روح المعاني - ج ٨

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٨

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٨

ملك» (مِنْ تَحْتِها) وينبغي أن يكون المراد به جبريل عليه‌السلام ليوافق ما روي عنه أولا. ومعنى (مِنْ تَحْتِها) من مكان أسفل منها وكان واقفا تحت الأكمة التي صعدتها مسرعة كما سمعت آنفا ، ونقل في البحر عن الحسن أنه قال : ناداها جبريل عليه‌السلام وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها وأقسم على ذلك. ولعله إنما كان موقفه عليه‌السلام هناك إجلالا لها وتحاشيا من حضوره بين يديها في تلك الحال. والقول بأنه عليه‌السلام كان تحتها يقبل الولد مما لا ينبغي أن يقال لما فيه من نسبة ما لا يليق بشأن أمين وحي الملك المتعال ، وقيل : ضمير (تَحْتِها) للنخلة ، واستظهر أبو حيان كون المنادى عيسى عليه‌السلام والضمير لمريم والفاء فصيحة أي فولدت غلاما فأنطقه الله تعالى حين الولادة فناداها المولود من تحتها.

وروي ذلك عن مجاهد ووهب وابن جبير وابن جرير وابن زيد والجبائي ونقله الطبرسي عن الحسن أيضا ، وقرأ الابنان والأبوان وعاصم والجحدري وابن عباس والحسن في رواية عنهما (مِنْ) بفتح الميم بمعنى الذي فاعل نادى و (تَحْتِها) ظرف منصوب صلة لمن والمراد به إما عيسى أو جبريل عليهما الصلاة والسّلام (أَلَّا تَحْزَنِي) أي أي لا تحزني على أن أن مفسرة أو بأن لا تحزني على أنها مصدرية قد حذف عنها الجار (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ) بمكان أسفل منك ، وقيل : تحت أمرك إن أمرت بالجري جرى وإن أمرت بالإمساك أمسك وهو خلاف الظاهر (سَرِيًّا) أي جدولا كما أخرجه الحاكم في مستدركه عن البراء وقال : إن صحيح على شرط الشيخين وذكره البخاري تعليقا موقوفا عليه وأسنده عبد الرزاق وابن جرير ابن مردويه في تفاسيرهم عنه موقوفا عليه أيضا ولم يصح الرفع كما أوضحه الجلال السيوطي وعلى ذلك جاء قول لبيد يصف عيرا وأتانا :

فتوسطا عرض السريّ فصدعا

مسجروة متجاوزا قلامها

وأنشد ابن عباس قول الشاعر :

سهل الخليقة ماجد ذو نائل

مثل السريّ تمده الأنهار

وكان ذلك على ما روي عن ابن عباس جدولا من الأردن أجراه الله تعالى منه لما أصابها العطش. وروي أن جبريل عليه‌السلام ضرب برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب فجرى جدولا ، وقيل : فعل ذلك عيسى عليه‌السلام وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ، وقيل : كان ذلك موجودا من قبل إلا أن الله تعالى نبهها عليه ، وما تقدم هو الموافق لمقام بيان ظهور الخوارق والمتبادر من النظم الكريم ، وسمي الجدول سريا لأن الماء يسري فيه فلامه على هذا المعنى ياء ، وعن الحسن وابن زيد والجبائي أن المراد بالسري عيسى عليه‌السلام وهو من السر وبمعنى الرفعة كما قال الراغب أي جعل ربك تحتك غلاما رفيع الشأن سامي القدر ، وفي الصحاح هو سخاء في مروءة وإرادة الرفعة أرفع قدرا ولامه على هذا المعنى واو. والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهي عنه. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية.

(وَهُزِّي إِلَيْكِ) أي إلى جهتك ، والهز تحريك يمينا وشمالا سواء كان بعنف أولا أو تحريك بجذب ودفع وهو مضمن معنى الميل فلذا عدي بإلى أو أنه مجاز عنه أو اعتبر في تعديته ذلك لأنه جزء معناه كذا قيل.

ومنع أبو حيان تعلقه بهزي وعلل ذلك بأنه قد تقرر في النحو أن الفعل لا يعدى إلى الضمير المتصل وقد رفع الضمير المتصل وليس من باب ظن ولا فقد ولا عدم وهما لمدلول واحد فلا يقال : ضربتك وزيد ضربه على معنى ضربت نفسك وضرب نفسه. والضمير المجرور عندهم كالضمير المنصوب فلا يقال : نظرت إليك وزيد نظر على معنى نظرت إلى نفسك ونظر إلى نفسه ، ومن هنا جعلوا على في قوله :

٤٠١

هون عليك فإن الأمور

بكف الإله مقاديرها

اسما كما في قوله :

غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها

وجعل الجار والمجرور هنا متعلقا بمحذوف أي أعني إليك ما قالوا في سقيا لك ونحوه مما جيء به للتبيين.

وأنت تعلم أنهم قالوا بمجيء إلى للتبيين لكن قال ابن مالك. وكذا صاحب القاموس : إنها المبينة لفاعلية مجرورها بعد ما يفيد حبا أو بغضا من فعل تعجب أو اسم تفضيل وما هنا ليس كذلك. وقال في الإتقان : حكى ابن عصفور في شرح أبيات الإيضاح عن ابن الأنباري أن إلى تستعمل اسما فيقال : انصرفت من إليك كما يقال غدوت من عليه وخرج عليه من القرآن (وَهُزِّي إِلَيْكِ) وبه يندفع إشكال أبي حيان فيه انتهى.

وكان عليه أن يبين ما معناها على القول بالاسمية ، ولعلها حينئذ بمعنى عند فقد صرح بمجيئها بهذا المعنى في القاموس وأنشد :

أم لا سبيل إلى الشباب وذكره

أشهى إلي من الرحيق السلسل

لكن لا يحلو هذا المعنى في الآية ، ومثله ما قيل إنها في ذلك اسم فعل ، ثم إن حكاية استعمالها اسما إذا صحت تقدح في قول أبي حيان : لا يمكن أن يدعى أن إلى نكون اسما لإجماع النحاة على حرفيتها. ولعله أراد إجماع من يعتد به منهم في نظره. والذي أميل إليه في دفع الإشكال أن الفعل مضمن معنى الميل والجار والمجرور متعلق به لا بالفعل الرافع للضمير وهو مغزى بعيد لا ينبغي أن يسارع إليه بالاعتراض على أن في القلب من عدم صحة نحو هذا التركيب للقاعدة المذكورة شيئا لكثرة مجيء ذلك في كلامهم. ومنه قوله تعالى : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) [الأحزاب : ٣٧] والبيت المار آنفا. وقول الشاعر :

دع عنك نهبا صيح في حجراته

ولكن حديثا ما حديث الرواحل

وقولهم : اذهب إليك وسر عنك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع. وتأويل جميع ما جاء لا يخلو عن تكلف فتأمل وأنصف ، ثم الفعل هنا منزل منزلة اللازم كما في قول ذي الرمة :

فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها

إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي

فلذا عدي بالباء أي افعلي الهز (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) فالباء للآلة كما في كتبت بالقلم. وقيل هو متعد والمفعول محذوف والكلام على تقدير مضاف أي هزي الثمرة بهز جذع النخلة ولا يخفى ما فيه من التكلف وأن هز الثمرة لا يخلو من ركاكة ، وعن المبرد أن مفعوله (رُطَباً) الآتي والكلام من باب التنازع. وتعقب بأن الهز على الرطب لا يقع إلا تبعا فجعله أصلا وجعل الأصل تبعا حيث أدخل عليه الباء للاستعانة غير ملائم مع ما فيه من الفصل بجواب الأمر بينه وبين مفعوله ويكون فيه أعمال الأول وهو ضعيف لا سيما في هذا المقام.

وما ذكر من التعكيس وارد على ما فيه التكلف وهو ظاهر ، وما قيل من أن الهز وإن وقع بالأصالة على الجذع لكن المقصود منه الثمرة فلهذه النكتة المناسبة جعلت أصلا لأن هز الثمرة ثمرة الهز لا يدفع الركاكة التي ذكرناها مع أن المفيد لذلك ما يذكر في جواب الأمر. وجعل بعضهم (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) في موضع الحال على تقدير جعل المفعول (رُطَباً) أو الثمرة أي كائنة أو كائنا بجذع النخلة وفيه ثمرة ما لا تسمن ولا تغني ، وقيل الباء مزيدة للتأكيد مثلها في قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] وقول الشاعر :

٤٠٢

هن الحرائر لا ربات أخمرة

سود المحاجر لا يقرأن بالسور

والوجه الصحيح الملائم لما عليه التنزيل من غرابة النظم كما في الكشف هو الأول ، وقول الفراء : إنه يقال هزه وهز به إن أراد أنهما بمعنى كما هو الظاهر لا يلتفت إليه كما نص عليه بعض من يعول عليه (تُساقِطْ) من ساقطت بمعنى أسقطت ، والضمير المؤنث للنخلة ورجوع للمضاف إليه شائع ، ومن أنكره فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا.

وجوز أبو حيان حيان أن يكون الضمير للجذع لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه كما في قوله تعالى : «تلتقطه بعض السيارة» (١) في قراءة من قرأ بالتاء الفوقية ، وقول الشاعر : كما شرقت صدر القناة من الدم. وتعقب بأنه خلاف الظاهر وإن صح. وقرأ مسروق وأبو حيوة في رواية «تسقط» بالتاء من فوق مضمومة وكسر القاف وفي رواية أخرى عن أبي حيوة أنه قرأ كذلك إلا أنه بالياء من تحت. وقوله تعالى (عَلَيْكِ رُطَباً) في جميع ذلك نصب على المفعولية وهو نضيج البسر واحدته بهاء وجمع شاذا على أرطاب كربع (٢) وأرباع ، وعن أبي حيوة أيضا أنه قرأ «تسقط» بالتاء من فوق مفتوحة وضم القاف ، وعنه أيضا كذلك إلا أنه بالياء من تحت فنصب (رُطَباً) على التمييز ، وروي عنه أنه رفعه في القراءة الأخيرة على الفاعلية.

وقرأ أبو السمال «تتساقط» بتاءين. وقرأ البراء بن عازب «يساقط» بالياء من تحت مضارع أساقط وقرأ الجمهور «تساقط» بفتح التاء من فوق وشد السين بعدها ألف وفتح القاف ، والنصب على هذه الثلاثة على التمييز أيضا.

وجوز في بعض القراءات أن يكون على الحالية الموطئة وإذا أضمر ضمير مذكر على إحدى القراءات فهو للجذع ، وإذا أضمر ضمير مؤنث فهو للنخلة أوله ما سمعت (جَنِيًّا) أي مجنيا ففعيل بمعنى مفعول أي صالحا للاجتناء. وفي القاموس ثمر جني جني من ساعته. وعليه قيل المعنى رطبا يقول من يراه هو جني وهو صفة مدح فإن ما يجني أحسن مما يسقط بالهز وما قرب عهده أحسن مما بعد عهده ، وقيل فعيل بمعنى فاعل أي رطبا طريا ، وكان المراد على ما قيل إنه تم نضجه.

وقرأ طلحة بن سليمان «جنيا» بكسر الجيم للاتباع. ووجه التذكير ظاهر. وعن ابن السيد أنه قال في شرح أدب الكاتب. كان يجب أن يقال جنية إلا أنه أخرج بعض الكلام على التذكير وبعضه على التأنيث ، وفيه نظر ، روي عن ابن عباس أنه لم يكن للنخلة إلا الجذع ولم يكن لها رأس فلما هزته إذ السعف قد طلع ثم نظرت إلى الطلع يخرج من بين السعف ثم اخضر فصار بلحا ثم احمر فصار زهوا ثم رطبا كل ذلك في طرفة عين فجعل الرطب يقع بين يديها وكان برنيا ، وقيل عجوة وهو المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه.

والظاهر أنها لم تحمل سوى الرطب ، وقيل كان معه موز ، وروي ذلك عن أبي روق وإنما اقتصر عليه لغاية نفعه للنفساء ، فعن الباقر رضي الله تعالى عنه لم تستشف النفساء بمثل الرطب إن الله أطعمه مريم في نفاسها وقالوا : ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل ، وقيل : المرأة إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب ، وذكر أن التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذا التحنيك وفي أمرها بالهز إشارة إلى أن السعي في تحصيل الرزق في الجملة مطلوب وهو لا ينافي التوكل وما أحسن ما قيل :

ألم تر أن الله أوحى لمريم

وهزي إليك الجذع يساقط الرطب

__________________

(١) قيل إنها نفست بكورة أجناس من أعمال مصر اه منه.

(٢) سورة : يوسف ، الآية : ١٠.

٤٠٣

ولو شاء أحنى الجذع من غير هزة

إليها ولكن كل شيء له سبب

(فَكُلِي) من ذلك الرطب (وَاشْرَبِي) من ذلك السري. وقيل : من عصير الرطب وكان في غاية الطراوة فلا يتم الاستدلال بذكر الشرب على تعين تفسير السري بالجدول وما ألطف ما أرشد إليه النظم الكريم من إحضار الماء أولا والطعام ثانيا ثم الأكل ثالثا والشرب رابعا فإن الاهتمام بالماء أشد من الاهتمام بالأكل لا سيما ممن يريد أن يأكل ما يحوج إلى الماء كالأشياء الحلوة الحارة ، والعادة قاضية بأن الأكل بعد الشرب ولذا قدم الأكل على الشرب حيث وقع ، وقيل : قدم الماء لأنه أصل في النفع ونفعه عام للتنظيف ونحوه ، وقد كان جاريا وهو أظهر في إزالة الحزن وأخر الشرب للعادة. وقيل قدم الأكل ليجاور ما يشاكله وهو الرطب. والأمر قيل يحتمل الوجوب والندب. وذلك باعتبار حالها ، وقيل هو للإباحة (وَقَرِّي عَيْناً) وطيبي نفسا وارفضي عنها ما أحزنك. وقرئ بكسر القاف وهي لغة نجدوهم يفتحون عين الماضي ويكسرون عين المضارع وغيرهم يكسرهما وذلك من القر بمعنى السكون فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره ويشهد له قوله تعالى : (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) [الأحزاب : ١٩] من الحزن أو بمعنى البرد فإن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. ويشهد له قوله قرة العين وسخنتها للمحبوب والمكروه. وتسليتها عليها‌السلام بما تضمنته الآية من إجراء الماء وإخراج الرطب من حيث إنهما أمران خارقان للعادة فكأنه قيل لا تحزني فإن الله تعالى قدير ينزه ساحتك عما يختلج في صدور المتقيدين بالأحكام العادية بأن يرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك بما أظهر لهم من البسائط العنصرية والمركبات النباتية ما يخرق العادات التكوينية ، وفرع على التسلية الأمر بالأكل والشرب لأن الحزين قد لا يتفرغ لمثل ذلك وأكد ذلك بالأمر الأخير. ومن فسر السري برفيع الشأن سامي القدر جعل التسلية بإخراج الرطب كما سمعت وبالسري من حيث إن رفعة الشأن مما يتبعها تنزيه ساحتها فكأنه قيل لا تحزني فإن الله سبحانه قد أظهر لك ما ينزه ساحتك قالا وحالا.

وقد يؤيد هذا في الجملة بما روي عن ابن زيد قال : قال عيسى عليه‌السلام لها لا تحزني فقالت : كيف لا أحزن وأنت معي ولست ذات زوج ولا مملوكة فأي شيء عذري عند الناس ليتني مت قبل هذا فقال لها عليه‌السلام : أنا أكفيك الكلام (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) أي آدميا كائنا من كان. وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه ابن الرومي «ترئن» بالإبدال من الياء همزة. وزعم ابن خالويه أن هذا لحن عند أكثر النحويين.

وقال الزمخشري : إنه من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمزة وحروف اللين في الإبدال. وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة «ترين» بسكون الياء وفتح النون خفيفة. قال ابن جني : هي شاذة وكان القياس حذف النون للجازم كما في قول الأفوه الأودي :

أما ترى رأسي أزرى به

مأس زمان ذي انتكاس مئوس

(فَقُولِي) له إن استنطقك (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنه «صياما» والمعنى واحد أي صمتا كما في مصحف عبد الله وقرأ به أنس بن مالك فالمراد بالصوم الإمساك وإطلاقه على ما ذكر باعتبار أنه بعض أفراده كإطلاق الإنسان على زيد وهو حقيقة ، وقيل إطلاقه عليه مجاز والقرينة التفريع الآتي وهو ظاهر على ذلك. وقال بعضهم : المراد به الصوم عن المفطرات المعلومة وعن الكلام وكانوا لا يتكلمون في صيامهم وكان قربة في دينهم فيصح نذره. وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه فهو منسوخ في شرعه كما ذكره الجصاص في كتاب الأحكام. وروي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم فقال : إن الإسلام هدم هذا فتكلمي.

وفي شرح البخاري لابن حجر عن ابن قدامة أنه ليس من شريعة الإسلام. وظاهر الأخبار تحريمه فإن نذره لا

٤٠٤

يلزمه الوفاء به ولا خلاف فيه بين الشافعية والحنفية لما فيه من التضييق وليس في شرعنا وإن كان قربة في شرع من قبلنا. فتردد القفال في الجواز وعدمه ناشئ من قلة الاطلاع ، وفي بعض الآثار ما يدل ظاهره على أن نذر الصمت كان من مريم عليها‌السلام خاصة. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن حارثة بن مضرب قال : كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا فقال القوم ما لصاحبك لم يسلم؟ قال : إنه نذر صوما لا يكلم اليوم إنسيا فقال له ابن مسعود : بئس ما قلت إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذرا لها إذا سئلت وكانوا ينكرون أن يكون ولد من غير زوج إلا زنا فكلم وأمر بالمعروف وإنه عن المنكر فإنه خير لك. والظاهر على المعنى الأخير للصوم أنه باعتبار الصمت فيه فرع قوله تعالى : (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) أي بعد أن أخبرتكم بنذري فتكون قد نذرت إن لا تكلم إنسيا بغير هذا الإخبار فلا يكون مبطلا له لأنه ليس بمنذور ويحتمل أن هذا تفسير للنذر بذكر صيغته. وقالت فرقة : أمرت أن تخبر بنذرها بالإشارة قيل : وهو الأظهر. قال الفراء : العرب تسمي كل ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. ويفهم من قوله تعالى : (إِنْسِيًّا) دون أحدا أن المراد فلن أكلم اليوم إنسيا وإنما أكلم الملك وأناجي ربي. وإنما أمرت عليها‌السلام بذلك على ما قاله غير واحد لكراهة مجادلة السفهاء والاكتفاء بكلام عيسى عليه‌السلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن.

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما

٤٠٥

يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)(٥٠)

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) أي جاءتهم مع ولدها حاملة إياه على أن الباء للمصاحبة ولو جعلت للتعدية صح أيضا. والجملة في موضع الحال من ضمير مريم أو من ضمير ولدها. وكان هذا المجيء على ما أخرج سعيد بن منصور وابن عساكر عن ابن عباس بعد أربعين يوما حين طهرت من نفاسها قيل : إنها حنت إلى الوطن وعلمت أن ستكفي أمرها فأتت به فلما دخلت عليهم تباكوا ؛ وقيل : هموا برجمها حتى تكلم عيسى عليه‌السلام. وجاء في رواية عن الحبر أنها لما انتبذت من أهلها وراء الجبل فقدوها من محرابها فسألوا يوسف عنها فقال : لا علم لي بها وإن مفتاح باب محرابها عند زكريا فطلبوا زكريا وفتحوا الباب فلم يجدوها فاتهموه فأخذوه ووبخوه فقال رجل : إني رأيتها في موضع كذا فخرجوا في طلبها فسمعوا صوت عقعق في رأس الجذع الذي هي من تحته فانطلقوا إليه فلما رأتهم قد أقبلوا إليها احتملت الولد إليهم حتى تلقتهم به ثم كان ما كان. فظاهر الآية والأخبار أنها جاءتهم به من غير طلب منهم ، وقيل : أرسلوا إليها لتحضري إلينا بولدك وكان الشيطان قد أخبرهم بولادتها فحضرت إليهم به فلما رأوهما (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ) فعلت (شَيْئاً فَرِيًّا) قال قتادة : عظيما ، وقيل : عجيبا. وأصله من فرى الجلد قطعه على وجه الإصلاح أو الإفساد ، وقيل : من أفراه كذلك. واختير الأول لأن فعيلا إنما يصاغ قياسا من الثلاثي. وعدم التفرقة بينه وبين المزيد في المعنى هو الذي ذهب إليه صاحب القاموس.

وفي الصحاح عن الكسائي أن الفري القطع على وجه الإصلاح والإفراء على وجه الإفساد. وعن الراغب مثل ذلك. وقيل الإفراء عام. وأيّا ما كان فقد استعير الفري لما ذكر في تفسيره. وفي البحر أنه يستعمل في العظيم من الأمر شرا أو خيرا قولا أو فعلا. ومنه في وصف عمر رضي الله تعالى عنه فلم أر عبقريا يفري فريه ، وفي المثل جاء يفري الفري. ونصب (شَيْئاً) على أنه مفعول به. وقيل على أنه مفعول مطلق أي لقد جئت مجيئا عجيبا ، وعبر عنه بالشيء تحقيقا للاستغراب.

وقرأ أبو حيوة فيما نقل ابن عطية «فريا» بسكون الراء وفيما نقل ابن خالويه «فرأ» بالهمزة (يا أُخْتَ هارُونَ) استئناف لتجديد التعيير وتأكيد التوبيخ. وليس المراد بهارون أخا موسى بن عمران عليهما‌السلام لما أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي والطبراني وابن حبان وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهل نجران فقالوا : أرأيت ما تقرءون (يا أُخْتَ هارُونَ) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا (١) قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسّلام فقال : «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمعون بالأنبياء والصالحين قبلهم» بل هو على ما روي عن الكلبي أخ لها من أبيها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال : هو رجل صالح في بني إسرائيل. وروي عنه أنه قال ذكر لنا أنه تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا من بني إسرائيل كلهم يسمى هارون. والأخت على هذا بمعنى المشابهة وشبهوها به تهكما أو لما رأوا قبل من صلاحها ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه رجل طالح فشبهوها به شتما لها. وقيل : المراد ، هارون أخو موسى عليهما‌السلام ، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم أيضا عن السدي. وعلي بن أبي طلحة : وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة فوصفها بالأخوة لكونها وصف أصلها. وجوز

__________________

(١) هو أول النتاج اه منه.

٤٠٦

أن يكون هارون مطلقا على نسله كهاشم وتميم ، والمراد بالأخت أنها واحدة منهم كما يقال أخا العرب وهو المروي عن السدي.

(ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) تقرير لكون ما جاءت به فريا أو تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش وفيه دليل على أن الفروع غالبا تكون زاكية إذا زكت الأصول وينكر عليها إذا جاءت بضد ذلك. وقرأ عمر بن بجا التيمي الشاعر الذي كان يهاجي جريرا : ما كان أباك امرؤ سوء. بجعل الخبر المعرفة والاسم النكرة. وحسن ذلك قليلا وجود مسوغ الابتداء فيها وهو الإضافة.

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) أي إلى عيسى عليه‌السلام أن كلموه. قال شيخ الإسلام : والظاهر أنها بينت حينئذ نذرها وأنها بمعزل من محاورة الإنس حسبما أمرت ففيه دلالة على أن المأمور به بيان نذرها بالإشارة لا بالعبارة والجمع بينهما مما لا عهد به (قالُوا) منكرين لجوابها ، وفي بعض الآثار أنها لما أشارت إليه أن كلموه قالوا : استخفافها بنا أشد من زناها وحاشاها ثم قالوا : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) قال قتادة : المهد حجر أمه ، وقال عكرمة : المرباة أي المرجحة ، وقيل : سريره. وقيل : المكان الذي يستقر عليه. واستشكلت الآية بأن كل من يكلمه الناس كان في المهد صبيا قبل زمان تكليمه فلا يكون محلا للتعجب والإنكار.

وأجاب الزمخشري عن ذلك بوجهين ، الأول أن كان الإيقاع مضمون لجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده وهو هاهنا لقريبه خاصة والدال عليه أن الكلام مسوق للتعجب فيكون المعنى كيف نكلم من كان بالأمس وقريبا منه. من هذا الوقت في المهد وغرضهم من ذلك استمرار حال الصبي به لم يبرح بعد عنه ولو قيل : من هو في المهد لم يكن فيه تلك الوكادة من حيث السابق كالشاهد على ذلك ، ومن على هذا موصولة يراد بها عيسى عليه‌السلام. الثاني أن يكون (نُكَلِّمُ) حكاية حال ماضية ومن موصوفة ، والمعنى كيف نكلم الموصوفين بأنهم في المهد أي ما كلمناهم إلى الآن حتى نكلم هذا ، وفي العدول عن الماضي إلى الحال إفادة التصوير والاستمرار. وهذا كما في الكشف وجه حسن ملائم.

وقال أبو عبيدة : كان زائدة لمجرد التأكيد من غير دلالة على الزمان و (صَبِيًّا) حال مؤكدة والعامل فيها الاستقرار ، فقول ابن الأنباري إن كان نصبت هنا الخبر والزائدة لا تنصبه ليس بشيء ، والمعنى كيف نكلم من هو في المهد الآن حال كونه صبيا ، وعلى قول من قال : إن كان الزائدة لا تدل على حدث لكنها تدل على زمان ماض مقيد به ما زيدت فيه كالسيرافي لا يندفع الإشكال بالقول بزيادتها.

وقال الزجاج : الأجود أن تكون من شرطية لا موصولة ولا موصوفة أي من كان في المهد فكيف نكلمه وهذا كما يقال كيف أعظ من لا يعمل بموعظتي والماضي بمعنى المستقبل في باب الجزاء فلا إشكال في ذلك ، ولا يخفى بعده (قالَ) استئناف مبني على سؤال نشأ من سياق النظم الكريم كأنه قيل فما ذا كان بعد ذلك؟ فقيل : قال عيسى عليه‌السلام (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) روي أنه عليه‌السلام كان يرضع فلما سمع ما قالوا ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته فقال ما قال ، وقيل إن زكريا عليه‌السلام أقبل عليه يستنطقه فقال ذلك وذكر عبوديته لله تعالى أولا لأن الاعتراف بذلك على ما قيل أول مقامات السالكين. وفيه رد على من يزعم ربوبيته ، وفي جميع ما قال تنبيه على براءة أمه لدلالته على الاصطفاء والله سبحانه أجل من أن يصطفي ولد الزنا وذلك من المسلمات عندهم ، وفيه من إجلال أمه عليهما‌السلام ما ليس في التصريح ، وقيل لأنه تعالى لا يخص بولد موصوف بما ذكر إلا مبرأة مصطفاة.

٤٠٧

واختلف في أنه بعد أن تكلم بما ذكر هل بقي يتكلم كعادة الرجال أو لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان وعده عليه‌السلام في عداد الذين تكلموا في المهد ثم لم يتكلموا إلى وقت العادة ظاهر في الثاني (آتانِيَ الْكِتابَ) الظاهر أنه الإنجيل. وقيل التوراة. وقيل مجموعهما (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) وجعلني مع ذلك (مُبارَكاً) قال مجاهد نفاعا ومن نفعه إبراء الأكمه والأبرص. وقال سفيان : معلم الخير آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر وعن الضحاك قاضيا للحوائج ، والأول أولى لعمومه ، والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة أما باعتبار ما في القضاء المحتوم أو بجعل ما في شرف الوقوع لا محالة كالذي وقع. وقيل أكمله الله تعالى عقلا واستنبأه طفلا وروي ذلك عن الحسن.

وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس أن عيسى عليه‌السلام درس الإنجيل وأحكمه في بطن أمه وذلك قوله (آتانِيَ الْكِتابَ أَيْنَ ما كُنْتُ) أي حيثما كنت وفي البحر أن هذا شرط وجزاؤه محذوف تقديره جعلني مباركا وحذف لدلالة ما تقدم عليه ، ولا يجوز أن يكون معمولا لجعلني السابق لأن ـ أين ـ لا تكون إلا استفهاما أو شرطا والأول لا يجوز هنا فتعين الثاني واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله وإنما هو معمول للفعل الذي يليه.

(وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) أي أمرني بهما أمرا مؤكدا والظاهر أن المراد بهما ما شرع في البدن والمال على وجه مخصوص. وقيل المراد بالزكاة زكاة الفطر. وقيل المراد بالصلاة الدعاء وبالزكاة تطهير النفس عن الرذائل ، ويتعين هذا في الزكاة على ما نقل عن ابن عطاء الله وإن كان منظورا فيه من أنه لا زكاة على الأنبياء عليهم‌السلام لأن الله تعالى نزههم عن الدنيا فما في أيديهم لله تعالى ولذا لا يورثون أو لأن الزكاة تطهير وكسبهم طاهر ، وقيل لا يتعين لأن ذلك أمر له بايجاب الزكاة على أمته وهو خلاف الظاهر ، وإذا قيل بحمل الزكاة على الظاهر فالظاهر أن المراد (أَوْصانِي) بأداء زكاة المال إن ملكته فلا مانع من أن يشمل التوقيت بقوله سبحانه (ما دُمْتُ حَيًّا) مدة كونه عليه‌السلام في السماء ، ويلتزم القول بوجوب الصلاة عليه عليه الصلاة والسّلام هناك كذا قيل.

وأنت تعلم أن الظاهر المتبادر من المدة المذكورة مدة كونه عليه الصلاة والسّلام حيا في الدنيا على ما هو المتعارف وذلك لا يشمل مدة كونه عليه‌السلام في السماء ، ونقل ابن عطية أن أهل المدينة. وابن كثير. وأبا عمرو قرءوا «دمت» بكسر الدال ولم نجد ذلك لغيره نعم قيل إن ذلك لغة (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) عطف على «مباركا» على ما قال الحوفي وأبو البقاء ، وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدا للفصل وبالجملة ومتعلقها اختار إضمار فعل أي وجعلني بارا بها ، قيل هذا كالصريح في أنه عليه‌السلام لا والد له فهو أظهر الجمل في الإشارة إلى براءتها عليها‌السلام. وقرئ «برا» بكسر الباء ووجه نصبه نحو ما مر في القراءة المتواترة ، وجعل ذاته عليه‌السلام برا من باب فإنما هي إقبال وإدبار ، وجوز أن يكون النصب بفعل في معنى (أَوْصانِي) أي وألزمني أو وكلفني برا فهو من باب علفتها تبنا وماء باردا وأقرب منه على ما في الكشف لأنه مثل زيدا مررت به في التناسب وإن لم يكن من بابه.

وجوز أن يكون معطوفا على محل (بِالصَّلاةِ) كما قيل في قراءة (أَرْجُلَكُمْ) [المائدة : ٦] بالنصب ، وقيل إن أوصى قد يتعدى للمفعول الثاني بنفسه كما وقع في البخاري أوصيناك دينا واحدا ، والظاهر أن الفعل في مثل ذلك مضمن معنى ما يتعدى بنفسه ، وحكى الزهراوي. وأبو البقاء أنه قرئ «وبرا» بكسر الباء وهو معطوف على الصلاة والزكاة قولا واحدا ، والتنكير للتفخيم (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) أي لم يقض علي سبحانه بذلك في علمه الأزلي ، وقد كان عليه‌السلام يقول : سلوني فإني لين القلب صغير في نفسي.

(وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) تقدم الكلام في وجه تخصيص هذه المواطن بالذكر

٤٠٨

فتذكر فما في العهد من قدم ، والأظهر بل الصحيح أن التعريف للجنس جيء به تعريضا باللعنة على متهمي مريم وأعدائها عليها‌السلام من اليهود فإنه إذا قال جنس السّلام على خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم ، ونظيره قوله تعالى: (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [طه : ٤٧] يعني أن العذاب على من كذب وتولى ، وكان المقام مقام مناكرة وعناد فهو مئنة لنحو هذا من التعريض. والقول بأنه لتعريف العهد خلاف الظاهر بل غير صحيح لا لأن المعهود سلام يحيى عليه الصلاة والسّلام وعينه لا يكون سلاما لعيسى عليه الصلاة والسّلام لجواز أن يكون من قبيل (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) [البقرة : ٢٥] بل لأن هذا الكلام منقطع عن ذلك وجودا وسردا فيكون معهودا غير سابق لفظا ومعنى على أن المقام يقتضي التعريض ويفوت على ذلك التقدير لأن التقابل إنما ينشأ من اختصاص جميع السّلام به عليه كذا في الكشف والاكتفاء في العهد به لصحيحه بذكره في الحكاية لا يخفى حاله وسلام يحيى عليه‌السلام قيل لكونه من قول الله تعالى أرجح من هذا السّلام لكونه من قول عيسىعليه‌السلام ، وقيل هذا أرجح لما فيه من إقامة الله تعالى إياه في ذلك مقام نفسه مع إفادة اختصاص جميع السّلام به عليه‌السلام فتأمل.

وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «يوم ولدت» بتاء التأنيث وإسناد الفعل إلى والدته (ذلِكَ) إشارة إلى من فصلت نعوته الجليلة ، وفيه إشارة إلى علو رتبته وبعد منزلته وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن غيره ونزوله منزلة المحسوس المشاهد. وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : (عِيسَى) وقوله سبحانه : (ابْنُ مَرْيَمَ) صفة عيسى أو خبر بعد خبر أو بدل أو عطف بيان والأكثرون على الصفة. والمراد ذلك هو عيسى ابن مريم لا ما يصفه النصارى وهو تكذيب لهم على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني حيث جعل موصوفا بأضداد ما يصفونه كالعبودية لخالقه سبحانه المضادة لكونه عليه‌السلام إلها وابنا لله عزوجل فالحصر مستفاد من فحوى الكلام ، وقيل : هو مستفاد من تعريف الطرفين بناء على ما ذكره الكرماني من أن تعريفهما مطلقا يفيد الحصر ، وهو على ما فيه مخالف لما ذكره أهل المعاني من أن ذلك مخصوص بتعريف المسند باللام أو بإضافته إلى ما هي فيه كتلك آيات الكتاب على ما فيه بعض شروح الكشاف. وقيل استفادته من التعريف على ما ذكروه أيضا بناء على أن عيسى مؤول بالمعرف باللام أي المسمى بعيسى وهو كما ترى فعليك بالأول.

(قَوْلَ الْحَقِ) نصب على المدح ، والمراد بالحق الله تعالى وبالقول كلمته تعالى ، وأطلقت عليه عليه‌السلام بمعنى أنه خلق بقول كن من غير أب ، وقيل : نصب على الحال من عيسى ، والمراد بالحق والقول ما سمعت.

وقيل : نصب على المصدر أي أقول قول الحق. وقيل : هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة منصوب بأحق محذوفا وجوبا. وقال شيخ الإسلام : هو مصدر مؤكد لقال إني عبد الله إلخ وقوله سبحانه (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) اعتراض مقرر لمضمون ما قبله وفيه بعد. و (الْحَقِ) في الأقوال الثلاثة بمعنى الصدق. والإضافة عند جمع بيانية وعند أبي حيان من إضافة الموصوف إلى الصفة.

وقرأ الجمهور «قول» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو قول الحق الذي لا ريب فيه ، والضمير المقدر للكلام السابق أو لتمام القصة. وقيل : صفة لعيسى أو بدل من أو خبر بعد لذلك أهو الخبر وعيسى بدل أو عطف بيان. والمراد في جميع ذلك كلمة الله تعالى. وقرأ ابن مسعود «قال الحق». وقال الله برفع «قال» فيهما.

وعن الحسن «قول الحق» بضم القاف واللام. والقول والقال والقول بمعنى واحد كالرهب والرهب والرهب. ونص أبو حيان على أنها مصادر ، وعن ابن السكيت القال وكذا القيل اسم لا مصدر. وقرأ طلحة والأعمش في رواية «قال الحق» برفع لام «قال» على أنه فعل ماض ورفع «الحق» على الفاعلية. وجعل (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) على هذا

٤٠٩

مقول القول أي قال الله تعالى ذلك الموصوف بما ذكر عيسى ابن مريم (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي يشكون أو يتنازعون فيقول اليهود : هو ساحر وحاشاه ويقول النصارى : ابن الله سبحان الله عما يقولون.

والموصول صفة القول أو الحق أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي إلخ وذلك بحسب اختلاف التفسير والقراءة. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وداود بن أبي هند ونافع في رواية والكسائي كذلك «تمترون» بتاء الخطاب.

(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ) أي ما صح وما استقام له جل شأنه اتخاذ ذلك وهو تكذيب للنصارى وتنزيه له عزوجل عما افتروه عليه تبارك وتعالى وقوله جل وعلا (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) تبكيت له ببيان أن شأنه تعالى شأنه إذا قضى أمرا من الأمور أن يوجد بأسرع وقت فمن يكون هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد وهو من أمارات الاحتياج والنقص وقرأ ابن عامر «فيكون» بالنصب على الجواب. وقوله تعالى (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) عطف على ما قال الواحدي على قوله (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) فهو من تمام قول عيسى عليه‌السلام تقرير المعنى العبودية والآيتان معترضتان ، ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقرأ أبي بغير واو.

والظاهر أنه على هذا بتقدير القول خطابا لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي قل يا محمد إن الله إلخ. وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأن بالواو وفتح الهمزة وخرجه الزمخشري على حذف حرف الجر وتعلقه باعبدوه أي ولأنه تعالى ربي وربّكم فاعبدوه وهو كقوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [الجن : ١٨] وهو قول الخليل وسيبويه.

وأجاز الفراء أن يكون إن وما بعدها في تأويل مصدر عطفا على (الزَّكاةِ) أي وأوصاني بالصلاة والزكاة وبأن الله ربي وربكم إلخ. وأجاز الكسائي أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن الله ربي وربكم.

وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أنه عطف على (أَمْراً) من قوله تعالى (إِذا قَضى أَمْراً) أي إذ قضى أمرا وقضى أن الله ربي وربكم وهو تخبيط في الإعراب فلعله لا يصح عن أبي عمرو فإنه من الجلالة في علم النحو بمكان ، وقيل : إنه عطف على الكتاب وأكثر الأقوال كما ترى. وفي حرف أبي رضي الله تعالى عنه أيضا وبأن بالواو وباء الجر وخرجه بعضهم بالعطف على الصلاة أو الزكاة وبعضهم بأنه متعلق باعبدوه أي بسبب ذلك فاعبدوه ، والخطاب إما لمعاصري عيسى عليه‌السلام وإما لمعاصري نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (هذا) أي ما ذكر من التوحيد (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) لا يضل سالكه ، وقوله تعالى (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها تنبيها على سوء صنيعهم بجعلهم ما يوجب الاتفاق منشأ للاختلاف فإن ما حكي من مقالات عيسى عليه‌السلام مع كونها نصوصا قاطعة في كونه عبد الله تعالى ورسوله قد اختلف اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط فالمراد بالأحزاب اليهود والنصارى وهو المروي عن الكلبي ، ومعنى (مِنْ بَيْنِهِمْ) أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين ، و «بين» ظرف استعمل اسما بدخول من عليه.

ونقل في البحر القول بزيادة من. وحكى أيضا القول بأن البين هنا بمعنى البعد أي اختلفوا فيه لبعدهم عن الحق فتكون سببية ولا يخفى بعده ، وقيل : المراد بالأحزاب فرق النصارى فإنهم اختلفوا بعد رفعه عليه‌السلام فيه فقال :

نسطور هو ابن الله تعالى عن ذلك أظهره ثم رفعه ، وقال يعقوب : هو الله تعالى هبط ثم صعد وقال ملكا : هو عبد الله

٤١٠

تعالى ونبيه ، وفي الملل والنحل أن الملكانية قالوا : إن الكلمة يعني أقنوم العلم اتحدت بالمسيح عليه‌السلام وتدرعت بناسوته.

وقالوا أيضا : إن المسيح عليه‌السلام ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم وقد ولدت مريم إلها قديما أزليا والقتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا ، وقد قمنا من أمر النصارى ما فيه كفاية فليتذكر ، وقيل المراد بهم المسلمون واليهود والنصارى.

وعن الحسن أنهم الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام لما قص عليهم قصة عيسى عليه‌السلام اختلفوا فيه من بين الناس ، قيل : إنهم مطلق الكفار فيشمل اليهود والنصارى والمشركين الذين كانوا في زمن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرهم ؛ ورجحه الإمام بأنه لا مخصص فيه ، ورجح القول بأنهم أهل الكتاب بأن ذكر الاختلاف عقيب قصة عيسى عليه‌السلام يقتضي ذلك ، ويؤيده قوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) فالمراد بهم الأحزاب المختلفون ، وعبر عنهم بذلك إيذانا بكفرهم جميعا وإشعارا بعلة الحكم ، وإذا قيل بدخول المسلمين أو الملكانية وقيل : إنهم قالوا بأنه عليه‌السلام عبد الله ونبيه ، في الأحزاب ، فالمراد من الذين كفروا بعض الأحزاب أي فويل للذين كفروا منهم (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي من مشهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء وهو يوم القيامة أو من وقت شهوده أو مكان الشهود فيه أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن تشهد الملائكة والأنبياء عليهم‌السلام عليهم وألسنتهم وسائر جوارحهم بالكفر والفسوق أو من وقت الشهادة أو من مكانها.

وقيل : هو ما شهدوا به في حق عيسى عليه‌السلام وأمه وعظمه لعظم ما فيه أيضا كقوله تعالى (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) [الكهف : ٥]. وقيل هو يوم قتل المؤمنين حين اختلف الأحزاب وهو كما ترى. والحق أن المراد بذلك اليوم يوم القيامة (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) تعجيب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ. ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم (يَوْمَ يَأْتُونَنا) للحساب والجزاء أي يوم القيامة جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صما وعميا.

وروي ذلك عن الحسن وقتادة وقال علي بن عيسى : هو وعيد وتهديد أي سوف يسمعون ما يخلع قلوبهم ويبصرون ما يسود وجوههم وعن أبي العالية أنه أمر حقيقة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يسمعهم ويبصرهم مواعيد ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه. والجار والمجرور على الأولين في موضع الرفع على القول المشهور. وعلى الأخير في محل نصب لأن (أَسْمِعْ) أمر حقيقي وفاعله مستتر وجوبا. وقيل : في التعجب أيضا إنه كذلك. والفاعل ضمير المصدر (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ) أي في الدنيا (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لا يدرك غايته حيث اغفلوا الاستماع والنظر بالكلية. ووضع (الظالمين) موضع الضمير للإيذان بأنهم في ذلك ظالمون لأنفسهم.

والاستدراك على ما نقل عن أبي العالية يتعلق بقوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَأَنْذِرْهُمْ) أي الظالمين على ما هو الظاهر. وقال أبو حيان : الضمير لجميع الناس أي خوفهم (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يوم يتحسر الظالمون على ما فرطوا في جنب الله تعالى. وقيل : الناس قاطبة ، وتحسر المحسنين على قلة إحسانهم (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) أي فرغ من الحساب وذهب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار وذبح الموت ونودي كل من الفريقين بالخلود.

وعن السدي وابن جريج الاقتصار على ذبح الموت وكان ذلك لما روي الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول : هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رأوه ثم ينادي مناد يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول : هل تعرفون هذا؟

٤١١

فيقولون نعم : هذا الموت وكلهم قد رأوه فيذبح بين الجنة والنار ثم يقول : يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ وأنذرهم» الآية.

وفي رواية عن ابن مسعود أن يوم الحسرة حين يرى الكفار مقاعدهم من الجنة لو كانوا مؤمنين ، وقيل : حين يقال لهم وهم في النار (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨] وقيل : حين يقال (امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٥٩].

وقال الضحاك : ذلك إذا برزت جهنم ورمت بالشرر ، وقيل : المراد بذلك يوم القيامة مطلقا ، وروي ذلك عن ابن زيد وفيه حسرات في مواطن عديدة ، ومن هنا قيل : المراد بالحسرة جنسها فيشمل ذلك حسرتهم فيما ذكر وحسرتهم عند أخذ الكتب بالشمائل وغير ذلك والمراد بقضاء الأمر (١) الفراغ من أمر الدنيا بالكلية ويعتبر وقت ذلك ممتدا ، وقيل : المراد بيوم الحسرة يوم القيامة كما روي عن ابن زيد إلا أن المراد بقضاء الأمر الفراغ مما يوجب الحسرة ، وجوز ابن عطية أن يراد بيوم الحسرة ما يعم يوم الموت.

وأنت تعلم أن ظاهر الحديث السابق وكذا غيره كما لا يخفى على المتتبع قاض بأن يوم الحسرة يوم يذبح الموت وينادي بالخلود ، ولعل التخصيص لما أن الحسرة يومئذ أعظم الحسرات لأنه هناك تنقطع الآمال وينسد باب الخلاص من الأهوال. ومن غريب ما قيل : إن المراد بقضاء الأمر سد باب التوبة حين تطلع الشمس من مغربها وليس بشيء ، و (إِذْ) على سائر الأقوال بدل من (يَوْمَ) أو متعلق بالحسرة والمصدر المعرف يعمل بالمفعول الصريح عند بعضهم فكيف بالظرف ، وقوله تعالى (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) قال الزمخشري : متعلق بقوله تعالى شأنه (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) عن الحسن ، ووجه ذلك بأن الجملتين في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور أي مستقرون في ذلك وهم في تينك الحالتين ، واستظهر في الكشف العطف على قوله تعالى : (الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي هم في ضلال وهم في غفلة ؛ وعلى الوجهين تكون جملة (أَنْذِرْهُمْ) معترضة والواو اعتراضية ، ووجه الاعتراض أن الإنذار مؤكد ما هم فيه من الغفلة والضلال ، وجوز أن يكون ذلك متعلقا بأنذرهم على أنه حال من المفعول أي أنذرهم غافلين غير مؤمنين للعقب بأنه لا يلائم قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] وقال في الكشف : أنه غير وارد لأن ذلك بالنسبة إلى النفع وهذا بالنسبة إلى تنبيه الغافل لبيان أن النفع في الآخرة وهذه وظيفة الأنبياء عليهم‌السلام عن آخرهم ، ثم لو سلم لا مناقضة كما في قوله تعالى (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات : ٥٥] كيف وقد تكرر هذا المعنى في القرآن إلى قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) [يس : ٦] وأما إن قوله سبحانه : (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) نفي مؤكد يشتمل على الماضية والآتية فلا يسلم لو جعل حالا ولو سلم فقد علم جوابه مما سبق وما على الرسول إلا البلاغ.

نعم لا نمنع أن الوجه الأول أرجح وأشد طباقا للمقام ، وحاصل المعنى على الأخير أنذرهم لأنهم في حالة يحتاجون فيها للإنذار (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) لا يبقى لأحد غيره تعالى ملك ولا ملك فيكون كل ذلك له تعالى استقلالا ظاهرا وباطنا دون ما سواه وينتقل إليه سبحانه انتقال الموروث من المورث إلى الوارث ، وهذا كقوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] أو نتوفى الأرض ومن عليها بالإفناء والإهلاك توفي الوارث لإرثه واستيفائه إياه (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) أي يردون إلى الجزاء لا إلى غيرنا استقلالا أو اشتراكا. وقرأ الأعرج «ترجعون»

__________________

(١) قيل بألف سنة اه منه.

٤١٢

بالتاء الفوقية. وقرأ السلمي وابن أبي إسحاق وعيسى بالياء التحتية مبنيا للفاعل ، وحكى عنهم الداني أنهم قرءوا بالتاء الفوقية والله تعالى أعلم

«ومن باب الإشارة في الآيات» (كهيعص) هو وأمثاله على الصحيح سر من أسرار الله تعالى ، وقيل في وجه افتتاح هذه السورة به : إن الكاف إشارة إلى الكافي الذي اقتضاه حال ضعف زكريا عليه‌السلام وشيخوخته وعجزه ، والهاء إشارة إلى الهادي الذي اقتضاه عنايته سبحانه به وإراءة مطلوبه له ، والياء إشارة إلى الواقي الذي اقتضاه حال خوفه من الموالي ، والعين إشارة إلى العالم الذي اقتضاه إظهاره لعدم الأسباب ، والصاد إشارة إلى الصادق الذي اقتضاه الوعد ، والإشارة في القصتين إجمالا إلى أن الله تعالى شأنه يهب بسؤال وغير سؤال. وطبق بعض أهل التأويل ما فيهما على ما في الأنفس فتكلفوا وتعسفوا ، وفي نذر الصوم والمراد به الصمت إشارة إلى ترك الانتصار للنفس فكأنه قيل لها عليه‌السلام : اسكتي ولا تنتصري فإن في كلامك وانتصارك لنفسك مشقة عليك وفي سكوتك إظهار ما لنا فيك من القدرة فلزمت الصمت فلما علم الله سبحانه صدق انقطاعها إليه أنطق جل وعلا عيسى عليه‌السلام ببراءتها ، وذكر أنه عليه‌السلام طوى كل وصف جميل في مطاوي قوله (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) وذلك لما قالوا من أنه لا يدعي أحد بعبد الله إلا إذا صار مظهرا لجميع الصفات الإلهية المشير إليها الاسم الجليل ، وجعل على هذا قوله (آتانِيَ الْكِتابَ) إلخ كالتعليل لهذه الدعوى. وذكروا أن العبد مضافا إلى ضميره تعالى أبلغ مدحا مما ذكر وأن صاحب ذلك المقام هو نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكأن مرادهم أن العبد مضافا إلى ضميره سبحانه كذلك إذا لم يقرن بعلم كعبده زكريا وإلا فدعوى الاختصاص لأنتم فليتدبر.

وذكر ابن عطاء في قوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) إن الجبار الذي لا ينصح والشقي الذي لا ينتصح نعوذ بالله سبحانه من أن يجعلنا كذلك (وَاذْكُرْ) عطف على (أَنْذِرْهُمْ) عند أبي السعود ، وقيل : على أذكر السابق ، ولعله الظاهر (فِي الْكِتابِ) أي هذه السورة أو في القرآن (إِبْراهِيمَ) أي اتل على الناس قصته كقوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) [الشعراء : ٦٩] وإلا فذاكر ذلك في الكتاب هو الله تعالى كما في الكشاف ، وفيه أنه عليه الصلاة السّلام لكونه الناطق عنه تعالى ومبلغ أوامره ونواهيه وأعظم مظاهره سبحانه ومجاليه كأنه الذاكر في الكتاب ما ذكره ربه جل وعلا (١) ومناسبة هذه الآية لما قبلها اشتمالها على تضليل من نسب الألوهية إلى الجماد اشتمال ما قبلها على ما أشار إلى تضليل من نسبها إلى الحي والفريقان وإن اشتركا في الضلال إلا أن الفريق الثاني أضل.

ويقال على القول الأول في العطف إن المراد أنذرهم ذلك واذكر لهم قصة إبراهيم عليه‌السلام فإنهم ينتمون إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعساهم باستماع قصته يقلعون عما هم فيه من القبائح (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) أي ملازم الصدق لم يكذب قط (نَبِيًّا) استنبأه الله تعالى وهو خبر آخر لكان مقيد للأول مخصص له أي كان جامعا بين الوصفين.

ولعل هذا الترتيب للمبالغة في الاحتراز عن توهم تخصيص الصديقية بالنبوة فإن كل نبي صديق ، وقيل : الصديق من صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله ، وفي الكشاف الصديق من أبنية المبالغة والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أي كان مصدقا بجميع الأنبياء وكتبهم وكان نبيا في نفسه كقوله تعالى : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات :

__________________

(١) داخل في حيز قيل اه منه.

٤١٣

٣٧] أو كان بليغا في الصدق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ومصدق الله تعالى بآياته ومعجزاته حري أن يكون كذلك انتهى.

وفيه إشارة إلى أن المبالغة تحتمل أن تكون باعتبار الكم وأن تكون باعتبار الكيف ولك أن تريد الأمرين لكون المقام مقام المدح والمبالغة ، وقد ألم بذلك الراغب ، وأما أن التكثير باعتبار المفعول كما في قطعت الحبال فقد عده في الكشف من الأغلاط فتأمل ، واستظهر أنه من الصدق لا من التصديق ، وأيد بأنه قرئ «أنه كان صادقا» وبأنه قلما يوجد فعيل من مفعل والكثير من فاعل ، وفسر بعضهم النبي هنا برفيع القدر عند الله تعالى وعند الناس.

والجملة استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فإن وصفه عليه‌السلام بذلك من دواعي ذكره وهي على ما قيل اعتراض بين المبدل منه وهو إبراهيم والبدل وهو إذ في قوله تعالى (إِذْ قالَ) وتعقبه صاحب الفرائد بأن الاعتراض بين البدل والمبدل منه بدون الواو بعيد عن الطبع ، وفيه منع ظاهر ، وفي البحر أن بدلية إذ من إبراهيم تقتضي تصرفها والأصح أنها لا تتصرف وفيه بحث ، وقيل : إذ ظرف لكان وهو مبني على أن كان الناقصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلافية ، وقيل : ظرف لنبينا أي منبئ في وقت قوله (لِأَبِيهِ) وتعقب بأنه يقتضي أن الاستنباء كان في ذلك الوقت ، وقيل : ظرف لصديقا ، وفي البحر لا يجوز ذلك لأنه قد نعت الأعلى رأي الكوفيين ، وفيه أن (نَبِيًّا) خبر كما ذكرنا لا نعت ، نعم تقييد الصديقية بذلك الوقت لا يخلو عن شيء.

وقيل ظرف لصديقا نبيا وظاهره أنه معمول لهما معا ، وفيه أن توارد عاملين على معمول واحد غير جائز على الصحيح ، والقول بأنهما جعلا بتأويل اسم واحد كتأويل حلو حامض بمز أي جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء عليهم‌السلام حين خاطب أباه لا يخفى ما فيه ، والذي يقتضيه السياق ويشهد به الذوق البدلية وهو بدل اشتمال ، وتعليق الذكر بالأوقات مع أن المقصود تذكير ما وقع فيها من الحوادث قد مر سره مرارا فتذكر.

(يا أَبَتِ) أي يا أبي فإن التاء عوض من ياء الإضافة ولذلك لا يجمع بينهما إلا شذوذا كقوله : يا أبتي أرقني القذان ، والجمع في يا أبتا قيل بين عوضين وهو جائز كجمع صاحب الجبيرة بين المسح والتيمم وهما عوضان عن الغسل وقيل المجموع فيه عوض ، وقيل : الألف للإشباع وأنت تعلم حال العلل النحوية.

وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر «يا أبت» بفتح التاء ، وزعم هارون أن ذلك لحن والحق خلافه وفي مصحف عبد الله «وأبت» بواو بدل ياء والنداء بها في غير الندبة قليل ، وناداه عليه‌السلام بذلك استعطافا له.

وأخرج أبو نعيم والديلمي عن أنس مرفوعا حق الوالد على ولده أن لا يسميه إلا بما سمي إبراهيم عليه‌السلام به أباه يا أبت ولا يسميه باسمه ، وهذا ظاهر في أنه كان أباه حقيقة ، وصحح جمع أنه كان عمه وإطلاق الأب عليه مجاز (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ) ثناءك عليه عند عبادتك له وجؤارك إليه (وَلا يُبْصِرُ) خضوعك وخشوعك بين يديه أو لا يسمع ولا يبصر شيئا من المسموعات والمبصرات فيدخل في ذلك ما ذكر دخولا أوليا ، وما موصولة وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة (وَلا يُغْنِي) أي لا يقدر على أن يغني (عَنْكَ شَيْئاً) من الأشياء أو شيئا من الإغناء فهو نصب على المفعولية أو المصدرية. ولقد سلك عليه‌السلام في دعوته أحسن منهاج واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق ليس له من هاج لئلا يركب متن المكابرة والعناد ولا ينكب بالكلية عن سبيل الرشاد حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه فضلا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام الخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب. ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل لداعية صحيحة وغرض صحيح والشيء لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا قادرا على

٤١٤

النفع والضر لكن كان ممكنا لاستنكف ذو العقل السليم عن عبادته وإن كان أشرف الخلائق لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبية فما ظنك بجماد مصنوع ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر.

ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق المبين لما أنه لم يكن محظوظا من العلم الإلهي مستقلا بالنظر السوي مصدرا لدعوته بما مر من الاستعطاف حيث قال (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) ولم يسم أباه بالجهل المفرط وإن كان في أقصاه ولا نفسه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل أبرز نفسه في صورة رقيق له يكون أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق حيث قال (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أي مستقيما موصلا إلى أسنى المطالب منحيا عن الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب. وقوله (جاءَنِي) ظاهر في أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبئ عليه‌السلام ، والذي جاءه قيل العلم بما يجب لله تعالى وما يمتنع في حقه وما يجوز على أتم وجه وأكمله. وقيل : العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها. وقيل : العلم بما يعم ذلك ثم ثبطه عما هو عليه بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلب لضرر عظيم فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان لما أنه الآمر به فقال : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) فإن عبادتك الأصنام عبادة له إذ هو الذي يسولها لك ويغريك عليها.

وقوله (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) تعليل لموجب النهي وتأكيد له ببيان أنه مستعص على من شملتك رحمته وعمتك نعمته ، ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص وكل من هو عاص حقيق بأن تسترد منه النعم وينتقم منه ، وللإشارة إلى هذا المعنى جيء بالرحمن. وفيه أيضا إشارة إلى كمال شناعة عصيانه. وفي الاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته لأنه ملاكها أو لأنه نتيجة معاداته لآدم عليه‌السلام فتذكيره داع لأبيه عن الاحتراز عن موالاته وطاعته ، والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير.

وقوله : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) تحذير من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام والخوف كما قال الراغب توقع المكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة فهو غير مقطوع فيه بما يخاف ، ومن هنا قيل : إن في اختياره مجاملة. وحمله الفراء والطبري على العلم وليس بذاك وتنوين (عَذابٌ) على ما اختاره السعد في المطول يحتمل التعظيم والتقليل أي عذاب هائل أو أدنى شيء منه وقال لا دلالة للفظ المس وإضافة العذاب إلى الرحمن على ترجيح الثاني كما ذكره بعضهم لقوله تعالى : (لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) [النور : ١٤] ولأن العقوبة من الكريم الحليم أشد اه.

واختار أبو السعود أنه للتعظيم ، وقال : كلمة من متعلقة بمضمر وقع صفة للعذاب مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، وإظهار الرحمن للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب كما في قوله عزوجل (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦] انتهى ، وفي الكشف أن الحمل على التفخيم فى (عَذابٌ) كما جوزه صاحب المفتاح مما يأباه المقام أي لأنه مقام إظهار مزيد الشفقة ومراعاة الأدب وحسن المعاملة وإنما قال (مِنَ الرَّحْمنِ) لقوله أولا (كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) وللدلالة على أنه ليس على وجه الانتقام بل ذلك أيضا رحمة من الله تعالى على عباده وتنبيه على سبق الرحمة الغضب وإن الرحمانية لا تنافي العذاب بل الرحيمية على ما عليه الصوفية فقد قال المحقق القونوي في تفسير الفاتحة : الرحيم كما بينا لأهل اليمين والجمال والرحمن الجامع بين اللطف والقهر لأهل القضية الأخرى والجلال إلى آخر ما قال ، وأيد الحمل على التفخيم بقوله (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) أي قرينا تليه ويليك في العذاب فإن الولاية للشيطان بهذا المعنى إنما تترتب على مس العذاب العظيم. وأجيب عن كون المقام مقام إظهار مزيد الشفقة وهو يأبى ذلك بأن القسوة أحيانا من الشفقة أيضا كما قيل :

٤١٥

فقسا ليزدجروا ومن يك حازما

فليقس أحيانا على من يرحم

وقد تقدم هذا مع أبيات أخر بهذا المعنى ، ويكفي في مراعاة الأدب والمجاملة عدم الجزم باللحوق. والمس وإن كان مشعرا بالقلة عند الجلة لكن قالوا : إن الكثرة والعظمة باعتبار ما يلزمه ويتبعه لا بالنظر إليه في نفسه فإنه غير مقصود بالذات وإنما هو كالذوق مقدمة للمقصود فيصح وصفه بكل من الأمرين باعتبارين. وكأني بك تختار التفخيم لأنه أنسب بالتخويف وتدعي أنه هاهنا من معدن الشفقة فتدبر. وجوز أن يكون (فَتَكُونَ) إلخ مترتبا على مس العذاب القليل والولي من الموالاة وهي المتابعة والمصادقة. والمراد تفريع الثبات على حكم تلك الموالاة وبقاء آثارها من سخط الله تعالى وغضبه ، ولا مانع من أن يتفرع من قليل أمر عظيم. ثم الظاهر أن المراد بالعذاب عذاب الآخرة وتأوله بعضهم بعذاب الدنيا وأراد به الخذلان أو شيئا آخر مما أصاب الكفرة في الدنيا من أنواع البلاء وليس بذاك ، وزعم بعضهم أن في الكلام تقديما وتأخيرا والأصل إني أخاف أن تكون وليا للشيطان أي تابعا له في الدنيا فيمسك عذاب من الرحمن أي في العقبى وكأنه أشكل عليه أمر التفريع فاضطر لما ذكر وقد أغناك الله تعالى عن ذلك بما ذكرنا (قالَ) استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل فما ذا قال أبوه عند ما سمع منه عليه‌السلام هذه النصائح الواجبة القبول فقيل؟ قال مصرا على عناده مقابلا الاستعطاف واللطف بالفظاظة والغلظة : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) اختار الزمخشري كون (راغِبٌ) خبرا مقدما و (أَنْتَ) مبتدأ وفيه توجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجيب. وذهب أبو البقاء وابن مالك وغيرهما إلى أن (أَنْتَ) فاعل الصفة لتقدم الاستفهام وهو مغن عن الخبر وذلك لئلا يلزم الفصل بين (أَراغِبٌ) ومعموله وهو (عَنْ آلِهَتِي) بأجنبي هو المبتدأ. وأجيب بأن (عَنْ) متعلق بمقدر بعد أنت يدل عليه أراغب.

وقال صاحب الكشف : المبتدأ ليس أجنبيا من كل وجه لا سيما والمفصول ظرف والمقدم في نية التأخير والبليغ يلتفت لفت المعنى بعد أن كان لما يرتكبه وجه مساغ في العربية وإن كان مرجوحا. ولعل سلوك هذا الأسلوب قريب من ترجيح الاستحسان لقوة أثره على القياس ، ولا خفاء أن زيادة الإنكار إنما نشأ من تقديم الخبر كأنه قيل أراغب أنت عنها لا طالب لها راغب فيها منبها له على الخطأ في صدوفه ذلك ولو قيل : أترغب لم يكن من هذا الباب في شيء انتهى ، ورجح أبو حيان إعراب أبي البقاء ومن معه بعدم لزوم الفصل فيه وبسلامة الكلام عليه عن خلاف الأصل في التقديم والتأخير ، وتوقف البدر الدماميني في جواز ابتدائية المؤخر في مثل هذا التركيب وإن خلا عن فصل أو محذور آخر كما في أطالع الشمس وذلك نحو أقائم زيد للزوم التباس المبتدأ بالفاعل كما في ضرب زيد فإنه لا يجوز فيه ابتدائية زيد. وأجاب الشمني بأن زيدا في الأول يحتمل أمرين كل منهما بخلاف الأصل وذلك إجمال لا لبس بخلافه في الثاني فتأمل (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) تهديد وتحذير عما كان عليه من العظة والتذكير أي والله لئن لم تنته عما أنت عليه من النهي عن عبادتها والدعوة إلى ما دعوتني إلي لأرجمنك بالحجارة على ما روي عن الحسن ، وقيل : باللسان والمراد لأشتمنك وروي ذلك عن ابن عباس وعن السدي والضحاك وابن جريج ، وقدر بعضهم متعلق النهي الرغبة عن الآلهة أي لئن لم تنته عن الرغبة عن آلهتي لأرجمنك وليس بذاك (وَاهْجُرْنِي) عطف على محذوف يدل عليه التهديد أي فاحذرني واتركني وإلى ذلك ذهب الزمخشري.

ولعل الداعي لذلك وعدم اعتبار العطف على المذكور أنه لا يصح أو لا يحسن التخالف بين المتعاطفين إنشائية وإخبارية ، وجواب القسم غير الاستعطافي لا يكون إنشاء وليست الفاء في فاحذرني عاطفة حتى يعود المحذور. ومن الناس من عطف على الجملة السابقة بناء على تجويز سيبويه العطف مع التخالف في الأخبار والإنشاء والتقدير أوقع

٤١٦

في النفس (مَلِيًّا) أي دهرا طويلا عن الحسن ومجاهد وجماعة ، وقال السدي : أبدا وكأنه المراد ، وأصله على ما قيل من الإملاء أي الإمداد وكذا الملاوة بتثليث الميم وهي بمعناه ومن ذلك الملوان الليل والنهار ونصبه على الظرفية كما في قول مهلهل :

فتصدعت صم الجبال لموته

وبكت عليه المرملات مليا

وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه فسره بطويلا ولم يذكر الموصوف فقيل هو نصب على المصدرية أي هجرا مليا ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن المعنى سالما سويا والمراد قادرا على الهجر مطيقا له وهو حينئذ حال من فاعل (اهْجُرْنِي) أي اهجرني مليا بالهجران والذهاب عني قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح ، وكأنه على هذا من تملى بكذا تمتع به ملاوة من الدهر (قالَ) استئناف كما سلف (سَلامٌ عَلَيْكَ) توديع ومتاركة على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة فإن ترك الإساءة للمسيء إحسان أي لا أصيبك بمكروه بعد ولا أشافهك بما يؤذيك ، وهو نظير ما في قوله تعالى «لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين» في قوله ، وقيل : هو تحية مفارق ، وجوز قائل هذا تحية الكافر وأن يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينة مستدلا بقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ) [الممتحنة : ٨] الآية ، وقوله سبحانه (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) [الممتحنة : ٤] الآية ، وما استدل به متأول وهو محجوج بما ثبت في صحيح مسلم «لا تبدأ اليهود والنصارى بالسلام» وقرئ «سلاما» بالنصب على المصدرية والرفع على الابتداء (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) أي استدعيه سبحانه أن يغفر لك بأن يوفقك للتوبة ويهديك إلى الإيمان كما يلوح به تعليل قوله «واغفر لأبي» بقوله (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٨٦] كذا قيل فيكون استغفاره في قوة قوله : ربي اهده إلى الإيمان وأخرجه من الضلال.

والاستغفار بهذا المعنى للكافر قبل تبين تحتم أنه يموت على الكفر مم لا ريب في جوازه كما أنه لا ريب في عدم جوازه عند تبين ذلك لما فيه من طلب المحال فإن ما أخبر الله تعالى بعدم وقوعه محال وقوعه ولهذا لما تبين له عليه‌السلام بالوحي على أحد القولين المذكورين في سورة التوبة أنه لا يؤمن تركه أشد الترك فالوعد والإنجاز كانا قبل التبيين ولذا لم يؤذنوا بالتأسي به عليه‌السلام في الاستغفار ، قال العلامة الطيبي : إنه تعالى بين للمؤمنين أن أولئك أعداء الله تعالى بقوله سبحانه (لا (١) تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة : ١] وأن لا مجال لإظهار المودة بوجه ما ثم بالغ جل شأنه في تفصيل عداوتهم بقوله عزوجل : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة : ٢] ثم حرضهم تعالى على قطيعة الأرحام بقوله سبحانه (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الممتحنة : ٣] ثم سلاهم عزوجل بالتأسي في القطيعة بإبراهيم عليه‌السلام وقومه بقوله تبارك وتعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) [الممتحنة : ٤] إلى قوله تعالى شأنه (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة : ٤] فاستثنى من المذكور ما لم يحتمله المقام كما احتمله ذلك المقام كما احتمله ذلك المقام للنص القاطع يعني لكم التأسي بإبراهيم عليه‌السلام مع هؤلاء الكفار في القطيعة والهجران لا غير فلا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة والرحمة كما أبدى إبراهيم عليه‌السلام لأبيه في قوله سأستغفر لك لأنه لم يتبين له حينئذ أنه لا يؤمن كما بدا لكم كفر هؤلاء وعداوتهم انتهى.

واعترض بأن ما ذكر ظاهر في أن الاستغفار الذي وقع من المؤمنين لأولى قرابتهم فنهوا عنه لأنه كان بعد التبيين كان كاستغفار إبراهيم عليه‌السلام بمعنى طلب التوفيق للتوبة والهداية للإيمان ، والذي اعتمده كثير من العلماء أن قوله

٤١٧

تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣] الآية نزل في استغفاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمه أبي طالب بعد موته وذلك الاستغفار مما لا يكون بمعنى طلب الهداية أصلا وكيف تعقل الهداية بعد الموت بل لو فرض أن استغفاره عليه الصلاة والسّلام له كان قبل الموت لا يتصور أيضا أن يكون بهذا المعنى لأن الآية تقتضي أنه كان بعد تبين أنه من أصحاب الجحيم ، وإذا فسر بتحتم الموت على الكفر كان ذلك دعاء بالهداية إلى الإيمان مع العلم بتحتم الموت على الكفر ومحاليته إذا كانت معلومة لنا بما مر فهي أظهر شيء عنده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعند المقتبسين من مشكاته عليه الصلاة والسّلام ، وهو اعتراض قوي بحسب الظاهر وعليه يجب أن يكون استغفار إبراهيم عليه‌السلام لأبيه بذلك المعنى في حياته لعدم تصور ذلك بعد الموت وهو ظاهر.

وقد قال الزمخشري في جواب السؤال بأنه كيف جاز له عليه‌السلام أن يستغفر للكافر وأن يعده ذلك؟ قالوا : أراد اشتراط التوبة عن الكفر وقالوا إنما استغفر له بقوله : «واغفر لأبي» لأنه وعده أن يؤمن ، واستشهدوا بقوله تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) [التوبة : ١١٤] ثم قال : ولقائل أن يقول : الذي منع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع فأما قضية العقل فلا تأباه فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع ويدل على صحته أنه استثنى قول إبراهيم عليه‌السلام «لأستغفرن» لك في آية «قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم» إلخ عما وجبت فيه الأسوة ولو كان بشرط الإيمان والتوبة لما صح الاستثناء ، وأما كون الوعد من أبيه فيخالف الظاهر الذي يشهد له قراءة الحسن وغيره «وعدها أباه» بالباء الموحدة قال في الكشف : واعترض الإمام حديث الاستثناء بأن الآية دلت على المنع من التأسي لا أن ذلك كان معصية فجاز أن يكون من خواصه ككثير من المباحات التي اختص بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس بشيء لأن الزمخشري لم يذهب إلى أن ما ارتكبه إبراهيم عليه‌السلام كان منكرا بل إنما هو منكر علينا لورود السمع.

واعترض صاحب التقريب بأن نفي اللازم ممنوع فإن الاستثناء عما وجبت فيه الأسوة دل على أنه غير واجب لا على أنه غير جائز فكان ينبغي عما جازت فيه الأسوة بدل عما وجبت إلخ والآية لا دلالة فيها على الوجوب. والجواب أن جعله مستنكرا ومستثنى يدل على أنه منكر لا الاستثناء عما وجبت فيه فقط وإنما أتى الاستنكار لأنه مستثنى عن الأسوة الحسنة فلو اؤتسي به فيه لكان أسوة قبيحة ، وأما الدلالة على الوجوب فبينة من قوله تعالى آخرا (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [الأحزاب : ٢١] كما تقرر في الأصول.

والحاصل أن فعل إبراهيم عليه‌السلام يدل على أنه ليس منكرا في نفسه وقوله تعالى «ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا» إلخ يدل على أنه الآن منكر سمعا وأنه كان مستنكرا في زمن إبراهيم عليه‌السلام أيضا بعد ما كان غير منكر ولذا تبرأ منه وهو ظاهر إلا أن الزمخشري جعل مدرك الجواز قبل النهي العقل وهي مسألة خلافية وكم قائل إنه السمع لدخوله تحت بر الوالدين والشفقة على أمة الدعوة بل قيل : إن الأول مذهب المعتزلة وهذا مذهب أهل السنة انتهى مع تغيير يسير.

واعترض القول بأنه استنكر في زمن إبراهيم عليه‌السلام بعد ما كان غير منكر بأنه لو كان كذلك لم يفعله نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد جاء أنه عليه الصلاة والسّلام فعله لعمه أبي طالب. وأجيب بجواز أنه لم يبلغه إذ فعل عليه الصلاة والسّلام ، والتحقيق في هذه المسألة أن الاستغفار للكافر الحي المجهول العاقبة بمعنى طلب هدايته للإيمان مما لا محذور فيه عقلا ونقلا وطلب ذلك للكافر المعلوم أنه قد طبع على قلبه وأخبر الله تعالى أنه لا يؤمن وعلم أن لا تعليق في أمره أصلا مما لا مساغ له عقلا ونقلا ، ومثله طلب المغفرة للكافر مع بقائه على الكفر على ما ذكره بعض المحققين ،

٤١٨

وكان ذلك على ما قيل لما فيه من إلغاء أمر الكفر الذي لا شيء يعدله من المعاصي وصيرورة التكليف بالإيمان الذي لا شيء يعدله من الطاعات عبثا مع ما في ذلك مما لا يليق بعظمة الله عزوجل ، ويكاد يلحق بذلك فيما ذكر طلب المغفرة لسائر العصاة مع البقاء على المعصية إلا أن يفرق بين الكفر وسائر المعاصي ، وأما طلب المغفرة للكافر بعد موته على الكفر فلا تأباه قضية العقل وإنما يمنعه السمع وفرق بينه وبين طلبها للكافر مع بقائه على الكفر بعدم جريان التعليل السابق فيه ويحتاج ذلك إلى تأمل.

واستدل على جواز ذلك عقلا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمه «لا أزال أستغفر لك ما لم أنه» فنزل قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣] الآية ، وحمل قوله تعالى (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) [التوبة : ١١٣] على معنى من بعد ما ظهر لهم أنهم ماتوا كفارا والتزم القول بنزول قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦] بعد ذلك وإلا فلا يتسنى استغفاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمه بعد العلم بموته كافرا وتقدم السماع بأن الله تعالى لا يغفر الكفر ، وقيل لا حاجة إلى التزام ذلك لجواز أن يكون عليه الصلاة والسّلام لوفور شفقته وشدة رأفته قد حمل الآية على أنه تعالى لا يغفر الشرك إذا لم يشفع فيه أو الشرك الذي تواطأ فيه القلب وسائر الجوارح وعلم من عمه أنه لم يكن شركه كذلك فطلب المغفرة حتى نهى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل غير ذلك فتأمل ، فالمقام محتاج بعد إلى كلام والله تعالى الموفق.

(إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) بليغا في البر والإكرام يقال حفي به إذا اعتنى بإكرامه ، والجملة تعليل لمضمون ما قبلها ، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل مع الاهتمام (وَأَعْتَزِلُكُمْ) الظاهر أنه عطف على (سَأَسْتَغْفِرُ) والمراد أتباعد عنك وعن قومك (وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بالمهاجرة بديني حيث لم تؤثر فيكم نصائحي.

يروى أنه عليه‌السلام هاجر إلى الشام ، وقيل إلى حران وهو قريب من ذلك وكانوا بأرض كوثا. وفي هجرته هذه تزوج سارة ولقي الجبار الذي أخدم سارة هاجر ، وجوز حمل الاعتزال على الاعتزال بالقلب والاعتقاد وهو خلاف الظاهر المأثور (وَأَدْعُوا رَبِّي) أي أعبده سبحانه وحده كما يفهم من اجتناب غيره تعالى من المعبودات وللتغاير بين العبادتين غوير بين العبارتين ، وذكر بعضهم أنه عبر بالعبادة أولا لأن ذلك أوفق بقول أبيه (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) مع قوله فيما سبق (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ) [مريم : ٤٢] إلخ ، وعبر ثانيا بالدعاء لأنه أظهر في الإقبال المقابل للاعتزال.

وجوز أن يراد بذلك الدعاء مطلقا أو ما حكاه سبحانه في سورة [الشعراء : ٨٣] وهو قوله (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) وقيل لا يبعد أن يراد استدعاء الولد أيضا بقوله : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١٠٠] حسبما يساعده السياق والسباق (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) خائبا ضائع السعي. وفيه تعريض بشقاوتهم في عبادة آلهتهم. وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضع ومراعاة حسن الأدب والتنبيه على حقيقة الحق من أن الإثابة والإجابة بطريق التفضل منه عزوجل لا بطريق الوجوب وأن العبرة بالخاتمة وذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير ما لا يخفى (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بالمهاجرة إلى ما تقدم (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) بدل من فارقهم من أبيه وقومه الكفرة لكن لا عقيب المهاجرة. والمشهور أن أول ما وهب له عليه‌السلام من الأولاد إسماعيل عليه‌السلام لقوله تعالى (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) [الصافات : ١٠١] إثر دعائه بقوله «رب هب لي من الصالحين» وكان من هاجر فغارت سارة فحملت بإسحاق عليه‌السلام فلما كبر ولد له يعقوب عليه‌السلام.

٤١٩

ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله هاهنا لبيان كمال عظم النعم التي أعطاها الله تعالى إياه بمقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقرباء فإنهما شجرتا الأنبياء ولهما أولاد وأحفاد أولو شأن خطير وذوو عدد كثير مع أنه سبحانه أراد أن يذكر إسماعيل عليه‌السلام بفضله على الانفراد. وروي أنه عليه‌السلام لما قصد الشام أتى أولا حران وتزوج سارة وولدت له إسحاق وولد لإسحاق يعقوب. والأول هو الأقرب الأظهر (وَكُلًّا) أي كل واحد من إسحاق ويعقوب أو منهما ومن إبراهيم عليه‌السلام وهو مفعول أول لقوله تعالى (جَعَلْنا نَبِيًّا) قدم عليه للتخصيص لكن لا بالنسبة إلى من عداهم بل بالنسبة إلى بعضهم أي كل واحد منهم (جَعَلْنا نَبِيًّا) لا بعضهم دون بعض ، ولا يظهر في هذا الترتيب على الوجه الثاني في (كُلًّا) كون إبراهيم عليه‌السلام نبيا قبل الاعتزال (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) قال الحسن : النبوة.

ولعل ذكر ذلك بعد ذكر جعلهم أنبياء للإيذان بأن النبوة من باب الرحمة التي يختص بها من يشاء. وقال الكلبي : هي المال والولد وقيل هو الكتاب والأظهر أنها عامة لكل خير ديني ودنيوي أوتوه مما لم يؤت أحد من العالمين (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) تفتخر بهم الناس ويثنون عليهم استجابة لدعوته عليه‌السلام بقوله (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء : ٨٤] وزيادة على ذلك. والمراد باللسان ما يوجد به من الكلام فهو مجاز بعلاقة السببية كاليد في العطية ولسان العرب لغتهم. ويطلق على الرسالة الرائع كما في قول أعشى باهلة :

إني أتتني لسان لا أسر بها

ومنه قول الآخر ندمت على لسان كان مني وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء بما يثنون عليهم وأن محامدهم لا تخفى كأنها نار على علم على تباعد الأعصار وتبدل الدول وتغير الملل والنحل ، وخص بعضهم لسان الصدق بما يتلى في التشهد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم والعموم أولى.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى

٤٢٠