روح المعاني - ج ٨

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٨

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٨

إليه بإقامة غيره أو موضع قيامه الممتد ، وأما إذا قصد ذلك فمقتضاه الثاني كما إذا قلت : أقيمت تاء القسم مقام الواو تنبيها على أنها خلف عن الباء التي هي الأصل من أحرف القسم.

ومقامات الكلمات كلها وإن كانت منوطة بوضع الواضع لكن مقامها المنوط بأصل الوضع لكونه مقاما أصليا لها قد نزل منزلة موضع قيامها بأنفسها وجعل مقامها المنوط بالاستعمال الطارئ جاريا مجرى المقام الاضطراري لذوات الاختيار ، هذا إذا كان المقام ظرفا أما إذا كان مصدرا ميميا والفعل الناصب رباعي فحقه ضم الميم انتهى المراد منه.

وأنت تعلم أنه في هذا المقام ليس منصوبا على الظرفية ولا على المصدرية بل منصوب على التمييز وهو محول عن المبتدأ على ما قيل : أي أي الفريقين مقامه خير (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) أي مجلسا ومجتمعا ، وفي البحر هو المجلس الذي يجتمع فيه لحادثة أو مشورة ، وقيل : مجلس أهل الندى أي الكرم. وكذا النادي يروي أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنونها ويتطيبون ويلبسون مفاخر الملابس ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين الذين لا يقدرون على ذلك إذا تليت عليهم الآيات ، قال الإمام : ومرادهم من ذلك معارضة المؤمنين كأنهم قالوا : لو كنتم على الحق وكنا على الباطل كان حالكم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في العذاب والذل وأعداءه المعرضين عن خدمته في العز والراحة لكن الكفار كانوا في النعمة والراحة والمؤمنين كانوا بعكس ذلك فعلم أن الحق ليس مع المؤمنين ، وهذا مع ظهور أنه قياس عقيم ناشئ من رأى سقيم نقضه الله تعالى وأبطله بقوله سبحانه (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً).

وحاصله أن كثيرا ممن كان أعظم نعمة منكم في الدنيا كعاد. وثمود. وأضرابهم من الأمم العاتية قد أهلكهم الله تعالى فلو دل حصول نعمة الدنيا للإنسان على كونه مكرما عند الله تعالى وجب أن لا يهلك أحدا من المتنعمين في الدنيا ، وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى كأنه قيل فلينظر هؤلاء أيضا مثل ذلك ، و (كَمْ) خبرية للتكثير مفعول (أَهْلَكْنا) ، وقدمت لصدارتها ، وقيل : استفهامية والأول هو الظاهر و (مِنْ قَرْنٍ) بيان لإبهامها. والقرن أهل كل عصر ، وقد اختلف في مدته وهو من قرن الدابة سمي به لتقدمه ، ومنه قرن الشمس لأول ما يطلع منها. و «هم أحسن» في حيز النصب على ما ذهب إليه الزمخشري وتبعه أبو البقاء صفة لكم ورده أبو حيان بأنه قد صرح الأصحاب بأن كم سواء كانت خبرية أو استفهامية لا توصف ولا يوصف بها ، وجعله صفة (قَرْنٍ) وضمير الجمع لاشتمال القرن على أفراد كثيرة ولو أفرد الضمير لكان عربيا أيضا. ولا يرد عليه كما قال الخفاجي : كم من رجل قام وكم من قرية هلكت بناء على أن الجار والمجرور يتعين تعلقه بمحذوف هو صفة لكم كما ادعى بعضهم أن الرضي أشار إليه لأنه يجوز في الجار والمجرور أن يكون خبرا لمبتدإ محذوف والجملة مفسرة لا محل لها من الإعراب فما ادعى غير مسلم عنده ، و (أَثاثاً) تمييز وهو متاع البيت من الفرش والثياب وغيرها واحدها أثاثة ، وقيل : لا واحد لها وقيل : الأثاث ماجد من المتاع والخرثي ما قدم وبلى ، وأنشد الحسن بن علي الطوسي :

تقادم العهد من أم الوليد بنا

دهرا وصار أثاث البيت خرثيا

والرئي المنظر كما قال ابن عباس. وغيره ، وهو فعل بمعنى مفعول من الرؤية كالطحن والسقي. وقرأ الزهري وأبو جعفر وشيبة وطلحة في رواية الهمداني وأيوب وابن سعدان وابن ذكوان وقالوا «ريا» بتشديد الياء من غير همز فاحتمل أن يكون من ذلك على قلب الهمزة ياء وإدغامها. واحتمل أن يكون من الري ضد العطش والمراد به النضارة والحسن. وقرأ أبو بكر في رواية الأعمش «ريئا» بياء ساكنة بعدها همزة وهو على القلب ووزنه فلعا ، وقرئ «رياء» بياء بعدها ألف

٤٤١

بعدها همزة حكاها اليزيدي. ومعناها كما في الدر المصون مراءاة بعضهم بعضا.

وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «ريا» بحذف الهمزة والقصر فتجاسر بعض الناس وقال : هي لحن ، وليس كذلك بل خرجت على وجهين أحدهما أن يكون الأصل «ريّا» بتشديد الياء فخفف بحذف إحدى الياءين وهي الثانية لأنها التي حصل بها الثقل ولأن الآخر محل التغيير وذلك كما حذفت في لا سيما. والثاني أن يكون الأصل «ريئا» بياء ساكنة بعدها همزة فنقلت حركة الهمزة إلى الياء ثم حذفت على القاعدة المعروفة.

وقرأ ابن عباس أيضا وابن جبير ويزيد البربري والأعصم المكي «زيّا» بالزاي وتشديد الياء وهو المحاسن المجموعة يقال : زواه زيا بالفتح أي جمعه ، ويراد منه الأثاث أيضا كما ذكره المبرد في قول الثقفي :

أشاقتك الظعائن يوم بانوا

بذي الزي الجميل من الأثاث

والظاهر في الآية المعنى الأول (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ) إلخ أمر منه تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لهم من الحظوظ الدنيوية على المؤمنين ببيان مآل أمر الفريقين إما على وجه كلي متناول لهم ولغيرهم من المنهمكين في اللذة الفانية المبتهجين بها على أن من على عمومها ، وإما على وجه خاص بهم على أنها عبارة عنهم. ووصفهم بالتمكن في الضلالة لذمهم والإشعار بعلة الحكم أي من كان مستقرا في الضلالة مغمورا بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) أي يمد سبحانه له ويمهله بطول العمر وإعطاء المال والتمكن من التصرفات فالطلب في معنى الخبر ، واختير للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحكمة لقطع المعاذير كما ينبئ عنه قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) [فاطر : ٣٧] فيكون حاصل المعنى من كان في الضلالة فلا عذر له فقد أمهله الرحمن ومد له مدا ، وجوز أن يكون ذلك للاستدراج كما ينطق به قوله تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨] وحاصل المعنى من كان في الضلالة فعادة الله تعالى أن يمد له ويستدرجه ليزداد إثما ، وقيل : المراد الدعاء بالمد إظهارا لعدم بقاء عذر بعد هذا البيان الواضح فهو على أسلوب (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) [يونس : ٨٨] إن حمل على الدعاء ، قال في الكشف : الوجه الأول أوفق بهذا المقام ، والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن المدن أحكامها (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) إلى آخره غاية للمد وجمع الضمير في الفعلين باعتبار معنى من كما أن الأفراد في الضميرين الأولين باعتبار لفظها ، وما اسم موصول والجملة بعده صلة والعائد محذوف أي الذي يوعدونه ، واعتبار ما مصدرية خلاف الظاهر.

وقوله تعالى : (إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) بدل من «ما» وتفصيل للموعود على طريقة منع الخلو ، والمراد بالعذاب العذاب الدنيوي بغلبة المؤمنين واستيلائهم عليهم ، والمراد بالساعة قيل : يوم القيامة وهو الظاهر.

وقيل : ما يشمل حين الموت ومعاينة العذاب ومن مات فقد قامت قيامته وذلك لتتصل الغاية بالمغيا فإن المد لا يتصل بيوم القيامة ، وأجيب بأن أمر الفاصل سهل لأن أمور هذه الدنيا لزوالها وتقضيها لا تعد فاصلة كما قيل : ذلك في قوله تعالى : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) [نوح : ٢٥] وقوله تعالى : (فَسَيَعْلَمُونَ) جواب الشرط وهما في الحقيقة الغاية إن قلنا : إن المجموع هو الكلام أو مفهومه فقط إن قلنا : إنه هو الكلام والشرط قيد له ، و (حَتَّى) عند ابن مالك جارة وهي لمجرد الغاية لا جارة ولا عاطفة عند الجمهور وهكذا هي كلما دخلت على إذا الشرطية وهي منصوبة بالشرط أو الجزاء على الخلاف المشهور ، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، والمراد حتى إذا عاينوا ما يوعدون من العذاب الدنيوي أو الأخروي فقط فسيعلمون حينئذ (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) من الفريقين بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يقدرونه فيعلمون أنهم شر مكانا لا خير مقاما ، وفي التعبير بالمكان هنا دون المقام المعبر به هناك مبالغة في

٤٤٢

إظهار سوء حالهم (وَأَضْعَفُ جُنْداً) أي فئة وأنصارا لا أحسن نديا ، ووجه التقابل أن حسن الندى باجتماع وجوه القوم وأعيانهم وظهور شوكتهم واستظهارهم.

وقيل : إن المراد من الندي هناك من فيه كما يقال المجلس العالي للتعظيم وليس المراد أن له ثمة جندا ضعيفا كلا (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) [الكهف : ٤٣] وإنما ذكر ذلك ردا لما كانوا يزعمونه من أن لهم أعوانا من شركائهم ، والظاهر أن من موصولة وهي في محل نصب مفعول «يعلمون» وتعدى إلى واحد لأن العلم بمعنى المعرفة ، وجملة (هُوَ شَرٌّ) صلة الموصول. وجوز أبو حيان كونها استفهامية والعلم على بابه والجملة في موضع نصب سادة مسد المفعولين وهو عند أبي البقاء فصل لا مبتدأ.

وجوز الزمخشري وظاهر صنيعه اختياره أن يكون ما تقدم غاية لقول الكفرة (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ) إلخ.

وقوله تعالى : (كَمْ أَهْلَكْنا) إلخ و (قُلْ مَنْ كانَ) إلخ جملتان معترضتان للإنكار عليهم أي لا يبرحون يقولون هذا القول ويتولون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين إما العذاب في الدنيا بأيدي المؤمنين وإما يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والنكال فحينئذ يعلمون أن الأمر على عكس ما قدروه وتعقبه في البحر بأنه في غاية البعد لطول الفصل بين الغاية والمغيا مع أن الفصل بجملتي اعتراض فيه خلاف أبي علي فإنه لا يجيزه ، وأنت تعلم أيضا بعد إصلاح أمر انقطاع القول حين الموت وعدم امتداده إلى يوم القيامة أن اعتبار استمرار القول وتكرره لا يتم بدون اعتبار استمرار التلاوة لوقوع القول في حيز جواب إذا وهو كما ترى.

(وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً)(٩٨)

٤٤٣

(وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) كلام مستأنف سيق لبيان حال المهتدين إثر بيان حال الضالين كما اختاره أبو السعود ، واختار الزمخشري وتبعه أبو البقاء أنه عطف على موضع (فَلْيَمْدُدْ) إلخ ولم يجوزه أبو حيان سواء كان «فليمدد» دعاء أو خبرا في صورة الطلب لأنه في موضع الخبر إن كانت من موصولة ، وفي موضع الجزاء إن كانت شرطية وموضع المعطوف موضع المعطوف عليه والجملة التي جعلت معطوفة خالية من ضمير يربط الخبر بالمبتدإ والجواب بالشرط ، وقيل عليه أيضا : إن العطف غير مناسب من جهة المعنى كما أنه غير مناسب من جهة الإعراب إذ لا يتجه أن يقال : من كان في الضلالة يزيد الله الذين اهتدوا هدى. وأجيب عن هذا بأن المعنى من كان في الضلالة زيد في ضلالته وزيد في هداية أعدائه لأنه مما يغيظه وعما سبق بأن من شرطية لا موصولة. اشتراط ضمير يعود من الجزاء على اسم الشرط غير الظرف ممنوع وهو غير متفق عليه عند النحاة كما في الدر المصون مع أنه مقدر كما سمعت ولا يخفى أن هذا العطف لا يخلو عن تكلف ، واختار البيضاوي أنه عطف على مجموع قوله تعالى (مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ) إلخ ليتم التقابل فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن يجيبهم عن قولهم المؤمنين أي الفريقين إلخ فليأت بذكر القسمين أصالة. قال الطيبي : فكأنه قيل : قل من كان في الضلالة من الفريقين فليمهله الله تعالى وينفس في مدة حياته ليزيد في الغي ويجمع الله تعالى له عذاب الدارين ومن كان في الهداية منهما يزيد الله تعالى هدايته فيجمع سبحانه له خير الدارين. وهذا الجواب من الأسلوب الحكيم وفيه معنى قول حسان :

أتهجوه ولست له بكفء

فشر كما لخير كما فداء

في الدعاء والاحتراز عن المواجهة ، وفي الكشف أن هذا أولى مما اختاره الزمخشري (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) قد تقدمت الأقوال المأثورة في تفسيرها ، واختير أنها الطاعات التي تبقى فوائدها وتدوم عوائدها لعمومه وكلها (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) بمعناه المتعارف ، وقيل : عائدة مما متع به الكفرة من النعم المخدجة الفانية التي يفتخرون بها (وَخَيْرٌ) من ذلك أيضا (مَرَدًّا) أي مرجعا وعاقبة لأن عاقبتها المسرة الأبدية والنعيم المقيم وعاقبة ذلك الحسرة السرمدية والعذاب الأليم. وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اللطف والتشريف ما لا يخفى. وتكرير الخير لمزيد الاعتناء ببيان الخيرية وتأكيد لها. وفي الآية على ما ذكره الزمخشري ضرب من التهكم بالكفرة حيث أشارت إلى تسمية جزائهم ثوابا. والمفاضلة على ما قال على طريقة ـ الصيف أحر من الشتاء ـ أي أبلغ في حره من الشتاء في برده وليست على التهكم لأنك لو قلت : النار خير من الزمهرير أو بالعكس تهكما كان التهكم على بابه في المفضل والمفضل عليه وذلك مما لا يتمشى فيما نحن فيه. وحاصل ما أراده أن المراد ثواب هؤلاء أبلغ من ثواب أولئك أي عقابهم. وقول صاحب التقريب فيه : إنه غير معلوم جوابه كيف لا وقد سبقت الرحمة الغضب وفي الجنة من الضعف والإفضال ما لا يقادر قدره والنار من عدله تعالى ، وقوله : إنه غير مناسب لمقام التهديد مع ما فيه من المنع يرد عليه أن الكلام مبني على التقابل وأنه على المشاكلة في قولهم (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً) وأحسن نديا فوعد هؤلاء ليس لمجرد تهديد أولئك بل مقصود لذاته قاله في الكشف.

وقال صاحب الفرائد : ما قاله الزمخشري بعيد عن الطبع والاستعمال وليس في كلامهم ما يشهد له ، ويمكن أن يقال : المراد ثواب الأعمال الصالحة في الآخرة خير من ثوابهم في الدنيا وهو ما حصل لهم منها من الخير بزعمهم ومما أوتوا من المال والجاه والمنافع الحاصلة منهما اه ، ورد إنكاره له بأن الزجاج ذكره في قوله تعالى : (أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [الفرقان : ١٥] وأن له نظائر. والبعد عن الطبع في حيز المنع.

وقال بعض المحققين : إن أفعل في الآية للدلالة على الاتصاف بالحدث وعلى الزيادة المطلقة كما قيل في

٤٤٤

يوسف عليه‌السلام أحسن إخوته وهي إحدى حالاته الأربع التي ذكرها بعض علماء العربية ، فالمعنى أن ثوابهم ومردهم متصف بالزيادة في الخيرية على المتصف بها بقطع النظر عن هؤلاء المفتخرين بدنياهم فلا يلزم مشاركتهم في الخيرية فتأمل. والجملة على ما ذهب إليه أبو السعود على تقديري الاستئناف والعطف فيما قبلها مستأنفة واردة من جهته تعالى لبيان فضل أعمال المهتدين غير داخلة في حيز الكلام الملقن لقوله سبحانه (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) ومشتملة على تسلية قلوب المؤمنين مما عسى أن يختلج فيها من مفاخرة الكفرة شيء كما أن قوله تعالى (حَتَّى إِذا رَأَوْا) ـ إلى ـ (جُنْداً) تتميم لوعيدهم ، وكلاهما من تتمة الأمر بالجواب عن قولهم (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) ، وجعل التعبير بخير واردا على طريق المشاكلة. وما ذكره من كون ذلك من تتمة الجواب هو المنساق إلى الذهن إلا أن ظاهر الخطاب يأباه وقد يتكلف له ، ولعلنا قد أسلفنا في هذه السورة ما ينفعك في أمره فتذكر.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) أي بآياتنا التي من جملتها آيات البعث. أخرج البخاري ومسلم والترمذي والطبراني وابن حبان وغيرهم عن خباب بن الأرت قال : كنت رجلا قينا وكان لي على العاصي بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تموت ثم تبعث قال : فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك فأنزل الله تعالى (أَفَرَأَيْتَ) إلخ.

وفي رواية أن خبابا قال له لا والله لا أكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيا ولا ميتا ولا إذا بعثت فقال العاصي : فإذا بعثت جئتني إلخ ، وفي رواية أن رجالا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتوه يتقاضون دينا لهم عليه فقال : ألستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا ومن كل الثمرات؟ قالوا : بلى قال : موعدكم الآخرة والله لأوتين مالا وولدا ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به فنزلت ، وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وقد كانت له أقوال تشبه ذلك ، وقال أبو مسلم : هي عامة في كل من له هذه الصفة ، والأول هو الثابت في كتب الصحيح ، والهمزة للتعجيب من حال ذلك الكافر والإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يجب أن ترى ويقضي منها العجب ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا الباهرة التي حقها أن يؤمن بها كل من وقف عليها (وَقالَ) مستهزأ بها مصدرا كلامه باليمين الفاجرة والله (لَأُوتَيَنَ) في الآخرة واردة في الدنيا كما حكاه الطبرسي عن بعضهم تأباه الأخبار الصحيحة إلا أن يحمل الإيتاء على ما قيل على الإيتاء المستمر إلى الآخرة أي لأوتين إيتاء مستمرا (مالاً وَوَلَداً) والمراد انظر إليه فتعجب من حالته البديعة وجرأته الشنيعة ، وقيل: إن الرؤية مجاز عن الأخبار من إطلاق السبب وإرادة المسبب ، والاستفهام مجاز عن الأمر به لأن المقصود من نحو قولك : ما فعلت أخبرني فهو إنشاء تجوز به عن إنشاء آخر والفاء على أصلها.

والمعنى أخبر بقصة هذا الكافر عقيب حديث أولئك الذين قالوا : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً) الآية ، وقيل : عقيب حديث من قال : (إِذا ما مِتُ) إلخ ، وما قدمنا في معنى الآية هو الأظهر واختاره العلامة أبو السعود.

وتعقب الثاني بقوله : أنت خبير بأن المشهور استعمال (أَرَأَيْتَ) في معنى أخبرني بطريق الاستفهام جاريا على أصله أو مخرجا إلى ما يناسبه من المعاني لا بطريق الأمر بالأخبار لغيره وإرادة أخبرني بطريق الاستفهام جاريا على أصله أو مخرجا إلى ما يناسبه من المعاني لا بطريق الأمر بالأخبار لغيره وإرادة أخبرني هنا مما لا يكاد يصح كما لا يخفى.

وقيل : المراد لأوتين في الدنيا ويأباه سبب النزول ، قال العلامة : إلا أن يحمل على الإيتاء المستمر إلى الآخرة فحينئذ ينطبق على ذلك. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن عيسى الأصبهاني «ولدا» بضم الواو وسكون اللام فقيل : هو جمع ولد كأسد وأسد وأنشدوا له قوله :

٤٤٥

ولقد رأيت معاشرا

قد ثمروا مالا وولدا

وقيل هو لغة في ولد كالعرب والعرب ، وأنشدوا له قوله :

فليت فلانا كان في بطن أمه

وليت فلانا كان ولد حمار

والحق أنه ورد في كلام العرب مفردا وجمعا وكلاهما صحيح هنا. وقرأ عبد الله ويحيى بن يعمر «ولدا» بكسر الواو وسكون اللام وهو بمعنى ذلك ، وقوله تعالى : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) رد لكلمته الشنعاء وإظهار لبطلانها إثر ما أشير إليه بالتعجيب منها ، فالجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، وقيل : إنها في محل نصب واقعة موقع مفعول ثان لأرأيت على أنه بمعنى أخبرني وهو كما ترى ، والهمزة للاستفهام ، والأصل أأطلع فحذفت همزة الوصل تخفيفا ، وقرأ «أطلع» بكسر الهمزة وحذف همزة الاستفهام لدلالة أم عليها كما في قوله : بسبع رمين الجمر أم بثمان والفعل متعد بنفسه وقد يتعدى بعلى وليس بلازم حتى تكون الآية من الحذف والإيصال ، والمراد من الطلوع الظهور على وجه العلو والتملك ولذا اختير على التعبير بالعلم ونحو ـ أي أقد بلغ من عظمة الشأن إلى أن ارتقى علم الغيب الذي استأثر به العليم الخبير جل جلاله حتى ادعى علم أن يؤتى في الآخرة مالا وولدا وأقسم عليه ، وعن ابن عباس أن المعنى انظر في اللوح المحفوظ (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) قال لا إله إلا الله يرجو بها ذلك ، وعن قتادة العهد العمل الصالح الذي وعد الله تعالى عليه الثواب ، فالمعنى أعلم الغيب أم عمل عملا يرجو ذلك في مقابلته. وقال بعضهم : العهد على ظاهره. والمعنى أعلم الغيب أم أعطاه الله تعالى عهدا وموثقا وقال له : إن ذلك كائن لا محالة.

ونقل هذا عن الكلبي ، وهذه مجاراة مع العين بحسب منطوق مقاله كما أن كلامه كذلك ، والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بعلية الرحمة لإيتاء ما يدعيه (كَلَّا) ردع وزجر عن التفوه بتلك العظيمة ، وفي ذلك تنبيه على خطئه. وهذا مذهب الخليل وسيبويه والأخفش والمبرد وعامة البصريين في هذا الحرف وفيه مذاهب لعلنا نشير إليها إن شاء الله تعالى ، وهذا أول موضع وقع فيه من القرآن ، وقد تكرر في النصف الأخير فوقع في ثلاثة وثلاثين موضعا ولم يجوز أبو العباس الوقف عليه في موضع.

وقال الفراء : هو على أربعة أقسام ، أحدها ما يحسن الوقف عليه ويحسن الابتداء به والثاني ما يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء به ، والثالث ما يحسن الابتداء به ولا يحسن الوقف عليه ، والرابع ما لا يحسن فيه شيء من الأمرين ، أما القسم الأول ففي عشرة مواضع ما نحن فيه وقوله تعالى : (لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا) [مريم : ٨١] وقوله سبحانه (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا) [المؤمنون : ١٠٠] وقوله عزوجل (الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلَّا) [سبأ : ٢٧] وقوله تبارك وتعالى (أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا) [المعارج : ٣٨ ، ٣٩] وقوله جل وعلا (أَنْ أَزِيدَ كَلَّا) [المدثر : ١٥ ، ١٦] وقوله عزّ اسمه (صُحُفاً مُنَشَّرَةً كَلَّا) [المدثر : ٥٢ ، ٥٣] وقوله سبحانه وتعالى (رَبِّي أَهانَنِ كَلَّا) [الفجر : ١٦ ، ١٧] وقوله تبارك اسمه (أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا) [الهمزة : ٣ ، ٤] وقوله تعالى شأنه (ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلَّا) [المعارج : ١٤ ، ١٥] فمن جعله في هذه المواضع ردا لما قبله وقف عليه ومن جعله بمعنى ألا التي للتنبيه أو بمعنى حقا ابتدأ به وهو يحتمل ذلك فيها ، وأما القسم الثاني ففي موضعين قوله جل جلاله حكاية (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قالَ كَلَّا) [الشعراء : ١٤ ، ١٥] وقوله عزّ شأنه (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا) [الشعراء : ٦١ ، ٦٢] وأما الثالث ففي تسعة عشر موضعا قوله تعالى شأنه : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) [عيسى : ١١] (كَلَّا وَالْقَمَرِ) [المدثر : ٣٢] (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) [الانفطار : ٩] (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) [القيامة : ٢٦] (كَلَّا لا وَزَرَ) [القيامة : ١١] (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) [القيامة : ٢٠] (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) [النبأ : ٤] (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) [عبس : ١٣] (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى

٤٤٦

قُلُوبِهِمْ) [المطففين : ١٤] (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) [الفجر : ١٧] (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) [المطففين : ٧] (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ) [المطففين : ١٨] (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ) [المطففين : ١٥] (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ) [الفجر : ٢١] (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) [العلق : ٦] (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) [العلق : ١٥] (كَلَّا لا تُطِعْهُ) [العلق : ١٩] (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [التكاثر : ٣] (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ) [التكاثر : ٥] لأنه ليس للرد في ذلك ، وأما القسم الرابع ففي موضعين (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الفجر : ٢١] (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) [التكاثر : ١٤] فإنه لا يحسن الوقف على ثم لأنه حرف عطف ولا على كلا لأن الفائدة فيما بعد ، وقال بعضهم : إنه يحسن الوقف على كلا في جميع القرآن لأنه بمعنى انته إلى في موضع واحد وهو قوله تعالى (كَلَّا وَالْقَمَرِ) [المدثر : ٣٢] لأنه موصول باليمين بمنزلة قولك أي وربي (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) أي سنظهر أنا كتبنا قوله كقوله :

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

ولم تجدي من أن تقرّي به بدا

أي إذا انتسبنا علمت وتبين أني لست بابن لئيمة أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة الجاني وحفظها عليه فإن نفس كتبة ذلك لا تكاد تتأخر عن القول لقوله تعالى (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨] وقوله سبحانه جل وعلا (وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف : ٨٠] فمبني الأول تنزيل إظهار الشيء الخفي منزلة إحداث الأمر المعدوم بجامع أن كلا منهما إخراج من الكمون إلى البروز فيكون استعارة تبعية مبنية على تشبيه إظهار الكتابة على رءوس الإشهاد بأحداثها ومدار الثاني تسمية الشيء باسم سببه فإن كتبة جريمة المجرم سبب لعقوبته قطعا قاله أبو السعود ، وقيل : إن الكتابة في المعنى الثاني استعارة للوعيد بالانتقام وفيه خفاء ، وقال بعضهم : لا مجاز في الآية بيد أن السين للتأكيد ، والمراد نكتب في الحال ورد بأن السين إذا أكدت فإنما تؤكد الوعد أو الوعيد وتفيد أنه كائن لا محالة في المستقبل. وأما إنها تؤكد ما يراد به الحال فلا كذا قيل : فليراجع.

وقرأ الأعمش «سيكتب» بالياء التحتية والبناء للمفعول وذكرت عن عاصم (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد أي نطول له من العذاب ما يستحقه أو نزيد عذابه ونضاعفه له من المدد يقال : مده وأمده بمعنى ، وتدل عليه قراءة علي كرم الله تعالى وجهه «ونمد» بالضم وهو بهذا المعنى يجوز أن يستعمل باللام وبدونها ومعناه على الأول نفعل المد له وهو أبلغ من نمده وأكد بالمصدر إيذانا بفرط غضب الله تعالى عليه لكفره وافترائه على الله سبحانه واستهزائه بآياته العظام نعوذ بالله عزوجل مما يستوجب الغضب.

(وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) أي نسلب ذلك ونأخذه بموته أخذ الوارث ما يرثه ، والمراد بما يقول مسماه ومصداقه وهو ما أوتيه في الدنيا من المال والولد يقول الرجل : أنا أملك كذا فتقول : ولي فوق ما تقول ، والمعنى على المضي وكذا في يقول السابق ، وفيه إيذان بأنه ليس لما قال مصداق موجود سوى ما ذكر ، وما إما بدل من الضمير بدل اشتمال وإما مفعول به أي نرث منه ما آتيناه في الدنيا (وَيَأْتِينا) يوم القيامة (فَرْداً) لا يصحبه مال ولا ولد كان له فضلا أي يؤتى ثمة زائدا ، وفي حرف ابن مسعود «ونرثه ما عنده ويأتينا فردا لا مال له ولا ولد» وهو ظاهر في المعنى المذكور ، وقيل : المعنى نحرمه ما زعم أنه يناله في الآخرة من المال والولد ونعطيه لغيره من المستحقين ، وروي هذا عن أبي سهل ، وتفسير الإرث بذلك تفسير باللازم و (ما يَقُولُ) مراد منه مسماه أيضا والولد الذي يعطى للغير ينبغي أن يكون ولد ذلك الغير الذي كان له في الدنيا وإعطاؤه إياه بأن يجمع بينه وبينه حسبما يشتهيه وهذا مبني على أنه لا توالد في الجنة.

وقد اختلف العلماء في ذلك فقال جمع : منهم مجاهد وطاوس وإبراهيم النخعي : بعدم التوالد احتجاجا بما في

٤٤٧

حديث لقيط رضي الله تعالى عنه الطويل الذي عليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة ما ينادي على صحته ، وقال فيه أبو عبد الله بن مندة لا ينكره إلا جاحد أو جاهل ، وقد خرجه جماعة من أئمة السنة من قوله : قلت يا رسول الله أو لنا فيها أزواج أو منهن مصلحات؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المصلحات للمصلحين تلذذونهن ويلذذنكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أن لا تتوالد» ، وبما روي عن أبي ذر العقيلي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أهل الجنة لا يكون لهم ولد» وقالت فرقة بالتوالد احتجاجا بما أخرجه الترمذي في جامعه عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة كما يشتهي» وقال حسن غريب ، وبما أخرجه أبو نعيم عن أبي سعيد أيضا قيل يا رسول الله أيولد لأهل الجنة فإن الولد من تمام السرور؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «نعم والذي نفسي بيده وما هو إلا كقدر ما يتمنى أحدكم فيكون حمله ورضاعه وشبابه» وأجابت عما تقدم بأن المراد نفي أن يكون توالد أو ولد على الوجه المعهود في الدنيا. وتعقب ذلك بأن الحديث الأخير ضعيف كما قال البيهقي.

والحديث الأول قال فيه السفاريني : أجود أسانيده إسناد الترمذي وقد حكم عليه بالغرابة وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق التاجي وقد اضطرب لفظه فتارة يروى عنه إذا اشتهى الولد وتارة أنه يشتهي الولد وتارة إن الرجل من أهل الجنة ليولد له وإذا قلنا بأن له على الرواية السابقة سندا حسنا كما أشار إليه الترمذي فلقائل أن يقول : إن فيه تعليقا بالشرط وجاز أن لا يقع ، وإذا وإن كانت ظاهرة في المحقق لكنها قد تستعمل لمجرد التعليق الأعم. وأما الجواب عن الحديثين السابقين بما مر فأوهن من بيت العنكبوت كما لا يخفى ، وبالجملة المرجح عند الأكثرين عدم التوالد ورجح ذلك السفاريني بعشرة أوجه لكن للبحث في أكثرها مجال والله تعالى أعلم. وقيل : المراد بما يقول نفس القول المذكور لا مسماه ، والمعنى إنما يقول هذا القول ما دام حيا فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضا له مفرد عنه.

وتعقب بأن هذا مبني على صدور القول المذكور عنه بطريق الاعتقاد وأنه مستمر على التفوه به راج لوقوع مضمونه ولا ريب في أن ذلك مستحيل ممن كفر بالبعث وإنما قال ما قال بطريق الاستهزاء.

وأجيب بأنا لا نسلم البناء على ذلك لجواز أن يكون المراد إنما يقول ذلك ويستهزئ ما دام حيا فإذا قبضناه حلنا بينه وبين الاستهزاء بما ينكشف له ويحل به أو يقال : إن مبنى ما ذكر على المجاراة مع اللعين كما تقدم.

وقيل : المعنى نحفظ قوله لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به ويأتينا على فقره ومسكنته فردا من المال والولد لم نوله سؤله ولم نؤته متمناه فيجتمع عليه أمران : تبعة قوله ووباله وفقد المطموع فيه ، وإلى تفسير الإرث بالحفظ ذهب النحاس وجعل من ذلك «العلماء ورثة الأنبياء» أي حفظة ما قالوه ، وأنت خبير بأن حفظ قوله قد علم من قوله تعالى (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ).

وفي الكشاف يحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه الله تعالى مالا وولدا في الدنيا وبلغت به أشعبيته أن تألى على ذلك فقال سبحانه هب أنا أعطيناه ما اشتهاه أما نرثه منه في العاقبة ويأتينا غدا فردا بلا مال ولا ولد كقوله تعالى (لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) [الأنعام : ٩٤] فما يجدي عليه تمنيه وتأليه انتهى ، ولا يخفى أنه احتمال بعيد جدا في نفسه ومن جهة سبب النزول ، والتكلف لتطبيقه عليه لا يقربه كما لا يخفى و (فَرْداً) حال على جميع الأقوال لكن قيل : إنه حال مقدرة حيث أريد حرمانه عن المال والولد وإعطاء ذلك لمستحقه لأن الانفراد عليه يقتضي التفاوت بين الضال والمهتدي وهو إنما يكون بعد بالموقف بخلاف ما إذا أريد غير ذلك مما تضمنته الأقوال لعدم اقتضائه التفاوت بينهما وكفاية فردية الموقف في الصحة وإن كانت مشتركة.

٤٤٨

وزعم بعضهم أن الحال مقدرة على سائر الأقوال لأن المراد دوام الانفراد عن المال والولد أو عن القول المذكور والدوام غير محقق عند الإتيان بل مقدر كما في قوله تعالى (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٨٣] ولا يخفى ما فيه.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) حكاية لجناية عامة للكل مستتبعة لضد ما يرجون ترتبه عليها إثر حكاية مقالة الكافر المعهود واستتباعها لنقيض مضمونها أي اتخذ الكفرة الظالمون الأصنام أو ما يعمهم وسائر المعبودات الباطلة آلهة متجاوزين الله تعالى (لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) أي ليتعززوا بهم بأن يكونوا لهم وصلة إليه عزوجل وشفعاء عنده (كَلَّا) ردع لهم وزجر عن ذلك ، وفيه إنكار لوقوع ما علقوا به أطماعهم الفارغة (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) أي ستجحد الآلهة عبادة أولئك الكفرة إياها وينطق الله تعالى من لم يكن ناطقا منها فتقول جميعا ما عبدتمونا كما قال سبحانه : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) [النحل : ٨٦] أو ستنكر الكفرة حين يشاهدون عاقبة سوء كفرهم عبادتهم إياها كما قال سبحانه (لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].

ومعنى قوله تعالى (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) على الأول على ما قيل تكون الآلهة التي كانوا يرجون أن تكون لهم عزا ضدا للعز أي ذلا وهوانا أو أعوانا عليهم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو أظهر من التفسير السابق ، وكونهم أعوانا عليهم لأنهم يلعنونهم ، وقيل : لأن عبادتهم كانت سببا للعذاب.

وتعقب بأن هذا لم يحدث يوم القيامة وظاهر الآية الحدوث ذلك اليوم والأمر فيه هين ، وقيل : لأنهم يكونون آلة لعذابهم حيث يجعلون وقود النار وحصب جهنم وهذا لا يتسنى إلا على تقدير أن يراد بالآلهة الأصنام ، وإطلاق الضد على العون لما أن عون الرجل يضاد عدوه وينافيه بإعانته له عليه ، وعلى الثاني يكون الكفرة على الآلهة أي أعداء لها من قولهم : الناس عليكم أي أعداؤكم ، ومنه اللهم كن لنا ولا تكن علينا ضدا أي منافين ما كانوا عليه كافرين بها بعد ما كانوا يعبدونها فعليهم على ما قيل خبر يكون ، «وضدا» حال مؤكدة والعداوة مرادة مما قبله ، وقيل : إنها مرادة منه وهو الخبر و (عَلَيْهِمْ) في موضع الحال ، وقد فسره بأعداء الضحاك وهو على ما نقل عن الأخفش كالعدو يستعمل مفردا وجمعا.

وبذلك قال صاحب القاموس وجعل ما هنا جمعا ، وأنكر بعضهم كونه مما يطلق على الواحد والجمع ، وقال : هو للواحد فقط وإنما وحد هنا لوحدة المعنى الذي يدور عليه مضادتهم فإنهم بذلك كالشيء الواحد كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه النسائي وهم يد على من سواهم ، وقال صاحب الفرائد : إنما وحد لأنه ذكر في مقابلة قوله تعالى (عِزًّا) وهو مصدر يصلح لأن يكون جمعا فهذا وإن لم يكن مصدرا لكن يصلح لأن يكون جمعا نظرا إلى ما يراد منه وهو الذل. وهذا إذا تم فإنما يتم على المعنى الأول ، وقد صرح في البحر أنه على ذلك مصدر يوصف به الجمع كما يوصف به الواحد فليراجع. وقرأ أبو نهيك هنا وفيما تقدم كلا بفتح الكاف والتنوين فقيل إنها الحرف الذي للردع إلا أنه نوى الوقف عليها فصار ألفها كألف الإطلاق ثم أبدلت تنوينا ، ويجوز أن لا يكون نوى الوقف بل أجريت الألف مجرى ألف الإطلاق لما أن ألف المبنى لم يكن لها أصل ولم يجز أن تقع رويا ويسمى هذا تنوين الغالي وهو يلحق الحروف وغيرها ويجامع الألف واللام كقولك :

أقلي اللوم عاذل والعتابن

وقولي إن أصبت لقد أصابن

٤٤٩

وليس هذا مثل (قَوارِيرَا) [الإنسان : ١٥ ، ١٦] كما لا يخفى خلافا لمن زعمه. وفي محتسب ابن جني أن (كَلَّا) مصدر من كل السيف إذا نبا وهو منصوب بفعل مضمر من لفظه ، والتقدير هنا كل هذا الرأي والاعتقاد كلا ، والمراد ضعف ضعفا ، وقيل : هو مفعول به بتقدير حملوا (كَلَّا) ويقال نظير ذلك فيما تقدم ، وقال ابن عطية : هو نعت لآلهة ، والمراد به الثقيل الذي لا خير فيه والإفراد لأنه بزنة المصدر وهو كما ترى ، والأوفق بالمعنى ما تقدم وإن قيل فيه تعسف لفظي وإنه يلزم عليه إثبات التنوين خطأ كما في أمثال ذلك.

وحكى أبو عمرو الداني عن أبي نهيك أنه قرأ «كلا» بضم الكاف والتنوين وهي على هذا منصوبة بفعل محذوف دل عليه (سَيَكْفُرُونَ) على أنه من باب الاشتغال نحو زيدا مررت به أي يجحدون كلا أي عبادة كل من الآلهة ففيه مضاف مقدر وقد لا يقدر. وذكر الطبري عنه أنه قرأ «كلّ» بضم الكاف والرفع وهو على هذا مبتدأ. والجملة بعده خبره (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) قيضناهم وجعلناهم قرناء لهم مسلطين عليهم أو سلطناهم عليهم ومكناهم من إضلالهم (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) تغريهم وتهيجهم على المعاصي تهييجا شديدا بأنواع التسويلات والوساوس فإن الأز والهز والاستفزاز أخوات معناها شدة الإزعاج ، وجملة «تؤزهم» إما حال مقدرة من الشياطين أو استئناف وقع جوابا عما نشأ من صدر الكلام كأنه قيل : ما ذا تفعل الشياطين بهم؟ فقيل تؤزهم إلخ. والمراد من الآية تعجيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما تضمنته الآيات السابقة الكريمة من قوله سبحانه «ويقول الإنسان أإذا ما مت» إلى هنا وحكته عن هؤلاء الكفرة الغواة والمردة العتاة من فنون القبائح من الأقاويل والأفاعيل والتمادي في الغي والانهماك في الضلال والإفراط في العناد والتصميم على الكفر من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم والإجماع على مدافعة الحق بعد إيضاحه وانتفاء الشرك عنه بالكلية وتنبيه على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم لا لأن هناك قصورا في التبليغ أو مسوغا في الجملة ، وفيها تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهي تذييل لتلك الآيات لما ذكر. وليس المراد منها تعجيبه عليه الصلاة والسلام من إرسال الشياطين عليهم كما يوهمه تعليق الرؤية به بل مما ذكر من أحوالهم من حيث كونها من آثار إغواء الشياطين كما ينبئ عن لك قوله سبحانه (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) بأن يهلكوا حسبما تقتضيه جناياتهم ويبيد عن آخرهم وتطهر الأرض من خباثاتهم ، والفاء للإشعار بكون ما قبلها مظنة الوقوع المنهي عنه محوجة إلى النهي كما في قوله تعالى «إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة».

وقوله تعالى : (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) تعليل لموجب النهي ببيان اقتراب هلاكهم فإنه لم يبق لهم إلا أيام وأنفاس نعدها عدا أي قليلة كما قيل في قوله تعالى : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) [يوسف : ٢٠] ولا ينافي هذا ما مر من أنه يمد لمن كان في الضلالة أي يطول لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم وهو قليل باعتبار عاقبته وعند الله عزوجل ، وقيل : إن التعليل بما ذكر دل أن أنفاسهم وأيامهم تنتهي بانتهاء العد ولا شك أنها على كثرتها يستوفي إحصاؤها في سرعة فعبر بهذا المعنى عن القليل فكأنه قيل : ليس بينك وبين هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعد فيها لوعدت ، وهذا ليس مبنيا على أن كل ما يعد فهو قليل انتهى ، والأول هو الظاهر وهذا أبعد مغزى ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : آخر العدد خروج نفسك آخر العدد فراق أهلك آخر العدد دخول قبرك ، وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد ولله تعالى در من قال :

إن الحبيب من الأحباب مختلس

لا يمنع الموت بواب ولا حرس

وكيف يفرح بالدنيا ولذتها

فتى يعد عليه اللفظ والنفس

٤٥٠

وقيل : المراد إنما نعد أعمالهم لنجازيهم عليها (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) أي ركبانا كما أخرجه جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة. وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه قال سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية فقلت : يا رسول الله هل الوفد إلا الركب؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة وعليها رحال الذهب شرك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مثل مد البصر وينتهون إلى باب الجنة» الحديث ، وهذه النوق من الجنة كما صرح به في حديث أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد. وغيره موقوفا على علي كرم الله تعالى وجهه ، وروي عن عمرو بن قيس أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم الصالحة هي في غاية الحسن ، ويروى أنه يركب كل منهم ما أحب من إبل أو خيل أو سفن تجيء عائمة بهم ، وأصل الوفد جمع وافد كالوفود والأوفاد والوفد من وفد إليه وعليه يفد وفدا ووفودا ووفادة وإفادة قدم وورد.

وفي النهاية الوفد هم القوم يجتمعون ويردون البلاد واحدهم وافد وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارة واسترفاد وانتجاع وغير ذلك ، وقال الراغب : الوفد والوفود هم الذين يقدمون على الملوك مستنجزين الحوائج ، ومنه الوفد من الإبل وهو السابق لغيرها ، وهذا المعنى الذي ذكره هو المشهور ، ومن هنا قيل : إن لفظة الوفد مشعرة بالإكرام والتبجيل حيث آذنت بتشبيه حالة المتقين بحالة وفود الملوك وليس المراد حقيقة الوفادة من سائر الحيثيات لأنها تتضمن الانصراف من الموفود عليه والمتقون مقيمون أبدا في ثواب ربهم عزوجل. والكلام على تقدير مضاف أي إلى كرامة الرحمن أو ثوابه وهو الجنة أو إلى دار كرامته أو نحو ذلك ، وقيل : الحشر إلى الرحمن إيذانا بأنهم يجمعون من أماكن متفرقة وأقطار شاسعة إلى من يرحمهم. قال القاضي : ولاختيار الرحمن في هذه السورة شأن ، ولعله أن مساق الكلام فيها لتعداد النعم الجسام وشرح حال الشاكرين لها والكافرين بها فكأنه قيل : هنا يوم نحشر المتقين إلى ربهم الذي غمرهم من قبل برحمته وشملهم برأفته وحاصله يوم نحشرهم إلى من عودهم الرحمة وفي ذلك من عظيم البشارة ما فيه ، وقد قابل سبحانه ذلك بقوله جل وعلا (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) كما تساق البهائم (إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) أي عطاشا كما روي عن ابن عباس وأبي هريرة والحسن وقتادة ومجاهد ، وأصله مصدر ورد أي سار إلى الماء ، قال الراجز :

ردي ردي ورد قطاة صما

كدرية أعجبها بردا لما

وإطلاقه على العطاش مجاز لعلاقة اللزوم لأن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش ، وجوز أن يكون المراد من الورد الدواب التي ترد الماء والكلام على التشبيه أي نسوقهم كالدواب التي ترد الماء ، وفي الكشف في لفظ الورد تهكم واستخفاف عظيم لا سيما وقد جعل المورد جهنم أعاذنا الله تعالى منها برحمته فلينظر ما بين الجملتين من الفرق العظيم وقرأ الحسن والجحدري «يحشر المتّقون ويساق المجرمون» ببناء الفعلين للمفعول.

واستدل بالآية على أن أهوال القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون مكرمين فكيف ينالهم بعد ذلك شدة ؛ وفي البحر الظاهر أن حشر المتقين إلى الرحمن وفد أبعد انقضاء الحساب وامتياز الفريقين وحكاه ابن الجوزي عن أبي سليمان الدمشقي وذكر ذلك النيسابوري احتمالا بحثا في الاستدلال السابق.

وأنت تعلم أن ذلك لا يتأتى على ما سمعت في الخبر المروي عن علي كرم الله تعالى وجهه فإنه صريح في أنهم يركبون عند خروجهم من القبور وينتهون إلى باب الجنة وهو ظاهر في أنهم لا يحاسبون.

وقال بعضهم : إن المراد بالمتقين الموصوفون بالتقوى الكاملة ولا يبعد أن يدخلوا الجنة بلا حساب فقد صحت الأخبار بدخول طائفة من هذه الأمة الجنة كذلك ، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : خرج

٤٥١

إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم فقال «عرضت على الأمم يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي ليس معه أحد والنبي معه الرهط فرأيت سوادا كثيرا فرجوت أن يكون أمتي فقيل : هذا موسى وقومه ثم قيل : انظر فرأيت سوادا كثيرا فقيل : هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب فتفرق الناس ولم يبين لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتذاكر أصحابه فقالوا : أما نحن فولدنا في الشرك ولكن قد آمنا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هؤلاء أبناؤنا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» والحديث.

وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل ألف سبعين ألفا وثلاث حثيات من حثيات ربي» وأخرج الإمام أحمد والبزار والطبراني عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن ربي أعطاني سبعين ألفا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب فقال عمر رضي الله تعالى عنه : هلا استزدته؟ قال قد استزدته فأعطاني هكذا وفرج بين يديه وبسط باعيه وجثى» قال هشام : هذا من الله عزوجل لا يدري ما عدده ؛ وأخرج الطبراني والبيهقي عن عمرو بن حزم الأنصاري رضى الله تعالى عنه قال : «احتبس عنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا لا» يخرج إلا إلى صلاة مكتوبة ثم يرجع فلما كان اليوم الرابع خرج إلينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلنا : يا رسول الله احتبست عنا حتى ظننا أنه حدث حدث قال : لم يحدث الأخير إن ربي وعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفا لا حساب وإني سألت ربي في هذه الثلاث أيام المزيد فوجدت ربي ماجدا كريما فأعطاني مع كل واحد سبعين ألفا» الخبر إلى غير ذلك من الأخبار وفي بعضها ذكر من يدخل الجنة بغير حساب بوصفه كالحامدين الله تعالى شأنه في السراء والضراء وكالذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع وكالذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى وكالذي يموت في طريق مكة ذاهبا أو راجعا وكطالب العلم والمرأة المطيعة لزوجها والولد البار بوالديه وكالرحيم الصبور وغير ذلك ، ووجه الجمع بين الأخبار ظاهر ويلزم. على تخصيص المتقين بالموصوفين بالتقوى الكاملة دخول عصاة المؤمنين في المجرمين أو عدم احتمال الآية على بيان حالهم ، واستدل بعضهم بالآية على ما روي من الخبر على عدم إحضار المتقين جثيا حول جهنم فما يدل على العموم مخصص بمثل ذلك فتأمل والله تعالى الموفق. ونصب (يَوْمَ) على الظرفية بفعل محذوف مؤخر أي يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين من الأفعال ما لا يحيط ببيانه نطاق المقال ، وقيل : على المفعولية بمحذوف مقدم خوطب به سيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي اذكر لهم بطريق الترغيب والترهيب يوم نحشر إلخ ، وقيل : على الظرفية بنعد باعتبار معنى المجازاة ، وقيل : بقوله سبحانه وتعالى (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ).

وقيل بقوله جل وعلا (يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) ، وقيل : بقوله تعالى شأنه : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) والذي يقتضيه مقام التهويل وتستدعيه جزالة التنزيل أن ينتصب بأحد الوجهين الأولين ويكون هذا استئنافا مبينا لبعض ما في ذلك اليوم من الأمور الدالة على هوله ، وضمير الجمع لما يعم المتقين والمجرمين أي العباد مطلقا وقيل: للمتقين ، وقيل : للمجرمين من أهل الإيمان وأهل الكفر و (الشَّفاعَةَ) ، على الأولين مصدر المبني للفاعل وعلى الثالث ينبغي أن يكون مصدر المبني للمفعول.

وقوله تعالى (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) استثناء متصل من الضمير على الأول ومحل المستثنى إما الرفع على البدل أو النصب على أصل الاستثناء ، والمعنى لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من اتصف منهم بما يستأهل معه أن يشفع وهو المراد بالعهد ، وفسره ابن عباس بشهادة أن لا إله إلا الله والتبري من الحول والقوة عدم رجاء أحد إلا الله تعالى ، وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه قرأ

٤٥٢

الآية وقال : إن الله تعالى يقول يوم القيامة : «من كان له عندي عهد فليقم فلا يقوم إلا من قال هذا في الدنيا : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعله لي عهدا عندك تؤديه إلى يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد» ، وأخرج ابن أبي شيبة عن مقاتل أنه قال : العهد الصلاح ، وروي نحوه عن السدي وابن جريج ، وقال الليث : هو حفظ كتاب الله تعالى ، وتسمية ما ذكر عهدا على سبيل التشبيه ، وقيل : المراد بالعهد الأمر والإذن من قولهم : عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به أي لا يملك العباد أن يشفعوا إلا من أذن الله عزوجل له بالشفاعة وأمره بها فإنه يملك ذلك ، ولا يأبى (عِنْدَ) الاتخاذ أصلا فإنه كما يقال : أخذت الإذن في كذا يقال : اتخذته ، نعم في قوله تعالى (عِنْدَ الرَّحْمنِ) نوع إباء عنه مع أن الجمهور على الأول ، والمراد بالشفاعة على القولين ما يعم الشفاعة في دخول الجنة والشفاعة في غيره ونازع في ذلك المعتزلة فلم يجوزوا الشفاعة في دخول الجنة والأخبار تكذبهم ، فعن أبي سعيد الخدري قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الرجل من أمتي ليشفع للفئام (١) من الناس فيدخلون الجنة بشفاعته وإن الرجل ليشفع للرجل وأهل بيته فيدخلون الجنة بشفاعته ، وجوز ابن عطية أن يراد بالشفاعة الشفاعة العامة في فصل القضاء وبمن اتخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالعهد الوعد بذلك في قوله سبحانه وتعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] وهو خلاف الظاهر جدا ، وعلى الوجه الثاني في ضمير الجمع الاستثناء من الشفاعة بتقدير مضاف وهو متصل أيضا. وفي المستثنى الوجهان السابقان أي لا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ عند الرحمن عهدا ، والمراد به الإيمان ، وإضافة المصدر إلى المفعول. وقيل : المستثنى منه محذوف على هذا الوجه أي لا يملك المتقون الشفاعة لأحد إلا من اتخذ إلخ أي إلا لمن اتصف بالإيمان. وجوز أن يكون الاستثناء من الشفاعة بتقدير المضاف على الوجه الأول في الضمير أيضا ، وإن يكون المصدر مضافا لفاعله أو مضافا لمفعوله. وجوز عليه أيضا أن يكون المستثنى منه محذوفا كما سمعت ، وعلى الوجه الثالث الاستثناء من الضمير وهو متصل أيضا ، وفي المستثنى الوجهان أي لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان مؤمنا فإنه يملك أن يشفع له. وقيل : الاستثناء على تقدير رجوع الضمير إلى المجرمين منقطع لأن المراد بهم الكفار ، وحمل ذلك على العصاة والكفار بعيد كما قال أبو حيان ، والمستثنى حينئذ لازم النصب عند الحجازيين جائز نصبه وإبداله عند تميم.

وجوز الزمخشري أن تكون الواو في (لا يَمْلِكُونَ) علامة الجمع كالتي في ـ أكلوني البراغيث ـ والفاعل (مَنِ اتَّخَذَ) لأنه في معنى الجمع. وتعقبه أبو حيان بقوله : لا ينبغي حمل القرآن على هذه اللغة القليلة مع وضوح جعل الواو ضميرا. وذكر الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أنها لغة ضعيفة ، وأيضا فالواو والألف والنون التي تكون علامات لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلا إلا بصريح الجمع وصريح التثنية أو العطف إما أن يأتي بلفظ مفرد يطلق على جمع أو مثنى فيحتاج في إثباته إلى نقل ، وأما عود الضمائر مثناة ومجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب فيمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال ذلك إلا بسماع انتهى. وتعقبه أيضا ابن المنير بأن فيه تعسفا لأنه إذا جعل الواو علامة لمن ثم أعاد على لفظها بالإفراد ضمير (اتَّخَذَ) كان ذلك إجمالا بعد إيضاح وهو تعكيس في طريق البلاغة التي هي الإيضاح بعد الإجمال والواو على إعرابه وإن لم نكن عائدة على من إلا أنها كاشفة لمعناها كشف الضمير العائد لها ثم قال : فتنبه لهذا النقد فإنه أروج من النقد. وفي

__________________

(١) بالفاء أي الجماعة اه منه.

٤٥٣

عنق الحسناء يستحسن العقد انتهى ، ومنه يعلم القول بجواز رجوع الضمير لها أولا باعتبار معناها وثانيا باعتبار لفظها لا يخلو عن كدر.

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) حكاية لجناية القائلين عزير ابن الله وعيسى ابن الله والملائكة بنات الله من اليهود والنصارى والعرب تعالى شأنه عما يقولون علوا كبيرا إثر حكاية جناية من عبد ما عبد من دونه عزوجل بطريق عطف القصة على القصة فالضمير راجع لمن علمت وإن لم يذكر صريحا لظهور الأمر.

وقيل : راجع للمجرمين وقيل : للكافرين وقيل : للظالمين وقيل : للعباد المدلول عليه بذكر الفريقين المتقين والمجرمين. وفيه إسناد ما للبعض إلى الكل مع أنهم لم يرضوه وقد تقدم البحث فيه.

وقوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) رد لمقالتهم الباطلة وتهويل لأمرها بطريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب المنبئ عن كمال السخط وشدة الغضب المفصح عن غاية التشنيع والتقبيح وتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجهل والجرأة ، وقيل : لا التفات والكلام بتقدير قل لهم لقد جئتم إلخ ، والإد بكسر الهمزة كما في قراءة الجمهور وبفتحها كما قرأ السلمي العجب كما قال ابن خالويه. وقيل : العظيم المنكر والإدة الشدة وأدني الأمر وآدني الأمر وآدني أثقلني وعظم علي. وقال الراغب : الاد المنكر فيه جلبة من قولهم : أدت الناقة تئد أي رجعت حنينها ترجيعا شديدا. وقيل : الاد بالفتح مصدر وبالكسر اسم أي فعلتم أمرا عجبا أو منكرا شديدا لا يقادر قدره فإن جاء وأتى يستعملان بمعنى فعل فيتعديان تعديته. وقال الطبرسي : هو من باب الحذف والإيصال أي جئتم بشيء إد (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) في موضع الصفة ل «إدّا» أو استئناف لبيان عظم شأنه في الشدة والهول ، والتفطر على ما ذكره الكثير التشقق مطلقا ، وعلى ما يدل عليه كلام الراغب التشقق طولا حيث فسر الفطر وهو منه بالشق كذلك ، وموارد الاستعمال تقتضي عدم التقييد بما ذكر. نعم قيل : إنها تقتضي أن يكون الفطر من عوارض الجسم الصلب فإنه يقال : إناء مفطور ولا يقال : ثوب مفطور بل مشقوق ، وهو عندي في أعراف الرد والقبول وعليه يكون في نسبة التفطر إلى السموات والانشقاق إلى الأرض في قوله تعالى : (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) إشارة إلى أن السماء أصلب من الأرض ، والتكثير الذي تدل عليه صيغة التفعل قيل في الفعل لأنه الأوفق بالمقام ، وقيل : في متعلقه ورجح بأنه قد قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وأبو بحرية والزهري وطلحة وحميد واليزيدي وأبو عبيد «ينفطرن» مضارع انفطر وتوافق القراءتين يقتضي ذلك ، وبأنه قد اختير الانفعال في تنشق الأرض حيث لا كثرة في المفعول ولذا أول (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [لطلاق : ١٢] بالأقاليم ونحوه كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ووجه بعضهم اختلاف الصيغة على القول بأن التكثير في الفعل بأن السموات لكونها مقدسة لم يعص الله تعالى فيها أصلا نوعا ما من العصيان لم يكن لها ألف ما بالمعصية ولا كذلك الأرض فهي تتأثر من عظم المعصية ما لا تتأثر الأرض.

وقرأ ابن مسعود «يتصدعن» قال في البحر : وينبغي أن يجعل ذلك تفسيرا لا قراءة لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ولرواية الثقات عنه أنه قرأ كالجمهور انتهى. ولا يخفى عليك أن في ذلك كيفما كان تأييدا لمن ادعى أن الفطر من عوارض الجسم الصلب بناء على ما في القاموس من أن الصدع شق في شيء صلب.

وقرأ نافع والكسائي وأبو حيوة والأعمش «يكاد» بالياء من تحت (وَتَخِرُّ الْجِبالُ) تسقط وتنهد (هَدًّا) نصب على أنه مفعول مطلق لتخر لأنه بمعنى تنهد كما أشرنا إليه وإليه ذهب ابن النحاس وجوز أن يكون مفعولا مطلقا لتنهد مقدرا والجملة في موضع الحال ، وقيل : هو مصدر بمعنى المفعول منصوب على الحال من هد المتعدي أي مهدودة. وجوز أن يكون مفعولا له أي لأنها تنهد على أنه من هد اللازم بمعنى انهدم ومجيئه لازما مما صرح به أبو

٤٥٤

حيان وهو إمام اللغة. والنحو فلا عبرة ممن أنكره ، وحينئذ يكون الهد من فعل الجبال فيتحد فاعل المصدر والفعل المعلل به ، وقيل : إنه ليس من فعلها لكنها إذا هدها أحد يحصل لها الهد فصح أن يكون مفعولا له ، وفي الكلام تقرير لكون ذلك إدّا والكيدودة فيه على ظاهرها من مقاربة الشيء. وفسرها الأخفش هنا. وفي قوله تعالى : (أَكادُ أُخْفِيها) [طه : ١٥] بالإرادة وأنشد شاهدا على ذلك قول الشاعر :

كادت وكدت وتلك خير إرادة

لو عاد من زمن الصبابة ما مضى

ولا حجة له فيه ، والمعنى إن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها بحيث لو تصور بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام وتفرقت أجزاؤها من شدتها أو أن حق تلك الكلمة لو فهمتها تلك الكلمة لو فهمتها تلك الجمادات العظام أن تتفطر وتنشق وتخر من فظاعتها ، وقيل : المعنى كادت القيامة أن تقوم فإن هذه الأشياء تكون حقيقة يوم القيامة ، وقيل : الكلام كناية عن غضب الله تعالى على قائل تلك الكلمة وأنه لو لا حلمه سبحانه وتعالى لوقع ذلك وهلك القائل وغيره أي كدت أفعل ذلك غضبا لو لا حلمي.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكدن أن يزلن منه تعظيما لله تعالى وفيه إثبات فهم لتلك الأجرام والأجسام لائق بهن. وقد تقدم ما يتعلق بذلك. وفي الدر المنثور في الكلام على هذه الآية ، أخرج أحمد في الزهد وابن المبارك وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو الشيخ في العظمة وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان من طريق عون عن ابن مسعود قال : إن الجبل لينادي الجبل باسمه يا فلان هل مر بك اليوم أحد ذاكر لله تعالى فإذا قال : نعم استبشر قال عون : أفلا يسمعن الزور إذا قيل ولا يسمعن الخير هن للخير أسمع وقرأ (وَقالُوا) الآيات اه وهو ظاهر في الفهم.

وقال ابن المنير : يظهر لي في الآية معنى لم أره لغيري وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد استعار لدلالة هذه الأجرام على وجوده عزوجل موصوفا بصفات الكمال الواجبة له سبحانه أن جعلها مسبحة بحمده قال تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤] ومما دلت عليه السموات والأرض والجبال بل وكل ذرة من ذراتها أن الله تعالى مقدس عن نسبة الولد إليه :

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

فالمعتقد نسبة الولد إليه عزوجل قد عطل دلالة هذه الموجودات على تنزيه الله تعالى وتقديسه فاستعير لإبطال ما فيها من روح الدلالة التي خلقت لأجلها إبطال صورها بالهد والانفطار والانشقاق اه.

واعترض عليه بأن الموجودات إنما تدل على خالق قادر عالم حكيم لدلالة الأثر على المؤثر والقدرة على المقدور وإتقان العلم يدل على العلم والحكمة وأما دلالتها على الوحدانية فلا وجه له ولا يثبت مثله بالشعر. ورد بأنها لو لم تدل جاء حديث التمانع كما حققه المولى الخيالي في حواشيه على شرح عقائد النسفي للعلامة الثاني.

وقال بعضهم : إنها تدل على عظم شأنه تعالى وأنه لا يشابهه ولا يدانيه شيء فلزم أن لا يكون له شريك ولا ولد لأنه لو كان كذلك لكان نظيرا عزوجل. ولذا عبر عن هذه الدلالة بالتسبيح والتنزيه.

ولعل ما أشرنا إليه أولى وأدق ، وليس مراد من نسب الولد إليه عزوجل إلا الشرك فتأمل ، والجمهور على أن

٤٥٥

الكلام لبيان بشاعة تلك الكلمة على معنى أنها لو فهمتها الجمادات لاستعظمتها وتفتت من بشاعتها. ونحو هذا مهيع للعرب ، قال الشاعر :

لما أتى خبر الزبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشع

وقال الآخر :

ألم تر صدعا في السماء مبينا

على ابن لبينى الحارث بن هشام

إلى غير ذلك وهو نوع من المبالغة ويقبل إذا اقترن بنحو كاد في الآية الكريمة ، وقد بين ذلك في محله.

(أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) بتقدير اللام التعليلية. ومحله بعد الحذف نصب عند سيبويه وجر عند الخليل والكسائي ، وهو علة للعلية التي تضمنها (مِنْهُ) لكن باعتبار ما تدل عليه الحال أعني قوله تعالى :

(وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) وقيل : علة لتكاد إلخ ، واعترض بأن كون (تَكادُ) إلخ معللا بذلك قد علم من (إِدًّا) فيلزم التكرار. وأجيب بما لا يخلو عن نظر. وقيل : علة لهذا وهو علة للخرور ، وقيل: ليس هناك لام مقدرة بل إن وما بعدها في تأويل مصدر مجرور بالإبدال من الهاء في منه كما في قوله :

على حالة لو أن في القوم حاتما

على جوده لضن بالماء حاتم

يجر حاتم بالإبدال من الهاء في جوده ، واستبعده أبو حيان للفصل بجملتين بين البدل والمبدل منه ، وقيل: المصدر مرفوع على أنه خبر محذوف أي الموجب لذلك دعاؤهم للرحمن ولدا وفيه بحث. وقيل : هو مرفوع على أنه فاعل هذا ويعتبر مصدرا مبنيا للفاعل أي هدها دعاؤهم للرحمن ولدا. وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدا لأن الظاهر كون هذا المصدر تأكيديا والمصدر التأكيدي لا يعمل ولو فرض غير تأكيدي لم يعمل بقياس إلا إذا كان أمرا كضربا زيدا أو بعد استفهام كاضربا زيدا وما هنا ليس أحد الأمرين وما جاء عاملا وليس أحدهما كقوله : وقوفا بها صحبي على مطيهم نادر. والتزام كون ما هنا من النادر لا يدفع البعد. ولعل ما ذكرناه أدق الأوجه وأولاها فتدبر والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. و (وَلَداً) عند الأكثرين بمعنى سموا. والدعاء بمعنى التسمية يتعدى لمفعولين بنفسه كما في قوله :

دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن

أخاها ولم أرضع لها بلبان

وقد يتعدى للثاني بالباء فيقال دعوت ولدي بزيد واقتصر هنا على الثاني وحذف الأول دلالة على العموم والإحاطة لكل ما دعي له عزوجل ولدا من عيسى. وعزير عليهما‌السلام وغيرهما. وجوز أن يكون من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعه ما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من ادعى إلى غير مواليه» وقول الشاعر :

إنا بني نهشل لا ندعي لأب

عنه ولا هو بالأبناء يشرينا

فيتعدى لواحد ، والجار والمجرور جوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من (وَلَداً) وأن يكون متعلقا بما عنده ، وجملة (ما يَنْبَغِي) حال من فاعل (دَعَوْا) ، وقيل : من فاعل (قالُوا) ، و (يَنْبَغِي) مضارع انبغى مطاوع بغى بمعنى طلب وقد سمع ماضيه فهو فعل متصرف في الجملة ، وعده ابن مالك في التسهيل من الأفعال التي لا تتصرف وغلطه في ذلك أبو حيان ، ويمكن أن يقال : مراده أنه لا يتصرف تاما ، و (أَنْ يَتَّخِذَ) في تأويل مصدر فاعله ، والمراد لا يليق به سبحانه اتخاذ الولد ولا يتطلب له عزوجل لاستحالة ذلك في نفسه لاقتضائه الجزئية أو المجانسة واستحالة

٤٥٦

كل ظاهرة ، ووضع الرحمن موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم بالتنبيه على أن كل ما سواه تعالى إما نعمة أو منعم عليه وأين ذلك ممن هو مبدأ النعم وموالي أصولها وفروعها.

وقد أشير إلى ذلك بقوله سبحانه (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما منهم أحد من الملائكة والثقلين (إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) أي إلا وهو مملوك له تعالى يأوي إليه عزوجل بالعبودية والانقياد لقضائه وقدره سبحانه وتعالى فالإتيان معنوي ، وقيل : هو حسي ، والمراد إلا آتى محل حكمه وهو أرض المحشر منقادا لا يدعي لنفسه شيئا مما نسبوه إليه وليس بذاك كما لا يخفى ، و (مَنْ) موصولة بمعنى الذي و (كُلُ) تدخل عليه لأنه يراد منه الجنس كما قيل في قوله تعالى (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) [الزمر : ٣٣] وقوله : وكل الذي حملتني أتحمل وقيل : موصوفة لأنها وقعت بعد (كُلُ) نكرة وقوعها بعد رب في قوله :

رب من أنضجت غيظا صدره

قد تمنى لي موتا لم يطع

ورجح في البحر الأول بأن مجيئها موصوفة بالنسبة إلى مجيئها موصولة قليل : وقرأ عبد الله وابن الزبير وأبو حيوة وطلحة وأبو بحرية وابن أبي عبلة ويعقوب «آت» بالتنوين «الرحمن» بالنصب على الأصل.

ونصب «عبدا» في القراءتين على الحال. واستدل بالآية على أن الوالد لا يملك ولده وأنه يعتق عليه إذا ملكه.

(لَقَدْ أَحْصاهُمْ) حصرهم وأحاط بهم بحيث لا يكاد يخرج أحد منهم من حيطة علمه وقبضة قدرته جل جلاله.

(وَعَدَّهُمْ عَدًّا) أي عد أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم فإن كل شيء عنده تعالى بمقدار.

(وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أي منفردا من الأتباع والأنصار منقطعا إليه تعالى غاية الانقطاع محتاجا إلى إعانته ورحمته عزوجل فكيف يجانسه ويناسبه ليتخذه ولدا وليشرك به سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، وقيل : أي كل واحد من أهل السموات والأرض العابدين والمعبودين آتيه عزوجل منفردا عن الآخر فينفرد العابدون عن الآلهة التي زعموا أنها أنصار أو شفعاء والمعبودون عن الأتباع الذين عبدوهم وذلك يقتضي عدم النفع وينتفي بذلك المجانسة لمن بيده ملكوت كل شيء تبارك وتعالى ، وفي (آتِيهِ) من الدلالة على إتيانهم كذلك البتة ما ليس في يأتيه فلذا اختير عليه وهو خبر (كُلُّهُمْ) وكل إذا أضيف إلى معرفة ملفوظ بها نحو كلهم أو كل الناس فالمنقول أنه يجوز عود الضمير عليه مفردا مراعاة للفظه فيقال كلكم ذاهب ، ويجوز عوده عليه جمعا مراعاة لمعناه فيقال : كلكم ذاهبون.

وحكى إبراهيم بن أصبغ في كتاب رءوس المسائل الاتفاق على جواز الأمرين ، وقال أبو زيد السهيلي : إن كلا إذا ابتدئ به وكان مضافا لفظا أي إلى معرفة لم يحسن إلا إفراد الخبر حملا على المعنى لأن معنى كلكم ذاهب مثلا كل واحد منكم ذاهب وليس ذلك مراعاة للفظ وإلا لجاز القوم ذاهب لأن كلّا من كل والقوم اسم جمع مفرد اللفظ اه وفي البحر يحتاج في إثبات كلكم ذاهبون بالجمع إلى نقل عن العرب. والزمخشري في تفسير هذه الآية استعمل الجمع وحسن الظن فيه أنه وجد ذلك في كلامهم ، وإذا حذف المضاف إليه المعرفة فالمسموع من العرب الوجهان ولا كلام في ذلك.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) أي مودة في القلوب لإيمانهم وعملهم الصالح ، والمشهور أن ذلك الجعل في الدنيا. فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وعبد بن حميد وغيرهم عن أبي

٤٥٧

هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أحب الله تعالى عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في الأرض فذلك قول الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية» والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن الموعود من آثارها ، والسين لأن السورة مكية وكانوا ممقوتين حينئذ بين الكفرة فوعدهم سبحانه ذلك ، ثم نجزه حين كثر الإسلام وقوي بعد الهجرة ، وذكر أن الآية نزلت في المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وعد سبحانه أن يجعل لهم محبة في قلب النجاشي.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف أنه لما هاجر إلى المدينة وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة وعقبة بن ربيعة وأمية بن خلف فأنزل الله تعالى هذه الآية وعلى هذا تكون الآية مدنية ، وأخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي كرم الله تعالى وجهه : قل اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في صدور المؤمنين ودّا فأنزل الله سبحانه هذه الآية ، وكان محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه يقول : لا تجد مؤمنا إلا وهو يحب عليا كرم الله تعالى وجهه وأهل بيته.

وروى الإمامية خبر نزولها في علي كرم الله تعالى وجهه عن ابن عباس ، والباقر ، وأيدوا ذلك بما صح عندهم أنه كرم الله تعالى وجهه قال : لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني ولو صببت الدنيا بجملتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني وذلك أنه قضى فانقضى على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال ؛ «لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق» والمراد المحبة الشرعية التي لا غلو فيه ، وزعم بعض النصارى حبه كرم الله تعالى وجهه ، فقد أنشد الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي لابن إسحاق النصراني الرسعني :

عديّ وتيم لا أحاول ذكرهم

بسوء ولكني محبّ لهاشم

وما تعتريني في عليّ ورهطه

إذا ذكروا في الله لومة لائم

يقولون ما بال النصارى تحبهم

وأهل النهى من أعرب وأعاجم

فقلت لهم إني لأحسب حبهم

سرى في قلوب الخلق حتى البهائم

وأنت تعلم أنه إذا صح الحديث ثبت كذبه ، وأظن أن نسبة هذه الأبيات للنصراني لا أصل لها وهي من أبيات الشيعة بيت الكذب ، وكم لهم مثل هذه المكائد كما بين في التحفة الاثني عشرية ، والظاهر أن الآية على هذا مدينة أيضا. ثم العبرة على سائر الروايات في سبب النزول بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وذهب الجبائي إلى أن ذلك في الآخرة فقيل في الجنة إذ يكونون إخوانا على سرر متقابلين ، وقيل : حين تعرض حسناتهم على رءوس الأشهاد وأمر السين على ذلك ظاهر. ولعل أفراد هذا الوعد من بين ما سيولون يوم القيامة من الكرامات السنية لما أن الكفرة سيقع بينهم يومئذ تباغض وتضاد وتقاطع وتلاعن ، وذكر في وجه الربط أنه لما فصلت قبائح أحوال الكفرة عقب ذلك بذكر محاسن أحوال المؤمنين ، وقد يقال فيه بناء على أن ذلك في الآخرة : إنه جل شأنه لما أخبر بإتيان كل من أهل السموات والأرض إليه سبحانه يوم القيامة فردا آنس المؤمنين بأنه جل وعلا يجعل لهم ذلك اليوم ودا ، وفسره ابن عطية على هذا الوجه بمحبته تعالى إياهم وأراد منها إكرامه تعالى إياهم ومغفرته سبحانه وتعالى ذنوبهم ، وجوز أن يكون الوعد يجعل الود في الدنيا والآخرة ولا أراه بعيدا عن الصواب. ولا يأبى هذا ولا ما قبله التعرض لعنوان الرحمانية لجواز أن يدعى العموم فقد جاء يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.

وقرأ أبو الحارث الحنفي «ودّا» بفتح الواو. وقرأ جناح بن حبيش «ودّا» بكسرها وكل ذلك لغة فيه وكذا في

٤٥٨

الوداد (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) أي القرآن بأن أنزلناه (بِلِسانِكَ) أي بلغتك وهو في ذلك مجاز مشهور والباء بمعنى على أو على أصله وهو الإلصاق لتضمين «يسرنا» معنى أنزلنا أي يسرناه منزلين له بلغتك ، والفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم كأنه قيل : بعد إيحاء هذه السورة الكريمة بلغ هذا المنزل وأبشر به وأنذر فإنما يسرناه بلسانك العربي المبين (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) المتصفين بالتقوى لامتثال ما فيه من الأمر والنهي أو الصائرين إليها على أنه من مجاز الأول (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) لا يؤمنون به لجاجا وعنادا ، واللد جمع الألد وهو كما قال الراغب : الخصم الشديد التأبي ، وأصله الشديد اللديد أي صفحة العنق وذلك إذ لم يمكن صرفه عما يريده.

وعن قتادة اللد ذوو الجدل بالباطل الآخذون في كل لديد أي جانب بالمراء ، وعن ابن عباس تفسير اللد بالظلمة ، وعن مجاهد تفسيره بالفجار ، وعن الحسن تفسيره بالصم ، وعن أبي صالح تفسيره بالعوج وكل ذلك تفسير باللازم ؛ والمراد بهم أهل مكة كما روي عن قتادة (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) وعد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ضمن وعيد هؤلاء القوم بالإهلاك وحث له عليه الصلاة والسلام على الإنذار أي قرنا كثيرا أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، والاستفهام في معنى النفي أي ما تشعر بأحد منهم.

وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة وأبو جعفر المدني «تحسّ» بفتح التاء وضم الحاء (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) أي صوتا خفيا وأصل التركيب (١) هو الخفاء ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز للمال المدفون ، وخص بعضهم الركز بالصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم ، والأكثرون على الأول ، وخص الصوت الخفي لأنه الأصل الأكثر ولأن الأثر الخفي إذا زال فزوال غيره بطريق الأولى.

والمعنى أهلكناهم بالكلية واستأصلناهم بحيث لا ترى منهم أحدا ولا تسمع منهم صوتا خفيا فضلا عن غيره ، وقيل : المعنى أهلكناهم بالكلية بحيث لا ترى منهم أحدا ولا تسمع من يخبر عنهم ويذكرهم بصوت خفي ، والحاصل أهلكناهم فلا عين ولا خبر ، والخطاب إما لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يصلح للخطاب.

وقرأ حنظلة «تسّمّع» مضارع أسمعت مبنيا للمفعول والله تعالى أعلم.

«ومن باب الإشارة في الآيات» (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) أمر للحبيب أن يذكر الخليل وما من الله تعالى به عليه من أحكام الخلة ليستشير المستعدين إلى التحلي بما أمكن لهم منها. والصديق على ما قال ابن عطاء القائم مع ربه سبحانه على حد الصدق في جميع الأوقات لا يعارضه في صدقه معارض بحال ، وقال أبو سعيد الخزاز : الصديق الآخذ بأتم الحظوظ من كل مقام سني حتى يقرب من درجات الأنبياء عليهم‌السلام ، وقال بعضهم : من تواترت أنوار المشاهدة واليقين عليه وأحاطت به أنوار العصمة.

وقال القاضي : هو الذي صعدت نفسه تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات وأخرى بمعارج التصفية والرياضة إلى أوج العرفان حتى اطلع على الأشياء وأخبر عنها على ما هي عليه ، ومقام الصديقية قيل : تحت مقام النبوة ليس بينهما مقام.

وعن الشيخ الأكبر قدس‌سره إثبات مقام بينهما وذكر أنه حصل لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.

__________________

(١) قوله «واصل التركيب» إلخ كذا بخطه ولعل حقه وأصل الركز إلخ اه.

٤٥٩

والمشهور بهذا الوصف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وليس ذلك مختصا به ، فقد أخرج أبو نعيم في المعرفة وابن عساكر وابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن أبيه أبي ليلى عن أبي ليلى الأنصاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الصديقون ثلاثة ، حبيب النجار مؤمن آل يس الذي قال : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) ، وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه وهو أفضلهم (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) إلخ فيه من لطف الدعوة إلى اتباع الحق والإرشاد إليه ما لا يخفى. وهذا مطلوب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا سيما إذا كان ذلك مع الأقارب ونحوهم قال (سَلامٌ عَلَيْكَ) هذا سلام الإعراض عن الأغيار وتلطف الأبرار مع الجهال ، قال أبو بكر بن طاهر : إنه لما بدا من آزر في خطابه عليه‌السلام ما لا يبدو إلا من جاهل جعل جوابه السلام لأن الله تعالى قال : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أهاجر عنكم بديني ، ويفهم منه استحباب هجر الأشرار.

وعن أبي تراب النخشبي صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار ، وقد تضافرت الأدلة السمعية والتجربة على أن مصاحبتهم تورث القسوة وتثبط عن الخير (وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) فيه من الدلالة على مزيد أدبه عليه‌السلام مع ربه عزوجل ما فيه ، ومقام الخلة يقتضي ذلك فإن من لا أدب له لا يصلح أن يتخذ خليلا (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) كأن ذلك كان عوضا عمن اعتزل من أبيه وقومه لئلا يضيق صدره كما قيل : ولما اعتزل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكون أجمع ما زاغ البصر وما طغى عوض عليه الصلاة والسلام بأن قال له سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ١٠].

(وَاذْكُرْ) أيها الحبيب (فِي الْكِتابِ مُوسى) الكليم (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) لله تعالى في سائر شئونه ، قال الترمذي : المخلص على الحقيقة من يكون مثل موسى عليه‌السلام ذهب إلى الخضر على السلام ليتأدب به فلم يسامحه في شيء ظهر له منه (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) قالوا النداء بداية والنجوى نهاية ، النداء مقام الشوق والنجوى مقام كشف السر (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) قيل : علم الله تعالى ثقل الأسرار على موسى عليه‌السلام فاختار له أخاه هارون مستودعا لها فهارون عليه‌السلام مستودع سر موسى عليه‌السلام ، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) بالصبر على بذل نفسه أو بما وعد به استعداده من كمال التقوى لربه جل وعلا والتحلي بما يرضيه سبحانه من الأخلاق (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) وهو نوع من القرب من الله تعالى به عليه عليه‌السلام. وقيل : السماء الرابعة والتفضل عليه بذلك لما فيه من كشف بعض أسرار الملكوت أولئك الذين أنعم الله عليهم بما لا يحيط نطاق الحصر به من النعم الجليلة (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً) مما كشف لهم من آياته تعالى ، وقد ذكر أن القرآن أعظم مجلي لله عزوجل (وَبُكِيًّا) من مزيد فرحهم بما وجدوه أو من خوف عدم استمرار ما حصل لهم من التجلي :

ونبكي إن نأوا شوقا إليهم

ونبكي إن دنوا خوف الفراق

(وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) قيل : الرزق هاهنا مشاهدة الحق سبحانه ورؤيته عزوجل وهذا لعموم أهل الجنة وأما المحبوبون والمشتاقون فلا تنقطع عنهم المشاهدة لمحة ولو حجبوا لماتوا من ألم الحجاب (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) مثلا يلتفت إليه ويطلب منه شيء ، وقال الحسين بن الفضل : هل يستحق أحد أن يسمى باسم من أسمائه تعالى على الحقيقة (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ

٤٦٠