روح المعاني - ج ٨

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٨

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٨

واشتعل المبيض في مسوده

مثل اشتعال النار في جزل النساء

وعن أبي عمرو أنه أدغم السين في الشين (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي لم أكن بدعائي إياك خائبا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل بل كلما دعوتك استجبت لي ، والجملة معطوفة على ما قبلها ، وقيل حال من ياء المتكلم إذ المعنى واشتعل رأسي وهو غريب ، وهذا توسل منه عليه‌السلام بما سلف منه تعالى من الاستجابة عند كل دعوة إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة من كبر السن وضعف الحال فإنه تعالى بعد ما عود عبده الإجابة دهرا طويلا لا يكاد يخيبه أبدا لا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره ، وفي هذا التوسل من الإشارة إلى عظم كرم الله عزوجل ما فيه.

وقد حكى أن حاتما الطائي ، وقيل معن بن زائدة أتاه محتاج فسأله وقال : أنا الذي أحسنت إليه وقت كذا فقال : مرحبا بمن توسل بنا إلينا وقضى حاجته ، وقيل المعنى ولم أكن بدعائك إياي إلى الطاعة شقيا بل كنت ممن أطاعك وعبدك مختصا فالكاف على هذا فاعل والأول أظهر وأولى وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاح المربوب مع الإضافة إلى ضميره عليه‌السلام لا سيما توسيطه بين كان وخبرها لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع.

وقد جاء في بعض الآثار أن العبد إذا قال في دعائه : يا رب قال الله تعالى له : لبيك عبدي. وروي أن موسى عليه‌السلام قال يوما في دعائه : يا رب فقال الله سبحانه وتعالى له : لبيك يا موسى فقال موسى : أهذا لي خاصة فقال الله تبارك وتعالى : لا ولكن لكل من يدعوني بالربوبية ، وقيل : إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه فليدع الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاته عزوجل (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) هم عصبة الرجل على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ومجاهد ، وعن الأصم أنهم بنو العم وهم الذين يلونه في النسب. وقيل : من يلي أمره من ذوي قرابته مطلقا ، وكانوا على سائر الأقوال شرار بني إسرائيل فخاف عليه‌السلام أن لا يحسنوا خلافته في أمته ، والجملة عطف على قوله (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) مترتب مضمونها على مضمونة فإن ضعف القوى وكبر السن من مبادئ خوفه عليه‌السلام من يلي أمره بعد موته حسبما يدل عليه قوله (مِنْ وَرائِي) فإن المراد منه بإجماع من علمنا من المفسرين من بعد موتي ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن أي خفت فعل الموالي من ورائي أو جور المولى ؛ وقد قرئ كما في إرشاد العقل السليم كذلك ، وجوز تعلقه بالموالي ويكفي في ذلك وجود معنى الفعل فيه في الجملة ، فقد قالوا : يكفي في تعلق الظرف رائحة الفعل ولا يشترط فيه أن يكون دالا على الحدوث كاسم الفاعل والمفعول حتى يتكلف له ويقال : إن اللام في الموالي على هذا موصول والظرف متعلق بصلته وإن مولى مخفف مولى كما قيل في معنى أنه مخفف معنى فإنه تعسف لا حاجة إليه ، نعم قالوا في حاصل المعنى على هذا : خفت الذين يلون الأمر من ورائي ، ولم يجوز الزمخشري تعلقه بخفت لفساد المعنى ، وبين ذلك في الكشف بأن الجار ليس صلة الفعل لتعديه إلى المحذور بلا واسطة فتعين أن يكون للظرفية على نحو خفت الأسد قبلك أو من قبلك وحينئذ يلزم أن يكون الخوف ثابتا بعد موته وفساده ظاهر وبعضهم رأى جواز التعلق بناء على أن كون المفعول في ظرف مصحح لتعلق ذلك الظرف بفعله كقولك : رميت الصيد في الحرم إذا كان الصيد فيه دون رميك والظاهر عدم الجواز فافهم ، وقال ابن جني : هو حال مقدرة من (الْمَوالِيَ) وعن ابن كثير أنه قرأ «ومن وراي» بالقصر وفتح الياء كعصاي.

وقرأ الزهري «الموالي» بسكون الياء. وقرأ عثمان بن عفان وابن عباس وزيد بن ثابت وعلي بن الحسين وولداه محمد بن وزيد وسعيد بن العاص وابن جبير وأبو يعمر وشبيل بن عزرة والوليد بن مسلم لابن عامر «خفّت» بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر تاء التأنيث «الموالي» بسكون الياء على أن «خفت» من الخفة ضد الثقل ومعنى (مِنْ وَرائِي)

٣٨١

كما تقدم : والمراد وأني قل الموالي وعجزوا عن القيام بأمور الدين من بعدي أو من الخفوف بمعنى السير السريع ومعنى (مِنْ وَرائِي) من قدامي وقبلي ، والمراد وأني مات الموالي القادرون على إقامة مراسم الملة ومصالح الأمة وذهبوا قدامي ولم يبق منهم من به تقوى واعتضاد فيكون محتاجا إلى العقب لعجز مواليه عن القيام بعده بما هو قائم به أو لأنهم ماتوا قبله فبقي محتاجا إلى من يعتضد به ، وتعلق الجار والمجرور على الوجه الثاني بالفعل ظاهر ، وأما على الوجه الأول فإن لوحظ أن عجزهم وقلتهم سيقع بعده لا أنه واقع وقت دعائه صح تعلقه بالفعل أيضا وإن لم يكن كذلك تعلق بغير ذلك.

(وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي لا تلد من حين شبابها إلى شيبها ، فالعقر بالفتح والضم العقم ، ويقال عاقر للذكر والأنثى (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) كلا الجارين متعلق بهب واللام صلة له ومن لابتداء الغاية مجازا ، وتقديم الأول لكون مدلوله أهم عنده ، وجوز تعلق الثاني بمحذوف وقع حالا من المفعول الآتي. وتقدم الكلام في لدن ، والمراد أعطني من محض فضلك الواسع وقدرتك الباهرة بطريق الاختراع لا بواسطة الأسباب العادية ، وقيل المراد أعطني من فضلك كيف شئت (وَلِيًّا) أي ولدا من صلبي وهو الظاهر ، ويؤيده قوله تعالى في سورة آل عمران حكاية عنه عليه‌السلام (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) [آل عمران : ٣٨] وقيل إنه عليه‌السلام طلب من يقوم مقامه ويرثه ولدا كان أو غيره ، وقيل : أنه عليه‌السلام أيس أن يولد له من امرأته فطلب من يرثه ويقوم مقامه من سائر الناس وكلا القولين لا يعول عليه. وزعم الزمخشري أن (مِنْ لَدُنْكَ) تأكيد لكونه وليا مرضيا ولا يخفى ما فيه. وتأخير المفعول عن الجارين لإظهار كمال الاعتناء بكون الهبة له على ذلك الوجه البديع مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول بما بعده من الوصف فتأخيرهما عن الكل وتوسيطهما بين الموصوف والصفة مما لا يليق بحزالة النظم الكريم ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ما ذكره عليه‌السلام من كبر السن وضعف القوى وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عليه‌السلام عن حصول الولد بتوسط الأسباب العادية واستيهابه على الوجه الخارق للعادة.

وقيل لأن ذلك موجب لانقطاع رجائه عن حصول الولد منها وهي في تلك الحال واستيهابه على الوجه الذي يشاؤه الله تعالى ، وهو مبني على القول الثاني في المراد من (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) والأول أولى.

ولا يقدح فيما ذكر أن يكون هناك داع آخر إلى الإقبال على الدعاء من مشاهدته عليه‌السلام للخوارق الظاهرة في حق مريم كما يعرب عنه قوله تعالى (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) الآية. وعدم ذكره هاهنا للتعويل على ما ذكر هنالك كما أن عدم ذكر مقدمة الدعاء هنالك للاكتفاء بذكرها هاهنا ، والاكتفاء بما ذكر في موطن عما ترك في موطن آخر من السنن التنزيلية ، وقوله (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) صفة لوليا كما هو المتبادر من الجملة الواقعة بعد النكرات ، ويقال : ورثه وورث منه لغتان كما قيل ، وقيل من للتبعيض لا للتعدية ، وآل الرجل خاصته الذين يئول إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين ، ويعقوب على ما روي عن السدي هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فإن زكريا من ولد هارون وهو من ولد لاوي ابن يعقوب وكان متزوجا بأخت مريم بنت عمران وهي من ولد سليمان بن داود عليهما‌السلام وهو من ولد يهوذ بن يعقوب أيضا. وقال الكلبي ومقاتل : هو يعقوب بن ماثان وأخوه عمران بن ماثان أبو مريم. وقيل : هو أخو زكريا عليه‌السلام والمراد من الوراثة في الموضعين العلم على ما قيل.

وقال الكلبي : كان بنو ماثان رءوس بني إسرائيل وملوكهم وكان زكريا عليه‌السلام رئيس الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولده الحبورة ويرث من بني ماثان ملكهم فتكون الوراثة مختلفة في الموضعين وأيد ذلك بعدم اختيار العطف على الضمير المنصوب والاكتفاء بيرث الأول ، وقيل الوراثة الأولى وراثة النبوة والثانية وراثة الملك فتكون مختلفة أيضا إلا أن قوله (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) أي مرضيا عندك قولا وفعلا ، وقيل راضيا والأول أنسب يكون على هذا تأكيدا لأن النبي

٣٨٢

شأنه أن يكون كذلك ، وعلى ما قلنا يكون دعاء بتوفيقه للعمل كما أن الأول متضمن للدعاء بتوفيقه للعلم فكأنه طلب أن يكون ولده عالما عاملا ، وقيل : المراد اجعله مرضيا بين عبادك أي متبعا فلا يكون هناك تأكيد مطلقا ، وتوسيط (رَبِ) بين مفعولي الجعل على سائر الأوجه للمبالغة في الاعتناء بشأن ما يستدعيه.

واختار السكاكي أن الجملتين مستأنفتان استئنافا بيانيا لأنه يرد أنه يلزم على الوصفية أن لا يكون قد وهب لزكريا عليه‌السلام من وصف لهلاك يحيى عليه‌السلام قبل هلاكه لقتل يحيى عليه‌السلام قبل قتله. وتعقب ذلك في الكشف بأنه مدفوع بأن الروايات متعارضة والأكثر على هلاك زكريا قبله عليهما‌السلام ، ثم قال : وأما الجواب بأنه لا غضاضة في أن يستجاب للنبي بعض ما سأل دون بعض ألا ترى إلى دعوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حق أمته حيث قال عليه الصلاة والسّلام : «وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها» وإلى دعوة إبراهيم عليه‌السلام في حق أبيه فإنما يتم لو كان المحذور ذلك وإنما المحذور لزوم الخلف في خبره تعالى فقد قال سبحانه وتعالى في [الأنبياء : ٨٤ ، ٨٨ ، ٩٠] (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) وهو يدل على أنه عليه‌السلام أعطى ما سأل من غير تفرقة بين بعض وبعض وكذلك سياق الآيات الأخر. ولك أن تستدل بظاهر هذه الآية على ضعف رواية من زعم أن يحيى هلك قبل أبيه عليهما‌السلام ، وأما الإيراد بأن ما اختير من الحمل على الاستئناف لا يدفع المحذور لأنه وصل معنوي فليس بشيء لأن الوصل ثابت ولكنه غير داخل في المسئول لأنه بيان العلة الباعثة على السؤال ولا يلزم أن يكون علة السؤال مسئولة انتهى.

وأجاب بعضهم بأنه حيث كان المراد من الوراثة هنا وراثة العلم لا يضر هلاكه قبل أبيه عليهما‌السلام لحصول الغرض وهو أخذ ذلك وإفاضته على الغير بحيث تبقى آثاره بعد زكريا عليه‌السلام زمانا طويلا ولا يخفى أن المعروف بقاء ذات الوارث بعد الموروث عنه.

وقرأ أبو عمرو والكسائي والزهري والأعمش وطلحة واليزيدي وابن عيسى الأصفهاني وابن محيصن وقتادة بجزم الفعلين على أنهما جواب الدعاء ؛ والمعنى أن تهب لي ذلك يرثني إلخ ، والمراد أنه كذلك في ظني ورجائي ، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس وجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهم والحسن وابن يعمر والجحدري وأبو حرب بن أبي الأسود وأبو نهيك «يرثني» بالرفع «وأرث» فعلا مضارعا من ورث وخرج ذلك على أن المعنى يرثني العلم وأرث أنا به الملك من آل يعقوب وذلك بجعل وراثة الولي الملك وراثة لزكريا عليه‌السلام لأن رفعة الولد للوالد والواو لمطلق الجمع ، وقال بعضهم : والواو للحال والجملة حال من أحد الضميرين ، وقال صاحب اللوامح: فيه تقديم ومعناه فهب لي وليا من آل يعقوب يرثني النبوة إن مت قبله وأرثه ماله إن مات قبلي وفيه ما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريبا ، ونقل عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وجماعة أنهم قرءوا «يرثني وأرث» برفع وأرث بزنة فاعل على أنه فاعل يرثني على طريقة التجريد كما قال أبو الفتح ، وغيره أي يرثني ولي من ذلك الولي أو به فقد جرد من الولي وليا كما تقول رأيت منه أو به أسدا ، وعن الجحدري أنه قرأ «وأرث» بإمالة الواو ، وقرأ مجاهد «أويرث» تصغير وارث وأصله وويرث بواوين الأولى فاء الكلمة الأصلية والثانية بدل ألف فاعل لأنها تقلب واوا في التصغير كضويرب ولما وقعت الواو مضمومة قبل أخرى في أوله قلبت همزة كما تقرر في التصريف ونقل عنه أنه قال التصغير لصغره فإنه عليه‌السلام لما طلبه في كبره علم ولو حدسا أنه يرثه في صغر سنه ، وقيل : للمدح وليس بذاك.

هذا واستدل الشيعة بالآية على أن الأنبياء عليهم‌السلام تورث عنهم أموالهم لأن الوراثة حقيقية في وراثة المال ولا داعي إلى الصرف عن الحقيقة ، وقد ذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبي صالح أنهم قالوا في الآية : يرثني مالي وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٨٣

قال في الآية : يرحم الله تعالى أخي زكريا ما كان عليه من ورثة وفي رواية ما كان عليه ممن يرث ماله ، وقال بعضهم : إن الوراثة ظاهرة في ذلك ولا يجوز هاهنا حملها على وراثة النبوة لئلا يلغو قوله : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) ولا على وراثة العلم لأنه كسبي والموروث حاصل بلا كسب. ومذهب أهل السنة أن الأنبياء عليهم‌السلام لا يرثون مالا ولا يورثون لما صح عندهم من الأخبار. وقد جاء ذلك أيضا من طريق الشيعة فقد روي الكليني في الكافي عن أبي البختري عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال : إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر ، وكلمة إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة ، والوراثة في الآية محمولة على ما سمعت ولا نسلم كونها حقيقة لغوية في وراثة المال بل هي حقيقة فيما يعم وراثة العلم والمنصب والمال وإنما صارت لغلبة الاستعمال في عرف الفقهاء مختصة بالمال كالمنقولات العرفية ولو سلمنا أنها مجاز في ذلك فهو مجاز متعارف مشهور خصوصا في استعمال القرآن المجيد بحيث يساوي الحقيقة ، ومن ذلك قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) [فاطر : ٣٢] وقوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ) [الأعراف : ١٦٩] وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) [الشورى : ١٤] وقوله تعالى : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [الأعراف : ١٢٨] (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران : ١٨٠] قولهم لا داعي إلى الصرف عن الحقيقة قلنا : الداعي متحقق وهي صيانة قول المعصوم عن الكذب ودون تأويله خرط القتاد ، والآثار الدالة على أنهم يورثون المال لا يعول عليها عند النقاد ، وزعم البعض أنه لا يجوز حمل الوراثة هنا على وراثة النبوة لئلا يلغو قوله : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) قد قدمنا ما يعلم منه ما فيه. وزعم أن كسبية الشيء تمنع من كونه موروثا ليس بشيء فقد تعلقت الوراثة بما ليس بكسبي في كلام الصادق ، ومن ذلك أيضا ما رواه الكليني في الكافي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : إن سليمان ورث داود وإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورث سليمان عليه‌السلام فإن وراثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سليمان عليه‌السلام لا يتصور أن تكون وراثة غير العلم والنبوة ونحوهما ، ومما يؤيد حمل الوراثة هنا على وراثة العلم ونحوه دون المال أنه ليس في الأنظار العالية والهمم العلياء للنفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم المتغير الفاني واتصلت بالعالم الباقي ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة لا سيما جناب زكريا عليه‌السلام فإنه كان مشهورا بكمال الانقطاع والتجرد فيستحيل عادة أن يخاف من وراثة المال والمتاع الذي ليس له في نظره العالي أدنى قدر أو يظهر من أجله الكلف والحزن والخوف ويستدعي من حضرة الحق سبحانه وتعالى ذلك النحو من الاستدعاء وهو يدل على كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا ، وقالت الشيعة : إنه عليه‌السلام خاف أن يصرف بنو عمه ماله بعد موته فيما لا ينبغي فطلب له الوارث المرضي لذلك ، وفيه أن ذلك مما لا يخاف منه إذ الرجل إذا مات وانتقل ماله بالوراثة إلى آخر صار المال مال ذلك الآخر فصرفه على ذمته صوابا أو خطأ ولا مؤاخذة على الميت من ذلك الصرف بل لا عتاب أيضا مع أن دفع هذا الخوف كان ميسرا له عليه‌السلام بأن يصرفه قبل موته ويتصدق به كله في سبيل الله تعالى ويترك بني عمه الأشرار خائبين لسوء أحوالهم وقبح أفعالهم. وللأنبياء عليهم‌السلام عند الشيعة خبر بزمن موتهم وتخيير فيه فما كان له خوف موت الفجأة أيضا فليس قصده عليه‌السلام من مسألة الولد سوى إجراء أحكام الله تعالى وترويج الشريعة وبقاء النبوة في أولاده فإن ذلك موجب لتضاعف الأجر إلى حيث شاء الله تعالى من الدهر ، ومن أنصف لم يتوقف في قبول ذلك والله تعالى الهادي لأقوم المسالك.

(يا زَكَرِيَّا) على إرادة القول أي قيل له أو قال الله تعالى يا زكريا (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) لكن لا بان يخاطبه سبحانه وتعالى بذلك بالذات بل بواسطة الملك كما يدل عليه آية أخرى على أن يحكي عليه‌السلام العبارة

٣٨٤

عنه عزوجل على نهج قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٣] الآية وهذا جواب لندائه عليه‌السلام ووعد بإجابة دعائه كما يفهمه التعبير بالبشارة دون الإعطاء أو نحوه وما في الوعد من التراخي لا ينافي التعقيب في قوله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) الآية لأنه تعقيب عرفي كما في تزوج فولد له ولأن المراد بالاستجابة الوعد أيضا لأن وعد الكريم نقد ، والمشهور أن هذا القول كان إثر الدعاء ولم يكن بين البشارة والولادة إلا أشهر ، وقيل : إنه رزق الولد بعد أربعين سنة من دعائه ، وقيل : بعد ستين. والغلام الولد الذكر ، وقد يقال للأنثى : غلامة كما قال :

تهان لها الغلامة والغلام

وفي تعيين اسمه عليه‌السلام تأكيد للوعد وتشريف له عليه‌السلام ، وفي تخصيصه به حسبما يعرف عنه قوله تعالى : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي شريكا له في الاسم حيث لم يسم أحد قبله بيحيى على ما روي عن ابن عباس وقتادة والسدي وابن أسلم مزيد تشريف وتفخيم له عليه‌السلام ، وهذا كما قال الزمخشري شاهد على أن الأسماء النادرة التي لا يكاد الناس يستعملونها جديرة بالأثرة وإياها كانت العرب تنحى في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز حتى قال القائل في مدح قوم :

شنع الأسامي مسبلي أزر

حمر تمس الأرض بالهدب

وقيل للصلت بن عطاء : كيف تقدمت عند البرامكة وعندهم من هو آدب منك؟ فقال : كنت غريب الدار غريب الاسم خفيف الجرم شحيحا بالأشلاء فذكر مما قدمه كونه غريب الاسم ؛ وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد أن (سَمِيًّا) بمعنى شبيها وروي عن عطاء وابن جبير مثله أي لم نجعل له شبيها حيث أنه لم يعص ولم يهم بمعصية ، فقد أخرج أحمد والحكيم والترمذي في نوادر الأصول والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا عليهما‌السلام لم يهم بخطيئة ولم يعملها» والأخبار في ذلك متظافرة ، وقيل : لم يكن له شبيه لذلك ولأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر.

وقيل لأنه كان كما وصف الله تعالى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين فيكون هذا إجمالا لذلك وإنما قيل للشبيه سمي لأن المتشابهين يتشاركان في الاسم ، ومن هذا الإطلاق قوله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥] لأنه الذي يقتضيه التفريع ، والأظهر أنه اسم أعجمي لأنه لم تكن عادتهم التسمية بالألفاظ العربية فيكون منعه الصرف على القول المشهور في مثله للعلمية والعجمة ، وقيل أنه عربي ولتلك العادة مدخل في غرابته وعلى هذا فهو منقول من الفعل كيعمر ويعيش وقد سموا بيموت وهو يموت بن المزرع بن أخت الجاحظ ووجه تسميته بذلك على القول بعربيته قيل الإشارة بأنه يعمر ، وهذا في معنى التفاؤل بطول حياته ، وكان في ذلك إشارة إلى أنه عليه‌السلام يرث حسبما سأل زكريا عليه‌السلام ، وقيل : سمي بذلك لأنه حي به رحم أمه ، وقيل لأنه حي بين شيخ فان وعجوز عاقر ، وقيل لأنه يحيا بالحكمة والعفة ، وقيل لأنه يحيا بإرشاد الخلق وهدايتهم ، وقيل لأنه يستشهد والشهداء أحياء ، وقيل غير ذلك ، ثم لا يخفى أنه على العربية والعجمة يختلف الوزن والتصغير كما بين في محله.

(قالَ) استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فما ذا قال عليه‌السلام حينئذ؟ فقيل قال (رَبِ) ناداه تعالى بالذات مع وصول خطابه تعالى إليه بواسطة الملك للمبالغة في التضرع والمناجاة والجد في التبتل إليه عزوجل ، وقيل لذلك والاحتراز عما عسى يوهم خطابه للملك من توهم أن علمه تعالى بما يصدر عنه متوقف على توسطه كما أن علم البشر بما يصدر عنه تعالى متوقف على ذلك في عامة الأوقات ، ولا يخفى أن الاقتصار على الأول أولى (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) كلمة (أَنَّى) بمعنى كيف أو من أين ، وكان إما تامة وأنى واللام متعلقان بها ، وتقديم الجار على الفاعل لما

٣٨٥

مر غير مرة أي كيف أو من أين يحدث لي غلام ، ويجوز أن يتعلق اللام بمحذوف وقع حالا من (غُلامٌ) أي أنى يحدث كائنا لي غلام أو ناقصة واسمها ظاهر وخبرها إما أنى و (لِي) متعلق بمحذوف كما مر أو هو الخبر وأنى نصب على الظرفية ، وقوله تعالى (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) حال من ضمير المتكلم بتقدير قد وكذا قوله تعالى (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) حال منه مؤكدة للاستبعاد إثر تأكيد ، ومن للابتداء العلي ، والعتى من عتي يعتو اليبس والقحول في المفصال والعظام.

وقال الراغب : هو حالة لا سبيل إلى إصلاحها ومداواتها ، وقيل إلى رياضتها وهي الحالة المشار إليها بقول الشاعر : ومن العناء رياضة الهرم. وأصله عتوو كقعود فاستثقل توالي الضمتين والواوين فكسرت التاء فانقلبت الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ثم انقلبت الثانية أيضا لاجتماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون وكسرت العين اتباعا لما بعدها أي كانت امرأتي عاقرا لم تلد في شبابها وشبابي فكيف وهي الآن عجوز وقد بلغت أنا من أجل كبر السن يبسا وقحولا أو حالة لا سبيل إلى إصلاحها وقد تقدم لك الأقوال في مقدار عمره عليه‌السلام إذ ذاك. وأما عمر امرأته فقد قيل إنه كان ثماني وتسعين.

وجوز أن تكون (مِنَ) للتبعيض أي بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا ، وجعلها بعضهم بيانية تجريدية وفيه بحث والجار والمجرور إما متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا من (عِتِيًّا) وهو نصب على المفعولية وأصل المعنى متحد مع قوله تعالى في آل عمران حكاية عنه بلغني الكبر والتفاوت في المسند إليه لا يضر فإن ما بلغك من المعاني فقد بلغته نعم بين الكلامين اختلاف من حيثية أخرى لا تخفى فيحتاج اختيار كل منهما في مقام إلى نكتة فتدبر ذاك ، وكذا وجه البداءة هاهنا بذكر حال امرأته عليه‌السلام على عكس ما في تلك السورة.

وفي إرشاد العقل السليم لعل ذلك لما أنه قد ذكر حاله في تضاعيف دعائه وإنما المذكور هاهنا بلوغه أقصى مراتب الكبر تتمة لما ذكر قبل وأما هنا لك فلم يسبق في الدعاء ذكر حاله فلذلك قدمه على ذكر حال امرأته لما أن المسارعة إلى بيان قصور شأنه أنسب ا ه.

وقال بعضهم : يحتمل تكرر الدعاء والمحاورة واختلاف الأسلوب للتفنن مع تضمن كل ما لم يتضمنه الآخر فتأمل والله تعالى الموفق ، والظاهر أنه عليه‌السلام كان يعرف من نفسه أنه لم يكن عاقرا ، ولذلك ذكر الكبر ولم يذكر العقر وإنما قال عليه‌السلام ما ذكر مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في سورة آل عمران استعظاما لقدرة الله تعالى واعتدادا بنعمته تعالى عليه في ذلك بإظهار أنه من محض فضل الله تعالى ولطفه مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة ولم يكن ذلك استبعادا كذا قيل.

وقيل : هو استبعاد لكنه ليس راجعا إلى المتكلم بل هو بالنسبة إلى المبطلين ، وإنما طلب عليه‌السلام ما يزيل شوكة استبعادهم ويجلب ارتداعهم من سيئ عادتهم ، وذلك مما لا بأس به من النبي خلافا لابن المنير ، نعم أورد على ذلك أن الدعاء كان خفيا عن المبطلين.

وأجيب بأنه يحتمل أنه جهر به بعد ذلك إظهارا لنعمة الله تعالى عليه وطلبا لما ذكر فتذكر ، وقيل : هو استبعاد راجع إلى المتكلم حيث كان بين الدعاء والبشارة ستون سنة ، وكان قد نسي عليه‌السلام دعاءه وهو بعيد جدا.

وقال في الانتصاف : الظاهر والله تعالى أعلم أن زكريا عليه‌السلام طلب ولدا على الجملة وليس في الآية ما يدل أنه يوجد منه وهو هرم ولا إنه من زوجته وهي عاقر ولا أنه يعاد عليهما قوتهما وشبابهما كما فعل بغيرهما أو يكون الولد من غير زوجته العاقر فاستبعد الولد منهما وهما بحالهما فاستخبر أيكون وهما كذلك فقيل له كذلك أي يكون

٣٨٦

الولد وأنتما كذلك. وتعقب بأن قوله (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) ظاهر في أنه طلب الولد وهما على حالة يستحيل عادة منهما الولد.

والظاهر عندي كونه استبعادا من حيث العادة أو هو بالنسبة إلى المبطلين وهو كما في الكشف أولى. وقرأ أكثر السبعة «عتيّا» بضم العين ، وقرأ ابن مسعود بفتحها وكذا بفتح صاد (صِلِيًّا) [مريم : ٧٠] وأصل ذلك كما قال ابن جني ردا على قول ابن مجاهد لا أعرف لهما في العربية أصلا ما جاء من المصادر على فعيل نحو الحويل والزويل وعن ابن مسعود أيضا ومجاهد أنهما قرأ «عسيا» بضم العين وبالسين مكسورة. وحكى ذلك الداني عن ابن عباس والزمخشري عن أبي ، ومجاهد وهو من عسا العود يعسو إذا يبس.

(قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) قرأ الحسن «وهو علي هين» بالواو ، وعنه أنه كسر ياء المتكلم كما في قوله النابغة :

علي لعمرو نعمة بعد نعمة

لوالده ليست بذات عقارب

ونحو ذلك قراءة حمزة (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) [إبراهيم : ٢٢] بكسر الياء ، والكاف إما رفع على الخبرية لمبتدإ محذوف أي الأمر كذلك وضمير (قالَ) للرب عزوجل لا للملك المبشر لئلا يفك النظم ، وذلك إشارة إلى قول زكريا عليه‌السلام ، والخطاب في (قالَ رَبُّكَ) له عليه‌السلام لا لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدليل السابق واللاحق ، وجملة (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) مفعول (قالَ) الثاني وجملة الأمر كذلك مع جملة (قالَ رَبُّكَ) إلخ مفعول (قالَ) الأول وإن لم يتخلل بين الجملتين عاطف كما في قوله تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [هود : ٤١] وقوله سبحانه وتعالى : (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنا) [المؤمنون : ٨٢ ، ٨٣] الآية وكم وكم ، وجيء بالجملة الأولى تصديقا منه تعالى لزكريا عليه‌السلام وبالثانية جوابا لما عسى يتوهم من أنه إذا كان ذلك في الاستبعاد بتلك المنزلة وقد صدقت فيه فأنى يتسنى فهي في نفسها استئنافية لذلك ، ولا يحسن تخلل العاطف في مثل هاتين الجملتين إذا كان المحكي عنه قد تكلم بهما معا من غير عاطف ليدل على الصورة الأولى للقول بعينها ، وكذلك لا يحسن إضمار قول آخر لأنه يكون استئنافا جوابا للمحكي له فلا يدل على أنه استئناف أيضا في الأول إلا بمنفصل أما لو تكلم بهما في زمانين أو بدون ذلك الترتيب فالظاهر العطف أو الاستئناف بإضمار القول.

ثم لو كان الاقتصار في جواب زكريا عليه‌السلام على (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) من دون إقحام (قالَ رَبُّكَ) لكان مستقيما لكن إنما عدل إليه للدلالة على تحقيق الوعد وإزالة الاستبعاد بالكلية على منوال ما إذا وعد ملك بعض خواصه ما لا يجد نفسه تستأهل ذلك فأخذ يتعجب مستبعدا أن يكون من الملك بتلك المنزلة فحاول أن يحقق مراده ويزيل استبعاده فأما أن يقول لا تستبعد أنه أهون شيء على الكلام الظاهر وإما أن يقول لا تستبعد قد قلت إنه أهون شيء علي إشارة منه إلى أنه وعد سبق القول به وتحتم وأنه من جلالة القدر بحيث لا يرى في إنجازه لباغيه كائنا من كان وقعا فكيف لمن استحق منه لصدق قدمه في عبوديته إجلالا ورفعا ، وهذا قول بلسان الإشارة يصدق وإن لم يكن قد سيق منه نطق به لأن المقصود أن علو المكانة وسعة القدرة وكمال الجود يقضي بذلك قيل : أولا أولا ثم إذا أراد ترشيح هذا المعنى عدل عن الحكاية قائلا : قد قال من أنت غرس نعمائه أنه أهون شيء علي ثم إذا حكى الملك القصة مع بعض خلصائه كان له أن يقول : قلت لعبدي فلان كيف وكيت قال : إني وليت قلت قال من أنت إلخ وأن يقول بدله قال سيد فلان له ويسرد الحديث فهذا وزان الآية فيما جرى لزكريا عليه‌السلام وحكى لنبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل والسّلام ، وقد لاح من هذا التقرير إن فوات نكتة الإقحام مانع من أن يجعل المرفوع من صلة (قالَ) الثاني والمجموع

٣٨٧

صلة الأول ، والظاهر في توجيه قراءة الحسن على هذا أن جملة (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) عطف على محذوف من نحو أفعل وأنا فاعل ، ويجوز أن يقال وربما أشعر كلام الزمخشري بإيثاره أنه عطف على الجملة السابقة نظرا إلى الأصل لما مر من أن (قالَ) مقحم لنكتة فكأنه قيل الأمر كذلك وهو على ذلك يهون علي ، وأما نصب بقال الثاني وهي الكاف التي تستعمل مقحمة في الأمر العجيب الغريب لتثبيته وذلك إشارة إلى مبهم يفسر ما بعده أعني (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) وضمير (قالَ) للرب كما تقدم والخطاب لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا أي قال رب زكريا له قال ربك مثل ذلك القول العجيب الغريب هو علي هين على أن (قالَ) الثاني مع ما في صلته مقول القول الأول وإقحام القول الثاني لما سلف ولا ينصب الكاف بقال الأول وإلا لكان (قالَ) ثانيا تأكيدا لفظيا لئلا يقع الفصل بين المفسر والمفسر بأجنبي وهو ممتنع إذ لا ينتظم أن يقال : قال رب زكريا قال ربك ويكون الخطاب لزكريا عليه‌السلام والمخاطب غيره كيف وهذا النوع من الكلام يقع فيه التشبيه مقدما لا سيما في التنزيل الجليل من نحو (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً) [البقرة : ١٤٣] كذلك الله يفعل ما يشاء إلى غير ذلك ، وهذا الوجه لا يتمشى في قراءة الحسن لأن المفسر لا يدخله الواو ولا يجوز حذفه حتى يجعل عطفا عليه لأن الحذف والتفسير متنافيان ، وجوز على احتمال النصب أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من وعد الله تعالى إياه عليه‌السلام بقوله : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) إلخ أي قال ربه سبحانه له قال ربك مثل ذلك أي مثل ذلك القول العجيب الذي وعدته وعرفته وهو (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) إلخ ، وأداة التشبيه مقحمة كما مر فيكون المعنى وعد ذلك وحققه وفرغ منه فكن فارغ البال من تحصيله على أوثق بال ثم قال : هو علي هين أي قال ربك هو علي هين فيضمر القول ليتطابقا في البلاغة ، ولأن قوله مثل ذلك مفرد فلا يحسن أن تقرن الجملة به وينسحب عليه ذلك القول بعينه بل إنما يضمر مثله استئنافا إيفاء بحق التناسب. وإن شئت لم تنوه ليكون محكيا منتظما في سلك (قالَ رَبُّكَ) منسحبا عليه القول الأول أي قال رب زكريا له هو على هين لأن الله تعالى هو المخاطب لزكريا عليه‌السلام فلا منع من جعله مقول القول الأول من غير إضمار لأن القولين ـ أعني قال ربك مثل ذلك هو علي هين ـ صادران معا محكيان على حالهما. ولو قدر أن المخاطب غيره تعالى أعني الملك تعين إضمار القول لامتناع أن يكون هو علي هين من مقوله فلا ينسحب عليه الأول. وأما على قراءة الحسن فإن جعل عطفا علي (قالَ رَبُّكَ) لم يحتج إلى إضمار لصحة الانسحاب وإن أريد تأكيده أيضا قدر القول لئلا تفوت البلاغة ويكون التناسب حاصلا ، وجعله عطفا ما بعده (قالَ) الثاني من دون التقدير يفوت به رعاية التناسب لفظا فإن ما بعده مفرد والملاءمة معنى لما عرفت أن لأقول على الحقيقة ، والمعنى قال ربه قد حقق الموعود وفرغ عنه فلا بد من تقديره على (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) ليفيد تحقيقه أيضا ، ولو قدر أن المخاطب غيره تعالى تعين الإضمار لعدم الانسحاب دونه فافهم ، وهذا ما حققه صاحب الكشف وقرر به عبارة الكشاف بأدنى اختصار ، ثم ذكر أن خلاصة ما وجده من قول الأفاضل أن التقدير على احتمال أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من الوعد قال رب زكريا له قال ربك قولا مثل قوله سبحانه وتعالى السابق عدة في الغرابة والعجب فاتجه له عليه‌السلام أن يسأل ما ذا قلت يا رب وهو مثله فيقول : هو علي هين أي قلت أو قال ربك. والأصل على هذا التقدير قلت قولا مثل الوعد في الغرابة فعدل إلى الالتفات أو التجريد أيا شئت تسميه لفائدته المعلومة ، وليس في الإتيان بأصل القول خروج عن مقتضى الظاهر إذ لا بد منه لينتظم الكلام وذلك لأن المعنى على هذا التقدير ولا تعجب من ذلك القول وانظر إلى مثله واعجب فقد قلناه. وكذلك يتجه لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم السؤال فيجاب بأنه قال له ربه هو علي هين وصحة وقوعه جوابا عن سؤال نبينا عليه الصلاة والسّلام وهو الأظهر على هذا الوجه لأن الكلام معه ، وإذ قد صح أن يجعل جوابا له جاز إضمار القول لأنه جواب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يدل على أنه خوطب به زكريا عليه‌السلام أيضا وجاز أن لا يضمر لأن المخاطب لهما واحد والخطاب مع نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلم من ضرورة المماثلة أنه قيل لزكريا أيضا هذه المقالة ولو كان الحاكي والقائل الأول

٣٨٨

مختلفين في هذه الصورة لم يكن بد من إضماره لأنه إذا قال عمرو لبكر ما ذا قال زيد لخالد مما يماثل مقالته السابقة له؟ فيقول : إنك محبب مرضي وجب أن يكون التقدير قال زيد لخالد هذه المقالة لا محالة ، ولا بعد في تنزيل كلام الزمخشري عليه ، وهذا ما لوح إليه صاحب التقريب وآثره الإمام الطيبي وفيه فوات النكتة المذكورة في (قالَ رَبُّكَ) ثم إنه إن لم يكن سبق القول كان كذبا من حيث الظاهر إذ ليس من القول بلسان الإشارة إلا أن يؤول بأنه مستقبل معنى ، هذا والكلام مسوق لما يزيل الاستبعاد ويحقق الموعود المرتاد وفي ذلك التقدير خروج عنه إلى معنى آخر ربما يستلزم هذا المعنى تبعا وما سيق له الكلام ينبغي أن يجعل الأصل انتهى.

وهو كلام تحقيق وتدقيق لا يرشد إليه إلا توفيق ، وفي الآية وجه آخر هو ما أشار إليه صاحب الانتصاف ، و (هَيِّنٌ) فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب ، والمراد أني كامل القدرة على ذلك إذا أردته كان.

(وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) تقرير لما قبل ، والشيء هنا بمعنى الموجود أي ولم تك موجودا بل كنت معدوما ، والظاهر أن هذا إشارة إلى خلقه بطريق التوالد والانتقال في الأطوار كما يخلق سائر أفراد الإنسان ، وقال بعض المحققين : المراد به ابتداء خلق البشر ، إذ هو الواقع إثر العدم المحض لا ما كان بعد ذلك بطريق التوالد المعتاد فكأنه قيل : وقد خلقتك من قبل في تضاعيف خلق آدم ولم تك إذ ذاك شيئا أصلا بل كنت عدما بحتا ، وإنما لم يقل : وقد خلقت أباك أو آدم من قبل ولم يك شيئا مع كفايته في إزالة الاستبعاد بقياس حال ما بشر به على حاله عليه‌السلام لتأكيد الاحتجاج وتوضيح منهاج القياس من حيث نبه على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه عليه‌السلام من العدم لأنه عليه‌السلام أبدع أنموذجا منطويا على سائر آحاد الجنس فكان إبداعه على ذلك الوجه إبداعا لكل أحد من فروعه كذلك ، ولما كان خلقه عليه‌السلام على هذا النمط الساري إلى جميع ذريته أبدع من أن يكون مقصورا على نفسه كما هو المفهوم من نسبة الخلق المذكور إليه وأدل على عظم قدرته تعالى وكمال علمه وحكمته وكان عدم زكريا حينئذ أظهر عنده وكان حاله أولى بأن يكون معيارا لحال ما بشر به نسب الخلق المذكور إليه كما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين في قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) [الأعراف : ١١] توفية لمقام الامتنان حقه انتهى ، ولا يخلو عن تكلف ، وجوز أن يكون الشيء بمعنى المعتد به وهو مجاز شائع ، ومنه قول المتنبي :

وضاقت الأرض حتى كان هاربهم

إذا رأى غير شيء ظنه رجلا

وقولهم : عجبت من لا شيء وليس بشيء إذ يأباه المقام ويرده نظم الكلام. وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي «خلقناك».

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ

٣٨٩

وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)(٢٦)

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة تدلني على تحقق المسئول ووقوع الخبر ، وكان هذا السؤال كما قال الزجاج لتعريف وقت العلوق حيث كانت البشارة مطلقة عن تعيينه وهو أمر خفي لا يوقف عليه لا سيما إذا كانت زوجته ممن انقطع حيضها لكبرها وأراد أن يطلعه الله تعالى ليتلقى تلك النعمة الجليلة بالشكر من حين حدوثها ولا يؤخره إلى أن تظهر ظهورا معتادا ، وقيل : طلب ذلك ليزداد يقينا وطمأنينة كما طلب إبراهيم عليه‌السلام كيفية إحياء الموتى لذلك والأول أولى ، وبالجملة لم يطلبه لتوقف منه في صدق الوعد ولا لتوهم أن ذلك من عند غير الله تعالى ، ورواية هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تصبح لعصمة الأنبياء عليهم‌السلام عن مثل ذلك وذكر أن هذا السؤال ينبغي أن يكون بعد ما مضى بعد البشارة برهة من الزمان لما روي أن يحيى كان أكبر من عيسى عليهما‌السلام بستة أشهر أو بثلاث سنين ولا ريب في أن دعاءه عليه‌السلام كان في صغر مريم لقوله تعالى (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) وهي إنما ولدت عيسى عليه‌السلام وهي بنت عشر سنين أو بنت ثلاث عشرة سنة ، والجعل إبداعي واللام متعلقة به ، والتقديم على (آيَةً) الذي هو المفعول لما تقدم مرارا أو بمحذوف وقع حالا من (آيَةً) وقيل : بمعنى التصيير المستدعي لمفعولين أولهما (آيَةً) وثانيهما الظرف وتقديمه لأنه لا مسوغ لكون (آيَةً) مبتدأ عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديم الظرف فلا يتغير حالهما بعد ورود الناسخ.

(قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أن لا تقدر على تكليمهم بكلامهم المعروف في محاوراتهم.

روي عن أبي زيد أنه لما حملت زوجته عليه‌السلام أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا وهو مع ذلك يقرأ التوراة فإذا أراد مناداة أحد لم يطقها (ثَلاثَ لَيالٍ) مع أيامهن للتصريح بالأيام في سورة آل عمران والقصة واحدة ، والعرب تتجوز أو تكتفي بأحدهما عن الآخر كما ذكره السيرافي ، والنكتة في الاكتفاء بالليالي هنا وبالأيام ثمة على ما قيل أن هذه السورة مكية سابقة النزول وتلك مدنية والليالي عندهم سابقة على الأيام لأن شهورهم وسنيهم قمرية إنما تعرف بالأهلّة ولذلك اعتبروها في التاريخ كما ذكره النحاة فأعطى السابق للسابق ، والليال جمع ليل على غير قياس كأهل وأهال أو جمع ليلات ويجمع أيضا على ليايل.

(سَوِيًّا) حال من فاعل (تُكَلِّمَ) مفيد لكون انتفاء التكلم بطريق الإعجاز وخرق العادة لا لاعتقال اللسان بمرض أي يتعذر عليك تكليمهم ولا تطيقه حال كونك سوى الخلق سليم الجوارح ما بك شائبة بكم ولا خرس وهذا ما عليه الجمهور ، وعن ابن عباس أن (سَوِيًّا) عائد على الليالي أي كاملات مستويات فيكون صفة لثلاث. وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «أن لا تكلّم» بالرفع على أن أن المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن أي إنه لا تكلم (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) أي من المصلى كما روي عن ابن زيد أو من الغرفة كما قيل ،

٣٩٠

وأصل المحراب كما قال الطبرسي : مجلس الأشراف الذي يحارب دونه ذبا عن أهله ، ويسمى محل العبادة محرابا لما أن العابد كالمحارب للشيطان فيه ، وإطلاق المحراب على المعروف اليوم في المساجد لذلك وهو محدث لم يكن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد ألف الجلال السيوطي في ذلك رسالة صغيرة سماها إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب. روي أن قومه كانوا من وراء المحراب ينتظرون أن يفتح لهم الباب فيدخلوه ويصلوا فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم متغيرا لونه فأنكروه وقالوا : ما لك؟ (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أي أومأ إليهم وأشار كما روي عن قتادة وابن منبه والكلبي والقرطبي وهو إحدى الروايتين عن مجاهد ، ويشهد له قوله تعالى : (إِلَّا رَمْزاً) [آل عمران : ٤١] وروي عن ابن عباس كتب لهم على الأرض. (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) وهو الرواية الأخرى عن مجاهد لكن بلفظ على التراب بدل على الأرض وقال عكرمة : كتب على ورقة وجاء إطلاق الوحي على الكتابة في كلام العرب ومنه قول عنترة :

كوحي صحائف من عهد كسرى

فأهداها لأعجم طمطمي

وقول ذي الرمة :

سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها

بقية وحي في بطون الصحائف

و (أَنْ) إما مفسرة أو مصدرية فتقدر قبلها الباء الجارة ، والمراد بالتسبيح الصلاة مجازا بعلاقة الاشتمال وهو المروي عن ابن عباس وقتادة وجماعة و (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ظرفا زمان له ، والمراد بذلك كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية صلاة الفجر وصلاة العصر ، وقال بعض : التسبيح على ظاهره وهو التنزيه أي نزهوا ربكم طرفي النهار ، ولعله عليه‌السلام كان مأمورا بأن يسبح شكرا ويأمر قومه.

وقال صاحب التحرير والتحبير : عندي في هذا معنى لطيف وهو أنه إنما خص التسبيح بالذكر لأن العادة جارية أن كل من رأى أمرا عجب منه أو رأى فيه بديع صنعة أو غريب حكمة يقول : سبحان الله تعالى سبحان الخالق جل جلاله فلما رأى حصول الولد من شيخ وعاقر عجب من ذلك فسبح وأمر بالتسبيح ا ه.

فأمرهم بالتسبيح إشارة إلى حصول أمر عجيب ، وقيل : إنه عليه‌السلام كان قد أخبر قومه بما بشر به قبل جعل العلامة فلما تعذر عليه الكلام أشار إليهم بحصول ما بشر به من الأمر العجيب فسروا بذلك.

وقرأ طلحة «أن سبحوه» بهاء الضمير عائدة إلى الله تعالى ، وروى ابن غزوان عن طلحة «أن سبحن» بنون مشددة (يا يَحْيى) على تقدير القول وكلام آخر حذف مسارعة إلى الإنباء بإنجاز الوعد الكريم أي فلما ولد وبلغ سنا يؤمر مثله فيه قلنا يا يحيى (خُذِ الْكِتابَ) أي التوراة ، وادعى ابن عطية الإجماع على ذلك بناء على أن آل للعهد ولا معهود إذ ذاك سواها فإن الإنجيل لم يكن موجودا حينئذ وليس كما قال بل قيل له عليه‌السلام : كتاب خص به كما خص كثير من الأنبياء عليهم‌السلام بمثل ذلك ، وقيل : المراد بالكتاب صحف إبراهيم عليه‌السلام ، وقيل : المراد الجنس أي كتب الله تعالى (بِقُوَّةٍ) بجد واستظهار وعمل بما فيه ، وقائل ذلك هو الله تعالى على لسان الملك كما هو الغالب في القول للأنبياء عليه‌السلام ، وأبعد التبريزي فقدر قال له أبوه حين ترعرع ونشأ : يا يحيى إلخ ، ويزيده بعدا قوله تعالى (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا).

أخرج أبو نعيم وابن مردويه والديلمي عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في ذلك : أعطي الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين ، وجاء في رواية أخرى عنه مرفوعا أيضا قال الغلمان ليحيى بن زكريا عليهما‌السلام : اذهب بنا نلعب فقال : اللعب خلقنا ، اذهبوا نصلي فهو قوله تعالى (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) والظاهر أن الحكم على هذا بمعنى

٣٩١

الحكمة ، وقيل : هي بمعنى العقل ، وقيل معرفة آداب الخدمة ، وقيل الفراسة الصادقة وقيل النبوة وعليه كثير قالوا : أوتيها وهو ابن سبع سنين أو ابن ثلاث أو ابن سنتين ولم ينبأ أكثر الأنبياء عليهم‌السلام قبل الأربعين ، والجملة عطف على قلنا المقدر (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) عطف على (الْحُكْمَ) وتنوينه للتفخيم وهو في الأصل من حن إذا ارتاح واشتاق ثم استعمل في الرحمة والعطف ، ومنه الحنان لله تعالى خلافا لمن منع إطلاقه عليه عزوجل ، وإلى تفسيره بالرحمة هنا ذهب الحسن وقتادة والضحاك وعكرمة والفراء وأبو عبيدة وهو رواية عن ابن عباس ، ويروى أنه أنشد في ذلك لابن الأزرق قول طرفة :

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

حنانيك بعض الشر أهون من بعض

وأنشد سيبويه قول المنذر بن درهم الكلبي :

وأحدث عهد من أمينة نظرة

على جانب العلياء إذ أنا واقف

تقول حنانا ما أتى بك هاهنا

أذو نسب أم أنت بالحي عارف

والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي وآتيناه رحمة عظيمة عليه كائنة من جنابنا وهذا أبلغ من ورحمناه وروي هذا التفسير عن مجاهد ، وقيل : المراد وآتيناه رحمة في قلبه وشفقة على أبويه وغيرهما ، وفائدة الوصف على هذا الإشارة إلى أن ذلك كان مرضيا لله عزوجل فإن من الرحمة والشفقة ما هو غير مقبول كالذي يؤدي إلى ترك شيء من حقوق الله سبحانه كالحدود مثلا أو الإشارة إلى أن تلك الرحمة زائدة على ما في جبلة غيره عليه‌السلام لأن ما يهبه العظيم عظيم. وأورد على هذا أن الإفراط مذموم كالتفريط وخير الأمور أوسطها. ورد بأن مقام المدح يقتضي ذلك. ورب إفراط يحمد من شخص ويذم من آخر فإن السلطان يهب الألوف ولو وهبها غيره كان إسرافا مذموما.

وعن ابن زيد أن الحنان هنا المحبة وهو رواية عن عكرمة أي وآتيناه محبة من لدنا ، والمراد على ما قيل جعلناه محببا عند الناس فكل من رآه أحبه نظير قوله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩] وجوز بعضهم أن يكون المعنى نحو ما تقدم على القول السابق ، وقيل : هو منصوب على المصدرية فيكون من باب (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ) حفظا [الملك : ٥].

وجوز أن يجعل مفعولا لأجله وأن يجعل عطفا على (صَبِيًّا) وذلك ظاهر على تقدير أن يكون المعنى رحمة لأبويه وغيرهما ، وعلى تقدير أن يكون وحنانا من الله تعالى عليه لا يجيء الحال وباقي الأوجه بحاله ، ولا يخفى على المتأمل الحال على ما روي عن ابن زيد (وَزَكاةً) أي بركة كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وهو عطف على المفعول ، ومعنى إيتائه البركة على ما قيل جعله مباركا نفاعا معلما للخير. وقيل : الزكاة الصدقة والمراد ما يتصدق به ، والعطف على حاله أي آتيناه ما يتصدق به على الناس وهو كما ترى.

وقيل : هي بمعنى الصدقة والعطف على الحال والمراد آتيناه الحكم حال كونه متصدقا به على أبويه وروي هذا عن الكلبي. وابن السائب ، وجوز عليه العطف على (حَناناً) بتقدير العلية ، وقيل : العطف على المفعول ، ومعنى إيتائه الصدقة عليهما كونه عليه‌السلام صدقة عليهما ، وعن الزجاج هي الطهارة من الذنوب ولا يضر في مقام المدح الإتيان بألفاظ ربما يستغني ببعضها عن بعض (وَكانَ تَقِيًّا) مطيعا متجنبا عن المعاصي وقد جاء في غير ما حديث أنه عليه‌السلام ما عمل معصية ولا هم بها.

وأخرج مالك وأحمد في الزهد وابن المبارك وأبو نعيم عن مجاهد قال : كان طعام يحيى بن زكريا عليهما

٣٩٢

السّلام العشب وإنه كان ليبكي من خشية الله تعالى حتى لو كان القار على عينه لخرقه وقد كانت الدموع اتخذت مجرى في وجهه (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) كثير البر بهما والإحسان إليهما ؛ والظاهر أنه عطف على خبر كان وقيل هو من باب علفتها تبنا وماء باردا والمراد وجعلناه برا وهو يناسب نظيره حكاية عن عيسى عليه‌السلام ، وقرأ الحسن وأبو جعفر في رواية وابن نهيك وأبو مجلز «وبرا» في الموضعين بكسر الباء أي وذا بر (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً) متكبرا متعاليا عن قبول الحق والإذعان له أو متطاولا على الخلق ؛ وقيل : الجبار هو الذي لا يرى لأحد عليه حقا ، وعن ابن عباس أنه الذي يقتل ويضرب على الغضب.

وقال الراغب : هو في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها.

(عَصِيًّا) مخالفا أمر مولاه عزوجل ، وقيل : عاقا لأبويه وهو فعول وقيل فعيل ، والمراد المبالغة في النفي لا نفي المبالغة (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) قال الطبري : أمان من الله تعالى عليه (يَوْمَ وُلِدَ) من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم (وَيَوْمَ يَمُوتُ) من وحشة فراق الدنيا وهو المطلع وعذاب القبر ، وفيه دليل على أنه يقال للمقتول ميت بناء على أنه عليه‌السلام قتل لبغي من بغايا بني إسرائيل (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) من هول القيامة وعذاب النار وجيء بالحال للتأكيد ، وقيل : للإشارة إلى أن البعث جسماني لا روحاني ، وقيل للتنبيه على أنه عليه‌السلام من الشهداء.

وقال ابن عطية : الأظهر أن المراد بالسلام التحية المتعارفة والتشريف بها لكونها من الله تعالى في المواطن التي فيها العبد في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله عزوجل ، وجاء في خبر رواه أحمد في الزهد وغيره عن الحسن أن عيسى ويحيى عليهما‌السلام التقيا وهما ابنا الخالة فقال يحيى لعيسى : ادع الله تعالى لي فأنت خير مني فقال له عيسى : بل أنت ادع لي فأنت خير مني سلم الله تعالى عليك وإنما سلمت على نفسي.

وهذه الجملة ـ كما قال الطيبي ـ عطف من حيث المعنى على (آتَيْناهُ الْحُكْمَ) كأنه قيل وأتيناه الحكم صبيا وكذا وكذا وسلمناه أو سلمنا عليه في تلك المواطن فعدل إلى الجملة الاسمية لإرادة الدوام والثبوت وهي كالخاتمة للكلام السابق. ومن ثم شرع في قصة أخرى وذلك قوله تعالى (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) إلخ فهو كلام مستأنف خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر عليه الصلاة والسّلام بذكر قصة مريم إثر قصة زكريا عليه‌السلام لما بينهما من كمال الاشتباك والمناسبة. والمراد بالكتاب عند بعض المحققين السورة الكريمة لا القرآن كما عليه الكثير إذ هي التي صدرت بقصة زكريا عليه‌السلام المستتبعة لقصتها وقصص الأنبياء عليهم‌السلام المذكورين فيها أي واذكر للناس فيها (مَرْيَمَ) أي نبأها فإن الذكر لا يتعلق بالأعيان.

وقوله تعالى : (إِذِ انْتَبَذَتْ) ظرف لذلك المضاف لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبئها عند انتباذها فقط بل كل ما عطف عليه وحكي بعده بطريق الاستئناف داخل في حيز الظرف متمم للبناء. وجعله أبو حيان ظرفا لفعل محذوف أي واذكر مريم وما جرى لها إذ انتبذت وما ذكرناه أولى. وقيل : هو ظرف لمحذوف وقع حالا من ذلك المضاف ، وقيل : بدل اشتمال من مريم لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه تفخيم لقصتها العجيبة.

وتعقبه أبو البقاء بأن الزمان إذا لم يقع حالا من الجثة ولا خبرا عنها ولا صفة لها لم يكن بدلا منها. ورد بأنه لا يلزم من عدم صحة ما ذكر عدم صحة البدلية ألا ترى سلب زيد ثوبه كيف صح فيه البدلية مع عدم صحة ما ذكر في البدل وكون ذلك حال الزمان فقط غير بين ولا مبين. وقيل : بدل كل من كل على أن المراد بمريم قصتها وبالظرف

٣٩٣

الواقع فيه وفيه بعد. وقيل : (إِذِ) بمعنى أن المصدرية كما في قوله لا أكرمتك إذ لم تكرمني أي لأن لم تكرمني أي لعدم إكرامك لي. وهذا قول ضعيف للنحاة. والظاهر أنها ظرفية أو تعليلية إن قلنا به ويتعين على ذلك بدل الاشتمال. والانتباذ الاعتزال والانفراد.

وقال الراغب يقال : انتبذ فلان اعتزل اعتزال من تقل مبالاته بنفسه فيما بين الناس والنبذ : إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به.

وقوله تعالى (مِنْ أَهْلِها) متعلق بانتبذت ، وقوله سبحانه (مَكاناً شَرْقِيًّا) قيل نصب على الظرف ، وقيل مفعول به لانتبذت باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيان المترتب وجودا واعتبارا على أصل معناه العامل في الجار والمجرور وهو السر في تأخيره عنه. واختاره بعض المحققين أي اعتزلت وانفردت من أهلها وأتت مكانا شرقيا من بيت المقدس أو من دارها لتتخلى هنا للعبادة ، وقيل قعدت في مشرفة لتغتسل من الحيض محتجبة بحائط أو بحبل على ما روي عن ابن عباس أو بثوب على ما قيل وذلك قوله تعالى : (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) وكونه شرقيا كان أمرا اتفاقيا.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه وما صرفهم عنه إلا قيل ربك «فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا» فلذلك صلوا قبل مطلع الشمس ، وفي رواية إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة لأن مريم انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ، وقد قدمنا عن بعض أنهم كانوا في زمن عيسى عليه‌السلام يستقبلون بيت المقدس وأنهم ما استقبلوا الشرق إلا بعد رفعه عليه‌السلام زاعمين أنه ظهر لبعض كبارهم فأمره بذلك ، وجوز أن يكون اختاره الله تعالى لها لأنه مطلع الأنوار. وقد علم سبحانه أنه حان ظهور النور العيسوي منها فناسب أن يكون ظهور النور المعنوي في جهة ظهور النور الحسي وهو كما ترى ، وروي أنه كان موضعها في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك عليه‌السلام في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر ، وذلك قوله عزوجل : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) أي جبرائيل عليه‌السلام كما قاله الأكثر ، وعبر عنه بذلك لأن الدين يحيا به وبوحيه فهو مجاز. والإضافة للتشريف كبيت الله تعالى.

وجوز أن يكون ذلك كما تقول لحبيبك أنت روحي محبة له وتقريبا فهو مجاز أيضا إلا أنه مخالف للأول في الوجه والتشريف عليه في جعله روحا. وقال أبو مسلم : المراد من الروح عيسى عليه‌السلام لقوله تعالى (وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ١٧١] وضمير تمثل الآتي للملك وليس بشيء. وقرأ أبو حيوة وسهل «روحنا» بفتح الراء ، والمراد به جبريل عليه‌السلام أيضا لأنه سبب لما فيه روح العباد إصابة الروح عند الله تعالى الذي هو عدة المقربين في قوله تعالى: (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) [الواقعة : ٨٨ ، ٨٩] أو لأنه عليه‌السلام من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا أو ذا روحنا.

وذكر النقاش أنه قرئ «روحنّا» بتشديد النون اسم ملك من الملائكة عليه‌السلام (فَتَمَثَّلَ لَها) مشتق من المثال وأصله أن يتكلف أن يكون مثال الشيء ، والمراد فتصور لها (بَشَراً سَوِيًّا) سوي الخلق كامل البنية لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئا ، وقيل تمثل في صورة قريب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وذلك لتستأنس بكلامه وتتلقى منه ما يلقي إليها من كلماته إذ لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع مفاوضته ، وما قيل من أن ذلك لتهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها فمع ما فيه من الهجنة التي ينبغي أن تنزه مريم عنها يكذبه قوله تعالى (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ) فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها شائبة ميل ما إليه فضلا عن الحالة

٣٩٤

المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة ، نعم كان تمثله على ذلك الحسن الفائق والجمال الرائق لأن عادة الملك إذا تمثل أن يتمثل بصورة بشر جميل كما كان يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة دحية رضي الله تعالى عنه أو لابتلائها وسبر عفتها ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه وإرادة القائل أنه وقع كذلك ليكون مظنة لما ذكر فيظهر خلافه فيكون أقوى في نزاهتها بعيد جدا عن كلامه.

وقال بعض المتأخرين : إن استعاذتها بالله تعالى تنبئ عن تهييج شهوتها وميلانها إليه ميلا طبيعيا على ما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه‌السلام (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) [يوسف : ٣٣] فقد قيل : المراد بالصبوة فيه الميل بمقتضى الطبيعة وحكم القوة الشهوية ثم إنه لا ينافي عفتها بل يحققها لكونه طبيعيا اضطراريا غير داخل تحت التكليف كما قيل في قوله تعالى : (وَهَمَّ بِها) [يوسف : ٢٤] ومع هذا قد استعاذ يوسف عليه‌السلام بما حكى الله تعالى عنه من قوله تعالى (قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) [يوسف : ٢٣] فدعوى أن الاستعاذة تكذب التهييج والميل الطبيعي كذب والقول بأنه يأبى ذلك مقام بيان آثار القدرة الخارقة للعادة ليس بشيء لأن خلق الإنسان من ماء واحد أثر من آثار القدرة الخارقة للعادة أيضا.

والأسباب في هذا المقام ليست بمرفوضة بالكلية كما يرشد إلى ذلك قصة يحيى عليه‌السلام. على أنه قد يدعي أن خلق شيء لا من شيء أصلا محال فلا يكون من مراتب القدرة ومادة الجعل الإبداعي الأعيان الثابتة وهي قديمة اه ، ولا يخلو عن بحث ، وما ذكرناه في التعليل أسلم من القال والقيل فتدبر ، ونصب «بشرا» على الحالية المقدرة أو التمييز ، وقيل على المفعولية بتضمين تمثل معنى اتخذ ، واستشكل أمر هذا التمثل بأن جبريل عليه‌السلام شخص عظيم الجثة حسبما نطقت به الأخبار فمتى صار في مقدار جثة الإنسان يلزم أن لا يبقى جبريل إن تساقطت الأجزاء الزائدة على جثة الإنسان وأن تتداخل الأجزاء إن لم يذهب شيء وهو محال. وأيضا لو جاز التمثل ارتفع الوثوق وامتنع القطع بأن هذا الشخص الذي يرى الآن هو زيد الذي رئي أمس لاحتمال التمثل ، وأيضا لو جاز التمثل بصورة الإنسان فلم لا يجوز تمثله بصورة أخرى غير صورة الإنسان ، ومن ذلك البعوض ونحوه ، ومعلوم أن كل مذهب يجر إلى ذلك فهو باطل ، وأيضا لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبي عليه الصلاة والسّلام يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل المتمثل به. وأجيب عن الأول بأنه لا يمتنع أن يكون لجبريل عليه‌السلام أجزاء أصلية قليلة وأجزاء فاضلة فبالأجزاء الأصلية يكون متمكنا من التمثل بشرا هذا عند القائلين بأنه جسم ، وأما عند القائلين بأنه روحاني فلا استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالهيكل الصغير. وعن الثاني بأنه مشترك الإلزام بين الكل فإن من اعترف بالصانع القادر يلزمه ذلك أيضا إذ يجوز أن يخلق سبحانه مثل زيد مثلا ومع هذا الجواز يرتفع الوثوق ويمتنع القطع على طرز ما تقدم. وكذا من لم يعترف ، وأسند الحوادث إلى الاتصالات والتشكلات الفلكية يلزمه ذلك لجواز حدوث اتصال يقتضي حدوث مثل ذلك وحينئذ يمتنع القطع أيضا ، ولعله لما كان مثل ذلك نادرا لم يلزم منه قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس فلا يلزم الشك أن زيدا الذي نشاهده الآن هو الذي شاهدناه بالأمس.

وأجيب عن الثالث بأن أصل التجويز قائم في العقل وإنما عرف فساده بدلائل السمع ، وهو الجواب عن الرابع كذا قال الإمام الرازي وعندي أن مسألة التمثل على القول بالجسمية مما ينبغي تفويض الأمر فيها إلى علام الغيوب ولا سبيل للعقل إلى الجزم فيها بشيء تنشرح له القلوب. وإنما ذكرته تعالى بعنوان الرحمانية تذكيرا لمن رأته بالرحمة ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه أو مبالغة للعياذة به تعالى واستجلابا لآثار الرحمة الخاصة التي هي العصمة مما دهمها. وما قيل من أن ذلك تذكير لمن رأت بالجزاء لينزجر فإنه يقال يا رحمن الآخرة ليس بشيء لأنه ورد رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) شرط جوابه محذوف ثقة بدلالة السياق عليه أي إن كان يرجى منك أن

٣٩٥

تتقي الله تعالى وتخشاه وتحتفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك كذا قدره الزمخشري.

وفي الكشف أنه أشار إلى أن وجه هذا الشرط مع أن الاستعاذة بالرحمن إن لم يكن تقيا أولى أن أثر الاستجارة بالله تعالى أعنى مكافته وأمنها منه إنما يتم ويظهر بالنسبة إلى المتقي ، وفيه دلالة على أن التقوى مما تقتضي للمستعيذ بالله تعالى حق الذمام والمحافظة وعلى عظم مكان التقوى حيث جعلت شرطا للاستعاذة لا تتم دونها وقال : إن كان يرجى إظهارا لمعنى أن وأنها إنما أوثرت دلالة على أن رجاء التقوى كان فضلا عن العلم بها.

والحاصل أن التقوى لم تجعل شرط الاستعاذة بل شرط مكافته وأمنها منه وكنت عن ذلك بالاستعاذة بالله تعالى حثا له على المكافة بألطف وجه وأبلغه وإن من تعرض للمستعيذ به فقد تعرض لعظيم سخطه انتهى.

وقدر الزجاج إن كنت تقيا فتتعظ بتعويذي ، والأولى عليه تتعظ بإسقاط الفاء لأن المضارع الواقع جوابا لا يقترن بالفاء فيحتاج إلى جعله مرفوعا بتقدير مبتدأ ، وقدر بعضهم فاذهب عني وبعضهم فلا تتعرض بي وقيل إنها أرادت إن كنت تقيا متورعا فإني أعوذ منك فكيف إذا لم تكن كذلك وكأنه أراد أنها استعاذت بهذا الشرط ليعلم استعاذتها بما يقابله من باب أولي ، وقال الشهاب : الظاهر أن إن على هذا القول وصلية وفي مجيئها بدون الواو كلام ، وذكر أن الجملة على هذا حالية والمقصود بها الالتجاء إلى الله تعالى من شره لا حثه على الانزجار وقيل نافية ، والجملة استئناف في موضع التعليل أي ما كنت تقيا متورعا بحضورك عندي وانفرادك بي وهو خلاف الظاهر ، وأيّا ما كان فالتقيّ وصف من التقوى ، وقول من قال : إنه اسم رجل صالح أو طالح ليس بسديد.

(قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) المالك لأمرك والناظر في مصلحتك الذي استعذت به ولست ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر. روي عن ابن عباس أنها لما قالت : (إِنِّي أَعُوذُ) إلخ تبسم جبريل عليه‌السلام وقال : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً) أي لأكون سببا في هبته بالنفخ في الدرع ، ويجوز أن يكون حكاية لقوله تعالى بتقدير القول أي ربك الذي قال أرسلت هذا الملك لأهب لك ، ويؤيده قراءة شيبة وأبي الحسن وأبي بحرية والزهري وابن مناذر ويعقوب واليزيدي وأبي عمرو ونافع في رواية ليهب بالياء فإن فاعله ضمير الرب تعالى. وما قيل : من أصل «ليهب» لأهب فقلبت الهمزة ياء لانكسار ما قبلها تعسف من غير داع له.

وفي بعض المصاحف : أمرني أن أهب لك غلاما (زَكِيًّا) طاهرا من الذنوب. وقيل : نبيا. وقيل : ناميا على الخير أي مترقيا من سن إلى سن على الخير والصلاح فالزكا شامل للزيادة المعنوية والحسية. واستدل بعضهم برسالة الملك إليها على نبوتها.

وأجيب : بأن الرسالة لمثل ذلك لا تستدعي النبوة (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي والحال أنه لم يباشرني بالحلال رجل وإنما قيل بشر مبالغة في تنزهها من مبادئ الولادة (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أي ولم أكن زانية ، والجملة عطف على لم يمسسني داخل معه في حكم الحالية مفصح عن كون المساس عبارة عن المباشرة بالحلال وهو كناية عن ذلك كما في قوله تعالى (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) [البقرة : ٢٣٧ ، الأحزاب : ٤٩] و (لامَسْتُمُ النِّساءَ) [النساء : ٤٣ ، المائدة : ٦] ونحوه كما قيل دخلتم بهن وبني عليها.

وأما الزنا فليس بقمن أن يكنى عنه لأن مقامه إما تطهير اللسان فلا كناية ولا تصريح وإما التقريع فحينئذ يستحق الزيادة على التصريح والألفاظ التي يظن أنها كناية فيه قد شاعت حتى صارت حقيقة صريحة فيه ومنها ما في النظم الكريم ، ولا يرد على ذلك ما في سورة آل عمران من قولها (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) مقتصرة عليه فإن غاية ما قيل فيه إنه كناية عن النكاح والزنا على سبيل التغليب ، ولم يجعل كناية عن الزنا وحده ، ولقائل أن يقول : إنه ثم كناية عن النكاح

٣٩٦

فقط كما هنا واستوعبت الأقسام هاهنا لأنه مقام البسط واقتصرت على نفي النكاح ثم لعدم التهمة ولعلمها أنهم ملائكة ينادون لا يتخيلون فيها التهمة بخلاف هذه الحالة فإن جبريل عليه‌السلام كان قد أتاها في صورة شاب أمرد ، ولهذا تعوذت منه ولم يكن قد سكن روعها بالكلية إلى أن قال : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) على أنه قيل : إن في آل عمران من الاكتفاء وترك الاكتفاء في هذه لأنه تقدم نزولها فهي محل التفصيل بخلاف تلك لسبق العلم ، وقيل : المساس هنا كناية عن الأمرين على سبيل التغليب كما في تلك السورة (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) تخصيص بعد التعميم لزيادة الاعتناء بتنزيه ساحتها عن الفحشاء ، ولذا آثرت كان في النفي الثاني فإن في ذلك إيذانا بأن انتفاء الفجور لازم لها.

وكأنها عليها‌السلام من فرط تعجبها وغاية استبعادها لم تلتفت إلى الوصف في قول الملك عليه‌السلام «لأهب لك غلاما زكيا» النافي كل ريبة وتهمة ونبذته وراء ظهرها وأتت بالموصوف وحده وأخذت في تقرير نفيه على أبلغ وجه أي ما أبعد وجود هذا الموصوف مع هذه الموانع بله الوصف ، وهذا قريب من الأسلوب الحكيم.

وبغي فعول عند المبرد وأصله بغوي فلما اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسرت الغين اتباعا ولذا لم تلحقه هاء التأنيث لأن فعولا يستوي فيه المذكر والمؤنث وإن كان بمعنى فاعل كصبور ، واعترضه ابن جني في كتاب التمام بأنه لو كان فعولا لقيل بغو كما قيل نهو عن المنكر ورد بأنه لا يقاس على الشاذ وقد نصوا على شذوذه فهو لمخالفته قاعدة اجتماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون واختار أنه فعيل وهو على ما قال أبو البقاء بمعنى فاعل ، وكان القياس أن تلحقه هاء التأنيث لأنه حينئذ ليس مما يستوي فيه المذكر والمؤنث كفعول ، ووجه عدم اللحوق بأنه للمبالغة التي فيه حمل على فعول فلم تلحقه الهاء ، وقال بعضهم : هو من باب النسب كطالق ومثله يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وقيل ترك تأنيثه لاختصاصه في الاستعمال بالمؤنث ويقال للرجل باغ وقيل فعيل بمعنى مفعول كعين كحيل وعلى هذا معنى بغي يبغيها الرجال للفجور بها ، وعلى القول بأنه بمعنى فاعل فاجرة تبغي الرجال ، وأيّا ما كان فهو للشيوع في الزانية صار حقيقة صريحة فيه فلا يرد أن اعتبار المبالغة فيه لا يناسب المقام لأن نفي الأبلغ لا يستلزم نفي أصل الفعل ، ولا يحتاج إلى الجواب بالتزام أن ذلك من باب النسب أو بأن المراد نفي القيد والمقيد معا أو المبالغة في النفي لا نفي المبالغة (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أطلقوا الكلام في أنه نظير ما تقدم في قصة زكريا عليه‌السلام ، وفي الكشف أنه لا يجري فيه تمام الأوجه التي ذكرها الزمخشري هناك لأن «قال» أولا فيه ضمير الرسول إليها فكذلك إن علق بالثاني يكون المعنى قال الرسول قال ربك كذلك ثم فسره بقوله (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أو المعنى مثل ذلك القول العجيب الذي سمعته ووعدتك قال ربك على إقحام الكاف ثم استأنف هو علي هين ولا بد من إضمار القول لأن المخاطب لها جبريل عليه‌السلام وقوله (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) كلام الحق تعالى شأنه حكاه لها. وإن علق بالأول يكون المعنى الأمر كذلك تصديقا لها أو كما وعدت تحقيقا له ثم استأنف قال ربك هو علي هين لإزالة الاستبعاد أو لتقرير التحقيق. ولا يبعد أن يجعل (قالَ رَبُّكِ) على هذا تفسيرا وكذلك مبهما انتهى. ولا أرى ما نقل عن ابن المنير هناك وجها هنا (وَلِنَجْعَلَهُ) تعليل لمعلل محذوف أي لنجعل وهب الغلام (آيَةً) وبرهانا (لِلنَّاسِ) جميعهم أو المؤمنين على ما روي عن ابن عباس يستدلون به على كمال قدرتنا (وَرَحْمَةً) عظيمة كائنة (مِنَّا) عليهم يهتدون بهدايته ويسترشدون بإرشاده فعلنا ذلك.

وجوز أن يكون معطوفا على علة أخرى مضمرة أي لنبين به عظم قدرتنا ولنجعله آية إلخ. قال في الكشف : إن مثل هذا يطرد فيه الوجهان ويرجح كل واحد بحسب المقام وحذف المعلل هنا أرجح إذ لو فرض علة أخرى لم يكن بد من معلل محذوف أيضا فليس قبل ما يصلح فهو تطويل للمسافة وهذه الجملة ـ أعني العلة معللها ـ معطوفة على

٣٩٧

قوله (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) وفي إيثار الأولى اسمية دالة على لزوم الهون مزيلة للاستبعاد والثانية فعلية دالة على أنه تعالى أنشأه لكونه آية ورحمة خاصة لا لأمر آخر ينافيه مرادا بها التجدد لتجدد الوجود لينتقل من الاستبعاد إلى الاستحماد ما لا يخفى من الفخامة انتهى.

ولا يرد أنه إذا قدر علة لنبين جاز أن يكون ذلك متعلقا بما يدل عليه (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) من غير حذف شيء فلا يصح قوله لم يكن بد من معلل محذوف لظهور ما فيه. وما ذكره من العطف خالف فيه بعضهم فجعل الواو على الأول اعتراضية ، ومن الناس من قال : إن (لِنَجْعَلَهُ) على قراءة «ليهب» عطف عليه على طريق الالتفات من الغيبة إلى التكلم. وجوز أيضا العطف على (لِأَهَبَ) على قراءة أكثر السبعة ، ولا يخفى بعد هذا العطف على القراءتين (وَكانَ) ذلك (أَمْراً مَقْضِيًّا) محكما قد تعلق به قضاؤنا الأزلي أو قدر وسطر في اللوح لا بد لك منه أو كان أمرا حقيقا بمقتضى الحكمة والتفضل أن يفعل لتضمنه حكما بالغة : وهذه الجملة تذييل إما لمجموع الكلام أو للأخير (فَحَمَلَتْهُ) الفاء فصيحة أي فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيبها فدخلت النفخة في جوفها فحملته. وروي هذا عن ابن عباس وقيل : لم يدن عليه‌السلام بل نفخ عن بعد فوصل الريح إليها فحملت. وقيل : إن النفخة كانت في كمها وروي ذلك عن ابن جريج. وقيل كانت في ذيلها ، وقيل كانت في فمها.

واختلفوا في سنها إذ ذاك فقيل ثلاث عشرة سنة ، وعن وهب ومجاهد خمس عشرة سنة ، وقيل : أربع عشرة سنة ، وقيل : اثنتا عشرة سنة ، وقيل : عشر سنين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل ، وحكى محمد بن الهيصم رئيس الهيصمية من الكرامية أنها لم تكن حاضت بعد ، وقيل : إنها عليها‌السلام لم تكن تحيض أصلا بل كانت مطهرة من الحيض. وكذا اختلفوا في مدة حملها ففي رواية عن ابن عباس أنها تسعة أشهر كما في سائر النساء وهو المروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه لأنها لو كانت مخالفة لهن في هذه العادة لناسب ذكرها في أثناء هذه القصة الغريبة. وفي رواية أخرى عنه أنها كانت ساعة واحدة كما حملته نبذته ، واستدل لذلك بالتعقيب الآتي وبأنه سبحانه قال في وصفه (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] فإنه ظاهر في أنه عزوجل قال له كن فيكون فلا يتصور فيه مدة الحمل. وعن عطاء وأبي العالية والضحاك أنها كانت سبعة أشهر ، وقيل : كانت ستة أشهر ، وقيل : حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها ، والمشهور أنها كانت ثمانية أشهر ، قيل : ولم يعش مولود وضع لثمانية غيرهعليه‌السلام.

ونقل النيسابوري عن أهل التنجيم أن ذلك لأن الحمل يعود إلى تربية القمر فتستولي عليه البرودة والرطوبة وهو ظاهر في أن مربي الحمل في أول شهور الحمل القمر وفي الثامن يعود الأمر إليه عند المنجمين وهو مخالف لما في كفاية التعليم عنهم من أن أول الشهور منسوب إلى زحل والثاني إلى المشتري وهكذا إلى السابع وهو منسوب إلى القمر ثم ترجع النسبة إلى زحل ثم إلى المشتري : وفيها أيضا أن جهال المنجمين يقولون إن النطفة في الشهر الأول تقبل البرودة من زحل فتجمد ، وفي الثاني تقبل القوة النامية من المشتري فتأخذ في النمو ، وفي الثالث تقبل القوة الغضبية من المريخ وفي الرابع قوة الحياة من الشمس وفي الخامس قوة الشهوة من الزهرة وفي السادس قوة النطق من عطارد وفي السابع قوة الحركة من القمر فتتم خلقة الجنين فإن ولد في ذلك الوقت عاش وإلا فإن ولد في الثامن لم يعش لقبوله قوة الموت من زحل وإن ولد في التاسع عاش لأنه قبل قوة المشتري ، ومثل تلك الكلمات خرافات وكل امرأة تعرف أن النطفة إذا مضت عليها ثلاثة أشهر تتحرك ، وقد ذكر حكماء الطبيعة أن أقل مدة الولادة ستة أشهر ومدة الحركة ثلث مدة الولادة فيكون أقلها شهرين ومن امتحن الإسقاط يعلم أن الخلقة تتم في أقل من خمسين يوما انتهى. وكلام المتشرعين لا يخفى عليك في هذا الباب.

٣٩٨

وقد يعيش المولود لثمان إلا أنه قليل فليس ذلك من خواصه عليه‌السلام إن صح. ولم يصح عندي شيء من هذه الأقوال المضطربة المتناقضة بيد أني أميل إلى أولها والاستدلال للثاني مما سمعت لا يخلو عن نظر.

(فَانْتَبَذَتْ بِهِ) أي فاعتزلت وهو في بطنها فالباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قوله تعالى (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] وقول المتنبي يصف الخيول :

فمرت غير نافرة عليهم

تدوس بنا الجماجم والرءوسا

والجار والمجرور ظرف مستقر وقع حالا من ضميرها المستتر أي فانتبذت ملتبسة به (مَكاناً قَصِيًّا) بعيدا من أهلها وراء الجبل ، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن نوف أن جبريل عليه‌السلام نفخ في جيبها فحملت حتى إذا أثقلت وجعت ما يجع النساء وكانت في بيت النبوة فاستحيت وهربت حياء من قومها فأخذت نحو المشرق وخرج قومها في طلبها فجعلوا يسألون رأيتم فتاة كذا وكذا فلا يخبرهم أحد فكان ما أخبر الله تعالى به.

وروى الثعلبي في العرائس عن وهب قال : إن مريم لما حملت كان معها ابن عم لها يسمى يوسف النجار وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون وكانا معا يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم أن أحدا من أهل زمانهما أشد اجتهادا وعبادة منهما وأول من علم أمرها يوسف فتحير في ذلك لعلمه بكمال صلاحها وعفتها وأنه لم تغب عنه ساعة فقال لها : قد وقع في نفسي شيء من أمرك لم أستطع كتمانه وقد رأيت الكلام فيه أشفى لصدري فقالت قل قولا جميلا فقال : يا مريم أخبريني هل ينبت زرع بغير بذر وهل تنبت شجرة من غير غيث وهل يكون ولد من غير ذكر : فقالت؟ نعم ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة أتقول : إن الله سبحانه لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى يستعين بالماء؟ قال : لا أقول هذا ولكني أقول إن الله تعالى يقدر على ما يشاء بقول كن فيكون فقالت : ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ فعند ذلك زال ما يجده وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل وضيق القلب فلما دنا نفاسها أوحى الله تعالى إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له فلما بلغت (١) تلك البلاد أدركها النفاس فكان ما قص سبحانه ، وقيل : انتبذت أقصى الدار وهو الأنسب بقصر مدة الحمل (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) أي الجأها كما قال الزمخشري وجماعة ، وفي الصحاح أجأته إلى كذا بمعنى ألجأته واضطررته إليه قال زهير بن أبي سلمى :

وجار سار معتمدا عليكم

أجاءته المخافة والرجاء

قال الفراء : أصله من جئت وقد جعلته العرب الجاء ، وفي المثل شر ما يجيئك إلى مخة عرقوب انتهى ، واختار أبو حيان أن المعنى جاء بها واعترض على الزمخشري وأطال الكلام بما لا يخفى رده و (الْمَخاضُ) بفتح الميم كما في قراءة الأكثرين وبكسرها كما في رواية عن ابن كثير مصدر مخضت المرأة بفتح الخاء وكسرها إذا أخذها الطلق وتحرك الولد في بطنها للخروج ، وقرأ الأعمش وطلحة «فاجاءها» بإمالة فتحة الجيم ، وقرأ حماد بن سلمة عن عاصم (فَأَجاءَهَا) من المفاجأة وروي ذلك عن مجاهد ونقله ابن عطية عن شبيل بن عزرة أيضا ، وقال صاحب اللوامح : إن قراءته تحتمل أن تكون الهمزة فيها قد قلبت ألفا ويحتمل أن تكون بين بين غير مقلوبة.

(إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) لتستند إليه عند الولادة كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي أو لذلك

__________________

(١) قوله قال كاف هاد إلخ كذا بخطه ولم يذكر اسما أوله الياء وانظره اه منه :

٣٩٩

ولتستر به كما قيل ، والجذع ما بين العرق ومتشعب الأغصان من الشجرة ، وقد يقال للغصن أيضا : جذع ، والنخلة معروفة. والتعريف إما للجنس فالمراد واحدة من النخل لا على التعيين أو للعهد فالمراد نخلة معينة ويكفي لتعينها تعينها في نفسها وإن لم يعلمها المخاطب بالقرآن عليه الصلاة والسّلام كما إذا قلت أكل السلطان ما أتى به الطباخ أي طباخه فإنه المعهود ، وقد يقال : إنها معينة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يكون الله تعالى أراها له عليه الصلاة والسّلام ليلة المعراج ، وزعم بعضهم أنها موجودة إلى اليوم ، والظاهر أنها كانت موجودة قبل مجيء مريم إليها وهو الذي تدل عليه الآثار ، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها عليها‌السلام لما اشتد عليها الطلق نظرت إلى أكمة فصعدت مسرعة فإذا عليها جذع نخلة نخرة ليس عليها سعف.

وقيل : إن الله تعالى خلقها لها يومئذ وليس بذاك ؛ وكان الوقت شتاء ، ولعل الله تعالى أرشدها إليها ليريها فيما هو أشبه الأشجار بالإنسان من آياته ما يسكن روعتها كأثمارها بدون رأس وفي وقت الشتاء الذي لم يعهد ذلك فيه ومن غير لقاح كما هو المعتاد ، وفي ذلك إشارة أيضا إلى أن أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وإلى أن ولدها نافع كالثمرة الحلواء وأنه عليه‌السلام سيحيي الأموات كما أحيا الله تعالى بسببه الموات مع ما في ذلك من اللطف بجعل ثمرتها خرسة لها ، والجار والمجرور متعلق بأجاءها ، وعلى القراءة الأخرى متعلق بمحذوف وقع حالا أي مستندة إلى جذع النخلة (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُ) بكسر الميم من مات يمات كخاف يخاف أو من مات يميت كجاء يجيء.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر ويعقوب بضمها من مات يموت كقال يقول :

(قَبْلَ هذا) الوقت الذي لقيت فيه ما لقيت أو قبل هذا الأمر. وإنما قالته عليها‌السلام مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل عليه‌السلام من الوعد الكريم استحياء من الناس وخوفا من لائمتهم أو حذرا من وقوع الناس في المعصية بما يتكلمون فيها. وروي أنها سمعت نداء أخرج يا من يعبد من دون الله تعالى فحزنت لذلك وتمنت الموت ، وتمني الموت لنحو ذلك مما لا كراهة فيه. نعم يكره تمنيه لضرر نزل به من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا. ففي صحيح مسلم وغيره قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل فإن كان لا بد متمنيا فليقل اللهم احيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي» ومن ظن أن تمنيها عليها‌السلام ذلك كان لشدة الوجع فقد أساء الظن والعياذ بالله تعالى.

(وَكُنْتُ نَسْياً) أي شيئا تافها شأنه أن ينسى ولا يعتد به أصلا كخرقة الطمث.

وقرأ الأكثرون «نسيا» بالكسر. قال الفراء : هما لغتان في ذلك كالوتر والوتر والفتح أحب إلي.

وقال الفارسي : الكسر أعلى اللغتين ، وقال ابن الأنباري : هو بالكسر اسم لما ينسى كالنقض اسم لما ينقض وبالفتح مصدر نائب عن الاسم ، وقرأ محمد بن كعب القرظي «نسئا» بكسر النون والهمزة مكان الياء وهي قراءة نوف الأعرابي ، وقرأ بكر بن حبيب السهمي ومحمد بن كعب أيضا في رواية «نسأ» بفتح النون والهمزة على أن ذلك من نسأت اللبن إذا صببت عليه ماء فاستهلك اللبن فيه لقلته فكأنها تمنت أن تكون مثل ذلك اللبن الذي لا يرى ولا يتميز من الماء ، ونقل ابن عطية عن بكر بن حبيب أنه قرأ «نسا» بفتح النون والسين من غير همز كعصى (مَنْسِيًّا) لا يخطر ببال أحد من الناس ووصف النسي بذلك لما أنه حقيقة عرفية فيما يقل الاعتداد به وإن لم ينس ، وقرأ الأعمش وأبو جعفر في رواية بكسر الميم اتباعا لحركة السين كما قالوا : منتن باتباع حركة الميم لحركة التاء (فَناداها) أي جبريل عليه‌السلام كما روي عن ابن عباس ونوف.

وقرأ علقمة فخاطبها قال أبو حيان : وينبغي أن تكون تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف ، وقرأ الحبر «فناداها

٤٠٠