روح المعاني - ج ٨

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٨

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٨

تفعل فافعل لم تأمره بفعلهما بل بفعل أحدهما وأما الدلالة على جواز الجمع فمن خارج النظم ودلالة العقل لأنهم إذا لم يتنافيا جاز الجمع بينهما ، ومن هنا تعلم أنه لا حاجة إلى حمل التخيير في كلام من عبر به على غير الاصطلاح المشهور الذي هو اصطلاح النحاة فيه إذا قوبل بالإباحة بأن يقال : مراده به التسوية بين الاسمين في الدلالة على ذات واحدة وسواء فيه الإفراد والجمع ، قال في التلويح : وفي التخيير قد يجوز الجمع بحكم الإباحة الأصلية وهذا يسمى التخيير على سبيل الإباحة اه. والظاهر أن الحق مع مانع الأجوبية والقائل بالإباحة فتدبر ، والدعاء على ما اختاره أبو حيان وجماعة بمعنى النداء ، وقال الزمخشري : هو بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهو يتعدى إلى مفعولين تقول دعوته زيدا ثم يترك أحدهما استغناء عنه فتقول دعوت زيدا ، والأصل على ما قيل أن يتعدى إلى الثاني بالباء لكنه يتسع فيحذف الباء والمفعول الآخر هنا محذوف أي سموه بهذا الاسم أو بهذا الاسم وكذا يقال في الدعاء الثاني ، وعلل ذلك بأنه لو حمل على الحقيقة المشهورة يلزم إما الاشتراك إن تغاير مدلولا الاسمين أو عطف الشيء على نفسه بأو وهو إنما يجوز بالواو إن اتحدا ، وبحث فيه بأنا نختار الثاني ولا يلزم ما ذكر لأنه قصد اللفظ كما تقول نادي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمحمد أو بأحمد مع أن اختلاف مفهوميهما يكفي لصحته ، وما روي في سبب النزول أو لا ينادي على ما قيل على إرادة النداء ، وقيل إن كانت الآية ردا على المشركين فهو بمعنى التسمية وإن كانت ردا على اليهود فهو بمعنى النداء وجعل الطيبي لذلك تفسير الزمخشري إياه بالتسمية مؤذنا بميله إلى أنها رد على المشركين وفي ذلك تأمل ، و (أَيًّا) اسم شرط جازم منصوب بتدعوا وجازم له فهو عامل ومعمول من جهتين والتنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف والتقدير أي هذين الاسمين وما حرف مزيد للتأكيد ، وقيل إنها اسم شرط مؤكد به. وقرأ طلحة بن مصرف من بدل ما وخرج على زيادتها على مذهب الكسائي أو جعلها أداة شرط والجمع بين أداتي الشرط كالجمع بين حرفي الجر في قوله : فاصبحن لا يسألنني عن بما به شاذ ، وجملة (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) واقعة موقع جواب الشرط وهي في الحقيقة تعليل له ، وكأن أصل الكلام أيّا ما تدعوه به فهو حسن لأن له سبحانه الأسماء الحسنى اللاتي منها هذان ، وفي العدول عن حق الجواب إقامة الشيء بدليله وفيه مبالغة لا تخفى ، وهذا التقدير ظاهر على القول الثاني في سبب النزول ويقدر على القول الأول فيه فمدلوله واحد ونحوه ، ولا حاجة إلى ذلك بل يقدر على القولين فهو حسن على ما سمعت عن صاحب الكشف.

وقال الطيبي وقد حمل أو على الإباحة وجعل الخطاب للمشركين : التقدير قل سموا ذاته المقدسة بالله وبالرحمن فهما سيان في استصواب التسمية بهما فبأيهما سميته فأنت مصيب وإن سميته بهما جميعا فأنت أصوب لأن له الأسماء الحسنى وقد أمرنا سبحانه بأن ندعوه بها في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) فجواب الشرط الأول قولنا فأنت مصيب ودل على الشرط الثاني وجوابه قوله تعالى : (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) والآية على هذا فن من فنون الإيجاز الذي هو من حلية التنزيل ، وعلى تقدير فهو حسن حسبما سمعت أولا من باب الإطناب اه وهو كما ترى.

ونقل في البحر أن منهم من وقف على (أَيًّا) على معنى أي اللفظين تدعوه به جاز ثم استأنف فقال ما تدعو فله الأسماء الحسنى. وتعقبه بأن هذا لا يصح لأن (ما) لا يطلق على آحاد ذوي العلم ولأن الشرط يقتضي عموما وهو لا يصح هنا ، وضمير (فَلَهُ) عائد على المسمى أو المنادى المفهوم من الكلام والقرينة عقلية وهي أن الأسماء تكون للمسمى وللمنادى لا للاسم واللفظ المنادى به ، وسيأتي إن شاء الله تعالى عن محيي الدين قدس‌سره غير ذلك في باب الإشارة ، ووصف الأسماء بالحسنى لدلالتها على ما هو جامع لجميع صفات الكمال بحيث لا يشذ منها شيء وما

١٨١

هو من صفات الجلال والجمال والإكرام ، هذا واعلم أن الظاهر مما روي عن اليهود أنهم لا ينكرون حسن سائر أسمائه تعالى وإنما يزعمون أن الرحمن منها أحب أسمائه تعالى إليه وأعظمها وأشرفها لكثرة ذكره تعالى إياه في التوراة واختلاف أسمائه عزت أسماؤه في الشرف والعظم مما ذهب إليه المسلمون أيضا.

ويدل عليه تخصيصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض الأسماء بأنه الاسم الأعظم فقد روي «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع رجلا يدعو وهو يقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال عليه الصلاة والسلام : والذي نفسي بيده لقد سأل الله تعالى باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال : اسم الله تعالى في هاتين الآيتين (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ١٦٣] وفاتحة آل عمران (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ونص حجة الإسلام الغزالي في أوائل كتابه المقصد الأسنى على أن الله أعظم الأسماء التسعة والتسعين لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها وسائر الأسماء لا يدل آحادها إلا على آحاد المعاني من علم أو قدرة أو فعل أو غيره ولأنه أخص الأسماء إذ لا يطلقه أحد على غيره تعالى لا حقيقة ولا مجازا وسائر الأسماء قد يسمى به غيره عزوجل كالقادر والعليم والرحيم وغيرها ، واسمه تعالى الرحمن لا يسمى به غيره تعالى أيضا وهو من هذا الوجه قريب من اسم الله سبحانه وإن كان مشتقا من الرحمة قطعا ولذا جمع عزوجل بينهما في قوله سبحانه (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) اه.

وقال في أواخره : فإن قيل ما بال تسعة وتسعين من أسمائه تعالى اختصت بأن من أحصاها دخل الجنة مع أن الكل أسماء الله تعالى فنقول : الأسامي يجوز أن تتفاوت فضيلتها لتفاوت معانيها في الجلالة والشرف فتكون تسعة وتسعون منها تجمع أنواعا من المعاني المنبئة عن الجلال لا يجمع ذلك غيرها مختص بزيادة شرف انتهى ، وقال الإمام الرازي في هذه الآية : تخصيص هذين الاسمين يعني الله والرحمن بالذكر يدل على أنهما أشرف من سائر الأسماء ، وتقديم اسم الله على اسم الرحمن يدل على قولنا : الله أعظم الأسماء إلى غير ذلك مما ذكره غير واحد من الأجلة ، والآية إنما تصلح بحسب الظاهر ردا لما فهمه اليهود إذا كان المراد منها نفي التفاوت الذي زعموه وحينئذ يقع التعارض بينها وبين ما يدل على التفاوت من الأخبار ، وقد يجعل هذا وجها لاختيار كون سبب النزول قول المشركين ولعل أثره أصح ، وما نقلناه فيما سبق عن العلامة الطيبي مؤيد لما قلناه ، واحتج الجبائي بالآية على أنه تعالى ليس خالق الظلم وإلا لصح اشتقاق اسم له سبحانه منه وحينئذ يبطل ما دلت عليه الآية من كون أسمائه تعالى بأسرها حسنى. وأجيب بمنع الملازمة لأن الظلم ليس صفته عزوجل وكونه خالقا له لا يصح الاشتقاق منه وإلا لصح الاشتقاق من الطول والقصر والسواد والبياض لأنه تعالى خالق لذلك بالاتفاق ، نعم لا ينبغي أن يقال لله تبارك وتعالى خالق القبيح للزوم الأدب معه سبحانه ويقال خالق كل شيء. وما هو من أسمائه جلت أسماؤه الخالق لا خالق كذا فافهم سلك الله تعالى بنا وبك الطريق الأقوم.

وهذه الآية على ما قيل من آيات الحفظ بناء على ما أخرج البيهقي في الدلائل من طريق نهشل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) إلى آخر الآية هو أمان من السرق وأن رجلا من المهاجرين تلاها حين أخذ مضجعه فدخل عليه سارق فجمع ما في البيت وحمله والرجل ليس بنائم حتى انتهى إلى الباب فوجده مردودا فوضع الكارة وفعل ذلك ثلاث مرات فضحك صاحب الدار ثم قال : إني أحصنت بيتي (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم عن ابن عباس قال : نزلت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مختف بمكة فكان إذا صلى

١٨٢

بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن (وَلا تُخافِتْ بِها) عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك وابتغ بين ذلك سبيلا يقول بين الجهر والمخافتة ، وظاهره أن المراد بالصلاة القراءة التي هي أحد أجزائها مجازا ، ويجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي بقراءة صلاتك ، والظاهر أن المراد بالقراءة ما يعم البسملة وغيرها وبعض الأخبار يفيد ظاهره تخصيصها بالبسملة ، فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرفع صوته ببسم الله الرحمن الرحيم وكان مسيلمة قد تسمى بالرحمن فكان المشركون إذا سمعوا ذلك من النبي عليه الصلاة والسلام قالوا : قد ذكر مسيلمة إله اليمامة ثم عارضوه بالمكاء والتصدية والصفير فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ولا يخفى على هذه الرواية أشدية مناسبة الآية لما قبلها. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال : كان أبو بكر إذا صلى من الليل خفض صوته جدا وكان عمر إذا صلى من الليل رفع صوته جدا فقال عمر : يا أبا بكر لو رفعت من صوتك شيئا ؛ وقال أبو بكر : يا عمر لو خفضت من صوتك شيئا فأتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاخبراه بأمرهما فأنزل الله تعالى الآية فأرسل عليه الصلاة والسلام إليهما فقال : يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئا وقال لعمر اخفض من صوتك شيئا ، وفي رواية أنه قيل لأبي بكر : لم تصنع هذا؟ فقال : أناجي ربي وقد عرف حاجتي ، وقيل لعمر : لم تصنع هذا؟ قال : أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، وأمر التجوز أو حذف المضاف على هذا مثله على الأول وكذا على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المعنى لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلا بالجهر في بعض كالمغرب والعشاء والمخافتة في بعض كما فيما عدا ذلك.

وقيل الصلاة بمعنى الدعاء لما أخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت : إنما نزلت هذه الآية (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) في الدعاء ، وأخرج نحوه ابن أبي شيبة عن مجاهد ، وروي ذلك عن ابن عباس أيضا ابن جرير وابن المنذر وجماعة وكانوا يجهرون باللهم ارحمني ، وأخرجوا عن عبد الله بن شداد أن أعرابا من بني تميم كانوا إذا سلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : أي جهرا اللهم ارزقنا إبلا وولدا فنزلت ، وفي رواية أخرى عن عائشة أن الصلاة هنا التشهد وكان الأعراب كما نقل عن ابن سيرين يجهرون بتشهدهم فنزلت ، وقيل الصلاة على حقيقتها الشرعية فقد أخرج ابن عساكر عن الحسن أنه قال : المعنى لا تصل الصلاة رياء ولا تدعها حياء ، وروى نحوه ابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس أيضا ، والأكثرون على التفسير المروي عنه أولا ، والمخافتة إسرار الكلام بحيث لا يسمعه المتكلم ، ومن هنا قال ابن مسعود كما أخرجه عنه ابن أبي شيبة وابن جرير : لم يخافت من اسمع أذنيه ، وخفت وهو من باب ضرب وخافت بمعنى يقال خفت يخفت خفتا وخفوتا وخافت مخافتة إذا أسر وأخفى ، والتعبير عن الأمر الوسط بالسبيل باعتبار أنه أمر يتوجه إليه المتوجهون ويؤمه المقتدون ويوصلهم إلى المطلوب ، وقد جاء عن عبد الله بن الشخير وأبي قلابة خير الأمور أوساطها ، والآية على ما يقتضيه كلام الأكثرين محكمة ، وقيل منسوخة بناء على ما أخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم عن ابن عباس من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بمكة بالتوسط بأن لا يجهر جهرا شديدا ولا يخفض حتى لا يسمع أذنيه فلما هاجر إلى المدينة سقط ذلك ، وقيل هي منسوخة بقوله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف : ٥٥] وهو كما ترى ، ولا يخفى عليك حكم رفع الصوت بالقراءة فوق الحاجة وحكم المخافتة بالمعنى الذي سمعته المسطوران في كتب الفقه فراجعها إن لم يكن ذلك على ذبر منك ، وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن أبي رزين قال قرأ عبد الله «ولا تخافت بصوتك ولا تعال به» (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) رد على اليهود والنصارى وبني مليح حيث قالوا : عزيز ابن الله والمسيح ابن الله تعالى والملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، ونفي

١٨٣

اتخاذ الولد ظاهر في نفي التبني ويعلم منه نفي أن يكون له سبحانه ولد الصلب من باب أولي ، وقد نفي ذلك صريحا في قوله تعالى (لَمْ يَلِدْ) [الإخلاص : ٣] (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) ظاهره أنه رد على الثنوية وهم المشركون في الربوبية ، ويجوز أن يكون كناية عن نفي الشركة في الألوهية فيكون ردا على الوثنية (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) أي ناصر ومانع له سبحانه من الذل لاعتزازه تعالى بنفسه فمن صلة لولي وضمن معنى المنع والنصر أو لم يوال تعالى أحدا من أجل مذلة فالولاية بمعنى المحبة على أصلها ومن تعليلية ، وليس المعنى على الوجهين نفي الذل والنصر في الأول والموالاة والذل في الثاني على أسلوب ـ لا يهتدي بمناره ـ بل المراد أنه تعالى إذا اتخذ عبدا له وليا فذلك محض الاصطناع في شأن العبد لا أن هناك حاجة ، وكذلك نصر الله تعالى كمال للناصر لا أن ثمة حاجة ألا ترى إلى قوله سبحانه : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] وإلى هذا ذهب صاحب الكشف وهو حسن ، وجعل ذلك على الوجهين الفاضل الطيبي من ذاك الأسلوب ، وفي الحواشي الشهابية في بيان ثاني الوجهين أن المراد نفي أن يكون له تعالى مولى يلتجئ هو سبحانه إليه ، وأما الولي الذي يوصف به المؤمن فليس الولاية فيه بهذا المعنى بل بمعنى من يتولى أمره لمحبته له تفضلا منه عزوجل ورحمة فغاير بين الولايتين ، ولعل الحق مع صاحب الكشف ، ومن عجيب ما قيل إن (مِنَ الذُّلِ) في موضع الصفة لولي ومن فيه للتبعيض وأن الكلام على حذف مضاف أي لم يكن له ولي من أهل الذل والمراد بهم اليهود والنصارى ، ولعمري إنه لا ينبغي أن يلتفت إليه.

وربما يتوهم أن المقام مقام التنزيه لا مقام الحمد لأنه يكون على الفعل الاختياري وبه وما ذكر من الصفات العدمية ويدفع بأنه لاق وصفه تعالى بما ذكر بكلمة التحميد لأنه يدل على نفي الإمكان المقتضي للاحتياج وإثبات أنه تعالى الواجب الوجود لذاته الغني عما سواه المحتاج إليه ما عداه فهو الجواد المعطي لكل قابل ما يستحق فهو تعالى المستحق للحمد دون غيره عزوجل ، وهذا الذي عناه الزمخشري وقال في الكشف : لك أن تتخذ نفي هذه الصفات وهي ذرائع منع المعروف أما الولد فلأنه مبخلة ، وأما الشريك فلأنه مانع من التصرف كيف يشاء ، وأما الاحتياج إلى من يعتز به أو يذب عنه فاظهر رديفا لإثبات أضدادها على سبيل الكناية وهو وجه حسن ؛ ولو حمل الكلام على ظاهره أيضا لكان له وجه وذلك لأن قول القائل الحمد لله فيه ما ينبئ أن الإلهية تقتضي الحمد فإذا قلت الحمد لله المنزه عن النقائص مثلا يكون قد قويت معنى الإلهية المفهومة من اللفظ فيكون وصفا لائقا مؤيدا لاستحقاقه تعالى الحمد من غير نظر إلى مدخلية الوصف في الحمد بالاستقلال وهذا بين مكشوف إلا أن الزمخشري حاول أن ينبه على مكان الفائدة الزائدة اه.

وتعقب بأن ما ذكره من أن في الحمد لله ما ينبئ أن الإلهية تقتضي الحمد لا يتم على مذهب مانعي الاشتقاق في الاسم الكريم وفيه تأمل. والآية على ما قال العلامة الطيبي من التقسيم الحاصر لأن المانع من إيتاء النعم إما فوقه سبحانه وتعالى أو دونه أو مثله عزوجل فبنى الكلام على الترقي وبدئ من الأدون وختم بالأعلى فنفى الكل فمنه ولد الكثرة وله القل والدق والجل تعالى كبرياؤه وعظمت نعماؤه ، ولدلالة ما تقدم على أنه تعالى هو الكامل وما عداه ناقص استحق التكبير ولذا عطف عليه قوله سبحانه (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) والتكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال ، وفي الأمر بذلك بعد ما تقدم مؤكدا بالمصدر المنكر من غير تعيين لما يعظم به تعالى إشارة إلى أنه مما لا تسعه العبارة ولا تفي به القوة البشرية وإن بالغ العبد في التنزيه والتمجيد واجتهد في العبادة والتحميد فلم يبق إلا الوقوف بإقدام المذلة في حضيض القصور والاعتراف بالعجز عن القيام بحقه جل وعلا وإن طالت القصور ، وروى غير واحد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلم الغلام من بني عبد المطلب إذا أفصح الحمد لله إلى آخر الآية سبع مرات وسماها عليه الصلاة والسلام

١٨٤

كما أخرج أحمد والطبراني عن معاذ آية العز ، وأخرج أبو يعلى وابن السني عن أبي هريرة قال : خرجت أنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدي في يده فأتى على رجل رث الهيئة فقال : أي فلان ما بلغ بك ما أرى قال : السقم والضر قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر توكلت على الحي الذي لا يموت الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الآية فأتى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد حسنت حالته فقال : مهيم. فقال : لم أزل أقول الكلمات التي علمتني.

وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج والبيهقي في الأسماء والصفات عن إسماعيل بن أبي فديك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما كربني أمر إلا مثل لي جبريل عليه‌السلام فقال : يا محمد قل : توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا» إلى آخر الآية ، وأخرج ابن السني والديلمي عن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها إذا أخذت مضجعك فقولي : «الحمد لله الكافي سبحان الله الأعلى حسبي الله وكفى ما شاء الله قضى سمع الله لمن دعا ليس من الله ملجأ ولا وراء الله ملتجى توكلت على ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ، الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ـ إلى وكبره تكبيرا ثم قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما من مسلم يقرؤها عند منامه ثم ينام وسط الشياطين والهوام فتضره» هذا وما ألطف المناسبة بين ابتداء هذه السورة ، وهذا الختام وليس ذلك بدعا في كلام اللطيف العلام «ومن باب الإشارة في الآيات» وإن كادوا ليفتنونك إلى آخره تنبيه لحبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوقوع فيما يخل بحفظ شرائط المحبة وفيه إشارة إلى إيصاله إلى مقام التمكين (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) الآية ، ذكر أن الصلاة على خمسة أقسام صلاة المواصلة والمناغاة في مقام الخفي وصلاة المشاهدة في مقام الروح وصلاة المناجاة في مقام السر وصلاة الحضور في مقام القلب وصلاة المطاوعة والانقياد في مقام النفس ، فدلوك الشمس إشارة إلى زوال شمس الوحدة عن الاستواء على وجود العبد بالفناء المحض فإنه لا صلاة في حال الاستواء إذ لا وجود للعبد حينئذ ولا شعور له بنفسه ، وإنما تجب بالزوال وحدوث ظل وجود العبد سواء عند الاحتجاب بالخلق وهو حالة الفرق قبل الجمع أو عند البقاء وهو حالة الفرق بعد الجمع ، وغسق الليل إشارة إلى غسق ليل النفس وقرآن الفجر إشارة إلى قرآن فجر القلب ، وأدل الصلوات وألطفها صلاة المواصلة وأفضلها صلاة الشهود المشار إليها بصلاة العصر وأخفها صلاة السر المشار إليها بصلاة المغرب وأشدها تثبيتا للنفس صلاة النفس المشار إليها بصلاة العشاء وأزجرها للشيطان صلاة الحضور المشار إليها بالفجر (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) أي تشهده ملائكة الليل والنهار ؛ وهذا إشارة إلى نزول صفات القلب وأنوارها وذهاب صفات النفس وزوالها ، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) أي زيادة على الفرائض الخمس خاصة بك قيل لكونه علامة مقام النفس فيجب تخصيصه بزيادة الطاعة لزيادة احتياج هذا المقام إلى الصلاة بالنسبة إلى سائر المقامات ، وقيل إنما خص صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتهجد لأن الليل وقت خلوة المحب بالحبيب وهو عليه الصلاة والسلام الحبيب الأعظم ، والخليل المكرم (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) وهو مقام إلحاق الناقص بالكامل والكامل بالأكمل (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي) حضرة الوحدة في عين الجمع (مُدْخَلَ صِدْقٍ) إدخالا مرضيا بلا آفة زيغ البصر إلى الالتفات إلى الغير أصلا ؛ (وَأَخْرِجْنِي) إلى فضاء الكثرة عند الرجوع إلى التفصيل بالوجود الموهوب الحقاني (مُخْرَجَ صِدْقٍ) سالما من آفة التلوين والانحراف عن جادة الاستقامة (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) حجة ناصرة بالتثبيت والتمكين (وَقُلْ) إذا زالت نقطة الغين عن العين (جاءَ الْحَقُ) أي ظهر الوجود الثابت وهو الوجود الواجبي (وَزَهَقَ الْباطِلُ) وهو الوجود الإمكاني ، ففي الحديث الصحيح أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

١٨٥

ويقال الحق العلم والباطل الجهل والحق ما بدا من الإلهام والباطل هواجس النفس ووساوس الشيطان. وقال فارس : كل ما يحملك على سلوك سبيل الحقيقة فهو حق وكل ما يحجبك ويفرق عليك وقتك فهو باطل (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) من أمراض الصفات الذميمة (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) بالغيب يفيدهم الكمالات والفضائل العظيمة فالأول إشارة إلى التخلية والثاني إلى التحلية ، ويقال هو شفاء من داء الشك الضعفاء المؤمنين ومن داء النكرة للعارفين ومن وجع الاشتياق للمحبين ومن داء القنوط للمريدين والقاصدين ، وأنشدوا :

وكتبك حولي لا تفارق مضجعي

وفيها شفاء للذي أنا كاتم

(وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ) الباخسين حظوظهم من الكمال بالميل إلى الشهوات النفسانية (إِلَّا خَساراً) بزيادة ظهور أنفسهم بصفاتها من إنكار ونحوه (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) فاحتجب بالنعمة عن المنعم ولم يشكر (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) لجهله بعظيم قدرة الله تعالى ولم يصبر (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) على طريقته التي تشاكل استعداده وكل إناء بالذي فيه يرشح (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي من عالم الإبداع وهو عالم الذوات المقدسة عن الشكل واللون والجهة والأين فلا يمكن إدراك المحجوبين لها (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) وهو علم المحسوسات (مَنْ يَهْدِ اللهُ) بنوره بمقتضى العناية الأزلية (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) دون غيره (وَمَنْ يُضْلِلْ) بمنع ذلك النور عنه (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ) من دونه تعالى يهدونه أو يحفظونه من قهره عزوجل (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) لانجذابهم إلى الجهة السفلية (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) لأنها أحوال تناسب أحوالهم في الدنيا (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) لعلمهم بحقيته ، ووقوفهم على ما أودع فيه من الأسرار (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) لعظمته أو شوقا لمنزله وحبا للقائه ، قال أبو يعقوب السوسي : البكاء على أنواع : بكاء من الله تعالى وهو أن يبكي خوفا مما جرى به القلم في الفاتحة ويظهر في الخاتمة وبكاء على الله عزوجل وهو أن يبكي تحسرا على ما يفوته من الحق تعالى ، وبكاء لله تبارك وتعالى وهو أن يبكي عند ذكره سبحانه وذكر وعده ووعيده وبكاء بالله تعالى وهو أن يبكي بلا حظ منه في بكائه ، وقال القاسم : البكاء على وجوه بكاء الجهال على ما جهلوا وبكاء العلماء على ما قصروا وبكاء الصالحين مخافة الفوت وبكاء الأئمة مخافة السبق وبكاء الفرسان من أرباب القلوب للهيبة والخشية ولا بكاء للموحدين ، وفي الآية إشارة ما إلى السماع ولا أشرف من سماع القرآن فهو الروح والريحان (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) قيل دعاء الله بالفناء في الذات ودعاء الرحمن بالفناء في الصفة وصفة الرحمانية هي أم الصفات وبها استوى سبحانه على عرشه ، ومن ذلك يعلم أنه ليس المراد من الإيجاد إلا رحمة الموجودين (أَيًّا ما تَدْعُوا) أي أيّا ما طلبت من هذين المقامين (فَلَهُ) تعالى في هذين المقامين (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) لا لك إذ لست هناك بموجود أما في الفناء في الذات فظاهر وأما في الفناء في الصفة المذكورة فلأن الرحمن لا يصلح اسما لغير تلك الذات ولا يمكن ثبوت تلك الصفة لغيرها ، ولا يخفى عليك أن ضمير له على هذا التأويل عائد على ما عاد إليه على التفسير. وفي الفتوحات المكية أنه تعالى جعل الأسماء الحسنى لله كما هي للرحمن غير أن الاسم له معنى وصورة فيدعى الله بمعنى الاسم ويدعى الرحمن بصورته لأن الرحمن هو المنعوت بالنفس وبالنفس ظهرت الكلمات الإلهية في مراتب الخلاء الذي ظهر فيه العالم فلا ندعوه إلا بصورة الاسم وله صورتان صورة عندنا من أنفاسنا وتركيب حروفنا وهي التي ندعوه بها وهي أسماء الأسماء الإلهية وهي كالخلع عليها ونحن بصورة هذه الأسماء مترجمون عن الأسماء الإلهية ولها صور من نفس الرحمن من كونه قائلا ومنعوتا بالكلام وخلف تلك الصور المعاني التي هي كالأرواح للأسماء الإلهية التي يذكر الحق بها نفسه وهي من نفس الرحمن فله الأسماء الحسنى وأرواح تلك الصور هي التي لاسم الله خارجة عن حكم النفس لا تنعت بالكيفية

١٨٦

وهي لصور الأسماء النفسية الرحمانية كالمعاني للحروف ، ولما علمنا هذا وأمرنا بأن ندعوه سبحانه وخيرنا بين الاسمين الجليلين فإن شئنا دعوناه بصور الأسماء النفسية الرحمانية وهي الهمم الكونية التي في أرواحنا وإن شئنا دعوناه بالأسماء التي من أنفاسنا بحكم الترجمة فإذا تلفظنا بها أحضرنا في نفوسنا أما الله فننظر المعنى وأما الرحمن فننظر صورة الاسم الإلهي النفسي الرحماني كيفما شئنا فعلنا فإن دلالة الصورتين منا ومن الرحمن على المعنى واحد سواء علمنا ذلك أو لم نعلمه اه ، وهو كلام يعسر فهمه إلا على من شاء الله تعالى بيد أنه ليس فيه حمل الدعاء على ما سمعت (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) فضلا عن أن يكون له سبحانه ولد بطريق التولد (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) فلا مدخل لغيره تعالى في ملكية شيء على الحقيقة وما يوجد بسبب ليس السبب إلا آلة له ولا تملك الآلة شيئا بل لا شيء إلا وهو صنعه تعالى على الحقيقة والسرير مثلا وإن أضيف إلى النجار من حيث الصنعة إلا أنه في الحقيقة آلة كالقدوم ولا يضاف العمل إلى الآلة على الحقيقة كذا قيل ، وللشيخ قدس‌سره كلام في هذا المقام يفصح عن بعض هذا ذكره في الباب الثامن والتسعين بعد المائة فارجع إليه وتدبر ، وكذا له كلام في هذا المقام يفصح عن بعض هذا ذكره في الباب الثامن التسعين بعد المائة فارجع إليه وتدبر ، وكذا له كلام في قوله سبحانه (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) لكن يغني عنه ما قدمناه (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) قال بعضهم : تكبيره تعالى أن تعلم أنك لا تطيق أن تكبره إلا به ، وقال ابن عطاء تكبيره عزوجل بتعظيم منته وإحسانه في القلب بالعلم بالتقصير في الشكر وكيف يوفي أحد شكره تعالى ونعمه جل وعلا لا تحصى وآلاؤه لا تستقصى ، هذا وقد تم بفضل الله تعالى تفسير هذه السورة الكريمة.

١٨٧
١٨٨

سورة الكهف

ويقال سورة أصحاب الكهف كما في حديث أخرجه ابن مردويه ، وروى البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا أنها تدعى في التوراة الحائلة تحول بين قارئها وبين النار إلا أنه قال : إنه منكر وهي مكية كلها في المشهور واختاره الدابي ، وروي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما ، وعدها بعضهم من السور التي نزلت جملة لما أخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نزلت سورة الكهف جملة معها سبعون ألفا من الملائكة ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنها مكية إلا قوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) [الكهف : ٢٨] الآية فمدني ، وروي ذلك عن قتادة ، وقال مقاتل : هي مكية إلا أولها إلى (جُرُزاً) [الكهف : ٨] وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) [الكهف : ١٠٧] إلى آخرها فمدني ، وهي مائة وإحدى عشرة آية عند البصريين ومائة وعشرة عند الكوفيين ومائة وست عند الشاميين ومائة وخمس عند الحجازيين ، ووجه مناسبة وضعها بعد الإسراء على ما قيل افتتاح تلك بالتسبيح وهذه بالتحميد وهما مقترنان في الميزان وسائر الكلام نحو (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [الحجر : ٩٨ ، النصر : ٣] فسبحان الله وبحمده وأيضا تشابه اختتام تلك وافتتاح هذه فإن في كل منهما حمدا ، نعم فرق بينهما بأن الحمد الأول ظاهر في الحمد الذاتي والحمد المفتتح به في هذه يدل على الاستحقاق الغير الذاتي ، وقال الجلال السيوطي في ذلك : أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ثلاثة أشياء عن الروح وعن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين ، وقد ذكر جواب السؤال الأول في آخر السورة الأولى وجواب السؤالين الآخرين في هذه فناسب اتصالهما ، ولم تجمع الأجوبة الثلاثة في سورة لأنه لم يقع الجواب عن الأول بالبيان فناسب أن يذكر وحده في سورة ، واختيرت سورة الإسراء لما بين الروح وبين الإسراء من المشاركة بأن كلا منهما مما لا يكاد تصل إلى حقيقته العقول ، وقيل : إنما ذكر هناك لما أن الإسراء متضمن العروج إلى المحل الأرفع والروح متصفة بالهبوط من ذلك المحل ولذا قال ابن سينا فيها :

هبطت إليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تعزز وتمنع

ثم قال : ظهر لي وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال في تلك (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء: ٨٥] والخطاب لليهود استظهر على ذلك بقصة موسى نبي بني إسرائيل مع الخضر عليهما‌السلام التي كان سببها ذكر العلم والأعلم وما دلت عليه من كثرة معلومات الله تعالى التي لا تحصى فكانت هذه السورة كإقامة الدليل لما ذكر من الحكم في تلك السورة. وقد ورد في الحديث أنه لما نزل (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) قالت اليهود : قد أوتينا التوراة فيها علم كل شيء فنزل (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) [الكهف : ١٠٩] الآية فتكون هذه السورة من هذه الجهة جوابا عن شبهة الخصوم فيما قرر في تلك ، وأيضا لما قال سبحانه هناك (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) [الإسراء : ١٠٤] شرح ذلك هنا وبسطه بقوله سبحانه (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) [الكهف : ٩٨] إلى

١٨٩

قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) [الكهف : ٩٩ ، ١٠٠] اه ، وللمناسبة أوجه أخر تظهر بأدنى تأمل ، وأما فضلها فمشهور.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له إلى يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين.

وروى غير واحد عن أبي سعيد الخدري من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق ، وكان الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما كما أخرج أبو عبيد والبيهقي عن أم موسى يقرؤها كل ليلة.

وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن مغفل مرفوعا البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف لا يدخله شيطان تلك الليلة وإلى سنية قراءتها يوم الجمعة وكذا ليلتها ذهب غير واحد من الأئمة وقالوا بندب تكرار قراءتها.

وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وجماعة عن أبي الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال» ، وفي رواية أخرى عنه رواها أحمد. ومسلم والنسائي وابن حبان أيضا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال».

وأخرج الترمذي وصححه عنه مرفوعا «أن من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم» إلخ ، وجاء في حديث أخرجه ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا «أن من قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه الله تعالى أي الليل شاء» وقد جربت ذلك مرارا فليحفظ والله تعالى الموفق.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ

١٩٠

وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً)(٢٧)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الْكِتابَ) الكامل الغني عن الوصف بالكمال المعروف بذلك من بين سائر الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب به ، وهو إما عبارة عن جميع القرآن ففيه تغليب الموجود على المترقب وإما عبارة عن الجميع المنزل حينئذ فالأمر ظاهر. وفي وصفه تعالى بالموصول إشعار بعلية ما في حيز الصلة لاستحقاق الحمد الدال عليه اللام على ما صرح به ابن هشام وغيره وإيذان بعظم شأن التنزيل الجليل كيف لا

١٩١

وهو الهادي إلى الكمال الممكن في جانبي العلم والعمل وفي التعبير عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعبد مضافا إلى ضميره تعالى من الإشارة إلى تعظيمه عليه الصلاة والسلام ، وكذا تعظيم المنزل عليه ما فيه ، وفيه أيضا إشعار بأن شأن الرسول أن يكون عبدا للمرسل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه‌السلام وتأخير المفعول الصريح عن الجار والمجرور مع أن حقه التقديم عليه ليتصل به قوله تعالى :

(وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ) أي للكتاب (عِوَجاً) أي شيئا من العوج باختلال اللفظ من جهة الإعراب ومخالفة الفصاحة وتناقض المعنى وكونه مشتملا على ما ليس بحق أو داعيا لغير الله تعالى والعوج وكذا العوج الانحراف والميل عن الاستقامة إلا أنه قيل هو بكسر العين ما يدرك بفتح العين وبفتح العين ما يدرك بفتح العين (١) فالأول الانحراف عن الاستقامة المعنوية التي تدرك بالبصيرة كعوج الدين والكلام ، والثاني الانحراف عن الاستقامة الحسية التي تدرك بالبصر كعوج الحائط. والعود أورد عليه قوله تعالى في شأن الأرض (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٧] فإن الأرض محسوسة واعوجاجها وكذا استقامتها مما يدرك بالبصر فكان ينبغي على ما ذكر فتح العين ، وأجيب بأنه لما أريد به هنا ما خفي من الاعوجاج حتى احتاج إثباته إلى المقاييس الهندسية المحتاجة إلى إعمال البصيرة الحق بما هو عقلي صرف فأطلق عليه ذلك لذلك وتعقب بأن لا ترى ظاهر في أن المنفي ما يدرك بالبصر فيحتاج إلى أن يراد به الإدراك ، وعن ابن السكيت أن المكسور أعم من المفتوح.

واختار المرزوقي في شرح الفصيح أنه لا فرق بينهما (قَيِّماً) أي مستقيما كما أخرجه ابن المنذر عن الضحاك وروي أيضا عن ابن عباس ، والمراد مما قيل إنه لا خلل في لفظه ولا في معناه ، والمراد من هذا أنه معتدل لا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف حتى يشق على العباد ولا تفريط فيه بإهمال ما يحتاج إليه حتى يحتاج إلى كتاب آخر كما قال سبحانه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨] ولذا كان آخر الكتب المنزل على خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام ، وقيل المراد منه ما أريد مما قبله وذكره للتأكيد.

وقال الفراء : المراد قيما على سائر الكتب السماوية شاهدا بصحتها. وقال أبو مسلم : المراد قيما بمصالح العباد متكفلا بها وببيانها لهم لاشتماله على ما ينتظم به المعاش والمعاد وهو على هذين القولين تأسيس أيضا لا تأكيد فكأنه قيل كتابا صادقا في نفسه مصدقا لغيره أو كتابا خاليا عن النقائص حاليا بالفضائل وقيل المراد على الأخير أنه كامل في نفسه ومكمل لغيره ، ونصبه بمضمر أي جعله قيما على أن الجملة مستأنفة أو جعله قيما على أنها معطوفة على ما قبل إلا أنه قيل إن حذف حرف العطف مع المعطوف تكلف ؛ وكان حفص يسكت على (عِوَجاً) سكتة خفيفة ثم يقول (قَيِّماً).

واختار غير واحد أنه على الحال من الضمير في (لَهُ) أي لم يجعل له عوجا حال كونه مستقيما ولا عوج فيه على ما سمعت أولا من معنى المستقيم إذ محصله أنه تعالى صانه عن الخلل في اللفظ والمعنى حال كونه مستقيما ولا عوج فيه على ما سمعت أولا من معنى المستقيم إذ محصله أنه تعالى صانه عن الخلل في اللفظ والمعنى حال كونه خاليا عن الإفراط والتفريط ، وكذا على القولين الأخيرين ، نعم قيل : إن جعله حالا من الضمير مع تفسير المستقيم بالخالي عن العوج ركيك.

وتعقبه بعضهم بأنه تندفع الركاكة بالحمل على الحال المؤكدة كما في قوله تعالى : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)

__________________

(١) ما الأولى نافية وما الثانية موصولة اه منه.

١٩٢

[التوبة : ٢٥] وفيه بحث ، وجوز أن يكون حالا من الكتاب ، واعترض بأنه يلزم حينئذ العطف قبل تمام الصلة لأن الحال بمنزلة جزء منها ، وأجيب بأنه يجوز أن يجعل (وَلَمْ يَجْعَلْ) إلخ من تتمة الصلة الأولى على أنه عطف بياني حيث قال تعالى (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) الكامل في بابه عقبه بقوله سبحانه (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) فحينئذ لا يكون الفصل قبل تمام الصلة ، وهو نظير قوله تعالى (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ٢١٧] على قول. وأيضا يجوز أن يكون الواو في (وَلَمْ يَجْعَلْ) للحال والجملة بعده حال من (الْكِتابَ) كقيما واختاره الأصبهاني.

وقال أبو حيان : إن ذاك على مذهب من يجوز وقوع حالين من ذي حال واحد بغير عطف وكثير من أصحابنا على منعه ، وقال آخر : إن قياس قول الفارسي في الخبر أنه لا يتعدد مختلفا بالإفراد والجملية أن يكون الحال كذلك. وأجيب بأنه غير وارد إذ ما ذكره الفارسي خلاف مذهب الجمهور مع أنه قياس مع الفارق فلا يسمع ، وكذا ما ذكره أبو حيان عن الكثير خلاف المعول عليه عند الأكثر ، نعم فرارا من القيل والقال جعل بعضهم الواو للاعتراض والجملة اعتراضية ، وفي الكلام تقديم وتأخير والأصل الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا ، وروي القول بالتقديم والتأخير عن ابن عباس ومجاهد ، وذكر السمين أن ابن عباس حيث وقعت جملة معترضة في النظم يجعلها مقدمة من تأخير ، ووجه ذلك بأنها وقعت بين لفظين مرتبطين فهي في قوة الخروج من بينهما ، ولما كان (قَيِّماً) يفيد استقامة ذاتية أو ثابتة لكونه صفة مشبهة وصيغة مبالغة ، وما من شيء كذلك إلا وقد يتوهم فيه أدنى عوج ذكر قوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ) إلخ للاحتراس ، وقدم للاهتمام كما في قوله :

ألا يا اسلمي يا دار مي على البلا

ولا زال منهلا بجرعائك القطر

ومن هنا يعلم أن تفسير القيم بالمستقيم بالمعنى المتبادر ، وأن قول الزمخشري فائدة الجمع بينه وبين نفي العوج التأكيد فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح غير ذي عوج عند السبر والتصفح ، وأنه لا يرد قول الإمام إن قوله تعالى : (لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) يدل على كونه مكملا في ذاته ، وقوله سبحانه : (قَيِّماً) يدل على كونه مكملا لغيره ، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح كما ذكره الله تعالى وأن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه انتهى.

ولعمري أن هذا الكلام لا ينبغي من الإمام إن صح عنده أن القول المذكور مروي عن ابن عباس ومجاهد ، فإن الأول ترجمان القرآن وناهيك به جلالة ومعرفة بدقائق اللسان ، وقد قيل في الثاني إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك ، وقال صاحب حل العقد : يمكن أن يكون قيما بدلا من قوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) قال أبو حيان : ويكون حينئذ بدل مفرد من جملة كما قالوا في عرفت زيدا أبو من هو إنه بدل جملة من مفرد ، وفي جواز ذلك خلاف ، هذا وزعم بعضهم أن ضمير (لَهُ) عائد على (عَبْدِهِ) وحينئذ لا يتأتى جميع التخاريج الإعرابية السابقة ، وقرأ أبان بن ثعلب «قيما» بكسر القاف وفتح الياء المخففة ، وفي بعض مصاحف الصحابة «ولم يجعل له عوجا لكنه قيما» وحمل ذلك على أنه تفسير لا قراءة (لِيُنْذِرَ) متعلق بانزل واللام للتعليل ، واستدل به من قال بتعليل أفعال الله تعالى بالأغراض كالسلف والماتريدية ، ومن يأبى ذلك يجعلها لام العاقبة ، وزعم الحوفي أنه متعلق بقيما وليس بقيم ، والفاعل ضمير الجلالة ، وكذا في الفعلين المعطوفين عليه ، وجوز أن يكون الفاعل في الكل ضمير الكتاب أو ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنذر يتعدى لمفعولين قال تعالى : (أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) [النبأ : ٤٠] وحذف هنا المفعول الأول واقتصر على الثاني ، وهو قوله تعالى : (بَأْساً شَدِيداً) إيذانا بأن ما سيق له الكلام هو المفعول الثاني ، وأن الأول ظاهر لا حاجة إلى

١٩٣

ذكره وهو الذين كفروا بقرينة ما بعد ، والمراد الذين كفروا بالكتاب ، والظاهر أن المراد من البأس الشديد عذاب الآخرة لا غير ، وقيل يحتمل أن يندرج فيه عذاب الدنيا (مِنْ لَدُنْهُ) أي صادرا من عنده تعالى نازلا من قبله بمقابلة كفرهم فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة ثانية للبأس ، ولدن هنا بمعنى عند كما روي عن قتادة ، وذكر الراغب أنه أخص منه لأنه يدل على ابتداء نهاية نحو أقمت عنده من لدن طلوع الشمس إلى غروبها ، وقد يوضع موضع عند.

وقال بعضهم : إن «لدن» أبلغ من عند وأخص وفيه لغات ، وقرأ أبو بكر عن عاصم بإشمام الدال بمعنى تضعيف الصوت بالحركة الفاصلة بين الحرفين فيكون إخفاء لها وبكسر النون لالتقاء الساكنين وكسر الهاء للإتباع ، ويفهم من كلام بعضهم أنه قرأ بالإسكان مع الإشمام بمعنى الإشارة إلى الحركة بضم الشفتين مع انفراج بينهما فاستشكل في الدر المصون. وغيره بأن هذا الإشمام إنما يتحقق في الوقف على الآخر وكونه في الوسط كما هنا لا يتصور ، ولذا قيل : إنه يؤتى به هنا بعد الوقف على الهاء. ودفع الاعتراض بأنه لا يدل حينئذ على حركة الدال وقد علل به بأنه متعين إذ ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته غيرها ، ولا يخفى ما فيه ، وما قدمناه حاسم لمادة الإشكال ، وقرأ الجمهور بضم الدال والهاء وسكون النون إلا أن ابن كثير يصل الهاء بواو وغيره لا يصل (وَيُبَشِّرَ) بالنصب عطف على ينذر وقرئ شاذا بالرفع.

وقرأ حمزة والكسائي «ويبشر» بالتخفيف (الْمُؤْمِنِينَ) أي المصدقين بالكتاب كما يشعر به وكذا بما تقدم ذكر ذلك بعد الامتنان بإنزال الكتاب (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الصالحة التي بينت في تضاعيفه ، وإيثار صيغة الاستقبال في الصلة للإشعار بتجدد العمل واستمراره ، وإجراء الموصول على موصوفه المذكور لما أن مدار قبول العمل الإيمان (أَنَّ لَهُمْ) أي بأن لهم بمقابلة إيمانهم وعملهم المذكور (أَجْراً حَسَناً) هو كما قال السدي وغيره الجنة وفيها من النعيم المقيم والثواب العظيم ما فيها ، ويؤيد كون المراد به الجنة ظاهر قوله تعالى (ماكِثِينَ فِيهِ) أي مقيمين في الأجر (أَبَداً) من غير انتهاء لزمان مكثهم.

ونصب (ماكِثِينَ) على الحال من الضمير المجرور في (لَهُمْ) والظرفان متعلقان به ، وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار عما هم عليه مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية ، وتكرير الإنذار بقوله تعالى (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) متعلقا بفرقة خاصة ممن عمه الإنذار السابق من مستحقي البأس الشديد للإيذان بكمال فظاعة حالهم لغاية شناعة كفرهم وضلالهم كما ينبئ عنه ما بعد أي وينذر من بين هؤلاء الكفرة المتفوهين بمثل هاتيك العظيمة خاصة وهم العرب القائلون الملائكة بنات الله تعالى واليهود القائلون عزير ابن الله سبحانه والنصارى القائلون المسيح ابن الله عزوجل ، وترك إجراء الموصول على الموصوف كما في قوله تعالى : (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) إلخ للإيذان بكفاية ما في حيز الصلة في الكفر على أقبح الوجوه ؛ وإيثار صيغة الماضي في الصلة للدلالة على تحقق صدور تلك الكلمة القبيحة عنهم فيما سبق ، وجعل بعضهم المفعول المحذوف فيما سلف عبارة عن هذه الطائفة ، وفي الآية صنعة الاحتباك حيث حذف من الأول ما ذكر فيما بعد وهو المنذر وحذف مما بعد ما ذكر في الأول وهو المنذر به. وتعقب بأنه يؤدي إلى خروج سائر أصناف الكفرة عن الإنذار والوعيد.

وأجيب بأنه يعلم إنذار سائر الأصناف ودخولهم في الوعيد من باب الأولى لأن القول بالتبني وإن كبر كلمة دون الإشراك وفيه نظر ، وقدر ابن عطية العالم وأبو البقاء العباد فيعم المؤمنين أيضا ، وتعقب بأن التعميم يقتضي حمل الإنذار على معنى مجرد الأخبار بالأمر الضار من غير اعتبار حلول المنذر به على المنذر كما في قوله تعالى : (أَنْ أَنْذِرِ

١٩٤

النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) [يونس : ٢] وهو يفضي إلى خلو النظم الكريم عن الدلالة على حلول البأس الشديد على من عدا هذه الفرقة فتأمل.

(ما لَهُمْ بِهِ) أي باتخاذه سبحانه وتعالى ولدا (مِنْ عِلْمٍ) مرفوع المحل على الابتداء أو الفاعلية لاعتماد الظرف ، ومن مزيدة لتأكيد النفي والجملة حالية أو مستأنفة لبيان حالهم في مقالهم أي ما لهم بذلك شيء من العلم أصلا لا لإخلالهم بطريق العلم مع تحقق المعلوم أو إمكانه بل لاستحالته في نفسه ومعها لا يستقيم تعلق العلم ، واستظهر كون ضمير (بِهِ) عائدا على الولد وعدم العلم وكذا خال الجملة على ما سمعت ، وزعم المهدوي أن الجملة على هذا صفة لولدا وليس بشيء ، وجوز أن يعود على القول المفهوم من (قالُوا) أي ليس قولهم ذلك ناشئا عن علم وتذكر ونظر فيما يجوز عليه تعالى وما يمتنع ، وقال الطبري : هو عائد على الله تعالى على معنى ليس لهم علم بما يجوز عليه تعالى وما يمتنع (وَلا لِآبائِهِمْ) الذين قالوا مثل ذلك ناسبين التبني إليه عزوجل ، والتعرض لنفي العلم عنهم لأنهم قدورة هؤلاء (كَبُرَتْ كَلِمَةً) أي عظمت مقالتهم هذه في الكفر والافتراء لما فيها من نسبته تعالى إلى ما لا يكاد يليق بكبريائه جل وعلا ، وكبر وكذا كل ما كان على وزن فعل موضوعا على الضم كظرف أو محولا إليه من فعل أو فعل ذهب الأخفش والمبرد إلى إلحاقه بباب التعجب فالفاعل هنا ضمير يرجع إلى قوله تعالى : (اتَّخَذَ) إلخ بتأويل المقالة ، و (كَلِمَةً) نصب على التمييز وكأنه قيل ما أكبرها كلمة وقوله تعالى (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) صفة (كَلِمَةً) تفيد استعظام اجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم فإن كثيرا مما يوسوس به الشيطان وتحدث به النفس لا يمكن أن يتفوه به بل يصرف عنه الفكر فكيف بمثل هذا المنكر. وذهب الفارسي وأكثر النحاة إلى إلحاقه بباب نعم وبئس فيثبت له جميع أحكامه ككون فاعله معرفا بال أو مضافا إلى معرف بها أو ضميرا مفسرا بالتمييز ، ومن هنا جوز أن يكون الفاعل هنا ضمير (كَلِمَةً) وهي أيضا تمييز والجملة صفتها ولا ضير في وصف التمييز في باب نعم وبئس ، وجوز أبو حيان وغيره أن تكون صفة لمحذوف هو المخصوص بالذم أي كبرت كلمة كلمة خارجة من أفواههم ، وظاهر كلام الأخفش تغاير المذهبين. وفي التسهيل أنه من باب نعم وبئس وفيه معنى التعجب. والمراد به هنا تعظيم الأمر في قلوب السامعين وهذا ظاهر في أنه لا تغاير بينهما وإليه يميل كلام بعض الأئمة. وقيل نصبت على الحال ولا يخفى حاله. وتسمية ذلك كلمة على حد تسمية القصيدة بها. وقرئ «كبرت» بسكون الباء وهي لغة تميم ، وجاء في نحو هذا الفعل ضم العين وتسكينها ونقل حركتها إلى الفاء. وقرأ الحسن وابن يعمر وابن محيصن والقواس عن ابن كثير كلمة بالرفع على الفاعلية والنصب أبلغ وأوكد. واستدل النظام على أن الكلام جسم بهذه الآية لوصفه فيها بالخروج الذي هو من خواص الأجسام وأجيب بأن الخارج حقيقة هو الهواء الحامل له وإسناده إلى الكلام الذي هو كيفية مجاز وتعقب بأن النظام القائل بجسمية الكلام يقول هو الهواء المكيف لا الكيفية واستدلاله على ذلك مبني على الأصل هو الحقيقة إلا أن الخلاف لفظي لا ثمرة فيه (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) أي ما يقولون في ذلك الشأن إلا قولا كذبا لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق أصلا والضمير أن لهم ولآبائهم (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ) أي قاتل (نَفْسَكَ) وفي معناه ما في صحيح البخاري مهلك. والأول مروي عن مجاهد. والسدي وابن جبير وابن عباس وأنشد لابن الأزرق إذ سأله قول لبيد بن ربيعة :

لعلك يوما إن فقدت مزارها

على بعده يوما لنفسك باخع

وفي البحر عن الليث بخع الرجل نفسه بخعا وبخوعا قتلها من شدة الوجد وأنشد قول الفرزدق :

١٩٥

ألا أيهذا الباخع الوجد (١) نفسه

لشيء نحته عن يديه المقادر

وهو من بخع الأرض بالزراعة أي جعلها ضعيفة بسبب متابعة الزراعة كما قال الكسائي ، وذكر الزمخشري أن البخع أن يبلغ الذبح البخاع بالباء وهو عرق مستبطن القفا ، وقد رده ابن الأثير وغيره بأنه لم يوجد في كتب اللغة والتشريح لكن الزمخشري ثقة في هذا الباب واسع الاطلاع ، وقرئ «باخع نفسك» بالإضافة وهي خلاف الأصل في اسم الفاعل إذا استوفى شروط العمل عند الزمخشري ، وأشار إليه سيبويه في الكتاب.

وقال الكسائي : العمل والإضافة سواء ، وزعم أبو حيان أن الإضافة أحسن من العمل (عَلى آثارِهِمْ) أي من بعدهم. يعني من بعد توليهم عن الإيمان وتباعدهم عنه. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والنضر بن الحارث. وأمية بن خلف والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأبا البختري في نفر من قريش اجتمعوا وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه وإنكارهم ما جاء به من النصيحة فأحزنه حزنا شديدا فأنزل الله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ) إلخ ، ومنه يعلم أن ما ذكرنا أوفق بسبب النزول من كون المراد من بعد موتهم على الكفر.

(إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) الجليل الشأن ، وهو القرآن المعبر عنه في صدر السورة بالكتاب ، ووصفه بذلك لو سلم دلالته على الحدوث لا يضر الأشاعرة وأضرابهم القائلين : بأن الألفاظ حادثة ، وإن شرطية ، والجملة بعدها فعل الشرط ، والجواب محذوف ثقة بدلالة ما سبق عليه عند الجمهور ، وقيل الجواب فلعلك إلخ المذكور ، وهو مقدم لفظا مؤخر معنى ، والفاء فيه فاء الجواب ، وقرئ «أن لم يؤمنوا» بفتح همزة أن على تقدير الجار أي لأن ، وهو متعلق بباخع على أنه علة له. وزعم غير واحد أنه لا يجوز إعماله على هذا إذ هو اسم فاعل وعمله مشروط بكونه للحال أو الاستقبال ، ولا يعمل وهو للمضي ، وإن الشرطية تقلب الماضي بواسطة (لَمْ) إلى الاستقبال بخلاف أن المصدرية فإنها تدخل على الماضي الباقي على مضيه إلا إذا حمل على حكاية الحال الماضية لاستحضار الصورة للغرابة.

وتعقبه بعض الأجلة بأنه لا يلزم من مضي ما كان علة لشيء مضيه ، فكم من حزن مستقبل على أمر ماض سواء استمر أو لا فإذا استمر فهو أولى لأنه أشد نكاية فلا حاجة إلى الحمل على حكاية الحال. ووجه ذلك في الكشف بأنه إذا كانت علة البخع عدم الإيمان فإن كانت العلة قد تمت فالمعلول كذلك ضرورة تحقق المعلول عند العلة التامة ، وإن كانت بعد فكمثل ضرورة أنه لا يتحقق بدون تمامها ، وتعقب بأنه غير مسلم ، لأن هذه ليست علة تامة حقيقية حتى يلزم ما ذكر ، وإنما هي منشأ وباعث فلا يضر تقدمها ، وقيل إنه تفوت المبالغة حينئذ في وجده صلى‌الله‌عليه‌وسلم على توليهم لعدم كون البخع عقبه بل بعده بمدة بخلاف ما إذا كان للحكاية ، وتعقب أيضا بأنه لا وجه له بل المبالغة في هذا أقوى لأنه إذا صدر منه لأمر مضى فكيف لو استمر أو تجدد؟ ولعل في الآية ما يترجح له البقاء على الاستقبال فتدبر ، وانتصاب قوله تعالى : (أَسَفاً) بباخع على أنه مفعول من أجله.

وجوز أن يكون حالا من الضمير فيه بتأويل متأسفا لأن الأصل في الحال الاشتقاق وأن ينتصب على أنه مصدر

__________________

(١) قال أبو عبيدة كان ذو الرمة ينشد الوجد بالرفع وقال الأصمعي إنما هو الوجد بالفتح اه فيكون نصبه على أنه مفعول لأجله ونحته مخفف نحته اه منه.

١٩٦

فعل مقدر أي تأسف أسفا ، والأسف على ما نقل عن الزجاج المبالغة في الحزن والغضب.

وقال الراغب : الأسف الحزن والغضب معا وقد يقال لكل منهما على الانفراد ، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان على من دونه انتشر فصار غضبا ومتى كان على ما فوقه انقبض فصار حزنا ، ولذلك سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الحزن والغضب فقال : مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غيظا وغضبا ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزنا وجزعا ، وبهذا النظر قال الشاعر :

فحزن كل أخي حزن أخو الغضب

وإلى كون الأسف أعم من الحزن والغضب وكون الحزن على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف والغضب على من هو في قبضته وملكه ذهب منذر بن سعد وفسر الأسف هنا بالحزن بخلافه في قوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [الزخرف : ٥٥] وإذا استعمل الأسف مع الغضب يراد به الحزن على ما قيل في قوله تعالى : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) [الأعراف : ١٥٠] وجعل كل منهما فيه بالنسبة إلى بعض من القوم ، وعن قتادة تفسير الأسف هنا بالغضب ، وفي رواية أخرى بالحزن ، وفي صحيح البخاري تفسيره بالندم. وعن مجاهد تفسيره بالجزع ، وأهل الحزن أكثر ، ولعل للترجي وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه ، وهي هنا استعارة أي وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس ذلك لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم.

وقال العسكري : هي هنا موضوعة موضع النهي كأنه قيل لا تبخع نفسك ، وقيل موضع الاستفهام ، وجعله ابن عطية إنكاريا على معنى لا تكن كذلك ، والقول بمجيء لعل للاستفهام قول كوفي ، والذي يظهر أنها هنا للإشفاق الذي يقصد به التسلي والحث على ترك التحزن والتأسف ، ويمكن أن يكون مراد العسكري ذلك ، وفي الآية عند غير واحد استعارة تمثيلية وذلك أنه مثل حاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شدة الوجد على إعراض القوم وتوليهم عن الإيمان بالقرآن وكمال الحزن عليهم بحال من يتوقع منه إهلاك نفسه إثر فوت ما يحبه عند مفارقة أحبته تأسفا على مفارقتهم وتلهفا على مهاجرتهم ثم قيل ما قيل ، وهو أولى من اعتبار الاستعارة المفردة التبعية في الأطراف.

وجوز أن تكون من باب التشبيه لذكر طرفيه وهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وباخع بأن يشبه عليه الصلاة والسلام لشدة حرصه على الأمر بمن يريد قتل نفسه لفوات أمر وهو كما ترى.

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ) الظاهر عموم ما جميع ما لا يعقل أي سواء كان حيوانا أو نباتا أو معدنا أي جعلنا جميع ما عليها من غير ذوي العقول (زِينَةً لَها) تتزين به وتتحلى وهو شامل لزينة أهلها أيضا وزينة كل شيء يحسبه بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها ، وقيل لا يدخل في ذلك ما فيه إيذاء من حيوان ونبات ، ومن قال بالعموم قال : لا شيء مما على الأرض إلا وفيه جهة انتفاع ولا أقل من الاستدلال به على الصانع ووحدته ، وخص بعضهم ما بالأشجار والأنهار ، وآخر بالنبات لما فيه من الأزهار المختلفة الألوان والمنافع ، وآخر بالحيوان المختلف الأشكال والمنافع والأفعال ، وآخر بالذهب والفضة والرصاص والنحاس والياقوت والزبرجد واللؤلؤ والمرجان والألماس وما يجري مجرى ذلك من نفائس الأحجار.

وقالت فرقة : أريد بها الخضرة والمياه والنعم والملابس والثمار ، ولعمري إنه تخصيص لا يقبله الخواص على العموم ؛ وقيل إن (ما) هنا لمن يعقل والمراد بذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير والحسن وجاء في رواية عن ابن عباس الرجال ، وعلى ما أخرج أبو نصر السجزي في الإبانة عن ابن عباس العلماء وعلى ما روي عكرمة الخلفاء والعلماء والأمراء ، وأنت تعلم أن جعل ما لمن يعقل مع إرادة ما ذكر بعيد جدا ، ولعل أولئك الأجلة أرادوا من ما العقلاء

١٩٧

وغيرهم تغليبا للأكثر على غيره وما على الأرض بهذا المعنى ليس إلا بعض العناصر الأربعة والمواليد الثلاثة وأشرف ذلك المواليد وأشرفها نوع الإنسان وهو متفاوت الشرف بحسب الأصناف فيمكن أن يكون ما ذكروه من باب الاقتصار على بعض أصناف هذا الأشرف لداع لذلك أصناف وقد يقال : المراد بما عموم ما لا يعقل ومن يعقل فيدخل من توجه إليه التكليف وغيره ولا ضير في ذلك فإن للمكلف جهتين جهة يدخل بها تحت الزينة وجهة يدخل بها تحت الابتلاء المشار إليه بقوله تعالى (لِنَبْلُوَهُمْ) وقد نص سبحانه على بعض المكلفين بأنهم زينة في قوله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٤٦] ومن هنا يعلم ما في قول القاضي الأولى أن لا يدخل المكلف لأن ما على الأرض ليس زينة لها بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها لغرض الابتلاء فالذي له الزينة يكون خارجا عن الزينة ، ونصب (زِينَةً) على أنه مفعول ثان للجعل إن حمل على معنى التصيير أو على أنه حال أو مفعول له كما قال أبو البقاء وأبو حيان إن حمل على معنى الإبداع ، واللام الأولى إما متعلقة به أو متعلقة بمحذوف وقع صفة له أي زينة كائنة لها واللام الثانية متعلقة بجعلنا والكلام على هذا وجعل زينة مفعولا له نحو قمت إجلالا لك لتقابلني بمثل ذلك ، وضمير الجمع عائد على سكان الأرض من المكلفين المفهوم من السياق.

وجوز أن يعود على ما على تقدير أن تكون للعقلاء ، والابتلاء في الأصل الاختبار ، وجوز ذلك على الله سبحانه هشام بن الحكم بناء على جهله وزعمه أنه عزوجل لا يعلم الحوادث إلا بعد وجودها لئلا يلزم نفي قدرته تعالى على الفعل أو الترك ، ورده أهل السنة في محله وقالوا : إنه تعالى يعلم الكليات والجزئيات في الأزل ، وأولو هذه الآية أن المراد ليعاملهم معاملة من يختبرهم (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فنجازي كلا بما يليق به وتقتضيه الحكمة وحسن العمل الزهد في زينة الدنيا وعدم الاغترار بها وصرفها على ما ينبغي والتأمل في شأنها وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها والتمتع بها حسبما أذن الشرع وأداء حقوقها والشكر على ما أوتي منها لا اتخاذها وسيلة إلى الشهوات والأغراض الفاسدة كما تفعله الكفرة وأصحاب الأهواء ، ومراتب الحسن متفاوتة وكلما قوي الزهد مثلا كان أحسن ، وسأل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الأحسن عملا كما أخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ فقال عليه الصلاة والسلام «أحسنكم عقلا (١) وأورع عن محارم الله تعالى وأسرعكم في طاعته سبحانه».

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال : أحسنهم عملا أشدهم للدنيا تركا ، وأخرج نحوه عن سفيان الثوري وذكر بعضهم أن الأحسن من زهد وقنع من الدنيا بزاد المسافر ووراءه حسن وهو من استكثر من حلالها وصرفه في وجوهه وقبيح من احتطب حلالها وحرامها وأنفقه في شهواته ، وكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيان الأحسن أحسن (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) [الحشر : ٧] وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل للفريقين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإشعار بأن الغاية الأصلية للجعل المذكور إنما هو ظهور كمال إحسان المحسنين ، وأي أما استفهامية فهي مرفوعة بالابتداء وأحسن خبرها ، والجملة في محل نصب بفعل الابتلاء ولما فيه من معنى العلم باعتبار عاقبته كالسؤال والنظر ومكان الاستفهام علق عن العمل ، وإما موصولة بمعنى الذي فهي مبنية على الضم محلها النصب على أنها بدل من ضمير النصب في (لِنَبْلُوَهُمْ) وأحسن خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة لها والتقدير لنبلو الذي هو أحسن عملا. ويفهم من البحر أن مذهب سيبويه في أي إذا أضيفت وحذف صدر صلتها كما هنا جواز البناء لا وجوبه ، وتحقيق الكلام في مذهبه لا يخلو عن إشكال ، وأفعل التفضيل باق على الصحيح

__________________

(١) قوله في الحديث وأورع كذا بخط مؤلفه وما في الدر المنثور «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله» إلخ.

١٩٨

على حقيقته كما أشرنا إليه والمفضل عليه محذوف والتقدير كما قال أبو حيان لنبلوهم أيهم أحسن عملا ممن ليس أحسن عملا (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ) فيما سيأتي عند تناهي عمر الدنيا (ما عَلَيْها) مما جعلناه زينة ، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير ، وجوز غير واحد أن يكون هذا أعم مما جعل زينة ولذا لم يؤت بالضمير ، والجعل هنا بمعنى التصيير أي مصيرون ذلك (صَعِيداً) أي ترابا (جُرُزاً) أي لا نبات فيه قاله قتادة ، وقال الراغب : الصعيد وجه الأرض ، وقال أبو عبيدة هو المستوي من الأرض وروي ذلك عن السدي وقال الزجاج : هو الطريق الذي لا نبات فيه ، وأخرج ابن أبي حاتم أن الجرز الخراب ، والظاهر أنه ليس معنى حقيقيا والمعنى الحقيقي ما ذكرناه ، وقد ذكره غير واحد من أئمة اللغة ، وفي البحر يقال جرزت الأرض فهي مجروزة إذا ذهب نباتها بقحط أو جراد وأرضون أجراز لا نبات فيها ويقال سنة جرز وسنون أجراز لا مطر فيها وجرز الأرض الجراد والشاة والإبل إذا أكلت ما عليها ورجل جروز أكول أو سريع الأكل وكذا الأنثى قال الشاعر :

إن العجوز خبة جروزا

تأكل كل ليلة قفيزا

وفي القاموس أرض جرز (١) وجرز وجرز وجرز لا تنبت أو أكل نباتها أو لم يصبها مطر وفي المثل لا ترضى شانئة إلا بجرزة أي بالاستئصال ، والمراد تصيير ما على الأرض ترابا ساذجا بعد ما كان يتعجب من بهجته النظار وتستلذ بمشاهدته الأبصار ، وظاهر الآية تصيير ما عليها بجميع أجزائه كذلك وذلك إنما يكون بقلب سائر عناصر المواليد إلى عنصر التراب ولا استحالة فيه لوقوع انقلاب بعض العناصر إلى بعض اليوم ، وقد يقال إن هذا جار على العرف فإن الناس يقولون صار فلان ترابا إذا اضمحل جسده ولم يبق منه أثر إلا التراب. وحديث انقلاب العناصر مما لا يكاد يخطر لهم ببال وكذا زعم محققي الفلاسفة بقاء صور العناصر في المواليد ويوشك أن يكون تركب المواليد من العناصر أيضا كذلك وهذا الحديث لا تكاد تسمعه عن السلف الصالح والله تعالى أعلم ، ووجه ربط هاتين الآيتين بما قبلهما على ما قاله بعض المحققين إن قوله تعالى (إِنَّا جَعَلْنا) إلخ تعليل لما في لعل من معنى الإشفاق وقوله سبحانه : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ) إلخ تكميل للتعليل ، وحاصل المعنى لا تحزن بما عاينت من القوم من تكذيب ما أنزلنا عليك من الكتاب فإنا قد جعلنا ما على الأرض من فنون الأشياء زينة لها لنختبر أعمالهم فنجازيهم بحسبها وإنا لمفنون ذلك عن قريب ومجازون بحسب الأعمال وفي معنى ذلك ما قيل إنه تسكين له عليه الصلاة والسلام كأنه قيل : لا تحزن فإنا ننتقم لك منهم وظاهر كلام بعضهم جعل ما يفهم من أول السورة تعليلا للإشفاق حيث قال المعنى لا يعظم حزنك بسبب كفرهم فإنا بعثناك منذرا ومبشرا وأما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه قيل ولا يضر جعل ما ذكر تعليلا لذلك أيضا لأن العلل غير حقيقية ، وقيل : في وجه الربط إن ما تقدم تضمن نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحزن وهذا تضمن إرشاده إلى التخلق ببعض أخلاقه تعالى كأنه قيل إني خلقت الأرض وزينتها ابتلاء للخلق بالتكاليف ثم إنهم يتمردون ويكفرون ومع ذلك لا أقطع عنهم نعمي فأنت أيضا يا محمد لا تترك الاشتغال بدعوتهم بعد أن لا تأسف عليهم ، والجملة الثانية لمجرد التزهيد في الميل إلى زينة الأرض ولا يخفى عليك بعد هذا الربط بل لا يكاد ينساق الذهن إليه فتألم (أَمْ حَسِبْتَ) خطاب لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمقصود غيره كما ذهب إليه غير واحد ، و (أَمْ) منقطعة مقدرة ببل التي هي للانتقال من كلام إلى آخر لا للإبطال وهمزة الاستفهام عند الجمهور وببل وحدها عند بعض ، وقيل : هي هنا بمعنى الهمزة والحق الأول أي بل أحسبت (أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا) في بقائهم

__________________

(١) قوله أرض جرز إلخ الأول على وزن كتب جمع كتاب ، والثاني كقفل ، والثالث كسهم ، والرابع كسبب اه منه.

١٩٩

على الحياة ونومهم مدة طويلة من الدهر (مِنْ آياتِنا) أي من بين دلائلنا الدالة على القدرة والألوهية (عَجَباً) أي آية ذات عجب وضعا له موضع المضاف أو وصفا لذلك بالمصدر مبالغة. وهو خبر لكانوا و (مِنْ آياتِنا) حال منه كما هو قاعدة نعت النكرة إذا تقدم عليها ، وجوز أبو البقاء أن يكون (عَجَباً) و (مِنْ آياتِنا) خبرين وإن يكون (عَجَباً) حالا من الضمير في الجار والمجرور وليس بذاك ، والمعنى أن قصتهم وإن كانت خارقة للعادة ليست بعجيبة بالنسبة إلى سائر الآيات التي من جملتها ما تقدم ، ومن هنا يعلم وجه الربط ، وفي الكشف أنه تعالى ذكر من الآيات الكلية وإن كان لتسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه لا ينبغي أن تبخع نفسه على آثارهم فالمسترشد يكفيه أدنى إشارة والزائغ لا تجدي فيه آيات النذارة والبشارة ما يشتمل على أمهات العجائب وعقبه سبحانه بقوله (أَمْ حَسِبْتَ) إلخ يعني أن ذلك أعظم من هذا فمن لا يتعجب من ذلك لا ينبغي أن يتعجب من هذا وأريد من الخطاب غيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كان يعرف من قدرته تعالى ما لا يتعاظمه لا الأول ولا الثاني فأنكر اختلافهم في حالهم تعجبا وإضرابهم عن مثل تلك الآيات البينات والاعتراض عليه بأن الإضراب عن الكلام الأول إنما يحسن إذا كان الثاني أغرب ليحصل الترقي ، وإيثار أن الهمزة للتقرير وهو قول آخر في الآية لذلك غير قادح لأن تعجبهم عن هذا دون الأول هو المنكر وهو الأغرب فافهم ، وبأن المنكر ينبغي أن يكون مقررا عند السامع معلوما عنده ، وهذا ابتداء إعلام منه تعالى على ما يعرف من سبب النزول. كذلك لأن الإنكار من تعجبهم ويكفي في ذلك معرفتها إجمالا وكانت حاصلة كيف وقد علمت أنه راجع إلى الغير أعني أصحاب الكتاب الذين أمروا قريشا بالسؤال وكانوا عالمين ، ثم إنه مشترك الإلزام لأن التقرير أيضا يقتضي العلم بل أولى انتهى ، وقال الطبري : المراد إنكار ذلك الحسبان عليه عليه الصلاة والسلام على معنى لا يعظم ذلك عندك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة فإن سائر آيات الله تعالى أعظم من قصتهم وزعم أن هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق وفي القلب منه شيء ، وقيل : المراد من الاستفهام إثبات أنهم عجب كأنه قيل أعلم أنهم عجب كما تقول أعلمت أن فلانا فعل كذا أي قد فعل فاعله.

والمقصود بالخطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا وليس بشيء ، وزعم الطيبي أن الوجه أن يجري الكلام على التسلي والاستفهام على التنبيه ويقال : إنه عليه الصلاة والسلام لما أخذه من الكآبة والأسف من إباء القوم عن الإيمان ما أخذه قيل له ما قيل وعلل بقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا) إلى آخره على معنى أنا جعلنا ذلك لنختبرهم وحين لم تتعلق إرادتنا بإيمانهم تشاغلوا به عن آياتنا وشغلوا عن الشكر وبدلوا الإيمان بالكفران فلم نبال بهم وإنا لجاعلون أبدانهم جرزا لأسيافكم كما إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ألا ترى إلى أولئك الفتيان كيف اهتدوا وفروا إلى الله تعالى وتركوا زينة الدنيا وزخرفها فأووا إلى الكهف قائلين (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) وكما تعلقت الإرادة بإرشادهم فاهتدوا تتعلق بإرشاد قوم من أمتك يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين اه ، ويكاد يكون أعجب من قصة أهل الكهف فتأمل ، والحسبان إما بمعنى الظن أو بمعنى العلم وقد استعمل بالمعنيين ، والكهف النقب المتسع في الجبل فإن لم يكن واسعا فهو غار ، وأخرج ابن أبي حاتم أنه غار الوادي ، وعن مجاهد أنه فرجة بين الجبلين ، وعن أنس هو الجبل وهو غير مشهور في اللغة ، والرقيم اسم كلبهم على ما روي عن أنس (١) والشعبي وجاء في رواية عن ابن جبير ويدل عليه قول أمية بن أبي الصلت :

وليس بها إلا الرقيم مجاورا

وصيدهمو والقوم في الكهف هجدا

__________________

(١) رواه عنه ابن أبي حاتم اه منه.

٢٠٠