روح المعاني - ج ٨

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٨

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٨

وقرأ حمزة والكسائي وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف في اختياره وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي وابن جرير «سحر» بكسر السين وإسكان الحاء على معنى ذي سحر أو على تسمية الساحر سحرا مبالغة كأنه لتوغله في السحر صار نفس السحر. وقيل : على أن الإضافة لبيان أن الكبد من جنس السحر. وهذه الإضافة من إضافة العام إلى الخاص. وهي على معنى اللام عند شارح الهادي وعلى معنى من على ما يفهم من ظاهر كلام الشريف في أول شرح المفتاح وتسمى إضافة بيانية. ويحمل فيما وجدت فهى المضاف إليه على المضاف. ولا يشترط أن يكون بين المتضايفين عموم وخصوص من وجه وبعضهم شرط ذلك.

وقوله تعالى شأنه (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ) أي هذا الجنس (حَيْثُ أَتى) حيث كان وأين أقبل فحيث ظرف مكان أريد به التعميم من تمام التعليل. ولم يتعرض لشأن العصا وكونها معجزة إلهية مع ما في ذلك من تقوية التعليل للإيذان بظهور أمرها. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أخذتم الساحر فاقتلوه ثم قرأ : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) قال لا يؤمن حيث وجد» وقرأت فرقة «أين أتى» والفاء في قوله تعالى (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) فضيحة معربة عن جمل غنية عن التصريح أي فزال الخوف وألقى ما في يمينه وصارت حية وتلقفت حبالهم وعصيهم وعلموا أن ذلك معجز فألقى السحرة على وجوههم سجدا لله تعالى تائبين مؤمنين به عزوجل وبرسالة موسى عليه‌السلام.

روي أن رئيسهم قال : كنا نغلب الناس وكانت الآلات تبقى علينا فلو كان هذا سحرا فأين ما ألقينا فاستدل بتغير أحوال الأجسام على الصانع القدير العليم وبظهور ذلك على يد موسى عليه‌السلام على صحة رسالته. وكأن هاتيك الحبال والعصي صارت هباء منبثا وانعدامها بالكلية ممكن عندنا ، وفي التعبير بألقى دون فسجد إشارة إلى أنهم شاهدوا ما أزعجهم فلم يتمالكوا حتى وقعوا على وجوههم ساجدين ، وفيه إيقاظ السامع لإلطاف الله تعالى في نقله من شاء من عباده من غاية الكفر والعناد إلى نهاية الإيمان والسداد مع ما فيه من المشاكلة والتناسب ، والمراد أنهم أسرعوا إلى السجود ، قيل : إنهم لم يرفعوا رءوسهم من السجود حتى رأوا الجنة والنار والثواب والعقاب.

وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن عكرمة أنهم لما خروا سجدا أراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم في الجنة. واستبعد ذلك القاضي بأنه كالإلجاء إلى الإيمان وأنه ينافي التكليف. وأجيب بأنه حيث كان الإيمان مقدما على هذا الكشف فلا منافاة ولا الجاء ، وفي إرشاد العقل السليم أنه لا ينافيه قولهم : (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) [طه : ٧٣] إلخ لأن كون تلك المنازل منازلهم باعتبار صدور هذا القول عنهم.

(قالُوا) استئناف كما مر غير مرة (آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) تأخير موسى عليه‌السلام عند حكاية كلامهم المذكورة في سورة الأعراف المقدم فيه موسى عليه‌السلام لأنه أشرف من هارون والدعوة والرسالة إنما هي له أولا وبالذات وظهور المعجزة على يده عليه‌السلام لرعاية الفواصل ، وجوز أن يكون كلامهم بهذا الترتيب وقدموا هارون عليه‌السلام لأنه أكبر سنا ، وقول السيد في شرح المفتاح : إن موسى أكبر من هارون عليهما‌السلام سهو. وأما للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطل من جهة فرعون وقومه حيث كان فرعون ربي موسى عليه‌السلام فلو قدموا موسى لربما توهم اللعين وقومه من أول الأمر أن مرادهم فرعون تقديمه في سورة الأعراف تقديم في الحكاية لتلك النكتة.

وجوز أبو حيان أن يكون ما هنا قول طائفة منهم وما هناك قول أخرى وراعى كل نكتة فيما فعل لكنه لما اشترك القول في المعنى صح نسبة كل منهما إلى الجميع. واختيار هذا القول هنا لأنه أوفق بآيات هذه السورة.

(قالَ) أي فرعون للسحرة (آمَنْتُمْ لَهُ) أي لموسى كما هو الظاهر. والإيمان في الأصل متعد بنفسه ثم شاع تعديه بالباء لما فيه من التصديق حتى صار حقيقة. وإنما عدي هنا باللام لتضمينه معنى الانقياد وهو يعدى بها يقال.

٥٤١

انقاد له لا الاتباع كما قيل : لأنه متعد بنفسه يقال : اتبعه ولا يقال : اتبع له ، وفي البحر إن آمن يوصل بالباء إذا كان متعلقه الله عز اسمه وباللام إن كان متعلقه غيره تعالى في الأكثر نحو (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) [التوبة : ٦١]. فما آمن لموسى إلخ. (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) [الإسراء : ٩٠] (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) [يوسف: ١٧] (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) [العنكبوت : ٢٦] ، وجوز أن تكون اللام تعليلية والتقدير آمنتم بالله تعالى لأجل موسى وما شاهدتهم منه ، واختاره بعضهم ولا تفكيك فيه كما توهم ، وقيل : يحتمل أن يكون ضمير «له» للرب عزوجل ، وفي الآية حينئذ تفكيك ظاهر.

وقرأ الأكثر «أآمنتم» على الاستفهام التوبيخي. والتوبيخ هو المراد من الجملة على القراءة الأولى أيضا لا فائدة الخبر أو لازمها (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي من غير إذني لكم في الإيمان كما في قوله تعالى : (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) [الكهف : ١٠٩] لا إن إذنه لهم في ذلك واقع بعد أو متوقع ، وفرق الطبرسي بين الإذن والأمر بأن الأمر يدل على إرادة الآمر الفعل المأمور به وليس في الإذن ذلك (إِنَّهُ) يعني موسى عليه‌السلام (لَكَبِيرُكُمُ) لعظيمكم في فنكم وأعلمكم به وأستاذكم (الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) كأن اللعين وبخهم أولا على إيمانهم له عليه‌السلام من غير إذنه لهم ليرى قومه أن إيمانهم غير معتد به حيث كان بغير إذنه. ثم استشعر أن يقولوا : أي حاجة إلى الإذن بعد أن صنعنا ما صنعنا وصدر منه عليه‌السلام ما صدر فأجاب عن ذلك بقوله : (إِنَّهُ) إلخ أي ذلك غير معتد به أيضا لأنه أستاذكم في السحر فتواطأتم معه على ما وقع أو علمكم شيئا دون شيء فلذلك غلبكم فالجملة تعليل لمحذوف ، وقيل : هي تعليل للمذكور قبل. وبالجملة قال ذلك لما اعتراه من الخوف من اقتداء الناس بالسحرة في الإيمان لموسى عليه‌السلام ثم أقبل عليهم بالوعيد المؤكد حيث قال : (فَلَأُقَطِّعَنَ) أي إذا كان الأمر كذلك فأقسم لأقطعن (أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي اليد اليمنى والرجل اليسرى وعليه عامة المفسرين وهو تخصيص من خارج وإلا فيحتمل أن يراد غير ذلك. و (مِنْ) ابتدائية.

وقال الطبرسي : بمعنى عن أو على وليس بشيء. والمراد من الخلاف الجانب المخالف أو الجهة المخالفة.

والجار والمجرور حسبما يظهر متعلق بأقطعن ، وقيل : متعلق بمحذوف وقع صفة مصدر محذوف أي تقطيع مبتدأ من جانب مخالف أو من جهة مخالفة وابتداء التقطيع من ذلك ظاهر ، ويجوز أن يبقى الخلاف على حقيقته أعني المخالفة وجعله مبتدأ على التجوز فإنه عارض ما هو مبدأ حقيقة ، وجعل بعضهم الجار والمجرور في حيز النصب على الحالية ، والمراد لأقطعنها مختلفات فتأمل ، وتعيين هذه الكيفية قيل للإيذان بتحقيق الأمر وإيقاعه لا محالة بتعيين كيفيته المعهودة في باب السياسة. ولعل اختيارها فيها دون القطع من وفاق لأن فيه إهلاكا وتفويتا للمنفعة ، وزعم بعضهم أنها أفظع (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي عليها. وإيثار كلمة في للدلالة على إبقائهم عليها زمانا مديدا تشبيها لاستمرارهم عليها باستقرار الظرف في المظروف المشتمل عليه. وعلى ذلك قوله :

وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة

فلا عطست شيبان إلا بأجدعا

وفيه استعارة تبعية. والكلام في ذلك شهير ، وقيل : لا استعارة أصلا لأن فرعون نقر جذوع النخل وصلبهم في داخلها ليموتوا جوعا وعطشا ولا يكاد يصح بل في أصل الصلب كلام. فقال بعضهم : إنه أنفذ فيهم وعيده وصلبهم وهو أول من صلب. ولا ينافيه قوله تعالى : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) [القصص : ٣٥] لأن المراد الغلبة بالحجة. وقال الإمام : لم يثبت ذلك في الأخبار. وأنت تعلم أن الظاهر السلامة. وصيغة التفعيل في الفعلين للتكثير. وقرئ بالتخفيف فيهما.

(وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) يريد من ـ نا ـ نفسه وموسى عليه‌السلام بقرينة تقدم ذكره في قوله تعالى

٥٤٢

(آمَنْتُمْ لَهُ) بناء على الظاهر فيه. واختار ذلك الطبري وجماعة وهذا إما لقصد توضيع موسى عليه‌السلام والهزء به لأنه عليه‌السلام لم يكن من التعذيب في شيء ، وإما لأن إيمانهم لم يكن بزعمه عن مشاهدة المعجزة ومعاينة البرهان بل كان عن خوف من قبله عليه‌السلام حيث رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم فخافوا على أنفسهم أيضا. واختار أبو حيان أن المراد من الغير الذي أشار إليه الضمير رب موسى عزوجل الذي آمنوا به بقولهم (آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى). (وَلَتَعْلَمُنَ) هنا معلق و (أَيُّنا أَشَدُّ) جملة استفهامية من مبتدأ وخبر في موضع نصب سادة مسد مفعوليه إن كان العلم على بابه أو في موضع مفعول واحد له إن كان بمعنى المعرفة : ويجوز على هذا الوجه أن يكون (أَيُّنا) مفعولا وهو مبني على رأي سيبويه و (أَشَدُّ) خبر مبتدأ محذوف أي هو أشد. والجملة صلة أي والعائد الصدر ، و (عَذاباً) تمييز. وقد استغنى بذكره مع (أَشَدُّ) عن ذكره مع (أَبْقى) وهو مراد أيضا. واشتقاق أبقى من البقاء بمعنى الدوام. وقيل : لا يبعد والله تعالى أعلم أن يكون من البقاء بمعنى العطاء فإن اللعين كان يعطي لمن يرضاه العطايا فيكون للآية شبه بقول نمروذ «أنا أحيي وأميت» وهو في غاية البعد عند من له ذوق سليم. ثم لا يخفى أن اللعين في غاية الوقاحة ونهاية الجلادة حيث أوعد وهدد وأبرق وأرعد مع قرب عهده بما شاهد من انقلاب العصا حية وما لها من الآثار الهائلة حتى إنها قصدت ابتلاع قبته فاستغاث بموسى عليه‌السلام ولا يبعد نحو ذلك من فاجر طاغ مثله (قالُوا) غير مكترثين بوعيده (لَنْ نُؤْثِرَكَ) لن نختارك بالإيمان والانقياد (عَلى ما جاءَنا) من الله تعالى على يد موسى عليه‌السلام (مِنَ الْبَيِّناتِ) من المعجزات الظاهرة التي اشتملت عليه العصا. وإنما جعلوا المجيء إليهم وإن عم لأنهم المنتفعون بذلك والعارفون به على أتم وجه من غير تقليد. وما موصولة وما بعدها صلتها والعائد الضمير المستتر في جاء. وقيل العائد محذوف وضمير (جاءَنا) لموسى عليه‌السلام أي على الذين جاءنا به موسى عليه‌السلام وفيه بعد. وإن كان صنيع بعضهم اختياره مع أن في صحة حذف مثل هذا المجرور كلاما.

(وَالَّذِي فَطَرَنا) أي أبدعنا وأوجدنا وسائر العلويات والسفليات. وهو عطف على «ما جاءنا» وتأخيره لأن ما في ضمنه آية عقلية نظرية وما شاهدوه آية حسية ظاهرة. وإيراده تعالى بعنوان الفاطرية لهم للإشعار بعلة الحكم فإن إبداعه تعالى لهم. وكون فرعون من جملة مبدعاته سبحانه مما يوجب عدم إيثارهم إياه عليه عزوجل. وفيه تكذيب للعين في دعواه الربوبية. وقيل : الواو للقسم وجوابه محذوف لدلالة المذكور عليه أي وحق الذي فطرنا لن نؤثرك إلخ. ولا مساغ لكون المذكور جوابا عند من يجوز تقديم الجواب أيضا لما أن القسم لإيجاب كما قال أبو حيان : بلن إلا في شاذ من الشعر. وقولهم : هذا جواب لتوبيخ اللعين بقوله : آمنتم إلخ. وقوله تعالى (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) جواب عن تهديده بقوله : لأقطعن إلخ أي فاصنع ما أنت بصدد صنعه أو فاحكم بما أنت بصدد الحكم به فالقضاء أما بمعنى الإيجاد الإبداعي كما في قوله تعالى (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [فصلت : ١٢] وإما بمعناه المعروف. وعلى الوجهين ليس المراد من الأمر حقيقته ، وما موصولة والعائد محذوف.

وجوز أبو البقاء كونها مصدرية وهو مبني على ما ذهب إليه بعض النحاة من جواز وصل المصدرية بالجملة الاسمية ومنع ذلك بعضهم ، وقوله تعالى (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) مع ما بعده تعليل لعدم المبالاة المستفاد مما سبق من الأمر بالقضاء ، وما كافة و (هذِهِ الْحَياةَ) منصوب محلا على الظرفية لتقضى والقضاء على ما مر ومفعوله محذوف أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الحياة الدنيا فحسب وما لنا من رغبة في عذبها ولا رهبة من عذابها ، وجوز أن تكون ما مصدرية فهي وما في حيزها في تأويل مصدر اسم أن وخبرها (هذِهِ الْحَياةَ) أي إن قضاءك كائن في هذه الحياة ، وجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم فلا حذف.

٥٤٣

وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «إنما تقضي» بالبناء للمفعول «هذه الحياة» بالرفع على أنه اتسع في الظرف فجعل مفعولا به ثم بنى الفعل له نحو صيم يوم الخميس (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) التي اقترفناها من الكفر والمعاصي ولا يؤاخذنا بها في الدار الآخرة لا ليمتعنا بتلك الحياة الفانية حتى نتأثر بما أوعدتنا به.

وقوله تعالى (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) عطف على (خَطايانا) أي ويغفر لنا السحر الذي علمناه في معارضة موسى عليه‌السلام باكراهك وحشرك إيانا من المدائن القاصية خصوه بالذكر مع اندراجه في خطاياهم إظهارا لغاية نفرتهم عنه ورغبتهم في مغفرته ، وذكر الإكراه للإيذان بأنه مما يجب أن يفرد بالاستغفار مع صدوره عنهم بالإكراه ، وفيه نوع اعتذار لاستجلاب المغفرة ، وقيل : إن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط والباقي من بني إسرائيل وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أخذ فرعون أربعين غلاما من بني إسرائيل فأمر أن يتعلموا السحر وقال : علموهم تعليما لا يغلبهم أحد من أهل الأرض وهم من الذين آمنوا بموسى عليه‌السلام وهم الذين قالوا : (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) ، وقال الحسن : كان يأخذ ولدان الناس ويجبرهم على تعلم السحر ، وقيل : إنه أكرههم على المعارضة حيث روي أنهم قالوا له : أرنا موسى نائما ففعل فوجدوه تحرسه عصاه فقالوا : ما هذا بسحر فإن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه ولا ينافي ذلك قولهم : (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) [الشعراء : ٤٤] لاحتمال أن يكون قبل ذلك أو تجلدا كما أن قولهم : (إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) [الأعراف : ١٣٣] قبله كما قيل : وزعم أبو عبيد أن مجرد أمر السلطان شخصا إكراه وإن لم يتوعده وإلى ذلك ذهب ساداتنا الحنفية كما في عامة كتبهم لما في مخالفة أمره من توقع المكروه لا سيما إذا كان السلطان جبارا طاغية (وَاللهُ خَيْرٌ) في حد ذاته تعالى (وَأَبْقى) أي وأدوم جزاء ثوابا كان أو عقابا أو خير ثوابا وأبقى عذابا ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ) إلى آخر الشرطيتين تعليل من جهتهم لكونه تعالى شأنه خير وأبقى وتحقيق له وإبطال لما ادعاه اللعين ، وتصديرهما بضمير الشأن للتنبيه على فخامة مضمونهما ولزيادة تقرير له أي إن الشأن الخطير. هذا أي قوله تعالى (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) بأن مات على الكفر والمعاصي.

(فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها) فينتهي عذابه وهذا تحقيق لكون عذابه تعالى أبقى (وَلا يَحْيى) حياة ينتفع بها (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً) به عزوجل وبما جاء من عنده من المعجزات التي من جملتها ما شاهدناه (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) من الأعمال (فَأُولئِكَ) إشارة إلى (مَنْ) والجمع باعتبار معناها كما أن الأفراد فيما تقدم باعتبار لفظها ، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم أي فأولئك المؤمنون العاملون للأعمال الصالحات (لَهُمُ) بسبب إيمانهم وعملهم ذلك (الدَّرَجاتُ الْعُلى) أي المنازل الرفيعة (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من الدرجات العلى أو بيان وقد تقدم في عدن (١)(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) حال من الجنات ، وقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها) تحقيق لكون ثوابه تعالى أبقى وهو حال من الضمير في لهم ، والعامل فيه معنى الاستقرار في الظرف أو ما في (أولئك) من معنى أشير والحال مقدرة ولا يجوز أن يكون (جَنَّاتُ) خبر مبتدأ محذوف أي هي جنات لخلو الكلام حينئذ عن عامل في الحال على ما ذكره أبو البقاء (وَذلِكَ) إشارة إلى ما أتيح لهم من الفوز بما ذكر ومعنى البعد (٢) لما أشير إليه

__________________

(١) قوله وقد تقدم في عدن كذا بخطه والأمر سهل.

(٢) قوله ومعنى البعد إلخ كذا بخطه وتأمله.

٥٤٤

من قرب من التفخيم (جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) أي تطهر من دنس الكفر والمعاصي بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة.

وهذا تصريح بما أفادته الشرطية ، وتقديم ذكر حال المجرم للمسارعة إلى بيان أشدية عذابه عزوجل ودوامه ردا على ما ادعاه فرعون بقوله (أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) ، وقال بعضهم : إن الشرطيتين إلى هنا ابتداء كلام منه جل وعلا تنبيها على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة والأول أولى خلافا لما حسبه النيسابوري.

هذا واستدل المعتزلة بالشرطية الأولى على القطع بعذاب مرتكب الكبيرة قالوا : مرتكب الكبيرة مجرم لأن أصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة ثم استعير لاكتساب المكروه وكل مجرم فإن له جهنم للآية فإن من الشرطية فيها عامة بدليل صحة الاستثناء فينتج مرتكب الكبيرة أن له جهنم وهو دال على القطع بالوعيد.

وأجاب أهل السنة بأنا لا نسلم الصغرى لجواز أن يراد بالمجرم الكافر فكثيرا ما جاء في القرآن بذلك المعنى كقوله تعالى (يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) إلى قوله سبحانه (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) [المدثر : ٤٠ ـ ٤٦] وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) [المطففين : ٢٩] إلى آخر السورة ، وعلى تقدير تسليم هذه المقدمة لا نسلم الكبرى على إطلاقها وإنما هي كلية بشرط عدم العفو مع أنا لا نسلم أن من الشرطية قطعية في العموم كما قال الإمام وحينئذ لا يحصل القطع بالوعيد مطلقا ، وعلى تقدير تسليم المقدمتين يقال يعارض ذلك الدليل عموم الوعد في قوله تعالى ومن يأته مؤمنا إلخ ويجعل الكلام فيمن آمن وعمل الصالحات وارتكب الكبيرة وهو داخل في عموم (مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) ولا يخرجه عن العموم ارتكابه الكبيرة ومتى كانت له الجنة فهي لمن آمن وارتكب الكبيرة ولم يعمل الأعمال الصالحة أيضا إذ لا قائل بالفرق ، فإذا قالوا : مرتكب الكبيرة لا يقال له مؤمن كما لا يقال كافر لإثباتهم المنزلة بين المنزلتين فلا يدخل ذلك في العموم أبطلنا ذلك وبرهنا على حصر المكلف في المؤمن والكافر ونفي المنزلة بين الإيمان والكفر بما هو مذكور في محله. وعلى تقدير تسليم أن (مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً) إلخ لا يعم مرتكب الكبيرة يقال : إن قوله تعالى (فَأُولئِكَ) لهم الدرجات العلى يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر لأنه تعالى جعل الدرجات العلى وجنات عدن لمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحة فسائر الدرجات الغير العالية والجنات لا بد أن تكون لغيرهم وما هم إلا العصاة من أهل الإيمان.

ولقد أخرج أبو داود وابن مردويه عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء. وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما» ، واستدل على شمول (مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً) صاحب الكبيرة بقوله تعالى (وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) بناء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بمن تزكى من قال لا إله إلا الله كأنه أراد من تطهر عن دنس الكفر والله تعالى أعلم.

ثم إن العاصي إذا دخل جهنم لا يكون حاله كحال المجرم الكافر إذا دخلها بل قيل : إنه يموت احتجاجا بما أخرج مسلم وأحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب فأتى على هذه الآية أنه (مَنْ يَأْتِ) إلخ فقال عليه الصلاة والسلام : أما أهلها ـ يعني جهنم ـ الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة ثم يقوم الشفعاء فيشفعون فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له الحياة أو الحيوان فينبتون كما تنبت القثاء بحميل السيل» وحمل ذلك القائل تميتهم فيه على الحقيقة وجعل المصدر تأكيدا لدفع توهم المجاز كما قيل في قوله تعالى (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] ، وذكر أن فائدة بقائهم في النار بعد إماتتهم إلى حيث شاء الله تعالى حرمانهم من الجنة تلك المدة وذلك منضم إلى عذابهم بإحراق النار إياهم.

وقال بعضهم : إن تميتهم مجاز والمراد أنها تجعل حالهم قريبة من حال الموتى بأن لا يكون لهم شعور تام

٥٤٥

بالعذاب ، ولا يسلم أن ذكر المصدر ينافي التجوز فيجوز أن يقال قتلت زيدا بالعصا قتلا والمراد ضربته ضربا شديدا ولا يصح أن يقال : المصدر لبيان النوع أي تميتهم نوعا من الإماتة لأن الإماتة لا أنواع لها بل هي نوع واحد وهو إزهاق الروح ولهذا قيل :

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره

تعددت الأسباب والموت واحد

واستدل المجسمة بقوله سبحانه إنه من يأت ربه على ثبوت مكان له تعالى شأنه ، وأجيب بأن المراد من إتيانه تعالى إتيان موضع وعده عزوجل أو نحو ذلك (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى) حكاية إجمالية لما انتهى إليه أمر فرعون وقومه وقد طوى في البين ذكر ما جرى عليهم بعد أن غلبت السحرة من الآيات المفصلة الظاهرة على يد موسى عليه‌السلام في نحو من عشرين سنة حسبما فصل في سورة الأعراف ، وكان فرعون كلما جاءت آية وعد أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف العذاب حتى إذا انكشف نكث فلما كملت الآيات أوحى الله تعالى إلى موسى عليه‌السلام (أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) وتصدير الجملة بالقسم الإبراز كمال العناية بمضمونها.

وأن إما مفسرة لما في الوحي من معنى القول ؛ وإما مصدرية حذف عنها الجار ، والتعبير عن بني إسرائيل بعنوان العبودية لله تعالى لإظهار الرحمة والاعتناء بأمرهم والتنبيه على غاية قبح صنيع فرعون بهم حيث استعبدهم وهم عباده عزوجل وفعل بهم من فنون الظلم ما فعل ولم يراقب فيهم مولاهم الحقيقي جل جلاله ، والظاهر أن الإيحاء بما ذكر وكذا ما بعده كان بمصر أي وبالله تعالى لقد أوحينا إليه عليه‌السلام أن سر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من ملكة فرعون من مصر ليلا (فَاضْرِبْ لَهُمْ) بعصاك (طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ) مفعول به لأضرب على الاتساع وهو مجاز عقلي والأصل اضرب البحر ليصير لهم طريقا (يَبَساً) أي يابسا وبذلك قرأ أبو حيوة على أنه مصدر جعل وصفا لطريقا مبالغة وهو يستوي فيه الواحد المذكر وغيره.

وقرأ الحسن «يبسا» بسكون الباء وهو إما مخفف منه بحذف الحركة فيكون مصدرا أيضا أو صفة مشبهة كصعب أو جمع يابس كصحب وصاحب. ووصف الواحد به للمبالغة وذلك أنه جعل الطريق لفرط يبسها كأشياء يابسة كما قيل في قول القطامي :

كأن قتود رحلي حين ضمت

حوالب غرزا ومعي جياعا

أنه جعل المعي لفرط جوعه كجماعة جياع أو قدر كل جزء من أجزاء الطريق طريقا يابسا كما قيل في «نطفة أمشاج» وثوب أخلاق أو حيث أريد بالطريق الجنس وكان متعددا حسب تعدد الأسباط لا طريق واحدة على الصحيح جاء وصفه جمعا ، وقيل : يحتمل أن يكون اسم جمع ، والظاهر أنه لا فرق هنا بين اليبس بالتحريك واليبس بالتسكين معنى لأن الأصل توافق القراءتين وإن كانت إحداهما شاذة ، وفي القاموس اليبس بالإسكان ما كان أصله رطبا فجف وما أصله اليبوسة ولم يعهد رطبا يبس بالتحريك ، وأما طريق موسى عليه‌السلام في البحر فإنه لم يعهد طريقا لا رطبا ولا يابسا إنما أظهره الله تعالى لهم حينئذ مخلوقا على ذلك اه.

وهذا مخالف لما ذكره الراغب من أن اليبس بالتحريك ما كان فيه رطوبة فذهبت ، والمكان إذا كان فيه ماء فذهب ، وروي أن موسى عليه‌السلام لما ضرب البحر وانفلق حتى صارت فيه طرق بعث الله تعالى ريح الصبا فجففت تلك الطرق حتى يبست. وذهب غير واحد أن الضرب بمعنى الجعل من قولهم : ضرب له في ماله سهما وضرب عليهم الخراج أو بمعنى الاتخاذ فينصب مفعولين أولهما (طَرِيقاً) وثانيهما (لَهُمْ).

واختار أبو حيان بقاءه على المعنى المشهور وهو أوفق بقوله تعالى (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) [الشعراء : ٦٣] ،

٥٤٦

وزعم أبو البقاء أن (طَرِيقاً) على هذا الوجه مفعول فيه ، وقال : التقدير (فَاضْرِبْ لَهُمْ) موضع طريق (لا تَخافُ دَرَكاً) في موضع الحال من ضمير (فَاضْرِبْ) أو الصفة الأخرى لطريقا والعائد محذوف أي فيها أو هو استئناف كما قال أبو البقاء وقدمه على سائر الاحتمالات. وقرأ الأعمش وحمزة وابن أبي ليلى «لا تخف» بالجزم على جواب الأمر أعني «أسر» ، ويحتمل أنه نهي مستأنف كما ذكره الزجاج. وقرأ أبو حيوة وطلحة والأعمش «دركا» بسكون الراء وهو اسم من الإدراك أي اللحوق كالدرك بالتحريك ، وقال الراغب : الدرك بالتحريك في الآية ما يلحق الإنسان من تبعة أي لا تخاف تبعة ، والجمهور على الأول أي لا تخاف أن يدرككم فرعون وجنوده من خلفكم (وَلا تَخْشى) أن يغرقكم البحر من قدامكم وهو عطف على (لا تَخافُ) ، وذلك ظاهر على الاحتمالات الثلاثة في قراءة الرفع ، وأما على قراءة الجزم فقيل هو استئناف أي وأنت لا تخشى ، وقيل : عطف على المجزوم والألف جيء بها للإطلاق مراعاة لأواخر الآي كما في قوله تعالى (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب : ٦٧] (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) [الأحزاب : ١٠] أو هو مجزوم بحذف الحركة المقدرة كما في قوله :

إذا العجوز غضبت فطلق

ولا ترضّاها ولا تملّق

وهذا لغة قليلة عند قوم وضرورة عند آخرين فلا يجوز تخريج التنزيل الجليل الشأن عليه أو لا يليق مع وجود مثل الاحتمالين السابقين أو الأول منهما. والخشية أعظم الخوف وكأنه إنما اختيرت هنا لأن الغرق أعظم من إدراك فرعون وجنوده لما أن ذاك مظنة السلامة ، ولا ينافي ذلك أنهم إنما ذكروا أولا ما يدل على خوفهم منه حيث قالوا : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء : ٦١] ولذا سورع في إزاحته بتقديم نفيه كما يظهر بالتأمل.

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي

٥٤٧

(٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ)(٩٥)

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) أي تبعهم ومعه جنوده على أن أتبع بمعنى تبع وهو متعد إلى واحد والباء للمصاحبة والجار والمجرور في موضع الحال ، ويؤيد ذلك أنه قرأ الحسن وأبو عمرو في رواية فاتبعهم بتشديد التاء ، وقرئ أيضا (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ) ، وقيل : أتبع متعد إلى اثنين هنا كما في قوله تعالى : «أتبعناهم ذرياتهم» والثاني مقدر أي فأتبعهم رؤساء دولته أو عقابه ، وقيل : نفسه والجار والمجرور في موضع الحال أيضا ، وعن الأزهري أن المفعول الثاني جنوده والباء سيف خطيب أي أتبعهم فرعون جنوده وساقهم خلفهم فكان معهم يحثهم على اللحوق بهم ، وجوز أن يكون المفعول الثاني جنوده والباء للتعدية فيكون قد تعدى الفعل إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بالحرف ، وأيّا ما كان فالفاء فصيحة معربة عن مضمر قد طوي ذكره ثقة بغاية ظهوره وإيذانا بكمال مسارعة موسى عليه‌السلام إلى الامتثال بالأمر أي ففعل ما أمر به من الإسراء بعبادي وضرب الطريق لهم فاتبعه فرعون بجنوده.

وزعم بعضهم أن الإيحاء بالضرب كان بعد أن اتبعهم فرعون وتراءى الجمعان. والظاهر الأول ، روي أن موسى عليه‌السلام خرج بهم أول الليل يريد القلزم وكانوا قد استعاروا من قوم فرعون الحلي والدواب لعيد يخرجون إليه وكانوا ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيفا ليس فيهم ابن ستين ولا عشرين ، وفي رواية أنهم خرجوا وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا (١) وأخرجوا معهم جسد يوسف عليه‌السلام لأنه كان عهد إليهم ذلك ودلتهم عجوز على موضعه فقال لها موسى عليه‌السلام : احتكمي فقالت : أكون معك في الجنة فاتصل الخبر بفرعون فجمع جنوده وخرج بهم وكان في خيله سبعون ألف أدهم وكانت مقدمته فيما يحكى سبعمائة ألف فارس ، وقيل : ألف ألف وخمسمائة ألف فقص أثرهم حتى تراءى الجمعان فعظم فزع بني إسرائيل فضرب عليه‌السلام بعصاه البحر فانفلق اثني عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم فدخلوا ووصل فرعون وجنوده إلى المدخل فرأوا البحر منفلقا فاستعظموا الأمر فقال فرعون لهم : إنما انفلق من هيبتي فدخل على فرس حصان وبين يديه جبريل عليه‌السلام على فرس حجر وصاحت الملائكة عليهم‌السلام وكانوا ثلاثة وثلاثين ملكا أن ادخلوا فدخلوا حتى إذا استكملوا دخولا خرج موسى عليه‌السلام بمن معه من الأسباط سالمين ولم يخرج أحد من فرعون وجنوده (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) أي علاهم منه وغمرهم ما غمرهم من الأمر الهائل الذي لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه.

وقيل : غشيهم ما سمعت قصته وليس بذاك فإن مدار التهويل والتفخيم خروجه عن حدود الفهم والوصف لا سماع القصة ، والظاهر أن ضميري الجمع لفرعون وجنوده ، وقيل : لجنوده فقط للقرب ولأنه ألقي بالساحل ولم يتغط بالبحر كما أشير إليه بقوله تعالى (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) [يونس : ٩٢] وفيه أن الإنجاء بعد ما غشيه ما غشي جنوده وشك بنو إسرائيل في هلاكه والقرب ليس بداع قوي ، وقيل : الضمير الأول لفرعون وجنوده والثاني لموسى عليه‌السلام وقومه وفي الكلام حذف أي فنجا موسى عليه‌السلام وقومه وغرق فرعون وجنوده انتهى وليس بشيء كما لا يخفى. وقرأت فرقة منهم الأعمش «فغشاهم من اليم ما غشاهم» أي غطاهم ما غطاهم فالفاعل (ما) أيضا وترك المفعول زيادة

__________________

(١) لا يخفى أن هذه المبالغات مما لم يصح فيها خبر والله تعالى أعلم بها اه منه.

(٢) نص الآية ٢١ من سورة الطور : (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم)

٥٤٨

في الإبهام ، وقيل : المفعول (مِنَ الْيَمِ) أي بعض اليم ، ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى شأنه وما مفعول ؛ وقيل : هو ضمير فرعون والاسناد مجازي لأنه الذي ورطهم للهلكة ، ويبعده الإظهار في قوله تعالى (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ)» أي سلك بهم مسلكا أداهم إلى الخسران في الدين والدنيا معا حيث أغرقوا فأدخلوا نارا (وَما هَدى) أي وما أرشدهم إلى طريق موصل إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية والمراد بذلك التهكم به كما ذكر غير واحد ، واعترض بأن التهكم أن يؤتى بما قصد به ضده استعارة ونحوها نحو إنك لأنت الحليم الرشيد إذا كان الغرض الوصف بضد هذين الوصفين ، وكونه لم يهد إخبار عما هو كذلك في الواقع.

وأجيب بأن الأمر كذلك ولكن العرف في مثل ما هدى زيد عمرا ثبوت كون زيد عالما بطريق الهداية مهتديا في نفسه ولكنه لم يهد عمرا وفرعون أضل الضالين في نفسه فكيف يتوهم أنه يهدي غيره ، ويحقق ذلك أن الجملة الأولى كافية في الإخبار عن عدم هدايته إياهم بل مع زيادة إضلاله إياهم فإن من لا يهدي قد لا يضل وإذا تحقق إغناؤها في الإخبار على أتم وجه تعين كون الثانية بمعنى سواه وهو التهكم ، وقال العلامة الطيبي : توضيح معنى التهكم أن قوله تعالى (وَما هَدى) من باب التلميح وهو إشارة إلى ادعاء اللعين إرشاد القوم في قوله «وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» فهو كمن ادعى دعوى وبالغ فيها فإذا حان وقتها ولم يأت بها قيل له لم تأت بما ادعيت تهكما واستهزاء انتهى ، ويعلم مما ذكر المغايرة بين الجملتين وأنه لا تكرير ، وقيل : المراد وما هداهم في وقت ما ويحصل بذلك المغايرة لأنه لا دلالة في الجملة الأولى على هذا العموم والأول أولى ، وقيل : هدى بمعنى اهتدى أي أضلهم وما اهتدى في نفسه وفيه بعد ، وحمل بعضهم الإضلال والهداية على ما يختص بالديني منهما ، ويأباه مقام بيان سوقه بجنوده إلى مساق الهلاك الدنيوي. وجعلهما عبارة عن الإضلال في البحر والإنجاء منه مما لا يقبله الطبع المستقيم.

واحتج القاضي بالآية على أنه تعالى ليس خالقا للكفر لأنه تعالى شأنه قد ذم فيها فرعون بإضلاله ومن ذم أحدا بشيء يذم إذا فعله. وأجيب بمنع اطراد ذلك (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) حكاية لما خاطبهم تعالى به بعد إغراق عدوهم وإنجائهم منه لكن لا عقيب ذلك بل بعد ما أفاض عليهم من فنون النعم الدينية والدنيوية ما أفاض.

وقيل : إنشاء خطاب للذين كانوا منهم في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على معنى أنه تعالى قد من عليهم بما فعل بآبائهم أصالة وبهم تبعا ، وتعقب بأنه يرده قوله تعالى «وما أعجلك» إلخ ضرورة استحالة حمله على الإنشاء وكذا السباق فالوجه هو الحكاية بتقدير قلنا عطفا على «أوحينا» أي وقلنا يا بني إسرائيل (قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) فرعون وقومه حيث كانوا يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم.

وقرأ حميد «نجّيناكم» بتشديد الجيم من غير همزة قبلها وبنون العظمة. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وطلحة «أنجيتكم» بتاء الضمير (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) بالنصب على أنه صفة المضاف. وقرئ بالجر وخرجه الزمخشري على الجوار نحو ـ هذا جحر ضب خرب .. وتعقبه أبو حيان بأن الجر المذكور من الشذوذ والقلة بحيث ينبغي أن تخرج القراءة عليه وقال : الصحيح أنه نعت للطور لما فيه من اليمن ، وإما لكونه عن يمين من يستقبل الجبل اه.

والحق أن القلة لم تصل إلى حد منع تخريج القراءة لا سيما إذا كانت شاذة على ذلك وتوافق القراءتين يقتضيه ، وقوله : وإما لكونه إلخ غير صحيح على تقدير أن يكون الطور هو الجبل ولو قال : وإما لكونه عن يمين من انطلق من مصر إلى الشام لكان صحيحا ، ونصب (جانِبَ) على الظرفية بناء على ما نقل الخفاجي عن الراغب. وابن مالك في شرح التسهيل من أنه سمع نصب جنب وما بمعناه مضاف على الظرفية. ومنع بعضهم ذلك لأنه محدود وجعله منصوبا على

٥٤٩

أنه مفعول ـ واعدنا ـ على الاتساع أو بتقدير مضاف. أي إتيان جانب إلخ. وإلى هذا ذهب أبو البقاء. وإذا كان ظرفا فالمفعول مقدر أي وواعدناكم بواسطة نبيكم في ذلك الجانب إتيان موسى عليه‌السلام للمناجاة وإنزال التوراة عليه ، ونسبة المواعدة إليهم مع كونها لموسى عليه‌السلام نظرا إلى ملابستها إياهم وسراية منفعتها إليهم فكأنهم كلهم مواعدون فالمجاز في النسبة. وفي ذلك من إيفاء مقام الامتنان حقه ما فيه.

وقرأ حمزة والمذكورون معه آنفا «وواعدتكم» بتاء الضمير أيضا. وقرئ «ووعدناكم» من الوعد.

(وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) الترنجبين والسمانى حيث كان ينزل عليهم المن وهم في التيه مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان صاع ويبعث الجنوب عليهم السمانى فيأخذ الواحد منهم ما يكفيه.

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي من لذائذه أو حلالاته على أن المراد بالطيب ما يستطيبه الطبع أو الشرع.

وجوز أن يراد بالطيبات ما جمعت وصفي اللذة والحل ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان إباحة ما ذكر لهم وإتماما للنعمة عليهم ، وقرأ من ذكر آنفا «رزقتكم» وقدم سبحانه نعمة الإنجاء من العدو لأنها من باب درء المضار وهو أهم من جلب المنافع ومن ذاق مرارة كيد الأعداء خذلهم الله تعالى ثم أنجاه الله تعالى وجعل كيدهم في نحورهم علم قدر هذه النعمة ، نسأل الله تعالى أن يتم نعمه علينا وأن لا يجعل لعدو سبيلا إلينا ، وثنى جلّ وعلا بالنعمة الدينية لأنها الأنف في وجه المنافع ، وأخر عزوجل النعمة الدنيوية لكونها دون ذلك فتبا لمن يبيع الدين بالدنيا (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) أي فيما رزقناكم بالإخلال بشكره وتعدي حدود الله تعالى فيه بالسرف والبطر والاستعانة به على معاصي الله تعالى ومنع الحقوق الواجبة فيه ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أي لا يظلم بعضكم بعضا فيأخذه من صاحبه بغير حق ، وقيل : أي لا تدخروا.

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ولا تطغوا» بضم الغين (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) جواب للنهي أي فيلزمكم غضبي ويجب لكم من حل الدين يحل بكسر الحاء إذا وجب أداؤه وأصله من الحلول وهو في الأجسام ثم استعير لغيرها وشاع حتى صارت حقيقة فيه (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) أي هلك وأصله الوقوع من علو كالجبل ثم استعمل في الهلاك للزومه له ، وقيل : أي وقع في الهاوية وإليه ذهب الزجاج.

وفي بعض الآثار أن في جهنم قصرا يرمي الكافر من أعلاه فيهوي في جهنم أربعين خريفا قبل أن يبلغ الصلصال فذلك قوله تعالى (فَقَدْ هَوى) فيكون بمعناه الأصلي إذا أريد به فرد مخصوص منه لا بخصوصه.

وقرأ الكسائي «فيحل» بضم الحاء «ومن يحلل» بضم اللام الأولى وهي قراءة قتادة وأبي حيوة والأعمش وطلحة ووافق ابن عتبة في (يَحْلِلْ) فضم ، وفي الإقناع لأبي على الأهوازي قرأ ابن غزوان عن طلحة «لا يحلنّ عليكم» بنون مشددة وفتح اللام وكسر الحاء وهو من باب لا أرينك هنا ، وفي كتاب اللوامح قرأ قتادة وعبد الله بن مسلم بن يسار وابن وثاب والأعمش «فيحل» بضم الياء وكسر الحاء من الإحلال ففاعله ضمير الطغيان ، و (غَضَبِي) مفعوله ، وجوز أن يكون هو الفاعل والمفعول محذوف أي العذاب أو نحوه ، ومعنى يحل مضموم الحاء ينزل من حل بالبلد إذا نزل كما في الكشاف.

وفي المصباح حل العذاب يحل ويحل هذه وحدها بالكسر والضم والباقي بالكسر فقط ، والغضب في البشر ثوران دم القلب عند إرادة الانتقام ، وفي الحديث «اتقوا الغضب فإنه جمرة توقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه» وإذا وصف الله تعالى به لم يرد هذا المعنى قطعا وأريد معنى لائق بشأنه عز شأنه ، وقد يراد به

٥٥٠

الانتقام والعقوبة أو إرادتهما نعوذ بالله تعالى من ذلك ، ووصف ذلك بالحلو حقيقة على بعض الاحتمالات ومجازا على بعض آخر ، وفي الانتصاف أن وصفه بالحلول لا يتأتى على تقدير أن يراد به إرادة العقوبة ويكون ذلك بمنزلة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» على التأويل المعروف أو عبر عن حلول أثر الإرادة بحلولها تعبيرا عن الأثر بالمؤثر كما يقول الناظر إلى عجيب من مخلوقات الله تعالى : انظر إلى قدرة الله تعالى يعني أثر القدرة لا نفسها (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ) كثير المغفرة (لِمَنْ تابَ) من الشرك على ما روي عن ابن عباس ، وقيل : منه ومن المعاصي التي من جملتها الطغيان فيما رزق (وَآمَنَ) بما يجب الإيمان به. واقتصر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما يروى عنه على ذكر الإيمان بالله تعالى ولعله من باب الاقتصار على الأشرف وإلا فالأفيد إرادة العموم مع ذكر التوبة من الشرك (وَعَمِلَ صالِحاً) أي عملا مستقيما عند الشرع وهو بحسب الظاهر شامل للفرض والسنة ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير ذلك بأداء الفرائض (ثُمَّ اهْتَدى) أي لزم الهدى واستقام عليه إلى الموافاة وهو مروي عن الحبر.

والهدى يحتمل أن يراد به الإيمان ، وقد صرح سبحانه بمدح المستقيمين على ذلك في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) [فصلت : ٤١].

وقال الزمخشري : الاهتداء هو الاستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح وأيّا ما كان فكلمة ثم إما للتراخي باعتبار الانتهاء لبعده عن أول الانتهاء أو للدلالة على بعد ما بين المرتبتين فإن المداومة أعلى وأعظم من الشروع كما قيل :

لكل إلى شأو العلى وثبات (١)

ولكن قليل في الرجال ثبات

وقيل : المراد ثم عمل بالسنة ، وأخرج سعيد بن منصور عن الحبر أن المراد من اهتدى علم أن لعمله ثوابا يجزى عليه ، وروي عنه غير ذلك ، وقيل : المراد طهر قلبه من الأخلاق الذميمة. كالعجب والحسد والكبر وغيرها ، وقال ابن عطية : الذي يقوى في معنى (ثُمَّ اهْتَدى) أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن تخالف الحق في شيء من الأشياء فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل انتهى ، ولا يخفى عليك أن هذا يرجع إلى قولنا ثم استقام على الإيمان بما يجب الإيمان به على الوجه الصحيح ، وروى الإمامية من عدة طرق عن أبي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه أنه قال : ثم اهتدى إلى ولايتنا أهل البيت فو الله لو أن رجلا عبد الله تعالى عمره بين الركن والمقام ثم مات ولم يجىء بولايتنا لأكبه الله تعالى في النار على وجهه.

وأنت تعلم أن ولايتهم وحبهم رضي الله تعالى عنهم مما لا كلام عندنا في وجوبه لكن حمل الاهتداء في الآية على ذلك مع كونها حكاية لما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل في زمان موسى عليه‌السلام مما يستدعي القول بأنه عزوجل أعلم بني إسرائيل بأهل البيت وأوجب عليهم ولا يتهم إذ ذاك ولم يثبت ذلك في صحيح الأخبار.

نعم روى الإمامية من خبر جارود بن المنذر العبدي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له «يا جارود ليلة أسري بي إلى السماء أوحى الله عزوجل إليّ أن سل من أرسلنا قبلك من رسلنا علام بعثوا قلت : علام بعثوا؟ قال : على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة منكما ثم عرفني الله تعالى بهم بأسمائهم ثم ذكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسماءهم واحدا بعد واحد إلى المهدي وهو خير طويل يتفجر الكذب منه. ولهم أخبار في هذا المطلب كلها من هذا القبيل فلا فائدة في ذكرها إلا التطويل. والآية تدل على تحقق المغفرة لمن اتصف بمجموع الصفات المذكورة. وقصارى ما يفهم منها عند القائلين بالمفهوم عدم

__________________

(١) في نسخة حركات اه منه.

٥٥١

تحققها لمن لم يتصف بالمجموع وعدم التحقق أعم من تحقق العدم فالآية بمعزل عن أن تكون دليلا للمعتزلي على تحقق عدم المغفرة لمرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة فافهم واحتج بها من قال تجب التوبة عن الكفر أولا ثم الإتيان بالإيمان ثانيا لأنه قدم فيها التوبة على الإيمان ، واحتج بها أيضا من قال بعدم دخول العمل الصالح في الإيمان للعطف المقتضي للمغايرة (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) حكاية لما جرى بينه تعالى وبين موسى عليه‌السلام من الكلام عند ابتداء موافاته الميقات بموجب المواعدة المذكورة سابقا أي وقلنا له أي شيء عجل بك عن قومك فتقدمت عليهم. والمراد بهم هنا عند كثير ومنهم الزمخشري النقباء السبعون. والمراد بالتعجيل تقدمه عليهم لا الإتيان قبل تمام الميعاد المضروب خلافا لبعضهم. والاستفهام للإنكار ويتضمن كما في الكشف إنكار السبب الحامل لوجود مانع في البين وهو إيهام إغفال القوم وعدم الاعتداد بهم مع كونه عليه‌السلام مأمورا باستصحابهم وإحضارهم معه وإنكار أصل الفعل لأن العجلة نقيصة في نفسها فكيف من أولي العزم اللائق بهم مزيد الحزم ، وقوله تعالى :

(قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) متضمن لبيان اعتذاره عليه‌السلام ، وحاصله عرض الخطأ في الاجتهاد كأنه عليه‌السلام قال : إنهم لم يبعدوا عني وإن تقدمي عليهم بخطإ يسيرة وظني أن مثل ذلك لا ينكر وقد حملني عليه استدامة رضاك أو حصول زيادته وظني أن مثل هذا الحامل يصلح للحمل على مثل ما ذكر ولم يخطر لي أن هناك مانعا لينكر علي. ونحو هذا الإسراع المزيل للخشوع إلى إدراك الإمام في الركوع طلبا لأن يكون أداء هذا الركن مع الجماعة التي فيها رضا الرب تعالى فإنهم قالوا : إن ذلك غير مشروع ، وقدم عليه‌السلام الاعتذار عن إنكار أصل الفعل لأنه أهم ، وقال بعضهم : إن الاستفهام سؤال عن سبب العجلة يتضمن إنكارها لأنها في نفسها نقيصة انضم إليها الإغفال وإيهام التعظيم فأجاب عليه‌السلام عن السبب بأنه استدامة الرضا أو حصول زيادته وعن الإنكار بما محصله أنهم لم يبعدوا عني وظننت أن التقدم اليسير لكونه معتادا بين الناس لا ينكر ولا يعد نقيصة وعلل تقديم هذا الجواب بما مر. واعترض بأن مساق كلامه بظاهره يدل على أن السؤال عن السبب على حقيقته وأنت خبير بأن حقيقة الاستفهام محال على الله تعالى فلا وجه لبناء الكلام عليه ، وأجيب بأن السؤال من علام الغيوب محال إن كان لاستدعاء المعرفة أما إذا كان لتعريف غيره أو لتبكيته أو تنبيهه فليس محالا ، وتعقب بأنه لا يحسن هنا أن يكون السؤال لأحد المذكورات والمتبادر أن يكون للإنكار ، وفي الانتصاف أن المراد من سؤال موسى عليه‌السلام عن سبب العجلة وهو سبحانه أعلم أن يعلمه أدب السفر وهو أنه ينبغي تأخر رئيس القوم عنهم ليكون بصره بهم ومهيمنا عليهم وهذا المعنى لا يحصل مع التقدم ألا ترى كيف علم الله تعالى هذا الأدب لوطا فقال سبحانه (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) [الحجر : ٦٥] فأمره عزوجل أن يكون آخرهم وموسى عليه‌السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضا الله تعالى ومسارعة إلى الميعاد وذلك شأن الموعود بما يسره يود لو ركب أجنحة الطير ولا أسرّ من مواعدة الله تعالى له عليه الصلاة والسلام انتهى.

وأنت تعلم أن السؤال عن السبب ما لم يكن المراد منه إنكار المسبب لا يتسنى هذا التعليم ، وقال بعضهم: الذي يلوح بالبال أن يكون المعنى أي شيء أعجلك منفردا عن قومك ، والإنكار بالذات للانفراد عنهم فهو منصب على القيد كما عرف في أمثاله ، وإنكار العجلة ليس إلا لكونها وسيلة له فاعتذر موسى عليه‌السلام عنه بأني أخطأت في الاجتهاد وحسبت أن القدر اليسير من التقدم لا يخل بالمعية ولا يعد انفرادا ولا يقدح بالاستصحاب والحامل عليه طلب استدامة مرضاتك بالمبادرة إلى امتثال أمرك فالجواب هو قوله (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) ، وقوله (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) كالتتميم له اه وهو عندي لا يخلو عن حسن.

٥٥٢

وقيل : إن السؤال عن السبب والجواب إنما هو قوله (وَعَجِلْتُ) إلخ وما قبله تمهيد له وفيه نظر ، وعلى هذا وما قبله لم يكن جواب موسى عليه‌السلام عن أمرين ليجيء سؤال الترتيب فيجاب بما مر أو بما ذكره الزمخشري من أنه عليه‌السلام حار لما ورد عليه من التهيب لعتاب الله عزوجل فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المترتب على حدود الكلام لكن قال في البحر : إن في هذا الجواب إساءة الأدب مع الأنبياء عليهم‌السلام ، وذلك شأن الزمخشري معهم صلى الله تعالى وسلّم عليهم ، والمراد من (إِلَيْكَ) إلى مكان وعدك فلا يصلح دليلا للمجسمة على إثبات مكان له عزوجل. ونداؤه تعالى بعنوان الربوبية لمزيد الضراعة والابتهال رغبة في قبول العذر و (أُولاءِ) اسم إشارة كما هو المشهور مرفوع المحل على الخبرية ـ لهم ـ و (عَلى أَثَرِي) خبر بعد خبر أو حال كما قال أبو حيان ؛ وجوز الطبرسي كون (أُولاءِ) بدل من (هُمْ) و (عَلى أَثَرِي) هو الخبر ، وقال أبو البقاء : (أُولاءِ) اسم موصول و (عَلى أَثَرِي) صلته وهو مذهب كوفي.

وقرأ الحسن وابن معاذ عن أبيه «أولاي» بياء مكسورة وابن وثاب وعيسى في رواية «أولى» بالقصر ، وقرأت فرقة «أولاي» بياء مفتوحة وقرأ عيسى ويعقوب وعبد الوارث عن أبي عمرو وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «على إثري» بكسر الهمزة وسكون الثاء ، وحكى الكسائي «أثري» بضم الهمزة وسكون الثاء وتروى عن عيسى ، وفي الكشاف إن «الأثر» بفتحتين أفصح من «الأثر» بكسر فسكون ، وأما الأثر فمسموع في فرند السيف مدون في الأصول يقال : أثر السيف وأثره وهو بمعنى الأثر غريب (قالَ) استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية اعتذاره عليه‌السلام وهو السر في وروده على صيغة الغائب لا أنه التفات من التكلم إلى الغيبة لما أن المقدر فيما سبق على صيغة التكلم كأنه قيل من جهة السامعين : فما ذا قال له ربه تعالى حينئذ؟ فقيل : قال سبحانه (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ) أي اختبرناهم بما فعل السامري أو أوقعناهم في فتنة أي ميل مع الشهوات ووقوع في اختلاف (مِنْ بَعْدِكَ) من بعد فراقك لهم وذهابك من بينهم (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) حيث أخرج لهم عجلا جسدا له خوار ودعاهم إلى عبادته. وقيل : قال لهم وذهابك من بينهم (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) حيث أخرج لهم عجلا جسدا له خوار ودعاهم إلى عبادته. وقيل : قال لهم بعد أن غاب موسى عليه‌السلام عنهم عشرين ليلة : إنه قد كملت الأربعون فجعل العشرين مع أيامها أربعين ليلة. وليس من موسى عين ولا أثر وليس إخلافه ميعادكم إلا لما معكم من حلي القوم وهو حرام عليكم فجمعوه وكان من أمر العجل ما كان. والمراد بقومك هنا الذين خلفهم مع هارون عليه‌السلام ، وكانوا على ما قيل ستمائة ألف ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا فالمراد بهم غير المراد بقومك فيما تقدم ، ولذا لم يؤت بضميرهم ، وقيل : المراد بالقوم في الموضعين المتخلين لتعين إرادتهم هنا ، والمعرفة المعادة عين الأولى. ومعنى «هم أولاء على أثري» هم بالقرب مني ينتظرونني.

وتعقبه في الكشف بأنه غير ملائم للفظ الأثر ولا هو مطابق لتمهيد عذر العجلة ومن أين لصاحب هذا التأويل النقل بأنهم كانوا على القرب من الطور وحديث المعرفة المعادة إنما هو إذا لم يقم دليل التغاير وقد قام على أن لنا أن تقول : هي عين الأولى لأن المراد بالقوم الجنس في الموضعين لكن المقصود منه أولا النقباء وثانيا المتخلفون ومثله كثير في القرآن انتهى. وما ذكره من نفي النقل الدال على القرب فيه مقال ، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا من الأخبار ما يدل بظاهره على القرب إلا أنا لم نقف على تصحيحه أو تضعيفه.

وما ذكر من تفسير (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) على إرادة المتخلفين في الأول أيضا نقله الطبرسي عن الحسن ، ونقل عنه أيضا تفسيره بأنهم على ديني ومنهاجي والأمر عليه أهون. والفاء لتعليل ما يفهمه الكلام السابق كأنه قيل : لا ينبغي عجلتك عن قومك وتقدمك عليهم وإهمال أمرهم لوجه من الوجوه فإنهم لحداثة عهدهم باتباعك ومزيد

٥٥٣

بلاهتهم وحماقتهم بمكان يحيق فيه مكر الشيطان ويتمكن من إضلالهم فإن القوم الذين خلفتهم مع أخيك قد فتنوا وأضلهم السامري بخروجك من بينهم فكيف تأمن على هؤلاء الذين أغفلتهم وأهملت أمرهم.

وفي إرشاد العقل السليم إنها لترتيب الأخبار بما ذكر من الابتلاء على أخبار موسى عليه‌السلام بعجلته لكن لا لأن الأخبار بها سبب موجب للأخبار به بل لما بينهما من المناسبة المصححة للانتقال من أحدهما إلى الآخر من حيث أن مدار الابتلاء المذكور عجلة القوم وليس بذاك. وأما قول الخفاجي : إنها للتعقيب من غير تعليل أخ أقول لك عقب ما ذكر إنا قد فتنا إلى آخره ففيه سهو ظاهر لأن هذا المعنى إنما يتسنى لو كانت الفاء داخلة على القول لكنها داخلة على ما بعده وظاهر الآية يدل على أن الفتن وإضلال السامري إياهم قد تحققا ووقعا قبل الإخبار بهما إذ صيغة الماضي ظاهرة في ذلك ، والظاهر أيضا على ما قررنا أن الأخبار كان عند مجيئه عليه‌السلام للطور لم يتقدمه إلا العتاب والاعتذار. وفي الآثار ما يدل على أن وقوع ما ذكر كان بعد عشرين ليلة من ذهابه عليه‌السلام لجانب الطور ، وقيل : بعد ست وثلاثين يوما وحينئذ يكون التعبير عن ذلك بصيغة الماضي لاعتبار تحققه في علم الله تعالى ومشيئته أو لأنه قريب الوقوع مترقبه أو لأن السامري كان قد عزم على إيقاع الفتنة عند ذهاب موسى عليه‌السلام وتصدى لترتيب مبادئها وتمهيد مبانيها فنزل مباشرة الأسباب منزلة الوقوع. والسامري عند الأكثر كما قال الزجاج : كان عظيما من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة وهم إلى هذه الغاية في الشام يعرفون بالسامريين ، وقيل : هو ابن خالة موسى عليه‌السلام ، وقيل : ابن عمه ، وقيل : كان علجا من كرمان ، وقيل : كان من أهل باجرما قرية قريبة من مصر أو قرية من قرى موصل ، وقيل : كان من القبط وخرج مع موسى عليه‌السلام مظهرا الإيمان وكان جاره.

وقيل : كان من عباد البقر وقع في مصر فدخل في بني إسرائيل بظاهره وفي قلبه عبادة البقر. واسمه قيل موسى بن ظفر ، وقيل : منجى ، والأول أشهر ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه فكان جبريل عليه‌السلام يأتيه فيغذوه بأصابعه في واحدة لبنا وفي الأخرى عسلا ، وفي الأخرى سمنا ولم يزل يغذوه حتى نشأ وعلى ذلك قول من قال :

إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيرت

عقول مربيه وخاب المؤمل

فموسى الذي رباه جبريل كافر

وموسى الذي رباه فرعون مرسل

وبالجملة كان عند الجهور منافقا يظهر الإيمان ويبطن الكفر ، وقرأ معاذ «أضلّهم» على أنه أفعل تفضيل أي أشدهم ضلالا لأنه ضال ومضل (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ) عند رجوعه المعهود أي بعد ما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة وأخذ التوراة لا عقيب الأخبار المذكور فسببية ما قبل الفاء لما بعدها إنما هي باعتبار قيد الرجوع المستفاد من قوله تعالى : (غَضْبانَ أَسِفاً) لا باعتبار نفسه وإن كانت داخلة عليه حقيقة فإن كون الرجوع بعد تمام الأربعين أمر مقرر مشهور لا يذهب الوهم إلى كونه عند الأخبار المذكور كما إذا قلت : شايعت الحجاج ودعوت لهم بالسلامة فرجعوا سالمين فإن أحدا لا يرتاب في أن المراد رجوعهم المعتاد لا رجوعهم أثر الدعاء وإن سببية الدعاء باعتبار وصف السلامة لا باعتبار نفس الرجوع كذا في إرشاد العقل السليم وهو مما لا ينتطح فيه كبشان. والأسف الحزين كما روي عن ابن عباس وكان حزنه عليه‌السلام من حيث أن ما وقع فيه قومه مما يترتب عليه العقوبة ولا يد له بدفعها.

٥٥٤

وقال غير واحد : هو شديد الغضب ، وقال الجبائي متلهفا على ما فاته متحيرا في أمر قومه يخشى أن لا يمكنه تداركه وهذا معنى للأسف غير مشهور (قالَ) استئناف بياني كأنه قيل : فما ذا فعل بهم لما رجع إليهم؟ فقيل قال : (يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ) الهمزة لإنكار عدم الوعد ونفيه وتقرير وجوده على أبلغ وجه وآكده أي وعدكم (وَعْداً حَسَناً) لا سبيل لكم إلى إنكاره. والمراد بذلك إعطاء التوراة التي فيها هدى ونور ، وقيل : هو ما وعدهم سبحانه من الوصول إلى جانب الطور الأيمن وما بعد ذلك من الفتوح في الأرض والمغفرة لمن تاب وآمن وغير ذلك مما وعد الله تعالى أهل طاعته.

وعن الحسن أن الوعد الحسن الجنة التي وعدها من تمسك بدينه ، وقيل : هو أن يسمعهم جل وعلا كلامه عز شأنه ولعل الأول أولى ، ونصب (وَعْداً) يحتمل أن يكون على أنه مفعول ثان وهو بمعنى الموعود ويحتمل أن يكون على المصدرية والمفعول الثاني محذوف ، والفاء في قوله تعالى : (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) للعطف على مقدر والهمزة لإنكار المعطوف ونفيه فقط ، وجوز أن تكون الهمزة مقدمة من تأخير لصدارتها والعطف على لم (يَعِدْكُمْ) لأنه بمعنى قد وعدكم ، واختار جمع الأول أل في العهد له ، والمراد زمان الإنجاز ، وقيل : زمان المفارقة أي أوعدكم سبحانه ذلك فطال زمان الإنجاز أو زمان المفارقة للإتيان به (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَ) أي يجب (عَلَيْكُمْ غَضَبٌ) شديد لا يقادر قدره كائن (مِنْ رَبِّكُمْ) أي من مالك أمركم على الإطلاق. والمراد من إرادة ذلك فعل ما يكون مقتضيا له.

والفاء في قوله تعالى (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) لترتيب ما بعدها على كل من الشقين ، والموعد مصدر مضاف إلى مفعوله للقصد إلى زيادة تقبيح حالهم فإن إخلافهم الوعد الجاري فيما بينهم وبينه عليه‌السلام من حيث إضافته إليه عليه‌السلام أشنع منه من حيث إضافته إليهم ، والمعنى أفطال عليكم الزمان فنسيتم بسبب ذلك فأخلفتم وعدكم إياي بالثبات على ديني إلى أن أرجع من الميقات نسيانا أو تعمدتم فعل ما يكون سببا لحلول غضب ربكم عليكم فأخلفتم وعدكم إياي بذلك عمدا ، وحاصله أنسيتم فأخلفتم أو تعمدتم فاخلفتم ، ومنه يعلم التقابل بين الشقين.

وجوز المفضل أن يكون الموعد مصدرا مضافا إلى الفاعل وإخلافه بمعنى وجدان الخلف فيه يقال : أخلف وعد زيد بمعنى وجد الخلف فيه ، ونظيره أحمدت زيدا أي فوجدتم الخلف في موعدي إياكم بعد الأربعين ، وفيه أنه لا يساعده السياق ولا السباق أصلا ، وقيل : المصدر مضاف إلى المفعول إلا أن المراد منه وعدهم إياه عليه‌السلام باللحاق به والمجيء للطور على أثره وفيه ما فيه ، واستدلت المعتزلة بالآية على أن الله عزوجل ليس خالقا للكفر وإلا لما قال سبحانه (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) ولما كان لغضب موسى عليه‌السلام وأسفه وجه ولا يخفى ما فيه (قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ) أي وعدنا إياك الثبات على دينك ، وإيثاره على أن يقال موعدنا على إضافة المصدر إلى فاعله لما مر آنفا.

(بِمَلْكِنا) بأن ملكنا أمرنا يعنون أنا ولو خلينا وأنفسنا ولم يسول لنا السامري ما سوله مع مساعدة بعض الأحوال لما أخلفناه. وقرأ بعض السبعة «بملكنا» بكسر الميم وقرأ الأخوان والحسن والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وقعنب بضمها وقرأ عمر رضي الله تعالى عنه «بملكنا» بفتح الميم واللام قال في البحر : أي بسلطاننا ، واستظهر أن الملك بالضم والفتح والكسر بمعنى. وفرق أبو علي فقال : معنى المضموم أنه لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك بسلطانه وإنما أخلفناه بنظر أدى إليه ما فعل السامري ، والكلام على حد قوله تعالى (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) [البقرة : ٢٧٣] وقول ذي الرمة.

٥٥٥

لا تشتكي سقطة منها وقد رقصت

بها المفاوز حتى ظهرها حدب

ومفتوح الميم مصدر ملك ، والمعنى ما فعلنا ذلك بأن ملكنا الصواب ووفقنا له بل غلبتنا أنفسنا ومكسور الميم كثر استعماله فيما تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان ، والمعنى عليه كالمعنى على المفتوح الميم ، والمصدر في هذين الوجهين مضاف إلى الفاعل والمفعول مقدر أي بملكنا الصواب (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) استدراك عما سبق واعتذار عما فعلوا ببيان منشأ الخطأ ، والمراد بالقوم القبط والأوزار الأحمال وتسمى بها الآثام. وعنوا بذلك ما استعاروه من القبط من الحلي برسم التزين في عيد لهم قبيل الخروج من مصر كما أسلفنا. وقيل : استعاروه باسم العرس. وقيل : هو ما ألقاه البحر على الساحل مما كان على الذين غرقوا ، ولعلهم أطلقوا على ذلك الأوزار مرادا بها الآثام من حيث أن الحلي سبب لها غالبا لما أنه يلبس في الأكثر للفخر والخيلاء والترفع على الفقراء ، وقيل : من حيث أنهم أثموا بسببه وعبدوا العجل المصوغ منه ، وقيل من حيث أن ذلك الحلي صار بعد هلاك أصحابه في حكم الغنيمة ولم يكن مثل هذه الغنيمة حلالا لهم بلا ظاهر الأحاديث الصحيحة أن الغنائم سواء كانت من المنقولات أم لا لم تحل لأحد قبل نبينا ص ، والرواية السابقة في كيفية الإضلال توافق هذا التوجيه إلا أنه يشكل على ذلك ما روي من أن موسى عليه‌السلام هو الذي أمرهم بالاستعارة حتى قيل : إن فاعل التحميل في قولهم (حُمِّلْنا) هو موسى عليه‌السلام حيث ألزمهم ذلك بأمرهم بالاستعارة وقد أبقاه في أيديهم بعد هلاك أصحابه وأقرهم على استعماله فإذا لم يكن حلالا فكيف يقرهم ، وكذا يقال على القول بأن المراد به ما ألقاه البحر على الساحل ، واحتمال أن موسى عليه‌السلام نهى عن ذلك وظن الامتثال ولم يطلع على عدمه لإخفاء الحال عنه عليه‌السلام مما لا يكاد يلتفت إلى مثله أصلا لا سيما على رواية أنهم أمروا باستعارة دواب من القوم أيضا فاستعاروها وخرجوا بها.

وقد يقال : إن أموال القبط مطلقا بعد هلاكهم كانت حلالا عليهم كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) [الدخان : ٢٥ ، ٢٦] كذلك (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [غافر : ٥٣] وقد أضاف سبحانه الحلي إليهم في قوله تعالى (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً) [الأعراف : ١٤٨] وذلك يقتضي بظاهره أن الحلي ملك لهم ويدعي اختصاص الحل فيما كان الرد فيه متعذرا لهلاك صاحبه ومن يقوم مقامه ، ولا ينافي ذلك قوله ص : «أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي لجواز أن يكون المراد به أحلت لي الغنائم على أي وجه كانت ولم تحل كذلك لأحد قبلي ويكون تسميتهم ذلك أوزارا إما لما تقدم من الوجه الأول والثاني وإما لظنهم الحرمة لجهلهم في أنفسهم أو لإلقاء السامري الشبهة عليهم ، وقيل : إن موسى عليه‌السلام أمره الله تعالى أن يأمرهم بالاستعارة فأمرهم وأبقى ما استعاروه بأيديهم بعد هلاك أصحابه بحكم ذلك الأمر منتظرا ما يأمر الله تعالى به بعد. وقد جاء في بعض الأخبار ما يدل على أن الله سبحانه بين حكمه على لسان هارون عليه‌السلام بعد ذهاب موسى عليه‌السلام للميقات كما سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك. والجار والمجرور يحتمل أن يكون متعلقا بحملنا وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لأوزارا ، ولا يتعين ذلك بناء على قولهم : إن الجمل والظروف بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال لأن ذلك ليس على إطلاقه.

وقرأ الأخوان وأبو عمرو وابن محيصن «حملنا» بفتح الحاء والميم وأبو رجاء «حملنا» بضم الحاء وكسر الميم

٥٥٦

من غير تشديد (فَقَذَفْناها) أي طرحناها في النار كما تدل عليه الأخبار. وقيل : أي ألقيناها على أنفسنا وأولادنا وليس بشيء أصلا (فَكَذلِكَ) أي فمثل ذلك (أَلْقَى السَّامِرِيُ) أي ما كان معه منها قيل كأنه أراهم أنه أيضا يلقي ما كان معه من الحلي فقالوا ما قالوا على زعمهم وإنما كان الذي ألقاه التربة التي أخذها من أثر الرسول كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقيل : إنه ألقى ما معه من الحلي وألقى مع ذلك ما أخذه من أثر الرسول كأنهم لم يريدوا إلا أنه ألقى ما معه من الحلي ، وقيل : أرادوا ألقى التربة ، وأيده بعضهم بتغيير الأسلوب إذ لم يعبر بالقذف المتبادر منه أن ما رماه جرم مجتمع وفيه نظر ، وقد يقال : المعنى فمثل ذلك الذي ذكرناه لك ألقى السامري إلينا وقرره علينا وفيه بعد وإن ذكر أنه قال لهم : إنما تأخر موسى عليه‌السلام عنكم لما معكم من حلي القوم وهو حرام عليكم فالرأي أن نحفر حفيرة ونسجر فيها نارا ونقذف فيها ما معنا منه ففعلوا وكان صنع في الحفيرة قالب عجل ، وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما فصل موسى عليه‌السلام إلى ربه سبحانه قال لهم هارون عليه‌السلام : إنكم قد حملتم أوزارا من زينة القوم إلى فرعون وأمتعة وحليا فتطهروا منها فإنها رجس وأوقد لهم نارا فقال لهم : اقذفوا ما معكم من ذلك فيها فجعلوا يأتون بما معهم فيقذفونه فيها فجاء السامري ومعه تراب من أثر حافر فرس جبريل عليه‌السلام وأقبل إلى النار فقال لهارون عليه‌السلام : يا نبي الله أألقي ما في يدي؟ فقال : نعم ولا يظن هارون عليه‌السلام إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من ذلك الحلي والأمتعة فقذفه فيها فقال : كن عجلا جسدا له خوار فكان للبلاء والفتنة.

وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا أن بني إسرائيل استعاروا حليا من القبط فخرجوا به معهم فقال لهم هارون بعد أن ذهب موسى عليهما‌السلام : اجمعوا هذا الحلي حتى يجيء موسى فيقضي فيه ما يقضي فجمع ثم أذيب فألقى السامري عليه القبضة (فَأَخْرَجَ) أي السامري (لَهُمْ) للقائلين المذكورين (عِجْلاً) من تلك الأوزار التي قذفوها ؛ وتأخيره مع كونه مفعولا صريحا عن الجار والمجرور لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم فإن قوله (جَسَداً) أي جثة ذا لحم ودم أو جسدا من ذهب لا روح فيه بدل منه ، وقيل : هو نعت له على أن معناه أحمر كالمجسد ، وكذا قوله تعالى (لَهُ خُوارٌ) نعت له ، والخوار صوت العجل. وهذا الصوت إما لأنه نفخ فيه الروح بناء على ما أخرجه ابن مردويه عن كعب بن مالك عن النبي ص قال : «إن الله تعالى لما وعد موسى عليه‌السلام أن يكلمه خرج للوقت الذي وعده فبينما هو يناجي ربه إذ سمع خلفه صوتا فقال : إلهي إني أسمع خلفي صوتا قال : لعل قومك ضلوا قال : إلهي من أضلهم؟ قال : أضلهم السامري قال : فيم أضلهم؟ قال : صاغ لهم عجلا جسدا له خوار قال : إلهي هذا السامري صاغ لهم العجل فمن نفخ فيه الروح حتى صار له خوار؟ قال : أنا يا موسى قال : فوعزتك ما أضل قومي أحد غيرك قال : صدقت يا حكيم الحكماء لا ينبغي لحكيم أن يكون أحكم منك».

وجاء في رواية أخرى عن راشد بن سعد أنه سبحانه قال له : يا موسى إن قومك قد افتتنوا من بعدك قال : يا رب كيف يفتتنون وقد نجيتهم من فرعون ونجيتهم من البحر وأنعمت عليهم وفعلت بهم قال : يا موسى إنهم اتخذوا من بعدك عجلا له خوار قال : يا رب فمن جعل فيه الروح؟ قال : أنا قال : فأنت يا رب أضللتهم قال : يا موسى يا رأس النبيين ويا أبا الحكماء إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم ، وإما لأنه تدخل فيه الريح فيصوت بناء على ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال : كان بني إسرائيل تأثموا من حلي آل فرعون الذي معهم فأخرجوه لتنزل النار فتأكله فلما جمعوه ألقى السامري القبضة وقال : كن عجلا جسدا له خوار فصار كذلك وكان يدخل الريح من دبره ويخرج من فيه

٥٥٧

فيسمع له صوت (فَقالُوا) أي السامري ومن افتتن به أول ما رآه ، وقيل : الضمير للسامري ، وجيء به ضمير جمع تعظيما لجرمه ، وفيه بعد.

(هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) أي فغفل عنه موسى وذهب يطلبه في الطور ، فضمير نسى لموسى عليه‌السلام كما روي عن ابن عباس وقتادة والفاء فصيحة أي فاعبدوه والزموا عبادته فقد نسي موسى عليه‌السلام ، وعن ابن عباس أيضا. ومكحول أن الضمير للسامري والنسيان مجاز عن الترك والفاء فصيحة أيضا أي فأظهر السامري النفاق فترك ما كان فيه من أسرار الكفر ، والأخبار بذلك على هذا منه تعالى وليس داخلا في حيز القول بخلافه على الوجه الأول. وصنيع بعض المحققين يشعر باختيار الأول ؛ ولا يخفى ما في الإتيان باسم الإشارة والمشار إليه بمرأى منهم وتكريرا له ، وتخصيص موسى عليه‌السلام بالذكر وإتيان الفاء من المبالغة في الضلال ؛ والأخبار بالإخراج وما بعده حكاية نتيجة فتنة السامري فعلا وقولا من جهته سبحانه قصدا إلى زيادة تقريرها ثم الإنكار عليها لا من جهة القائلين وإلا لقيل فأخرج لنا ، والحمل على أن عدولهم إلى ضمير الغيبة لبيان أن الإخراج والقول المذكورين للكل لا للعبدة فقط خلاف الظاهر مع أنه مخل باعتذارهم فإن مخالفة بعضهم للسامري وعدم افتتانهم بتسويله مع كون الإخراج والخطاب لهم مما يهون مخالفته للمعتذرين فافتتانهم بعد أعظم جناية وأكثر شناعة ، وأما ما قيل من أن المعتذرين هم الذين لم يعبدوا العجل وأن نسبة الأخلاف إلى أنفسهم وهم برآء منه من قيل قولهم بنو فلان قتلوا فلانا مع أن القاتل واحد منهم كانوا قالوا : ما وجدنا الأخلاف فيما بيننا بأمر كنا نملكه بل تمكنت الشبهة في قلوب العبدة حيث فعل بهم السامري ما فعل فأخرج لهم ما أخرج وقال ما قال فلم نقدر على صرفهم عن ذلك ولم نفارقهم مخافة ازدياد الفتنة فقد قال شيخ الإسلام : إن سياق النظم الكريم وسباقه يقضيان بفساده ، وذهب أبو مسلم إلى أن كلام المعتذرين ثم عند قولهم فقذفناها وما بعده من قوله تعالى : (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) إلى آخره أخبار من جهته سبحانه أن السامري فعل كما فعلوا فأخرج لهم إلخ وهو خلاف الظاهر.

هذا وقرأ الأعمش «فنسي» بسكون الياء ، وقوله تعالى (أَفَلا يَرَوْنَ) إلى آخره إنكار وتقبيح من جهته تعالى الضالين والمضلين جميعا وتسفيه لهم فيما أقدموا عليه من المنكر الذي لا يشتبه بطلانه واستحالته على أحد وهو اتخاذ ذلك العجل إلها ، ولعمري لو لم يكونوا في البلادة كالبقر لما عبدوه ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألا يتفكرون فلا يعلمون (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) أي أنه لا يرجع إليهم كلاما ولا يرد عليهم جوابا بل يخور كسائر العجاجيل فمن هذا شأنه كيف يتوهم أنه إله.

وقرأ الإمام الشافعي وأبو حيوة وأبان وابن صبيح والزعفراني «يرجع» بالنصب على أن أن هي الناصبة لا المخففة من الثقيلة ، والرؤية حينئذ بمعنى الإبصار لا العلم بناء على ما ذكره الرضى. وجماعة من أن الناصبة لا تقع بعد أفعال القلوب مما يدل على يقين أو ظن غالب لأنها لكونها للاستقبال تدخل على ما ليس بثابت مستقر فلا يناسب وقوعها بعد ما يدل على يقين ونحوه ، والعطف أيضا كما سبق أي ألا ينظرون فلا يبصرون عدم رجعه إليهم قولا من الأقوال ، وتعليق الأبصار بما ذكر مع كونه أمرا عدميا للتنبيه على كمال ظهوره المستدعي لمزيد تشنيعهم وتركيك عقولهم ، وقيل : إن الناصبة لا تقع بعد رأي البصرية أيضا لأنها تفيد العلم بواسطة إحساس البصر كما في إيضاح المفصل. وأجاز الفراء وابن الأنباري وقوعها بعد إفعال العلم فضلا عن أفعال البصر ، وقوله تعالى (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) عطف على لا (يَرْجِعُ) داخل معه في حيز الرؤية أي فلا يرون أنه لا يقدر على أن يدفع عنهم ضرا ويجلب لهم نفعا أو لا يقدر على أن يضرهم إن لم يعبدوه أو ينفعهم إن عبدوه.

٥٥٨

وقوله تعالى (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ) مع ما بعد جملة قسمية مؤكدة لما سبق من الإنكار والتشنيع ببيان عتوهم واستعصائهم على الرسول إثر بيان مكابرتهم لقضية العقول أي وبالله لقد نصح لهم هارون ونبههم على كنه الأمر من قبل رجوع موسى عليه‌السلام إليهم وخطابه إياهم بما ذكر من المقالات ، وإلى اعتبار المضاف إليه قبل ما ذكر ذهب الواحدي ، وقيل : من قبل قول السامري هذا إلهكم وإله موسى كأنه عليه‌السلام أول ما أبصره حين طلع من الحفيرة تفرس فيهما لافتتان فسارع إلى تحذيرهم ، واختاره صاحب الكشف تبعا لشيخه وقال : هو أبلغ وأدل على توبيخهم بالإعراض عن دليل العقل والسمع في «أفلا يرون. ولقد ال» واختار بعضهم الأول وادعى أن الجواب يؤيده ، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك.

وجوز العلامة الطيبي في هذه الجملة وجهين كونها معطوفة على قوله تعالى (أَفَلا يَرَوْنَ) وقال : إن في إيثار المضارع فيه دلالة على استحضار تلك الحالة الفظيعة في ذهن السامع واستدعاء الإنكار عليهم ، وكونها في موضع الحال من فاعل (يَرَوْنَ) مقررة لجهة الإنكار أي أفلا يرون والحال أن هارون نبههم قبل ذلك على كنه الأمر ، وقال لهم : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) أي أوقعتهم في الفتنة بالعجل أو أضللتم على توجيه القصر المستفاد من كلمة (إِنَّما) في أغلب استعمالاتها إلى نفس الفعل بالقياس إلى مقابله الذي يدعيه القوم لا إلى قيده المذكور بالقياس إلى قيد آخر على معنى إنما فعل بكم الفتنة لا الإرشاد إلى الحق لا على معنى إنما فتنتم بالعجل لا بغيره ، وقوله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) بكسر همزة (إِنَ) عطفا على (إِنَّما) إلخ إرشاد لهم إلى الحق أثر زجرهم عن الباطل. والتعرض لعنوان الربوبية والرحمة للاعتناء باستمالتهم إلى الحق. وفي ذلك تذكير لتخليصهم من فرعون زمان لم يوجد العجل. وكذا على ما قيل تنبيه على أنهم متى تابوا قبلهم. وتعريف الطرفين لإفادة الحصر أي وإن ربكم المستحق للعبادة هو الرحمن لا غير.

وقرأ الحسن وعيسى وأبو عمرو في رواية «وأن ربكم» بفتح الهمزة ، وخرج على أن المصدر المنسبك خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن ربكم الرحمن ، والجملة معطوفة على ما مر ، وقال أبو حاتم : التقدير ولأن ربكم إلخ وجعل الجار والمجرور متعلقا باتبعوني. وقرأت فرقة «أنما» «وأن ربكم» بفتح الهمزتين ، وخرج على لغة سليم حيث يفتحون همزة إن بعد القول مطلقا. والفاء في قوله تعالى : (فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) لترتيب ما بعدها على ما قبلها من مضمون الجملتين أي إذا كان الأمر كذلك فاتبعوني وأطيعوا أمري في الثبات على الدين.

وقال ابن عطية : أي فاتبعوني إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه. وفيه أنه عليه‌السلام لم يكن بصدد الذهاب إلى الطور ولم يكن مأمورا به وما واعد الله سبحانه أولئك المفتونين بذهابهم أنفسهم إليه ، وقيل : ـ لا يخلو عن حسن ـ أي فاتبعوني في الثبات على الحق وأطيعوا أمري هذا وأعرضوا عن التعرض لعبادة ما عرفتم أمره أو كفوا أنفسكم عن اعتقاد ألوهيته وعبادته (قالُوا) في جواب هارون عليه‌السلام (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ) أي لا نزال على عبادة العجل (عاكِفِينَ) مقيمين (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) الظاهر من حالهم أنهم لم يجعلوا رجوعه عليه‌السلام وما ذا يقول فيه ، وقيل : إنهم علق في أذهانهم قول السامري : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) فغيوا برجوعه بطريق التعليل والتسويف وأظهروا أنه إذا رجع عليه‌السلام غاية للعكوف على عبادة العجل على طريق الوعد بتركها لا محالة عند رجوعه بل ليروا ما ذا يكون منه عليه‌السلام يوافقهم على عبادته وحاشاه ، وهذا مبني على أن المحاورة بينهم وبين هارون عليه‌السلام وقعت بعد قول السامري المذكور فيكون (مِنْ قَبْلُ) على معنى من قبل رجوع موسى ، وذكر أن

٥٥٩

هذا الجواب يؤيده هذا المعنى لأن قولهم : (لَنْ نَبْرَحَ) إلخ يدل على عكوفهم حال قوله عليه‌السلام وهم لم يعكفوا على عبادته قبل قول السامري وإنما عكفوا بعده.

وقال الطيبي : إن جوابهم هذا من باب الأسلوب الأحمق نقيض الأسلوب الحكيم لأنهم قالوه عن قلة مبالاة بالأدلة الظاهرة كما قال نمروذ في جواب الخليل عليه‌السلام (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] فتأمل ، واستدل أبو حيان بهذا التغيي على أن ـ لن ـ لا تفيد التأبيد لأن التغيي لا يكون إلا حيث يكون الشيء محتملا فيزال الاحتمال به.

وأنت تعلم أن القائل بافادتها ذلك لا يدعي أنها تفيده في كل الموارد وهو ظاهر ، وفي بعض الأخبار أنهم لما قالوا ذلك اعتزلهم هارون عليه‌السلام في اثني عشر ألفا وهم الذين لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى عليه‌السلام وسمع الصياح وكانوا يسجدون إذا خار العجل فلا يرفعون حتى يخور ثانية ، وفي رواية كانوا يرقصون عند خواره قال للسبعين الذين كانوا معه : هذا صوت الفتنة حتى إذا وصل قال لقومه ما قال وسمع منهم ما قالوا.

وقوله تعالى : (قالَ) استئناف نشأ من حكاية جوابهم السابق أعني قوله تعالى (ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ) إلخ كأنه قيل : فما ذا قال موسى لهارون عليهما‌السلام حين سمع جوابهم وهل رضي بسكوته بعد ما شاهد منهم ما شاهد؟ فقيل : قال له وهو مغتاظ قد أخذ بلحيته ورأسه (يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) بعبادة العجل ولم يلتفتوا إلى دليل بطلانها (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي تتبعني على أن (لا) سيف خطيب كما في قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] وهو مفعول ثان لمنع وإذ متعلق بمنع ، وقيل : بتتبعني ، ورد بأن ما بعد ـ أن ـ لا يعمل فيما قبلها ، وأجيب بأن الظرف يتوسع فيه ما لم يتوسع في غيره وبأن الفعل السابق لما طلبه على أنه مفعول ثان له كان مقدما حكما وهو كما ترى أي أي شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم من أن تتبعني وتسير بسيري في الغضب لله تعالى والمقاتلة مع من كفر به وروي ذلك عن مقاتل ، وقيل : في الإصلاح والتسديد ولا يساعده ظاهر الاعتذار ، واستظهر أبو حيان أن يكون المعنى ما منعك من أن تلحقني إلى جبل الطور بمن آمن من بني إسرائيل ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكان موسى عليه‌السلام رأى أن مفارقة هارون لهم وخروجه من بينهم بعد تلك النصائح القولية أزجر لهم من الاقتصار على النصائح لما أن ذلك أدل على الغضب وأشد في الإنكار لا سيما وقد كان عليه‌السلام رئيسا عليهم محبوبا لديهم وموسى يعلم ذلك ومفارقة الرئيس المحبوب كراهة لأمر تشق جدا على النفوس وتستدعي ترك ذلك الأمر المكروه له الذي يوجب مفارقته وهذا ظاهر لا غبار عليه عند من أنصف.

فالقول بأن نصائح هارون عليه‌السلام حيث لم تزجرهم عما كانوا عليه فلأن لا تزجرهم مفارقته إياهم عنه أولى على ما فيه لا يرد على ما ذكرنا ؛ ولا حاجة إلى الاعتذار بأنهم إذا علموا أنه يلحقه ويخبره عليهما‌السلام بالقصة يخافون رجوع موسى عليه‌السلام فينزجرون عن ذلك ليقال : إنه بمعزل عن القبول كيف لا وهم قد صرحوا بأنهم عاكفون عليه إلى حين رجوعه عليه‌السلام ، وقال علي بن عيسى : إن (لا) ليست مزيدة ، والمعنى ما حملك على عدم الاتباع فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) بسياستهم حسب ما ينبغي فإن قوله عليه‌السلام (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) بدون ضم قوله (وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف : ١٤٢] متضمن للأمر بذلك حتما فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخلف لو كان حاضرا وموسى عليه‌السلام لو كان حاضرا لساسهم على أبلغ وجه ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألم تتبعني أو أخالفتني

٥٦٠