روح المعاني - ج ٨

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٨

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٨

تعالى ذكره في المنن العظيمة الكثيرة وهو في الأصل اسم للمرور الواحد ثم أطلق على كل فعلة واحدة متعدية كانت أو لازمة ثم شاع في كل فرد واحد من أفراد ما له أفراد متجددة فصار علما في ذلك حتى جعل معيارا لما في معناه من سائر الأشياء فقيل هذا بناء المرة ويقرب منه الكرة والتارة والدفعة. وقال أبو حيان : المراد منه غير هذه المنة وليست (أُخْرى) تأنيث آخر بكسر الخاء لتكون مقابلة للأولى. وتوهم ذلك بعضهم فقال : سماها سبحانه أخرى وهي أولى لأنها أخرى في الذكر.

(إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) ظرف لمننا سواء كان بدلا من مرة أم لا ، وقيل : تعليل وهو خلاف الظاهر ، والمراد بالإيحاء عند الجمهور ما كان بالهام كما في قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨] وتعقب بأنه بعيد لأنه قال تعالى في سورة القصص : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٧] ومثله لا يعلم بالإلهام وليس بشيء لأنها قد تكون شاهدت منه عليه‌السلام ما يدل على نبوته وأنه تعالى لا يضيعه ، وإلهام الأنفس القدسية مثل ذلك لا بعد فيه فإنه نوع من الكشف. ألا ترى قول عبد المطلب وقد سمي نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم محمدا فقيل له : لم سميت ولدك محمدا وليس في أسماء آبائك؟ : إنه سيحمد ، وفي رواية رجوت أن يحمد في السماء والأرض مع أن كون ذلك داخلا في الملهم ليس بلازم.

واستظهر أبو حيان أنه كان يبعث ملك إليها لا على جهة النبوة كما بعث إلى مريم وهو مبني على أن الملك يبعث إلى غير الأنبياء عليهم‌السلام وهو الصحيح لكن قيل : عليه أنه حينئذ ينتقض تعريف النبي بأنه من أوحي إليه ، على وجه النبوة دار التعريف وأجيب بأنه لا يتعين ذلك. ولو قيل : من أوحى إليه بأحكام شرعية لكنه لم يؤمر بتبليغها لم يلزم محذور. وقال الجبائي : أنه كان بالإراءة مناما. وقيل : كان على لسان نبي في وقتها كما في قوله تعالى : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) [المائدة : ١١١] وتعقب بأن خلاف الظاهر فإنه لم ينقل إنه كان نبي في مصر زمن فرعون قبل موسى عليه‌السلام.

وأجيب بأن ذلك لا يتوقف على كون النبي في مصر ، وقد كان شعيب عليه‌السلام نبيا في زمن فرعون في مدين فيمكن أن يكون أخبرها بذلك على أن كثرة أنبياء بني إسرائيل عليهم‌السلام مما شاع وذاع ، والحق أن إنكار كون ذلك خلاف الظاهر مكابرة. واختلف في اسم أمه عليه‌السلام والمشهور أنه يوحانذ ، وفي الإتقان هي محيانة بنت يصهر بن لاوي ، وقيل : بارخا وقيل : بازخت وما اشتهر من خاصية فتح الأقفال به بعد رياضة مخصوصة له مما لم نجد فيه أثرا ولعله حديث خرافة ، والمراد بما يوحى ما قصه الله تعالى فيما بعد من الأمر بقذفه في التابوت. وقذفه في البحر أبهم أو لا تهويلا له وتفخيما لشأنه ، ثم فسر ليكون أقر عند النفس ، وقيل : معناه ما ينبغي أن يوحي ولا يخل به لعظم شأنه وفرط الاهتمام به كما يقال هذا مما يكتب ، وقيل : لا يعلم إلا بالوحي ، والأول أوفق بكل من المعاني السابقة المرادة بالإيحاء إلا أنه قيل : عليه إنه لو كان المراد منه التفخيم والتهويل لقيل إذ أوحينا إلى أمك ما أوحينا كما قال سبحانه (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] ، وقال تعالى : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) [طه : ٧٨] فإن تم هذا فما قيل في معناه ثانيا أولى فتدبر.

وأن في قوله تعالى (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) مفسرة لأن الوحي من باب القول أو مصدرية حذف عنها الباء أي بأن اقذفيه ، وقال ابن عطية : (أَنِ) وما بعدها في تأويل مصدر بدل من ما ، وتقدم الكلام في وصل أن المصدرية بفعل الأمر ، والمراد بالقذف ها هاهنا الوضع ، وأما في قوله تعالى (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) فالمراد به الإلقاء والطرح ، ويجوز أن يكون المراد به الوضع في الموضعين ، و (الْيَمِ) البحر لا يكسر ولا يجمع جمع سلامة ، وفي البحر هو اسم للبحر

٥٠١

العذب ، وقيل : اسم للنيل خاصة وليس بصحيح ، وهذا التفصيل هنا هو المراد بقوله تعالى (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) [القصص : ٧] لا القذف بلا تابوت (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) أي بشاطئه وهو الجانب الخالي عن الماء مأخوذ من سحل الحديد أي برده وقشره وهو فاعل بمعنى مفعول لأن الماء يسحله أي يقشره أو هو للنسب أي ذو سحل يعود الأمر إلى مسحول ، وقيل : هو على ظاهره على معنى أنه يسحل الماء أي يفرقه ويضيعه ؛ وقيل : هو من السحيل وهو النهيق لأنه يسمع منه صوت ، والمراد به هنا ما يقابل الوسط وهو ما يلي الساحل من البحر حيث يجري ماؤه إلى نهر فوعون.

وقيل : المراد بالساحل الجانب والطرف مطلقا والمراد من الأمر الخبر واختير للمبالغة ، ومن ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قوموا فلأصل لكم» ولا خراج ذلك مخرج الأمر حسن الجواب فيما بعد ، وقال غير واحد : إنه لما كان إلقاء البحر إياه بالساحل أمرا واجب الوقوع لتعلق الإرادة الربانية به جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمر بذلك ، وأخرج الجواب مخرج الأمر ففي اليم استعارة بالكناية وإثبات الأمر تخييل ، وقيل : إن في قوله تعالى (فَلْيُلْقِهِ) استعارة تصريحية تبعية والضمائر كلها لموسى عليه‌السلام إذ هو المحدث عنه والمقذوف في البحر والملقى بالساحل وإن كان هو التابوت أصالة لكن لما كان المقصود بالذات ما فيه جعل التابوت تبعا له في ذلك ، وقيل : الضمير الأول لموسى عليه‌السلام والضميران الأخيران للتابوت ، ومتى كان الضمير صالحا لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد كان عوده على الأقرب راجحا كما نص عليه النحويون ، وبهذا رد على أبي محمد بن حزم في دعواه عود الضمير في قوله تعالى (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) [الأنعام : ١٤٥] على لحم لأنه المحدث عنه لا على خنزير فيحل شحمه وغضروفه وعظمه وجلده عنده لذلك ، والحق أن عدم التفكيك فيما نحن فيه أولى ، وما ذكره النحويون ليس على إطلاقه كما لا يخفى (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) جواب للأمر بالإلقاء وتكرير العدو للمبالغة من حيث إنه يدل على أن عداوته كثيرة لا واحدة ، وقيل : إن الأول للواقع والثاني للمتوقع وليس من التكرير للمبالغة في شيء لأن ذلك فرع جواز أن يقال : عدو لي وله وهو لا يجوز إلا عند القائلين بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وأجيب بأن ذلك جائز وليس فيه الجمع المذكور فإن فرعون وقت الأخذ متصف بالعداوة لله تعالى وله في الواقع أما اتصافه بعداوة الله تعالى فظاهر ؛ وأما اتصافه بعداوة موسى فمن حيث إنه يبغض كل مولود في تلك السنة ، ولو قلنا بعدم الاتصاف بعداوة موسى عليه‌السلام إذ ذاك يجوز أن يقال ذلك أيضا ويعتبر عموم المجاز وهو المخلص عن الجمع بين الحقيقة والمجاز فيما يدعي فيه ذلك.

وقال الخفاجي : إنه لا يلزم الجمع لأن (عَدُوٌّ) صفة مشبهة دالة على الثبوت الشامل للواقع والمتوقع. ولا يخفى أن هذا قول بأن الثبوت في الصفة المشبهة بمعنى الدوام ، وقد قال هو في الكلام على تفسير قوله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) [الإسراء : ٣٧ ، لقمان : ١٨] : إن معنى دلالتها على الثبوت أنها لا تدل على تجدد وحدوث لا أنها تدل على الدوام كما ذكره النحاة ، فما يقال إن (مَرَحاً) صفة مشبهة تدل على الثبوت ونفيه لا يقتضي نفي أصله مغالطة نشأت من عدم فهم معنى الثبوت فيها انتهى ، على أن كلامه هنا بعد الإغماض عن منافاته لما ذكره قبل لا يخلو عن شيء.

ومما ذكره فيما تقدم من تفسير معنى الثبوت يعلم أن الاستدلال بهذه الآية على أن فرعون لم يقبل إيمانه ومات كافرا كما هو الحق ليس بصحيح وكم له من دليل صحيح. والظاهر أنه تعالى أبهم لها هذا العدو ولم يعلمها باسمه وإلا لما قالت لأخته (قُصِّيهِ) [القصص : ١١].

(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) كلمة (من) متعلقة بمحذوف وقع صفة لموصوف مؤكدة لما في تنكيرها

٥٠٢

من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي محبة عظيمة كائنة مني قد زرعتها في القلوب فكل من رآك أحبك بحيث لا يصبر عنك ، قال مقاتل : كان في عينيه ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه ، وقال ابن عطية : جعلت عليه مسحة جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه ، روي أن أمه عليه‌السلام حين أوحي إليها ما أوحي جعلته في تابوت من خشب ، وقيل : من بردى عمله مؤمن آل فرعون وسدت خروقه وفرشت فيه نطعا ، وقيل : قطنا محلوجا وسدت فمه وجصصته وقيرته وألقته في اليم فبينما فرعون في موضع يشرف على النيل وامرأته معه إذ رأى التابوت عند الساحل فأمر به ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجها فأحبه هو وامرأته حبا شديدا.

وقيل : إن التابوت جاء في الماء إلى المشرعة التي كانت جواري امرأة فرعون يستقين منها الماء فأخذن التابوت وجئن به إليها وهن يحسبن أن فيه مالا فلما فتحنه رأته عليه‌السلام فأحبته وأعلمت فرعون وطلبت منه أن يتخذه ولدا ، وقالت : قرة عين لي ولك لا تقتلوه ، فقال لها : يكون لك وأما أنا فلا حاجة لي فيه. ومن هنا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما رواه النسائي وجماعة عن ابن عباس : «والذي يحلف به لو أقر فرعون بأن يكون قرة عين له كما قالت امرأته لهداه الله تعالى به كما هدى به امرأته ولكن الله عزوجل حرمه ذلك» ، وقيل : إن فرعون كان جالسا على رأس بركة له في بستان ومعه امرأته فرأى التابوت وقد دفعه الماء إلى البركة من نهر يشرع من اليم فأمر بإخراجه فأخرج ففتح فإذا صبي أجمل الناس وجها فأحبه حتى لا يكاد يصبر عنه ، وروي أنه كان بحضرته حين رأى التابوت أربعمائة غلام وجارية فحين أشار بأخذه وعد من يسبق إلى ذلك بالإعتاق فتسابقوا جميعا ولم يظفر بأخذه إلا واحد منهم فاعتق الكل ، وفي هذا ما يطمع المقصر في العمل من المؤمنين برحمة الله تعالى فإنه سبحانه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ، وقيل : كلمة من متعلقة بألقيت فالمحبة الملقاة بحسب الذوق هي محبة الله تعالى له أي أحببتك ومن أحبه الله تعالى أحبته القلوب لا محالة ، واعترض القاضي على هذا بأن في الصغر لا يوصف الشخص بمحبة الله تعالى إياه فإنها ترجع إلى إيصال الثواب وهو إنما يكون للمكلف. ورد بأن محبة الله تعالى عند المؤولين عبارة عن إرادة الخير والنفع وهو أعم من أن يكون جزاء على عمل أو لا يكون والرد عند من لا يؤول أظهر ، وجوز بعضهم إرادة المعنى الثاني على القول الأول في التعلق وإرادة المعنى الأول على القول الثاني فيه ، وزعم أن وجه التخصيص غير ظاهر وهو لا يخفى على ذي ذهن مستقيم وذوق سليم.

وقوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) متعلق بألقيت على أنه عطف على علة مضمرة أي ليتعطف عليك ولتصنع أو متعلق بفعل مضمر مؤخر أي ولتصنع إلخ فعلت ذلك أي إلقاء المحبة عليك ، وزعم أنه متعلق بألقيت على أن الواو مقحمة ليس بشيء وعلى عيني أي بمرأى مني متعلق بمحذوف وقع حالا من المستتر في «تصنع» وهو استعارة تمثيلية للحفظ والصون فإن المصون يجعل بمرأى والصنع الإحسان ، قال النحاس : يقال صنعت الفرس إذا أحسنت إليه. والمعنى وليفعل بك الصنيعة والإحسان وتربى بالحنو والشفقة وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به. ويجعل ذلك تمثيلا يندفع ما قاله الواحدي من أن تفسير (عَلى عَيْنِي) بما تقدم صحيح ولكن لا يكون في ذلك تخصيص لموسى عليه‌السلام فإن جميع الأشياء بمرأى من الله تعالى على أنه قد يقال : هذا الاختصاص للتشريف كاختصاص عيسى عليه‌السلام بكلمة الله تعالى والكعبة ببيت الله تعالى مع أن الكل موجود بكن وكل البيوت بيت الله سبحانه ، وقال قتادة : المعنى لتغذى على محبتي وإرادتي وهو اختيار أبي عبيدة. وابن الأنباري وزعم الواحدي أنه الصحيح. وقرأ الحسن وأبو نهيك ولتصنع» بفتح التاء ، قال ثعلب : المعنى لتكون حركتك وتصرفك على عين مني لئلا تخالف أمري.

وقرأ أبو جعفر في رواية «ولتصنع» بكسر اللام وجزم الفعل بها لأنها لام الأمر وأمر المخاطب باللام شاذ لكن لما

٥٠٣

كان الفعل مبنيا للمفعول هنا وكان أصله مسندا للغائب ولا كلام في أمره باللام استصحب ذلك بعد نقله إلى المفعول للاختصار ، والظاهر أن العطف على قوله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) إلا أن فيه عطف الإنشاء على الخبر وفيه كلام مشهور لكن قيل هنا : إنه هون أمره كون الأمر في معنى الخبر.

وقال صاحب اللوامح : إن العطف على قوله تعالى : (فَلْيُلْقِهِ) فلا عطف فيه للإنشاء على الخبر.

وقرأ شيبة وأبو جعفر في رواية أخرى كذلك إلا أنه سكن اللام وهي لام الأمر أيضا وبقية الكلام نحو ما مر. ويحتمل أن تكون لام كي سكنت تخفيفا ولم يظهر فتح العين للإدغام ، قال الخفاجي : وهذا حسن جدا.

(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) ظرف لتصنع كما قال الحوفي وغيره على أن المراد به وقت وقع فيه مشي الأخت وما ترتب عليه من القول والرجع إلى أمها وتربيتها له بالحنو وهو المصداق لقوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) إذ لا شفقة أعظم من شفقة الأم وصنيعها على موجب مراعاته تعالى. وجوز أن يكون ظرفا لألقيت وإن يكون بدلا من (إِذْ أَوْحَيْنا) على أن المراد بها وقت متسع فيتحد الظرفان وتصح البدلية ولا يكون من إبدال أحد المتغايرين الذي لا يقع في فصيح الكلام.

ورجح هذا صاحب الكشف فقال : هو الأوفق لمقام الامتنان لما فيه من تعداد المنة على وجه أبلغ ولما في تخصيص الإلقاء أو التربية بزمان مشي الأخت من العدول إلى الظاهر فقبله كان عليه‌السلام محبوبا محفوظا ، ثم أولى الوجهين جعله ظرفا (لِتُصْنَعَ) ، وأما النصب بإضمار اذكر فضعيف اه. وأنت تعلم أن الظاهر كونه ظرفا لتصنع والتقييد بعلى عيني يسقط التربية قبل في غير حجر الأم عن العين.

واعترض أبو حيان وجه البدلية بأن كلا من الظرفين ضيق ليس بمتسع لتخصيصه بما أضيف إليه وليس ذلك كالسنة في الامتداد وفيه تأمل ، واسم أخته عليه‌السلام مريم ، وقيل : كلثوم وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية ، وكذا يقال في قوله تعالى : (فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) أي يضمه إلى نفسه ويربيه.

(فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ) الفاء فصيحة أي فقالوا : دلينا على ذلك فجاءت بأمك فرجعناك إليها (كَيْتَقَرَّ عَيْنُها) بلقائك. وقرئ «تقرّ» بكسر القاف. وقرأ جناح بن حبيش «تقرّ» بالبناء للمفعول (وَلا تَحْزَنَ) أي لا يطرأ عليها الحزن بفراقك بعد ذلك وإلا فزوال الحزن مقدم على السرور المعبر عنه بقرة العين فإن التخلية مقدمة على التحلية. وقيل : الضمير المستتر في (تَحْزَنَ) لموسى عليه‌السلام أي ولا تحزن أنت بفقد إشفاقها ، وهذا وإن لم يأبه النظم الكريم إلا أن حزن الطفل غير ظاهر ، وما في سورة القصص يقتضي الأول والقرآن يفسر بعضه بعضا.

أخرج جماعة من خبر طويل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آسية حين أخرجت موسى عليه‌السلام من التابوت واستوهبته من فرعون فوهبه لها أرسلت إلى من حولها من كل امرأة لها لبن لتختار لها ظئرا فلم يقبل ثدي واحدة منهن حتى أشفقت أن يمتنع من اللبن فيموت فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق مجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا يأخذ ثديها فلم يفعل وأصبحت أمه وآلهة فقالت لأخته : قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا أحيا ابني أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت الذي كان وعدها الله تعالى فبصرت به عن جنب فقالت من الفرح: أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فأخذوها فقالوا : وما يدريك ما نصحهم له هل يعرفونه؟ وشكوا في ذلك فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه لرغبتهم في رضا الملك والتقرب إليه فتركوها وسألوها الدلالة فانطلقت إلى أمه فأخبرتها

٥٠٤

الخبر فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا وانطلق البشرى إلى امرأة فرعون يبشرونها إنا قد وجدنا لابنك ظئرا فأرسلت إليها فأتيت بها وبه فلما رأت ما يصنع بها قالت لها : امكثي عندي أرضعي ابني هذا فإني لم أحب حبه شيئا قط قالت : لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا فعلت وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي فذكرت أم موسى ما كان الله عزوجل وعدها فتعاسرت على امرأة فرعون لذلك وأيقنت أن الله عزوجل منجز وعده فرجعت بابنها إلى بيتها من يومها فأنبته الله تعالى نباتا حسنا وحفظه لما قد قضى فيه فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأمه : أريني ابني فوعدتها يوما تزورها به فيه فقالت لخزانها وقهارمتها : لا يبق منكم أحد إلا استقبل ابني بهدية وكرامة أرى ذلك فيه وأنا باعثة أمينا يحصي ما صنع كل إنسان منكم فلم تزل الهدايا والنحل والكرامة تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل عليها فلما دخل أكرمته ونحلته وفرحت به ونحلت أمه لحسن أثرها عليه ثم انطلقت به إلى فرعون لينحله وليكرمه فكان ما تقدم من جذب لحيته ، ومن هذا الخبر يعلم أن المراد إذ تمشي أختك في الطريق لطلبك وتحقيق أمرك فتقول : لمن أنت بأيديهم يطلبون لك ظئرا ترضعك هل أدلكم إلخ.

وفي رواية أنه لما أخذ من التابوت فشا الخبر بأن آل فرعون وجدوا غلاما من النيل لا يرتضع ثدي امرأة واضطروا إلى تتبع النساء فخرجت أخته لتعرف خبره فجاءتهم متنكرة فقالت ما قالت وقالوا ما قالوا ، فالمراد على هذا إذ تمشي أختك إلى بيت فرعون فتقول لفرعون وآسية أو لآسية (هَلْ أَدُلُّكُمْ) إلخ.

(وَقَتَلْتَ نَفْساً) هي نفس القبطي واسمه قانون الذي استغاثه عليه الإسرائيلي واسمه موسى بن ظفر وهو السامري ، وكان سنه عليه‌السلام حين قتل على ما في البحر اثنتي عشرة سنة ، وفي الخبر عن الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه‌السلام حين قتل القبطي كان من الرجال وكان قتله إياه بالوكز كما يدل عليه قوله تعالى : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) [القصص : ١٥] وكان المراد وقتلت نفسا فأصابك غم (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) وهو الغم الناشئ من القتل وقد حصل له من وجهين خوف عقاب الله تعالى حيث لم يقع القتل بأمره سبحانه وخوف اقتصاص فرعون وقد نجاه الله تعالى من ذلك بالمغرة حين قال : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) [القصص : ١٦] وبالمهاجرة إلى مدين ، وقيل : هو غم التابوت ، وقيل : غم البحر وكلا القولين ليس بشيء ، والغم في الأصل ستر الشيء ومنه الغمام لستره ضوء الشمس ، ويقال : لما يغم القلب بسبب خوف أو فوات مقصود ، وفرق بينه وبين الهم بأنه من أمر ماض والهم من أمر مستقبل ، وظاهر كلام كثير عدم الفرق وشمول كل ما يكون من أمر ماض وأمر مستقبل (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي ابتليناك ابتلاء على أن (فُتُوناً) مصدر على فعول في المتعدي كالثبور والشكور والكفور ، والأكثر في هذا الوزن أن يكون مصدر اللازم أو فتونا من الابتلاء على أنه جمع فتن كالظنون جمع ظن أو جمع فتنة على ترك الاعتداد بالتاء لأنها في حكم الانفصال كما قالوا في حجوز جمع حجزة (١) وبدور جمع بدرة (٢) ، ونظم الابتلاء في سلك المنن قيل : باعتبار أن المراد ابتليناك واختبرناك بإيقاعك في المحن وتخليصك منها ، وقيل : إن المعنى أوقعناك في المحنة وهو ما يشق على الإنسان ، ونظم ذلك في ذلك السلك باعتبار أنه موجب للثواب فيكون من قبيل النعم وليس بشيء ، وقيل : إن (فَتَنَّاكَ) بمعنى خلصناك من قولهم : فتنت الذهب بالنار إذا خلصته بها من الغش ولا يخفى حسنه ، والمراد سواء اعتبر

__________________

(١) ما يوضع فيه تكة السراويل ونحوها اه منه.

(٢) مقدار من النقد معروف اه منه.

٥٠٥

الفتون مصدرا أو جمعا خلصناك مرة بعد أخرى وهو ظاهر على اعتبار الجمعية ، وأما على اعتبار المصدرية فلاقتضاء السياق ذلك ، وهذا إجمال ما ناله عليه‌السلام في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقة الآلاف والمشي راجلا وفقد الزاد.

وقد روى جماعة أن سعيد بن جبير سأل ابن عباس عن الفتون فقال له : استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها خبرا طويلا فلما أصبح غدا عليه فأخذ ابن عباس يذكر ذلك فذكر قصة فرعون وقتله أولاد بني إسرائيل ثم قصة إلقاء موسى عليه الصلاة والسّلام في اليم والتقاط آل فرعون إياه وامتناعه من الارتضاع من الأجانب وإرجاعه إلى أمه ثم قصة أخذه بلحية فرعون وغضب فرعون من ذلك وإرادته قتله ووضع الجمرة والجوهرة بين يديه وأخذه الجمرة ، ثم قصة قتله القبطي ثم هربه إلى مدين وصيرورته أجيرا لشعيب عليه‌السلام ثم عوده إلى مصر وإخطاء الطريق في الليلة المظلمة وتفرق غنمه فيها وكان رضي الله تعالى عنه عند تمام كل واحدة يقول هذه من الفتون يا ابن جبير ، ولكن قيل : الذي يقتضيه النظم الكريم أن لا يعد إجارة نفسه وما بعدها من تلك الفتون ضرورة أن المراد بها ما وقع قبل وصوله عليه‌السلام إلى مدين بقضية الفاء في قوله تعالى : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) إذ لا ريب في أن الإجارة المذكورة وما بعدها مما وقع بعد الوصول إليهم وقد أشير بذكر لبثه عليه‌السلام فيهم دون وصوله إليهم إلى جميع ما قاساه عليه‌السلام من فنون الفتون في تضاعيف مدة اللبث وهي فيما قيل عشر سنين ، وقال وهب : ثمان وعشرون سنة أقام في عشر منها يرعى غنم شعيب عليه‌السلام مهرا لابنته وفي ثماني عشرة مع زوجته وولد له فيها وهو الأوفق بكونه عليه‌السلام نبئ على رأس الأربعين إذا قلنا بأن سنه عليه‌السلام حين خرج إلى مدين اثنتا عشرة سنة ، ومدين بلدة شعيب عليه‌السلام على ثمان مراحل من مصر.

(ثُمَّ جِئْتَ) أي إلى المكان الذي ناديتك فيه ، وفي كلمة التراخي إيذان بأن مجيئه عليه‌السلام كان بعد اللتيا والتي من ضلال الطريق وتفرق الغنم في الليلة المظلمة الشاتية وغير ذلك (عَلى قَدَرٍ) أي تقدير والمراد به المقدر أي جئت على وفق الوقت الذي قدرته وعينته لتكليمك واستنبائك بلا تقدم ولا تأخر عنه ، وقيل : هو بمعنى المقدار أي جئت على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم‌السلام وهو رأس أربعين سنة.

وضعف بأن المعروف في هذا المعنى القدر بالسكون لا التحريك ، وقيل : المراد على موعد وعدناكه وروي ذلك عن مجاهد وهو يقتضي تقدم الوعد على لسان بعض الأنبياء عليهم‌السلام وهو كما ترى ، وقوله تعالى (يا مُوسى) تشريف له عليه‌السلام وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولا ، وقوله سبحانه (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) تذكير لقوله تعالى (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) [طه : ١٣] وتمهيد لإرساله عليه‌السلام إلى فرعون مؤيدا بأخيه حسبما استدعاه بعد تذكير المنن السابقة تأكيدا لوثوقه عليه‌السلام بحصول نظائرها اللاحقة ، ونظم ذلك الإمام في سلك المنن المحكية وظاهر توسيط النداء يؤيد ما تقدم ، والاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الصنيعة وهي الإحسان فمعنى اصطنعه جعله محل صنيعته وإحسانه ، وقال القفال : يقال اصطنع فلان فلانا إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال : هذا صنيع فلان وخريجه ، ومعنى (لِنَفْسِي) ما روي عن ابن عباس لوحيي ورسالتي ، وقيل : لمحبتي ، وعبر عنها بالنفس لأنها أخص شيء بها ، وقال الزجاج : المراد اخترتك لإقامة حجتي وجعلتك بيني وبين خلقي حتى صرت في التبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتجبت عليهم ، وقال غير واحد من المحققين : هذا تمثيل لما خوله عزوجل من جعله نبيا مكرما كليما منعما عليه بحلائل النعم بتقريب الملك من يراه أهلا لأن يقرب فيصطنعه بالكرامة والأثرة ويجعله من خواص نفسه وندمائه. ولا يخفى حسن هذه الاستعارة وهي أوفق بكلامه تعالى وقوله تعالى (لِنَفْسِي) عليها ظاهر.

٥٠٦

وحاصل المعنى جعلتك من خواصي واصطفيتك برسالتي وبكلامي ، وفي العدول عن نون العظمة الواقعة في قوله سبحانه (وَفَتَنَّاكَ) ونظيريه السابقين تمهيد لإفراد النفس اللائق بالمقام فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص ، وقوله تعالى (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) استئناف مسوق لبيان ما هو المقصود بالاصطناع ، (وَأَخُوكَ) فاعل بفعل مضمر أي وليذهب أخوك حسبما استدعيت ، وقيل : معطوف على الضمير المستتر المؤكد بالضمير البارز ، ورب شيء يصح تبعا ولا يصح استقلالا.

والآيات المعجزات ، والمراد بها في قول اليد والعصا وحل العقدة ، وعن ابن عباس الآيات التسع ، وقيل :

الأولان فقط وإطلاق الجمع على الاثنين شائع ؛ ويؤيد ذلك أن فرعون لما قال له عليه‌السلام : فات بآية ألقى العصا ونزع اليد ، وقال : (فَذانِكَ بُرْهانانِ) [القصص : ٣٢] وقال بعضهم : إنهما وإن كانتا اثنتين لكن في كل منهما آيات شتى كما في قوله تعالى : (آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) [آل عمران : ٩٧] فإن انقلاب العصا حيوانا آية. وكونها ثعبانا عظيما لا يقادر قدره آية أخرى. وسرعة حركته مع عظم جرمه آية أخرى. وكونه مع ذلك مسخرا له عليه‌السلام بحيث يده في فمه فلا يضره آية أخرى ثم انقلابها عصا كما كانت آية أخرى وكذلك اليد البيضاء فإن بياضها في نفسه آية وشعاعها آية ثم رجوعها إلى حالتها الأولى آية أخرى. وقيل : المراد بها ما أعطى عليه‌السلام من معجزة ووحي ، والذي يميل إليه القلب أنها العصا واليد لما سمعت من المؤيد مع ما تقدم من أنه تعالى بعد ما أمره بإلقاء العصا وأخذها بعد انقلابها حية قال سبحانه : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى) [طه : ٢٢] ثم قال سبحانه : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه : ٢٤] من غير تنصيص على غير تلك الآيتين ولا تعرض لوصف حل العقدة ولا غيره بكونه آية ، ثم إن الباء للمصاحبة لا للتعدية إذ المراد ذهابهما إلى فرعون ملتبسين بالآيات متمسكين بها في إجراء أحكام الرسالة وإكمال الدعوة لا مجرد إذهابها وإيصالها إليه وهذا ظاهر في تحقق الآيات إذ ذاك وأكثر التسع لم يتحقق بعد.

(وَلا تَنِيا) من الوني بمعنى الفتور وهو فعل لازم وإذا عدي عدي بفي وبعن ، وزعم بعض البغداديين أنه فعل ناقص من أخوات زال وبمعناها واختاره ابن مالك ، وفي الصحاح فلان لا يني يفعل كذا أي لا يزال يفعل كذا وكان هذا المعنى مأخوذ من نفي الفتور ، وقرأ ابن وثاب «ولا تنيا» بكسر التاء اتباعا لحركة النون. وفي مصحف عبد الله «لا تهنا» وحاصله أيضا لا تفترا (فِي ذِكْرِي) بما يليق بي من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة عند تبليغ رسالتي والدعاء إلى عبادتي ، وقيل : المعنى لا تنيا في تبليغ رسالتي فإن الذكر يقع مجازا على جميع العبادات وهو من أجلها وأعظمها. وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقيل : لا تنسياني حيثما تقلبتما واستمدا به العون والتأييد واعلما أن أمرا من الأمور لا يتأتى ولا يتسنى إلا بذكري.

وجمع هارون مع موسى عليه‌السلام في صيغة نهي الحاضر بناء على القول بغيبته إذ ذاك للتغليب ولا بعد في ذلك كما لا يخفى ، وكذا جمعه في صيغة أمر الحاضر بناء على ذلك أيضا في قوله تعالى (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) وروي أنه أوحي إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى عليهما‌السلام ، وقيل : ألهم ذلك ، وقيل : سمع بإقباله فتلقاه ، ويحتمل أنه ذهب إلى الطور واجتمعا هناك فخوطبا معا ، ويحتمل أن هذا الأمر بعد إقبال موسى عليه‌السلام من الطور إلى مصر واجتماعه بهارون عليه‌السلام مقبلا إليه من مصر ، وفرق بعضهم بين هذا ، وقوله تعالى (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) بأنه لم يبين هناك من يذهب إليه وبين هنا ، وبعض آخر بأنه أمرا هنا بالذهاب إلى فرعون وكان الأمر هناك بالذهاب إلى عموم أهل الدعوة ، وبعض آخر بأنه لم يخاطب هارون هناك وخوطب هنا ، وبعض آخر بأن الأمر هناك

٥٠٧

بذهاب كل منهما على الانفراد نصا أو احتمالا والأمر هنا بالذهاب على الاجتماع نصا ، ولا يخفى ما في بعض هذه الفروق من النظر ، والفرق ظاهر بين هذا الأمر والأمر في قوله تعالى أولا خطابا لموسى عليه‌السلام (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) قرأ أبو معاذ (لَيِّناً) بالتخفيف ، والفاء لترتيب ما بعدها على طغيانه فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة ويلين قسوة الطغاة ، ويعلم من ذلك أن الأمر بإلانة القول ليس لحق التربية كما قيل ، والمعنى كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا تعنفاه في قولكما وارفقا به في الدعاء ويتحقق ذلك بعبارات شتى منها ما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا وهو (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) إلخ ومنها ما في النازعات وهو (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) [النازعات : ٨ ، ١٩] وهذا ظاهر غاية الظهر وفي الرفق في الدعاء فإنه في صورة العرض والمشورة ، وقيل : كنياه ، واستدل به على جواز تكنية الكافر ، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا وسفيان الثوري ، وله كنى أربع أبو الوليد وأبو مصعب وأبو العباس وأبو مرة ، وقيل : عداه شبابا لا يهرم بعده وملكا لا ينزع منه إلا بالموت وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته ، وعن الحسن قولا له : إن لك ربا وإن لك معادا وإن بين يديك جنة ونارا فآمن بالله تعالى يدخلك الجنة ويقك عذاب النار ، وقيل : أمرهما سبحانه بأن يقدما له الوعد على الوعيد من غير تعيين قول كما قيل :

أقدم بالوعد قبل الوعيد

لينهى القبائل جهالها

وروي عن عكرمة أن القول اللين لا إله إلا الله ولينه خفته على اللسان ، وهذا أبعد الأقوال وأقربها الأول ، وكان الفضل بن عيسى الرقاشي إذا تلا هذه الآية قال : يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه ؛ وقرأت عند يحيى بن معاذ فبكى وقال : إلهي هذا رفقك بمن يقول أنا الإله فكيف رفقك بمن يقول أنت الله؟ وفيها دليل على استحباب إلانة القول للظالم عند وعظه (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ) ويتأمل فيبذل النصفة من نفسه والإذعان للحق فيدعوه ذلك إلى الإيمان (أَوْ يَخْشى) أن يكون الأمر كما تصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة وذلك يدعوه إلى الإيمان أيضا إلا أن الأول للراسخين ولذا قدم ، وقيل : يتذكر حاله حين احتبس النيل فسار إلى شاطئه وأبعد وخر لله تعالى ساجدا راغبا أن لا يخجله ثم ركب فأخذ النيل يتبع حافر فرسه فيستدل بذلك على عظيم حلم الله تعالى وكرمه أو يخشى ويحذر من بطش الله تعالى وعذابه سبحانه ، والمعول على ما تقدم.

ولعل للترجي وهو راجع للمخاطبين ، والجملة محل النصب حال من ضمير هما في (قَوْلاً) أي فقولا له قولا لينا راجيين أن يتذكر أو يخشى ، وكلمة أو لمنع الخلو.

وحاصل الكلام باشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه فهو يجتهد بطوعه ويحتشد بأقصى وسعه ، وقيل : حال من ضمير هما في (اذْهَبا) والأول أولى ، وقيل : لعل هنا للاستفهام أي هل يتذكر أو يخشى. وأخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قيل : وهو القول اللين ، وأخرج ذلك مخرج قولك : قل لزيد هل يقوم.

وقال الفراء : هي هنا بمعنى كي التعليلية وهي أحد معانيها كما ذهب إليه جماعة منهم الأخفش. والكسائي بل حكى البغوي عن الواقدي أن جميع ما في القرآن من لعل فإنها للتعليل إلا قوله تعالى «لعلكم تخلدون» فإنها للتشبيه كما في صحيح البخاري وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك قال : لعل في القرآن بمعنى كي غير آية في [الشعراء : ١٢٩] (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) فإن المعنى كأنكم تخلدون ، وأخرج عن قتادة أنه قال : قرئ كذلك ، ولا يخفى أن كونها للتشبيه غريب لم يذكره النحاة ، وحملها على الاستفهام هنا بعيد ، ولعل التعليل أسبق إلى كثير من

٥٠٨

الأذهان من الترجي لكن الصحيح كما في البحر أنها للترجي وهو المشهور من معانيها ، وقيل : إن الترجي مجاز عن مطلق الطلب وهو راجع إليه عزوجل ، والذي لا يصح منه سبحانه هو الترجي حقيقة ، والمحققون على الأول ، والفائدة في إرسالهما عليهما‌السلام إليه مع العلم بأنه لا يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة.

وزعم الإمام أنه لا يعلم سر الإرسال إليه مع علمه تعالى بامتناع حصول الإيمان منه إلا الله عزوجل ولا سبيل في أمثال هذا المقام لغير التسليم وترك الاعتراض.

واستدل بعض المتبعين لمن قال بنجاة فرعون بهذه الآية فقال : إن لعل كذا من الله تعالى واجب الوقوع فتدل الآية على أن أحد الأمرين التذكر والخشية واقع وهو مدار النجاة ، وقد تقدم لك ما يعلم منه فساد هذا الاستدلال ، ولا حاجة بنا إلى ما قيل من أنه تذكر وخشي لكن حيث لم ينفعه ذلك وهو حين الغرق بل لا يصح حمل التذكر والخشية هنا على ما يشمل التذكر والخشية اللذين زعم القائل حصولهما لفرعون فتذكر.

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً)(٥٨)

(قالا) استئناف بياني كأنه قيل : فما ذا قالا حين أمرا بما أمرا؟ فقيل (قالا) إلخ ، وأسند القول إليهما مع أن القائل هو موسى عليه‌السلام على القول بغيبة هارون عليه‌السلام للتغليب كما مر.

ويجوز أن يكون هارون عليه الإسلام قد قال ذلك بعد اجتماعه مع موسى عليه‌السلام فحكى قوله مع قول موسى عند نزول الآية كما في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) [المؤمنون : ٥١] فإن هذا الخطاب قد حكي لنا بصيغة الجمع مع أن كلا من المخاطبين لم يخاطب إلا بطريق الانفراد ، وجوز كونهما مجتمعين عند الطور وقالا جميعا (رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أي أن يعجل علينا بالعقوبة ولا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار المعجزة من فرط إذا تقدم ، ومنه الفارط المتقدم المورد والمنزل ، وفرس فارط يسبق الخيل ، وفاعل (يَفْرُطَ) على هذا فرعون ، وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون التقدير أن يفرط علينا منه قول فأضمر القول كما تقول فرط مني قول وهو خلاف الظاهر.

وقرأ يحيى وأبو نوفل وابن محيصن في رواية «يفرط» بضم الياء وفتح الراء من أفرطته إذا حملته على العجلة أي

٥٠٩

نخاف أن يحمله حامل من الاستكبار أو الخوف على الملك أو غيرهما على المعاجلة بالعقاب. وقرأت فرقة والزعفراني عن ابن محيصن «يفرط» بضم الياء وكسر الراء من الإفراط في الأذية. واستشكل هذا القول مع قوله تعالى : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) [القصص : ٣٥] فإنه مذكور قبل قولهما هذا بدلالة «سنشد» وقد دل على أنهما محفوظان من عقوبته وأذاه فكيف يخافان من ذلك. وأجيب : بأنه لا يتعين أن يكون المعنى لا يصلون بالعقوبة لجواز أن يراد لا يصلون إلى إلزامكما بالحجة مع أن التقدم غير معلوم ولو قدم في الحكاية لا سيما والواو لا تدل على ترتيب ، والتفسير المذكور مأثور عن كثير من السلف منهم ابن عباس ومجاهد وهو الذي يقتضيه الظاهر ، وزعم الإمام أنهما قد أمنا وقوع ما يقطعهما عن الأداء بالدليل العقلي إلا أنهما طلبا بما ذكر ما يزيد في ثبات قلوبهما بأن ينضاف الدليل النقلي إلى الدليل العقلي وذلك نظير ما وقع لإبراهيم عليه‌السلام من قوله : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠] ولا يخفى أن في دعوى علمهما بالدليل العقلي عدم وقوع ما يقطعهما عن الأداء عبثا. واستشكل أيضا حصول الخوف لموسى عليه‌السلام بأنه يمنع عن حصول شرح الصدر له الدال على تحققه قوله تعالى بعد سؤاله إياه (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [طه : ٣٦]. وأجاب الإمام بأن شرح الصدر عبارة عن قوته على ضبط تلك الأوامر والنواهي وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق إليها السهو والتحريف وذلك شيء آخر غير زوال الخوف. وأنت تعلم أن كثيرا من المفسرين ذهبوا إلى أن شرح الصدر هنا عبارة عن توسيعه وهو عبارة عن عدم الضجر والقلق القلبي مما يرد من المشاق في طريق التبليغ وتلقي ذلك بجميل الصبر وحسن الثبات.

وأجيب على هذا بأنه لا منافاة بين الخوف من شيء والصبر عليه وعدم الضجر منه إذا وقع ألا ترى كثيرا من الكاملين يخافون من البلاء ويسألون الله تعالى الحفظ منه وإذا نزل بهم استقبلوه بصدر واسع وصبروا عليه ولم يضجروا منه. وقيل : إنهما عليهما‌السلام لم يخافا من العقوبة إلا لقطعها الأداء المرجو به الهداية فخوفهما في الحقيقة ليس إلا من القطع وعدم إتمام التبليغ ولم يسأل موسى عليه‌السلام شرح الصدر لتحمل ذلك. واستشكل بأن موسى عليه‌السلام كان قد سأل وأوتي تيسير أمره بتوفيق الأسباب ورفع الموانع فكيف يخاف قطع الأداء بالعقوبة. وأجيب : بأن هذا تنصيص على طلب رفع المانع الخاص بعد طلب رفع المانع العام وطلب للتنصيص على رفعه لمزيد الاهتمام بذلك. وقيل : إن في الآية تغليبا منه لأخيه هارون على نفسه عليهما‌السلام ولم يتقدم ما يدل على أمنه عليه فتأمل ، واستشكل أيضا عدم الذهاب والتعلل بالخوف مع تكرر الأمر بأنه يدل على المعصية وهي غير جائزة على الأنبياء عليهم‌السلام على الصحيح.

وأجاب الإمام بأن الدلالة مسلمة لو دل الأمر على الفور وليس فليس ، ثم قال : وهذا من أقوى الدلائل على أن الأمر لا يقتضي الفور إذا ضممت إليه ما يدل على أن المعصية غير جائزة على الأنبياء عليهم‌السلام ، و (أَوْ) في قوله تعالى (أَوْ أَنْ يَطْغى) لمنع الخلو ، والمراد أو أن يزداد طغيانا إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لكمال جراءته وقساوته وإطلاقه من حسن الأدب ، وفيه استنزال لرحمته تعالى وإظهار كلمة أن مع سداد المعنى بدونه لإظهار كمال الاعتناء بالأمر والإشعار بتحقق الخوف من كل من المتعاطفين.

(قالَ) استئناف كما مر ، ولعل إسناد الفعل إلى ضمير الغيبة كما قيل للإشعار بانتقال الكلام من مساق إلى مساق آخر فإن ما قبله من الأفعال الواردة على صيغة التكلم حكاية لموسى عليه‌السلام بخلاف ما سيأتي إن شاء الله تعالى (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) [طه : ٦٨] فإن ما قبله أيضا وارد بطريق الحكاية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قيل : فما ذا قال لهما ربهما عند تضرعهما إليه سبحانه؟ فقيل : قال أي لهما (لا تَخافا) مما ذكرتما.

٥١٠

وقوله تعالى : (إِنَّنِي مَعَكُما) تعليل لموجب النهي ومزيد تسلية لهما ، والمراد بمعيته سبحانه كمال الحفظ والنصرة كما يقال : الله تعالى معك على سبيل الدعاء وأكد ذلك بقوله تعالى : (أَسْمَعُ وَأَرى) وهو بتقدير المفعول أي ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل فافعل في كل حال ما يليق بها من دفع شر وجلب خير.

وقال القفال : يحتمل أن يكون هذا في مقابلة القول السابق ويكونان قد عنيا أننا نخاف أن يفرط علينا بأن لا يسمع منا أو أن يطغى بأن يقتلنا فأجابهم سبحانه بقوله : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ) أي كلامكما فاسخره للاستماع (وَأَرى) أفعاله فلا أتركه يفعل بكما ما تكرهانه فقدر المفعول أيضا لكنه كما ترى ، وقال الزمخشري: جائز أن لا يقدر شيء ، وكأنه قيل : أنا حافظ لكما وناصر سامع مبصر وإذا كان الحافظ والناصر كذلك تم الحفظ ، وهو يدل على انه لا نظر إلى المفعول وقد نزل الفعل المتعدي منزلة اللازم لأنه أريد تتميم ما يستقل به الحفظ والنصرة وليس من باب قول المتنبي :

شجو حساده وغيظ عداه

أن يرى مبصر ويسمع واع

على ما زعم الطيبي ، واستدل بالآية على أن السمع والبصر صفتان زائدتان على العلم بناء على أن قوله تعالى (إِنَّنِي مَعَكُما) دال على العلم ولو دل (أَسْمَعُ وَأَرى) عليه لزم التكرار وهو حلاف الأصل.

(فَأْتِياهُ) أمر بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعد ما أمرا بالذهاب إليه فلا تكرار وهو عطف على (لا تَخافا) باعتبار تعليله بما بعده (فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) أمرا بذلك تحقيقا للحق من أول الأمر ليعرف الطاغية شأنهما ويبني جوابه عليه ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره من اللطف ما لا يخفى وإن رأى اللعين أن في ذلك تحقيرا له حيث إنه يدعي الربوبية لنفسه ولا يعد ذلك من الإغلاظ في القول ، وكذا قوله تعالى (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) إلى آخره خلافا للإمام ، والفاء في (فَأَرْسِلْ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن كونهما عليهما‌السلام رسولي ربه تعالى مما يوجب إرسالهم معهما والمراد بالإرسال إطلاقهم من الأسر وإخراجهم من تحت يده العادية لا تكليفهم أن يذهبوا معهما إلى الشام كما ينبئ عنه قوله سبحانه (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) أي بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب فإنهم كانوا تحت ملكة القبط يستخدمونهم في الأعمال الشاقة كالحفر والبناء ونقل الأحجار وكانوا يقتلون أبناءهم عاما دون عام ويستخدمون نساءهم ولعلهما إنما بدأ بطلب إرسال بني إسرائيل دون دعوة الطاغية وقومه إلى الإيمان للتدريج في الدعوة فإن إطلاق الأسرى دون تبديل الاعتقاد ، وقيل : لأن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان. وهذا بعد تسليمه مبني على أن بني إسرائيل كانوا مؤمنين بموسى عليه‌السلام في الباطن أو كانوا مؤمنين بغيره من الأنبياء عليهم‌السلام ولا بد لذلك من دليل ، وقيل : إنما بدأ بطلب إرسالهم لما فيه من إزالة المانع عن دعوتهم واتباعهم وهي أهم من دعوة القبط.

وتعقب بأن السياق هنا لدعوة فرعون ودفع طغيانه فهي الأهم دون دعوة بني إسرائيل ، وقيل : إنه أول ما طلبا منه الإيمان كما ينبئ عن ذلك آية النازعات إلا أنه لم يصرح به هنا اكتفاء بما هناك كما أنه لم يصرح هناك بهذا الطلب اكتفاء بما هنا ، وقوله تعالى : (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) استئناف بياني وفيه تقرير لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة وتعليل لوجوب الإرسال فإن مجيئهما بآية من جهته تعالى مما يحقق رسالتهما ويقررها ويوجب الامتثال بأمرهما ، وإظهار اسم الرب في موضع الإضمار مع الإضافة إلى ضمير المخاطب لتأكيد ما ذكر من التقرير والتعليل ، وجيء بقد للتحقيق والتأكيد أيضا ، وتكلف لإفادتها التوقع وتوحيد الآية مع تعددها لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها

٥١١

لا بيان تعدد الحجة فكأنه قيل : قد جئناك بما يثبت مدعانا ، وقيل : المراد بالآية اليد ، وقيل : العصا والقولان كما ترى.

(وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) أي السلامة من العذاب في الدارين لمن اتبع ذلك بتصديق آيات الله تعالى الهادية إلى الحق ، فالسلام مصدر بمعنى السلامة كالرضاع والرضاعة ، وعلى بمعنى اللام كما ورد عكسه في قوله تعالى (لَهُمُ اللَّعْنَةُ) [الرعد : ٢٥] وحروف الجر كثيرا ما تتقارض ، وقد حسن ذلك هنا المشاكلة حيث جيء بعلى في قوله تعالى (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا) من جهة ربنا (أَنَّ الْعَذابَ) الدنيوي والأخروي (عَلى مَنْ كَذَّبَ) بآياته عزوجل (وَتَوَلَّى) أي أعرض عن قبولها ، وقال الزمخشري : أي وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين وتوبيخ خزنة النار والعذاب على المكذبين. وتحقيقه على ما قيل إنه جعل السّلام تحية خزنة الجنة للمهتدين المتضمنة لوعدهم بالجنة. وفيه تعريض لغيرهم بتوبيخ خزنة النار المتضمن لوعيدهم بعذابها لأن المقام للترغيب فيما هو حسن العاقبة وهو تصديق الرسل عليهم‌السلام والتنفير عن خلافه فلو جعل السّلام بمعنى السلامة لم يفد أن ذلك في العاقبة. فما قيل : إنه لا إشعار في اللفظ بهذا التخصيص غير مسلم ، والقول بأنه ليس بتحية حيث لم يكن في ابتداء اللقاء يرده أنه لم يجعل تحية الأخوين عليهما‌السلام بل تحية الملائكة عليهم‌السلام ، وأنت تعلم أن هذا التفسير خلاف الظاهر جدا وإنكار ذلك مكابرة.

وفي البحر هو تفسير غريب وأنه إذا أريد من العذاب في الدارين ، ومن السّلام السلامة من ذلك العذاب حصل الترغيب في التصديق والتنفير عن خلافه على أتم وجه ، وقال أبو حيان : الظاهر أن قوله تعالى (وَالسَّلامُ) إلخ فصل للكلام والسّلام فيه بمعنى التحية ، وجاء ذلك على ما هو العادة من التسليم عند الفراغ من القول إلا أنهما عليهما‌السلام رغبا بذلك عن فرعون وخصا به متبعي الهدى ترغيبا له بالانتظام في سلكهم ، واستدل به على منع السّلام على الكفار وإذا احتيج إليه في خطاب أو كتاب جيء بهذه الصيغة.

وفي الصحيحين «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى هرقل من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى» ، وأخرج عبد الرزاق في المصنف. والبيهقي في الشعب عن قتادة قال : التسليم على أهل الكتاب إذا دخلت عليهم بيوتهم أن تقول : السّلام على من اتبع الهدى ، ولا يخفى أن الاستظهار المذكور غير بعيد لو كان كلامهما عليهما‌السلام قد انقطع بهذا السّلام لكنه لم ينقطع به بل قالا بعده (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا) إلخ ، وكأن هذه الجملة على جميع التفاسير استئناف للتعليل ، وقد يستدل به على صحة القول بالمفهوم فتأمل ، والظاهر أن كلتا الجملتين من جملة المقول الملقن.

وزعم بعضهم أن المقول الملقن قد تم عند قوله تعالى (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) وما بعد كلام من قبلهما عليهما‌السلام أتيا به للوعد والوعيد. واستدل المرجئة بقوله سبحانه (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ) إلخ على أن غير الكفرة لا يعذبون أصلا. وأجيب بأنه إنما يتم إذا كان تعريف العذاب للجنس أو الاستغراق ، أما إذا كان للعهد أي العذاب الناشئ عن شدة الغضب أو الدائم مثلا فلا ، وكذا إذا أريد الجنس أو الاستغراق الادعائي مبالغة وجعل العذاب المتناهي الذي يعقبه السلامة الغير المتناهية كلا عذاب لم يلزم أن لا يعذب المؤمن المقصر في العمل أصلا.

(قالَ) أي فرعون بعد ما أتياه وبلغاه ما أمرا به ، وإنما طوى ذكر ذلك للإيجاز والإشعار بأنهما كما أمرا بذلك سارعا إلى الامتثال به من غير ريث وبأن ذلك من الظهور بحيث لا حاجة إلى التصريح به ، وجاء عن ابن عباس أنهما لما أمرا بإتيانه وقول ما ذكر له جاءا جميعا إلى بابه فأقاما حينا لا يؤذن لهما ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فدخلا وكان ما قص الله تعالى.

٥١٢

وأخرج أحمد وغيره عن وهب بن منبه أن الله تعالى لما أمر موسى عليه‌السلام بما أمر أقبل إلى فرعون في مدينة قد جعل حولها الأسد في غيضة قد غرسها والأسد فيها مع ساستها إذا أشلتها على أحد أكل وللمدينة أربعة أبواب في الغيضة فأقبل موسى عليه‌السلام من الطريق الأعظم الذي يراه فرعون فلما رأته الأسد صاحت صياح الثعالب فأنكر ذلك الساسة وفرقوا من فرعون فأقبل حتى انتهى إلى الباب فقرعه بعصاه وعليه جبة صوف وسراويل فلما رآه البواب عجب من جرأته فتركه ولم يأذن له فقال : هل تدري باب من أنت تضرب إنما أنت تضرب باب سيدك؟ قال : أنت وأنا وفرعون عبيد لربي فأنا ناصره فأخبر البواب الذي يليه من البوابين حتى بلغ ذلك أدناهم ودونه سبعون حاجبا كل حاجب منهم تحت يده من الجنود ما شاء الله تعالى حتى خلص الخبر إلى فرعون فقال : أدخلوه علي فلما أتاه قال له فرعون : أعرفك؟ قال : نعم قال : ألم نربك فينا وليدا فرد إليه موسى عليه‌السلام الذي رد قال فرعون. خذوه فبادر عليه‌السلام فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين فحملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا وقام فرعون منهزما حتى دخل البيت فقال : يا موسى اجعل بيننا وبينك أجلا ننظر فيه قال موسى : لم أومر بذلك إنما أمرت بمناجزتك وإن أنت لم تخرج إلي دخلت عليك فأوحى الله تعالى إليه أن اجعل بينك وبينه أجلا وقل له أنت اجعل ذلك فقال فرعون : اجعله إلى أربعين يوما ففعل وكان لا يأتي الخلاء إلا في كل أربعين يوما مرة فاختلف ذلك اليوم أربعين مرة وخرج موسى عليه‌السلام من المدينة فلما مر بالأسد خضعت له بأذنابها وسارت معه تشيعه ولا تهيجه ولا أحدا من بني إسرائيل ، والظاهر أن هارون كان معه حين الإتيان ، ولعله إنما لم يذكر في هذا الخبر اكتفاء بموسى عليه‌السلام ، وقيل : إنهما حين عرضا عليهما‌السلام على فرعون ما عرضا شاور آسية فقالت : ما ينبغي لأحد أن يرد ما دعيا إليه فشاور هامان وكان لا يبت أمرا دون رأيه فقال له : كنت أعتقد أنك ذو عقل تكون مالكا فتصير مملوكا وربا فتصير مربوبا فامتنع من قبول ما عرض عليه موسى عليه‌السلام ، وظاهر هذا أن المشاورة قبل المقاولة ، ويحتمل أنها بعدها والأولى في أمثال هذه القصص الاكتفاء بما في المنزل وعدم الالتفات إلى غيره إلا أن يوثق بصحته أو لا يكون في المنزل ما يعكر عليه كالخبر السابق فإن كون فرعون جعل الأجل يعكر عليه ما سيأتي إن شاء الله تعالى من قول موسى عليه‌السلام حين طلب منه فرعون أن يجعل موعدا موعدكم يوم الزينة ، والظاهر عدم تعدد الحادثة والجملة استئناف بياني كأنه قيل فما ذا قال حين أتياه وقالا له ما قالا؟ فقيل : قال (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) لم يضف الرب إلى نفسه ولو بطريق حكاية ما في قوله تعالى (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) وقوله سبحانه (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) لغاية عتوه ونهاية طغيانه بل إضافة إليهما لما أن المرسل لا بد أن يكون ربا للرسول ، وقيل : لأنهما قد صرحا بربوبيته تعالى للكل بأن قالا : إنا رسول رب العالمين كما وقع في سورة الشعراء والاقتصار هاهنا على ذكر ربوبيته تعالى لفرعون لكفايته فيما هو المقصود ، والفاء لترتيب السؤال على ما سبق من كونهما رسولي ربهما أي إذا كنتما رسولي ربكما الذي أرسلكما فأخبرا من ربكما الذي أرسلكما ، وتخصيص النداء بموسى عليه‌السلام مع توجيه الخطاب إليهما لما ظهر له من أنه الأصل في الرسالة وهارون وزيره ، ويحتمل أن يكون للتعريض بأنه ربه كما قال : ألم نربك فينا وليدا ، قيل : وهذا أوفق بتلبيسه على الأسلوب الأحمق ، وقيل : لأنه قد عرف أن له عليه‌السلام رتة فأراد أن يسكته. وهو مبني على ما عليه كثير من المفسرين من بقاء رتة في لسانه عليه‌السلام في الجملة وقد تقدم الكلام في ذلك.

(قالَ) أي موسى عليه‌السلام واستبد بالجواب من حيث إنه خص بالسؤال (رَبُّنَا) مبتدأ وقوله تعالى : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) خبره ، وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف أي هو ربنا والموصول صفته ، والظاهر أنه عليه‌السلام أراد بضمير المتكلم نفسه وأخاه عليهما‌السلام.

وقال بعض المحققين : أراد جميع المخلوقات تحقيقا للحق وردا على اللعين كما يفصح عنه ما في حيز الصلة

٥١٣

و (كُلَّ شَيْءٍ) مفعول أول لأعطى و (خَلْقَهُ) مفعوله الثاني وهو مصدر بمعنى اسم المفعول والضمير المجرور لشيء والعموم المستفاد من (كُلَ) يعتبر بعد إرجاعه إليه لئلا يرد الاعتراض المشهور في مثل هذا التركيب ، والظاهر أنه عموم الأفراد أي أعطى كل شيء من الأشياء الأمر الذي طلبه بلسان استعداده من الصورة والشكل والمنفعة والمضرة وغير ذلك أو الأمر اللائق بما نيط به من الخواص والمنافع المطابق له كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الأبصار والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه ، وقيل : الخلق باق على مصدريته بمعنى الإيجاد أي أعطى كل شيء الإيجاد الذي استعد له أو اللائق به بمعنى أنه تعالى أوجد كل شيء حسب استعداده أو على الوجه اللائق به وهو كما ترى.

وحمل بعضهم العموم على عموم الأنواع دون عموم الأفراد ، وقيل : إن ذلك لئلا يلزم الخلف ويرد النقض بأن بعض الأفراد لم يكمل لعارض يعرض له ، والحق أن الله تعالى راعي الحكمة فيما خلق وأمر تفضلا ورحمة لا وجوبا وهذا مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة كما نقل صاحب المواقف وعيون الجواهر فكل شيء كامل في مرتبته حسن في حد ذاته فقد قال تعالى العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء (خَلْقَهُ) وجعل العموم في هذا عموم الأنواع مما لا يكاد يقول به أحد ، وقال سبحانه : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] أي من حيث إضافته إلى الرحمن وخلقه إياه على طبق الحكمة بمقتضى الجود والرحمة ، والتفاوت بين الأشياء إنما هو إذا أضيف بعضها إلى بعض فالعدول عما هو الظاهر من عموم الأفراد إلى عموم الأنواع لما ذكر ناشئ من قلة التحقيق ، وقيل : إن سبب العدول كون (أَعْطى) حقيقة في الماضي فلو حمل كل شيء على عموم الأفراد يلزم أن يكون جميعها قد وجد وأعطى مع أن منها بل أكثرها لم يوجد ولم يعط بعد بخلاف ما إذا حمل على عموم الأنواع فإنه لا محذور فيه إذ الأنواع جميعها قد وجد ولا يتجدد بعد ذلك نوع وإن كان ذلك ممكنا وفيه بحث ظاهر فليفهم.

وروي عن ابن عباس وابن جبير والسدي أن المعنى أعطى كل حيوان ذكر نظيره في الخلق والصورة أنثى وكأنهم جعلوا كلا للتكثير وإلا فالعموم مطلقا باطل كما لا يخفى ، وعندي أن هذا المعنى من فروع المعنى السابق الذي ذكرناه ، ولعل مراد من قاله التمثيل وإلا فهو بعيد جدا ولا يكاد يقوله من نسب إليه.

وقيل : (خَلْقَهُ) هو المفعول الأول والمصدر بمعنى اسم المفعول أيضا ، والضمير المجرور للموصول و (كُلَّ شَيْءٍ) هو المفعول الثاني والمعنى أعطى مخلوقاته سبحانه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به ، وقدم المفعول الثاني للاهتمام به من حيث إن المقصود الامتنان به ونسب هذا القول إلى الجبائي ، والأول أظهر لفظا ومعنى.

وقرأ عبد الله. وأناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو نهيك وابن أبي إسحاق والأعمش والحسن ونصير عن الكسائي وابن نوح عن قتيبة وسلام «خلقه» على صيغة الماضي المعلوم على أن الجملة صفة للمضاف إليه أو المضاف على شذوذ ، وحذف المفعول الثاني اختصارا لدلالة قرينة الحال عليه أي أعطى كل شيء خلقه تعالى ما يصلحه أو ما يحتاج إليه وجعل ذلك الزمخشري من باب يعطي ويمنع أي كل شيء خلقه سبحانه لم يخله من عطائه وإنعامه ، ورجحه في الكشف بأنه أبلغ وأظهر ، وقيل : الأول أحسن صناعة وموافقة للمقام وهو عندي أوفق بالمعنى الأول للقراءة الأولى وفيما ذكره في الكشف تردد.

(ثُمَّ هَدى) أي أرشد ودل سبحانه بذلك على وجوده فإن من نظر في هذه المحدثات وما تضمنته من دقائق الحكمة علم أن لها صانعا واجب الوجود عظيم العطاء والجود ، ومحصل الآية ربنا الذي خلق كل شيء حسب استعداده أو على الوجه اللائق به وجعله دليلا عليه جل جلاله ، وهذا الجعل وإن كان متأخرا بالذات عن الخلق وليس بينهما تراخ في الزمان أصلا لكنه جيء بكلمة ثم للتراخي بحسب الرتبة كما لا يخفى وجهه على المتأمل ، وفي إرشاد

٥١٤

العقل السليم (ثُمَّ هَدى) إلى طريق الانتفاع والارتفاق بما أعطاه وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه وكماله إما اختيارا كما في الحيوانات أو طبعا كما في الجمادات والقوى الطبيعية النباتية والحيوانية.

ولما كان الخلق الذي هو تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام متقدما على الهداية التي هي عبارة عن إبداع القوى المحركة والمدركة في تلك الأجساد وسط بينهما كلمة التراخي انتهى ، ولا يخفى عليك أن الخلق لغة أعم مما ذكره وأن القوى المحركة والمدركة داخلة في عموم (كُلَّ شَيْءٍ) سواء كان عموم الأفراد أو عموم الأنواع وأنه لا بد من ارتكاب نوع من المجاز في (هَدى) على تفسيره ، وقيل : على التفسير المروي عن ابن عباس ومن معه ثم هداه إلى الاجتماع بإلفه والمناكحة ، وقيل غير ذلك ، ولله تعالى در هذا الجواب ما أخضره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الانصاف وكان طالبا للحق ، ومن هنا قيل : كان من الظاهر أن يقول عليه‌السلام : ربنا رب العالمين لكن سلك طريق الإرشاد والأسلوب الحكيم وأشار إلى حدوث الموجودات بأسرها واحتياجها إليه سبحانه واختلاف مراتبها وأنه تعالى هو القادر الحكيم الغني المنعم على الإطلاق.

واستدل بالآية على أن فرعون كان عارفا بالله تعالى إلا أنه كان معاندا لأن جملة الصلة لا بد أن تكون معلومة ومتى كانت هذه الجملة معلومة له كان عارفا به سبحانه ، وهذا مذهب البعض فيه عليه اللعنة ، واستدلوا له أيضا بقوله تعالى : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الإسراء : ١٠٢] وقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤] وقوله تعالى في سورة [القصص : ٣٩] (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) فإنه ليس فيه إلا إنكار المعاد دون المبدأ وقوله تعالى في الشعراء : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٢٣ ـ ٢٧] إلى قوله سبحانه (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) فإنه عنى به أني أطلب منه شرح الماهية وهو يشرح الوجود فدل على أنه معترف بأصل الوجود وبأن ملكه لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام ألا ترى أن موسى عليه‌السلام لما هرب إلى مدين قال له شعيب : (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص : ٢٥] فكيف يعتقد أنه إله العالم وبأنه كان عاقلا ضرورة أنه كان مكلفا وكل عاقل يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم ، ومن كان كذلك افتقر إلى مدبر فيكون قائلا بالمدبر وبأنه سأل هاهنا بمن طالبا للكيفية ، وفي الشعراء بما طالبا للماهية.

والظاهر أن السؤال بمن سابق فكأن موسى عليه‌السلام لما أقام الدلالة على الوجود ترك المنازعة معه في هذا المقام لعلمه بظهوره وشرع في مقام أصعب لأن العلم بماهيته تعالى غير حاصلة للبشر. ولا يخفى ما في هذه الأدلة من القيل والقال ، ومن الناس من قال : إنه كان جاهلا بالله تعالى بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما واختلفوا في كيفية جهله فيحتمل أنه كان دهريا نافيا للصانع أصلا ولعله كان يقول بعدم احتياج الممكن في وجوده إلى مؤثر وإن وجود العالم اتفاقي كما نقل عن ديمقراطيس وأتباعه ، ويحتمل أنه كان فلسفيا قائلا بالعلة الموجبة ، ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب. ويحتمل أنه كان من عبدة الأصنام ، ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب على من تحت يده طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره ، واستدل بشروعه في المناظرة وطلب الحجة دون السفاهة والشغب مع كونه جبارا شديد البطش على أن الشغب والسفاهة مع من يدعو إلى الحق في غاية القبح فلا ينبغي لمن يدعي الإسلام والعلم أن يرتضي لنفسه ما لم يرتضه فرعون لنفسه. وباشتغال موسى عليه‌السلام بإقامة الدليل على المطلوب على فساد التقليد في أمثال هذا المطلب وفساد قول القائل : إن معرفة الله تعالى تستفاد من قول الرسول ، وبحكاية كلام فرعون وجواب موسى عليه‌السلام على أنه يجوز حكاية كلام المبطل مقرونا بالجواب لئلا يبقى الشك ، وعلى أن المحق يجب عليه استماع

٥١٥

شبهة المبطل حتى يمكنه الاشتغال بحلها (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) لما شاهد اللعين ما نظمه عليه‌السلام في سلك الجواب من البرهان النير على الطراز الرائع خاف أن يظهر للناس حقية مقالاته عليه‌السلام وبطلان خرافات نفسه ظهورا بينا أراد أن يصرفه عليه‌السلام عن سننه إلى ما لا يعنيه من الأمور التي لا تعلق لها في نفس الأمر بالرسالة من الحكايات موهما أن لها تعلقا بذلك ويشغله عما هو بصدده عسى يظهر فيه نوع غفلة فيتسلق بذلك إلى أن يدعي بين يدي قومه نوع معرفة ، فقال (فَما بالُ) إلخ. وأصل البال الفكر يقال : خطر ببالي كذا ثم أطلق على الحال التي يعتني بها وهو المراد ، ولا يثنى ولا يجمع إلا شذوذا في قولهم بآلات. وكأن الفاء لتفريع ما بعدها على دعوى الرسالة أي إذا كنت رسولا فأخبرني ما حال القرون الماضية والأمم الخالية ، وما ذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة.

(قالَ) موسى عليه‌السلام (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي إن ذلك من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى وإنما أنا عبد لا أعلم منها إلا ما علمنيه من الأمور المتعلقة بالرسالة والعلم بأحوال القرون وما جرى عليهم على التفصيل مما لا ملابسة فيه بمنصب الرسالة كما زعمت. وقيل : إنما سأله عن ذلك ليختبر أنه نبي أو هو من جملة القصاص الذين دارسوا قصص الأمم السالفة ، وقال النقاش : إن اللعين لما سمع وعظ مؤمن آل فرعون (يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) [غافر : ٣٠] الآية سأل عن ذلك فرد عليه‌السلام علمه إلى الله تعالى لأنه لم يكن نزلت عليه التوراة فإنه كان نزولها بعد هلاك فرعون.

وقال بعضهم : إن السؤال مبني على قوله عليه‌السلام (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) إلخ أي فما حال القرون السالفة بعد موتهم من السعادة والشقاوة والمراد بيان ذلك تفصيلا كأنه قيل : إذا كان الأمر كما ذكرت ففصل لنا حال من مضى من السعادة والشقاوة ولذا رد عليه‌السلام العلم إلى الله عزوجل فاندفع ما قيل : إنه لو كان المسئول عنه ما ذكر من السعادة والشقاوة لأجيب ببيان أن من اتبع الهدى منهم فقد سلم ومن تولى فقد عذب حسبما نطق به قوله تعالى (وَالسَّلامُ) إلخ ، وقيل : إنه متعلق بقوله سبحانه (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا) إلخ أي إذا كان الأمر كذلك فما بال القرون الأولى كذبوا ثم ما عذبوا ، وقيل : هو متعلق به والسؤال عن البعث والضمير في (عِلْمُها) للقيامة وكلا القولين كما ترى ؛ وعود الضمير على القيامة أدهى من أمر التعلق وأمرّ.

وقيل : إنه متعلق بجواب موسى عليه‌السلام اعتراضا على ما تضمنه من علمه تعالى بتفاصيل الأشياء وجزئياتها المستتبع إحاطة قدرته جل وعلا بالأشياء كلها كأنه قيل : إذا كان علم الله تعالى كما أشرت فما تقول في القرون الخالية مع كثرتهم وتمادي مدتهم وتباعد أطرافهم كيف إحاطة علمه تعالى بهم وبأجزائهم وأحوالهم فأجاب بأن علمه تعالى محيط بذلك كله إلى آخر ما قص الله تعالى ، وتخصيص القرون الأولى على هذا بالذكر مع أولوية التعميم قيل لعلم فرعون ببعضها وبذلك يتمكن من معرفة صدق موسى عليه‌السلام : إن بين أحوالها ، وقيل : إنه لإلزام موسى عليه‌السلام وتبكيته عند قومه في أسرع وقت لزعمه أنه لو عمم ربما اشتغل موسى عليه‌السلام بتفصيل علمه تعالى بالموجودات المحسوسة الظاهرة فتطول المدة ولا يتمشى ما أراده ، وأيّا ما كان يسقط ما قيل : إنه يأبى هذا الوجه تخصيص القرون الأولى من بين الكائنات فإنه لو أخذها بجملتها كان أظهر وأقوى في تمشي ما أراد ، نعم بعد هذا الوجه مما لا ينبغي أن ينكر ، وقيل : إنه اعتراض عليه بوجه آخر كأنه قيل : إذا كان ما ذكرت من دليل إثبات المبدأ في هذه الغاية من الظهور فما بال القرون الأولى نسوه سبحانه ولم يؤمنوا به تعالى فلو كانت الدلالة واضحة وجب عليهم أن لا يكونوا غافلين عنها ومآله على ما قال الإمام معارضة الحجة بالتقليد ، وقريب منه ما يقال إنه متعلق بقوله «ثم هدى» على التفسير الأول كأنه قيل : إذا كان الأمر كذلك فما بال القرون الأولى لم يستدلوا بذلك فلم يؤمنوا. وحاصل

٥١٦

الجواب على القولين أن ذلك من سر القدر وعلمه عند ربي جل شأنه (فِي كِتابٍ) الظاهر أنه خبر ثان لعلمها والخبر الأول (عِنْدَ رَبِّي).

وجوز أن يكونا خبرا واحدا مثل هذا حلو حامض وأن يكون الخبر (عِنْدَ رَبِّي). و (فِي كِتابٍ) في موضع الحال من الضمير المستتر في الظرف أو هو معمول له. وأن يكون الخبر في كتاب و (عِنْدَ رَبِّي) في موضع الحال من الضمير المستتر فيه والعامل الظرف وهو يعمل متأخرا على رأي الأخفش ، وقيل : يكون حالا من المضاف إليه في (عِلْمُها) ، وقيل : يكون ظرفا للظرف الثاني ، وقيل : هو ظرف للعلم ذكر جميع ذلك أبو البقاء ثم قال : ولا يجوز أن يكون (فِي كِتابٍ) متعلقا بعلمها و «عند ربي» الخبر لأن المصدر لا يعمل فيما بعد خبره.

وأنت تعلم أن أول الأوجه هو الأوجه وكأنه عنى عليه‌السلام بالكتاب اللوح المحفوظ أي علمها مثبت في اللوح المحفوظ بتفاصيله وهذا من باب المجاز إذ المثبت حقيقة إنما هو النقوش الدالة على الألفاظ المتضمنة شرح أحوالهم المعلومة له تعالى ، وجوز أن يكون المراد بالكتاب الدفتر كما هو المعروف في اللغة ويكون ذلك تمثيلا لتمكنه وتقرره في علمه عزوجل بما استحفظه العالم وقيده بكتبته في جريدة ولعله أولى ، ويلوح إليه قوله تعالى (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) فإن عدم الضلال والنسيان أوفق بإتقان العلم ، والظاهر أن فيه على الوجهين دفع توهم الاحتياج لأن الإثبات في الكتاب إنما يفعله من يفعله لخوف النسيان والله تعالى منزه عن ذلك ، والإثبات في اللوح المحفوظ لحكم ومصالح يعلم بعضها العالمون ، وقيل : إن هذه الجملة على الأول تكميل لدفع ما يتوهم من أن الإثبات في اللوح للاحتياج لاحتمال خطأ أو نسيان تعالى الله سبحانه عنه ، وعلى الثاني تذييل لتأكيد الجملة السابقة ، والمعنى لا يخطئ ربي ابتداء بأن لا يدخل شيء من الأشياء في واسع علمه فلا يكون علمه سبحانه محيطا بالأشياء ولا يذهب عليه شيء بقاء بأن يخرج عن دائرة علمه جل شأنه بعد أن دخل بل هو عزوجل محيط بكل شيء علما أزلا وأبدا وتفسير الجملتين بما ذكر مما ذهب إليه القفال ووافقه بعض المحققين ولا يخفى حسنه.

وأخرج ابن المنذر وجماعة عن مجاهد أنهما بمعنى واحد وليس بذاك ، والفعلان قيل : منزلان منزلة اللازم ، وقيل : هما باقيان على تعديهما والمفعول محذوف أي لا يضل شيئا من الأشياء ولا ينساه ، وقيل : شيئا من أحوال القرون الأولى ، وعن الحسن لا يضل وقت البعث ولا ينساه وكأنه جعل السؤال عن البعث وخصص لأجله المفعول وقد علمت حاله. وعن ابن عباس أن المعنى لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يحازيه وكأنه رضي الله تعالى عنه جعل السؤال عن حالهم من حيث السعادة والشقاوة والجواب عن ذلك على سبيل الإجمال فتدبر ولا تغفل.

وزعم بعضهم أن الجملة في موضع الصفة لكتاب والعائد إليه محذوف أي لا يضله ربي ولا ينساه ، وقيل: العائد ضمير مستتر في الفعل و (رَبِّي) نصب على المفعول أي لا يضل الكتاب ربي أي عنه. وفي (يَنْسى) ضمير عائد إليه أيضا أي ولا ينسى الكتاب شيئا أي لا يدعه على حد (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩].

والعجب كل العجب من العدول عن الظاهر إلى مثل هذه الأقوال ، وإظهار (رَبِّي) في موقع الإضمار للتلذذ بذكره تعالى ولزيادة التقرير والإشعار بعلية الحكم فإن الربوبية مما تقتضي عدم الضلال والنسيان حتما.

وقرأ الحسن وقتادة والجحدري وحماد بن سلمة وابن محيصن وعيسى الثقفي «لا يضلّ» بضم الياء من أضل وأضللت الشيء وضللته قيل بمعنى.

٥١٧

وفي الصحاح عن ابن السكيت يقال : أضللت بعيري إذا ذهب منك وضللت المسجد والزاد إذا لم تعرف موضعهما وكذلك كل شيء مقيم لا يهتدى إليه ، وحكي نحوه عن الفراء. وابن عيسى ، وذكر أبو البقاء في توجيه هذه القراءة وجهين جعل (رَبِّي) منصوبا على المفعولية ، والمعنى لا يضل أحد ربي عن علمه وجعله فاعلا والمعنى لا يجد ربي الكتاب ضالا أي ضائعا ، وقرأ السلمي «لا يضلّ ربي ولا ينسى» ببناء الفعلين لما لم يسم فاعله.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) إلخ يحتمل أن يكون ابتداء كلام منه عزوجل وكلام موسى عليه‌السلام قد تم عند قوله تعالى : (وَلا يَنْسى) فيكون الموصول خبر مبتدأ محذوف والجملة على ما قيل : مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه سبحانه لما حكى كلام موسى عليه‌السلام إلى قوله : (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) سئل ما أراد موسى بقوله: (رَبِّي) فقال سبحانه : هو (الَّذِي جَعَلَ) إلخ ، واختار هذا الإمام بل قال : يجب الجزم به ؛ ويحتمل أن يكون من كلام موسى عليه‌السلام على أن يكون قد سمعه من الله عزوجل فأدرجه بعينه في كلامه ولذا قال (لَكُمُ) دون لنا وهو من قبيل الاقتباس فيكون الموصول إما مرفوع المحل على أنه صفة لربي أو خبر مبتدأ محذوف كما في الاحتمال السابق وإما منصوب على المدح ، واختار هذا الزمخشري ، وعلى الاحتمالين يكون في قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا) التفات بلا اشتباه أو على أن موسى عليه‌السلام قال ذلك من عنده غير سامع له من الله عزوجل ، وقال : فأخرج به بإسناد أخرج إلى ضمير الغيبة إلا أن الله تعالى لما حكاه أسنده إلى ضمير المتكلم لأن الحاكي هو المحكي عنه فمرجع الضميرين واحد ، وظاهر كلام ابن المنير اختيار هذا حيث قال بعد تقريره : وهذا وجه حسن رقيق الحاشية وهو أقرب الوجوه إلى الالتفات.

وأنكر بعضهم أن يكون فيه التفات أو على أنه عليه‌السلام قاله من عنده بهذا اللفظ غير مغير عند الحكاية ، وقوله : «أخرجنا» من باب قول خواص الملك أمرنا وعمرنا وفعلنا وإنما يريدون الملك أو هو مسند إلى ضمير الجماعة بإرادة أخرجنا نحن معاشر العباد بذلك الماء بالحراثة أزواجا من نبات شتى على ما قيل ، وليس في «أخرجنا» على هذا وما قبله التفات. ويحتمل أن يكون ذلك كلام موسى عليه‌السلام إلى قوله تعالى : «ماء» وما بعده كلام الله عزوجل أوصله سبحانه بكلام موسى عليه‌السلام حين الحكاية لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأولى عندي الاحتمال الأول بل يكاد يكون كالمتعين ثم الاحتمال الثاني ثم الاحتمال الثالث وسائر الاحتمالات ليس بشيء ووجه ذلك لا يكاد يخفى. وسيأتي إن شاء الله تعالى في الزخرف نحو هذه الآية ، والمهد في الأصل مصدر ثم جعل اسم جنس لما يمهد للصبي. ونصبه على أنه مفعول ثان لجعل إن كان بمعنى صيّر أو حال إن كان بمعنى خلق ، والمراد جعلها لكم كالمهد ، ويجوز أن يكون باقيا على مصدريته غير منقول لما ذكر ، والمراد جعلها ذات مهد أو ممهدة أو نفس المهد مبالغة ، وجوز أن يكون منصوبا بفعل مقدر من لفظه أي مهدها مهدا بمعنى بسطها ووطأها ، والجملة حال من الفاعل أو المفعول ، وقرأ كثير «مهادا» وهو على ما قال المفضل. كالمهد في المصدرية والنقل.

وقال أبو عبيد : المهاد اسم والمهد مصدر ، وقال بعضهم : هو جمع مهد ككعب وكعاب ، والمشهور في جمعه مهود ، والمعنى على الجمع جعل كل موضع منها مهدا لكل واحد منكم (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي حصل لكم طرقا ووسطها بين الجبال والأودية تسلكونها من قطر إلى قطر لتقضوا منها مآربكم وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها ، وللدلالة على أن الانتفاع مخصوص بالإنسان كرر «لكم» وذكره أولا لبيان أن المقصود بالذات من ذلك الإنسان (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) من جهتها أو منها نفسها على ما في بعض الآثار (ماءً) هو المطر (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بذلك الماء وواسطته حيث إن الله تعالى أودع فيه ما أودع كما ذهب إلى ذلك الماتريدية وغيرهم من السلف الصالح لكنه لا يؤثر إلا بإذن

٥١٨

الله تعالى كسائر الأسباب فلا ينافي كونه عزوجل هو المؤثر الحقيقي ، وإنما فعل ذلك سبحانه مع قدرته تعالى الكاملة على إيجاد ما شاء بلا توسيط شيء كما أوجد بعض الأشياء كذلك مراعاة للحكمة.

وقيل : (بِهِ) أي عنده وإليه ذهب الأشاعرة فالماء كالنار عندهم في أنه ليس فيه قوة الري مثلا والنار كالماء في أنها ليس فيها قوة الإحراق وإنما الفرق بينهما في أن الله تعالى قد جرت عادته أن يخلق الري عند شرب الماء والإحراق عند مسيس النار دون العكس. وزعموا أن من قال : إن في شيء من الأسباب قوة تأثير أودعها الله تعالى فيه فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان وهو لعمري من المجازفة بمكان.

والظاهر أن يقال : فأخرج إلا أنه التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة بواسطة أنه لا يسند إلى العظيم إلا أمر عظيم والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن ينقاد لأمره ويذعن لمشيئته الأشياء المختلفة فإن مثل هذا التعبير يعبر به الملوك والعظماء النافذ أمرهم. ويقوي هذا الماضي الدال على التحقيق كالفاء الدالة على السرعة فإنها للتعقيب على ما نص عليه بعض المحققين وجعل الإنزال والإخراج عبارتين عن إرادة النزول والخروج معللا باستحالة مزاولة العمل في شأنه تعالى شأنه.

واعترض عليه بما فيه بحث ولا يضر في ذلك كونه تعقيبا عرفيا ولم تجعل للسببية لأنها معلومة من الباء.

وقال الخفاجي : لك أن تقول إن الفاء لسببية الإرادة عن الإنزال والباء لسببية النبات عن الماء فلا تكرار كما في قوله تعالى : (لِنُحْيِيَ بِهِ) [الفرقان : ٤٩] ولعل هذا أقرب انتهى.

وأنت تعلم أن التعقيب أظهر وأبلغ. وقد ورد على هذا النمط من الالتفات للنكتة المذكورة قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) [فاطر : ٢٧] وقوله تعالى (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) [النمل : ٦٠] وقوله سبحانه (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩٩] (أَزْواجاً) أي أصنافا أطلق عليها ذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض.

(مِنْ نَباتٍ) بيان وصفة لأزواجا. وكذا قوله تعالى (شَتَّى) أي متفرقة جمع شتيت كمريض ومرضى وألفه للتأنيث ، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة لنبات لما أنه في الأصل مصدر يستوي فيه الواحد والجمع يعني أنها شتى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم.

وقالوا : من نعمته عزّ وعلا أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله تعالى علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله. وقوله تعالى (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) معمول قول محذوف وقع حالا من ضمير «فأخرجنا» أي أخرجنا أصناف النبات قائلين (كُلُوا) إلخ أي معديها لانتفاعكم بالذات وبالواسطة آذنين في ذلك ، وجوز أن يكون القول حالا من المفعول أي أخرجنا أزواجا مختلفة مقولا فيها ذلك. والأولى أنسب وأولى. ورعى كما قال الزجاج يستعمل لازما ومتعديا ، يقال : رعت الدابة رعيا ورعاها صاحبها رعاية إذا أسامها وسرحها وأراحها (إِنَّ فِي ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من شئونه تعالى. وأفعاله وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الكمال ، وقيل : لعدم ذكر المشار إليه بلفظه. والتنكير في قوله سبحانه (لَآياتٍ) للتفخيم كما وكيفا أي لآيات كثيرة جليلة واضحة الدلالة على شئون الله تعالى في ذاته وصفاته (لِأُولِي النُّهى) جمع نهية بضم النون سمي بها العقل لنهيه عن

٥١٩

اتباع الباطل وارتكاب القبيح كما سمي بالعقل. والحجر لعقله وحجره عن ذلك. ويجيء النهي مفردا بمعنى العقل كما في القاموس وهو ظاهر ما روي عن ابن عباس هنا فإنه قال : أي لذوي العقل ، وفي رواية أخرى عنه أنه قال : لذوي التقى. ولعله تفسير باللازم.

وأجاز أبو علي أن يكون مصدرا كالهدى والأكثرون على الجمع أي لذوي العقول الناهية عن الأباطيل وتخصيص كونها آيات بهم لأن أوجه دلالتها على شئونه تعالى لا يعلمها إلا العقلاء ولذا جعل نفعها عائدا إليهم في الحقيقة فقال سبحانه : (كُلُوا وَارْعَوْا) دون كلوا أنتم والأنعام (مِنْها) أي من الأرض.

(خَلَقْناكُمْ) أي في ضمن خلق أبيكم آدم عليه‌السلام منها فإن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه‌السلام إذ لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه عليه‌السلام بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء جماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فكان خلقه عليه‌السلام منها خلقا للكل منها ، وقيل : المعنى خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض بوسائط (١).

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال : إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه الشخص فيذره على النطفة فيخلق من التراب والنطفة (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) بالإماتة وتفريق الأجزاء ، وهذا وكذا ما بعد مبني على الغالب بناء على أن من الناس من لا يبلى جسده كالأنبياء عليهم الصلاة والسّلام ، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للدلالة على الاستقرار المديد فيها (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الهيئة السابقة ورد الأرواح من مقرها إليها ، وكون هذا الإخراج تارة أخرى باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها وإن لم يكن على نهج التارة الثانية أو التارة في الأصل اسم للتور الواحد وهو الجريان ، ثم أطلق على كل فعلة واحد من الفعلات المتجددة كما مر في المرة ، وما ألطف ذكر قوله تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ) إلخ بعد ذكر النبات وإخراجه من الأرض فقد تضمن كل إخراج أجسام لطيفة من الترباء الكثيفة وخروج الأموات أشبه شيء بخروج النبات هذا.

«ومن باب الإشارة في الآيات» (طه) يا طاهرا بنا هاديا إلينا أو يا طائف كعبة الأحدية في حرم الهوية وهادي الأنفس الزكية إلى المقامات العلية ، وقيل : إن ط لكونها بحساب الجمل تسعة وإذا جمع ما انطوت عليه من الأعداد ـ أعني الواحد والاثنين والثلاثة ـ وهكذا إلى التسعة بلغ خمسة وأربعين إشارة إلى آدم لأن أعداد حروفه كذلك ، وه لكونها بحساب الجمل خمسة وما انطوت عليه من الأعداد يبلغ خمسة عشر إشارة إلى حوا بلا همز ، والإشارة بمجموع الأمرين إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو الخليقة وأمها فكأنه قيل : يا من تكونت منه الخليقة ، وقد أشار إلى ذلك العارف بن الفارض قدس‌سره بقوله على لسان الحقيقة المحمدية :

وإني وإن كنت ابن آدم صورة

فلي منه معنى شاهد بأبوتي

وقال في ذلك الشيخ عبد الغني النابلسي عليه الرحمة :

طه النبي تكونت من نوره

كل البرية ثم لو ترك القطا

__________________

(١) وذكروا أن التراب الذي خلق منه نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من الكعبة إلا أنه نقل في الطوفان إلى محل قبره الشريف عليه الصلاة والسّلام اه منه.

٥٢٠