روح المعاني - ج ٨

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٨

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٨

من رفع الشبهة في شيء بل هو مؤيد لها فإن كون القتل أقبح من مبادئ قلة صدوره عن المؤمن العاقل وندرة وصول خبره إلى الأسماع وذلك مما يستدعي جعله مقصودا وكون الاعتراض عليه أدخل من موجبات كثرة صدوره عن كل عاقل فضلا عن النبي وذلك لا يقتضي جعله كذلك انتهى ، وتعقب بأن ما ذكره من النكتة على تقدير تسليمه لا يضر من بينها بما تقدم إذ لا تزاحم في النكات ، وأما اعتراضه فقوله مما يستدعي جعله مقصودا إن أراد أنه مقصود في نفسه فليس بصحيح وإن أراد أنه مقصود بأن يعترض عليه ويمنع منه فهذا يقتضي جعل الاعتراض جزاء كما مر ، وأما كونه من موجبات كثرة صدوره عن كل عاقل فمقتض للاهتمام بالاعتراض عليه.

وأنت تعلم أن الشيء كلما ندر كان الإخبار به وإفادته السامع أوقع في النفس وأن الأخبار الغريبة يهتم بإفادتها ما لا يهتم بإفادة غير الغريبة إذ العالم بالغريب قليل بخلاف العالم بغيره وإنكار ذلك مكابرة فمراد الشيخ أن كون القتل أقبح من مبادئ قلة صدوره عن المؤمن العاقل وندرة وصول خبره إلى الأسماع وذلك مما يستدعي جعله مقصودا بالإفادة كما هو شأن الأمور القليلة الصدور النادرة الوقوع وكون الاعتراض عليه أدخل من موجبات كثرة الصدور وذلك لا يقتضي أن يعامل كذلك ، وعلى هذا لا غبار على ما ذكره عند المنصف ، ثم إن ما ذكره من النكتة يتأتى على القول بأن القتل أقبح من الخرق وعلى القول بالعكس أيضا وهذا بخلاف ما تقدم فإنه كان مبنيا على أقبحية القتل فمن لا يقول بها يحتاج في بيان النكتة إلى غير ذلك ، وقد رجح بذلك على ما تقدم ، واستأنس له أيضا بأن مساق الكلام من أوله لشرح حال موسى عليه‌السلام فجعل اعتراضه عمدة الكلام أوفق بالمساق إلا أنه عدل عن ذلك في قصة الخرق وجعل ما صدر عن الخضر عليه‌السلام عمدة دون اعتراضه لأن النفس لما سمعت وصف الخضر ظمأت لسماع ما يصدر منه فبل غليلها وجعل ما صدر عنه مقصودا بالإفادة لأنه مطلوب للنفس وهي منتظرة إياه ثم بعد أن سمعت ذلك وسكن أوامها سلك بالكلام مسلكه الأول وقصد بالإفادة حال من سبق الكلام من أوله لشرح حاله ، ولا يخفى أن هذا قول بأن الأصل نظرا إلى السوق أن تكون القصة الأولى على طرز القصة الثانية إلا أنه عدل عن ذلك لما ذكر ، والخروج عن الأصل يتقدر بقدر الحاجة (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ١٧٣] وهو مخالف لما يفهم من كلام الشيخ في الجملة فافهم والله تعالى أعلم. وقرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان وأبو جعفر وشيبة وطلحة ويعقوب وأبو حاتم (نُكْراً) بضمتين حيث كان منصوبا. (١)

__________________

(١) تم الجزء الخامس عشر ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس عشر وأوله (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ).

٣٢١
٣٢٢

الجزء السادس عشر

٣٢٣
٣٢٤

بسم الله الرحمن الرحيم

(فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً)(٨١)

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) زيادة (لَكَ) لزيادة المكافحة على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر لما تكرر منه الاشمئزاز والاستنكار ولم يرعو بالتذكير حتى زاد في النكير في المرة الثانية.

(قالَ) أي موسى عليه‌السلام (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ) تفعله من الأعاجيب (بَعْدَها) أي بعد هذه المرة أو بعد هذه المسألة (فَلا تُصاحِبْنِي) وقرأ عيسى ويعقوب «فلا تصحبني» بفتح التاء من صحبه أي فلا تكن صاحبي ، وعن عيسى أيضا «فلا تصحبني» بضم التاء وكسر الحاء من أصحبه ورواها سهل عن أبي عمرو أي فلا تصحبني إياك ولا تجعلني صاحبك ، وقدر بعضهم المفعول الثاني علمك وليس بذاك.

وقرأ الأعرج «فلا تصحبنّي» بفتح التاء والباء وشد النون ، والمراد المبالغة في النهي أي فلا تكن صاحبي البتة ، وهذا يؤيد كون المراد من النهي فيما لا تأكيد فيه التحريم ، والمراد به الحزم بالترك والمفارقة لا الترخيص على معنى إن سألتك بعد فأنت مرخص في ترك صحبتي (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أي وجدت عذرا من قبلي ، وقال النووي : معناه قد بلغت إلى الغاية التي تعذر بسببها في فراقي حيث خالفتك مرة بعد مرة.

وصح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب لكن أخذته من صاحبه ذمامة فقال ذلك ، وقرأ نافع وعاصم «من لدني» بتخفيف النون وهي حجة على س في منعه ذلك ، والأكثرون على أنه حذف نون الوقاية وأبقى النون الأصلية المكسورة على ما هو القياس في الأسماء المضافة من أنها لا تلحقها نون الوقاية كوطني ومقامي ، وقيل : إنه يحتمل أن يكون المذكور نون الوقاية والمضاف إنما هو ـ لد ـ بلا نون لغة في

٣٢٥

لدن فلا حذف أصلا ؛ وتعقب بأن نون الوقاية إنما هي في المبني على السكون لتقيه الكسر و ـ لد ـ بلا نون مضموم. ورد بأنه لا مانع من أن يقال : إنها وقته من زوال الضم ؛ وأشم شعبة الضم في الدال وروي عن عاصم أنه سكنها ، وقال مجاهد : سوء غلط ، ولعله أراد رواية وإلا فقد ذكروا أن لد بالفتح والسكون لغة في لدن ، وقرأ عيسى «عذرا» بضم الذال ورويت عن أبي عمرو وعن أبي «عذري» بالإضافة إلى ياء المتكلم.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) الجمهور على أنها أنطاكية وحكاه الثعلبي عن ابن عباس ، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق قتادة عنه أنها برقة وهي كما في القاموس اسم لمواضع ، وفي المواهب أنها قرية بأرض الروم والله تعالى أعلم ، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن السدي أنها باجروان وهي أيضا اسم لمتعدد إلا أنه ذكر بعضهم أن المراد بها قرية بنواحي أرمينية ، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين أنها الأبلة بهمزة وباء موحدة ولام مشددة ، وقيل : قرية على ساحل البحر يقال لها ناصرة وإليها تنسب النصارى قال في مجمع البيان وهو المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ، وقيل : قرية في الجزيرة الخضراء من أرض الأندلس ، قال ابن حجر : والخلاف هنا كالخلاف في مجمع البحرين ولا يوثق بشيء منه ، وفي الحديث أتيا أهل قرية لئاما (اسْتَطْعَما أَهْلَها) في محل الجر على أنه صفة لقرية ، وجواب إذا (قالَ) الآتي إن شاء الله تعالى وسلك بذلك نحو ما سلك في القصة الثانية من جعل الاعتراض عمدة الكلام للنكتة التي ذكرها هناك شيخ الإسلام ، وذهب أبو البقاء وغيره إلى أنه هو الجواب والآتي مستأنف نظير ما في القصة الأولى ، والوصفية مختار المحققين كما ستعلمه إن شاء الله تعالى. وهاهنا سؤال مشهور وقد نظمه الصلاح الصفدي ورفعه إلى الإمام تقي الدين السبكي فقال :

أسيدنا قاضي القضاة ومن إذا

بدا وجهه استحى له القمران

ومن كفه يوم الندى ويراعه

على طرسه بحران يلتقيان

ومن إن دجت في المشكلات مسائل

جلاها بفكر دائم اللمعان

رأيت كتاب الله أعظم معجز

لأفضل من يهدى به الثقلان

ومن جملة الإعجاز كون اختصاره

بإيجاز ألفاظ وبسط معاني

ولكنني في الكهف أبصرت آية

بها الفكر في طول الزمان عناني

وما هي إلا استطعما أهلها فقد

نرى استطعماهم مثله ببيان

فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر

مكان ضمير إن ذاك لشان

فأرشد على عادات فضلك حيرتي

فما لي إلى هذا الكلام يدان

فأجاب السبكي بأن جملة (اسْتَطْعَما) محتملة لأن تكون في محل جر صفة لقرية وأن تكون في محل نصب صفة لأهل وأن تكون جواب إذا ولا احتمال لغير ذلك ، ومن تأمل علم أن الأول متعين معنى وأن الثاني والثالث وإن احتملتهما الآية بعيدان عن مغزاها ، أما الثالث فلأنه يلزم عليه كون المقصود الإخبار بالاستطعام عند الإتيان وأن ذلك تمام معنى الكلام ، ويلزمه أن يكون معظم قصدهما أو هو طلب الطعام مع أن القصد هو ما أراد ربك مما قص بعد وإظهار الأمر العجيب لموسى عليه‌السلام ، وأما الثاني فلأنه يلزم عليه أن تكون العناية بشرح حال الأهل من حيث هم هم ولا يكون للقرية أثر في ذلك ونحن نجد بقية الكلام مشيرا إليها نفسها فيتعين الأول ويجب فيه (اسْتَطْعَما أَهْلَها) ولا يجوز استطعماهم أصلا لخلو الجملة عن ضمير الموصوف.

وعلى هذا يفهم من مجموع الآيات أن الخضر عليه‌السلام فعل ما فعل في قرية مذموم أهلها وقد تقدم منهم

٣٢٦

سوء صنيع من الآباء عن حق الضيف مع طلبه وللبقاع تأثير في الطباع ولم يهم فيها مع أنها حرية بالإفساد والإضاعة بل باشر الإصلاح لمجرد الطاعة ولم يعبأ عليه‌السلام بفعل أهلها اللئام ، وينضاف إلى ذلك من الفوائد أن الأهل الثاني يحتمل أن يكونوا هم الأولون أو غيرهم أو منهم ومن غيرهم ، والغالب أن من أتى قرية لا يجد جملة أهلها دفعة بل يقع بصره أولا على البعض ثم قد يستقريهم فلعل هذين العبدين الصالحين لما أتيا قدر الله تعالى لهما استقراء الجميع على التدريج ليتبين به كمال رحمته سبحانه وعدم مؤاخذته تعالى بسوء صنيع بعض عباده ، ولو قيل استطعماهم تعين إرادة الأولين فأتى بالظاهر إشعارا بتأكيد العموم فيه وأنهما لم يتركا أحدا من أهلها حتى استطعماه وأبى ومع ذلك قوبلوا بأحسن الجزاء ، فانظر إلى هذه الأسرار كيف احتجبت عن كثير من المفسرين تحت الأستار حتى أن بعضهم لم يتعرض لشيء ، وبعضهم ادعى أن ذلك تأكيد ، وآخر زعم ما لا يعول عليه حتى سمعت عن شخص أنه قال : إن العدول عن استطعماهم لأن اجتماع الضميرين في كلمة واحدة مستثقل وهو قول يحكى ليرد فإن القرآن والكلام الفصيح مملوء من ذلك ومنه ما يأتي في الآية ، ومن تمام الكلام فيما ذكر أن استطعما إن جعل جوابا فهو متأخر عن الإتيان وإذا جعل صفة احتمل أن يكون الإتيان قد اتفق قبل هذه المرة وذكر تعريفا وتنبيها على أنه لم يحملهما على عدم الإتيان لقصد الخير فهذا ما فتح الله تعالى علي والشعر يضيق عن الجواب وقد قلت :

لأسرار آيات الكتاب معاني

تدق فلا تبدو لكل معاني

وفيها لمرتاض لبيب عجائب

سنا برقها يعنو له القمران

إذا بارق منها لقلبي قد بدا

هممت قرير العين بالطيران

سرورا وإبهاجا وصولا على العلا

كأني علا فوق السماك مكاني

فما الملك والأقران ما البيض ما القنا

وعندي وجوه أسفرت بتهاني

وهاتيك منها قد أبحتك سرها

فشكرا لمن أولاك حسن بياني

أرى استطعما وصفا على قرية جرى

وليس لها (١) والنحو كالميزان

صناعته تقضي بأن استتار ما

يعود عليه ليس في الإمكان

وليس جوابا لا ولا صف أهلها

فلا وجه للإضمار والكتمان

وهذي ثلاث ما سواها بممكن

تعين منها واحد فسباني

ورضت بها فكري إلى أن تمخضت

به زبدة الأحقاب منذ زمان

وإن حياتي في تموج أبحر

من العلم في قلبي يمد لساني

إلى آخر ما تحمس به ، وفيه من المناقشة ما فيه. وقد اعترض بعضهم بأنه على تقدير كون الجملة صفة للقرية يمكن أن يؤتى بتركيب أخصر مما ذكر بأن يقال : فلما أتيا قرية استطعما أهلها فما الداعي إلى ذكر الأهل أولا على هذا التقدير ، وأجيب بأنه جيء بالأهل للإشارة إلى أنهم قصدوا بالإتيان في قريتهم وسألوا فمنعوا ولا شك أن هذا أبلغ في اللؤم وأبعد عن صدور جميل في حق أحد منهم فيكون صدور ما صدر من الخضر عليه‌السلام غريبا جدا ، لا يقال : ليكن التركيب كذلك وليكن على الإرادة الأهل تقديرا أو تجوزا كما في قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] لأنا نقول : إن الإتيان ينسب للمكان كأتيت عرفات ولمن فيه كأتيت أهل بغداد فلو لم يذكر كان فيه تفويتا

__________________

(١) أي صفة جرت على غير من هي له اه منه.

٣٢٧

للمقصود ، وليس ذلك نظير ما ذكر من الآية لامتناع سؤال نفس القرية عادة ، واختار الشيخ عز الدين علي الموصلي في جواب الصفدي أن تكرار الأهل والعدول عن استطعماهم إلى (اسْتَطْعَما أَهْلَها) للتحقير وهو أحد نكات إقامة الظاهر مقام الضمير وبسط الكلام في ذلك نثرا ؛ وقال نظما :

سألت لما ذا استطعما أهلها أتى

عن استطعماهم إن ذاك لشان

وفيه اختصار ليس ثم ولم تقف

على سبب الرجحان منذ زمان

فهاك جوابا رافعا لنقابه

يصير به المعنى كرأي عيان

إذا ما استوى الحالان في الحكم رجح

الضمير وأما حين يختلفان

بأن كان في التصريح إظهار حكمة

كرفعة شأن أو حقارة جاني

كمثل أمير المؤمنين يقول ذا

وما نحن فيه صرحوا بأمان

وهذا على الإيجاز والبسط جاء في

جوابي منثورا بحسن بيان

وذكر في النثر وجها آخر للعدول وهو ما نقله السبكي ورده ، وقد ذكره أيضا النيسابوري وهو لعمري كما قال السبكي ، ويؤول إلى ما ذكر من أن الإظهار للتحقير قول بعض المحققين : إنه للتأكيد المقصود منه زيادة التشنيع وهو وجه وجيه عند كل نبيه ، ومن ذلك قوله تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [البقرة : ٥٩] الآية ومثله كثير في الفصيح ، وقال بعضهم : إن الأهلين متغايران فلذا جيء بهما معا ، وقولهم : إذا أعيد المذكور أولا معرفة كان الثاني عين الأول غير مطرد وذلك لأن المراد بالأهل الأول البعض إذ في ابتداء دخول القرية لا يتأتى عادة إتيان جميع أهلها لا سيما على ما روي من أن دخولهما كان قبل غروب الشمس وبالأهل الثاني الجميع لما ورد أنهما عليهما‌السلام كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم فلو جيء بالضمير لفهم أنهما استطعما البعض ، وعكس بعضهم الأمر فقال : المراد بالأهل الأول الجميع ومعنى إتيانهم الوصول إليهم والحلول فيما بينهم ؛ وهو نظير إتيان البلد وهو ظاهر في الوصول إلى بعض منه والحلول فيه وبالأهل الثاني البعض إذ سؤال فرد فرد من كبار أهل القرية وصغارهم وذكورهم وإناثهم وأغنيائهم وفقرائهم مستبعد جدا والخبر لا يدل عليه ولعله ظاهر في أنهما استطعما الرجال ، وقد روي عن أبي هريرة والله تعالى أعلم بصحة الخبر أنه قال : أطعمتهما امرأة من بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعيا لنسائهم ولعنا رجالهم فلذا جيء بالظاهر دون الضمير ، ونقل مثله عن الإمام الشافعي عليه الرحمة في الرسالة. وأورد عليهما أن فيهما مخالفة لما هو الغالب في إعادة الأول معرفة ، وعلى الثاني أنه ليس في المغايرة المذكورة فيه فائدة يعتد بها ، ولا يورد هذا على الأول لأن فائدة المغايرة المذكورة فيه زيادة التشنيع على أهل القرية كما لا يخفى.

واختار بعضهم على القول بالتأكيد أن المراد بالأهل في الموضعين الذين يتوقع من ظاهر حالهم حصول الغرض منهم ويحصل اليأس من غيرهم باليأس منهم من المقيمين المتوطنين في القرية ، ومن لم يحكم العادة يقول : إنهما عليهما‌السلام أتوا الجميع وسألوهم لما أنهما على ما قيل قد مستهما الحاجة (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) بالتشديد وقرأ ابن الزبير والحسن وأبو رجاء وأبو رزين وأبو محيصن وعاصم في رواية المفضل وأبان بالتخفيف من الإضافة يقال ضافه إذا كان له ضيفا وأضافه وضيفه أنزله وجعله ضيفا ، وحقيقة ضاف مال من ضاف السهم عن الهدف يضيف ويقال أضافت الشمس للغروب وتضيفت إذا مالت ، ونظيره زاره من الازورار ، ولا يخفى ما في التعبير بالإباء من الإشارة إلى مزيد لؤم القوم لأنه كما قال الراغب شدة الامتناع ، ولهذا لم يقل : فلم يضيفوهما مع أنه أخصر فإنه دون ما

٣٢٨

في النظم الجليل في الدلالة على ذمهم ، ولعل ذلك الاستطعام كان طلبا للطعام على وجه الضيافة بأن يكونا قد قالا : إنا غريبان فضيفونا أو نحو ذلك كما يشير إليه التعبير بقوله تعالى : (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) دون فأبوا أن يطعموهما مع اقتضاء ظاهر (اسْتَطْعَما أَهْلَها) إياه ، وإنما عبر باستطعما دون استضافا للإشارة إلى أن جل قصدهما الطعام دون الميل بهما إلى منزل وإيوائهما إلى محل. وذكر بعضهم أن في (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) من التشنيع ما ليس في أبوا أن يطعموهما لأن الكريم قد يرد السائل المستطعم ولا يعاب كما إذا رد غريبا استضافه بل لا يكاد يرد الضيف إلا لئيم ، ومن أعظم هجاء العرب فلان يطرد الضيف ، وعن قتادة شر القرى التي لا يضاف فيها الضيف ولا يعرف لابن السبيل حقه.

وقال زين الدين الموصلي : إنما خص سبحانه الاستطعام بموسى والخضر عليهما‌السلام والضيافة بالأهل لأن الاستطعام وظيفة السائل والضيافة وظيفة المسئول لأن العرف يقضي بذلك فيدعو المقيم القادم إلى منزله يسأله ويحمله إليه انتهى ، وهو كما ترى. ومما يضحك منه العقلاء ما نقله النيسابوري وغيره أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وأتوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمل من ذهب فقالوا : يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء من (أبوا) تاء فأبى عليه الصلاة والسلام ، وبعضهم يحكي وقوع هذه القصة في زمن علي كرم الله تعالى وجهه ولا أصل لشيء من ذلك ، وعلى فرض الصحة يعلم منه قلة عقول أهل القرية في الإسلام كما علم لؤمهم من القرآن والسنة من قبل (فَوَجَدا) عطف كما قال السبكي على (أَتَيا فِيها جِداراً) روي أنهما التجئا إليه حيث لم يجدا مأوى وكانت ليلتهما ليلة باردة وكان على شارع الطريق (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) أي يسقط وماضيه انقض على وزن انفعل نحو انجر والنون زائدة لأنه من قضضته بمعنى كسرته لكن لما كان المنكسر يتساقط قيل الانقضاض السقوط ، والمشهور أنه السقوط بسرعة كانقضاض الكوكب والطير ، قال صاحب اللوامح : هو من القضة وهي الحصى الصغار ، ومنه طعام قضض إذا كان في حصى فعلى هذا المعنى يريد أن يتفتت فيصير حصى انتهى.

وذكر أبو علي في الإيضاح أن وزنه أفعل من النقض كأحمر ، وقال السهيلي في الروض هو غلط وتحقيق ذلك في محله. والنون على هذا أصلية ، والمراد من إرادة السقوط قربه من ذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة تسبب إرادة السقوط لقربه أو على سبيل الاستعارة بأن يشبه قرب السقوط بالإرادة لما فيهما من الميل ، ويجوز أن يعتبر في الكلام استعارة مكنية وتخييلية ، وقد كثر في كلامهم إسناد ما يكون من أفعال العقلاء إلى غيرهم ومن ذلك قوله :

يريد الرمح صدر أبي براء

ويعدل عن دماء بني عقيل

وقول حسان رضي الله تعالى عنه :

إن دهرا يلف شملي بحمل

لزمان يهم بالإحسان

وقول الآخر :

أبت الروادف والثدي لقمصها

مس البطون وأن تمس ظهورا

وقول أبي نواس :

فاستنطق العود قد طال السكوت به

لا ينطق اللهو حتى ينطق العود

إلى ما لا يحصى كثرة حتى قيل : إن من له أدنى اطلاع على كلام العرب لا يحتاج إلى شاهد على هذا المطلب.

٣٢٩

ونقل بعض أهل أصول الفقه عن أبي بكر محمد بن داود الأصبهاني أنه ينكر وقوع المجاز في القرآن فيؤول الآية بأن الضمير في يريد للخضر أو لموسى عليهما‌السلام ، وجوز أن يكون الفاعل الجدار وأن الله تعالى خلق فيه حياة وإرادة والكل تكلف وتعسف تغسل به بلاغة الكلام.

وقال أبو حيان : لعل النقل لا يصح عن الرجل وكيف يقول ذلك وهو أحد الأدباء الشعراء الفحول المجيدين في النظم والنثر ، وقرأ أبي «ينقض» بضم الياء وفتح القاف والضاد مبنيا للمفعول ، وفي حرف عبد الله وقراءة الأعمش «يريد لينقض» كذلك إلا أنه منصوب بأن المقدرة بعد اللام وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعكرمة وخليد بن سعد ويحيى ابن يعمر «ينقاص» بالصاد المهملة مع الألف ووزنه ينفعل اللازم من قصته فانقاص إذا كسرته فانكسر ، وقال ابن خالويه : تقول العرب : انقاصت السن إذا انشقت طولا ، قال ذو الرمة يصف ثور وحش :

يغشى الكناس بروقيه ويهدمه

من هائل الرمل منقاص ومنكثب

وفي الصحاح قيص السن سقوطها من أصلها وأنشد قول أبي ذؤيب :

فراق كقيص السن فالصبر إنه

لكل أناس عثرة وحبور

وقال الأموي : انقاصت البر انهارت ، وقال الأصمعي : المنقاص المنقعر والمنقاض بالضاد المعجمة المنشق طولا ، وقال أبو عمرو : هما بمعنى واحد. وقرأ الزهري «ينقاض» بألف وضاد معجمة ، والمشهور تفسيره بينهدم.

وذكر أبو علي أن المشهور عن الزهري أنه ينقاص بالمهملة (فَأَقامَهُ) مسحه بيده فقام كما روي عن ابن عباس وابن جبير ، وقال القرطبي إنه هو الصحيح وهو أشبه بأحوال الأنبياء عليهم‌السلام ؛ واعترض بأنه غير ملائم لما بعد إذ لا يستحق بمثله الأجر ، ورد بأن عدم استحقاق الأجر مع حصول الغرض غير مسلم ولا يضره سهولته على الفاعل ، وقيل : أقامه بعمود عمده به ، وقال مقاتل : سواه بالشيد ، وقيل هدمه وقعد يبنيه.

وأخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ «فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه» وكان طول هذا الجدار إلى السماء على ما نقل النووي عن وهب بن منبه مائة ذراع ، ونقل السفيري عن الثعلبي أنه كان سمكه مائتي ذراع بذراع تلك القرية وكان طوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع وكان عرضه خمسين ذراعا وكان الناس يمرون تحته على خوف منه (قالَ) موسى عليه‌السلام (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) تحريضا للخضر عليه‌السلام وحثا على أخذ الجعل والأجرة على ما فعله ليحصل لهما بذلك الانتعاش والتقوى بالمعاش فهو سؤال له لم لم يأخذ الأجرة واعتراض على ترك الأخذ فالمراد لازم فائدة الخبر إذ لا فائدة في الإخبار بفعله ، وقيل : لم يقل ذلك حثا وإنما قاله تعريضا بأن فعله ذلك فضول وتبرع بما لم يطلب منه من غير فائدة ولا استحقاق لمن فعل له مع كمال الاحتياج إلى خلافه ، وكان الكليم عليه‌السلام لما رأى الحرمان ومساس الحاجة والاشتغال بما لا يعني لم يتمالك الصبر فاعترض ، واتخذ افتعل فالتاء الأولى أصلية والثانية تاء الافتعال أدغمت فيها الأولى ومادته تخذ لا أخذ وإن كان بمعناه لأن فاء الكلمة لا تبدل إذا كانت همزة أو ياء مبدلة منها ، ولذا قيل إن ايتزر خطأ أو شاذ وهذا شائع في فصيح الكلام ، وأيضا إبدالها في الافتعال لو سلم لم يكن لقولهم تخذ وجه وهذا مذهب البصريين ، وقال غيرهم : إنه الاتخاذ افتعال من الأخذ ولا يسلم ما تقدم ، ويقول : المدة العارضة تبدل تاء أيضا ، ولكثرة استعماله هنا أجروه مجرى الأصلي وقالوا تخذ ثلاثيا جريا عليه وهذا كما قالوا : تقى من اتقى.

وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وأبو بحرية وابن محيصن وحميد واليزيدي ويعقوب وأبو حاتم وابن كثير وأبو

٣٣٠

عمرو «لتخذت» بتاء مفتوحة وخاء مكسورة أي لأخذت ، وأظهر ابن كثير ويعقوب وحفص الذال وأدغمها باقي السبعة (قالَ) الخضر عليه‌السلام (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) على إضافة المصدر إلى الظرف اتساعا ، وأين الحاجب يجعل الإضافة في مثله على معنى في وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر.

وقرأ ابن أبي عبلة «فراق بيني» بالتنوين ونصب بين على الظرفية ، وأعيد بين وإن كان لا يضاف إلى لمتعدد لأنه لا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار ، قال أبو حيان : والعدول عن بيننا لمعنى التأكيد والإشارة إلى الفراق المدلول عليه بقوله قبل (فَلا تُصاحِبْنِي) والحمل مفيد لأن المخبر عنه الفراق باعتبار كونه في الذهن والخبر الفراق باعتبار أنه في الخارج كما قيل أو إلى الوقت الحاضر أي هذا الوقت وقت فراقنا أو إلى الاعتراض الثالث أي هذا الاعتراض سبب فراقنا حسبما طلبت ، فوجه تخصيص الفراق بالثالث ظاهر.

وقال العلامة الأول : إنما كان هذا سبب الفراق دون الأولين لأن ظاهرهما منكر فكان معذورا بخلاف هذا فإنه لا ينكر الإحسان للمسيء بل يحمد. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في وجهه أن قول موسى عليه‌السلام في السفينة والغلام كان لله تعالى ، وفي هذا لنفسه لطلب الدنيا فكان سبب الفراق ، وحكى القشيري نحوه عن بعضهم. ورد ذلك في الكشف بأنه لا يليق بجلالتهما ولعل الخبر عن الحبر غير صحيح ، ونقل في البحر عن أرباب المعاني أن هذه الأمور التي وقعت لموسى مع الخضر حجة على موسى عليه‌السلام وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم؟ ولما أنكر قتل الغلام قيل له أين إنكارك هذا ووكز القبطي والقضاء عليه؟ ولما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك الحجر لبنتي شعيب عليه‌السلام بدون أجرة؟ ورأيت أنا في بعض الكتب أن الخضر عليه‌السلام قال : يا موسى اعترضت علي بخرق السفينة وأنت ألقيت ألواح التوراة فتكسرت واعترضت علي بقتل الغلام وأنت وكزت القبطي فقضي عليه واعترضت علي بإقامة الجدار بلا أجر وأنت سقيت لبنتي شعيب أغنامهما بلا أجر فمن فعل نحو ما فعلت لن يعترض علي ، والظاهر أن شيئا من ذلك لا يصح والفرق ظاهر بين ما صدر من موسى عليه‌السلام وما صدر من الخضر وهو أجل من أن يحتج على صاحب التوراة بمثل ذلك كما لا يخفى.

وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن أبي عبد الله وأظنه الملطي قال : لما أراد الخضر أن يفارق موسى قال له : أوصني قال : كن نفاعا ولا تكن ضرارا كن بشاشيا ولا تكن غضبانا ارجع عن اللجاجة ولا تمش من غير حاجة ولا تعير أمرا بخطيئته وابك على خطيئتك يا ابن عمران وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن يوسف بن أسباط قال : بلغني أن الخضر قال لموسى لما أراد أن يفارقه : يا موسى تعلم العلم لتعمل به ولا تعلمه لتحدث به ، وبلغني أن موسى قال للخضر : ادع لي فقال الخضر : يسر الله تعالى عليك طاعته والله تعالى أعلم بصحة ذلك أيضا.

(سَأُنَبِّئُكَ) وقرأ ابن أبي وثاب «سانبيك» بإخلاص الياء من غير همز ، والسين للتأكيد لعدم تراخي الإنباء أي أخبرك البتة (بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) والظاهر أن هذا لم يكن عن طلب من موسى عليه‌السلام ، وقيل : إنه لما عزم الخضر على فراقه أخذ بثيابه وقال : لا أفارقك حتى تخبرني بما أباح لك فعل ما فعلت ودعاك إليه فقال (سَأُنَبِّئُكَ) والتأويل رد الشيء إلى مآله ، والمراد به هنا المآل والعاقبة إذ هو المنبأ به دون التأويل بالمعنى المذكور ، وما عبارة عن الأفعال الصادرة من الخضر عليه‌السلام وهي خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار ، ومآلها خلاص السفينة من اليد الغاصبة وخلاص أبوي الغلام من شره مع الفوز بالبدل الأحسن واستخراج اليتيمين للكنز ، وفي جعل

٣٣١

الموصول عدم استطاعة موسى عليه‌السلام للصبر دون أن يقال بتأويل ما فعلت أو بتأويل ما رأيت ونحوهما نوع تعريض به عليه‌السلام وعتاب ، ويجوز أن يقال : إن ذلك لاستشارة مزيد توجهه وإقباله لتلقي ما يلقى إليه ، و (صَبْراً) مفعول تستطع وعليه متعلق به وقدم رعاية للفاصلة.

(أَمَّا السَّفِينَةُ) التي خرقها (فَكانَتْ لِمَساكِينَ) لضعفاء لا يقدرون على مدافعة الظلمة جمع مسكين بكسر الميم وفتحها ويجمع على مساكين ومسكينون وهو الضعيف العاجز ، ويشمل هذا ما إذا كان العجز لأمر في النفس أو البدن ومن هنا قيل سموا مساكين لزمانتهم وقد كانوا عشرة خمسة منهم زمنى وإطلاق مساكين عليهم على هذا من باب التغليب ، وهذا المعنى للمسكين غير ما اختلف الفقهاء في الفرق بينه وبين الفقير وعليه لا تكون الآية حجة لمن يقول : إن المسكين من يملك شيئا ولا يكفيه لأن هذا المعنى مقطوع فيه النظر عن المال وعدمه.

وقد يفسر بالمحتاج وحينئذ تكون الآية ظاهرة فيما يدعيه القائل المذكور ، وادعى من يقول : إن المسكين من لا شيء له أصلا وهو الفقير عند الأول أن السفينة لم تكن ملكا لهم بل كانوا أجراء فيها ، وقيل : كانت معهم عارية واللام للاختصاص لا للملك ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر ولا يقبل بلا دليل ، وقيل : إنهم نزلوا منزلة من لا شيء له أصلا وأطلق عليهم المساكين ترحما. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه (لِمَساكِينَ) بتشديد السين جمع تصحيح لمساك فقيل : المعنى لملاحين ، وقيل : المساك من يمسك رجل السفينة وكانوا يتناوبون ذلك ، وقيل : المساكون دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك ولعل إرادة الملاحين أظهر (يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) أي يعملون بها فيه ويتعيشون بما يحصل لهم ، وإسناد العمل إلى الكل على القول بأن منهم زمنى على التغليب أو لأن عمل الوكلاء بمنزلة عمل الموكلين (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) أي أجعلها ذات عيب بالخرق ولم أرد إغراق من بها كما حسبت ولإرادة هذا المعنى جيء بالإرادة ولم يقل فأعبتها. وهذا ظاهر في أن اللام في الاعتراض للتعليل ويحتاج حملها على العاقبة إلى ارتكاب خلاف الظاهر هنا كما لا يخفى على المتأمل (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) أي أمامهم وبذلك قرأ ابن عباس وابن جبير وهو قول قتادة وأبي عبيدة وابن السكيت والزجاج ، وعلى ذلك جاء قول لبيد :

أليس ورائي إن تراخت منيتي

لزوم العصا تحنى عليها الأصابع

وقول سوار بن المضرب السعدي :

أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقومي تميم والفلاة ورائيا

وقول الآخر :

أليس ورائي أن أدب على العصا

فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي

وفي القرآن كثير أيضا ، ولا خلاف عند أهل اللغة في مجيء وراء بمعنى أمام وإنما الخلاف في غير ذلك ، وأكثرهم على أنه معنى حقيقي يصح إرادته منها في أي موضع كان وقالوا : هي من الأضداد ، وظاهر كلام البعض أن لها معنى واحدا يشمل الضدين فقال ابن الكمال نقلا عن الزمخشري : إنها اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام ، وقال البيضاوي ما حاصله : إنه في الأصل مصدر ورا يرئي كقضا يقضي وإذا أضيف إلى الفاعل يراد به المفعول أعني المستور وهو ما كان خلفا وإذا أضيف إلى المفعول يراد به الفاعل أعني الساتر وهو ما كان قداما. ورد عليه بقوله تعالى : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) [الحديد : ١٣] فإن وراء أضيفت فيه إلى المفعول والمراد بها الخلف.

وقال الفراء : لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك وكذا في سائر الأجسام وإنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام ؛ وقال أبو علي : إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل

٣٣٢

واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة ويجوز ذلك في الأجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ، وقيل : أي خلفهم كما هو المشهور في معنى وراء.

واعترض بأنه إذا كان خلفهم فقد سلموا منه ، وأجيب بأن المراد أنه خلفهم مدرك لهم ومارّ بهم أو بأن رجوعهم عليه واسمه على ما يزعمون هدد بن بدد وكان كافرا ، وقيل : جلندي بن كركر ملك غسان ، وقيل : مفواد بن الجلند ابن سعيد الأزدي وكان بجزيرة الأندلس (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) أي صالحة وقد قرأ كذلك أبي بن كعب ، ولو أبقي العموم على ظاهره لم يكن للتعييب فائدة (غَصْباً) من أصحابها ، وانتصابه على أنه مصدر مبين لنوع الأخذ ، والظاهر أنه كان يغصب السفن من أصحابها ثم لا يردها عليهم ، وقيل : كان يسخرها ثم يردها ، والفاء في (فَأَرَدْتُ) للتفريع فيفيد أن سبب إرادة التعييب كونها لقوم مساكين عجزة لكن لما كانت مناسبة هذا السبب للمسبب خفية بين ذلك بذكر عادة الملك في غصب السفن ، ومآل المعنى أما السفينة فكانت لقوم مساكين عجزة يكتسبون بها فأردت بما فعلت إعانتهم على ما يخافونه ويعجزون عن دفعه من غصب ملك وراءهم عادته غصب السفن الصالحة ، وذكر بعضهم أن السبب مجموع الأمرين المسكنة والغصب إلا أنه وسط التفريع بين الأمرين وكان الظاهر تأخيره عنهما للغاية به من حيث إن ذلك الفعل كان هو المنكر المحتاج إلى بيان تأويله وللإيذان بأن الأقوى في السببية هو الأمر الأول ولذلك لم يبال بتخليص سفن سائر الناس مع تحقق الجزء الأخير من السبب ولأن في تأخيره فصلا بين السفينة وضميرها مع توهم رجوعه إلى الأقرب فليفهم ، وظاهر الآية أن موسى عليه‌السلام ما علم تأويل هذا الفعل قبل. ويشكل عليه ما جاء عن الربيع أن الخضر عليه‌السلام بعد أن خرق السفينة وسلمت من الملك الظالم أقبل على أصحابها فقال : إنما أردت الذي هو خير لكم فحمدوا رأيه وأصلحها لهم كما كانت فإنه ظاهر في أنه عليه‌السلام أوقفهم على حقيقة الأمر ، والظاهر أن موسى عليه‌السلام كان حاضرا يسمع ذلك ، وقد يقال : إن هذا الخبر لا يعول عليه واحتمال صحته مع عدم سماع موسى عليه‌السلام مما لا يلتفت إليه (وَأَمَّا الْغُلامُ) الذي قتله (فَكانَ أَبَواهُ) أي أبوه وأمه ففيه تغليب واسم الأب على ما في الإتقان كأزير والأم سهوا ، وفي مصحف أبي وقراءة ابن عباس «وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه» (مُؤْمِنَيْنِ) والمعنى على ذلك في قراءة السبعة إلا أنه ترك التصريح بكفره إشعارا بعدم الحاجة إلى الذكر لظهوره واستدل بتلك القراءة من قال : إن الغلام كان بالغا لأن الصغير لا يوصف بكفر وإيمان حقيقيين. وأجاب النووي عن ذلك بوجهين ، الأول أن القراءة شاذة لا حجة فيها ، الثاني أنه سماه بما يؤول إليه لو عاش وفي صحيح مسلم أن الغلام طبع يوم طبع كافرا وأول بنحو هذا وكذا ما مر من خبر صاحب العرس والعرائس لكن في صحته توقف عندي لأنه ربما يقتضي بظاهره علم موسى عليه‌السلام بتأويل القتل قبل الفراق ، وعلى ما سمعت من التأويل لا يرد شيء مما ذكر على القول المنصور في الأطفال وهو أنهم مطلقا في الجنة على أنه قيل الكلام في غير من أخبر الصادق بأنه كافر ، وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري «فكان أبواه مؤمنان» وخرجه الزمخشري وابن عطية وأبو الفضل الرازي على أن في كان ضمير الشأن ، والجملة في موضع الخبر لها ، وأجاز أبو الفضل أن يكون مؤمنان على لغة بني الحارث بن كعب فيكون منصوبا ، وأجاز أيضا أن يكون في كان ضمير (الْغُلامُ) والجملة في موضع الخبر.

(فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما) فخفنا خوفا شديدا أن يغشى الوالدين المؤمنين لو بقي حيا (طُغْياناً) مجاوزة للحدود الإلهية (وَكُفْراً) بالله تعالى وذلك بأن يحملهما حبه على متابعته كما روي عن ابن جبير ، ولعل عطف الكفر على الطغيان لتفظيع أمره ، ولعل ذكر الطغيان مع أن ظاهر السياق الاقتصار على الكفر ليتأتى هذا التفظيع أو ليكون المعنى

٣٣٣

فخشينا أن يدنس إيمانهما أولا ويزيله آخرا ، ويلتزم على هذا القول بأن ذلك أشنع وأقبح من إزالته بدون سابقية تدنيس ؛ وفسر بعض شراح البخاري الخشية بالعلم فقال : أي علمنا أنه لو أدرك وبلغ لدعا أبويه إلى الكفر فيجيبانه ويدخلان معه في دينه لفرط حبهما إياه ، وقيل : المعنى خشينا أن يغشيهما طغيانا عليهما وكفرا لنعمتهما عليه من تربيتهما إياه وكونهما سببا لوجوده بسبب عقوقه وسوء صنيعه فيلحقهما شر وبلاء ، وقيل : المعنى خشينا أن يغشيهما ويقرن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر ، وفي بعض الآثار أن الغلام كان يفسد وفي رواية يقطع الطريق ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه ، واستدل بذلك من قال : إنه كان بالغا ، والذاهب إلى صغره يقول إن ذلك لا يصح ولعل الحق معه ، والظاهر أن هذا من كلام الخضر عليه‌السلام أجاب به موسى عليه‌السلام من جهته ، وجوز الزمخشري أن يكون ذلك حكاية لقول الله عزوجل والمراد فكر هنا بجعل الخشية مجازا مرسلا عن لازمها وهو الكراهة على ما قيل ، قال في الكشف : وذلك لاتحاد مقام المخاطبة كان سؤال موسى عليه‌السلام منه تعالى والخضر عليه‌السلام بإذن الله تعالى يجيب عنه وفي ذلك لطف ولكن الظاهر هو الأول انتهى ، وقيل : هو على هذا الاحتمال بتقدير فقال الله : خشينا والفاء من الحكاية وهو أيضا بعيد ولا يكاد يلائم هذا الاحتمال الآية بعد إلا أن يجعل التعبير بالظاهر فيها التفاتا ، وفي مصحف عبد الله وقراءة أبي فخاف ربك والتأويل ما سمعت.

وقال ابن عطية : إن الخوف والخشية كالترجي بلعل ونحوها الواقع في كلامه تعالى مصروف إلى المخاطبين وإلا فالله جل جلاله منزه عن كل ذلك (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ) بأن يرزقهما بدله ولدا خيرا منه (زَكاةً) قال ابن عباس : أي دينا وهو تفسير باللازم ؛ والكثير قالوا : أي طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة ، وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما ما لا يخفى من الدلالة على إرادة وصول الخير إليهما (وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي رحمة ، قال رؤبة ابن العجاج :

يا منزل الرحم على إدريسا

ومنزل اللعن على إبليسا

وهما مصدران كالكثر والكثرة ، والمراد أقرب رحمة عليهما وبرا بهما واستظهر ذلك أبو حيان ، ولعل وجهه كثرة استعمال المصدر مبنيا للفاعل مع ما في ذلك هنا من موافقة المصدر قبله ، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية أن المعنى هما به أرحم منهما بالغلام ، ولعل المراد على هذا أنه أحب إليهما من ذلك الغلام إما لزيادة حسن خلقه أو خلقه أو الاثنين معا ، وهذا المعنى أقرب للتأسيس من المعنى الأول على تفسير المعطوف عليه بما سمعت إلا أنه يؤيد ذلك التفسير ما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهما أبدلا جارية ولدت نبيا ، وقال الثعلبي : إنها أدركت يونس بن متى فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت نبيا هدى الله تعالى على يده أمة من الأمم ، وفي رواية ابن المنذر عن يوسف بن عمر أنها ولدت نبيين ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهما أنها ولدت سبعين نبيا ، واستبعد هذا ابن عطية وقال : لا يعرف كثرة الأنبياء عليهم‌السلام إلا في بني إسرائيل ولم تكن هذه المرأة منهم وفيه نظر ظاهر ، ووجه التأييد أن الجارية بحسب العادة تحب أبويها وترحمهما وتعطف عليهما وتبر بهما أكثر من الغلام قيل : أبدلهما غلاما مؤمنا مثلهما ، وانتصاب المصدرين على التمييز والعامل ما قبل كل من أفعل التفضيل ، ولا يخفى ما في الإبهام أولا ثم البيان ثانيا من اللطف ولذا لم يقل : فأردنا أن يبدلهما ربهما أزكى منه وأرحم على أن في خير زكاة من المدح ما ليس في أزكى كما يظهر بالتأمل الصادق.

وذكر أبو حيان أن أفعل ليس للتفضيل هنا لأنه لا زكاة في ذلك الغلام ولا رحمة. وتعقب بأنه كان زكيا طاهرا

٣٣٤

من الذنوب بالفعل إن كان صغيرا وبحسب الظاهر إن كان بالغا فلذا قال موسى عليه‌السلام «نفسا زكية» وهذا في مقابلته فخير من زكاة من هو زكي في الحال والمآل بحسب الظاهر والباطن ولو سلم فالاشتراك التقديري يكفي في صحة التفضيل وأن قوله : ولا رحمة قول بلا دليل انتهى.

وقال الخفاجي : إن الجواب الصحيح هنا أن يكتفي بالاشتراك التقديري لأن الخضر عليه‌السلام كان عالما بالباطن فهو يعلم أنه لا زكاة فيه ولا رحمة فقوله : إنه لا دليل عليه لا وجه له ، وأنت تعلم أن الرحمة على التفسير الثاني مما لا يصح نفيها لأنها مدار الخشية فافهم ، والظاهر أن الفاء للتفريع فيفيد سببية الخشية للإرادة المذكورة ويفهم من تفريع القتل ، ولم يفرعه نفسه مع أنه المقصود تأويله اعتمادا على ظهور انفهامه من هذه الجملة على ألطف وجه ، وفيها إشارة إلى رد ما يلوح به كلام موسى عليه‌السلام من أن قتله ظلم وفساد في الأرض.

وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة وحميد والأعمش وابن جرير «يبدّلهما» بالتشديد.

وقرأ ابن عامر وأبو جعفر في رواية ويعقوب وأبو حاتم «رحما» بضم الحاء ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «رحما» بفتح الراء وكسر الحاء.

(وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢) وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً)(٨٥)

(وَأَمَّا الْجِدارُ) المعهود (فَكانَ لِغُلامَيْنِ) قيل : إنهما أصرم وصريم (يَتِيمَيْنِ) صغيرين مات أبوهما وهذا هو الظاهر لأن يتم بني آدم بموت الأب ، وفي الحديث «لا يتم بعد بلوغ» وقال ابن عطية : يحتمل أنهما كانا بالغين والتعبير عنهما بما ذكر باعتبار ما كان على معنى الشفقة عليهما ولا يخفى أنه بعيد جدا (فِي الْمَدِينَةِ) هي القرية المذكورة فيما سبق ، ولعل التعبير عنها بالمدينة هنا لإظهار نوع اعتداد بها باعتداد ما فيها من اليتيمين وما هو من أهلها وهو أبوهما الصالح. ولما كان سوق الكلام السابق على غير هذا المساق عبر بالقرية فيه (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) مال مدفون من ذهب وفضة كما أخرجه البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء وبذلك قال عكرمة وقتادة ، وهو في الأصل مصدر ثم أريد به اسم المفعول.

قال الراغب : الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه وأصله من كنزت التمر في الوعاء ، واستشكل تفسير الكنز بما ذكر بأن الظاهر أن الكانز له أبوهما لاقتضاء (لَهُما) له إذا لا يكون لهما إلا إذا كان إرثا أو كانا قد استخرجاه والثاني منتف فتعين الأول وقد وصف بالصلاح ، ويعارض ذلك ما جاء في ذم الكانز. وأجيب بأن المذموم ما لم تؤد منه الحقوق بل لا يقال لما أديت منه كنز شرعا كما يدل عليه عند القائلين بالمفهوم

حديث كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصدد بيان الأحكام الشرعية لا المفاهيم اللغوية لأنها معلومة للمخاطبين ولا يعتبر في مفهومه اللغوي المراد هنا شيء من الإخراج وعدمه ، والوصف بالصلاح قرينة على أنه لم يكن من الكنز المذموم ، ومن قال : إن

٣٣٥

الكنز حرام مطلقا ادعى أنه لم يكن كذلك في شرع من قبلنا ، واحتج عليه بما أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء في هذه الآية قال : أحلت لهم الكنوز وحرمت عليهم الغنائم وأحلت لنا الغنائم وحرمت علينا الكنوز.

وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحو ذلك وفيه فلا يعجبن الرجل فيقول : ما شأن الكنز حل لمن قبلنا وحرم علينا فإن الله تعالى يحل من أمره ما يشاء ويحرم ما يشاء وهي السنن والفرائض تحل لأمة وتحرم على أخرى ، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال : ما كان ذهبا ولا فضة ولكن كان صحف علم وروي ذلك أيضا عن ابن جبير ، وأخرج ابن مردويه من حديث علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا والبزار عن أبي ذر كذلك ، والخرائطي عن ابن عباس موقوفا أنه كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي رواية عطاء عن ابن عباس أنه مكتوب في أحد شقيه بسم الله الرحمن الرحيم عجبت إلخ ، في الشق الآخر أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه وجمع بعضهم بأن المراد بالكنز ما يشمل جميع ذلك بناء على أنه المال المدفون مطلقا ، وكل من المذكورات مال كان مدفونا إلا أنه اقتصر في كل من الروايات على واحد منها وفيه أنه على بعده يأباه ظاهر قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما كان ذهبا ولا فضة (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) الظاهر أنه الأب الأقرب الذي ولدهما ، وذكر أن اسمه كاشح وأن اسم أمهما دهنا ، وقيل : كان الأب العاشر ، وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه كان الأب السابع. وأيّا ما كان ففي الآية دلالة على أن صلاح الآباء يفيد العناية بالأبناء ، وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم عن خيثمة قال : قال عيسى عليه‌السلام طوبى لذرية المؤمن ثم طوبى لهم كيف يحفظون من بعده وتلا خيثمة هذه الآية.

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب قال : إن الله تعالى ليحفظ بالعبد الصالح القبيل من الناس ، وعن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما بم حفظ الله تعالى مال الغلامين؟ قال بصلاح أبيهما قال فأبي وجدي خير منه فقال الخارجي أنبأنا الله تعالى : أنكم قوم خصمون ، وذكر من صلاح هذا الرجل أن الناس كانوا يضعون عنده الودائع فيردها إليهم كما وضعوها ، ويروى أنه كان سباحا (فَأَرادَ رَبُّكَ) مالكك ومدبر أمورك ، ففي إضافة الرب إلى ضمير موسى عليه‌السلام دون ضميرهما تنبيه له على تحتم كمال الانقياد والاستسلام لإرادته سبحانه ووجوب الاحتراز عن المناقشة فيما وقع بحسبهما التي يشم منها طلب ما يحصل به تربية البدن وتدبيره (أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) قيل أي الحلم وكمال الرأي ، وفي الصحاح القوة وهو ما بين ثماني عشر إلى ثلاثين وهو واحد جاء على بناء الجمع مثل آنك ولا نظير لهما ، ويقال : هو جمع لا واحد له من لفظه مثل آسال وأبابيل وعباديد ومذاكير ، وكان سيبويه يقول : واحده شده وهو حسن في المعنى لأنه يقال بلغ الغلام شدته ولكن لا يجمع فعلة على أفعل ، وأما أنعم فإنما هو جمع نعم من قولهم يوم بؤس ويوم نعم ، وأما قول من قال : واحده شد مثل كلب وأكلب أو شد مثل ذئب وأذؤب فإنما هو قياس كما يقولون في واحد الأبابيل أبول قياسا على عجول وليس هو شيء يسمع من العرب.

(وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما) من تحت الجدار ولو لا أني أقمته لا نقض وخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على

٣٣٦

حفظه والانتفاع به وذكروا أن اليتيمين كانا غير عالمين بالكنز ولهما وصي يعلم به لكنه كان غائبا والجدار قد شارف فلو سقط لضاع فلذا أقامه (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مفعول له لأراد وأقيم الظاهر مقام الضمير ، وليس مفعولا له ليستخرجا لاختلاف الفاعل ؛ وبعضهم أجاز ذلك لعدم اشتراطه الاتحاد أو جعل المصدر من المبني للمفعول وأجاز أن يكون النصب على الحال وهو من ضمير (يَسْتَخْرِجا) بتأويل مرحومين ، والزمخشري النصب على أنه مفعول مطلق لأراد فإن إرادة ذلك رحمة منه تعالى.

واعترض بأنه إذا كان أراد ربك بمعنى رحم كانت الرحمة من الرب لا محالة فأي فائدة في ذكر قوله تعالى (مِنْ رَبِّكَ) وكذا إذا كان مفعولا له ؛ وقيل : في الكلام حذف والتقدير فعلت ما فعلت رحمة من ربك فهو حينئذ مفعول له بتقدير إرادة أو رجاء رحمة ربك أو منصوب بنزع الخافض والرحمة بمعنى الوحي أي برحمة ربك ووحيه فيكون قوله (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أي عن رأيي واجتهادي تأكيدا لذلك (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من العواقب المنظومة في سلك البيان ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجته في الفخامة (تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ) أي تستطع وهو مضارع اسطاع بهمز الوصل وأصله استطاع على وزن استفعل ثم حذف تاء الافتعال تخفيفا وبقيت الطاء التي هي أصل. وزعم بعضهم أن السين عوض قلب الواو ألفا والأصل أطاع ولا حاجة تدعو إلى أن المحذوف هي الطاء التي هي فاء الفعل ثم دعوى أنهم أبدلوا من تاء الافتعال طاء لوقوعها بعد السين ويقال تستتيع بإبدال الطاء تاء وتستيع بحذف تاء الافتعال فاللغات أربع كما قال ابن السكيت ، وما ألطف حذف أحد المتقاربين وبقاء الآخر في آخر هذا الكلام الذي وقع عنده ذهاب الخضر عن موسى عليهما‌السلام.

وقال بعض المحققين : إنما خص هذا بالتخفيف لأنه لما تكرر في القصة ناسب تخفيف الأخير ، وتعقب بأن ذلك مكرر أيضا وذاك أخف منه فلم لم يؤت به ، وفيه أن الفرق ظاهر بين هذا وذلك ، وقيل : إنما خص بالتخفيف للإشارة إلى أنه خف على موسى عليه‌السلام ما لقيه ببيان سببه ، وتعقب بأنه يبعده أنه في الحكاية لا المحكي وأنت تعلم هذا وكذا ما ذكرناه زهرة لا تتحمل الفرك والتأويل بالمعنى السابق الذي ذكر أنه المراد أي ذلك مآل وعاقبة الذي لم تستطع (عَلَيْهِ صَبْراً) من الأمور التي رأيت فيكون إنجازا للتنبئة الموعودة ، وجوز أن تكون الإشارة إلى البيان نفسه فيكون التأويل بمعناه المشهور ، وعلى كل حال فهو فذلكة لما تقدم ، وفي جعل الصلة غير ما مر تكرير للتنكير وتشديد للعتاب ، قيل : ولعل إسناد الإرادة أولا إلى ضمير المتكلم وحده أنه الفاعل المباشر للتعييب ، وثانيا إلى ضمير المتكلم ومعه غيره لأن إهلاك الغلام بمباشرته وفعله وتبديل غيره موقوف عليه وهو بمحض فعل الله تعالى وقدرته فضمير ـ نا ـ مشترك بين الله تعالى والخضر عليه‌السلام ، وثالثا إلى الله تعالى وحده لأنه لا مدخل له عليه‌السلام في بلوغ الغلامين. واعترض توجيه ضمير الجمع بأن اجتماع المخلوق مع الله تعالى في ضمير واحد لا سيما ضمير المتكلم فيه من ترك الأدب ما فيه. ويدل على ذلك ما جاء من أن ثابت بن قيس بن شماس كان يخطب في مجلسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا وردت وفود العرب فاتفق أن قدم وفد تميم فقام خطيبهم وذكر مفاخرهم ومآثرهم فلما أتم خطبته قام ثابت وخطب خطبة قال فيها من يطع الله عزوجل ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بئس خطيب القوم أنت ، وصرح الخطابي أنه عليه الصلاة والسّلام كره منه ما فيه من التسوية ، وأجيب بأنه قد وقع نحو ذلك في الآيات والأحاديث ، فمن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٦] فإن الظاهر أن ضمير (يُصَلُّونَ عَلَى) راجع إلى الله تعالى وإلى الملائكة. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الإيمان : «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» ولعل ما كرهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ثابت أنه وقف على قوله يعصهما : لا التسوية في الضمير ، وظاهر هذا أنه لا

٣٣٧

كراهة مطلقا في هذه التسوية وهو أحد الأقوال في المسألة. وثانيها ما ذهب إليه الخطابي أنها تكره تنزيها ، وثالثها ما يفهمه كلام الغزالي أنها تكره تحريما ، وعلى القول بالكراهة التنزيهية استظهر بعضهم أنها غير مطردة فقد تكره في مقام دون مقام. وبني الجواب عما نحن فيه على ذلك فقال : لما كان المقام الذي قام فيه ثابت مقام خطابة وإطناب وهو بحضرة قوم مشركين والإسلام غض طري كره صلى‌الله‌عليه‌وسلم التسوية منه فيه وأما مثل هذا المقام الذي القائل فيه والمخاطب من عرفت وقصد فيه نكتة وهو عدم استقلاله فلا كراهة للتسوية فيه. وخص بعض الكراهة بغير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحينئذ يقوى الجواب عما ذكر لأنه إذا جازت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو في كلام الله تعالى وما حكاه سبحانه بالطريق الأولى.

وخلاصة ما قرر في المسألة أن الحق أنه لا كراهة في ذلك في كلام الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أشير إليه في شروح البخاري ، وأما في حق البشر فلعل المختار أنه مكروه تنزيها في مقام دون مقام ، هذا وأنا لا أقول باشتراك هذا الضمير بين الله تعالى والخضر عليه‌السلام لا لأن فيه ترك الأدب بل لأن الظاهر أنه كضمير (خشينا) والظاهر في ذاك عدم الاشتراك لأنه محوج لارتكاب المجاز على أن النكتة التي ذكروها في اختيار التشريك في ضمير أردنا لا تظهر في اختياره في ضمير (فَخَشِينا) لأنه لم يتضمن الكلام الأول فعلين على نحو ما تضمنهما الكلام الثاني فتدبر ، وقيل في وجه تغاير الأسلوب : إن الأول شر فلا يليق إسناده إليه سبحانه وإن كان هو الفاعل جل وعلا ، والثالث خير فأفرد إسناده إلى الله عزوجل. والثاني ممتزج خبره وهو تبديله بخير منه وشره وهو القتل فأسند إلى الله تعالى وإلى نفسه نظرا لهما. وفيه أن هذا الإسناد في (فَخَشِينا) أيضا وأين امتزاج الخير والشر فيه ، وجعل النكتة في التعبير ينافيه مجرد الموافقة لتاليه ليس بشيء كما لا يخفى ، وقيل : الظاهر أنه أسند الإرادة في الأولين إلى نفسه لكنه تفنن في التعبير فعبر عنها بضمير المتكلم مع الغير بعد ما عبر بضمير المتكلم الواحد لأن مرتبة الانضمام مؤخرة عن مرتبة الانفراد مع أن فيه تنبيها على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية بخلاف التعييب ، وأسند فعل الإبدال إلى الله تعالى إشارة إلى استقلاله سبحانه بالفعل وأن الحاصل للعبد مجرد مقارنة إرادة الفعل دون تأثير فيه كما هو المذهب الحق انتهى ، وأنت تعلم أن الإبدال نفسه مما ليس لإرادة العبد مقارنة له أصلا وإنما لها مقارنة للقتل الموقوف هو عليه على أن في هذا التوجيه بعد ما فيه. وفي الانتصاف لعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى لأن المراد ثم عيب فتأدب عليه‌السلام بأن نسب الإعابة إلى نفسه ، وأما إسناد الثاني إلى ـ نا ـ فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك أمرنا بكذا ودبرنا كذا وإنما يعنون أمر الملك العظيم. ودبر ويدل على ذلك قوله في الثالث : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) وهو كما ترى ، وقيل : اختلاف الأسلوب لاختلاف حال العارف بالله سبحانه فإنه في ابتداء أمره يرى نفسه مؤثرة فلذا أسند الإرادة أولا إلى نفسه ثم يتنبه إلى أنه لا يستقل بالفعل بدون الله تعالى فلذا أسند إلى ذلك الضمير ثم يرى أنه لا دخل له وأن المؤثر والمريد إنما هو الله تعالى فلذا أسنده إليه سبحانه فقط وهذا مقام الفناء ومقام كان الله ولا شيء معه وهو الآن كما كان ، وتعقب بأنه إن أريد أن هذه الأحوال مرت على الخضر عليه‌السلام واتصف بكل منها أثناء المحاورة فهو باطل وكيف يليق أن يكون إذ ذاك ممن يتصف بالمرتبة الثانية فضلا عن المرتبة الأولى وهو الذي قد أوتي من قبل العلم اللدني. وإن أريد أنه عبر تعبير من اتصف بكل مرتبة من تلك المراتب وإن كان هو عليه‌السلام في أعلاها فإن كان ذلك تعليما لموسى عليه‌السلام فموسى عليه‌السلام أجل من أن يعلمه الخضر عليه‌السلام مسألة خلق الأعمال ، وإن كان تعليما لغيره عليه‌السلام فليس المقام ذلك المقام على تقدير أن يكون هناك غير يسمع منه هذا الكلام وإن أريد أنه عبر في المواضع الثلاثة بأسلوب مخصوص من هاتيك الأساليب إلا أنه سبحانه عبر في كل موضع بأسلوب فتعددت الأساليب في حكايته

٣٣٨

تعالى القصة لنا تعليما وإشارة إلى هاتيك المراتب وإن لم يكن كلام الخضر عليه‌السلام كذلك فالله تعالى أجل وأعظم من أن ينقل عن أحد كلاما لم يقله أو لم يقل ما بمعناه فالقول بذلك نوع افتراء عليه سبحانه. والذي يخطر ببال العبد الفقير أنه روعي في الجواب حال الاعتراض وما تضمنه وأشار إليه فلما كان الاعتراض الأول بناء (١) على أن لام (لِتُغْرِقَ) للتعليل متضمنا إسناد إرادة الإغراق إلى الخضر عليه‌السلام وكان الإنكار فيه دون الإنكار فيما يليه بناء على ما اختاره المحققون من أن (نُكْراً) أبلغ من (إِمْراً) ناسب أن يشرح بإسناد إرادة التعييب إلى نفسه المشير إلى نفي إرادة الإغراق عنها التي يشير كلام موسى عليه‌السلام إليها وأن لا يأتي بما يدل على التعظيم أو ضم أحد معه في الإرادة لعدم تعظيم أمر الإنكار المحوج لأن يقابل بما يدل على تعظيم إرادة خلاف ما حسبه عليه‌السلام وأنكره.

ولما كان الاعتراض الثاني في غاية المبالغة والإنكار هناك في نهاية الإنكار ناسب أن يشير إلى أن ما اعترض عليه وبولغ في إنكاره قد أريد به أمر عظيم ولو لم يقع لم يؤمن من وقوع خطب جسيم فلذا أسند الخشية والإرادة إلى ضمير المعظم نفسه أو المتكلم ومعه غيره فإن في إسناد الإرادة إلى ذلك تعظيما لأمرها وفي تعظيمه تعظيم أمر المراد وكذا في إسناد الخشية إلى ذلك تعظيم أمرها ، وفي تعظيمه تعظيم أمر المخشي. وربما يقال بناء على إرادة الضم منا : إن في ذلك الإسناد إشارة إلى أن ما يخشى وما يراد قد بلغ في العظم إلى أن يشارك موسى عليه‌السلام في الخشية منه ، وفي إرادته الخضر لا أن يستقل بإنكار ما هو من مبادئ ذلك المراد وبه ينقطع عن الأصلين عرق الفساد ، ولما كان الاعتراض الثالث هينا جدا حيث كان بلفظ لا تصلب فيه ولا إزعاج في ظاهره وخافيه ومع هذا لم يكن على نفس الفعل بل على عدم أخذ الأجرة عليه ليستعان بها على إقامة جدار البدن وإزالة ما أصابه من الوهن فناسب أن يلين في جوابه المقام ولا ينسب لنفسه استقلالا أو مشاركة شيئا ما من الأفعال فلذا أسند الإرادة إلى الرب سبحانه وتعالى ولم يكتف بذلك حتى أضافه إلى ضميره عليه‌السلام ، ولا ينافي ذلك تكرير النكير والعتاب لأنه متعلق بمجموع ما من أولا من ذلك الجناب ، هذا والله تعالى أعلم بحقيقة أسرار الكتاب وهو سبحانه الموفق للصواب ، واستدل بقوله : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) القائلون بنبوته عليه‌السلام وهو ظاهر في ذلك ، واحتمال أن يكون هناك نبي أمره بذلك عن وحي كما زعمه القائلون بولايته احتمال بعيد على أنه ليس في وصفه بقوله تعالى : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) على هذا كثير فائدة بل قد يقال : أي فائدة في هذا العلم اللدني إذا احتاج في إظهار العجائب لموسى عليه‌السلام إلى توسيط نبي مثله ، وقال بعضهم : كان ذلك عن إلهام ويلزمه القول بأن الإلهام كان حجة في بعض الشرائع وأن الخضر من المكلفين بتلك الشريعة وإلا فالظاهر أن حجيته ليست في شريعة موسى عليه‌السلام وكذا هو ليس بحجة في شريعتنا على الصحيح ، ومن شذ وقال بحجيته اشترط لذلك أن لا يعارضه نص شرعي فلو أطلع الله تعالى بالإلهام بعض عباده على نحو ما اطلع عليه الخضر عليه‌السلام من حال الغلام لم يحل له قتله ، وما أخرجه الإمام أحمد عن عطاء أنه قال : كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل الصبيان فكتب إليه إن كنت الخضر تعرف الكافر من المؤمن فاقتلهم إنما قصد به ابن عباس كما قال السبكي المحاجة والإحالة على ما لم يمكن قطعا لطمعه في الاحتجاج بقصة الخضر وليس مقصوده رضي الله تعالى عنه أنه إن حصل ذلك يجوز القتل فما قاله اليافعي في روضه من أنه لو أذن الله تعالى لبعض عباده أن يلبس ثوب حرير مثلا وعلم الإذن يقينا فلبسه لم يكن منتهكا للشرع وحصول اليقين له من حيث حصوله للخضر بقتله للغلام إذ هو ولي لا نبي على الصحيح انتهى عثرة يكاد أن لا

__________________

(١) ويوشك أن يكون هذا من قبيل. وكلت للخل كما كال لي. على وفاء الكيل أو بخسه اه منه.

٣٣٩

يقال لصاحبها لعا لأن مظنة حصول اليقين اليوم الإلهام وهو ليس بحجة عند الأئمة ومن شذ اشترط ما اشترط ، وحصوله بخبر عيسى عليه‌السلام إذا نزل متعذر لأنه عليه‌السلام ينزل بشريعة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن شريعته تحريم لبس الحرير على الرجال إلا للتداوي وما ذكره من نفي نبوة الخضر لا يعول عليه ولا يلتفت إليه ، وممن صرح بأن الإلهام ليس بحجة من الصوفية الإمام الشعراني وقال : قد زل في هذا الباب خلق كثير فضلوا وأضلوا ، ولنا في ذلك مؤلف سميته حد الحسام في عنق من أطلق إيجاب العمل بالإلهام وهو مجلد لطيف انتهى ، وقال أيضا في كتابه المسمى بالجواهر والدرر : قد رأيت من كلام الشيخ محيي الدين قدس‌سره ما نصه اعلم أنا لا نعني بملك الإلهام حيث أطلقناه إلا الدقائق الممتدة من الأرواح الملكية لا نفس الملائكة فإن الملك لا ينزل بوحي على غير قلب نبي أصلا ولا يأمر بأمر إلهي جملة واحدة فإن الشريعة قد استقرت وتبين الفرض والواجب وغيرهما فانقطع الأمر الإلهي بانقطاع النبوة والرسالة وما بقي أحد يأمره الله تعالى بأمر يكون شرعا مستقلا يتعبد به أبدا لأنه إن أمره بفرض كان الشارع قد أمر به وإن أمره بمباح فلا يخلو إما أن يكون ذلك المباح المأمور به صار واجبا أو مندوبا في حقه فهذا عين نسخ الشرع الذي هو عليه حيث صير المباح الشرعي واجبا أو مندوبا وإن أبقاه مباحا كما كان فأي فائدة للأمر الذي جاء به ملك الإلهام لهذا المدعي فإن قال : لم يجئني ملك الإلهام بذلك وإنما أمرني الله تعالى بلا واسطة قلنا : لا يصدق في مثل ذلك وهو تلبيس من النفس ، فإن ادعى أن الله سبحانه كلمه كما كلم موسى عليه‌السلام فلا قائل به ، ثم إنه تعالى لو كلمه ما كان يلقي إليه في كلامه إلا علوما وأخبارا لا أحكاما وشرعا ولا يأمره أصلا انتهى.

وقد صرح الإمام الرباني مجدد الألف الثاني قدس‌سره العزيز في المكتوبات في مواضع عديدة بأن الإلهام لا يحل حراما ولا يحرم حلالا ويعلم من ذلك أنه لا مخالفة بين الشريعة والحقيقة والظاهر والباطن وكلامه قدس‌سره في المكتوبات طافح بذلك ، ففي المكتوب الثالث والأربعين من الجلد الأول إن قوما مالوا إلى الإلحاد والزندقة يتخيلون أن المقصود الأصلي وراء الشريعة حاشا وكلا ثم حاشا وكلا نعوذ بالله سبحانه من هذا الاعتقاد السوء فكل من الطريقة والشريعة عين الآخر لا مخالفة بينهما بقدر رأس الشعيرة وكل ما خالف الشريعة مردود وكل حقيقة ردتها الشريعة فهي زندقة ، وقال في أثناء المكتوب الحادي والأربعين من الجلد الأول أيضا في مبحث الشريعة والطريقة والحقيقة : مثلا عدم نطق اللسان بالكذب شريعة ونفي خاطر الكذب عن القلب إن كان بالتكلف والتعمل فهو طريقة وإن تيسر بلا تكلف فهو حقيقة ففي الجملة الباطن الذي هو الطريقة والحقيقة مكمل الظاهر الذي هو الشريعة فالسالكون سبيل الطريقة والحقيقة إن ظهر منهم في أثناء الطريق أمور ظاهرها مخالف للشريعة ومناف لها فهو من سكر الوقت وغلبة الحال فإذا تجاوزوا ذلك المقام ورجعوا إلى الصحو ارتفعت تلك المنافاة بالكلية وصارت تلك العلوم المضادة بتمامها هباء منثورا.

وقال نفعنا الله تعالى بعلومه في أثناء المكتوب السادس والثلاثين من الجلد الأول أيضا : للشريعة ثلاثة أجزاء علم وعمل وإخلاص فما لم تتحقق هذه الأجزاء لم تتحقق الشريعة وإذا تحققت الشريعة حصل رضا الحق سبحانه وتعالى وهو فوق جميع السعادات الدنيوية والأخروية ورضوان من الله أكبر فالشريعة متكفلة بجميع السعادات ولم يبق مطلب وراء الشريعة فالطريقة والحقيقة اللتان امتاز بهما الصوفية كلتاهما خادمتان للشريعة في تكميل الجزء الثالث الذي هو الإخلاص فالمقصود منهما تكميل الشريعة لا أمر آخر وراء ذلك إلى آخر ما قال ، وقال عليه الرحمة في أثناء المكتوب التاسع والعشرين من الجلد المذكور بعد تحقيق كثير : فتقرر أن طريق الوصول إلى درجات القرب الإلهي جل شأنه سواء كان قرب النبوة أو قرب الولاية منحصر في طريق الشريعة التي دعا إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصار مأمورا بها في آية

٣٤٠