطاء وفيه جمع بين الساكنين على غير حده ولم يجوزه أبو علي وجوزه جماعة ، وقرأ الأعشى عن أبي بكر «فما اصطاعوا» بقلب السين صادا لمجاورة الطاء ، وقرأ الأعمش «فما استطاعوا» بالتاء من غير حذف والفاء فصيحة أي ففعلوا ما أمروا به من إيتاء القطر أو الإتيان فأفرغ عليه فاختلط والتصق بعضه ببعض فصار جبلا صلدا فجاء يأجوج ومأجوج وقصدوا أن يعلوه وينقبوه فما اسطاعوا (أَنْ يَظْهَرُوهُ)(١) أي يعلوه ويرقوا فيه لارتفاعه وملاسته ، قيل : كان ارتفاعه مائتي ذراع ، وقيل : ألف وثمانمائة ذراع (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) لصلابته وثخانته. قيل : وكان عرضه خمسين ذراعا وكان أساسه قد بلغ الماء وقد جعل فيه الصخر والنحاس المذاب وكانت زبر الحديد للبناء فوق الأرض ، ولا يخفى أن إفراغ القطر عليها بعد أن أثرت فيها حرارة النار حتى صارت كالنار مع ما ذكروا من أن امتداد السد في الأرض مائة فرسخ لا يتم إلا بأمر إلهي خارج عن العادة كصرف تأثير حرارة النار العظيمة عن أبدان المباشرين للأعمال وإلا فمثل تلك الحرارة عادة مما لا يقدر حيوان على أن يحوم حولها ومثل ذلك النفخ في هاتيك الزبر العظيمة الكثيرة حتى تكون نارا ، ويجوز أن يكون كل من الأمرين بواسطة آلات غريبة أو أعمال أوتيها هو أو أحد ممن معه لا يكاد أحد يعرفها اليوم ، وللحكماء المتقدمين بل والمتأخرين أعمال عجيبة يتوصلون إليها بآلات

__________________

(١) قيل أي يظهروا عليه فحذف الجار وأوصل الفعل اه منه.

٣٦٢

غريبة تكاد تخرج عن طور العقل وهذا مما لا شبهة فيه فليكن ما وقع لذي القرنين من ذلك القبيل ، وقيل : كان بناؤه من الصخور مرتبطا بعضها ببعض بكلاليب من حديد ونحاس مذاب في تجاويفها بحيث لم يبق هناك فجوة أصلا.

وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن أبي بكرة الشفي أن رجلا قال : يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال : انعته لي قال كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء ، قال : قد رأيته ، والظاهر أن الرؤية بصرية لا منامية وهو أمر غريب إن صح الخبر ، وأما ما ذكره بعضهم من أن الواثق بالله العباسي أرسل سلاما الترجمان للكشف عن هذا السد فذهب جهة الشمال في قصة تطول حتى رآه ثم عاد ، وذكر له من أمره ما ذكر فثقات المؤرخين على تضعيفه ، وعندي أنه كذب لما فيه مما تأبى عنه الآية كما لا يخفى على الواقف عليه تفصيلا.

ولا يخفى لطف الإتيان بالتاء في استطاعوا هنا (قالَ) أي ذو القرنين لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم (هذا) إشارة إلى السد ، وقيل : إلى تمكنه من بنائه والفضل للمتقدم ليتحد مرجع الضمير المتأخر أي هذا الذي ظهر على يدي وحصل بمباشرتي من السد الذي شأنه ما ذكر من المتانة وصعوبة المنال (رَحْمَةٌ) أي إثر رحمة عظيمة وعبر عنه بها للمبالغة (مِنْ رَبِّي) على كافة العباد لا سيما على مجاوريه وكون السد رحمة على العباد ظاهر وإذا جعلت الإشارة إلى التمكن فكونه رحمة عليهم أنه سبب لذلك ، وربما يرجح المتقدم أيضا باحتياج المتأخر إلى هذا التأويل وإن كان الأمر فيه سهلا ، وفي الأخبار عنه بما ذكر إيذان على ما قيل بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق عادة بل هو إحسان إلهي محض وإن ظهر بالمباشرة ، وفي التعرض لوصف الربوبية تربية معنى الرحمة ، وقرأ ابن أبي عبلة «هذه رحمة» بتأنيث اسم الإشارة وخرج على أنه رعاية للخبر أو جعل المشار إليه القدرة والقوة على ذلك (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) أي وقت وعده تعالى فالكلام على حذف مضاف والإسناد إلى الوعد مجاز وهو لوقته حقيقة ، ويجوز أن يكون الوعد بمعنى الموعود وهو وقته أو وقوعه فلا حذف ولا مجاز في الإسناد بل هناك مجاز في الطرف ، والمراد من وقت ذلك يوم القيامة ، وقيل : وقت خروج يأجوج ومأجوج. وتعقب بأنه لا يساعده النظم الكريم والمراد بمجيئه ما ينتظم مجيئه ومجيء مباديه من خروجهم وخروج الدجال ونزول عيسى عليه‌السلام ونحو ذلك لا دنو وقوعه فقط كما قال الزمخشري وغيره فإن بعض الأمور التي ستحكى تقع بعد مجيئه حتما (جَعَلَهُ) أي السد المشار إليه مع متانته ورصانته (دَكَّاءَ) بألف التأنيث الممدودة والموصوف مؤنث مقدر أي أرضا مستوية ، وقال بعضهم : الكلام على تقدير مضاف أي مثل دكاء وهي ناقة لا سنام لها ولا بد من التقدير لأن السد مذكر لا يوصف بمؤنث ، وقرأ غير الكوفيين دكا على أنه مصدر دككته وهو بمعنى المفعول أي مدكوكا مسوى بالأرض أو على ظاهره والوصف به للمبالغة ، والنصب على أنه مفعول ثان لجعل وهي بمعنى صير ، وزعم ابن عطية أنها بمعنى خلق وليس بشيء.

وهذا الجعل وقت مجيء الوعد بمجيء بعض مباديه وفيه بيان لعظم قدرته تعالى شأنه بعد بيان سعة رحمته عزوجل وكان علمه بهذا الجعل على ما قيل من توابع علمه بمجيء الساعة إذ من مبادئها دك الجبال الشامخة الراسخة ضرورة أنه لا يتم بدونها واستفادته العلم بمجيئها ممن كان في عصره من الأنبياء عليهم‌السلام ، ويجوز أن يكون العلم بجميع ذلك بالسماع من النبي وكذا العلم بمجيء وقت خروجهم على تقدير أن يكون ذلك مرادا من الوعد يجوز أن يكون عن اجتهاد ويجوز أن يكون عن سماع.

وفي كتاب حزقيال عليه‌السلام الاخبار بمجيئهم في آخر الزمان من آخر الجر بياء في أمم كثيرة لا يحصيهم إلا الله تعالى وإفسادهم في الأرض وقصدهم بيت المقدس وهلاكهم عن آخرهم في بريته بأنواع من العذاب وهو عليه‌السلام قبل إسكندر غالب دارا فإذا كان هو ذا القرنين فيمكن أن يكون وقف على ذلك فأفاده علما بما ذكر والله تعالى

٣٦٣

أعلم ، ثم إن في الكلام حذفا أي وهو يستمر إلى آخر الزمان فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي) أي وعده سبحانه المعهود أو كل ما وعد عزوجل به فيدخل فيه ذلك دخولا أوليا (حَقًّا) ثابتا لا محالة واقعا البتة وهذه الجملة تذييل من ذي القرنين لما ذكره من الجملة الشرطية وتأكيد لمضمونها وهو آخر ما حكي من قصته ، وقوله عزوجل (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ) كلام مسوق من جنابه سبحانه وتعالى وضمير الجمع المجرور عند بعض المحققين للخلائق ، والترك بمعنى الجعل وهو من الأضداد ، والعطف على قوله تعالى : (جَعَلَهُ دَكًّا) وفيه تحقيق لمضمونه ، ولا يضر في ذلك كونه محكيا عن ذي القرنين أي جعلنا بعض الخلائق (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ جاء الوعد بمجيء بعض مبادئه (يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) آخر منهم ، والموج مجاز عن الاضطراب أي يضطربون اضطراب البحر يختلط إنسهم وجنهم من شدة الهول وروي هذا عن ابن عباس ، ولعل ذلك لعظائم تقع قبل النفخة الأولى ، وقيل : الضمير للناس والمراد وجعلنا بعض الناس يوم إذ جاء الوعد بخروج يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر لفزعهم منهم وفرارهم وفيه بعد ؛ وقيل : الضمير للناس أيضا ، والمراد وجعلنا بعض الناس يوم إذ تم السد يموج في بعضهم للنظر إليه والتعجيب منه ولا يخفى أن هذا يتعجب منه.

وقال أبو حيان : الأظهر كون الضمير ليأجوج ومأجوج أي وتركنا بعض يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر منهم حين يخرجون من السد مزدحمين في البلاد وذلك بعد نزول عيسى عليه‌السلام ، ففي صحيح مسلم من حديث النواس ابن سمعان بعد ذكر الدجال وهلاكه بباب لد على يده عليه‌السلام ثم يأتي عيسى عليه‌السلام قوما قد عصمهم الله تعالى من الدجال فيمسح وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هم كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه‌السلام أني قد أخرجت عبادا لي لإيذان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله تعالى يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس فينشفون الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم ويضمون إليهم مواشيهم فيشربون مياه الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يبسا حتى إن من يمر من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول قد كان هاهنا ماء مرة ويحصر عيسى نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثور ورأس الحمار لأحدهم خيرا من مائة دينار ؛ وفي رواية مسلم وغيره فيقولون : لقد قتلنا من في الأرض هلم نقتل من في السماء فيرمون نشابهم إلى السماء فيردها الله تعالى عليهم مخضوبة دما للبلاء والفتنة فيرغب نبي الله وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى ، وفي رواية داود كالنغف في أعناقهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة لا يسمع لهم حس فيقول المسلمون : ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو فيتجرد رجل منهم محتسبا نفسه قد وطنها على أنه مقتول فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض فينادي يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عزوجل قد كفاكم عدوكم فيخرجون من مداينهم وحصونهم فيسرحون مواشيهم فما يكون لها مرعى إلا لحومهم فتشكر أحسن ما شكرت عن شيء ويهبط نبي الله عيسى عليه‌السلام وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون فيها موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيستغيثون بالله تعالى فيبعث الله سبحانه ريحا يمانية غبراء فتصير على الناس غما ودخانا ويقع عليهم الزكمة ويكشف ما بهم بعد ثلاثة أيام وقد قذفت الأرض جيفهم في البحر ، وفي رواية فيرغب نبي الله عيسى عليه‌السلام وأصحابه إلى الله عزوجل فيرسل طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله تعالى ، وفي رواية فترميهم في البحر ـ وفي أخرى في النار ولا منافاة كما يظهر بأدنى تأمل ـ ثم يرسل الله عزوجل مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ثم يقال للأرض : انبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ويوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشابهم وأترستهم سبع سنين ، ولعل الله تعالى يحفظ ذلك في الأودية ومواضع السيول زيادة في سرور

٣٦٤

المسلمين أو يحفظها حيث هلكوا ولا يلقيها معهم حيث شاء ولا يعجز الله تعالى شيء ، والحديث يدل على كثرتهم جدا ، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا أن يأجوج ومأجوج أقل ما يترك أحدهم من صلبه ألفا من الذرية. وحمله بعضهم على طول العمر.

وفي البحر أنه قد اختلف في عددهم وصفاتهم ولم يصح في ذلك شيء. وأعجب ما روي في ذلك قول مكحول الأرض مسيرة مائة عام ثمانون منها يأجوج ومأجوج وهي أمتان كل أمة أربعمائة ألف أمة لا تشبه أمة الأخرى وهو قول باطل ، ومثله ما روي عن أبي الشيخ عن أبي أمامة الدنيا سبعة أقاليم فليأجوج ومأجوج ستة وللباقي إقليم واحد وهو كلام من لا يعرف الأرض ولا الأقاليم. نعم أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طريق البكالي عن ابن عمر أن الله تعالى جزأ الإنس عشرة أجزاء فتسعة منهم يأجوج ومأجوج وجزء سائر الناس إلا أني لم أقف على تصحيحه لغير الحاكم وحكم تصحيحه مشهور ويعلم مما تقدم ومما سيأتي إن شاء الله تعالى بطلان ما يزعمه بعض الناس من أنهم التتار الذين أكثروا الفساد في البلاد وقتلوا الأخيار والأشرار. ولعمري إن ذلك الزعم من الضلالة بمكان وإن كان بين يأجوج ومأجوج وأولئك الكفرة مشابهة تامة لا تخفى على الواقفين على أخبار ما يكون وما كان أبطال ما يزعمه بعض الناس من أنهم التتار (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) الظاهر أن المراد النفخة الثانية لأنه المناسب لما بعد. ولعل عدم التعرض لذكر النفخة الأولى لأنها داهية عامة ليس فيها حالة مختصة بالكفار ، وقيل : لئلا يقع الفصل بين ما يقع في النشأة الأولى من الأحوال والأهوال وبين ما يقع منها في النشأة الآخرة.

والصور قرن جاء في الآثار من وصفه ما يدهش العقول. وقد صح عن أبي سعيد الخدري أنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنا جبينه وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ».

وزعم أبو عبيدة أنه جمع صورة وأيد بقراءة الحسن «الصّور» بفتح الواو فيكون لسورة وسور ورد ذلك أظهر من أن يخفى ، ولذلك قال أبو الهيثم على ما نقل عنه الإمام القرطبي : من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن أنكر العرش والصراط والميزان وطلب لها تأويلات. وذكر أن الأمم مجمعة على أن النافخ فيه إسرافيل عليه‌السلام (فَجَمَعْناهُمْ) أي الخلائق بعد ما تفرقت أوصالهم وتمزقت أجسادهم في صعيد واحد للحساب والجزاء (جَمْعاً) أي جمعا عجيبا لا يكتنه كنهه (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ) أظهرناها وأبرزناها (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ جمعنا الخلائق كافة (لِلْكافِرِينَ) منهم حيث جعلناها بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظا وزفيرا (عَرْضاً) أي عرضا فظيعا هائلا لا يقادر قدره. وتخصيص العرض بهم مع أنها بمرأى من أهل الجمع قاطبة لأن ذلك لأجلهم خاصة (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ) وهم في الدنيا (فِي غِطاءٍ) كثيف وغشاوة غليظة محاطة بذلك من جميع الجوانب (عَنْ ذِكْرِي) عن الآيات المؤدية لأولي الأبصار المتدبرين فيها إلى ذكرى بالتوحيد والتمجيد. فالذكر مجاز عن الآيات المذكورة من باب إطلاق المسبب وإرادة السبب. وفيه أن من لم ينظر نظرا يؤدي به إلى ذكر التعظيم كأنه لا نظر له البتة وهذا فائدة التجوز.

وقيل : الكلام على حذف مضاف أي عن آيات ذكرى وليس بذاك ، ويجوز أن يكون المراد بالأعين البصائر القلبية ، والمعنى كانت بصائرهم في غطاء عن أن يذكروني على وجه يليق بشأني أو عن ذكرى الذي أنزلته على الأنبياء عليهم‌السلام ، ويجوز أن يخص بالقرآن الكريم (وَكانُوا) مع ذلك (لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) نفي لسماعهم على أتم وجه ولذا عدل عن وكانوا صما الأخصر إليه. والمراد أنهم مع ذلك كفاقدي حاسة السمع بالكلية وهو مبالغة في تصوير إعراضهم عن سماع ما يرشدهم إلى ما ينفعهم بعد تصوير تعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار فلا حاجة إلى تقدير لذكرى المراد منه القرآن أو مطلق الشرائع الإلهية فإنه بعد تخصيص الذكر المذكور في النظم الكريم أولا

٣٦٥

بالآيات المشاهدة لا يصير قرينة على هذا الحذف. قال ابن هشام في المغني : إن الدليل اللفظي لا بد من مطابقته للمحذوف معنى فلا يصح زيد ضارب وعمرو أي ضارب على أن الأول بمعناه المعروف والثاني بمعنى مسافر. وتقدير ذلك وإرادة معنى الآيات منه مجازا لتحقق الآيات في ضمن الكلام المعجز لا يخفى حاله وحال إرادة الآيات ثم إرادة الكلام المعجز منها مجازا بعد المجاز أظهر ، وقال بعض المحققين : إن تقدير ذلك إنما هو بقرينة قوله تعالى سمعا وأن الكافرين هذا حالهم لا بقرينة ذكر الذكر قبل ليجيء كلام ابن هشام ، ولا يخفى أنه لا كلام في تقدير الذكر بمعنى القرآن أو الشرائع الإلهية إذا أريد من الذكر المذكور ذلك. والمصول نعت الكافرين أو بدل منه أو بيان جيء به لذمهم بما في حيز الصلة وللإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم من عرض جهنم لهم (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي كفروا بي كما يعرب عنه قوله تعالى (عِبادِي) والحسبان بمعنى الظن ، وقد قرأ عبد الله «أفظن» والهمزة للإنكار والتوبيخ على معنى إنكار الواقع واستقباحه ، والفاء للعطف على مقدر يفصح عنه الصلة على توجيه الإنكار والتوبيخ وإلى المعطوفين جميعا على ما اختاره شيخ الإسلام. والمعنى أكفروا بي مع جلالة شأني فحسبوا (أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي) من الملائكة وعيسى ونحوهم عليهم‌السلام من المقربين كما تشعر به الإضافة فإن الأكثر أن تكون في مثل هذا اللفظ لتشريف المضاف. واقتصر قتادة في المراد من ذلك على الملائكة ، والظاهر إرادة ما يعمهم وغيرهم ممن ذكرنا واختاره أبو حيان وغيره ، وروي عن ابن عباس أن المراد منه الشياطين وفيه بعد ولعل الرواية لا تصح. وعن مقاتل أن المراد الأصنام وهو كما ترى ، وجوز بعض المحققين أن يراد ما يعم المذكورين والأصنام وسائر المعبودات الباطلة من الكواكب وغيرها تغليبا ، ولعل المقام يقتضي أن لا تكون الإضافة فيه للتشريف أي أفظنوا أن يتخذوا عبادي الذين هم تحت ملكي وسلطاني (مِنْ دُونِي) أي مجاوزين لي (أَوْلِياءَ) أي معبودين أو أنصارا لهم من بأسي ، وما في حيز صلة أن قيل ساد مسد مفعولي حسب أي أفحسبوا أنهم يتخذونهم أولياء. وكان مصب الإنكار أنهم يتخذونهم كذلك إلا أنه أقحم الحسبان للمبالغة ، وقيل : المراد ما ذكر على معنى أن ذلك ليس من الاتخاذ في شيء لما أنه إنما يكون من الجانبين والمتخذون بمعزل عن ولايتهم لقولهم سبحانك أنت ولينا من دونهم ، وقيل : إن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول أول لحسب والمفعول الثاني محذوف أي أفحسبوا اتخاذهم نافعهم أو سببا لرفع العذاب عنهم أو نحو ذلك. وهو مبني على تجويز حذف أحد المفعولين في باب علم وهو مذهب بعض النحاة ، وتعقب بأن فيه تسليما لنفس الاتخاذ واعتدادا به في الجملة والأولى ما خلا عن ذلك.

هذا وفي الكشف أن التحقيق أن قوله تعالى : (فَحَسِبَ) معطوف على كانت وكانوا دلالة على أن الحسبان ناشئ عن التعامي والتصام وأدخل عليه همزة الإنكار ذما على ذم وقطعا له عن المعطوف عليهما لفظا لا معنى للإيذان بالاستقلال المؤكد للذم كأنه قيل لا يزيلون ما بهم من مرضى الغشاوة والصمم ويزيدون عليهما الحسبان المترتب عليهما. وقوله تعالى (الَّذِينَ كَفَرُوا) من وضع الظاهر مقام المضمر زيادة للذم انتهى. وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل ما ذكر إلى قوله كأنه قيل إلخ أنه يأبى ذلك ترك الإضمار والتعرض لوصف آخر غير التعامي والتصام على أنهما أخرجا مخرج الأحوال الجبلية لهم ولم يذكرا من حيث إنهما من أفعالهم الاختيارية الحادثة كحسبانهم ليحسن تفريعه عليهما. وأيضا فإنه دين قديم لهم لا يمكن جعله ناشئا عن تصامهم عن كلام الله عزوجل. وتخصيص الإنكار بحسبانهم المتأخر عن ذلك تعسف لا يخفى انتهى ، ولا يخلو عن بحث فتأمل.

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وزيد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم والشافعي عليه الرحمة ويحيى بن يعمر ومجاهد وعكرمة وقتادة ونعيم بن ميسرة والضحاك وابن أبي ليلى وابن محيصن وأبو حيوة ومسعود بن صالح

٣٦٦

وابن كثير ويعقوب بخلاف عنهما (أَفَحَسِبَ) بإسكان السين وضم الباء مضافا إلى الذين وخرج ذلك على أن حسب مبتدأ وهو بمعنى محسب أي كافي و (أَنْ يَتَّخِذُوا) خبره أي أفكافيهم اتخاذهم عبادي من دوني أولياء. وفيه دلالة على غاية الذم لأنه جعل ذلك مجموع عدتهم يوم الحساب وما يكتفون به عن سائر العقائد والفضائل التي لا بد منها للفائز في ذلك اليوم. وجعل الزمخشري المصدر المتحصل من أن والفعل فاعلا لحسب لأنه اعتمد على الهمزة واسم الفاعل إذا اعتمد ساوى الفعل في العمل ، واعترض عليه أبو حيان بأن حسب مؤول باسم الفاعل وما ذكر مخصوص بالوصف الصريح. ثم أشار إلى جوابه بأن سيبويه أجاز في مررت برجل خير منه أبوه وبرجل سواء عليه الخير والشر وبرجل أب له صاحبه وبرجل إنما رجل هو وبرجل حسبك من رجل الرفع بالصفات المؤولة ، وذكر أنهم أجازوا في مررت برجل أبي عشرة أبوه ارتفاع أبوه بأبي عشرة لأنه في معنى والد عشرة وحينئذ فلا كلام فيما ذكر الزمخشري (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ) أي هيأناها وهو ظاهر في أنها مخلوقة اليوم (لِلْكافِرِينَ) المعهودين عدل عن الإضمار ذما لهم وإشعارا بأن ذلك الاعتداد بسبب كفرهم المتضمن لحسبانهم الباطل (نُزُلاً) أي شيئا يتمتعون به عند ورودهم وهو ما يقام به للنزيل أي الضيف مما حضر من الطعام واختار هذا جماعة من المفسرين. وفي ذلك على ما قيل تخطئة لهم في حسبانهم وتهكم به حيث كان اتخاذهم إياهم أولياء من قبيل اعتاد العتاد وإعدادا لزاد ليوم المعاد فكأنه قيل إنا اعتدنا لهم مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدة والذخر جهنم عدة ، وفي إيراد النزل إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هي أنموذج له ، ولا يأبى ذلك قوله تعالى (جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) لأن المراد هناك أنها جزاؤهم بما فيها فافهم ، وقال الزجاج : النزل موضع النزول ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وقيل : هو جمع نازل ونصبه على الحال.

وقرأ أبو حيوة وأبو عمرو بخلاف عنه «نزلا» بسكون الزاي (قُلْ) يا محمد (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ) خطاب للكفرة ، وإذا حمل الاستفهام على الاستئذان كان فيه من التهكم ما فيه ، والجمع في صيغة المتكلم قيل لتعيينه من أول الأمر وللإيذان بمعلومية النبأ للمؤمنين أيضا (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) نصب على التمييز ، وجمع مع أن الأصل في التمييز الإفراد والمصدر شامل للقليل والكثير كما ذكر ذلك النحاة للإيذان بتنوع أعمالهم وقصد شمول الخسران لجميعها ، وقيل : جمع لأن ما ذكره النحاة إنما هو إذا كان المصدر باقيا على مصدريته أما إذا كان مؤولا باسم فاعل فإنه يعامل معاملته وهنا عمل بمعنى عامل فجمع على أعمال والمراد عاملين والصفة تقع تمييزا نحو لله تعالى دره فارسا ، وزعم بعضهم أن أعمالا جمع عامل ، وتعقب بأن جمع فاعل على أفعال نادر وقد أنكره بعض النحاة في غير ألفاظ مخصوصة كأشهاد جمع شاهد ، وقيل : جمع عمل ككتف بمعنى ذو عمل كما في القاموس وهو كما ترى ، وزعم بعض المتأخرين أنه إذا اعتبر أعمالا بمعنى عاملين كان الأخسرين بمعنى الخاسرين لأن التمييز إذا كان صفة كان عبارة عن المنتصب عنه متحدا معه بالذات محمولا عليه بالمواطأة حتى إن النحاة صرحوا بأنه تجعل الحال أيضا وهو خبر عن ذي الحال معنى ومن البين أن أفعل التفضيل يمتنع أن يتحد مع اسم الفاعل لمكان الزيادة فحيث وقع اسم الفاعل تمييزا وانتصب بأفعل وجب أن يكون بمعنى فاعل ليتحدا ، وتعقبه بعضهم بأن أفعل لا يكون مع اللام مجردا عن معنى التفضيل كما أنه لا يكون مجردا عنه مع الإضافة وإنما يكون ذلك إذا كان مع من كما صرح به ابن مالك في التسهيل وذكره الرضي ، ولا يخفى عليك ما في جميع ذلك من النظر ، والحق أن الجمعية ليست إلا لما ذكر أولا ، نعم ذكر أبو البقاء أنه جمع لكونه منصوبا على أسماء الفاعلين وأول ذلك بأنه أراد باسم الفاعل المعنى اللغوي وأراد أنه جمع ليفيد التوزيع على أنه لا يخلو عن شيء ، ثم إن هذا على ما في إرشاد العقل السليم بيان لحال الكفرة باعتبار ما صدر عنهم من الأعمال الحسنة في أنفسها وفي حسبانهم أيضا حيث كانوا معجبين بها واثقين بنيل ثوابها ومشاهدة آثارها غب بيان أحوالهم

٣٦٧

باعتبار أعمالهم السيئة في أنفسها مع كونها حسنة في حسبانهم (الَّذِينَ ضَلَ) أي ضاع وبطل بالكلية عند الله عزوجل (سَعْيُهُمْ) في إقامة تلك الأعمال (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) متعلق بسعي لا بضل لأن بطلان سعيهم غير مختص بالدنيا.

قيل : المراد بهم أهل الكتابين وروي ذلك عن ابن عباس وسعد بن أبي وقاص ومجاهد ويدخل في الأعمال حينئذ ما عملوه من الأحكام المنسوخة المتعلقة بالعبادات ، وقيل : الرهبان الذين يحبسون أنفسهم في الصوامع ويحملونها على الرياضات الشاقة ، وقيل الصابئة ، وسأل ابن الكواء عليا كرم الله تعالى وجهه عنهم فقال : منهم أهل حروراء يعني الخوارج ، واستشكل بأن قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلخ يأباه لأنهم لا ينكرون البعث وهم غير كفرة ، وأجيب بأن من اتصالية فلا يلزم أن يكونوا متصلين بهم من كل الوجوه بل يكفي كونهم على الضلال مع أنه يجوز أن يكون كرم الله تعالى وجهه معتقدا لكفرهم ، واستحسن أنه تعريض بهم على سبيل التغليظ لا تفسير للآية ، والمذكور في مجمع البيان أن العياشي روى بسنده أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه عن أهل هذه الآية فقال : أولئك أهل الكتاب كفروا بربهم وابتدعوا في دينهم فحبطت أعمالهم وما أهل النهر منهم ببعيد ، وهذا يؤيد الجواب الأول ، وأخبر أن المراد ما يعم سائر الكفرة ، ومحل الموصول الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأنه جواب للسؤال كأنه قيل من هم؟ فقيل الذين إلخ ، وجوز أن يكون في محل جر عطف بيان على (الأخسرين) وجوز أن يكون نعتا أو بدلا وأن يكون منصوبا على الذم على أن الجواب ما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه (أُولئِكَ الَّذِينَ) إلخ.

وتعقب بأنه يأبى ذلك أن صدره ليس منبئا عن خسران الأعمال وضلال السعي كما يستدعيه مقام الجواب والتفريع الأول وإن دل على هبوطها لكنه ساكت عن أنباء بما هو العمدة في تحقيق معنى الخسران من الوثوق بترتب الربح واعتقاد النفع فيما صنعوا على أن التفريع الثاني مما يقطع ذلك الاحتمال رأسا إذ لا مجال لإدراجه تحت الأمر بقضية نون العظمة والجواب عن ذلك لا يتم إلا بتكلف فتأمل (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) الإحسان الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق وهو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي أي يعتقدون أنهم يعملون ذلك على الوجه اللائق لإعجابهم بأعمالهم التي سعوا في إقامتها وكابدوا في تحصيلها ، والجملة حال من فاعل (ضَلَ) أي ضل سعيهم المذكور والحال أنهم يحسنون في ذلك وينتفعون بآثاره أو من المضاف إليه في (سَعْيُهُمْ) لكونه في محل الرفع أي بطل سعيهم والحال أنهم إلخ ، والفرق بين الوجهين أن المقارن لحال حسبانهم المذكور في الأول ضلال سعيهم ، وفي الثاني نفس سعيهم قيل ، والأول أدخل في بيان خطئهم ، ولا يخفى ما بين يحسبون ويحسنون من تجنيس التصحيف ومثل ذلك قول البحتري :

ولم يكن المغتر بالله إذ سرى

ليعجز والمعتز بالله طالبه

(أُولئِكَ) كلام مستأنف من جنابه تعالى مسوق لتكميل تعريف الأخسرين وتبيين خسرانهم وضلال سعيهم وتعيينهم بحيث ينطبق التعريف على المخاطبين غير داخل تحت الأمر كما قيل أي أولئك المنعوتون بما ذكر من ضلال السعي والحسبان المذكور (الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) بدلائله سبحانه الداعية إلى التوحيد الشاملة للسمعية والعقلية ، وقيل : بالقرآن والأول أولى ، والتعرض لعنوان الربوبية لزيادة تقبيح حالهم في الكفر المذكور (وَلِقائِهِ) هو حقيقة في مقابلة الشيء ومصادفته وليس بمراد ، والأكثرون على أنه كناية عن البعث والحشر وما يتبع ذلك من أمور الآخرة أي لم يؤمنوا بذلك على ما هو عليه ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي لقاء عذابه تعالى وليس بذاك

٣٦٨

(فَحَبِطَتْ) بكسر الباء ، وقرأ ابن عباس وأبو السمال بفتحها ، والفاء للتفريع أي فحبطت لذلك (أَعْمالُهُمْ) المعهودة حبوطا كليا (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ) أي لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمال (يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) أي فنزدري بهم ونحتقرهم ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا لأن مدار الاعتبار والاعتناء الأعمال الصالحة وقد حبطت بالمرة وحيث كان هذا الازدراء والاحتقار من عواقب حبوط الأعمال عطف عليه بطريق التفريع وأما ما هو من أجزية الكفر فسيجيء إن شاء الله تعالى بعد ذلك ، وزعم بعضهم أن حقه على هذا أن يعطف بالواو عطف أحد المتفرعين على الآخر لأن منشأ ازدرائهم الكفر لا الحبوط وبه اعترض على ذلك وهو ناشئ من فرط الذهول كما لا يخفى أو لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانا لأنها قد حبطت وصارت هباء منثورا. ونفي هذا بعد الإخبار بحبوطها من قبيل التأكيد بخلاف النفي على المعنى الأول ولذلك رجح عليه وليس من الاعتزال في شيء ، وقرأ مجاهد وعبيد بن عمير فلا يقيم بالياء لتقدم قوله تعالى : (بِآياتِ رَبِّهِمْ) وعن عبيد أيضا فلا يقيم بفتح ياء المضارعة كأنه جعل قام متعديا ، وعن مجاهد وابن محيصن ويعقوب بخلاف عنهم فلا يقوم لهم يوم القيامة وزن على أن يقوم مضارع قام اللازم و «وزن» فاعله.

(ذلِكَ) بيان لمآل كفرهم وسائر معاصيهم إثر بيان أعمالهم المحبطة بذلك وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر والشأن ذلك. وقوله عزوجل (جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) جملة مفسرة له فلا محل لها من الإعراب ، وجوز أن يكون (ذلِكَ) مبتدأ و (جَزاؤُهُمْ) بدل منه بدل اشتمال أو بدل كل من كل إن كانت الإشارة إلى الجزاء الذي في الذهن و (جَهَنَّمُ) خبره. والتذكير وإن كان الخبر مؤنثا لأن المشار إليه الجزاء ولأن الخبر في الحقيقة للبدل. وأن يكون (ذلِكَ) مبتدأ و (جَزاؤُهُمْ) خبره و (جَهَنَّمُ) عطف بيان للخبر والإشارة إلى جهنم الحاضرة في الذهن ، وأن يكون مبتدأ و (جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) مبتدأ وخبر خبر له والعائد محذوف والإشارة إلى كفرهم وأعمالهم والتذكير باعتبار ما ذكر أي ذلك جزاؤهم به جهنم ، وتعقب بأن العائد المجرور إنما يكثر حذفه في مثل ذلك إذا جر بحرف بتبعيض أو ظرفية أو جر عائد قبله بمثل ما جر به كقوله : فالذي تدعي به أنت مفلح. أي به. وجوز أبو البقاء أن يكون (ذلِكَ) مبتدأ و (جَزاؤُهُمْ) بدل أو عطف بيان و (جَهَنَّمُ) بدل من جزاء أو خبر مبتدأ محذوف أي هو جهنم وقوله تعالى : (بِما كَفَرُوا) خبر (ذلِكَ) وقال بعد أن ذكر من وجوه الإعراب ما ذكر : إنه لا يجوز أن يتعلق الجار بجزاؤهم للفصل بينهما بجهنم ، وقيل : الظاهر تعلقه به ولا يضر الفصل في مثل ذلك. وهو تصريح بأن ما ذكر جزاء لكفرهم المتضمن لسائر القبائح التي أنبأ عنها قوله تعالى المعطوف على كفروا (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) أي مهزوا بهما فإنهم لم يقنعوا بمجرد الكفر بالآيات والرسل عليهم‌السلام بل ارتكبوا مثل تلك العظيمة أيضا.

وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر ، والمراد من الآيات قيل المعجزات الظاهرة على أيدي الرسل عليهم‌السلام والصحف الإلهية المنزلة عليهم الصلاة والسّلام (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بيان بطريق الوعد لمآل الذين اتصفوا بأضداد ما اتصف به الكفرة أثر بيان مآلهم بطريق الوعيد أي إن الذين آمنوا بآيات ربهم ولقائه سبحانه (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من الأعمال (كانَتْ لَهُمْ) فيما سبق من حكم الله تعالى ووعده فالمضي باعتبار ما ذكر. وفيه على ما قال شيخ الإسلام إيماء إلى أن أثر الرحمة يصل إليهم بمقتضى الرأفة الأزلية بخلاف ما مر من جعل جهنم للكافرين نزلا فإنه بموجب ما حدث من سوء اختيارهم ، وقيل : يجوز أن يكون ما وعدوا به لتحققه نزل منزلة الماضي فجيء بكان إشارة إلى ذلك. ولم يقل اعتدنا لهم كما قيل فيما مر للإشارة إلى أن أمر الجنات لا يكاد يتم بل لا يزال ما فيها يزداد فإن اعتاد الشيء وتهيئته يقتضي تمامية أمره وكماله ، وقد جاء في الآثار أنه يغرس للمؤمن بكل تسبيحة يسبحها شجرة

٣٦٩

في الجنة ، وقيل : التعبير بما ذكر أظهر في تحقق الأمر من التعبير بالاعتاد ألا ترى أنه قد تهيأ دار لشخص ولا يسكنها ولا يخلو عن لطف فافهم.

(جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ) أخرج ابن المنذر وإن أبي حاتم عن مجاهد أن الفردوس هو البستان بالرومية ، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه الكرم بالنبطية وأصله فرداسا ، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن عبد الله بن الحارث أن ابن عباس سأل كعبا عن الفردوس فقال : جنة الأعناب بالسريانية ، وقال عكرمة : هي الجنة بالحبشية ، وقال القفال : هي الجنة الملتفة بالأشجار ، وحكى الزجاج أنها الأودية التي تنبت ضروبا من النبات ، وقال المبرد : هي فيما سمعت من العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب ، ونص الفراء على أنه عربي أيضا ومعناه البستان الذي فيه كرم وهو مما يذكّر ويؤنث ، وزعم بعضهم أنها لم تسمع في كلام العرب إلا في قول حسان :

وإن ثواب الله كل موحد

جنان من الفردوس فيها يخلد

وهو لا يصح فقد قال أمية بن أبي الصلت :

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة

فيها الفراديس ثم الفوم والبصل

وجاء في شعر جرير في أبيات يمدح بها خالد بن عبد الله القسري حيث قال :

وإنا لنرجو أن نرافق رفقة

يكونون في الفردوس أول وارد

ومما سمعه أهل مكة قبل إسلام سعد قول هاتف :

أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا

على الله في الفردوس منية عارف

والحق أن ذكرها في شعر الإسلاميين كثير وفي شعر الجاهليين قليل ، وأخرج البخاري ومسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنها تفجر أنهار الجنة» وعن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعا الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين ما بين السماء والأرض والفردوس أعلى الجنة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس ، وروي عن كعب أنه ليس في الجنة أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وصح أن أهل الفردوس ليسمعون أطيط العرش.

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري مرفوعا الفردوس مقصورة الرحمن وكل ذلك لا ينافي كون الفردوس في اللغة البستان كما توهم إذ لا مانع من أن يكون أعلى الجنة بستانا لكنه لكونه في غاية السعة أطلق على كل قطعة منه جنة فقيل جنات الفردوس كذا قيل. واستشكل بأن الآية حينئذ تفيد أن كل المؤمنين في الفردوس المشتمل على جنات وهذا لا يصح على القول بأن الفردوس أعلى الدرجات إذ لا شبهة في تفاوت مراتبهم ، وكون المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات طائفة مخصوصة من مطلق المؤمنين مع كونه في مقابلة الكافرين ليس بشيء. وقال أبو حيان : الظاهر أن معنى جنات الفردوس بساتين حول الفردوس ولذا أضيفت الجنات إلى الفردوس. وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل لما أن الآية حينئذ تفيد أن جميع المؤمنين في جنات الفردوس ومن المعلوم أن منهم من هو في الفردوس. وقيل : الأمر كما ذكر أبو حيان إلا أنه يلتزم الاستخدام في الآية بأن يراد مطلق الجنات فيما بعد ، وفيه مع كونه خلاف الظاهر ما لا يخفى.

وقيل المراد من جنات الفردوس جميع الجنات والإضافة إلى الفردوس التي هي أعلاها باعتبار اشتمالها عليها ويكفي في الإضافة هذه الملابسة ، ولعلك تختار أن الفردوس في الآثار بمعنى وفي الآية بمعنى آخر وتختار من معانيه ما

٣٧٠

تكلف في الإضافة فيه كالشجر الملتف ونحوه ، وظاهر بيت حسان وبيت أمية شاهد على أن للفردوس معنى غير ما جاء في الآثار فليتدبر. واعلم أنه استشكل أيضا ما جاء من أمر السائل بسؤال الفردوس لنفسه مع كونه أعلى الجنة بخبر أحمد عن أبي هريرة مرفوعا «إذا صليتم علي فاسألوا الله تعالى لي الوسيلة أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو» وأجيب بأنه لا مانع من انقسام الدرجة الواحدة إلى درجات بعضها أعلى من بعض وتكون الوسيلة عبارة عن أعلى درجات الفردوس التي هي أعلى درجات الجنان ، ونظير ذلك ما قيل في حد الإعجاز فتذكر ، وقيل المراد من الدرجة في حديث الوسيلة درجة المكانة لا المكان بخلافها فيما تقدم فلا إشكال ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف على أنه حال من قوله تعالى (نُزُلاً) أو على أنه بيان كما في سعيا لك وخبر كان في الوجهين (نُزُلاً) أو على أنه الخبر و (نُزُلاً) من حال من (جَنَّاتُ) فإن جعل بمعنى ما يهيأ للنازل فالمعنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس نزلا أو جعلت نفس الجنات نزلا مبالغة في الإكرام وفيه إيذان بأنها عند ما أعد الله تعالى لهم على لسان النبوة من قوله تعالى «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» بمنزلة النزل بالنسبة إلى الضيافة ، وإن جعلت بمعنى المنزل فالمعنى ظاهر (خالِدِينَ فِيها) نصب على الحالية وهي مقدرة عند البعض وحقق أنها حال مقارنة والمعتبر في المقارنة زمان الحكم وهو كونهم في الجنة وهم بعد حصولهم فيها مقارنون له إذ لا آخر له فتأمل ولا تغفل (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) هو ـ كما قال ابن عيسى وغيره ـ مصدر كالعوج والصغر والعود في قوله :

عادني حبها عودا

أي لا يطلبون عنها تحولا إذ لا يتصور أن يكون شيء أعز عندهم وأرفع منها حتى تنازعهم إليه أنفسهم وتطمح عنه أبصارهم وإن تفاوتت درجاتهم ، والحاصل أن المراد من عدم طلب التحول عنها كونها أطيب المنازل وأعلاها ، وقال ابن عطية : كأنه اسم جمع وكأن واحده حوالة ولا يخفى بعده ، وقال الزجاج عن قوم : هو بمعنى الحيلة في التنقل وهو ضعيف متكلف ، وجوز أن يراد نفي التحول والانتقال على أن يكون تأكيدا للخلود لأن عدم طلب الانتقال مستلزم للخلود فيؤكده أو لأن الكلام على حد ولا ترى الضب بها ينجحر أي لا يتحولون عنها فيبغوه ، وقيل في وجه التأكيد : إنهم إذا لم يريدوا الانتقال لا ينتقلون لعدم الإكراه فيها وعدم إرادة النقلة عنها فلم يبق إلا الخلود إذ لا واسطة بينهما كما قيل ، والجملة حال من صاحب خالدين أو من ضميره فيه فتكون حالا متداخلة ، وفيها إيذان بأن الخلود لا يورثهم مللا (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ) أي جنس البحر (مِداداً) هو في الأصل اسم لكل ما يمد به الشيء واختص في العرف لما تمد به الدواة من الحبر (لِكَلِماتِ رَبِّي) أي معدا لكتابة كلماته تعالى ، والمراد بها كما روي عن قتادة معلوماته سبحانه وحكمته عزوجل (لَنَفِدَ الْبَحْرُ) مع كثرته ولم يبق منه شيء لتناهيه (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) لعدم تناهيها (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) عونا وزيادة لأن مجموع المتناهيين متناه بل جميع ما يدخل في الوجود على التعاقب أو الاجتماع متناه ببرهان التطبيق وغيره من البراهين ، وهذا كلام من جهته تعالى شأنه غير داخل في الكلام الملقن جيء به لتحقيق مضمونه وتصديق مدلوله على أتم وجه ، والواو لعطف الجملة على نظيرتها المستأنفة المقابلة لها المحذوفة لدلالة المذكور عليها دلالة واضحة أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته تعالى لو لم نجئ بمثله مددا ولو جئنا بمثله مددا ، والكلام في جواب (لَوْ) مشهور وليس قوله تعالى (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ) للدلالة على أن ثم نفادا في الجملة محققا أو مقدرا لأن المراد منه لنفد البحر وهي باقية إلا أنه عدل إلى المنزل لفائدة المزاوجة وإن ما لا ينفد عند العقول العامية ينفد دون نفادها وكلما فرضت من المد فكذلك والمثل للجنس شائع على أمثال كثيرة تفرض كل

٣٧١

منها مددا ، وهذا كما في الكشف أبلغ من وجه من قوله تعالى : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) [لقمان: ٢٧].

وذلك أبلغ من وجه آخر وهو ما في تخصيص هذا العدد من النكتة ولم يرد تخصيص العدة ثم فيه زيادة تصوير لما استقر في عقائد العامة من أنها سبعة حتى إذا بالغوا فيما يتعذر الوصول إليه قالوا هو خلف سبعة أبحر ، وفي إضافة الكلمات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموضعين من تفخيم المضاف وتشريف المضاف إليه ما لا يخفى ، وإظهار البحر والكلمات في موضع الإضمار لزيادة التقرير ، ونصب (مَدَداً) على التمييز كما في قوله : فإن الهوى يكفيكه مثله صبرا وجوز أبو الفضل الرازي نصبه على المصدر على معنى ولو أمددنا بمثله إمدادا وناب المدد عن الإمداد على حد ما قيل في قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] وفيه تكلف.

وقرأ حمزة ، والكسائي وعمرو بن عبيد والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى «قبل أن ينفد» بالياء آخر الحروف ، وقرأ السلمي «أن تنفّد» بالتشديد على تفعل على المضي وجاء كذلك عن عاصم وأبي عمرو فهو مطاوع نفد مشددا نحو كسرته فتكسر.

وقرأ الأعرج «بمثله مددا» بكسر الميم على أنه جمع مدة وهو ما يستمده الكاتب فيكتب به ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأعمش بخلاف والتيمي وابن ميحصن وحميد والحسن في رواية وأبو عمرو كذلك. وحفص كذلك أيضا «مدادا» بألف بين الدالين وكسر الميم. وسبب النزول أن حي بن أخطب كما رواه الترمذي عن ابن عباس قال : في كتابكم (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩] ثم تقرءون (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] ومراده الاعتراض بأنه وقع في كتابكم تناقض بناء على أن لا حكمة هي العلم وأن الخير الكثير هو عين الحكمة لا آثارها وما يترتب عليها لأن الشيء الواحد لا يكون قليلا وكثيرا في حالة واحدة فالآية جواب عن ذلك بالإرشاد إلى أن القلة والكثرة من الأمور الإضافية فيجوز أن يكون الشيء كثيرا في نفسه وهو قليل بالنسبة إلى شيء آخر فإن البحر مع عظمته وكثرته خصوصا إذا ضم إليه أمثاله قليل بالنسبة إلى كلماته عزوجل ، وقيل سبب ذلك أن اليهود قالوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها ومبعوث إليها وإنك أعطيت من العلم ما يحتاجه الناس ، وقد سئلت عن الروح فلم تجب فيه؟ ومرادهم الاعتراض بالتناقض بين دعواه عليه الصلاة والسلام وحاله في زعمهم بناء على أن العلم بحقيقة الروح مما يحتاجه الناس وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفده عبارة ولا إشارة والجواب عن هذا منع كون العلم بحقيقة الروح مما يحتاجه الناس في أمر دينهم المبعوث له الأنبياء عليهم‌السلام والقائل «أنتم أعلم بأمور دنياكم» لا يدعي علم ما يحتاجه الناس مطلقا ، وأنت تعلم أن الآية لا تكون جوابا عما ذكر على تقدير صحة كون ذلك سبب النزول إلا بضم الآية الآتية إليها ومع هذا يحتاج ذلك إلى نوع تكلف (قُلْ) بعد أن بينت شأن كلماته عز شأنه (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) لا أدعي الإحاطة بكلماته جل وعلا (يُوحى إِلَيَ) من تلك الكلمات (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وإنما تميزت عنكم بذلك ، وأن المفتوحة وأن كفت بما في تأويل المصدر القائم مقام فاعل (يُوحى) والاقتصار على ما ذكر لأنه ملاك الأمر ، والقصر في الموضعين بناء على القول بإفادة إنما بالكسر وإنما بالفتح الحصر من قصر الموصوف على الصفة قصر قلب والمقصور عليه في الأول (أَنَا) والمقصور البشرية مثل المخاطبين ، وهو على ما قيل مبني على تنزيلهم لاقتراحهم عليه عليه الصلاة والسلام ما لا يكون من بشر مثلهم منزلة من يعتقد خلافه أو على تنزيلهم منزلة من ذكر لزعمهم أن الرسالة التي يدعيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبرهنة بالبراهين الساطعة تنافي ذلك ، وقيل إن المقصود بأن يقصر عليه الإيحاء إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على معنى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقصور على إيحاء ذلك إليه لا يتجاوزه إلى عدم الإيحاء كما يزعمون ، والمقصور الثاني (إِلهُكُمْ) أي معبودكم الحق والمقصور عليه الوحدانية المعبر عنها بإله واحد أي لا

٣٧٢

يتجاوز معبودكم بالحق تلك الصفة التي هي الوحدانية أي الوحدة في الألوهية إلى صفة أخرى كالتعدد فيها الذي تعتقدونه أيها المشركون.

وزعم بعضهم أن القصر في الثاني من قصر الصفة على الموصوف قصر أفراد وأن المقصور الألوهية مصدر إلهكم والمقصور عليه هو الله تعالى المعبر عنه بإله واحد ولا يخفى ما فيه من التكلف والعدول عما هو الأليق.

ومما يوضح ما ذكرنا أنه لو قيل إنما إلهكم واحد لم يكن إلا من قصر الموصوف على الصفة فزيادة إله للتوطئة للوصف بواحد والإشارة إلى أن المراد الوحدة في الألوهية لا تغير ذلك. وأما جعله من قصر الصفة على الموصوف قصر إفراد على أن الله تعالى هو المقصور عليه والوحدانية هي المقصور فباطل قطعا لأن قصر الصفة على الموصوف كذلك إنما يخاطب به من يعتقد اشتراك الصفة بين موصوفين كما تقرر في محله وهذا الاعتقاد لا يتصور هنا من عاقر لبداهة استحالة اشتراك موصوفين في الوحدانية أي الوحدة في الألوهية وما يوهم إرادة هذا القصر من كلام الزمخشري في نظير هذه الآية مؤول كما لا يخفى على المنصف ، وجوز أن يكون من قصر التعيين وليس بذاك فتأمل جميع ذلك والله تعالى يتولى هداك (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) الرجاء طمع حصول ما فيه مسرة في المستقبل ويستعمل بمعنى الخوف وأنشدوا :

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها

وحالفها في بيت نوب عوامل

ولقاء الرب سبحانه هنا قيل مثل للوصول إلى العاقبة من تلقى ملك الموت والبعث والحساب والجزاء مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل وقد اطلع مولاه على ما كان يأتي ويذر فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضي من أفعاله أو بضد ذلك لما سخطه منها فالمعنى على هذا ، وحمل الرجاء على المعنى الأول من كان يأمل تلك الحال وأن يلقى فيها الكرامة من ربه تعالى والبشري (فَلْيَعْمَلْ) لتحصيل ذلك والفوز به (عَمَلاً صالِحاً) وقيل هو كناية عن البعث وما يتبعه والكلام على حذف مضاف أي من كان يؤمل حسن البعث فليعمل إلخ ، وقيل لا حذف ، والمراد من توقع البعث فليعمل صالحا أي إن ذلك العمل مطلوب ممن يتوقع البعث فكيف من يتحققه ، وقيل : اللقاء على حقيقته والكلام على حذف مضاف أيضا أي من كان يؤمل لقاء ثواب ربه فليعمل إلخ ، وقيل المراد منه رؤيته سبحانه أي من كان يؤمل رؤيته تعالى يوم القيامة وهو راض عنه فليعمل إلخ ، وجوز أن يكون الرجاء بمعنى الخوف على معنى من خاف سوء لقاء ربه أو خاف لقاء جزائه تعالى فليعمل إلخ ، وتفسير الرجاء بالطمع أولى ، وكذا كون المرجو الكرامة والبشرى ، وعلى هذا فإدخال الماضي على المستقبل للدلالة على أن اللائق بحق العبد الاستمرار والاستدامة على رجاء الكرامة من ربه فكأنه قيل فمن استمر علم رجاء كرامته تعالى فليعمل عملا صالحا في نفسه لائقا بذلك المرجو كما فعله الذين آمنوا وعملوا الصالحات (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) إشراكا جليا كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ولا إشراكا خفيا كما يفعله أهل الرياء ومن يطلب بعمله دنيا ، واقتصر ابن جبير على تفسير الشرك بالرياء وروي نحوه عن الحسن ، وصح في الحديث تسميته بالشرك الأصغر ، ويؤيد إرادة ذلك تقديم الأمر بالعمل الصالح على هذا النهي فإن وجهه حينئذ ظاهر إذ يكون الكلام في قوة قولك من كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا في نفسه ولا يراه بعمله أحدا فيفسده. وكذا ما روي من أن جندب بن زهير قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني أعمل العمل لله تعالى فإذا اطلع عليه سرني فقال لي : إن الله تعالى لا يقبل ما شورك فيه فنزلت الآية تصديقا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نعم لا يأبى ذلك إرادة العموم كما لا يخفى ، وقد تظافرت الأخبار أن كل عمل لغرض دنيوي لا يقبل ، فقد أخرج

٣٧٣

أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرويه عن ربه تعالى أنه قال : «أنا خير الشركاء فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو للذي أشرك».

وأخرج البزار والبيهقي عن أنس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عزوجل يوم القيامة في صحف مختمة فيقول الله تعالى ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة يا رب والله ما رأينا منه إلا خيرا فيقول سبحانه إن عمله كان لغير وجهي ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي» ، وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه عن يحيى بن الوليد بن عبادة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من غزا وهو لا ينوي في غزاته إلا عقالا فله ما نوى» ، وأخرج أبو داود والنسائي والطبراني بسند جيد عن أبي أمامة قال : «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال : أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا شيء له فأعادها ثلاث مرار يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام : لا شيء له ثم قال : إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغى به وجهه» إلى غير ذلك من الأخبار.

واستشكل كون السرور بالعمل إشراكا فيه محبطا له مع أن الإتيان به ابتداء كان بإخلاص النية كما يدل عليه إني أعمل العمل لله تعالى.

وأجيب بما أشار إليه في الأحياء من أن العمل لا يخلو إذا عمل من أن ينعقد من أوله إلى آخره على الإخلاص من غير شائبة رياء وهو الذهب المصفى أو ينعقد من أوله إلى آخره على الرياء وهو عمل محبط لا نفع فيه أو ينعقد من أول أمره على الإخلاص ثم يطرأ عليه الرياء وحينئذ لا يخلو طروه عليه من أن يكون بعد تمامه أو قبله والأول غير محبط لا سيما إذا لم يتكلف إظهاره إلا أنه إذا ظهرت رغبة وسرور تام بظهوره يخشى عليه لكن الظاهر أنه مثاب عليه والثاني وهو المراد هنا فإن كان باعثا له على العمل ومؤثرا فيه فسد ما قارنه وأحبطه ثم سرى إلى ما قبله.

وأخرج ابن مندة وأبو نعيم في الصحابة وغيرهما من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لمقالة الناس وفيه نزل قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا) الآية ولا شك أن العمل الذي يقارن ذلك محبط.

وذكر بعضهم قد يثاب الرجل على الإعجاب إذا اطلع على عمله ، فقد روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن رجلا قال : يا رسول الله إني أعمل العمل فيطلع عليه فيعجبني فقال عليه الصلاة والسلام لك أجران أجر السر وأجر العلانية» وهذا محمول على ما إذا كان ظهور عمله لأحد باعثا له على عمل مثله والاقتداء به فيه ونحو ذلك ولم يكن إعجابه بعمله ولا بظهوره بل بما يترتب عليه من الخير ومثله دفع سوء الظن ولذا قيل ينبغي لمن يقتدي به أن يظهر أعماله الحسنة ، والظاهر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم حال كل من هذا الرجل وجندب بن زهير فأجاب كلا على حسب حاله ، وما ألطف جوابه عليه الصلاة والسلام لجندب كما لا يخفى على الفطن.

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الأيمان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : أنزلت الآية في المشركين الذين عبدوا مع الله تعالى إلها غيره وليست في المؤمنين وهو ظاهر في أنه حمل الشرك على الجلي ، وأنه تعلم أنه لا يظهر حينئذ وجه تقديم الأمر بالعمل الصالح على النهي عن الشرك المذكور إلا بتكلف فلعل العموم أولى وإن كان الشرك أكثر شيوعا في الشرك الجلي.

ويدخل في العموم قراءة القرآن للموتى بالأجرة فلا ثواب فيها للميت ولا للقارئ أصلا وقد عمت البلوى

٣٧٤

بذلك والناس عنه غافلون وإذا نبهوا لا يتنبهون فإنا لله تعالى وإنا إليه راجعون ؛ وقد بالغ في العموم من جعل الاستعانة في الطاعات كالوضوء شركا منهيا عنه فقد قال الراغب في المحاضرات : إن علي بن موسى الرضا رضي الله تعالى عنهما كان عند المأمون فلما حضر وقت الصلاة رأى الخدم يأتونه بالماء والطست فقال الرضا رضي الله تعالى عنه : لو توليت هذا بنفسك فإن الله تعالى يقول : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) ولعل المراد بالنهي هذا مطلق طلب الترك ليعم الحرام والمكروه ، والظاهر أن الفاء للتفريع على قصر الوحدانية عليه تعالى ، ووجه ذلك على أن كون الإله الحق واحدا يقتضي أن يكون في غاية العظمة والكمال واقتضاء ذلك عمل الطامع في كرامته عملا صالحا وعدم الإشراك بعبادته مما لا شبهة فيه كذا قيل ، وقيل الأمر بالعمل الصالح متفرع على كونه تعالى إلها والنهي عن الشرك متفرع على كون الإله واحدا ، وجعل هذا وجها لتقديم الأمر على النهي على ما روي عن ابن عباس وهو كما ترى ، وقيل : التفريع على مجموع ما تقدم فليفهم ، ووضع الظاهر موضع الضمير في الموضعين مع التعرض لعنوان الربوبية لزيادة التقرير وللإشعار بعلية العنوان للأمر والنهي ووجوب الامتثال فعلا وتركا.

وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي «ولا تشرك» بالتاء الفوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ويكون قوله تعالى : «بربه» التفاتا أيضا من الخطاب إلى الغيبة ، هذا وعن معاوية بن أبي سفيان أن هذه الآية «فمن كان يرجو» إلخ آخر آية نزلت وفيه كلام والحق خلافه والله تعالى أعلم.

«ومن باب الإشارة في الآيات» قيل ذو القرنين إشارة إلى القلب ، وقيل : إلى الشيخ الكامل ويأجوج ومأجوج إشارة إلى الدواعي والهواجس الوهمية والوساوس والنوازع الخيالية ، وقيل : إشارة إلى القوى والطبائع والأرض إشارة إلى البدن وهكذا فعلوا في باقي ألفاظ القصة وراموا التطبيق بين ما في الآفاق وما في الأنفس ولعمري لقد تكلفوا غاية التكلف ولم يأتوا بما يشرح الخاطر ويسر الناظر ، ولعل الأولى أن يقال : الإشارة في القصة إلى إرشاد الملوك لاستكشاف أحوال رعاياهم وتأديب مسيئهم والإحسان إلى محسنهم وإعانة ضعفائهم ودفع الضرر عنهم وعدم الطمع بما في أيديهم وإن سمحت به أنفسهم لمصلحتهم. وقد يقال : فيها إشارة إلى اعتبار الأسباب.

وقال الأشاعرة : الأسباب في الحقيقة ملغاة وعلى هذا قول شيخهم يجوز لأعمى الصين أن يرى بقعة أندلس ومذهب السلف أنها معتبرة وإن لم يتوقف عليها فعل الله تعالى عقلا وتحقيق هذا المطلب في محله ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) إشارة إلى المرائين على ما في أسرار القرآن ومنهم الذين يجلسون في الخانقاه لأجل نظر الخلق وصرف وجوه الناس إليهم واصطياد أهل الدنيا بشباك حيلهم وذكر من خسرانهم في الدنيا افتضاحهم فيها وإظهار الله تعالى حقيقة حالهم للناس.

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وأما خسرانهم في الآخرة فالطرد عن الحضرة والعذاب الأليم. وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) إشارة إلى جهة مشاركته صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس وجهة امتيازه ولو لا تلك المشاركة ما حصلت الإفاضة ولو لا ذلك الامتياز ما حصلت الاستفاضة. وقد أشار مولانا جلال الدين القونوي قدس‌سره إلى ذلك بقوله :

كفت بيغمبر كه أصحابي نجوم

رهروان را شمع وشيطان را رجوم

هركسى را كر نظر بودى ز دور

كو كرفتي ز آفتاب جرخ نور

كي ستاره حاجتي بودى ذليل

كي بدى بر نور خورشيد او دليل

ماه مى كويد به ابر وخاك في

من بشر من مثلكم يوحى إلى

٣٧٥

جون شما تاريك بودم در نهاد

وحي خورشيدم جنين نورى بداد

ظلمتي دارم به نسبت با شموس

نور دارم بهر ظلمات نفوس

زان ضعيفم تا تو بابى آورى

كه نى مردى آفتاب انورى

هذا ونسأل الله تعالى بحرمة نبيه المكرم المعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوفقنا لما يرضيه ويوفقنا على أسرار كتابه الكريم ومعانيه.

٣٧٦

سورة مريم

المشهور تسميتها بذلك ورويت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد أخرج الطبراني وأبو نعيم والديلمي من طريق أبي بكر ابن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جده قال : أتيت رسول الله عليه الصلاة والسلام فقلت : ولدت لي الليلة جارية فقال : والليلة أنزلت علي سورة مريم ، وجاء فيما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تسميتها بسورة «كهيعص» وهي مكية كما روي عن عائشة وابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ، وقال مقاتل : هي كذلك إلا آية السجدة فإنها مدنية نزلت بعد مهاجرة المؤمنين إلى الحبشة ، وفي الإتقان استثناء قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] أيضا ، وهي عند العراقيين والشاميين ثمان وتسعون آية وعند المكيين تسع وتسعون وللمدنيين قولان ، ووجه مناسبتها لسورة الكهف اشتمالها على نحو ما اشتملت عليه من الأعاجيب كقصة ولادة يحيى. وقصة ولادة عيسى عليهما‌السلام ولهذا ذكرت بعدها ، وقيل إن أصحاب الكهف يبعثون قبل الساعة ويحجون مع عيسى عليه‌السلام حين ينزل ففي ذكر هذه السورة بعد تلك مع ذلك إن ثبت ما لا يخفى من المناسبة ، ويقوى ذلك ما قيل أنهم من قومه عليه‌السلام وقيل غير ذلك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (٩)

(كهيعص)أخرج ابن مردويه عن الكلبي أنه سئل عن ذلك فحدث عن أبي صالح عن أم هانئ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال كاف هاد عالم صادق ، واختلفت الروايات عن ابن عباس ، ففي رواية أنه قال : كاف من كريم وها من هاد

٣٧٧

ويا من حكيم وعين من عليم وصاد من صادق ، وفي رواية أنه قال : كبير هاد أمين عزيز صادق ، وفي أخرى أنه قال : هو قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسماء الله تعالى ، وفي أخرى أنه كان يقول : كهيعص وحم ويس وأشباه هذا هو اسم الله تعالى الأعظم ، ويستأنس له بما أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي وابن ماجه وابن جرير عن فاطمة بنت علي قالت : كان علي كرم الله تعالى وجهه : يقول يا كهيعص اغفر لي ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة أنهم قالوا كهيعص هو الهجاء المقطع الكاف من الملك والهاء من الله والياء والعين من العزيز والصادق من المصور. وأخرج أيضا عن محمد بن كعب نحو ذلك إلا أنه لم يذكر الياء ، وقال الصاد من الصمد.

وأخرج أيضا عن الربيع بن أنس أنه قال في ذلك : يا من يجير ولا يجار عليه ، وأخرج عبد الرزاق وعبد ابن حميد عن قتادة أنه اسم من أسماء القرآن ، وقيل : إنه اسم للسورة وعليه جماعة ، وقيل حروف مسرودة على نمط التعديد ونسب إلى جمع من أهل التحقيق ، وفوض البعض علم حقيقة ذلك إلى حضرة علام الغيوب.

وقد تقدم تمام الكلام في ذلك وأمثاله في أول سورة البقرة فتذكر ، وقرأ الجمهور كاف بإسكان الفاء ، وروي عن الحسن ضمها وأمال نافع هاويا بين اللفظين وأظهر دال صاد ولم يدغمها في الذال بعد وعليه الأكثرون.

وقرأ الحسن بضم الهاء وعنه أيضا ضم الياء وكسر الهاء ، وعن عاصم ضم الياء وعنه أيضا كسرهما ، وعن حمزة فتح الهاء وكسر الياء ، قال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن المقري الرازي في كتاب اللوامح : إن الضم في هذه الأحرف ليس على حقيقته وإلا لوجب قلب ما بعدهن من الألفات واوات بل المراد أن ينحى هذه الألفات نحو الواو على لغة أهل الحجاز وهي التي تسمى ألف التفخيم ضد الإمالة ، وهذه الترجمة كما ترجموا عن الفتحة الممالة المقربة من الكسر بالكسر لتقريب الألف بعدها من الياء انتهى ، ووجه الإمالة والتفخيم أن هذه الألفات لما لم يكن لها أصل حملوها على المنقلبة عن الواو تارة ، وعن الياء أخرى فيجوز الأمران دفعا للتحكم.

وقرأ أبو جعفر بتقطيع هذه الحروف وتخليص بعضها من بعض واقتضى ذلك إسكان أخرهن ، والتقاء الساكنين مغتفر في باب الوقف ، وأدغم أبو عمرو دال صاد في الذال بعد وقرأ حفص عن عاصم وفرقة بإظهار النون من عين ، والجمهور على إخفائها. واختلف في إعرابه فقيل على القول بأن كل حرف من اسم من أسمائه تعالى لا محل لشيء من ذلك ولا للمجموع من الإعراب ، وقيل : إن كل حرف على نية الإتمام خبر لمبتدإ محذوف أي هو كاف هو هاد وهكذا أو الأول على نية الإتمام كذلك والبواقي خبر بعد خبر. وعلى ما روي عن الربيع قيل : هو منادي وهو اسم من أسمائه تعالى معناه الذي يجير ولا يجار عليه. وقيل لا محل له من الإعراب أيضا وهو كلمة تقال في موضع نداء الله تعالى بذلك العنوان مثل ما يقال مهيم في مقام الاستفسار عن الحال وهو كما ترى ، وعلى القول بأنه حروف مسرودة على نمط التعديد قالوا : لا محل له من الأعراب ؛ وقوله تعالى (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) على هذه الأقوال خبر مبتدأ محذوف أي هذا المتلو (ذِكْرُ) إلخ. ويقال على الأخير المؤلف من جنس هذه الحروف المبسوطة مرادا به السورة (ذِكْرُ) إلخ. وقيل مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليك (ذِكْرُ) إلخ ، وعلى القول بأنه اسم للسورة قيل محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا كهيعص أي مسمى به. وإنما صحت الإشارة إليه مع عدم جريان ذكره لأنه باعتبار كونه على جناح الذكر صار في حكم الحاضر المشاهد كما قيل في قولهم هذا ما اشترى فلان.

وفي (ذِكْرُ) وجهان كونه خبرا لمبتدإ محذوف وكونه مبتدأ خبره محذوف ، وقيل محله الرفع على أنه مبتدأ و (ذِكْرُ) إلخ خبره أي المسمى به ذكر إلخ فإن ذكر ذلك لما كان مطلع السورة الكريمة ومعظم ما انطوت هي عليه جعلت كأنها نفس ذكره أو الإسناد باعتبار الاشتمال أو هو بتقدير مضاف أي ذو ذكر إلخ أو بتأويل مذكور فيه رحمة

٣٧٨

ربك ، وعلى القول بأنه اسم للقرآن قيل المراد بالقرآن ما يصدق على البعض ويراد به السورة والإعراب هو الإعراب وحينئذ لا تقابل بين القولين. وقيل المراد ما هو الظاهر وهو مبتدأ خبره (ذِكْرُ) إلخ والإسناد باعتبار الاشتمال أو التقدير أو التأويل ؛ وقوله تعالى (عَبْدَهُ) مفعول لرحمة ربك على أنها مفعول لما أضيف إليه وهو مصدر مضاف لفاعله موضوع هكذا بالتاء لا أنها للوحدة حتى تمنع من العمل لأن صيغة الوحدة ليست الصيغة التي اشتق منها الفعل ولا الفعل دال على الوحدة فلا يعمل المصدر لذلك عمل الفعل إلا شذوذا كما نص عليه النحاة ، وقيل مفعول للذكر على أنه مصدر أضيف إلى فاعله على الاتساع ، ومعنى ذكر الرحمة بلوغها وإصابتها كما يقال ذكرني معروفك أي بلغني ، وقوله عزوجل (زَكَرِيَّا) بدل منه بدل كل من كل أو عطف بيان له أو نصب بإضمار أعني. وقوله تعالى شأنه (إِذْ نادى رَبَّهُ) ظرف لرحمة ربك وقيل لذكر على أنه مضاف لفاعله لا على الوجه الأول لفساد المعنى وقيل : هو بدل اشتمال من (زَكَرِيَّا) كما قوله تعالى (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) [مريم : ١٦].

وقرأ الحسن وابن يعمر كما حكاه أبو الفتح «ذكّر» فعلا ماضيا مشددا و «رحمة» بالنصب على أنه كما في البحر مفعول ثان لذكر والمفعول الأول محذوف و «عبده» مفعول لرحمة وفاعل «ذكّر» ضمير القرآن المعلوم من السياق أي ذكر القرآن الناس أن رحم سبحانه عبده ، ويجوز أن يكون فاعل «ذكّر» ضمير (كهيعص) بناء على أن المراد منه القرآن ويكون مبتدأ والجملة خبره ، وأن يكون الفاعل ضميره عزوجل أي ذكر الله تعالى الناس ذلك ، وجوز أن يكون (رَحْمَتِ رَبِّكَ) مفعولا ثانيا والمفعول الأول هو (عَبْدَهُ) والفاعل ضميره سبحانه أي ذكر الله تعالى عبده رحمته أي جعل العبد يذكر رحمته ، وإعراب (زَكَرِيَّا) كما مر ، وجوز أن يكون مفعولا لرحمة والمراد بعبده الجنس كأنه قيل ذكر عباده رحمته زكريا وهو كما ترى ، ويجوز على هذا أن يكون الفاعل ضمير القرآن ، وقيل يجوز أن يكون الفاعل ضميره تعالى والرحمة مفعولا أولا و «عبده» مفعولا ثانيا ويرتكب المجاز أي جعل الله تعالى الرحمة ذاكرة عبده ، وقيل «رحمة» نصب بنزع الخافض أي ذكر برحمة ، وذكر الداني عن أبي يعمر أنه قرأ «ذكر» على الأمر والتشديد و «رحمة» بالنصب أي ذكر الناس رحمة أو برحمة ربك عبده زكريا.

وقرأ الكلبي «ذكر» فعلا ماضيا خفيفا و «رحمة ربك» بالنصب على المفعولية لذكر و «عبده» بالرفع على الفاعلية له. وزكريا عليه‌السلام من ولد سليمان بن داود عليهما‌السلام ، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه آخر أنبياء بني إسرائيل وهو ابن آزر بن مسلم من ذرية يعقوب ، وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس أنه ابن دان وكان من أبناء الأنبياء الذين يكتبون الوحي في بيت المقدس ، وأخرج أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا أنه عليه‌السلام كان نجارا.

وجاء في اسمه خمس لغات أولها المد وثانيها القر وقرئ بهما في السبع وثالثها زكري بتشديد الياء. ورابعها زكرى بتخفيفها وخامسها زكر كقلم وهو اسم أعجمي ، والنداء في الأصل رفع الصوت وظهوره وقد يقال لمجرد الصوت بل لكل ما يدل على شيء وإن لم يكن صوتا على ما حققه الراغب ، والمراد هنا إذ دعا ربه (نِداءً) أي دعاء (خَفِيًّا) مستورا عن الناس لم يسمعه أحد منهم حيث لم يكونوا حاضريه وكان ذلك على ما قيل في جوف الليل ، وإنما أخفى دعاءه عليه‌السلام لأنه أدخل في الإخلاص وأبعد عن الرياء وأقرب إلى الخلاص عن لائمة الناس على طلب الولد لتوقفه على مبادئ لا يليق به تعاطيها في أوان الكبر والشيخوخة وعن غائلة مواليه ، وعلى ما ذكرنا لا منافاة بين النداء وكونه خفيا بل لا منافاة بينهما أيضا إذا فسر النداء برفع الصوت لأن الخفاء غير الخفوت ومن رفع صوته في

٣٧٩

مكان ليس بمرأى ولا مسمع من الناس فقد أخفاه ، وقيل : هو مجاز عن عدم الرياء أي الإخلاص ولم ينافه النداء بمعنى رفع الصوت لهذا.

وفي الكشف أنه الأشبه أنه كناية مع إرادة الحقيقة لأن الخفاء في نفسه مطلوب أيضا لكن المقصود بالذات الإخلاص ، وقيل مستورا عن الناس بالمخافتة ، ولا منافاة بناء على ارتكاب المجاز أو بناء على أن النداء لا يلزمه رفع الصوت ولذا قيل : يا من ينادي بالضمير فيسمع وكان نداؤه عليه‌السلام كذلك لما مر آنفا أو لضعف صوته بسبب كبره كما قيل الشيخ صوته خفات وسمعه تارات ، قيل : كان سنه حينئذ ستين سنة ، وقيل خمسا وستين ، وقيل سبعين ، وقيل خمسا وسبعين ، وقيل ثمانين ، وقبل خمسا ثمانين ، وقيل اثنتين وتسعين ، وقيل تسعا وتسعين ، وقيل مائة وعشرين وهو أوفق بالتعليل المذكور.

وزعم بعضهم أنه أشير إلى كون النداء خفيا ليس فيه رفع بحذف حرفه في قوله تعالى (قالَ رَبِ) والجملة تفسير للنداء وبيان لكيفيته فلا محل لها من الإعراب (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي ضعف ، وإسناد ذلك إلى العظم لما أنه عماد البدن ودعام الجسد فإذا أصابه الضعف والرخاوة تداعى ما وراءه وتساقطت قوته ؛ ففي الكلام كناية مبنية على تشبيه مضمر في النفس أو لأنه أشد أجزائه صلابة وقواما وأقلها تأثرا من العلل فإذا وهن كان ما وراءه أوهن ، ففي الكلام كناية بلا تشبيه ، وأفرد ـ على ما قاله العلامة الزمخشري وارتضاه كثير من المحققين ـ لأن المفرد هو الدال على معنى الجنسية والقصد إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ولو جمع لكان القصد إلى معنى آخر وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها حتى كأنه وقع من سامع شك في الشمول والإحاطة لأن القيد في الكلام ناظر إلى نفي ما يقابله وهذا غير مناسب للمقام ، وقال السكاكي : إنه ترك جمع (الْعَظْمُ) إلى الأفراد لطلب شمول الوهن العظام فردا فردا ولو جمع لم يتعين ذلك لصحة وهنت العظام عند حصول الوهن لبعض منها دون كل فرد وهو مسلك آخر مرجوح عند الكثير وتحقيق ذلك في موضعه ، وعن قتادة أنه عليه‌السلام اشتكى سقوط الأضراس ولا يخفى أن هذا يحتاج إلى خبر يدل عليه فإن انفهامه من الآية مما لا يكاد يسلم ، و (مِنِّي) متعلق بمحذوف هو حال من العظم ، ولم يقل ـ عظمي ـ مع أنه أخصر لما في ذلك من التفصيل بعد الإجمال ولأنه أصرح في الدلالة على الجنسية المقصودة هنا ، وتأكيد الجملة لإبراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمونها.

وقرأ الأعمش «وهن» بكسر الهاء ، وقرئ بضمها أيضا (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) شبه الشيب في البياض والإنارة بشواظ النار وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ففي الكلام استعارتان تصريحية تبعية في (اشْتَعَلَ) ومكنية في الشيب ، وانفكاكها عن التخييلية مما عليه المحققون من أهل المعاني على أنه يمكن على بعد القول بوجود التخييلية هنا أيضا. وتكلف بعضهم لزعمه عدم جواز الانفكاك وعدم ظهور وجود التخييلية إخراج ما في الآية مخرج الاستعارة التمثيلية وليس بذاك ، وأسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وأخرج مخرج التمييز للمبالغة وإفادة الشمول فإن اسناد معنى إلى ظرف ما اتصف به زمانيا أو مكانيا يفيد عموم معناه لكل ما فيه في عرف التخاطب فقولك : اشتعل بيته نارا يفيد احتراق جميع ما فيه دون اشتعل نار بيته.

وزعم بعضهم أن (شَيْباً) نصب على المصدرية لأن معنى (اشْتَعَلَ الرَّأْسُ) شاب ، وقيل هو حال أي شائبا وكلا القولين لا يرتضيهما كامل كما لا يخفى ، واكتفى باللام عن الإضافة لأن تعريف العهد المقصود هنا يفيد ما تفيده ، ولما كان تعريف (الْعَظْمُ) السابق للجنس كما علمت لم يكتف به وزاد قوله (مِنِّي) وبالجملة ما أفصح هذه الجملة وأبلغها ، ومنها أخذ ابن دريد قوله :

٣٨٠