روح المعاني - ج ٨

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٨

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٨

المراد بالظالمين في قوله تعالى : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) انتهى.

وقيل المعنى على تقدير عود الضميرين على أولئك الكفرة إن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة وضدها لأنهم لم يكونوا شاهدين خلق العالم فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله تعالى وبشرفهم ورفعتهم عند الخلق وبأضداد هذه الأحوال للفقراء ، وقيل المعنى عليه ما أشهدتهم خلق ذلك وما أطلعتهم على أسرار التكوين وما خصصتهم بخصائص لا يحويها غيرهم حتى يكونوا قدوة للناس فيؤمنوا بإيمانهم كما يزعمون فلا تلتفت إلى قولهم طمعا في نصرتهم للدين فإنه لا ينبغي لي أن أعتضد لديني بالمضلين ، ويعضده قراءة أبي جعفر والجحدري والحسن وشيبة (وَما كُنْتُ) بفتح التاء خطابا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى ما صح لك الاعتضاد بهم ، ولعل وصف أولئك الظالمين بالإضلال لما أن قصدهم بطرد الفقراء تنفير الناس عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو إضلال ظاهر وقيل كل ضال مضل لأن الإضلال إما بلسان القال أو بلسان الحال والثاني لا يخلو عنه ضال ، وقيل الضميران للملائكة ، والمعنى ما أشهدتهم ذلك ولا استعنت بهم في شيء بل خلقتهم ليعبدوني فكيف يعبدون ، ويرده (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) إلا أن يقال : هو نفي لاتخاذ الشياطين أعوانا فيستفاد من الجملتين نفي صحة عبادة الفريقين ، وقال ابن عطية : الضميران عائدان على الكفار وعلى الناس بالجملة فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والأطباء ومن سواهم ممن يخوض خوضهم ، وإلى هذا ذهب عبد الحق الصقلي وذكره بعض الأصوليين انتهى. ويقال عليه في الجملة الأخيرة نحو ما قيل فيها آنفا.

واستدل بها على أنه لا ينبغي الاستعانة بالكافر وهو في أمور الدين كجهاد الكفار وقتال أهل البغي مما ذهب إليه بعض الأئمة ولبعضهم في ذلك تفصيل ، وأما الاستعانة بهم في أمور الدنيا فالذي يظهر أنه لا بأس بها سواء كانت في أمر ممتهن كنزح الكنائف أو في غيره كعمل المنابر والمحاريب والخياطة ونحوها ، ولعل أفرض اليهودي أو الكلب قد مات في كلام الفاروق رضي الله تعالى عنه لعد ما استخدم فيه من الأمور الدينية أو هو مبني على اختيار تفصيل في الأمور الدنيوية أيضا.

وقد حكى الشيعة أن عليا كرم الله تعالى وجهه قال حين صمم على عزل معاوية وأشار عليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بإبقائه على عمله إلى أن يستفحل أمر الخلافة : يمنعني من ذلك قوله تعالى : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) فلا أتخذ معاوية عضدا أبدا ، وهو كذب لا يعتقده إلا ضال مضل.

وقرأ أبو جعفر وشيبة والسختياني وعون العقيلي وابن مقسم «ما أشهدناهم» بنون العظمة : وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «متخذا المضلين» على اعمال اسم الفاعل وقرأ الحسن وعكرمة «عضدا» بسكون الضاد ونقل حركتها إلى العين وقرأ عيسى «عضدا» بسكون الضاد للتخفيف كما قالوا في رجل وسبع رجل وسبع بالسكون وهي لغة عن تميم ، وعنه أيضا أنه قرأ بفتحتين.

وقرأ شيبة وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة والخفاف وأبي زيد «عضدا» بضمتين ، وروي ذلك عن الحسن أيضا ، وكذا روي عنه أيضا أنه قرأ بفتحتين ، وهو على هذا إما لغة في العضد كما في البحر ولم يذكره في القاموس وإما جمع عاضد كخدم جمع خادم من عضده بمعنى قواه وأعانه فحينئذ لا استعارة. وقرأ الضحاك «عضدا» بكسر العين وفتح الضاد ولم نجد ذلك من لغاته ، نعم في القاموس عد عضد ككتف منها وهو عكس هذه القراءة (وَيَوْمَ يَقُولُ) أي الله تعالى للكفار توبيخا وتعجيزا بواسطة أو بدونها. وقرأ الأعمش وطلحة ويحيى وابن أبي ليلى وحمزة وابن مقسم «نقول» بنون العظمة ، والكلام على معنى اذكر أيضا أي واذكر يوم يقول (نادُوا) للشفاعة لكم (شُرَكائِيَ الَّذِينَ

٢٨١

زَعَمْتُمْ) أي زعمتموهم شفعاء ، والإضافة باعتبار ما كانوا يزعمون أيضا فإنهم كانوا يزعمون أنهم شركاء كما يزعمون أنهم شفعاء ، وقد جوز غير واحد هنا أن يكون الكلام بتقدير زعمتموهم شركاء ، والمراد بهم إبليس وذريته ، وجعلهم بدلا فيما تقدم مبني على ما لزم من فعل عبدتهم المطيعين لهم فيما وسوسوا به أو كل ما عبد من دون الله تعالى.

وقرأ ابن كثير «شركاي» مقصورا مضافا إلى الياء (فَدَعَوْهُمْ) أي نادوهم للإغاثة ، وفيه بيان بكمال اعتنائهم بإغاثتهم على طريق الشفاعة إذ معلوم أن لا طريق إلى المدافعة (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) فلم يغيثوهم إذ لا إمكان لذلك ؛ قيل وفي إيراده مع ظهوره تهكم بهم وإيذان بأنهم في الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به.

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ) أي بين الداعين والمدعوين (مَوْبِقاً) اسم مكان من وبق وبوقا كوثب وثوبا أو وبق وبقا كفرح فرحا إذا هلك أي مهلكا يشتركون فيه وهو النار ، وجاء عن ابن عمر وأنس ومجاهد أنه واد في جهنم يجري بدم وصديد ، وعن عكرمة أنه نهر في النار يسيل نارا على حافتيه حيات أمثال البغال الدهم فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا بالاقتحام في النار منها ، وتفسير الموبق بالمهلك مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن مجاهد وغيرهما ، وعن الحسن تفسيره بالعداوة فهو مصدر أطلق على سبب الهلاك وهو العداوة كما أطلق التلف على البغض المؤدي إليه في قول عمر رضي الله تعالى عنه : لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا.

وعن الربيع بن أنس تفسيره بالمحبس ، ومعنى كون الموبق على سائر تفاسيره بينهم شموله لهم وكونهم مشتركين فيه كما يقال جعلت المال بين زيد وعمرو فكأنه ضمن (جَعَلْنا) معنى قسمنا وحينئذ لا يمكن إدخال عيسى وعزير والملائكة عليهم‌السلام ونحوهم في الشركاء على القول الثاني.

وقال بعضهم : معنى كون الموبق أي المهلك أو المحبس بينهم أنه حاجز واقع في البين ، وجعل ذلك بينهم حسما لأطماع الكفرة في أن يصل إليهم ممن دعوه للشفاعة. وجاء عن بعض من فسره بالوادي أنه يفرق الله تعالى به بين أهل الهدى وأهل الضلالة ، وعلى هذا لا مانع من شمول المعنى الثاني للشركاء لأولئك الأجلة.

وقال الثعالبي في فقه اللغة : الموبق بمعنى البرزخ البعيد على أن وبق بمعنى هلك أيضا أي جعلنا بينهم أمدا بعيدا يهلك فيه الأشواط لفرط بعده ، وعليه أيضا يجوز الشمول المذكور لأن أولئك الكرام عليهم‌السلام في أعلى الجنان وهؤلاء اللئام في قعر النيران ، ولا يخفى على من له أدنى تأمل الحال فيما إذا أريد بالموبق العداوة.

و (بَيْنَهُمْ) على جميع ما ذكر ظرف وهو مفعول ثان لجعل إن جعل بمعنى صير و (مَوْبِقاً) مفعوله الأول ، وإن جعل بمعنى خلق كان الظرف متعلقا به أو بمحذوف وقع صفة لمفعوله قدم عليه لرعاية الفواصل فتحول حالا.

وقال الفراء والسيرافي : البين هنا بمعنى الوصل فإنه يكون بمعناه كما يكون بمعنى الفراق وهو مفعول أول لجعلنا و (مَوْبِقاً) بمعنى هلاكا مفعوله الثاني ، والمعنى جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة.

(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) وضع المظهر في مقام المضمر تصريحا بإجرامهم وذما لهم بذلك. والرؤية بصرية ، وجاء عن أبي سعيد الخدري كما أخرجه عنه أحمد وابن جرير والحاكم وصححه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الكافر ليرى جهنم من مسير أربعين سنة (فَظَنُّوا) أي علموا كما أخرجه عبد الرزاق ، وجماعة عن قتادة ، وهو الظاهر من حالهم بعد قول الله تعالى ذلك واستغاثتهم بشركائهم وعدم استجابتهم لهم وجعل الموبق بينهم.

وقيل الظن على ظاهره وهم لم يتيقنوا (أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) أي مخالطوها واقعون فيها لعدم يأسهم من رحمة الله تعالى قبل دخولهم فيها ، وقيل إنهم لما رأوها من بعيد كما سمعت في الحديث ظنوا أنها تخطفهم في الحال فإن اسم

٢٨٢

الفاعل موضوع للحال فالمتيقن أصل الدخول والمظنون الدخول حالا وفي مصحف عبد الله «ملاقوها» وكذلك قرأ الأعمش وابن غزوان عن طلحة ، واختير جعلها تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف ، وعن علقمة أنه قرأ «ملافّوها» بالفاء مشددة من لف الشيء (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) أي مكانا ينصرفون إليها.

قال أبو كبير الهذلي :

أزهير هل عن شيبة بن مصرف

أم لا خلود لباذل متكلف

فهو اسم مكان ، وجوز أن يكون اسم زمان ، وكذا جوز أبو البقاء وتبعه غيره أن يكون مصدرا أي انصرافا ، وفي الدر المصون أنه سهو فإنه جعل مفعل بكسر العين مصدرا من صحيح مضارعه يفعل بالكسر وقد نصوا على أن مصدره مفتوح العين لا غير واسم زمانه ومكان مكسورها ، نعم إن القول بأنه مصدر مقبول في قراءة زيد بن على رضي الله تعالى عنهما «مصرفا» بفتح الراء (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) كررنا وأوردنا على وجوه كثيرة من النظم (فِي هذَا الْقُرْآنِ) الجليل الشأن (لِلنَّاسِ) لمصلحتهم ومنفعتهم (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي كل مثل على أن ـ من ـ سيف خطيب على رأي الأخفش والمجرور مفعول (صَرَّفْنا) أو مثلا من كل مثل على أن من أصلية والمفعول موصوف الجار والمجرور المحذوف ، وقيل المفعول مضمون (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي بعض كل جنس مثل ، وأيّا ما كان فالمراد من المثل إما معناه المشهور أو الصفة الغريبة التي هي في الحسن واستجلاب النفس كالمثل ، والمراد أنه تعالى نوع ضرب الأمثال وذكر الصفات الغريبة وذكر من كل جنس محتاج إليه داع إلى الإيمان نافع لهم مثلا لا أنه سبحانه ذكر جميع أفراد الأمثال ، وكأن في الآية حذفا أو هي على معنى ولقد فعلنا ذلك ليقبلوا فلم يفعلوا.

(وَكانَ الْإِنْسانُ) بحسب جبلته (أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل ، وهو كما قال الراغب وغيره المنازعة بمفاوضة القول ، والأليق بالمقام أن يراد به هنا الخصومة بالباطل والمماراة وهو الأكثر في الاستعمال. وذكر غير واحد أنه مأخوذ من الجدل وهو الفتل والمجادلة الملاواة لأن كلا من المتجادلين يلتوي على صاحبه ، وانتصابه على التمييز ، والمعنى أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل وعلل بسعة مضطربه فإنه بين أوج الملكية وحضيض البهيمية فليس له في جانبي التصاعد والتسفل مقام معلوم.

والظاهر أنه ليس المراد إنسانا معينا ، وقيل المراد به النضر بن الحارث ، وقيل ابن الزبعرى ، وقال ابن السائب : أبي بن خلف وكان جداله في البعث حين أتي بعظم قد رم فقال : أيقدر الله تعالى على إعادة هذا وفته بيده؟ والأول أولى ، ويؤيده ما أخرجه الشيخان وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرقه وفاطمة ليلا فقال : ألا تصليان فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله تعالى إن شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئا ثم سمعته يضرب فخذه ويقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا فإنه ظاهر في حمل الإنسان على العموم ، ولا شبهة في صحة الحديث إلا أن فيه إشكالا يعرف بالتأمل ، ولا يدفعه ما ذكره النووي حيث قال : المختار في معناه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعجب من سرعة جوابه وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا ولهذا ضرب فخذه ، وقيل قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك تسليما لعذرهما وإنه لا عتب اه فتأمل (وَما مَنَعَ النَّاسَ) قال ابن عطية وغيره : المراد بهم كفار قريش الذين حكيت أباطيلهم ، وما نافية.

وزعم بعضهم وهو من الغرابة بمكان أنها استفهامية أي أي شيء منعهم (أَنْ يُؤْمِنُوا) أي من إيمانهم بالله تعالى وترك ما هم فيه من الإشراك (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أي القرآن العظيم الهادي إلى الإيمان بما فيه من فنون المعاني الموجبة له أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإطلاق الهدى على كل للمبالغة (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) بالتوبة عما فرط منهم من أنواع الذنوب التي من جملتها مجادلتهم الحق بالباطل ، وفائدة ذكر هذا بعد الإيمان التعميم على ما قيل.

٢٨٣

واستدل به من زعم أن الإيمان إذا لم ينضم إليه الاستغفار لا يجب ما قبله وهو خلاف ما اقتضته الظواهر.

وقال بعضهم : لا شك أن الإيمان مع الاستغفار أكمل من الإيمان وحده فذكر معه لتفيد الآية ما منعهم من الاتصاف بأكمل ما يراد منهم ، ولا يخفى أنه ليس بشيء ، وقيل ذكر الاستغفار بعد الإيمان لتأكيد أن المراد منه الإيمان الذي لا يشوبه نفاق فكأنه قيل ما منعهم أن يؤمنوا إيمانا حقيقيا (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) وهم من أهلك من الأمم السالفة ، وإضافة السنة إليهم قيل لكونها جارية عليهم وهي في الحقيقة سنة الله تعالى فيهم ، والمراد بها الإهلاك بعذاب الاستئصال ، وإذا فسرت السنة بالهلاك لم تحتج لما ذكر ، وأن وما بعدها في تأويل المصدر وهو فاعل (مَنَعَ) والكلام بتقدير مضاف أي ما منعهم من ذلك إلا طلب الهلاك في الدنيا قاله الزجاج ، وجوز صاحب الفينان تقدير انتظار أي ما منعهم إلا انتظار الهلاك ، وقدر الواحدي تقدير أي ما منعهم إلا تقدير الله تعالى إتيان الهلاك عليهم ، وقال : إن الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين ، ويأباه بحسب الظاهر كون السورة مكية إلا ما استثني ، والداعي لتقدير المضاف أنه لو كان المانع من إيمانهم واستغفارهم نفس إتيان الهلاك كانوا معذورين وأن عذاب الآخرة المعد للكفار المراد من قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) منتظر قطعا ، يميل لأن زمان إتيان العذاب متأخر عن الزمان الذي اعتبر لإيمانهم واستغفارهم فلا يتأتى مانعيته منهما.

واعترض تقدير الطلب بأن طلبهم سنة الأولين لعدم إيمانهم وهو لمنعهم عن الإيمان فلو كان منعهم للطلب لزم الدور. ودفع بأن المراد بالطلب سببه وهو تعنتهم وعنادهم الذي جعلهم طالبين للعذاب بمثل قولهم : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] إلخ. وتعقب بأن فيهم من ينكر حقية الإسلام كما أن فيهم المعاند ، ولا يظهر وجه كون الطلب ناشئا عن إنكار الحقية وكذا لا يظهر كونه ناشئا عن العناد واعترض أيضا بأن عدم الإيمان متقدم على الطلب مستمر فلا يكون الطلب مانعا.

وأجيب بأن المتقدم على الطلب هو عدم الإيمان السابق وليس الطلب بمانع منه بل هو مانع مما تحقق بعد وهو كما ترى ، وقيل المراد من الطلب الطلب الصوري اللساني لا الحقيقي القلبي فإن من له أدنى عقل لا يطلب الهلاك والعذاب طلبا حقيقيا قلبيا ومن الطلب الصوري منشؤه وما هو دليل عليه وهو تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أوعد به من العذاب والهلاك من لم يؤمن بالله عزوجل فكأنه قيل ما منعهم من الإيمان بالله تعالى الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام إلا تكذيبهم إياه بما أوعده على تركه ، ولا يخلو عن دغدغة.

وقيل الحق أن الآية على تقدير الطلب من قولك لمن يعصيك أنت تريد أن أضربك وهو على تنزيل الاستحقاق منزلة الطلب فكأنه قيل ما منعهم من ذلك إلا استحقاق الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي. وتعقب بأن عدم الإيمان والاتصاف بالكفر سبب للاستحقاق المذكور فيكون متقدما عليه ومتى كان الاستحقاق مانعا منه انعكس أمر التقدم والتأخر فيلزم اتصاف الواحد بالشخص بالتقدم والتأخر وأنه باطل. وأجيب بمنع كون عدم الإيمان سببا للاستحقاق في الحقيقة وإنما هو سبب صوري والسبب الحقيقي سوء استعداداتهم وخباثة ماهياتهم في نفس الأمر ، وهذا كما أنه سبب للاستحقاق كذلك هو سبب للاتصاف بالكفر ، وإن شئت فقل : هو مانع من الإيمان ، ومن هنا قيل إن المراد من الطلب الطلب بلسان الاستعداد وإن مآل الآية ما منعهم من ذلك إلا استعداداتهم وطلب ماهياتهم لضده ، وذلك لأن طلب استعداداتهم للهلاك أو العذاب المترتب على الضد استعداد للضد وطلب له ، وربما يقال بناء على هذا إن المفهوم من الآيات أن الكفار لو لم يأتهم رسول ينبههم من سنة الغفلة يحتجون لو عذبوا بعدم إتيانه فيقولون منعنا من الإيمان أنه لم يأتنا رسول ومآله منعنا من ذلك الغفلة ولا يجدون حجة أبلغ من ذلك وأنفع في الخلاص ، وأما سوء الاستعداد وخباثة

٢٨٤

الذات فبمراحل من أن يحتجوا به ويجعلوه مانعا فلا بعد في أن يقدر الطلب ويراد منه ظاهره وتكون الآية من قبيل قوله :

ولا عيب فيهم البيت. والمراد نفى أن يكون لهم مانع من الإيمان والاستغفار بعد مجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلح أن يكون حجة لهم أصلا كأنه قيل لا مانع لهم من أن يؤمنوا أو يستغفروا ربهم ولا حجة بعد مجيء الرسول الذي بلغ ما بلغ من الهدى إلا طلب ما أوعدوا به من إتيان الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي حيث إن ذلك على فرض تحققه منهم لا يصلح للمانعية والحجية لم يبق مانع وحجة عندهم أصلا انتهى.

ولا يخفى أنه بعد الإغضاء عما يرد عليه بعيد وإنكار ذلك مكابرة ، والأولى تقدير التقدير وهو مانع بلا شبهة إلا أن القائلين بالاستعداد حسبما تعلم يجعلون منشأه الاستعداد ، وفي معناه تقدير الإرادة أي إرادته تعالى وعليه اقتصر العز ابن عبد السلام ، ودفع التنافي بين الحصر المستفاد من هذه الآية والحصر المستفاد من قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] بأن الحصر الأول في المانع الحقيقي فإن إرادة الله تعالى هي المانعة على الحقيقة والثاني في المانع العادي وهو استغراب بعث بشر رسول لأن المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا استغراب ذلك ، وقد تقدم في الإسراء ما ينفعك في الجمع بين الحصرين فتذكر فما في العهد من قدم وادعى الإمام تعدد الموانع وأن المراد من الآية فقدان نوع منها فقال : قال الأصحاب إن العلم بعدم إيمانهم مضاد لوجود إيمانهم فإذا كان ذلك العلم قائما كان المانع قائما ، وأيضا حصول الداعي إلى الكفر قائم وإلا لما حصل لأن حصول الفعل الاختياري بدون الداعي محال ووجود الداعي إلى الكفر مانع من حصول الإيمان فلا بد أن يقال : المراد فقدان الموانع المحسوسة انتهى فليتأمل فيه.

والقبل بضمتين جمع قبيل وهو النوع أي أو يأتيهم العذاب أنواعا وألوانا أو هو بمعنى قبلا بكسر القاف وفتح الباء كما قرأ به غير واحد أي عيانا فإن أبا عبيدة حكاهما معا بهذا المعنى ؛ وأصله بمعنى المقابلة فإذا دل على المعاينة ، ونصبه على الحال فإن كان حالا من الضمير المفعول فمعناه معاينين بكسر الياء أو بفتحها أو معاينين للناس ليفتضحوا ، وإن كان من العذاب فمعناه معاينا لهم أو للناس. وقرأت طائفة «قبلا» بكسر القاف وسكون الباء وهو كما في البحر تخفيف قبل على لغة تميم. وذكر ابن قتيبة والزمخشري أنه قرئ «قبلا» بفتحتين أي مستقبلا. وقرأ أبي بن كعب وابن غزوان عن طلحة «قبيلا» بقاف مفتوحة وباء مكسورة بعدها ياء ساكنة أي عيانا ومقابلة (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ) إلى الأمم متلبسين بحال من الأحوال (إِلَّا) حال كونهم (مُبَشِّرِينَ) للمؤمنين بالثواب (وَمُنْذِرِينَ) للكفرة والعصاة بالعقاب ولم نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد ظهور المعجزات ويعاملوا بما لا يليق بشأنهم (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) باقتراح ذلك والسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها تعنتا وقولهم لهم (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [يس : ١٥] (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [المؤمنون : ٢٤] إلى غير ذلك ، وتقييد الجدال بالباطل لبيان المذموم منه فإنه كما مر غير بعيد عام لغة لا خاص بالباطل ليحمل ما ذكر على التجريد ، والمراد به هنا معناه اللغوي وما يطلق عليه اصطلاحا مما يصدق عليه ذلك (لِيُدْحِضُوا) أي ليزيلوا ويبطلوا (بِهِ) أي بالجدال (الْحَقَ) الذي جاءت به الرسل عليهم‌السلام ، وأصل الإدحاض الإزلاق والدحض الطين الذي يزلق فيه قال الشاعر :

وردت ونجى اليشكري حذاره

وحاد كما حاد البعير عن الدحض

وقال آخر :

٢٨٥

أبا منذر رمت الوفاء وهبته

وحدت كما حاد البعير المدحض

واستعماله في إزالة الحق قيل من استعمال ما وضع للمحسوس في المعقول ، وقيل لك أن تقول فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره كقول الخفاجي :

أتانا بوحل لأفكاره

ليزلق أقدام هدى الحجج

(وَاتَّخَذُوا آياتِي) التي أيدت بها الرسل سواء كانت قولا أو فعلا (وَما أُنْذِرُوا) أي والذي أنذروه من القوارع الناعية عليهم العقاب والعذاب أو إنذارهم (هُزُواً) أي استهزاء وسخرية.

وقرأ حمزة «هزأ» بالسكون مهموزا وقرأ غيره وغير حفص من السبعة بضمتين مهموزا ؛ وهو مصدر وصف به للمبالغة وقد يؤول بما يستهزأ به (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) الأكثرون على أن المراد بها القرآن العظيم لمكان (أَنْ يَفْقَهُوهُ) فالإضافة للعهد.

وجوز أن يراد بها جنس الآيات ويدخل القرآن العظيم دخولا أوليا ، والاستفهام إنكاري في قوة النفي ، وحقق غير واحد أن المراد نفى أن يساوي أحد في الظلم من وعظ بآيات الله تعالى (فَأَعْرَضَ عَنْها) فلم يتدبرها ولم يتعظ بها ، ودلالة ما ذكر على هذا بطريق الكناية وبناء الأظلمية على ما في حيز الصلة من الإعراض للإشعار بأن ظلم من يجادل في الآيات ويتخذها هزوا خارج عن الحد (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) أي عمله من الكفر والمعاصي التي من جملتها المجادلة بالباطل والاستهزاء بالحق ، ونسيان ذلك كناية عن عدم التفكر في عواقبه ، والمراد (مِمَّنْ) عند الأكثرين مشركو مكة.

وجوز أن يكون المراد منه المتصف بما في حيز الصلة كائنا من كان ويدخل فيه مشركو مكة دخولا أوليا ، والضمير في قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) لهم على الوجهين ، ووجه الجمع ظاهر ، والجملة استئناف بياني كأنه قيل ما علة الإعراض والنسيان؟ فقيل علته أنا جعلنا على قلوبهم (أَكِنَّةً) أي أغطية جمع كنان ، والتنوين على ما يشير إليه كلام البعض للتكثير (أَنْ يَفْقَهُوهُ) الضمير المنصوب عند الأكثرين للآيات ، وتذكيره وإفراده باعتبار المعنى المراد منها وهو القرآن.

وجوز أن يكون للقرآن لا باعتبار أنه المراد من الآيات وفي الكلام حذف والتقدير كراهة أن يفقهوه ، وقيل لئلا يفقهوه أي فقها نافعا (وَفِي آذانِهِمْ) أي وجعلنا فيها (وَقْراً) نقلا أن يسمعوه سماعا كذلك (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) أي مدة التكليف كلها ، و (إِذاً) جزاء وجواب كما حقق المراد منه في موضعه فتدل على نفي اهتدائهم لدعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببا في انتفائه ، وعلى أنه جواب للرسول عليه الصلاة والسلام على تقدير قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لي لا أدعوهم حرصا على اهتدائهم وإن ذكر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمرهم ما ذكر رجاء أن تنكشف تلك الأكنة وتمزق بيد الدعوة فقيل وإن تدعهم إلخ قاله الزمخشري. وفي الكشف في بيان ذلك أما الدلالة فصريح تخلل (إِذاً) يدل على ذلك لأن المعنى إذن لو دعوت وهو من التعكيس بلا تعسف ، وأما أنه جواب على الوجه المذكور فمعناه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل منزلة السائل مبالغة في عدم الاهتداء المرتب على كونهم مطبوعا على قلوبهم فلا ينافي ما آثروه من أنه على تقدير سؤال لم لم يهتدوا؟ فإن السؤال على هذا الوجه أوقع اه ، وهو كلام نفيس به ينكشف الغطا ويؤمن من تقليد الخطأ ويستغني به المتأمل عما قيل : إن تقدير ما لي لا أدعوهم يقتضي المنع من دعوتهم فكأنه أخذ من مثل قوله تعالى: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) [النجم : ٢٩] وقيل أخذ من قوله تعالى (عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) وقيل من قوله سبحانه «إن تدعهم» هذا ولا يخفى عليك المراد من الهدى وقد يراد منه القرآن فيكون من إقامة الظاهر مقام الضمير ، ولعل إرادة ذلك هنا ترجح إرادة القرآن في الهدى السابق ، والله

٢٨٦

تعالى أعلم. والآية في أناس علم الله تعالى موافاتهم على الكفر من مشركي مكة حين نزولها فلا ينافي الأخبار بالطبع وأنهم لا يؤمنون تحقيقا ولا تقليدا إيمان بعض المشركين بعد النزول ، واحتمال أن المراد جميع المشركين على معنى وإن تدعهم إلى الهدى جميعا فلن يهتدوا جميعا وإنما يهتدي بعضهم كما ترى. واستدلت الجبرية بهذه الآية على مذهبهم والقدرية بالآية التي قبلها ، قال الإمام : وقل ما تجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر وما ذلك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه الله تعالى على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين.

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ) مبتدأ وخبر وقوله تعالى (ذُو الرَّحْمَةِ) أي صاحبها والموصوف بها خبر بعد خبر ، قال الإمام : وإنما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة دون الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار والرحمة إيصال النفع وقدرة الله تعالى تتعلق بالأول لأنه ترك مضار لا نهاية لها ولا تتعلق بالثاني لأن فعل ما لا نهاية له محال.

وتعقبه النيسابوري بأنه فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله تعالى : (ذُو الرَّحْمَةِ) لا يخلو عن مبالغة وفي القرآن (غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ١٧٣ وغيرها] بالمبالغة في الجانبين كثيرا ؛ وفي تعلق القدرة بترك غير المتناهي نظر لأن مقدراته تعالى متناهية لا فرق بين المتروك وغيره اه ، وقيل عليه إنهم فسروا الغفار بمريد إزالة العقوبة عن مستحقها والرحيم بمريد الأنعام على الخلق وقصد المبالغة من جهة في مقام لا ينافي تركها في آخر لعدم اقتضائه لها ، وقد صرحوا بأن مقدوراته تعالى غير متناهية وما دخل منها في الوجود متناه ببرهان التطبيق اه ، وهو كلام حسن اندفع به ما أورد على الإمام. وزعمت الفلاسفة أن ما دخل في الوجود من المقدورات غير متناه أيضا ولا يجري فيه برهان التطبيق عندهم لاشتراطهم الاجتماع والترتب ، ولعمري لقد قف شعري من ظاهر قول النيسابوري إن مقدوراته تعالى متناهية فإن ظاهره التعجيز تعالى الله سبحانه عما يقوله الظالمون علوا كبيرا ولكن يدفع بالعناية فتدبر ، ثم إن تحرير نكتة التفرقة بين الخبرين هاهنا على ما قاله الخفاجي إن المذكور بعد عدم مؤاخذتهم بما كسبوا من الجرم العظيم وهو مغفرة عظيمة وترك التعجيل رحمة منه تعالى سابقة على غضبه لكنه لم يرد سبحانه إتمام رحمته عليهم وبلوغها الغاية إذ لو أراد جل شأنه ذلك لهداهم وسلمهم من العذاب رأسا ، وهذه النكتة لا تتوقف على حديث التناهي وعدم التناهي الذي ذكره الإمام وإن كان صحيحا في نفسه كما قيل ، والاعتراض عليه بأنه يقتضي عدم تناهي المتعلقات في كل ما نسب إليه تعالى بصيغ المبالغة وليس بلازم إذ يمكن أن تعتبر المبالغة في المتناهي بزيادة الكمية وقوة الكيفية ولو سلم ما ذكر لزم عدم صحة صيغ المبالغة في الأمور الثبوتية كرحيم ورحمن ولا وجه له مدفوع بأن ما ذكره نكتة لوقوع التفرقة بين الأمرين هنا بأنه اعتبرت المبالغة في جانب الترك دون مقابله لأن الترك عدمي يجوز فيه عدم التناهي بخلاف الآخر ألا ترى أن ترك عذابهم دال على ترك جميع أنواع العقوبات في العاجل وإن كانت غير متناهية كذا قيل وفيه نظر.

وربما يقال في توجيه ما قاله النيسابوري من أن ذو الرحمة لا يخلو عن المبالغة : إن ذلك إما لاقتران الرحمة بال فتقيد الرحمة الكاملة أو الرحمة المعهودة التي وسعت كل شيء. وإما لذو فإن دلالته على الاتصاف في مثل هذا التركيب فوق دلالة المشتقات عليه ولا يكاد يدل سبحانه على اتصافه تعالى بصفة بهذه الدلالة إلا وتلك الصفة مرادة على الوجه الأبلغ وإلا فما الفائدة في العدول عن المشتق الأخصر الدال على أصل الاتصاف كالراحم مثلا إلى ذلك ، ولا يعكر على هذا أن المبالغة لو كانت مرادة فلم عدل عن الأخصر أيضا المفيد لها كالرحيم أو الرحمن إلى ما ذكر لجواز أن يقال : إنه أريد أن لا تقيد الرحمة المبالغ فيها بكونها في الدنيا أو في الآخرة وهذان الاسمان يفيدان التقييد على المشهور ولذا عدل عنهما إلى ذو الرحمة ، وإذا قلت : هما مثله في عدم التقييد قيل : إن دلالته على المبالغة أقوى

٢٨٧

من دلالتهما عليها بأن يدعى أن تلك الدلالة بواسطة أمرين لا يعدلهما في قوة الدلالة ما يتوسط في دلالة الاسمين الجليلين عليها ، وعلى هذا يكون ذو الرحمة أبلغ من كل واحد من الرحمن والرحيم وإن كانا معا أبلغ منه ولذا جيء بهما في البسملة دونه ، ومن أنصف لم يشك في أن قولك فلان ذو العلم أبلغ من قولك فلان العليم من حيث إن الأول يفيد أنه صاحب ماهية العلم ومالكها ولا كذلك الأخيران ، وحينئذ يكون التفاوت بين الخبرين في الآية بأبلغية الثاني ووجه ذلك ظاهر فإن الرحمة أوسع دائرة من المغفرة كما لا يخفى ، والنكتة فيه هاهنا مزيد إيناسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن أخبره سبحانه بالطبع على قلوب بعض المرسل إليهم وآيسه من اهتدائهم مع علمه جل شأنه بزيد حرصه عليه الصلاة والسلام على ذلك ؛ وهو السر في إيثار عنوان الربوبية مضافا إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى.

وهو كلام واقف في أعراف الرد والقبول في النظر الجليل ، ومن دقق علم ما فيه من الأمرين ، وإنما قدم الوصف الأول لأن التخلية قبل التحلية أو لأنه أهم بحسب الحال والمقام إذ المقام على ما قاله المحققون مقام بيان تأخير العقوبة عنهم بعد استيجابهم لها كما يعرب عنه قوله تعالى : (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ) أي لو يريد مؤاخذتهم (بِما كَسَبُوا) أي فعلوا ، وكسب الأشعري لا تفهمه العرب ، وما إما مصدرية أي بكسبهم وإما موصولة أي بالذي كسبوه من المعاصي التي من جملتها ما حكي عنهم من مجادلتهم بالباطل وإعراضهم عن آيات ربهم وعدم المبالاة بما اجترحوا من الموبقات (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) لاستيجاب أعمالهم لذلك ، قيل وإيثار المؤاخذة المنبئة عن شدة الأخذ بسرعة على التعذيب والعقوبة ونحوهما للإيذان بأن النفي المستفاد من مقدم الشرطية متعلق بوصف السرعة كما ينبئ عنه تاليها ، وإيثار صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن انتفاء تعجيل العذاب لهم بسبب استمرار عدم إرادة المؤاخذة فإن المضارع الواقع موقع الماضي يفيد استمرار الفعل فيما مضى (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) وهو يوم بدر أو يوم القيامة على أن الموعد اسم زمان ، وجوز أن يكون اسم مكان والمراد منه جهنم ، والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل لكنهم ليسوا مؤاخذين بغتة بل لهم موعد (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) قال الفراء : أي منجى يقال وألت نفس فلان نحت وعليه قول الأعشى :

وقد أخالس رب الدار غفلته

وقد يحاذر مني ثم ما يئل

وقال ابن قتيبة : هو الملجأ يقال وأل فلان إلى كذا يئل وألا ووءولا إذا لجأ والمعنى واحد والفرق إنما هو بالتعدي بإلى وعدمه ، وتفسيره بالملجإ مروي عن ابن عباس ، وفسره مجاهد بالمحرز ، والضحاك بالمخلص والأمر في ذلك سهل ، وهو على ما قاله أبو البقاء : يحتمل أن يكون اسم زمان وأن يكون اسم مكان ، والضمير المجرور عائد على الموعد كما هو الظاهر ، وقيل : على العذاب وفيه من المبالغة ما فيه لدلالته على أنهم لا خلاص لهم أصلا فإن من يكون ملجأه العذاب كيف يرى وجه الخلاص والنجاة.

وأنت تعلم أن أمر المبالغة موجود في الظاهر أيضا ؛ وقيل : يعود على الله تعالى وهو مخالف للظاهر مع الخلو عن المبالغة ، وقرأ الزهري «موّلا» بتشديد الواو من غير همز ولا ياء ، وقرأ أبو جعفر عن الحلواني عنه «مولا» بكسر الواو خفيفة من غير همز ولا ياء أيضا (وَتِلْكَ الْقُرى) أي قرى عاد وثمود وقوم لوط وأشباههم ، والكلام على تقدير مضاف أي أهل القرى لقوله تعالى : (أَهْلَكْناهُمْ) والإشارة لتنزيلهم لعلمهم بهم منزلة المحسوس ، وقدر المضاف في البحر قبل (تِلْكَ) وكلا الأمرين جائز ، وتلك يشار بها للمؤنث من العقلاء وغيرهم ، وجوز أن تكون القرى عبارة عن أهلها مجازا ، وأيّا ما كان فاسم الإشارة مبتدأ و (الْقُرى) صفته والوصف بالجامد في باب الإشارة مشهور والخبر جملة (أَهْلَكْناهُمْ) واختار أبو حيان كون «القرى» هو الخبر والجملة حالية كقوله تعالى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) [النمل : ٥٢] وجوز أن تكون «تلك» منصوبا بإضمار فعل يفسره ما بعده أي وأهلكنا تلك القرى أهلكناهم (لَمَّا ظَلَمُوا) أي

٢٨٨

حين ظلمهم كما فعل مشركو مكة ما حكي عنهم من القبائح ، وترك المفعول إما لتعميم الظلم أو لتنزيله منزلة اللازم أي لما فعلوا الظلم ، و (لَمَّا) عند الجمهور ظرف كما أشير إليه وليس المراد به الحين المعين الذي عملوا فيه الظلم بل زمان ممتد من ابتداء الظلم إلى آخره.

وقال أبو الحسن بن عصفور : هي حرف ، ومما استدل به على حرفيتها هذه الآية حيث قال : إنها تدل على أن علة الإهلاك الظلم والظرف لا دلالة له على العلية ، واعترض بأن قولك أهلكته وقت الظلم يشعر بعلية الظلم وإن لم يدل الظرف نفسه على العلية ، وقيل لا مانع من أن يكون ظرفا استعمل للتعليل.

(وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ) لهلاكهم (مَوْعِداً) وقتا معينا لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون فمفعل الأول مصدر والثاني اسم زمان ، والتعيين من جهة أن الموعد لا يكون إلا معينا وإلا فاسم الزمان مبهم والعكس ركيك. وزعم بعضهم أن المهلك على هذه القراءة وهي قراءة حفص في الرواية المشهورة عنه ـ أعني القراءة بفتح الميم وكسر اللام ـ من المصادر الشاذة كالمرجع والمحيض وعلل ذلك بأن المضارع يهلك بكسر اللام وقد صرحوا بأن مجيء المصدر الميمي مكسورا فيما عين مضارعه مكسورة شاذ ، وتعقب بأنه قد صرح في القاموس بأن هلك جاء من باب ضرب ومنع وعلم فكيف يتحقق الشذوذ فالحق أنه مصدر غير شاذ وهو مضاف للفاعل ولذا فسر بما سمعت ، وقيل : إن هلك يكون لازما ومتعديا فعن تميم هلكني فلان فعلى تعديته يكون مضافا للمفعول ، وأنشد أبو علي في ذلك : ـ ومهمه هالك من تعرجا ـ أي مهلكه ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتعين ذلك في البيت بل قد ذهب بعض النحويين إلى أن هالكا فيه لازم وأنه من باب الصفة المشبهة والأصل هالك من تعرجا بجعل من فاعلا لهالك ثم أضمر في هالك ضمير مهمه وانتصب من على التشبيه بالمفعول ثم أضيف من نصب ، والصحيح جواز استعمال الموصول في باب الصفة المشبهة ، وقد ثبت في أشعار العرب قال عمرو بن أبي ربيعة :

أسيلات أبدان دقاق خصورها

وثيرات ما التفت عليها الملاحف

وقرأ حفص وهارون وحماد ويحيى عن أبي بكر بفتح الميم واللام ، وقراءة الجمهور بضم الميم وفتح اللام وهو مصدر أيضا ، وجعله اسم مفعول على معنى وجعلنا لمن أهلكناه منهم في الدنيا موعدا ننتقم فيه منه أشد انتقام وهو يوم القيامة أو جهنم لا يخفى ما فيه ، والظاهر أن الآية استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد ليعتبروا ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم ، وهي ترجح حمل الموعد فيما سبق على يوم بدر فتدبر والله تعالى أعلم وأخبر.

«ومن باب الإشارة في الآيات» (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) أمر بصحبة الفقراء الذين انقطعوا لخدمة مولاهم ، وفائدتها منه عليه الصلاة والسلام تعود عليهم وذلك لأنهم عشاق الحضرة وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرآتها وعرش تجليها ومعدن أسرارها ومشرق أنوارها فمتى رأوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاشوا ومتى غاب عنهم كئبوا وطاشوا ، وأما صحبة الفقراء بالنسبة إلى غيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففائدتها تعود إلى من صحبهم فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم ، وقال عمرو المكي : صحبة الصالحين والفقراء الصادقين عيش أهل الجنة يتقلب معهم جليسهم من الرضا إلى اليقين ومن اليقين إلى الرضا ، ولأبي مدين من قصيدته المشهورة التي خمسها الشيخ محيي الدين قدس‌سره :

ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا

هم السلاطين والسادات والأمرا

فاصحبهم وتأدب في مجالسهم

وخل حظك مهما قدموك ورا

واستغنم الوقت واحضر دائما معهم

واعلم بأن الرضا يختص من حضرا

٢٨٩

ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل

لا علم عندي وكن بالجهل مستترا

إلى أن قال :

وإن بدا منك عيب فاعترف وأقم

وجه اعتذارك عما فيك منك جرا

وقل عبيدكم أولى بصفحكم

فسامحوا وخذوا بالرفق يا فقرا

هم بالتفضل أولى وهو شيمتهم

فلا تخف دركا منهم ولا ضررا

وعنى بهؤلاء السادة الصوفية وقد شاع إطلاق الفقراء عليهم لأن الغالب عليهم الفقر بالمعنى المعروف وفقرهم مقارن للصلاح وبذلك يمدح الفقر ، وأما إذا اقترن بالفساد فالعياذ بالله تعالى منه فمتى سمعت الترغيب في مجالسة الفقير فاعلم أن المراد منه الفقير الصالح ، والآثار متظافرة في الترغيب في ذلك فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما موقوفا تواضعوا وجالسوا المساكين تكونوا من كبار عبيد الله تعالى وتخرجوا من الكبر ، وفي الجامع الجلوس مع الفقراء من التواضع وهو من أفضل الجهاد ، وفي رواية أحبوا الفقراء وجالسوهم ، ومن فوائد مجالستهم أن العبد يرى نعمة الله تعالى عليه ويقنع باليسير من الدنيا ويأمن في مجالستهم من المداهنة والتملق وتحمل المن وغير ذلك ، نعم إن مجالستهم خلاف ما جبلت عليه النفس ولذا عظم فضلها ، وقيل : إن في قوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ) إلخ دون ودم مع الذين إلخ إشارة إلى ذلك ولكن ذلك بالنسبة إلى غيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن نفسه الشريفة فطرت على أحسن فطرة وطبعت على أحسن طبيعة.

وقال بعض أهل الأسرار : إنما قيل : واصبر نفسك دون واصبر قلبك لأن قلبه الشريف صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مع الحق فأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصحبة الفقراء جهرا بجهر واستخلص سبحانه قلبه له سرا بسر (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا وهي مذمومة مع الميل إليهم والتواضع لغناهم ، وقد جاء في الحديث «من تذلل لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه فليتق الله تعالى في الثلث الآخر» ومضار مجالستهم كثيرة ، ولا تخفى على من علم فوائد مجالسة الفقراء ، وأدناها ضررا تحمل منهم فإنه قلما يسلم الغني من المن على جليسه الفقير ولو بمجرد المجالسة وهو حمل لا يطاق ، ومن نوابغ الزمخشري طعم الآلاء أحلى من المن وهي أمر من الآلاء عند المن ، وقال بعض الشعراء :

لنا صاحب ما زال يتبع بره

بمن وبذل المن بالبر لا يسوى

تركناه لا بغضا ولا عن ملالة

ولكن لأجل المن يستعمل السلوى

(وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) نهي عن إطاعة المحجوبين الغافلين وكانوا في القصة يريدون طرد الفقراء وعدم مجالسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فلا يطاع عند أهل الإشارة الغافل المحجوب في كل شيء فيه هوى النفس ، وعدوا من إطاعته التواضع له فإنه يطلبه حالا وإن لم يفصح به مقالا (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) قالوا : فيه إشارة إلى عدم كتم الحق وإن أدى إلى إنكار المحجوبين وإعراض الجاهلين ، وعد من ذلك في أسرار القرآن كشف الأسرار الإلهية وقال : إن العاشق الصادق لا يبالي تهتك الأسرار عند الأغيار ولا يخاف لومة لائم ولا يكون في قيد إيمان الخلق وإنكارهم فإن لذة العشق بذلك أتم ألا ترى قول القائل :

ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر

ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر

٢٩٠

وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى

فلا خير في اللذات من دونها ستر

ولا يخفى أن هذا خلاف المنصور عند الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فإنهم حافظوا على كتم الأسرار عن الأغيار وأوصوا بذلك ، ويكفي حجة في هذا المطلب ما نسب إلى زين العابدين رضي الله تعالى عنه وهو :

إني لأكتم من علمي جواهره

كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدم في هذا أبو حسن

إلى الحسين ووصى قبله الحسنا

فرب جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسنا

نعم المغلوب وكذا المأمور معذور وعند الضرورة يباح المحظور ، وما أحسن قول الشهاب القتيل :

وا رحمتا للعاشقين تكلفوا

ستر المحبة والهوى فضاح

بالسر إن باحوا تباح دماؤهم

وكذا دماء البائحين تباح

وإذا هم كتموا يحدث عنهم

عند الوشاة المدمع السحاح

وما ذكر أولا يكون مستمسكا في الذب عن الشيخ الأكبر قدس‌سره وأضرابه فإنهم لم يبالوا في كشف الحقائق التي يدعونها بكونه سببا لضلال كثير من الناس وداعيا للإنكار عليهم ، وقد استدل بعض بالآية في الرد عليهم بناء على أن المعنى الحق ما يكون من جهته تعالى وما جاءوا به ليس من جهته سبحانه لأنه لا تشهد له آية ولا يصدقه حديث ولا يؤيده أثر. وأجيب بأن ذلك ليس إلا من الآيات والأحاديث إلا أنه لا يستنبط منها إلا بقوة قدسية وأنوار إلهية فلا يلزم من عدم فهم المنكرين لها من ذلك لحرمانهم تلك القوة واحتجابهم عن هاتيك الأنوار عدم حقيتها فكم من حق لم تصل إليه أفهامهم. واعترض بأنه لو كان الأمر كذلك لظهر مثل تلك الحقائق في الصدر الأول فإن أرباب القوى القدسية والأنوار الإلهية فيه كثيرون والحرص على إظهار الحق أكثر ، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون هناك مانع أو عدم مقتض لإظهار ما أظهر من الحقائق ، وفيه نوع دغدغة ولعله سيأتيك إن شاء الله تعالى ما عسى أن ينفعك هنا ، وبالجملة أمر الشيخ الأكبر وأضرابه قدس الله تعالى أسرارهم فيما قالوا ودونوا عندي مشكل لا سيما أمر الشيخ فإنه أتى بالداهية الدهياء مع جلالة قدره التي لا تنكر ، ولذا ترى كثيرا من الناس ينكرون عليه ويكرون ، وما ألطف ما قاله فرق جنين العصابة الفاروقية والراقي في مراقي التنزلات الموصلية في قصيدته التي عقد اكسيرها في مدح الكبريت الأحمر فغدا شمسا في آفاق مدائح الشيخ الأكبر وهو قوله:

ينكر المرء منه أمرا فينها

ه نهاه فينكر الانكارا

تنثني عنه ثم تثني عليه

ألسن تشبه الصحاة سكارى

(يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) قيل هي إشارة إلى أنهم يحلون حقائق التوحيد الذاتي ومعاني التجليات العينية الأحدية (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً) إشارة إلى أنهم متصفون بصفات بهيجة حسنة نضرة موجبة للسرور (مِنْ سُنْدُسٍ) الأحوال والمواهب وعبر عنها بالسندس لكونها ألطف (وَإِسْتَبْرَقٍ) الأخلاق والمكاسب ، وعبر عنها بالاستبرق لكونها أكثف (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) قيل أي أرائك الأسماء الإلهية (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) إلخ فيه من تسلية الفقراء المتوكلين على الله تعالى وتنبيه الأغنياء المغرورين ما فيه ، وقال النيسابوري : الرجلان هما النفس الكافرة والقلب المؤمن (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما) وهو النفس (جَنَّتَيْنِ) هما الهوى والدنيا (مِنْ أَعْنابٍ) الشهوات (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) حب الرئاسة (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) من التمتعات البهيمية (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) من

٢٩١

القوى البشرية والحواس (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) من أنواع الشهوات (وَهُوَ يُحاوِرُهُ) أي يجاذب النفس (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً) أي ميلا (وَأَعَزُّ نَفَراً) من الأوصاف المذمومة (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) في الاستمتاع بجنة الدنيا على وفق الهوى (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها) قال ذلك غرورا بالله تعالى وكرمه (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) من العمر وحسن الاستعداد انتهى.

وقد التزم هذا النمط في أكثر الآيات ولا بدع فهو شأن كثير من المؤولين (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَخَيْرٌ ثَواباً) قال ابن عطاء : للطالبين له سبحانه لا للجنة (وَخَيْرٌ عُقْباً) للمريدين (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) قيل هي المحبة الدائمة والمعرفة الكاملة والأنس بالله تعالى والإخلاص في توحيده سبحانه والانفراد به جل وعلا عن غيره فهي باقية للمتصف بها وصالحة لا اعوجاج فيها وهي خير المنازل ، وقد تفسر بما يعمها وغيرها من الأعمال الخالصة والنيات الصادقة (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) قال ابن عطاء : دل سبحانه بهذا على إظهار جبروته وتمام قدرته وعظيم عزته ليتأهب العبد لذلك الموقف ويصلح سريرته وعلانيته لخطاب ذلك المشهد وجوابه (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) إخبار عن جميع بني آدم وإن كان المخاطب في قوله سبحانه (بَلْ زَعَمْتُمْ) إلخ بعضهم ، ذكر أنه يعرض كل صنف صفا ، وقيل الأنبياء عليهم‌السلام صف والأولياء صف وسائر المؤمنين صف والمنافقون والكافرون صف وهم آخر الصفوف فيقال لهم (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) على وصف الفطرة الأولية عاجزين منقطعين إليه سبحانه (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي الكتب فيوضع كتاب الطاعات للزهاد والعباد وكتاب الطاعات والمعاصي للعموم وكتاب المحبة والشوق والعشق للخصوص ، ولبعضهم :

وأودعت الفؤاد كتاب شوق

سينشر طيه يوم الحساب

(وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) قال أبو حفص : أشد آية في القرآن على قلبي هذه الآية (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) قيل أي ما أشهدتهم أسرار ذلك والدقائق المودعة فيه وإنما أشهد سبحانه ذلك أحباءه وأولياءه (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) لأنه مظهر الأسماء المختلفة والعالم الأصغر الذي انطوى فيه العالم الأكبر ، هذا والله تعالى أعلم بأسرار كتابه (وَإِذْ قالَ مُوسى) هو ابن عمران نبي بني إسرائيل عليه‌السلام على الصحيح ، فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي وجماعة من طريق سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إن نوفا (١) البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ثم ذكر حديثا طويلا فيه الإخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما هو نص في أنه موسى بني إسرائيل ، وإلى إنكار ذلك ذهب أيضا أهل الكتاب وتبعهم من تبعهم من المحدثين والمؤرخين وزعموا أن موسى هنا هو موسى بن ميشا بالمعجمة ابن يوسف بن يعقوب ، وقيل : موسى بن أفرائيم بن يوسف وهو موسى الأول ، قيل وإنما أنكره أهل الكتاب لإنكارهم تعلم النبي من غيره. وأجيب بالتزام أن التعلم من نبي ولا غضاضة في تعلم نبي من نبي. وتعقب بأنه ولو التزموا ذلك وسلموا نبوة الخضر عليه‌السلام لا يسلمون أنه موسى بن عمران لأنهم لا تسمح أنفسهم بالقول بتعلم نبيهم الأفضل

__________________

(١) هو ابن فضالة ابن امرأة كعب ، وقيل : ابن أخيه والمشهور الأول وهو من أصحاب أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه ، وبكال قيل بضم الباء حي من اليمن. وعن المبرد البكالي بكسر الباء نسبة إلى بكالة من اليمن ، وفي شرح مسلم للنووي البكالي ضبطه الجمهور بكسر الموحدة وتخفيف الكاف ورواه بعضهم بفتحها وتشديد الكاف قال القاضي : وهذا ضبط أكثر الشيوخ وأصحاب الحديث والصواب الأول وهو قول المحققين وهو منسوب إلى بني بكال بطن من حمير وقيل : من همدان اه منه.

٢٩٢

ممن ليس مثله في الفضل فإن الخضر عليه‌السلام على القول بنبوته بل القول برسالته لم يبلغ درجة موسى عليه‌السلام ، وقال بعض المحققين : ليس إنكارهم لمجرد ذلك بل لذلك ولقولهم إن موسى عليه‌السلام بعد الخروج من مصر حصل هو وقومه في التيه وتوفي فيه ولم يخرج قومه منه إلا بعد وفاته ؛ والقصة تقتضي خروجه عليه‌السلام من التيه لأنها لم تكن وهو في مصر بالإجماع ، وتقتضي أيضا الغيبة أياما ولو وقعت لعلمها كثير من بني إسرائيل الذين كانوا معه ولو علمت لنقلت لتضمنها أمرا غريبا تتوفر الدواعي على نقله فحيث لم يكن لم تكن. وأجيب بأن عدم سماح نفوسهم بالقول بعلم نبيهم عليه‌السلام ممن ليس مثله في الفضل أمر لا يساعده العقل وليس هو إلا كالحمية الجاهلية إذ لا يبعد عقلا تعلم الأفضل الأعلم شيئا ليس عنده ممن هو دونه في الفضل والعلم. ومن الأمثال المشهورة قد يوجد في الأسقاط ما لا يوجد في الأسفاط ، وقالوا : قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل ، وقال بعضهم : لا مانع من أن يكون قد أخفى الله سبحانه وتعالى علم المسائل التي تضمنتها القصة عن موسى عليه‌السلام على مزيد علمه وفضله لحكمة ولا يقدح ذلك في كونه أفضل وأعلم من الخضر عليه‌السلام وليس بشيء كما لا يخفى ، وبأنه سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا القول بأن القصة كانت بعد أن ظهر موسى عليه‌السلام على مصر مع بني إسرائيل واستقر بعد هلاك القبط فلا إجماع على أنها لم تكن بمصر ، نعم اليهود لا يقولون باستقرارهم في مصر بعد هلاك القبط وعليه كثير منا وحينئذ يقال : إن عدم خروج موسى عليه‌السلام من التيه غير مسلم ، وكذلك اقتضاء ذلك الغيبة أياما لجواز أن يكون على وجه خارق للعادة كالتيه الذي وقعوا فيه وكنتق الجبل عليهم وغير ذلك من الخوارق التي وقعت فيهم ، وقد يقال : يجوز أن يكون عليه‌السلام خرج وغاب أياما لكن لم يعلموا أنه عليه‌السلام ذهب لهذا الأمر وظنوا أنه ذهب يناجي ويتعبد ولم يوقفهم على حقيقة غيبته بعد أن رجع لعلمه بقصور فهمهم فخاف من حط قدره عندهم فهم القائلون (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] و (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٣٥] وأوصى فتاه بكتم ذلك عنهم أيضا ، ويجوز أن يكون غاب عليه‌السلام وعلموا حقيقة غيبته لكن لم يتناقلوها جيلا بعد جيل لتوهم أن فيها شيئا مما يحط من قدره الشريف عليه‌السلام فلا زالت نقلتها تقل حتى هلكوا في وقت بختنصر كما هلك أكثر حملة التوراة ، ويجوز أن يكون قد بقي منهم أقل قليل إلى زمن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتواصوا على كتمها وإنكارها ليوقعوا الشك في قلوب ضعفاء المسلمين ثم هلك ذلك القليل ولم تنقل عنه ، ولا يخفى أن باب الاحتمال واسع ؛ وبالجملة لا يبالى بإنكارهم بعد جواز الوقوع عقلا واخبار الله تعالى به ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الآية ظاهرة في ذلك ، ويقرب من هذا الإنكار إنكار النصارى تكلم عيسى عليه‌السلام في المهد وقد قدمنا أنه لا يلتفت إليه بعد إخبار الله تعالى به فعليك بكتاب الله تعالى ودع عنك الوساوس.

و (إِذْ) نصب على المفعولية باذكر محذوفا والمراد قل قال موسى (لِفَتاهُ) يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف عليه‌السلام فإنه كان يخدمه ويتعلم منه ولذا أضيف إليه ، والعرب تسمي الخادم فتى لأن الخدم أكثر ما يكونون في سن الفتوّة ، وكان فيما يقال ابن أخت موسى عليه‌السلام ، وقيل : هو أخو يوشع عليه‌السلام ، وأنكر اليهود أن يكون له أخ ، وقيل : لعبده فالإضافة للملك وأطلق على العبد فتى لما في الحديث الصحيح «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي» وهو من آداب الشريعة ، وليس إطلاق ذلك بمكروه خلافا لبعض بل خلاف الأولى ، وهذا القول مخالف للمشهور وحكم النووي بأنه قول باطل وفي حل تملك النفس في بني إسرائيل كلام ، ومثله في البطلان القول الثاني لمنافاة كل الأخبار الصحيحة (لا أَبْرَحُ) من برح الناقص كزال يزال أي لا أزال أسير فحذف الخبر اعتمادا على قرينة الحال إذ كان ذلك عند التوجه إلى السفر واتكالا على ما يعقبه من قوله (حَتَّى أَبْلُغَ) إذ الغاية لا بد لها من مغيا والمناسب لها هنا

٢٩٣

السير وفيما بعد أيضا ما يدل على ذلك ؛ وحذف الخبر فيها قليل كما ذكره الرضي ، ومنه قول الفرزدق :

فما برحوا حتى تهادت نساؤهم

ببطحاء ذي قار عياب اللطائم

وقال أبو حيان : نص أصحابنا على أن حذف خبر كان وأخواتها لا يجوز وإن دل الدليل على حذفه إلا ما جاء في الشعر من قوله :

لهفي عليك كلهفة من خائف

يبغي جوارك حين ليس مجير

أي حين ليس في الدنيا ، وجوز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون الأصل لا يبرح سيري حتى أبلغ فالخبر متعلق حتى مع مجرورها فحذف المضاف إليه (١) وهو سير فانقلب الضمير من البروز والجر إلى الرفع والاستتار وانقلب الفعل من الغيبة إلى التكلم ، قيل وكذا الفعل الواقع في الخبر وهو (أَبْلُغَ) كأن أصله يبلغ ليحصل الربط ؛ والإسناد مجازي وإلا يخل الخبر من الرابط إلا أن يقدر حتى أبلغ به أو يقال إن الضمير المستتر في كائن يكفي للربط أو أن وجود الربط بعد التغيير صورة يكفي فيه وإن كان المقدر في قوة المذكور ، وعندي لا لطف في هذا الوجه وإن استلطفه الزمخشري.

وجوز أيضا أن يكون (أَبْرَحُ) من برح التام كزال يزول فلا يحتاج إلى خبر ، نعم قيل لا بد من تقدير مفعول ليتم المعنى أي لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) وتعقبه في البحر بأنه يحتاج إلى صحة نقل.

والمجمع الملتقى وهو اسم مكان ، وقيل مصدر وليس بذاك ، والبحران بحر فارس والروم كما روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما ، وملتقاهما مما يلي المشرق ، ولعل المراد مكان يقرب فيه التقاؤهما وإلا فهما لا يلتقيان إلا في البحر المحيط وهما شعبتان منه.

وذكر أبو حيان أن مجمع البحرين على ما يقتضيه كلام ابن عطية مما يلي بر الشام ، وقالت فرقة منهم محمد ابن كعب القرظي : هو عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه من دبور إلى صبا ، وعن أبي أنه بإفريقية ، وقيل البحران الكر والرس بأرمينية وروي ذلك عن السدي ، وقيل بحر القلزم وبحر الأزرق ، وقيل هما بحر ملح وبحر عذب وملتقاهما في الجزيرة الخضراء في جهة المغرب ، وقيل هما مجاز عن موسى والخضر عليهما‌السلام لأنهما بحرا علم ، والمراد بملتقاهما مكان يتفق فيه اجتماعهما ، وهو تأويل صوفي والسياق ينبو عنه وكذا قوله تعالى (حَتَّى أَبْلُغَ) إذ الظاهر عليه أن يقال حتى يجتمع البحران مثلا.

وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار (مَجْمَعَ) بكسر الميم الثانية ، والنضر عن ابن مسلم (مَجْمَعَ) بالكسر لكلا الحرفين وهو شاذ على القراءتين لأن قياس اسم المكان والزمان من فعل يفعل بفتح العين فيهما الفتح كما في قراءة الجمهور (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) عطف على (أَبْلُغَ) وأو لأحد الشيئين ، والمعنى حتى يقع إما بلوغي المجمع أو مضي حقبا أي سيري زمانا طويلا.

وجوز أن تكون أو بمعنى إلا والفعل منصوب بعدها بأن مقدرة والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا زلت أسير في كل حال حتى أبلغ إلا أن أمضي زمانا أتيقن معه فوات المجمع ، ونقل أبو حيان جواز أن تكون بمعنى إلى وليس بشيء لأنه يقتضي جزمه ببلوغ المجمع بعد سيره حقبا وليس بمراد ، والحقب بضمتين ويقال بضم فسكون وبذلك قرأ

__________________

(١) قوله فحذف المضاف إليه كذا بخطه والأولى المضاف وهو سير إلخ اه.

٢٩٤

الضحاك اسم مفرد وجمعه كما في القاموس أحقب وأحقاب ، وفي الصحاح أن الحقب بالضم يجمع على حقاب مثل قف وقفاف ، وهو على ما روي عن ابن عباس وجماعة من اللغويين الدهر وروي عن ابن عمر وأبي هريرة أنه ثمانون سنة ، وعن الحسن أنه سبعون ، وقال الفراء : إنه سنة بلغة قريش وقال أبو حيان : الحقب السنون واحدها حقبة قال الشاعر :

فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها

فإنك مما أحدثت بالمجرب

اه وما ذكره من أن الحقب السنون ذكره غير واحد من اللغويين لكن قوله واحدها حقبة فيه نظر لأن ظاهر كلامهم أنه اسم مفرد وقد نص على ذلك الخفاجي ولأن الحقبة جمع حقب بكسر ففتح ، قال في القاموس : الحقبة بالكسر من الدهر مدة لا وقت لها والسنة وجمعه حقب كعنب وحقوب كحبوب ، واقتصر الراغب والجوهري على الأول ، وكان منشأ عزيمة موسى عليه‌السلام على ما ذكر ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن موسى عليه‌السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال : أنا فعتب الله تعالى عليه إذ لم يرد العلم إليه سبحانه فأوحى الله تعالى إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك» الحديث ، وفي رواية أخرى عنه عن أبي أيضا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال : اي رب إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني فدلني عليه فقال له : نعم في عبادي من هو أعلم منك ثم نعت له مكانه وأذن له في لقيه.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والخطيب وابن عساكر من طريق هارون عن أبيه عن ابن عباس قال : سأل موسى عليه‌السلام ربه سبحانه فقال : اي رب أي عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني قال : فأي عبادك أقضى؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى قال : فأي عبادك أعلم؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى قال : وكان حدث موسى نفسه أنه ليس أحد أعلم منه فلما أن قيل له الذي يبتغي علم الناس إلى علمه قال : يا رب فهل في الأرض أحد أعلم مني؟ قال : نعم قال : فأين هو؟ قيل له : عند الصخرة التي عندها العين فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر الله تعالى.

ثم إن هذه الأخبار لا دلالة فيها على وقوع القصة في مصر أو في غيرها ، نعم جاء في بعض الروايات التصريح بكونها في مصر ، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال : لما ظهر موسى عليه‌السلام وقومه على مصر أنزل قومه بمصر فلما استقرت بهم البلد أنزل الله تعالى أن ذكرهم بأيام الله تعالى فخطب قومه فذكر ما آتاهم الله تعالى من الخير والنعم وذكرهم إذ أنجاهم الله تعالى من آل فرعون وذكرهم هلاك عدوهم وما استخلفهم الله سبحانه في الأرض وقال كلم الله تعالى نبيكم تكليما واصطفاني لنفسه وأنزل علي محبة منه وآتاكم من كل شيء ما سألتموه فنبيكم أفضل أهل الأرض وأنتم تقرءون التوراة فلم يترك نعمة أنعمها الله تعالى عليهم إلا عرفهم إياها فقال له رجل من بني إسرائيل : فهل على الأرض أعلم منك يا نبي الله؟ قال : لا فبعث الله تعالى جبريل عليه‌السلام إلى موسى عليه‌السلام فقال : إن الله تعالى يقول وما يدريك أين أضع علمي بلى إن على ساحل البحر رجلا أعلم منك ثم كان ما قص الله سبحانه ، وأنكر ذلك ابن عطية فقال : ما يرى قط أن موسى عليه‌السلام أنزل قومه بمصر إلا في هذا الكلام وما أراه يصح بل المتظافر أن موسى عليه‌السلام توفي في أرض التيه قبل فتح ديار الجبارين اه وما ذكره من عدم إنزال موسى عليه‌السلام قومه بمصر هو الأقرب إلى القبول عندي وإن تعقب الخفاجي كلامه بعد نقله بقوله فيه نظر ، ثم إن

٢٩٥

الأخبار المذكورة ظاهرة في أن العبد الذي أرشد إليه موسى عليه‌السلام كان أعلم منه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك (فَلَمَّا بَلَغا) الفاء فصيحة أي فذهبا يمشيان إلى مجمع البحرين فلما بلغا (مَجْمَعَ بَيْنِهِما) أي البحرين ، والأصل في بين النصب على الظرفية.

وأخرج عن ذلك بجره (١) بالإضافة اتساعا والمراد مجمعهما ، وقيل : مجمعا في وسطهما فيكون كالتفصيل لمجمع البحرين ، وذكر أن هذا يناسب تفسير المجمع بطنجة أو إفريقية إذ يراد بالمجمع متشعب بحر فارس والروم من المحيط وهو هناك ، وقيل : بين اسم بمعنى الوصل ، وتعقب بأن فيه ركاكة إذ لا حسن في قولك مجمع وصلهما ، وقيل إن فيه مزيد تأكيد كقولهم جد جده ؛ وجوز أن يكون بمعنى الافتراق أي موضع اجتماع افتراق البحرين أي البحرين المفترقين ، والظاهر أن ضمير التثنية على الاحتمالين للبحرين.

وقال الخفاجي : يحتمل على احتمال أن يكون بمعنى الافتراق عوده لموسى والخضر عليهما‌السلام أي وصلا إلى موضع وعد اجتماع شملهما فيه ، وكذا إذا كان بمعنى الوصل انتهى ، وفيه ما لا يخفى ، و (مَجْمَعَ) على سائر الاحتمالات اسم مكان ، واحتمال المصدرية هنا مثله فيما تقدم (نَسِيا حُوتَهُما) الذي جعل فقدانه أمارة وجدان المطلوب ، فقد صح أن الله تعالى حين قال لموسى عليه‌السلام : إن لي بمجمع البحرين من هو أعلم قال موسى : يا رب فكيف لي به؟ قال : تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم فأخذ حوتا وجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه حتى إذا أتيا الصخرة وكانت عند مجمع البحرين وضعا رءوسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر ، والظاهر نسبة النسيان إليهما جميعا وإليه ذهب الجمهور ، والكلام على تقدير مضاف أي نسيا حال حوتهما إلا أن الحال الذي نسيه كل منهما مختلف فالحال الذي نسيه موسى عليه‌السلام كونه باقيا في المكتل أو مفقودا والحال الذي نسيه يوشع عليه‌السلام ما رأى من حياته ووقوعه في البحر ، وهذا قول بأن يوشع شاهد حياته وفيه خبر صحيح ، ففي حديث رواه الشيخان ، وغيرهما أن الله تعالى قال لموسى : خذ نونا ميتا فهو حيث ينفخ فيه الروح فأخذ ذلك فجعله في مكتل فقال لفتاه : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت قال : ما كلفت كثيرا فبينما هما في ظل صخرة إذا اضطرب الحوت حتى دخل البحر وموسى نائم فقال فتاه : لا أوقظه حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره.

وفي حديث رواه مسلم ، وغيره أن الله تعالى قال له : آية ذلك أن تزود حوتا (٢) مالحا فهو حيث تفقده ففعل حتى إذا انتهيا إلى الصخرة انطلق موسى يطلب ووضع فتاه الحوت على الصخرة فاضطرب ودخل البحر فقال فتاه : إذا جاء نبي الله تعالى حدثته فأنساه الشيطان ، وزعم بعض أن الناسي هو الفتى لا غير نسي أن يخبر موسى عليه‌السلام بأمر الحوت ، ووجه نسبة النسيان إليهما بأن الشيء قد ينسب إلى الجماعة وإن كان الذي فعله واحدا منهم ، وما ذكر هنا نظير نسي القوم زادهم إذا نسيه متعهد أمرهم ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي نسي أحدهما والمراد به الفتى وهو كما ترى ، وسبب حياة هذا الحوت على ما في بعض الروايات عن ابن عباس أنه كان عند الصخرة ماء الحياة من شرب منه خلد ولا يقاربه ميت إلا حيي فأصاف شيء منه الحوت فحيي ، وروي أن يوشع عليه‌السلام توضأ من ذلك الماء فانتضح شيء منه على الحوت فعاش ، وقيل : إنه لم يصبه سوى روح الماء وبرده فعاش بإذن الله تعالى وذكر هذا الماء وأنه ما

__________________

(١) والإضافة بيانية أو لامية.

(٢) في رواية مملحا وفي أخرى مليحا.

٢٩٦

أصاب منه شيء إلا حيي وأن الحوت أصاب منه جاء في صحيح البخاري فيما يتعلق بسورة الكهف أيضا لكن ليس فيه أنه من شرب منه خلد كما في بعض الروايات السابقة. ويشكل على هذا البعض أنه روي أن يوشع شرب منه أيضا مع أنه لم يخلد اللهم إلا أن يقال : إن هذا لا يصح والله تعالى أعلم ، ثم إن هذا الحوت كان على ما سمعت فيما مر مالحا وفي رواية مشويا ، وفي بعض أنه كان في جملة ما تزوداه وكانا يصيبان منه عند العشاء والغداء فأحياه الله تعالى وقد أكلا نصفه (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) مسلكا كالسرب وهو النفق فقد صح من حديث الشيخين والترمذي والنسائي وغيرهم أن الله تعالى أمسك عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق

، والمراد به البناء المقوس كالقنطرة.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن الحبر جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة ، وهذا وكذا ما سبق من الأمور الخارقة للعادة التي يظهرها سبحانه على من شاء من أنبيائه وأوليائه ، ونقل الدميري بقاء أثر الخارق الأول قال : قال أبو حامد الأندلسي رأيت سمكة بقرب مدينة سبتة من نسل الحوت الذي تزوده موسى وفتاه عليهما‌السلام وأكلا منه وهي سمكة طولها أكثر من ذراع وعرضها شبر واحد جنبيها شوك وعظام وجلد رقيق على أحشائها ولها عين واحدة ورأسها نصف رأس من رآها من هذا الجانب استقذرها وحسب أنها مأكولة ميتة ونصفها الآخر صحيح والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة انتهى.

وقال أبو شجاع في كتاب الطبري : أتيت به فرأيته فإذا هو شق حوت وليس له إلا عين واحدة ، وقال ابن عطية : وأنا رأيته أيضا وعلى شقه قشرة رقيقة ليس تحتها شوكة ، وفيه مخالفة لما في كلام أبي حامد ، وأنا سألت كثيرا من راكبي البحار ومتتبعي عجائب الآثار فلم يذكروا أنهم رأوا ذلك ولا أهدي إليهم في مملكة من الممالك فلعل أمره إن صح كل من الإثبات والنفي صار اليوم كالعنقاء كانت فعدمت والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

والفاء على ما يقتضيه كلامهم فصيحة أي فحيي وسقط في البحر فاتخذ ، وقدر بعضهم المعطوف عليه الذي تفصح عنه الفاء بالواو على خلاف المألوف ليدفع به الاعتراض على كون الحال الذي نسيه يوشع ما رأى من حياته ووقوعه في البحر بأن الفاء تؤذن بأن نسيانه عليه‌السلام كان قبل حياته ووقوعه في البحر واتخاذه سربا فلا يصح اعتبار ذلك في الحال المنسي ، وأجيب بأن المعتبر في الحال هو الحياة والوقوع في البحر أنفسهما من غير اعتبار أمر آخر والواقع بعدهما من حيث ترتب عليهما الاتخاذ المذكور فهما من حيث أنفسهما متقدمان على النسيان ومن حيث ترتب الاتخاذ متأخران وهما من هذه الحيثية معطوفان على نسيا بالفاء التعقيبية ، ولا يخفى أنه سيأتي في الجواب إن شاء الله تعالى ما يأبى هذا الجواب إلا أن يلتزم فيه خلاف المشهور بين الأصحاب فتدبر ، وانتصاب (سَرَباً) على أنه مفعول ثان لاتخذ و (فِي الْبَحْرِ) حال منه ولو تأخر كان صفة أو من السبيل ، ويجوز أن يتعلق باتخذ ، و (فِي) في جميع ذلك ظرفية.

وربما يتوهم من كلام ابن زيد حيث قال : إنما اتخذ سبيله في البر حتى وصل إلى البحر فعام على العادة أنها تعليلية مثلها في أن امرأة دخلت النار في هرة فكأنه قيل فاتخذ سبيله في البر سربا لأجل وصوله إلى البحر ، وواقفه في كون اتخاذ السرب في البر قوم ، وزعموا أنه صادف في طريقه في البر حجرا فنقبه ، ولا يخفى أن القول بذلك خلاف ما ورد في الصحيح مما سمعت والآية لا تكاد تساعده ، وجوز أن يكون مفعولا اتخذ (سَبِيلَهُ) و (فِي الْبَحْرِ) وسربا حال من السبيل وليس بذاك ، وقيل حال من فاعل اتخذ وهو بمعنى التصرف والجولان من قولهم فحل سارب أي مهمل يرعى حيث شاء ، ومنه قوله تعالى : (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) [الرعد : ١٠] وهو في تأويل الوصف أي اتخذ ذلك في البحر متصرفا ، ولا يخفى أنه نظير سابقه.

٢٩٧

(فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً)(٧٤)

(فَلَمَّا جاوَزا) أي ما فيه المقصد من مجمع البحرين ، صح أنهما انطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان الغد وارتفع النهار أحس موسى عليه‌السلام بالجوع فعند ذلك (قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) وهو الطعام الذي يؤكل ، أول النهار والمراد به الحوت على ما ينبئ عنه ظاهر الجواب وقيل سارا ليلتهما إلى الغد فقال ذلك.

(لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) أي تعبا وإعياء ، و (هذا) إشارة إلى سفرهم الذي هم ملتبسون به ولكن باعتبار بعض أجزائه ، فقد صح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم يجد موسى شيئا من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به» وذكر أنه يفهم من الفحوى ، والتخصيص بالذكر أنه لم ينصب في سائر أسفاره والحكمة في حصول الجوع والتعب له حين جاوز أن يطلب الغداء فيذكر الحوت فيرجع إلى حيث يجتمع بمراده ، وعن أبي بكر غالب بن عطية والد أبي عبد الحق المفسر قال : سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظه : مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوما لم يحتج إلى طعام ؛ ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم ، والجملة في محل التعليل للأمر بإيتاء الغداء إما باعتبار أن النصب إنما يعتري بسبب الضعف الناشئ عن الجوع ، وإما باعتبار ما في أثناء التغدي من استراحة ما ، وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير «نصبا» بضمتين ، قال صاحب اللوامح : وهي إحدى اللغات الأربع في هذه الكلمة (قالَ) أي فتاه ، والاستئناف بياني كأنه قيل فما صنع الفتى حين قال له موسى عليه‌السلام ما قال؟ فقيل قال (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) أي التجأنا إليها وأقمنا عندها ، وجاء في بعض الروايات الصحيحة أن موسى عليه‌السلام حين قال لفتاه : (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) قال : قد قطع الله عنك النصب ، وعلى هذا فيحتمل أنه بعد أن قال ذلك قال (أَرَأَيْتَ) إلخ ، قال شيخ الإسلام : وذكر الإواء إلى الصخرة مع أن المذكور فيما سبق بلوغ مجمع البحرين لزيادة تعيين محل الحادثة فإن المجمع محل متسع لا يمكن تحقيق المراد بنسبة الحادثة إليه ولتمهيد العذر فإن الإواء إليها والنوم عندها مما يؤدي إلى النسيان عادة انتهى.

وهذا الأخير إنما يتم على بعض الروايات من أنهما ناما عند الصخرة ، وذكر أن هذه الصخرة قريبة من نهر الزيت وهو نهر معين عنده كثير من شجر الزيتون ، و (أَرَأَيْتَ) قيل بمعنى أخبرني ؛ وتعقبه أبو حيان بأنها إذا كانت كذلك فلا

٢٩٨

بد لها من أمرين كون الاسم المستخبر عنه معها ولزوم الجملة التي بعدها الاستفهام وهما مفقودان هنا ، ونقل هو وناظر الجيش في شرح التسهيل عن أبي الحسن الأخفش أنه يرى أن أرأيت إذا لم ير بعدها منصوب ولا استفهام بل جملة مصدرة بالفاء كما هنا مخرجة عن بابها ومضمنة معنى أما أو تنبه فالفاء جوابها لا جواب إذ لأنها لا تجازى إلا مقرونة بما بلا خلاف فالمعنى أما أو تنبه إذ أوينا إلى الصخرة (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) وقال شيخ الإسلام : الرؤية مستعارة للمعرفة التامة والمشاهدة الكاملة ، ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه‌السلام مما اعتراه هناك من النسيان مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى ، وقد جعل فقدانه علامة لوجدان المطلوب وهذا أسلوب معتاد بين الناس يقول أحدهم لصاحبه إذا نابه خطب : أرأيت ما نابني يريد بذلك تهويله وتعجيب صاحبه منه وأنه مما لا يعهد وقوعه ولا استخباره عن ذلك كما قيل ، والمفعول محذوف اعتمادا على ما يدل عليه من قوله (فَإِنِّي) إلخ وفيه تأكيد للتعجيب وتربية لاستعظام المنسي اه. وفيه من القصور ما فيه. والزمخشري جعله استخبارا فقال : إن يوشع عليه‌السلام لما طلب منه موسى عليه‌السلام الغداء ذكر ما رأى من الحوت وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية فدهش فطفق يسأل عن سبب ذلك كأنه قال : أرأيت ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت فحذف ذلك اه ، وفيه إشارة إلى أن مفعول (أَرَأَيْتَ) محذوف وهو إما الجملة الاستفهامية إن كانت ما في ما دهاني للاستفهام وإما نفس ما إن كانت موصولة ، وإلى أن إذ ظرف متعلق بدهاني وهو سبب لما بعد الفاء في (فَإِنِّي) وهي سببية ، ونظير ذلك قوله تعالى : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) [الأحقاف : ١١] فإن التقدير وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم فسيقولون إلخ وهو قول بأن أرأيت بمعنى أخبرني وقد سمعت ما قيل عليه ، وفي تقديره أيضا على الاحتمال الثاني ما في حذف الموصول مع جزء الصلة بناء على أن (فَإِنِّي نَسِيتُ) من تتمتها ، وعلى العلات ليس المراد من الاستخبار حقيقته بل تهويل الأمر أيضا. ثم لا يخفى إن رأى إن كانت بصرية أو بمعنى عرف احتاجت إلى مفعول واحد والتقدير عند بعض المحققين أأبصرت أو أعرفت حالي إذ أوينا وفيه تقليل للحذف ولا يخفى حسنه ، وإن كانت علمية احتاجت إلى مفعولين وعلى هذا قال أبو حيان : يمكن أن تكون مما حذف منه المفعولان اختصارا والتقدير أرأيت أمرنا إذ أوينا ما عاقبته ، وإيقاع النسيان على اسم الحوت دون ضمير الغداء مع أنه المأمور بإيتائه قيل للتنبيه من أول الأمر على أنه ليس من قبيل نسيان زاده في المنزل وأن ما شاهده ليس من قبيل الأحوال المتعلقة بالغداء من حيث هو غداء وطعام بل من حيث هو حوت كسائر الحيتان مع زيادة ؛ وقيل للتصريح بما في فقده إدخال السرور على موسى عليه‌السلام مع حصول الجواب فقد تقدم رواية أنه قال له : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت ، ثم الظاهر أن النسيان على حقيقته وهو ليس متعلقا بذات الحوت بل بذكره.

وجوز أن يكون مجازا عن الفقد فيكون متعلقا بنفس الحوت ، والأكثرون على الأول أي نسيت أن أذكر لك أمر الحوت وما شاهدت من عجيب أمره (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) لعله شغله بوساوس في الأهل ومفارقة الوطن فكان ذلك سببا للنسيان بتقدير العزيز العليم وإلا فتلك الحال مما لا تنسى. وقال بعضهم : إن يوشع كان قد شاهد من موسى عليه‌السلام المعجزات القاهرات كثيرا فلم يبق لهذه المعجزة وقع عظيم لا يؤثر معه الوسوسة فنسي. وقال الإمام : إن موسى عليه‌السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله تعالى عن قلب صاحبه هذا العلم الضروري تنبيها لموسى عليه‌السلام على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله تعالى وحفظه على القلب والخاطر ، وأنت تعلم أنه لو جعل الله تعالى المشاهد الناسي هو موسى عليه‌السلام كان أتم في التنبيه ، وقد يقال : إنه أنسي تأديبا له بناء على ما تقدم من أن موسى عليه‌السلام لما قال له : لا أكلفك إلخ قال له ما كلفت كثيرا حيث استسهل الأمر ولم يظهر الالتجاء فيه إلى الله

٢٩٩

تعالى بأن يقول : أخبرك إن شاء الله تعالى ، وفيه أيضا عتاب لموسى عليه‌السلام حيث اعتمد عليه في العلم بذهاب الحوت فلم يحصل له حتى نصب ، ثم إن هذه الوسوسة لا تضر بمقام يوشع عليه‌السلام وإن قلنا إنه كان نبيا وقت وقوع هذه القصة.

وقال بعض المحققين : لعله نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار وانجذاب شراشره إلى جناب القدس بما اعتراه من مشاهدة الآيات الباهرة ، وإنما نسبه إلى الشيطان مع أن فاعله الحقيقي هو الله تعالى والمجازي هو الاستغراق المذكور هضما لنفسه بجعل ذلك الاستغراق والانجذاب لشغله عن التيقظ للموعد الذي ضربه الله تعالى بمنزلة الوساوس ففيه تجوز باستعارة الشيطان لمطلق الشاغل ، وفي الحديث «إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله تعالى في اليوم سبعين مرة» أو لأن عدم احتمال القوة للجانبين واشتغالها بأحدهما عن الآخر يعد من نقصان صاحبها وتركه المجاهدات والتصفية فيكون قد تجوز بذلك عن النقصان لكونه سببه ، وضم حفص الهاء في «أنسانيه» وهو قليل في مثل هذا التركيب قلة النسيان في مثل هذه الواقعة ، والجمهور على الكسر وأمال الكسائي فتحة السين.

وقوله تعالى : (أَنْ أَذْكُرَهُ) بدل اشتمال من الهاء أي ما أنساني ذكره لك إلا الشيطان ، قيل وفي تعليق الفعل بضمير الحوت أولا وبذكره له ثانيا على طريق الإبدال المنبئ عن تنحيته المبدل منه إشارة إلى أن متعلق النسيان ليس نفس الحوت بل ذكر أمره.

وفي مصحف عبد الله وقراءته «أن أذكركه» ، وفي إيثار أن والفعل على المصدر نوع مبالغة لا تخفى.

(وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) الظاهر الذي عليه أكثر المفسرين أن مجموعه كلام يوشع وهو تتمة لقوله (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) وفيه إنباء عن طرف آخر من أمره وما بينهما اعتراض قدم عليه للاعتناء بالاعتذار كأنه قيل حيي واضطرب ووقع في البحر واتخذ سبيله فيه سبيلا عجبا ، فسبيله مفعول أول لاتخذ و (فِي الْبَحْرِ) حال منه و (عَجَباً) مفعول ثان ، وفي ذكر السبيل ثم إضافته إلى ضمير الحوت ثم جعل الظرف حالا من المضاف تنبيه إجمالي على أن المفعول الثاني من جنس الأمور الغريبة ، وفيه تشويق للمفعول الثاني وتكرير مفيد للتأكيد المناسب للمقام ، فهذا التركيب في إفادة المراد أو في لحق البلاغة من أن يقال واتخذ في البحر سبيلا عجبا ، وجوز أن يكون (فِي الْبَحْرِ) حالا من (عَجَباً) وأن يكون متعلقا باتخذ ، وأن يكون المفعول الثاني له و (عَجَباً) صفة مصدر محذوف أي اتخاذا عجبا وهو كون مسلكه كالطاق والسرب ، وجوز أيضا على احتمال كون الظرف مفعولا ثانيا أن ينصب (عَجَباً) بفعل منه مضمر أي أعجب عجبا ، وهو من كلام يوشع عليه‌السلام أيضا تعجب من أمر الحوت بعد أن أخبر عنه ، وقيل إن كلام يوشع عليه‌السلام قد تم عند (الْبَحْرِ) وقول أعجب عجبا كلام موسى عليه‌السلام كأنه قيل : وقال موسى : أعجب عجبا من تلك الحال التي أخبرت بها ، وأنت تعلم أنه لو كان كذلك لجيء ، بالجملة الآتية بالواو العاطفة على هذا المقدر ، وقيل : يحتمل أن يكون المجموع من كلامه عزوجل وحينئذ يحتمل وجهين ، أحدهما أن يكون إخبارا منه تعالى عن الحوت بأنه اتخذ سبيله في البحر عجبا للناس ، وثانيهما أن يكون إخبارا منه سبحانه عن موسى عليه‌السلام بأنه اتخذ سبيل الحوت في البحر عجبا يتعجب منه ، و (عَجَباً) على هذا مفعول ثان ولا ركاكة في تأخير (قالَ) الآتي عنه على هذا لأن استئناف لبيان ما صدر منه عليه‌السلام بعد ، ويؤيد كونه من كلام يوشع عليه‌السلام قراءة أبي حيوة «واتخاذ» بالنصب على أنه معطوف على المنصوب في (أَذْكُرَهُ قالَ) أي موسى عليه‌السلام (ذلِكَ) الذي ذكرت من أمر الحوت (ما كُنَّا نَبْغِ) أي الذي كنا نطلبه من حيث إنه أمارة للفوز بما هو المطلوب بالذات ، وقرئ «نبغ» بغير ياء في الوصل وإثباتها أحسن وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ونافع ، وأما الوقف

٣٠٠