روح المعاني - ج ٨

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٨

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٨

المسماة بيكي دنيا قبل أن يظفر بها في حدود الألف بعد الهجرة كرشتوفيل المشهور بقلوبنو فإن أهلها على ما بلغنا إذ ذاك لم يسمعوا بدعوة رسول أصلا ، ثم المفهوم من كلام الأجلة أن النزاع إنما هو بالنسبة لأحكام الإيمان بالله تعالى بخلاف الفروع فلا خلاف في أنها لا تثبت إلا في حق من بلغته دعوة من أرسل إليه وهو الظاهر ، نعم ما اتفق عليه الملل من الفروع هل هو كالإيمان حتى يجري فيه النزاع المتقدم فيه نظر ، وأما الإيمان بنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليس بواجب على من لم تبلغه دعوته إذ ليس للعقل في ذلك مجال كما لا يخفى على ذي عقل بل قال حجة الإسلام الغزالي. الناس بعد بعثته عليه الصلاة والسلام أصناف : صنف لم تبلغهم دعوته ولم يسمعوا به أصلا فأولئك مقطوع لهم بالجنة ، وصنف بلغتهم دعوته وظهور المعجزة على يده وما كان عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأخلاق العظيمة والصفات الكريمة ولم يؤمنوا به كالكفرة الذين بين ظهرانينا فأولئك مقطوع لهم بالنار ، وصنف بلغتهم دعوته عليه الصلاة والسلام وسمعوا به لكن كما يسمع أحدنا بالدجال وحاشا قدره الشريف صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فهؤلاء أرجو لهم الجنة إذ لم يسمعوا ما يرغبهم في الإيمان به اه ، ولعل القطع بالجنة للأولين ورجاءها للآخرين إنما يكونان إذا كانوا مؤمنين بالله تعالى وأما إذا لم يكونوا كذلك فهم على الخلاف ، ثم إن مسألة عدم الوجوب قبل ورود الشرع إنما يتم الاستدلال عليه بالآية عند المستدلين بها كما قال الأصفهاني إذا كان المقصود تحصيل غلبة الظن فيها فإن كانت علمية فلا يمكن إثباتها بالدلائل الظنية ، وفيها عندهم نوع اكتفاء أي وما كنا معذبين ولا مثيبين حتى نبعث رسولا ، قالوا : واستغنى عن ذكر الثواب بذكر مقابله من العذاب ولم يعكس لأنه أظهر منه في تحقق معنى التكليف فتأمل.

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) بيان لكيفية وقوع العذاب بعد البعثة ، وليس المراد بالإرادة الإرادة الأزلية المتعلقة بوقوع المراد في وقته المقدر له أصلا إذ لا يقارنها الجزاء الآتي ، ولا تحققها بالفعل إذ لا يتخلف عنه المراد بل دنو وقته كما في قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] أي إذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاكها بأن نعذب أهلها بما ذكر من عذاب الاستئصال الذي بينا أنه لا يصح منا قبل البعثة أو بنوع مما ذكرنا شأنه من مطلق العذاب أعني عذاب الاستئصال لما لهم من الظلم والمعاصي دنوا تقتضيه الحكمة من غير أن يكون له حد معين (أَمَرْنا) بالطاعة كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس وسعيد بن جبير على لسان الرسول المبعوث إلى أهلها (مُتْرَفِيها) متنعميها وجباريها وملوكها ، وخصهم بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سواهم باتباعهم ولأن توجه الأمر إليهم آكد ، ويدل على تقدير الطاعة إن فسق وعصى متقاربان بحسب اللغة وإن خص الفسق في الشرع بمعصية خاصة وذكر الضد يدل على الضد كما أن ذكر النظير يدل على النظير فذكر الفسق والمعصية يدل على تقدير الطاعة كما قيل في قوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] فيكون نحو أمرته فأساء إلي أي أمرته بالإحسان بقرينة المقابلة بينهما المعتضدة بالعقل الدال على أنه لا يؤمر بالإساءة كما لا يؤمر بالفسق ، والنقل كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف : ٢٨] ، وجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم كما في يعطي ويمنع أي وجهنا الأمر.

(فَفَسَقُوا فِيها) أي خرجوا عن الطاعة وتمردوا ، واختار الزمخشري أن الأصل أمرناهم بالفسق ففسقوا إلا أنه يمتنع إرادة الحقيقة للدليل فيحمل على المجاز إما بطريق الاستعارة التمثيلية بأن يشبه حالهم في تقلبهم في النعم مع عصيانهم وبطرهم بحال من أمر بذلك أو بطريق الاستعارة التمثيلية بأن يشبه حالهم في تقلبهم في النعم مع عصيانهم وبطرهم بحال من أمر بذلك أو بطريق الاستعارة التصريحية التبعية بأن يشبه إفاضة النعم المبطرة لهم وصبها عليهم بأمرهم بالفسق بجامع الحمل عليه والتسبب له ويتمم أمر الاستعارة في الصورتين بما لا يخفى ، وقيل : الأمر استعارة

٤١

للحمل والتسبب لاشتراكهما في الإفضاء إلى الشيء وآثر أن تقدير أمرناهم بالطاعة ففسقوا غير جائز لزعمه أنه حذف ما لا دليل عليه بل الدليل قائم على خلافه لأن قولهم أمرته فقام وأمرته فقعد لا يفهم منه إلا الأمر بالقيام والقعود ولو أردت خلاف ذلك كنت قد رمت من مخاطبك علم الغيب ، ولا نقض بنحو قولهم : أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأنه لما كان منافيا للأمر علم أنه لا يصلح قرينة للمحذوف فيكون الفعل في ذلك من باب يعطي ويمنع. واعترض بأنه لم لا يجوز أن يكون من قبيل أمرته فعصاني لما سمعت من تقارب فسق وعصى وبأن قرينة (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) لم لا تكفي في تقدير وجهنا الأمر فوجد منهم الفسق لا أن يقدر متعلق الأمر ؛ ثم لم لا يجوز أن يكون التعقيب بالضد قرينة للضد الآخر ونحوه أكثر من أن يحصى ، وأجاب في الكشف عن ذلك فقال : الجواب عن الأولين أن صاحب الكشاف منع أن يراد أمرنا بالطاعة وأما أن يراد توجيه الأمر فلم يمنعه من هذا المسلك بل المانع أن تخصيص المترفين حينئذ يبقى غير بين الوجه وكذلك التقييد بزمان إرادة الإهلاك فإن أمره تعالى واقع في كل زمان ولكل أحد ولظهوره لم يتعرض له ، وعن الثالث أن شهرة الفسق في أحد معنييه تمنع من عده مقابلا بمعنى العصيان على أن ما ذكرنا من نبو المقام عن الإطلاق قائم في التقييد بالطاعة ، وفيه قول بسلامة الأمير ونظر بعين الرضا وغفلة عن وجه التخصيص الذي ذكرناه وهو بين لا غبار عليه ، وكذا وجه التقييد بالزمان المذكور ، والحق أن ما ذكره الزمخشري من الحمل وجه جميل إلا أن عدم ارتضائه ما روته الثقات عن ترجمان القرآن وغيره من تقدير الطاعة مع ظهور الدليل ومساعدة مقام الزجر عن الضلال والحث على الاهتداء لا وجه له كما لا يخفى على من له قلب.

وحكى أبو حاتم عن أبي زيد أن (أَمَرْنا) بمعنى كثرنا واختاره الفارسي ، واستدل أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بما أخرجه أحمد وابن أبي شيبة في مسنديهما والطبراني في الكبير من حديث سويد بن هبيرة «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة» أي كثيرة النتاج ، وأمر كما قيل من باب ما لزم وعدي باختلاف الحركة فيقال أمرته بفتح الميم فأمر بكسرها وهو نظير شتر الله تعالى عينه فشترت وجدع أنفه فجدع وثلم سنه فثلمت ، وقيل : إن المكسور يكون متعديا أيضا وأنه قرأ به الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمة ، وحكى ذلك النحاس وصاحب اللوامح عن ابن عباس وأن رد الفراء له غير ملتفت إليه لصحة النقل ، وفي الكشف أن أمر بمعنى كثر كثير وأما أمرته المتعدي فقال الزمخشري في الفائق ما معناه : ما عول هذا القائل إلا على ما جاء في الخبر أعني مهرة مأمورة وما هو إلا من الأمر الذي هو ضد النهي وهو مجاز أيضا كما في الآية كأن الله تعالى قال لها كوني كثيرة النتاج فكانت فهي إذن مأمورة على خلاف منهية ، وقيل : أصله مومرة فعدل عنه إلى مأمورة لطلب الازدواج مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مأزورات غير مأجورات» حيث لم يقل موزورات.

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن أبي إسحاق وأبو رجاء وعيسى بن عمر وعبد الله بن أبي زيد والكلبي «آمرنا» بالمد وكذلك جاء عن ابن عباس والحسن وقتادة وأبي العالية وابن هرمز وعاصم وابن كثير وأبي عمرو ونافع وهو اختيار يعقوب ومعناه عند الجميع كثرنا وبذلك أيد التفسير السابق على القراءة المشهورة.

وقرأ ابن عباس وأبو عثمان النهدي والسدي وزيد بن علي وأبو العالية «أمّرنا» بالتشديد ، وروي ذلك أيضا عن علي والحسن والباقر رضي الله تعالى عنهم. وعاصم وأبي عمرو ، ومعناه على هذه القراءة قيل كثرنا أيضا ، وقيل : بمعنى وليناهم وجعلناهم أمراء واللازم من ذلك أمر (١) بالضم إلحاقا له بالسجايا أي صار أميرا والمراد به من يؤمر ويؤتمر به سواء كان ملكا أم لا على أنه لا محذور لو أريد به الملك أيضا خلافا للفارسي لأن القرية إذا ملك عليها مترف ففسق

__________________

(١) أمر مثلث والتقييد بالضم لأنه حينئذ يتعين لهذا المعنى قائلهم اه منه.

٤٢

ثم آخر ففسق وهكذا كثر الفساد وتوالى الكفر ونزل بهم العذاب على الآخر من ملوكهم (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي كلمة العذاب السابق بحوله أو بظهور معاصيهم أو بانهماكهم فيها (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) لا يكتنه كنهه ولا يوصف ، والتدمير هو الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء ، والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه وإهلاك جميعهم لصدور الفسق منهم جميعا فإن غير المترف يتبعه عادة لا سيما إذا كان المترف من علماء السوء ، ومن هنا قيل : المعنى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها واتبعهم غيرهم فحق عليها القول الآية ، وقيل : هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال سبحانه : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] وصح عن أم المؤمنين زينب بنت جحش «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها فدعا يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها قالت زينب : قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم إذا كثر الخبث» هذا والظاهر أن (أَمَرْنا) جواب إذا ولا تقديم ولا تأخير في الآية والإشكال المشهور فيها على هذا التقدير من أنها تدل على أنه سبحانه يريد إهلاك قوم ابتداء فيتوسل إليه بأن يأمرهم فيفسقون فيهلكهم وإرادة ضرر الغير ابتداء من غير استحقاق الإضرار كالاضرار كذلك مما ينزه عنه تعالى لمنافاته للحكمة قد مرت الإشارة إلى جوابه ، وأجاب عنه بعضهم بأن في الآية تقديما وتأخيرا والأصل إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا إهلاكها فحق عليها القول ، ونظيره على ما قيل قوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) [النساء : ١٠٢] وآخرون بأن قوله تعالى : (أَمَرْنا) إلخ في موضع الصفة لقرية وجواب إذا محذوف للاستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة عليه كما قيل في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) إلى قوله سبحانه : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) [الزمر : ٧١ ـ ٤٧] وقول الهذلي وهو آخر قصيدة :

حتى إذا أسلكوهم في قتائدة (١)

شلا كما تطرد الجمالة الشردا

وقيل في الجواب عن ذلك غير ذلك فتدبر.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا) أي كثيرا ما أهلكنا (مِنَ الْقُرُونِ) تمييز ـ لكم ـ والقرن على ما قال الراغب القوم المقترنون في زمان واحد ، وعن عبد الله بن أبي أوفى هو مدة مائة وعشرين سنة ، وعن محمد بن القاسم المازني وروي مرفوعا أنه مائة سنة ، وجاء أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا لرجل فقال : عش قرنا فعاش مائة سنة أو مائة وعشرين ، وعن الكلبي أنه ثمانون سنة ، وعن ابن سيرين أنه أربعون سنة (مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) من بعد زمنه عليه‌السلام كعاد وثمود ومن بعدهم ممن قصت أحوالهم في القرآن العظيم ومن لم تقص ، وخص نوح عليه‌السلام بالذكر ولم يقل من بعد آدم لأنه أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب ففيه تهديد وإنذار للمشركين ولظهور حال قومه لم ينظموا في القرون المهلكة على أن ذكره عليه‌السلام رمز إلى ذكرهم ، ومن الأولى للتبيين لا زائدة والثانية لابتداء الغاية فلذا جاز اتحاد متعلقهما ، وقال الحوفي : من الثانية بدل من الأولى وليس بجيد.

(وَكَفى بِرَبِّكَ) أي كفى ربك وقد تقدم الكلام مفصلا آنفا في مثل هذا التركيب (بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) محيطا بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها ، وتقديم الخبير لتقدم متعلقه من الاعتقادات والنيات التي هي مبادئ الأعمال الظاهرة تقدما وجوديا ، وقيل تقدما رتبيا لأن العبرة بما في القلب كما يدل عليه «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم» وإنما الأعمال بالنيات ونية المؤمن خير من عمله إلى غير ذلك أو

__________________

(١) قتائدة اسم عقبة اه صحاح.

٤٣

لعمومه من حيث يتعلق بغير المبصرات أيضا ، والجار والمجرور متعلق بخبيرا بصيرا على سبيل التنازع.

وقال الحوفي : متعلق بكفى وهو وهم ، وفي تذييل ما تقدم بما ذكر إشارة على ما قيل إلى أن البعث والأمر وما يتلوهما من فسقهم ليس لتحصيل العلم بما صدر عنهم من الذنوب فإن ذلك حاصل قبل ذلك وإنما هو لقطع الأعذار وإلزام الحجة من كل وجه. وفي الكشاف أنه سبحانه نبه بقوله تعالى : (وَكَفى بِرَبِّكَ) إلخ على أن الذنوب هي الأسباب المهلكة لا غير ، وبيانه كما في الكشف أنه جل شأنه لما عقب إهلاكهم بعلمه بالذنوب علما أتم دل على أنه تعالى جازاهم بها وإلا لم ينتظم الكلام ، وأما الحصر فلأن غيرها لو كان له مدخل كان الظاهر ذكره في معرض الوعيد ثم لا يكون السبب تاما ويكون الكلام ناقصا عن أداء المقصود فلزم الحصر وهو المطلوب ولا أرى كلامه خاليا عن دسيسة اعتزال تظهر بالتأمل ولعله لذلك لم يتعرض له العلامة البيضاوي (مَنْ كانَ يُرِيدُ) أي بعلمه كما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك (الْعاجِلَةَ) فقط من غير أن يريد معها الآخرة كما ينبئ عنه الاستمرار المستفاد من زيادة (كانَ) هنا مع الاقتصاد على مطلق الإرادة في قسميه وقيل لو لم يقيد صدق على مريد العاجلة والآخرة والقسمة تنافي الشركة ، ودلالة الإرادة على ذلك لأنها عقد القلب بالشيء وخلوص همه فيه ليس بذاك ، والمراد بالعاجلة الدار الدنيا كما روي عن الضحاك أيضا وبإرادتها إرادة ما فيها من فنون مطالبها كقوله تعالى : (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا) [الشورى : ٢٠] وجوز أن يراد الحياة العاجلة كقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) [هود : ١٥] ورجح الأول بأنه أنسب بقوله تعالى : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها) أي في تلك العاجلة فإن تلك الحياة واستمرارها من جملة ما عجل فالأنسب في ذلك كلمة من كما في قوله عزوجل (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) [آل عمران : ١٤٥] (ما نَشاءُ) أي ما نشاء تعجيله له من نعيمها لا كل ما يريد.

(لِمَنْ نُرِيدُ) تعجيل ما نشاء له ، وقال أبو إسحاق الفزاري : أي لمن نريد هلكته ولا يدل عليه لفظ في الآية ، والجار والمجرور بدل من الجار والمجرور السابق أعني له فلا يحتاج إلى رابط لأنه في بدل المفردات أو المجرور بدل من الضمير المجرور بإعادة العامل وتقديره لمن نريد تعجيله له منهم ، والضمير راجع إلى من وهي موصولة أو شرطية وعلى التقديرين هي منبئة عن الكثرة فهو بدل بعض من كل ، وعن نافع أنه قرأ «ما يشاء» بالياء فقيل الضمير فيه لله تعالى فيتطابق القراءتان ، وقيل هو لمن فيكون مخصوصا بمن أراد الله تعالى به ذلك كنمروذ وفرعون ممن ساعده الله تعالى على ما أراده استدراجا له ، واستظهر هذا بأنه يلزم أن يكون على الأول التفات ووقوع الالتفات في جملة واحدة إن لم يكن ممنوعا فغير مستحسن كما فصله في عروس الأفراح ، وتقييد المعجل والمعجل له بما ذكر من المشيئة والإرادة لما أن الحكمة التي يدور عليها فلك التكوين لا تقتضي وصول كل طالب إلى مرامه ولا استيفاء كل واصل لما يطلبه بتمامه ، وليس المراد بأعمالهم في قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) [هود : ١٥] أعمال كلهم ولا كل أعمالهم ، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر ، وذكر المشيئة في أحدهما والإرادة في الآخر إن قيل بترادفهما تفنن.

(ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ) مكان ما عجلنا له (جَهَنَّمَ يَصْلاها) يقاسي حرها كما قال الخليل أو يدخلها كما قيل ، والجملة كما قال أبو البقاء حال من الهاء في (لَهُ) وقال أبو حيان : إنها حال من (جَهَنَّمَ) وهي مفعول أول لجعلنا و (لَهُ) الثاني.

وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وقال صاحب الغينان : مفعول جعلنا الثاني محذوف والتقدير مصيرا أو جزاء ولا حاجة إلى ذلك (مَذْمُوماً) حال من فاعل يصلي وهو من الذم ضد المدح وفعله ذم وذمته ذيما وذأمته ذأما بمعناه

٤٤

(مَدْحُوراً) أي مطرودا مبعدا من رحمة الله تعالى ، قال الإمام : إن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن المنفعة فقوله تعالى : (جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها) إشارة إلى المضرة العظيمة و (مَذْمُوماً) إشارة إلى الإهانة والذم و (مَدْحُوراً) إشارة إلى البعد والطرد من رحمته تعالى فيفيد ذلك أن تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص اه ، ولا يخفى أن هذا ظاهر في أن الآية تدل على الخلود وحينئذ يتعين عندنا أن يكون ذلك المريد من الكفرة ، وفي إرشاد العقل السليم من كان يريد أي بأعماله التي يعملها سواء كان ترتب المراد عليها بطريق الجزاء كأعمال البر أو بطريق ترتب المعلولات على العلل كالأسباب أو بأعمال الآخرة فالمراد بالمريد على الأول المكفرة وأكثر الفسقة وعلى الثاني أهل الرباء والنفاق والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة ، وأنت تعلم أن إدراج الفاسق والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة إذا كان مؤمنا في التمثيل على القول بدلالة الآية على الخلود مما لا يستقيم على أصولنا نعم يصح على أصول المعتزلة ، وقد أدرج الزمخشري الفاسق في ذلك ودسائس الاعتزال منه عامله الله تعالى بعدله أكثر من أن تحصى ، وظاهر كلام أبي حيان اختيار كون المريد من الكفرة حيث قال : العاجلة هي الدنيا ومعنى إرادتها إيثارها على الآخرة ولا بد من تقدير محذوف دل عليه المقابل في قوله تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) إلخ أي من كان يريد العاجلة وسعى لها سعيها وهو كافر عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ، وقيل المراد من كان يريد العاجلة بعمل الآخرة كالمنافق والمرائي والمجاهد للغنيمة والذكر والمهاجر للدنيا إلى آخر ما قال فحكي غير القول الأول الذي يكون يتعين عليه كون المريد من الكفرة بعد أن قدمه بقيل ، ويؤيده تفسير كثير من كان يريد العاجلة بمن كان همه مقصورا عليها لا يريد غيرها أصلا فإن ذلك مما لا يكاد يصدق على مؤمن فاسق فإنه لو لم يكن له إرادة للآخرة ما آمن بها ، وعلى القول بدخول الفاسق ونحوه ممن لا يحكم له عندنا بالخلود يمنع القول بدلالة الآية على الخلود ويقال لمن أدخل النار مبعد عن رحمة الله تعالى ما دام فيها فيصدق على الفاسق ما دام فيها كما يصدق على الكافر المخلد.

وزعم بعضهم أن المريد هو المنافق الذي يغزو مع المسلمين للغنيمة لا للثواب فإن الآية نزلت فيه ، وفيه أنه يأبى ذلك ما سبق من أن السورة مكية غير آيات معينة ليست هذه منها على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فافهم (وَمَنْ أَرادَ) الظاهر على طبق ما مر عن الضحاك أن يراد بعمله أيضا (الْآخِرَةَ) أي الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم (وَسَعى لَها سَعْيَها) أي الذي يحق ويليق بها كما تنبئ عنه الإضافة الاختصاصية سواء كان السعي مفعولا به على أن المعنى عمل عملها أو مصدرا مفعولا مطلقا ويتحقق ذلك بالإتيان بما أمر الله تعالى والانتهاء عما نهى سبحانه عنه فيخرج من يتعبد من الكفرة بما يخترعه من الآراء ويزعم أنه يسعى لها وفائدة اللام سواء للأجل أو للاختصاص اعتبار النية والإخلاص لله تعالى في العمل ، واختار بعضهم ولا يخلو عن حسن أنه لا حاجة إلى ما اعتبره الضحاك بل الأولى عدم اعتباره لمكان «وسعى لها سعيها» وحينئذ لا يعتبر فيما سبق أيضا ويكون في الآية على هذا من تحقير أمر الدنيا وتعظيم شأن الآخرة ما لا يخفى على من تأمل.

(وَهُوَ مُؤْمِنٌ) إيمانا صحيحا لا يخالطه قادح ، وإيراد الإيمان بالجملة الحالية للدلالة على اشتراط مقارنته لما ذكر في حيز (مَنْ) فلا تنفع إرادة ولا سعي بدونه وفي الحقيقة هو الناشئ عنه إرادة الآخرة والسعي للنجاة فيها وحصول الثواب ، وعن بعض المتقدمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله : إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب وتلا هذه الآية (فَأُولئِكَ) إشارة إلى (مَنْ) بعنوان اتصافه بما تقدم ، وما في ذلك من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم ، والجمعية لمراعاة جانب المعنى إيماء إلى أن الإثابة المفهومة من الخبر تقع على وجه الاجتماع أي

٤٥

فأولئك الجامعون لما مر من الخصال الحميدة أعني إرادة الآخرة والسعي الجميل لها والإيمان (كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) مثابا عليه مقبولا عنده تعالى بحسن القبول ، وفسر بعضهم السعي هاهنا بالعمل الذي يعبر عنه بفعل فيشمل جميع ما تقدم وهذا غير السعي السابق ، وقال بعضهم : هو هو ؛ وعلق المشكورية به دون قرينيه إشعارا بأنه العمدة فيها ، وأصل السعي كما قال الراغب المشي السريع وهو دون العدو ويستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة قال الشاعر :

إن أجز علقمة بن سعد سعيه

لا أجزه ببلاء يوم واحد

(كُلًّا) التنوين فيه على المشهور عند النحاة عوض عن المضاف إليه لا تنوين تمكين أي كل الفريقين وهو مفعول (نُمِدُّ) مقدم عليه أي نزيد مرة بعد مرة بحيث يكون الآنف مددا للسالف وما به الإمداد ما عجل لأحدهما من العطايا العاجلة وما أعد للآخر من العطايا الآجلة المشار إليها بمشكورية السعي وإنما لم يصرح به تعويلا على ما سبق تصريحا وتلويحا واتكالا على ما لحق عبارة وإشارة ، وقوله تعالى : (هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) بدل من (كُلًّا) بدل كل على جهة التفصيل أي نمد هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم فإن الإشارة متعرضة لذات المشار إليه بما له من العنوان لا للذات فقط كالإضمار ففيه تذكير لما به الإمداد وتعيين للمضاف إليه المحذوف دفعا لتوهم كونه أفراد الفريق الأخير المريد للخير الحقيق بالإسعاف فقط وتأكيد للقصر المستفاد من تقديم المفعول ، وقوله تعالى : (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) أي من معطاه الواسع الذي لا تناهي له فهو اسم مصدر واقع موقع اسم المفعول متعلق بنمد مغن عن ذكر ما به الإمداد ومنبه على أن الإمداد المذكور ليس بطريق الاستيجاب بالسعي والعمل بل بمحض التفضل كما قيل : (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ) أي دنيويا كان أو أخرويا.

والإظهار في موضع الإضمار لمزيد الاعتناء بشأنه والإشعار بعليته للحكم (مَحْظُوراً) ممنوعا عمن يريده بل هو فائض على من قدر له بموجب المشيئة المبنية على الحكمة وإن وجد فيه ما يقتضي الحظر كالكفر ، وهذا في معنى التعليل لشمول الإمداد للفريقين ، والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بمبدئيتها لكل من الإمداد وعدم الحظر.

(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) كيف في محل النصب بفضلنا على الحال وليست مضافة للجملة كما توهم ، والجملة بتمامها في محل نصب بانظر وهو معلق هنا ، والمراد كما قال شيخ الإسلام توضيح ما مر من الإمداد وعدم محظورية العطاء بالتنبيه على استحضار مراتب أحد العطاءين والاستدلال بها على مراتب الآخر أي انظر بنظر الاعتبار كيف فضلنا بعضهم على بعض فيما أمددناهم من العطايا الآجلة وتفاوت أهلها على طريقة الاستدلال بحال الأدنى على حال الأعلى كما أفصح عنه قوله تعالى : (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) أي أكبر من درجات الدنيا وتفضيلها لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها العالية لا يقادر قدرها ولا يكتنه كنهها.

وفي بعض الآثار أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى الله تعالى الجميع فما يغبط أحد أحدا» وعن الضحاك الأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه والأسفل لا يرى أن فوقه أحدا ، وصح أن الله تعالى أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وروى ابن عبد البر في استيعاب عن الحسن قال : حضر جماعة من الناس باب عمر رضي الله تعالى عنه وفيهم سهيل بن عمرو القرشي وكان أحد الأشراف في الجاهلية وأبو سفيان بن حرب وأولئك المشايخ من قريش فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم وكان قد أوصى لهم فقال أبو سفيان : ما رأيت كاليوم قط إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا فقال سهيل : وكان أعقلهم أيها القوم إني والله قد أرى الذي وجوهكم فإن كنتم

٤٦

غضابا فاغضبوا على أنفسكم دعي القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتا من بابكم هذا الذي تنافسون عليه ، وفي الكشاف أنه قال : إنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله تعالى لهم في الجنة أكبر وقرئ «أكثر تفضيلا» بالثاء المثلثة ، هذا وجوز أن يراد بما به الإمداد العطايا العاجلة فقط ، وحمل القصر المذكور على دفع توهم اختصاصها بالفريق الأول فإن تخصيص إرادتهم لها ووصولهم إليها بالذكر من غير تعرض لبيان النسبة بينها وبين الفريق الثاني إرادة ووصولا مما يوهم اختصاصها بالأولين فالمعنى كل الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا من ذكرنا إرادته لها فقط من الفريق الأول من عطاء ربك الواسع وما كان عطاؤه الدنيوي محظورا من أحد ممن يريد وممن يريد غيره انظر كيف فضلنا في ذلك العطاء بعض كل من الفريقين على بعض آخر منهما وللآخرة إلخ ، وإلى نحو هذا ذهب الحسن وقتادة فقد روي عنهما أنهما قالا : في معنى الآية إن الله تعالى يرزق في الدنيا مريدي العاجلة الكافرين ومريدي الآخرة المؤمنين ويمد الجميع بالرزق ، وذكر الرزق من بين ما به الإمداد قيل على سبيل التمثيل ، وقيل تخصيص لدلالة السياق.

وجوز أن يكون المراد به معناه اللغوي فيتناول الجاه ونحوه كما يقال السعادة أرزاق ، واعتبر الجمهور عدم المحظورية بالنسبة إلى الفريق الأول تحقيقا لشمول الإمداد له حيث قالوا : لا يمنعه من عاص لعصيانه. واعترض بأنه يقتضي كون القصر لدفع توهم اختصاص الإمداد الدنيوي بالفريق الثاني مع أنه لم يسبق في الكلام ما يوهم ثبوته له فضلا عن إيهام اختصاصه وفيه تأمل ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) من الطاعات ويمد بها مريد الآخرة والمعاصي ويمد بها مريد العاجلة فيكون العطاء عبارة عما قسم الله تعالى للعبد من خير أو شر ، وأنت تعلم أنه يبعد غاية البعد إرادة المعاصي من العطاء ولعل نسبة ذلك للحبر غير صحيحة فلا تغفل واعلم أن التقسيم الذي تضمنته الآية غير حاصر وذلك غير مضر والتقسيم الحاصر أن كل فاعل إما أن يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو يريدهما معا أو لم يرد شيئا والقسمان الأولان قد علم حكمهما من الآية ، والقسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنه إما تكون إرادة الآخرة أرجح أو تكون مرجوحة أو تكون الإرادتان متعادلتين ، وفي قبول العمل في القسم الأول بحث عند الإمام قال : يحتمل عدم القبول لما روي عن رب العزة جل شأنه : «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه».

ويمكن أن يقال : إذا كانت إرادة الآخرة راجحة على إرادة الدنيا تعارض المثل بالمثل فيبقى القدر الزائد خالصا للآخرة فيجب كونه مقبولا ، وإلى عدم القبول ذهب العز بن عبد السلام ، ومال إلى القول بأصل الثواب حجة الإسلام الغزالي حيث قال : لو كان اطلاع الناس مرجحا أو مقويا لنشاطه ولو فقد لم تترك العبادة ولو انفرد قصد الرياء لما أقدم فالذي نظنه والعلم عند الله تعالى أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب ، وهذا ظاهر في أن الرياء ولو محرما لا يمنع أصل الثواب عنده إذا كان باعث العبادة أغلب ، وذكر ابن حجر أن الذي يتجه ترجيحه أنه متى كان المصاحب بقصد العبادة رياء مباحا لم يقتض إسقاط ثوابها من أصله بل يثاب على مقدار قصد العبادة وإن ضعف أو محرما اقتضى سقوطه من أصله للأخبار ، وقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة : ٧] قد لا يعكر على ذلك لأن تقصيره بقصد المحرم اقتضى سقوط قصد الأجر فلم تبق له ذرة من خير فلم تشمله الآية ، واتفقوا على عدم قبول ما ترجح فيه باعث الدنيا أو كان الباعثان فيه متساويين ، وخص الغزالي الأحاديث الدالة بظاهرها على عدم القبول مطلقا بهذين القسمين ، وتمام الكلام في هذا المقام في الزواجر عن اقتراف

٤٧

الكبائر ، وأما القسم الرابع عند القائلين بأن صدور الفعل من القادر يتوقف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول والذين قالوا إنه لا يتوقف قالوا ذلك الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث والله تعالى أعلم.

ومن باب الإشارة في الآيات (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) فيه أربع إشارات إشارة التقديس بسبحان فهو تنزيه له تعالى عن اللواحق المادية والنقائص التشبيهية وعن جميع ما يرتسم في الأذهان ، وإشارة الغيرة بعدم ذكر الاسم الظاهر من أسمائه الحسنى عزت أسماؤه وكذا بعدم ذكر اسمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإشارة الغيب بذكر ضمير الغائب ، وإشارة السر بذكر الليل فإنه محل السر والنجوى ، وعن بعض الأكابر لو لا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا ، وذكر غير واحد إن في اختيار عنوان العبودية إشارة إلى أنها أعلى المقامات وقد أشير إلى ذلك فيما سلف ، وأصلها الذل والخضوع وحيث إن الذل لشيء لا يكون إلا بعد معرفته دلت العبودية لله تعالى على معرفته سبحانه وكمالها على كمالها ، ومن هنا فسر ابن عباس قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] بقوله : إلا ليعرفون وهي تسعة وتسعون سهما بعدد الأسماء الإلهية التي من أحصاها دخل الجنة لكل اسم إلهي عبودية مختصة به يتعبد له من يتعبد من المخلوقين ولم يتحقق بهذا المقام على كماله مثل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان عبدا محضا زاهدا في جميع الأحوال التي تخرجه عن مرتبة العبودية وشهد الله تعالى له بأنه عبد مضاف إليه من حيث هويته هنا واسمه الجامع في قوله سبحانه (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) [الجن : ١٩] ولما أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتعريف مقامه يوم القيامة قيد ذلك فقال عليه الصلاة والسلام «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» بالراء أو الزاي على اختلاف الروايتين وهي لما علمت من معناها لا يمكن أن تكون نعتا إلهيا أصلا بل هي صفة خاصة لا اشتراك فيها فقد قال أبو يزيد البسطامي : ما وجدت شيئا يتقرب به إليه تعالى إذ رأيت كل نعت يتقرب به للألوهية فيه مدخل فقلت : يا رب بما ذا أتقرب إليك؟ قال : تقرب إلي بما ليس لي قلت : يا رب وما الذي ليس لك؟ قال : الذلة والافتقار.

وذكر أن العبد مع الحق في حال عبوديته كالظل مع الشخص في مقابلة السراج كلما قرب إلى السراج عظم الظل ولا قرب من الله تعالى إلا بما هو لك وصف أخص لا له سبحانه وكلما بعد عن السراج صغر الظل فإنه ما يبعدك عن الحق إلا خروجك عن صفتك التي تستحقها وطمعك في صفته تعالى ، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وهما صفتان لله تعالى : و (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] وهما كذلك وإلى هذا أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «أعوذ بك منك» وأول بعضهم الليل بظلمة الغواشي البدنية والتعلقات الطبيعية وقال : إن الترقي والعروج لا يكون إلا بواسطة البدن وقد صرحوا بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسري به وكذا عرج يقظة لم يفارق بدنه إلا أن العارف الجامي قال : إن ذلك إلى المحدد ثم ألقي البدن هناك وقد تقدم ذلك ، وفي أسرار القرآن أنه عليه الصلاة والسلام أسري به من رؤية أفعاله إلى رؤية صفاته ومن رؤية صفاته إلى رؤية ذاته فرأى الحق بالحق وكانت صورته روحه وروحه عقله وعقله قلبه وقلبه سره وكأنه أراد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حصل له هذا الإسراء وإلا فإرادة أن الإسراء الذي في الآية هو هذا مما لا ينبغي.

ولا يخفى أن الإسراء غير المعراج نعم قد يطلقون الإسراء على المعراج بل قيل إنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ، وقد ذكروا أن لجميع الوارثين معراجا إلا أنه معراج أرواح لا أشباح وإسراء أسرار لا أسوار ورؤية جنان لا عيان وسلوك ذوق وتحقيق لا سلوك مسافة وطريق إلى سماوات معنى لا مغنى ، وهذا المعراج متفاوت حسب تفاوت مراتب الرجال ، وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس‌سره في معراجه ما يحير الألباب ويقضي منه العجب العجاب ولم يستبعد ذلك منه بناء على أنه ختم الولاية المحمدية عندهم ، ومن عجائب ما اتفق في زماننا أن رجلا يدعى بعبد السلام نائب القاضي في بغداد وكان جسورا على الحكم بالباطل شرع في ترجمة معراج الشيخ قدس‌سره بالتركية مع شرح بعض

٤٨

مغلقاته ولم يكن من خبايا هاتيك الزوايا فقبل أن يتم مرامه ابتلي والعياذ بالله تعالى بآكلة في فمه فأكلته إلى أذنيه فمات وعرج بروحه إلى حيث شاء الله تعالى نسأل الله سبحانه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة ، ونقل عن الشيخ قدس‌سره أن الإسراء وقع له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثين مرة ، وفي كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني أن إسراءاته عليه الصلاة والسلام كانت أربعا وثلاثين واحد منها بجسمه والباقي بروحه ، وقد صرحوا أن الأول من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي الخصائص الصغرى وخص عليه الصلاة والسلام بالإسراء وما تضمنه من خرق السموات السبع والعلو إلى قاب قوسين ووطئه مكانا ما وطئه نبي مرسل ولا ملك مقرب وأن قطع المسافة الطويلة في الزمن القصير مما يكون كرامة للولي ، والمشهور تسمية ذلك بطي المسافة وهو من أعظم خوارق العادات ؛ وأنكر ثبوته للأولياء الحنفية ومنهم ابن وهبان قال :

ومن لولي قال طي مسافة

يجوز جهول ثم بعض يكفر

وهذا منهم مع قولهم إذا ولد لمغربي ولد من امرأته المشرقية مثلا يلحق به وإن لم يلتقيا ظاهرا غريب ، والكتب ملأى من حكايات الثقات هذه الكرامة لكثير من الصالحين ، وكأن مجهل قائلها بنى تجهيله على أن في ذلك قولا بتداخل الجواهر وقد أحاله المتكلمون خلافا للنظام وبرهنوا على استحالته بما لا مزيد عليه ، وادعى بعضهم الضرورة في ذلك ، وأنت تعلم أن قطع المسافة الطويلة في الزمن القصير لا يتوقف على تداخل الجواهر لجواز أن يكون بالسرعة كما قالوا في الإسراء فليثبت للأولياء على هذا النحو على أن الكرامات كالمعجزات مجهولة الكيفية فنؤمن بما صح منها ونفوض كيفيته إلى من لا يعجزه شيء سبحانه وتعالى ، ومثل طي المسافة ما يحكونه من نشر الزمان وأنا مؤمن ولله تعالى الحمد بما يصح نقله من الأمرين والمكفر جهول والمجهل ليس برسول والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب ؛ وأول المسجد الحرام بمقام القلب المحترم عن أن يطوف به مشركو القوى البدنية ويرتكب فيه فواحشها وخطاياها ، والمسجد الأقصى بمقام الروح الأبعد من العالم الجسماني (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) أي آيات صفاتنا من جهة أنها منسوبة إلينا ونحن المشاهدون بها وإلا فأصل مشاهدة الصفات في مقام القلب (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) قال سهل : أي إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى المغفرة وإن عدتم إلى الإعراض عنا عدنا إلى الإقبال عليكم وإن عدتم إلى الفرار منا عدنا إلى أخذ الطريق عليكم لترجعوا إلينا.

وقال الوراق : إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى التيسير والقبول ، وقيل : غير ذلك (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) الآية أي إن هذا القرآن يعرف أهله بنوره أقوم الطرق إلى الله تعالى وهو طريق الطاعة والاقتداء بمن أنزل عليه عليه الصلاة والسلام فإنه لا طريق يوصل إلا ذلك ولله تعالى در من قال :

وأنت باب الله أي امرئ

أتاه من غيرك لا يدخل

وذكروا أن القرآن يرشد بظاهره إلى معاني باطنه وبمعاني باطنه إلى نور حقيقته وبنور حقيقته إلى أصل الصفة وبالصفة إلى الذات فطوبى لمن استرشد بالقرآن فإنه يدله على الله تعالى وقد أحسن من قال :

إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا

كفى لمطايانا بنورك هاديا

ويبشر أهله الذين يتبعونه أن لهم أجر المشاهدة وكشفها بلا حجاب (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) فيه إشارة إلى أدب من آداب الدعاء وهو عدم الاستعجال فينبغي للسالك أن يصبر حتى يعرف ما يليق بحاله فيدعو به ، وقال سهل : أسلم الدعوات الذكر وترك الاختيار لأن في الذكر الكفاية وربما يسأل الإنسان ما فيه هلاكه ولا يشعر ، وفي الأثر يقول الله تعالى شأنه من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيه أفضل ما أعطي السائلين (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ) أي ليل الكون وظلمة البدن (وَالنَّهارَ) أي نهار الإبداع والروح (آيَتَيْنِ) يتوصل بهما إلى معرفة

٤٩

الذات والصفات (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) بالفساد والفناء (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) منيرة باقية بكمالها تبصر بنورها الحقائق (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) وهو كمالكم الذي تستعدونه (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي لتحصوا عدد المراتب والمقامات من بدايتكم إلى نهايتكم بالترقي فيها وحساب أعمالكم وأخلاقكم وأحوالكم فتبدلوا السيئ من ذلك بالحسن (وَكُلَّ شَيْءٍ) من العلوم والحكم (فَصَّلْناهُ) بنور عقولكم الفرقانية الحاصلة لكم عند الكمال تفصيلا لا إجمال فيه كما في مرتبة العقل القرآني الحاصل عند البداية (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) الآية تقدم ما يصلح أن يكون من باب الإشارة فيها (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) للصوفية في هذا الرسول كغيرهم قولان ، فمنهم من قال إنه رسول العقل ، ومنهم من قال رسول الشرع (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) الآية فيها إشارة إلى أنه سبحانه إذا أراد أن يخرب قلب المريد سلط عليه عساكر هوى نفسه وجنود شياطينه فيخرب بسنابك خيول الشهوات وآفات الطبعيات نعوذ بالله تعالى من ذلك (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) لكدورة استعداده وغلبة هواه وطبيعته (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً) عن ذوي العقول (مَدْحُوراً) في سخط الله تعالى وقهره (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) لصفاء استعداده وسلامة فطرته (وَسَعى لَها سَعْيَها) اللائق بها وهو السعي على سبيل الاستقامة وما ترتضيه الشريعة ، وقال بعضهم : السعي إلى الدنيا بالأبدان والسعي إلى الآخرة بالقلوب والسعي على الله تعالى بالهمم (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ثابت الإيمان لا تزعزعه عواصف الشبه (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) مقبولا مثابا عليه ، وعن أبي حفص أن السعي المشكور ما لم يكن مشوبا برياء ولا بسمعة ولا برؤية نفس ولا بطلب عوض بل يكون خالصا لوجهه تعالى لا يشاركه في ذلك شيء فلا تغفل (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) لا تأثير لإرادتهم وسعيهم في ذلك وإنما هي معرفات وعلامات لما قدرنا لهم من العطاء ، ورأيت في الفتوحات المكية أن هذه الآية نحو قوله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [الشمس : ٨] وهو نحو ما تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد سمعت ما فيه (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) عن أحد مطيعا كان أو عاصيا لأن شأنه تعالى شأنه الإفاضة حسبما تقتضيه الحكمة (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) في الدنيا بمقتضى المشيئة والحكمة (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) فهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر رزقنا الله تعالى وإياكم ذلك أنه سبحانه الجواد المالك.

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً

٥٠

إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

٥١

وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٧٢)

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به أمته على حد إياك أعني فاسمعي يا جارة أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب على حد (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا) [الأنعام : ٢٧ ، ٣٠] (فَتَقْعُدَ) بالنصب على النهي ، والقعود قيل بمعنى المكث كما تقول هو قاعد في أسوأ حال أي ماكث ومقيم سواء كان قائما أم جالسا ، وقيل بمعنى العجز والعرب تقول : ما أقعدك عن المكارم أي ما أعجزك عنها ، وقيل : بمعنى الصيرورة من قولهم : شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة أي صارت ، وتعقب هذا أبو حيان بأن مجيء قعد بمعنى صار مقصور عند الأصحاب على هذا المثل ولا يطرد ، وقال بعضهم : إن اطرد فإنما يطرد في مثل الموضع الذي استعملته العرب فيه أولا يعني القول المذكور فلا

٥٢

يقال : قعد كاتبا بمعنى صار بل قعد كأنه سلطان لكونه مثل قعدت كأنها حربة ، ولعل من فسر القعود هنا بمعنى الصيرورة ذهب مذهب الفراء فإنه كما قال أبو حيان وغيره يقول باطراد ذلك وجعل منه قول الراجز المذكور في البحر والحواشي الشهابية ولا حجة فيه.

وحكى الكسائي قعد لا يسأل حاجة إلا قضاها واستعمال البغداديين على هذا ، ثم إنهم اختلفوا في القعود بمعنى العجز فقيل هو مجاز من القعود ضد القيام كالمقعد بمعنى العاجز عن القيام ثم تجوز به عن مطلق العجز ، وقيل هو كناية عن العجز فإن من أراد أخذ شيء يقوم له ومن عجز قعد وأما القعود بمعنى الزمانة فحقيقة والإقعاد مجاز كأن مرضه أقعده وجعل هذا القعود بمعنى المكث حقيقة ، وتعقب بأن فيه نظرا إلا أن يريد حقيقة عرفية لا لغوية لأنه ضد القيام وإذا جعل القعود هنا بمعنى العجز فالفعل لازم ومتعلقه محذوف أي فتعجز عن الفوز بالمقصود مثلا و (مَذْمُوماً مَخْذُولاً) إما خبران لتقعد على القول الأخير وإما حالان مترادفان أي فتقعد جامعا على نفسك الخذلان من الله تعالى والذم من الملائكة والمؤمنين أو من ذوي العقول حيث اتخذت محتاجا مفتقرا مثلك لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلها ونسبت إليه ما لا يصلح له وجعلته شريكا لمن له الكمال الذاتي وهو الذي خلقك ورزقك وأنعم عليك على ما عداه ، وجوز أبو حيان أن يراد بالقعود حقيقته لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائرا متفكرا وهو من باب التعبير بالحال الغالبة ، وفي الآية إشعار بأن الموحد جامع بين المدح والنصرة (وَقَضى رَبُّكَ) أخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : أي أمر (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي بأن لا تعبدوا إلخ على أن مصدرية والجار قبلها مقدر ولا نافية والمراد النهي ، ويجوز أن تكون ناهية كما مر ولا ينافيه التأويل بالمصدر كما أسلفناه أو أي لا تعبدوا إلخ على أن أن مفسرة لتقدم ما تضمن معنى القول دون حروفه ولا ناهية لا غير ، وجوز بعضهم أن تكون أن مخففة واسمها ضمير شأن محذوف ولا ناهية أيضا وهو كما ترى وجوز أبو البقاء أن تكون أن مصدرية ولا زائدة والمعنى الزم ربك عبادته وفيه أن الاستثناء يأبى ذلك وفي الكشاف تفسير قضى بأمر أمرا مقطوعا به وجعل ذلك غير واحد من باب التضمين وجعل المضمن أصلا والمتضمن قيدا وقال بعضهم : أراد أن القضاء مجاز عن الأمر المبتوت الذي لا يحتمل النسخ ولو كان ذلك من التضمين لكان متعلق القضاء الأمر دون المأمور به وإلا لزم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى فيحتاج إلى تخصيص الخطاب بالمؤمنين فيرد عليه بأن جميع أوامر الله تعالى بقضائه فلا وجه للتخصيص.

وتعقب بأن ما ذكر متوجه لو أريد بالقضاء أخو القدر أما لو أريد به معناه اللغوي الذي هو البت والقطع المشار إليه فلا يرد ما ذكره ، ثم إن لزوم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى ادعاه ابن عباس فيما يروى للقضاء من غير تفصيل ، فقد أخرج أبو عبيد وابن منيع وابن المنذر وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : أنزل الله تعالى هذا الحرف على لسان نبيكم «ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه» فلصقت إحدى الواوين بالصاد فقرأ الناس (وَقَضى رَبُّكَ) ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد ، وأخرج مثل ذلك عنه جماعة من طريق سعيد بن جبير وابن أبي حاتم من طريق الضحاك ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهما أيضا وهذا إن صح عجيب من ابن عباس لاندفاع المحذور بحمل القضاء على الأمر ولا أقل كما هو مروي عنه أيضا نعم قيل إن ذلك معنى مجازي للقضاء وقيل إنه حقيقي ، وفي مفردات الراغب القضاء فصل الأمر قولا كان أو فعلا وكل منهما إلهي وبشري فمن القول الإلهي قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي أمر ربك إلى آخر ما قال ، ثم إن هذا الأمر عند البعض بمعنى مطلق الطلب ليتناول طلب ترك العبادة لغيره تعالى ، ويغني عن هذا التجوز كما قيل إن معنى لا تعبدوا غيره اعبدوه وحده فهو أمر باعتبار لازمه ، وإنما اختير ذلك للإشارة إلى أن التخلية بترك ما سواه مقدمة مهمة هنا ، وأمر سبحانه أن لا يعبدوا غيره تعالى لأن العبادة غاية التعظيم وهي لا تليق إلا لمن كان في غاية العظمة منعما بالنعم العظام

٥٣

وما غير الله تعالى كذلك ، وهذا وما عطف عليه من الأعمال الحسنة كالتفصيل للسعي للآخرة.

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي وبأن تحسنوا بهما أو أحسنوا بهما إحسانا ، ولعله إذا نظر إلى توحيد الخطاب فيما بعد قدر وأحسن بالتوحيد أيضا ، والجار والمجرور متعلق بالفعل المقدر وهو الذي ذهب إليه الزمخشري ومنع تعلقه بالمصدر لأن صلته لا تتقدم عليه ، وعلقه الواحدي به فقال الحلبي : إن كان المصدر منحلا بأن والفعل فالوجه ما ذهب إليه الزمخشري وإن جعل نائبا عن الفعل المحذوف فالوجه ما قاله الواحدي ، ومذهب الكثير من النحاة جواز تقديم معموله إذا كان ظرفا مطلقا لتوسعهم فيه والجار والمجرور أخوه.

(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) إما مركبة من إن الشرطية وما المزيدة لتأكيدها.

قال الزمخشري : ولذا صح لحوق النون المؤكدة للفعل ولو أفردت إن لم يصح لحوقها واختلف في لحاقها بعد الزيادة فقال أبو إسحاق بوجوبه ، وعن سيبويه القول بعدم الوجوب ويستشهد له بقول أبي حية النميري :

فإما ترى لمتي هكذا

قد أدرك الفتيات الخفارا

وعليه قول ابن دريد :

أما ترى رأسي حاكى لونه

طرة صبح تحت أذيال الدجى

ومعنى (عِنْدَكَ) في كنفك وكفالتك ، وتقديمه على المفعول مع أن حقه التأخير عنه للتشويق إلى وروده فإنه مدار تضاعف الرعاية والإحسان ، و (أَحَدُهُما) فاعل للفعل ، وتأخيره عن الظرف والمفعول لئلا يطول الكلام به وبما عطف عليه و (كِلاهُما) معطوف عليه.

وقرأ حمزة والكسائي «إما يبلغان» فأحدهما على ما في الكشاف بدل من ألف الضمير لا فاعل والألف علامة التثنية على لغة أكلوني البراغيث فإنه رد بأن ذلك مشروط بأن يسند الفعل المثنى نحو قاما أخواك أو لمفرق بالعطف بالواو خاصة على خلاف فيه نحو قاما زيد وعمرو وما هنا ليس كذلك. واستشكلت البدلية بأن (أَحَدُهُما) على ذلك بدل بعض من كل لا كل من كل لأنه ليس عينه و (كِلاهُما) معطوف عليه فيكون بدل كل من كل لكنه خال عن الفائدة على أن عطف بدل الكل على غيره مما لم نجده. وأجيب بأنا نسلم أنه لم يفد البدل زيادة على المبدل منه لكنه لا يضر لأنه شأن التأكيد ولو سلم أنه لا بد من ذلك ففيه فائدة لأنه بدل مقسم كما قاله ابن عطية فهو كقوله :

فكنت كذي رجلين رجل صحيحة

وأخرى رمى فيها الزمان فشلت

وتعقب بأنه ليس من البدل المذكور لأنه شرطه العطف بالواو وأن لا يصدق المبدل منه على أحد قسميه وهنا قد صدق على أحدهما ، وبالجملة هذا الوجه لا يخلو عن القيل والقال ، وعن أبي علي الفارسي أن (أَحَدُهُما) بدل من ضمير التثنية و (كِلاهُما) تأكيد للضمير ، وتعقب بأن التأكيد لا يعطف على البدل كما لا يعطف على غيره وبأن أحدهما لا يصلح تأكيدا للمثنى ولا غيره فكذا ما عطف عليه وبأن بين إبدال بدل البعض منه وتوكيده تدافعا لأن التأكيد يدفع إرادة البعض منه ، ومن هنا قال في الدر المصون : لا بد من إصلاحه بأن يجعل أحدهما بدل بعض من كل ويضمر بعده فعل رافع لضمير تثنية و (كِلاهُما) توكيد له والتقدير أو يبلغان كلاهما وهو من عطف الجمل حينئذ لكن فيه حذف المؤكد وإبقاء تأكيده وقد منعه بعض النحاة وفيه كلام في مفصلات العربية ، ولعل المختار إضمار فعل لم يتصل به ضمير التثنية وجعل (كِلاهُما) فاعلا له فإنه سالم عما سمعت في غيره ولذا اختاره في البحر ، وتوحيد ضمير الخطاب في (عِنْدَكَ) وفيما بعده مع أن ما صرح به فيما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المراد وهو نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما فإنه لو قوبل الجمع بالجمع أو التثنية بالتثنية لم يحصل ذلك ، وذكر أنه وحد الخطاب

٥٤

في (لا تَجْعَلْ) للمبالغة وجمع في (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) لأنه أوفق لتعظيم أمر القضاء (فَلا تَقُلْ لَهُما) أي لواحد منهما حالتي الانفراد والاجتماع (أُفٍ) هو اسم صوت ينبئ عن التضجر أو اسم فعل هو أتضجر واسم الفعل بمعنى المضارع وكذا بمعنى الماضي قليل والكثير بمعنى الأمر وفيه نحو من أربعين لغة والوارد من ذلك في القراءات سبع ثلاث متواترة وأربع شاذة. فقرأ نافع وحفص بالكسر والتنوين وهو للتنكير فالمعنى أتضجر تضجرا ما وإذا لم ينون دل على تضجر مخصوص ، وقرأ ابن كثير وابن عامر بالفتح دون تنوين ، والباقون بالكسر دون تنوين وهو على أصل التقاء الساكنين والفتح للخفة ولا خلاف بينهم في تشديد الفاء ، وقرأ نافع في رواية عنه بالرفع والتنوين ، وأبو السمال بالضم للاتباع من غير تنوين ، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنه بالنصب والتنوين ، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالسكون ، ومحصل المعنى لا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنهما ، والنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسا جليا لأنه يفهم بطريق الأولى ويسمى مفهوم الموافقة ودلالة النص وفحوى الخطاب ، وقيل يدل على ذلك حقيقة ومنطوقا في عرف اللغة كقولك : فلان لا يملك النقير والقطمير فإنه يدل كذلك على أنه لا يملك شيئا قليلا أو كثيرا ، وخص بعض أنواع الإيذاء بالذكر في قوله تعالى : (وَلا تَنْهَرْهُما) للاعتناء بشأنه والنهر كما قال الراغب الزجر بإغلاظ ، وفي الكشاف النهي والنهر والنهم أخوات أي لا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك.

وقال الإمام : المراد من قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) المنع من إظهار الضجر القليل والكثير والمراد من قوله سبحانه (وَلا تَنْهَرْهُما) المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما ولذا روعي هذا الترتيب وإلا فالمنع من التأفيف يدل على المنع من النهر بطريق الأولى فيكون ذكره بعده عبثا فتأمل.

(وَقُلْ لَهُما) بدل التأفيف والنهر (قَوْلاً كَرِيماً) أي جميلا لا شراسة فيه ، قال الراغب : كل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم ، وجعل ذلك بعض المحققين من وصف الشيء باسم صاحبه أي قولا صادرا عن كرم ولطف ويعود بالآخرة إلى القول الجميل الذي يقتضيه حسن الأدب ويستدعيه النزول على المروءة مثل أن يقول يا أبتاه ويا أماه ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب ، وليس القول الكريم مخصوصا بذلك كما يوهمه اقتصار الحسن فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم عليه فإنه من باب التمثيل ، وكذا ما أخرج عن زهير بن محمد أنه قال فيه : إذا دعواك فقل لبيكما وسعديكما.

وأخرج هو وابن جرير وابن المنذر عن أبي الهداج أنه قال : قلت لسعيد بن المسيب كل ما ذكر الله تعالى في القرآن من بر الوالدين فقد عرفته إلا قوله سبحانه : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) ما هذا القول الكريم ، فقال ابن المسيب قول العبد المذنب للسيد الفظ.

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) أي تواضع لهما وتذلل وفيه وجهان. الأول أن يكون على معنى جناحك الذليل ويكون (جَناحَ الذُّلِ) بل خفض الجناح تمثيلا في التواضع وجاز أن يكون استعارة في المفرد وهو الجناح ويكون الخفض ترشيحا تبعيا أو مستقلا ، الثاني أن يكون من قبيل قول لبيد :

وغداة ريح قد كشفت وقرة

إذ أصبحت بيد الشمال زمامها

فيكون في الكلام استعارة مكنية وتخييلية بأن يشبه الذل بطائر منحط من علو تشبيها مضمرا ويثبت له الجناح تخييلا والخفض ترشيحا فإن الطائر إذا أراد الطيران والعلو نشر جناحيه ورفعهما ليرتفع فإذا ترك ذلك خفضهما ، وأيضا هو إذا رأى جارحا يخافه لصق بالأرض وألصق جناحيه وهي غاية خوفه وتذلّله ، وقيل المراد بخفضهما ما يفعله إذا ضم

٥٥

فراخه للتربية وأنه أنسب بالمقام ، وفي الكشف أن في الكلام استعارة بالكناية ناشئة من جعل الجناح الذل ثم المجموع كما هو مثل في غاية التواضع ولما أثبت لذله جناحا أمره بخفضه تكميلا وما عسى يختلج في بعض الخواطر من أنه لما أثبت لذله جناحا فالأمر برفع ذلك الجناح أبلغ في تقوية الذل من خفضه لأن كمال الطائر عند رفعه فهو ظاهر السقوط إذا جعل المجموع تمثيلا لأن الغرض تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس ، وأما على الترشيح فهو وهم لأن جعل الجناح المخفوض للذل يدل على التواضع وأما جعل الجناح وحده فليس بشيء ولهذا جعل تمثيلا فيما سلف.

وقرأ سعيد بن جبير «من الذل» بكسر الذال وهو الانقياد وأصله في الدواب والنعت فالمذلول وأما الذل بالضم فأصله في الإنسان وهو ضد العز والنعت منه ذليل (مِنَ الرَّحْمَةِ) أي من فرط رحمتك عليهما فمن ابتدائية على سبيل التعليل ، قال في الكشف : ولا يحتمل البيان حتى يقال لو كان كذا لرجعت الاستعارة إلى التشبيه إذ جناح الذل ليس من الرحمة أبدا بل خفض جناح الذل جاز أن يقال إنه رحمة وهذا بين ، واستفادة المبالغة من جعل جنس الرحمة مبدأ للتذلل فإنه لا ينشأ إلا من رحمة تامة ، وقيل من كون التعريف للاستغراق وليس بذاك ، وإنما احتاجا إلى ذلك لافتقارهما إلى من كان أفقر الخلق إليهما واحتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه غاية الضراعة والمسكنة فيحتاج إلى أشد رحمة ، ولله تعالى در الخفاجي حيث يقول :

يا من أتى يسأل عن فاقتي

ما حال من يسأل من سائله

ما ذلة السلطان إلا إذا

أصبح محتاجا إلى عامله

(وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما) وادع الله تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية وهي رحمة الآخرة ولا تكتف برحمتك الفانية وهي ما تضمنها الأمر والنهي السالفان ، وخصت الرحمة الأخروية بالإرادة لأنها الأعظم المناسب طلبه من العظيم ولأن الرحمة الدنيوية حاصلة عموما لكل أحد ؛ وجوز أن يراد ما يعم الرحمتين ، وأيا ما كان فهذه الرحمة التي في الدعاء قيل إنها مخصوصة بالأبوين المسلمين ، وقيل عامة منسوخة بآية النهي عن الاستغفار ، وقيل عامة ولا نسخ لأن تلك الآية بعد الموت وهذه قبله ومن رحمة الله تعالى لهما أن يهديهما للإيمان فالدعاء بها مستلزم للدعاء به ولا ضير فيه ، والقول بالنسخ أخرجه البخاري في الأدب المفرد. وأبو داود وابن جرير وابن المنذر من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : (كَما رَبَّيانِي) الكاف للتشبيه ، والجار والمجرور صفة مصدر مقدر أي رحمة مثل تربيتهما لي أو مثل رحمتهما لي على أن التربية رحمة ، وجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معا وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر كما يلوح به التعرض لعنوان الربوبية في مطلع الدعاء كأنه قيل : رب ارحمهما وربهما كما رحماني وربياني (صَغِيراً) وفيه بعد.

وجوز أن تكون الكاف للتعليل أي لأجل تربيتهما لي وتعقب بأنه مخالف لمعناها المشهور مع إفادة التشبيه ما أفاده التعليل ، وقال الطيبي : إن الكاف لتأكيد الوجود كأنه قيل رب ارحمهما رحمة محققة مكشوفة لا ريب فيها كقوله تعالى : (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات : ٢٣] قال في الكشف وهو وجه حسن وأما الحمل عليّ أن ما المصدرية جعلت حينا أي ارحمهما في وقت أحوج ما يكونان إلى الرحمة كوقت رحمتهما علي في حال الصغر وأنا كلحم علي وضم وليس ذلك إلا في القيامة والرحمة هي الجنة والبت بأن هذا هو التحقيق فليت شعري الاستقامة وجهه في العربية ارتضاه أم لطباقه للمقام وفخامة معناه اه ، وهو كما أشار إليه ليس بشيء يعول عليه ، والظاهر أن الأمر للوجوب فيجب على الولد أن يدعو لوالديه بالرحمة ، ومقتضى عدم إفادة الأمر التكرار أنه يكفي في الامتثال مرة

٥٦

واحدة ، وقد سئل سفيان كم يدعو الإنسان لوالديه في اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة؟ فقال : نرجو أن يجزيه إذا دعا لهما في آخر التشهدات كما أن الله تعالى قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٥٦] فكانوا يرون التشهد يكفي في الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكما قال سبحانه : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ٢٠٣] ثم يكبرون في أدبار الصلاة ، هذا وقد بالغ عزوجل في التوصية بهما من وجوه لا تخفى ولو لم يكن سوى أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه ونظمهما في سلك القضاء بهما معا لكفى ، وقد روى ابن حبان والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) قال «رضا الله تعالى في رضا الوالدين وسخط الله تعالى في سخط الوالدين» وصح أن رجلا جاء يستأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجهاد معه فقال: أحي والداك؟ قال : نعم قال : ففيهما فجاهد ، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لو علم الله تعالى شيئا أدنى من آلاف لنهى عنه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار». ورأى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رجلا يطوف بالكعبة حاملا أمه على رقبته فقال: يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال : لا ولا بطلقة واحدة ولكنك أحسنت والله تعالى يثيبك على القليل كثيرا.

وروى مسلم وغيره «لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» وروى البيهقي في الدلائل والطبراني في الأوسط والصغير بسند فيه من لا يعرف عن جابر قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إن أبي أخذ مالي فقال النبي عليه الصلاة والسلام : «فاذهب فأتني بأبيك فنزل جبريل عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول : إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بال ابنك يشكوك تريد أن تأخذ ماله؟ قال : سله يا رسول الله هل أنفقته إلا على عماته وخالاته أو على نفسي فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ايه دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك فقال الشيخ : والله يا رسول الله ما يزال الله تعالى يزيدنا بك يقينا لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي فقال : قل وأنا أسمع فقال : قلت :

غذوتك مولودا ومنتك يافعا

تعل بما أجني عليك وتنهل

إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت

لسقمك إلا ساهرا أتملل

كأني أنا المطروق دونك بالذي

طرقت به دوني فعيني تهمل

تخاف الردى نفسي عليك وإنها

لتعلم أن الموت وقت مؤجل

فلما بلغت السن والغاية التي

إليها مدى ما كنت فيها أؤمل

جعلت جزائي غلظة وفظاظة

كأنك أنت المنعم المتفضل

فليتك إذ لم ترع حق أبوتي

فعلت كما الجار المجاور يفعل

تراه معدا للخلاف كأنه

برد على أهل الصواب موكل

قال : فحينئذ أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلابيب ابنه وقال : «أنت ومالك لأبيك» والأم مقدمة في البر على الأب فقد روى الشيخان يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال : أمك قال : ثم من؟ قال : أمك قال : ثم من؟ قال : أبوك». ولا يختص البر بالحياة بل يكون بعد الموت أيضا ، فقد روى ابن ماجة «يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال : نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإيفاء عهدهما من بعدهما وصلة الرحم

__________________

(١) ورجح الترمذي وقفه اه منه.

٥٧

التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما» ورواه ابن حبان في صحيحه بزيادة «قال الرجل : ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه قال : فاعمل به».

وأخرج البيهقي عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن العبد ليموت والداه أو أحدهما وإنه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله تعالى بارا ، وأخرج عن الأوزاعي قال : بلغني أن من عق والديه في حياتهما ثم قضى دينا إن كان عليهما واستغفر لهما ولم يستسب لهما كتب بارا ومن بر والديه في حياتهما ثم لم يقض دينا إن كان عليهما ولم يستغفر لهما واستسب لهما كتب عاقا» وأخرج هو أيضا وابن أبي الدنيا عن محمد بن النعمان يرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب برا».

وروى مسلم أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لقيه رجل بطريق مكة فسلم عليه ابن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه فقال ابن دينار فقلت له : أصلحك الله تعالى إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير فقال : إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه».

وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بردة رضي الله تعالى عنه قال : قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال : أتدري لم أتيتك؟ قال : قلت لا قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده» وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذلك. وقد ورد في فضل البر ما لا يحصى كثرة من الأحاديث ، وصح عد العقوق من أكبر الكبائر وكونه منها هو ما اتفقوا عليه وظاهر كلام الأكثرين بل صريحه أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الوالدان كافرين وإن يكونا مسلمين ، والتقييد بالمسلمين في الحديث الحسن أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الكبائر فقال : تسع أعظمهن الإشراك وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار من الزحف وقذف المحصنة والسحر وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين المسلمين ، إما لأن عقوقهما أقبح والكلام هناك في ذكر الأعظم على أحد التقديرين في عطف وقتل المؤمن وما بعده وإما لأنهما ذكرا للغالب كما في نظائر أخر.

وللحليمي هاهنا تفصيل مبني على رأي له ضعيف وهو أن العقوق كبيرة فإن كان معه نحو سب ففاحشة وإن كان عقوقه هو استثقاله لأمرهما ونهيهما والعبوس في وجوههما والتبرم بهما مع بذل الطاعة ولزوم الصمت فصغيرة فإن كان ما يأتيه من ذلك يلجئهما إلى أن ينقبضا فيتركا أمره ونهيه ويلحقهما من ذلك ضرر فكبيرة.

وبينهم في حد العقوق خلاف ففي فتاوى البلقيني مسألة قد ابتلي الناس بها واحتيج إلى بسط الكلام عليها وإلى تفاريعها ليحصل المقصود في ضمن ذلك وهي السؤال عن ضابط الحد الذي يعرف به عقوق الوالدين إذ الإحالة على العرف من غير مثال لا يحصل المقصود إذ الناس تحملهم أغراضهم على أن يجعلوا ما ليس بعرف عرفا فلا بد من مثال ينسج على منواله وهو أنه مثلا لو كان له على أبيه حق شرعي فاختار أن يرفعه إلى الحاكم ليأخذ حقه منه ولو حبسه فهل يكون ذلك عقوقا أولا؟ أجاب هذا الموضع قال فيه بعض الأكابر : إنه يعسر ضبطه وقد فتح الله تعالى بضابط أرجو من فضل الفتاح العليم أن يكون حسنا فأقول : العقوق لأحد الوالدين هو أن يؤذيه بما لو فعله مع غيره كان محرما من جملة الصغائر فينتقل بالنسبة إليه إلى الكبائر أو أن يخالف أمره أو نهيه فيما يدخل منه الخوف على الولد من فوت نفسه أو عضو من أعضائه ما لم يتهم الوالد في ذلك أو أن يخالفه في سفر يشق على الوالد وليس بفرض على الولد أو في غيبة طويلة فيما ليس بعلم نافع ولا كسب فيه أو فيه وقيعة في العرض لها وقع.

وبيان هذا الضابط أن قولنا : أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غير والديه كان محرما فمثاله لو شتم غير

٥٨

أحد والديه أو ضربه بحيث لا ينتهي الشتم أو الضرب إلى الكبيرة فإنه يكون المحرم المذكور إذا فعله الولد مع أحد والديه كبيرة ، وخرج بقولنا أن يؤذي ما لو أخذ فلسا أو شيئا يسيرا من مال أحد والديه فإنه لا يكون كبيرة وإن كان لو أخذه من مال غير والديه بغير طريق معتبرا كان حراما لأن أحد الوالدين لا يتأذى بمثل ذلك لما عنده من الشفقة والحنو فإن أخذ مالا كثيرا بحيث يتأذى المأخوذ منه من الوالدين بذلك فإنه يكون كبيرة في حق الأجنبي فكذلك هنا لكن الضابط فيما يكون حراما صغيرة بالنسبة إلى غير الوالدين ، وخرج بقولنا : ما لو فعله مع غير أحد الوالدين كان محرما نحو ما إذا طالب بدين فإن هذا لا يكون عقوقا لأنه إذا فعله مع غير الوالدين لا يكون محرما فافهم ذلك فإنه من النفائس ، وأما الحبس فإن فرعناه على جواز حبس الوالد بدين الولد كما صححه جماعة فقد طلب ما هو جائز فلا عقوق وإن فرعنا على منع حبسه المصحح عند آخرين فالحاكم إذا كان معتقده ذلك لا يجيب إليه ولا يكون الولد بطلب ذلك عاقا إذا كان معتقدا الوجه الأول فإن اعتقد المنع وأقدم عليه كان كما لو طلب حبس من لا يجوز حبسه من الأجانب لاعسار ونحوه فإذا حبسه الولد واعتقاده المنع كان عاقا لأنه لو فعله مع غير والده حيث لا يجوز كان حراما ، وأما مجرد الشكوى الجائزة والطلب الجائز فليس من العقوق في شيء ، وقد شكا بعض ولد الصحابة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم ينهه عليه الصلاة والسلام وهو الذي لا يقر على باطل ، وأما إذا نهر أحد والديه فإنه إذا فعل ذلك مع غير الوالدين وكان محرما كان في حق أحد الوالدين كبيرة وإن لم يكن محرما ، وكذا أف فإن ذلك يكون صغيرة في حق أحد الوالدين ولا يلزم من النهي عنهما والحال ما ذكر أن يكونا من الكبائر ؛ وقولنا أو أن يخالف أمره ونهيه فيما يدخل منه الخوف إلخ أردنا به السفر للجهاد ونحوه من الأسفار الخطرة لما يخاف من فوات نفس الولد أو عضو من أعضائه لشدة تفجع الوالدين على ذلك ، وقد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث عبد الله بن عمرو في الرجل الذي جاء يستأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للجهاد أنه عليه الصلاة والسلام قال له : أحي والداك؟ قال : نعم قال : ففيهما فجاهد ، وفي رواية ارجع إليهما ففيهما المجاهدة ، وفي أخرى جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال : ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما ، وفي إسناده عطاء بن السائب لكن من رواية سفيان عنه. وروى أبو سعيد الخدري أن رجلا هاجر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : هل لك أحد باليمن؟ قال : أبواي قال : أذنا لك قال : لا قال : فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما. ورواه أبو داود وفي إسناده من اختلف في توثيقه ، وقولنا : ما لم يتهم الوالد في ذلك أخرجنا به ما لو كان الوالد كافرا فإنه لا يحتاج الولد إلى إذنه في الجهاد ونحوه ، وحيث اعتبرنا إذن الوالد فلا فرق بين أن يكون حرا أو عبدا ، وقولنا : أو أن يخالفه في سفر إلخ أردنا به السفر لحج التطوع حيث كان فيه مشقة وأخرجنا بذلك حج الفرض وإذا كان فيه ركوب البحر يجب ركوبه عند غلبة السلامة فظاهر الفقه أنه لا يجب الاستئذان ولو قيل بوجوبه لما عند الوالد من الخوف في ركوب البحر وإن غلبت السلامة لم يكن بعيدا ، وأما سفره للعلم المتعين أو لفرض الكفاية فلا منع منه وإن كان يمكنه التعلم في بلده خلافا لمن اشترط ذلك لأنه قد يتوقع في السفر فراغ قلب وإرشاد أستاذ ونحو ذلك فإن لم يتوقع شيئا من ذلك احتاج إلى الاستئذان وحيث وجبت النفقة للوالد على الولد وكان في سفره تضييع للواجب فللوالد المنع ، وأما إذا كان الولد بسفره يحصل وقيعة في العرض لها وقع بأن يكون أمرد ويخاف من سفره تهمة فإنه يمنع من ذلك وذلك في الأنثى أولى ، وأما مخالفة أمره ونهيه فيما لا يدخل على الولد فيه ضرر بالكلية وإنما هو مجرد إرشاد للولد فلا تكون عقوقا وعدم المخالفة أولى اه كلام البلقيني «وذكر بعض المحققين» أن العقوق فعل ما يحصل منه لهما أو لأحدهما إيذاء ليس بالهين عرفا. ويحتمل أن العبرة بالمتأذي لكن لو كان الوالد مثلا في غاية الحمق أو سفاهة العقل فأمر أو نهى ولده بما لا يعد مخالفته فيه في العرف عقوقا لا يفسق ولده بمخالفته حينئذ لعذره وعليه فلو كان متزوجا بمن يحبها فأمره بطلاقها ولو لعدم عفتها فلم يمتثل أمره لا إثم عليه ، نعم الأفضل طلاقها امتثالا

٥٩

لأمر والده ، فقد روى ابن حبان في صحيحه أن رجلا أتى أبا الدرداء فقال : إن أبي لم يزل بي حتى زوجني امرأة وإنه الآن يأمرني بفراقها قال : ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك ولا بالذي آمرك أن تطلق زوجتك غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمعته يقول : «الوالد أوسط أبواب الجنة» فحافظ على ذلك إن شئت أو دع ، وروى أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها فأبيت فأتى عمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : طلقها ، وكذا سائر أوامره التي لا حامل لها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه ولو عرضت على أرباب العقول لعدوها متساهلا فيها ولرأوا أنه لا إيذاء بمخالفتها ثم قال : هذا هو الذي يتجه في تقرير الحد. وتعقب ما نقل عن البلقيني بأن تخصيصه العقوق بفعل المحرم الصغيرة بالنسبة للغير فيه وقفة بل ينبغي أن المدار على ما ذكر من أنه لو فعل معه ما يتأذى به تأذيا ليس بالهين عرفا كان كبيرة وإن لم يكن محرما لو فعله مع الغير كأن يلقاه فيقطب في وجهه أو يقدم عليه في ملأ فلا يقوم إليه ولا يعبأ به ونحو ذلك مما يقضي أهل العقل والمروءة من أهل العرف بأنه مؤذ إيذاء عظيما فتأمل.

ثم إن السبب في تعظيم أمر الوالدين أنهما السبب الظاهري في إيجاده وتعيشه ولا يكاد تكون نعمة أحد من الخلق على الولد كنعمة الوالدين عليه ، لا يقال عليه : إن الوالدين إنما طلبا تحصيل اللذة لأنفسهما فلزم منه دخول الولد في الوجود ودخوله في عالم الآفات والمخافات فأي إنعام لهما عليه ، وقد حكي أن واحدا من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة ، وقيل لأبي العلاء المعري ولم يكن ذا ولد : ما نكتب على قبرك فقال : اكتبوا عليه :

هذا جناه أبي عليّ

وما جنيت على أحد

وقال في ترك التزوج وعدم الولد :

وتركت فيهم نعمة العدم التي

سبقت وصدت عن نعيم العاجل

ولو إنهم ولدوا لنالوا شدة

ترمي بهم في موبقات الآجل

وقال ابن رشيق :

قبح الله لذة لشقانا

نالها الأمهات والآباء

نحن لو لا الوجود لم نألم الفق

د فإيجادنا علينا بلاء

وقيل للإسكندر : أستاذك أعظم منة عليك أم والدك؟ فقال : الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي حتى أوقفني على نور العلم وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى عالم الكون والفساد لأنا نقول : هب أنه في أول الأمر كان المطلوب لذة الوقاع إلا أن الاهتمام بإيصال الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات ، وقد يقال : لو كان الإدخال في عالم الكون والفساد والتعريض للأكدار والأنكاد دافعا لحق الوالدين لزم أن يكون دافعا لحق الله تعالى لأنه سبحانه الفاعل الحقيقي ، وأيضا يعارض ذلك التعريض للنعيم المقيم والثواب العظيم كما لا يخفى على ذي العقل السليم ، ولعمري أن إنكار حقهما إنكار لأجل الأمور ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) من قصد البر إليهما وانعقاد ما يجب من التوقير لهما ، وهو على ما قيل تهديد على أن يضمر لهما

٦٠