روح المعاني - ج ٨

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٨

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٨

وقد صرح الخفاجي أن ذلك كتقابل الجمع بالجمع ، وجوز الزجاج كون (سِنِينَ) مجرورا على أنه نعت (مِائَةٍ) وهو راجع في المعنى إلى جملة العدد كما في قول عنترة :

فيها اثنتان وأربعون حلوبة

سودا كخافية الغراب الأسحم

حيث جعل سودا نعتا لحلوبة وهي في المعنى نعت لجملة العدد ، وقال أبو علي : لا يمتنع أن يكون الشاعر اعتبر حلوبة جمعا وجعل سودا وصفا لها وإذا كان المراد به الجمع فلا يمتنع أن يقع تفسيرا لهذا الضرب من العدد من حيث كان على لفظ الآحاد كما يقال عشرون نفرا وثلاثون قبيلا. وقرأ حمزة والكسائي وطلحة ويحيى والأعمش والحسن وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي «ثلاثمائة سنين» بإضافة مائة إلى سنين وما نقل عن الزجاج يرد هنا أيضا ويرد بما رد به هناك ، ولا وجه لتخصيص الإيراد بنصب سنين على التمييز فإن منشأ اللزوم على فرض تسليمه كونه تمييزا وهو متحقق إذا جر أيضا وجر تمييز المائة بالإضافة أحد الأمرين المشهورين فيه استعمالا ، وثانيهما كونه مفردا ولكون الإفراد مشهورا في الاستعمال أطلق عليه الأصل فهو أصل بحسب الاستعمال ، ولا ينافي هذا قول ابن الحاجب : إن الأصل في التمييز مطلقا الجمع كما سمعت آنفا لأنه أراد أنه الأصل المرفوض قياسا نظرا إلى أن المائة جمع كثلاثة وأربعة ونحوهما كذا في الكشف ، وقد يخرج عن الاستعمال المشهور فيأتي مفردا منصوبا كما في قوله :

إذا عاش الفتى مائتين عاما

فقد ذهب اللذاذة والفتاء

وقد يأتي جمعا مجرورا بالإضافة كما في الآية على قراءة الكسائي وحمزة ومن معهما لكن قالوا : إن الجمع المذكور فيها قد أجري مجرى العاري عن علامة الجمع لما أن العلامة فيه ليست متمحضة للجمعية لأنها كالعوض عن لام مفرده المحذوفة حتى أن قوما لا يعربونه بالحروف بل يجرونه مجرى حين ، ولم أجد فيما عندي من كتب العربية شاهدا من كلام العرب لإضافة المائة إلى جمع ، وأكثر النحويين يوردون الآية على قراءة حمزة والكسائي شاهدا لذلك وكفى بكلام الله تعالى شاهدا. وقرأ أبي «ثلاثمائة سنة» بالإضافة والإفراد كما هو الاستعمال الشائع وكذا في مصحف ابن مسعود ، وقرأ الضحاك «ثلاثمائة سنون» بالتنوين ورفع سنون على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي سنون ، وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه «تسعا» بفتح التاء وهو لغة فيه فاعلم والله تعالى أعلم (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي جميع ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما فالغيب مصدر بمعنى الغائب والخفي جعل عينه للمبالغة واللام للاختصاص العلمي أي له تعالى ذلك علما ويلزم منه ثبوت علمه سبحانه بسائر المخلوقات لأن من علم الخفي علم غيره بالطريق الأولى.

(أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) صيغتا تعجب والهاء ضميره تعالى ، والكلام مندرج تحت القول فليس التعجب منه سبحانه ليقال ليس المراد منه حقيقته لاستحالته عليه تعالى بل المراد أن ذلك أمر عظيم من شأنه أن يتعجب منه كما قيل ولا يمتنع صدور التعجب من بعض صفاته سبحانه وأفعاله عزوجل حقيقة من غيره تعالى.

وفي الحديث ما أحلمك عمن عصاك وأقربك ممن دعاك وأعطفك على من سألك ، ولهم في هذه المسألة كلام طويل فليرجع إليه من أراده ، ولابن هشام رسالة في ذلك ، وأيّا ما كان ففيه إشارة إلى أن شأن بصره تعالى وسمعه عزوجل وهما صفتان غير راجعتين إلى صفة العلم خارج عما عليه بصر المبصرين وسمع السامعين فإن اللطيف والكثيف والصغير والكبير والجلي والخفي والسر والعلن على حد سواء في عدم الاحتجاب عن بصره وسمعه تبارك وتعالى بل من الناس من قال : إن المعدوم والموجود في ذلك سواء وهو مبني على شيئية المعدوم والخلاف في ذلك

٢٤١

معلوم ولعل تقديم ما يدل على عظم شأن بصره عزوجل لما أن ما نحن بصدده من قبيل المبصرات والأصل أبصر وأسمع والهمزة للصيرورة لا للتعدية أي صار ذا بصر وصار ذا سمع ولا يقتضي ذلك عدم تحققهما له تعالى تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وفيهما ضمير مستتر عائد عليه سبحانه ثم حولا إلى صيغة الأمر وبرز الضمير الفاعل لعدم لياقة صيغة الأمر لتحمل ضمير الغائب وجر بالباء الزائدة فكان له محلان الجر لمكان الباء والرفع لمكان كونه فاعلا ، ولكونه صار فضلة صورة أعطي حكمها فصح حذفه من الجملة الثانية مع كونه فاعلا والفاعل لا يجوز حذفه عندهم ، ولا تكاد تحذف هذه الباء في هذا الموضع إلا إذا كان المتعجب منه أن وصلتها نحو أحسن أن تقول ، وهذا الفعل لكونه ماضيا معنى قيل إنه مبني على فتح مقدر منع من ظهوره مجيئه على صورة الأمر وهذا مذهب س في هذا التركيب ، قال الرضي : وضعف ذلك بأن الأمر بمعنى الماضي مما لم يعهد بل جاء الماضي بمعنى الأمر كما في حديث اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه ، وبأن صار ذا كذا قليل ولو كان ما ذكر منه لجاز ألحم بزيد وأشحم بزيد ، وبان زيادة الباء في الفاعل قليل والمطرد زيادتها في المفعول.

وتعقب بأن كون الأمر بمعنى الماضي مما لم يعهد غير مسلم ألا ترى أن كفى به بمعنى اكتف به عند الزجاج وقصد بهذا النقل الدلالة على أنه قصد به معنى إنشائي وهو التعجب ، ولم يقصد ذلك من الماضي لأن الإنشاء أنسب بصيغة الأمر منه لأنه خبر في الأكثر ، وبأن كثرة أفعل بمعنى صار ذا كذا لا تخفى على المتتبع ، وجواز ألحم بزيد على معنى التعجب لازم ولا محذور فيه وعلى معنى آخر غير لازم ، نعم ما ذكر من قلة زيادة الباء في الفاعل مما لا كلام فيه ، والإنصاف أن مذهب س في هذه المسألة لا يخلو عن تعسف. ومذهب الأخفش وعزاه الرضي إلى الفراء أن أفعل في نحو هذا التركيب أمر لفظا ومعنى فإذا قلت أحسن بزيد فقد أمرت كل واحد بأن يجعل زيدا حسنا ومعنى جعله كذلك وصفه به فكأنك قلت صفه بالحسن كيف شئت فإن فيه منه كل ما يمكن أن يكون في شخص كما قال الشاعر :

لقد وجدت مكان القول ذا سعة

فإن وجدت لسانا قائلا فقل

وهذا المعنى مناسب للتعجب بخلاف تقدير س ، وأيضا همزة الجعل أكثر من همزة صار ذا كذا وإن لم يكن شيء منهما على ما قال الرضي قياسا مطردا ، واعتبر الفاعل ضمير المأمور وهو كل أحد لأن المراد أنه لظهور الأمر يؤمر كل أحد لا على التعيين بوصفه بما ذكر ، ولم يتصرف في أفعل على هذا المذهب فيسند إلى مثنى أو مجموع أو مؤنث لما ذكروا من علة كون فعل للتعجب غير متصرف وهي مشابهته الحروف في الإنشاء وكون كل لفظ من ألفاظه صار علما لمعنى من المعاني ، وإن كان هناك جملة فالقياس أن لا يتصرف فيه احتياطا لتحصيل الفهم كأسماء الأعلام فلذا لم يتصرف في نعم وبئس في الأمثال ، وسهل ذلك هنا انمحاء معنى الأمر فيه كما انمحى معنى الجعل وصار لمحض إنشاء التعجب ولم يبق فيه معنى الخطاب ، والباء زائدة في المفعول ، وأجاز الزجاج أن تكون الهمزة للصيرورة فتكون الباء للتعدية أي صيره ذا حسن ، ثم إنه اعتذر لبقاء أحسن في الأحوال على صورة واحدة لكون الخطاب لمصدر الفعل أي يا حسن أحسن بزيد وفيه تكلف وسماجة. وأيضا نحن نقول أحسن بزيد يا عمرو ولا يخاطب شيئان في حالة إلا أن يقول : معنى خطاب الحسن قد انمحى ، وثمرة الخلاف بين س وغيره تظهر فيما إذا اضطر إلى حذف الباء فعلى مذهب س يلزم رفع مجروره وعلى غيره يلزم نصبه ، هذا وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون معنى الآية : أبصر بدين الله تعالى وأسمع به أي بصر بهدى الله تعالى وسمع به فترجع الهاء إما على الهدى وإما على الاسم الجليل ونقل ذلك عن ابن الأنباري وليس بشيء. وقرأ عيسى «أبصر به وأسمع» بصيغة الماضي فيهما وخرج

٢٤٢

ذلك أبو حيان على أن المراد الإخبار لا التعجب ، والضمير المجرور لله تعالى أي أبصر عباده بمعرفته سبحانه وأسمعهم ، وجوز أن يكون (أَبْصِرْ) أفعل تفضيل وكذا (أَسْمِعْ) وهو منصوب على الحالية من ضمير له وضمير (بِهِ) عائد على الغيب وليس المراد حقيقة التفضيل بل عظم شأن بصره تعالى وسمعه عزوجل ، ولعل هذا أقرب مما ذكره أبو حيان ، وحاصل المعنى عليه أنه جل شأنه يعلم غيب السموات والأرض بصيرا به وسميعا على أتم وجه وأعظمه (ما لَهُمْ) أي لأهل السموات والأرض المدلول عليه بذكرهما (مِنْ دُونِهِ) تعالى (مِنْ وَلِيٍ) من يتولى أمورهم (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ) في قضائه تعالى (أَحَداً) كائنا من كان ولا يجعل له فيه مدخلا ، وقيل يحتمل أن يعود الضمير لأصحاب الكهف وإضافة حكم للعهد على معنى ما لهم من يتولى أمرهم ويحفظهم غيره سبحانه ولا يشرك في حكمه الذي ظهر فيهم أحدا من الخلق.

وجوز ابن عطية أن يعود على معاصري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكفار المشاقين له عليه الصلاة والسلام وجعل الآية اعتراضا بتهديد ، وقيل : يحتمل أن يعود على معنى مؤمني أهل السموات والأرض. والمراد أنهم لن يتخذوا من دونه تعالى وليا ، وقيل : يعود على المختلفين في مدة لبث أصحاب الكهف أي لا يتولى أمرهم غير الله تعالى فهم لا يقدرون بغير إقداره سبحانه فكيف يعلمون بغير إعلامه عزوجل والكل كما ترى ، ثم لا يخفى عليك أن ما في النظم الكريم أبلغ في نفي الشريك من أن يقال من ولي ولا شريك.

وقرأ مجاهد «ولا يشرك» بالياء آخر الحروف والجزم ، قال يعقوب : لا أعرف وجه ذلك ، ووجه بعضهم بأنه سكن بنية الوقف. وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو حيوة وزيد وحميد بن الوزير عن يعقوب والجعفي واللؤلؤي عن أبي بكر «ولا تشرك» بالتاء ثالث الحروف والجزم على أنه نهي لكل أحد عن الشرك لا نهي له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو جعل له عليه الصلاة والسلام لجعل تعريضا بغيرة كقوله : إياك أعني واسمعي يا جارة. فيكون مآله إلى ذلك ، وجوز أن يكون الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويجعل معطوفا على (لا تَقُولَنَ) والمعنى لا تسأل أحدا عما لا تعرفه من قصة أصحاب الكهف ولبثهم واقتصر على ما يأتيك في ذلك من الوحي أو لا تسأل أحدا عما أخبرك الله تعالى به من نبأ مدة لبثهم واقتصر على بيانه سبحانه ولا يخفى ما فيه من كثرة مخالفة الظاهر وإن كان أشد مناسبة لقوله تعالى :

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) ووجه الربط على القراءة المشهورة حسبما تقدم من تفسيرها أنه سبحانه لما ذكر قصة أصحاب الكهف وكانت من المغيبات بالإضافة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودل اشتمال القرآن عليها على أنه وحي معجز من حيثية الاشتمال وإن كانت جهة إعجازه غير منحصرة في ذلك أمره جل شأنه بالمواظبة على درسه بقوله سبحانه (وَاتْلُ) إلخ وهو أمر من التلاوة بمعنى القراءة أي لازم تلاوة ذلك على أصحابك أو مطلقا ولا تكترث بقول من يقول لك ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، وجوز أن يكون (اتْلُ) أمرا من التلو بمعنى الاتباع أي اتبع ما أوحي إليك والزم العمل به ، وقيل وجه الربط أنه سبحانه لما نهاه عن المراء المتعمق فيه وعن الاستفتاء أمره سبحانه بأن يتلو ما أوحي إليه من أمرهم فكأنه قيل اقرأ ما أوحي إليك من أمرهم واستغن به ولا تتعرض لأكثر من ذلك أو اتبع ذلك وخذ به ولا تتعمق في جدالهم ولا تستفت أحدا منهم فالكلام متعلق بما تقدم من النواهي ، والمراد بما أوحي إلخ هو الآيات المتضمنة شرح قصة أصحاب الكهف ، وقيل : متعلق بقوله تعالى : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) أي قل لهم ذلك واتل عليهم أخباره عن مدة لبثهم فالمراد بما أوحي إلخ ما تضمن هذا الإخبار ، وهذا دون ما قبله بكثير بل لا ينبغي أن يلتفت إليه ، والمعول عليه أن المراد بما أوحي ما هو أعم مما تضمن القصة وغيره من كتابه تعالى.

(لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) لا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها غيره وأما هو سبحانه فقدرته شاملة لكل شيء يمحو ما

٢٤٣

يشاء ويثبت ، ويعلم مما ذكر اندفاع ما قيل : إن التبديل واقع لقوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً) [النحل : ١٠١] ، والظاهر عموم الكلمات الأخبار وغيرها ، ومن هنا قال الطبرسي : المعنى لا مغير لما أخبر به تعالى ولا لما أمر والكلام على حذف مضاف أي لا مبدل لحكم كلماته انتهى ، لكن أنت تعلم أن الخبر لا يقبل التبديل أي النسخ فلا تتعلق به الإرادة حتى تتعلق به القدرة لئلا يلزم الكذب المستحيل عليه عز شأنه. ومنهم من خص الكلمات بالإخبار لأن المقام للإخبار عن قصة أصحاب الكهف وعليه لا يحتاج إلى تخصيص النكرة المنفية لما سمعت من حال الخبر ، وقول الإمام : إن النسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلا توهم لا يقتدى به.

ومن الناس من خص الكلمات بمواعيده تعالى لعباده الموحدين فكأنه قيل اتل ما أوحي إليك ولا تبال بالكفرة المعاندين فإنه قد تضمن من وعد الموحدين ما تضمن ولا مبدل لذلك الوعد ، ومآله اتل ولا تبال فإن الله تعالى ناصرك وناصر أصحابك وهو كما ترى وإن كان أشد مناسبة لما بعد ، والضمير على ما يظهر من مجمع البيان للكتاب ، ويجوز أن يكون للرب تعالى كما هو الظاهر في الضمير في قوله سبحانه :

(وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي ملجأ تعدل إليه عند إلمام ملمة ، وقال الإمام في البيان والإرشاد : وأصله من الالتحاد بمعنى الميل ، وجوز الراغب فيه أن يكون اسم مكان وأن يكون مصدرا ، وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هنا بالمدخل في الأرض وأنشد عليه حين سأله نافع بن الأرزق قول خصيب الضمري :

يا لهف نفسي ولهف غير مجدية

عني وما عن قضاء الله ملتحد

ولا داعي فيه لتفسيره بالمدخل في الأرض ليلتجأ إليه ، ثم إذا كان المعنى بالخطاب سيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالكلام مبني على الفرض والتقدير إذ هو عليه الصلاة والسلام بل خلص أمته لا تحدثهم أنفسهم بطلب ملجأ غيره تعالى ، نسأله سبحانه أن يجعلنا ممن التجأ إليه وعول في جميع أموره عليه فكفاه جل وعلا ما أهمه وكشف عنه غياهب كل غمه.

هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) قد تقدم أن مقام العبودية لا يشابهه مقام ولا يدانيه ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أعلى مراقيه ، وقد ذكر أن العبد الحقيقي من كان حرا عن الكونين وليس ذاك إلا سيدهما صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) قد تقدم في التفسير أن الضمير المجرور عائد على (الْكِتابَ) وجعله بعض أهل التأويل عائدا على (عَبْدِهِ) أي لم يجعل له عليه الصلاة والسلام انحرافا عن جنابه وميلا إلى ما سواه وجعله مستقيما في عبوديته سبحانه ، وجعل الأمر في قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أمر تكوين (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) وهو بأس الحجاب والبعد عن الجناب وذلك أشد العذاب (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥] (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) [الإسراء : ٩] وهي الأعمال التي أريد بها وجه الله تعالى لا غير ، وقيل العمل الصالح التبري من الوجود بوجود الحق (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) وهي رؤية المولى ومشاهدة الحق بلا حجاب (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) فيه إشارة إلى مزيد شفقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم واهتمامه وحرصه على موافقة المخالفين وانتظامهم في سلك الموافقين (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ) من الأنهار والأشجار والجبال والمعادن والحيوانات (زِينَةً لَها) أي لأهلها (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فيجعل ذلك مرآة لمشاهدة أنوار جلاله وجماله سبحانه عزوجل ، وقال ابن عطاء : حسن العمل الإعراض عن الكل ، وقال الجنيد : حسن

٢٤٤

العمل اتخاذ ذلك عبرة وعدم الاشتغال به. وقال بعضهم : أهل المعرفة بالله تعالى والمحبة له هم زينة الأرض وحسن العمل النظر إليهم بالحرمة.

(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) كناية عن ظهور فناء ذلك بظهور الوجود الحقاني والقيامة الكبرى (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) قال الجنيد قدس الله سره : أي لا تتعجب منهم فشأنك أعجب من شأنهم حيث أسري بك ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وبلغ بك سدرة المنتهى وكنت في القرب كقاب قوسين أو أدنى ثم ردك قبل انقضاء الليل إلى مضجعك.

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) قيل هم فتيان المعرفة الذين جبلوا على سجية الفتوة ، وفتوتهم إعراضهم عن غير الله تعالى فأووا إلى الكهف الخلوة به سبحانه (فَقالُوا) حين استقاموا في منازل الأنس ومشاهد القدس وهيجهم ما ذاقوا إلى طلب الزيادة والترقي في مراقي السعادة (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) معرفة كاملة وتوحيدا عزيزا (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) بالوصول إليك والفناء فيك (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) كناية عن جعلهم مستغرقين فيه سبحانه فانين به تعالى عما سواه (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) إشارة إلى ردهم إلى الصحو بعد السكر والبقاء بعد الفناء ، ويقال أيضا : هو إشارة إلى الجلوة بعد الخلوة وهما قولان متقاربان (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) الإيمان العلمي (وَزِدْناهُمْ هُدىً) بأن أحضرناهم وكاشفناهم (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) سكناها عن التزلزل بما أسكنا فيها من اليقين فلم يسنح فيها هواجس التخمين ولا وساوس الشياطين ، ويقال أيضا : رفعناها من حضيض التلوين إلى أوج التمكين.

(إِذْ قامُوا) بنا لنا (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مالك أمرهما ومدبرهما فلا قيام لهما إلا بوجوده المفاض من بحار جوده (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) إذ ما من شيء إلا وهو محتاج إليه سبحانه فلا يصلح لأن يدعى (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) كلاما بعيدا عن الحق مفرطا في الظلم ، واستدل بعض المشايخ بهذه الآية على أنه ينبغي للسالكين إذا أرادوا الذكر وتحلقوا له أن يقوموا فيذكروا قائمين ، قال ابن الغرس : وهو استدلال ضعيف لا يقوم به المدعي على ساق.

وأنت تعلم أنه لا بأس بالقيام والذكر لكن على ما يفعله المتشيخون اليوم فإن ذلك لم يكن في أمة من الأمم ولم يجىء في شريعة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل لعمري أن تلك الحلق حبائل الشيطان وذلك القيام قعود في بحبوحة الخذلان (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) أي وإذ خرجتم عن صحبة أهل الهوى وأعرضتم عن السوي (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) فاخلوا بمحبوبكم (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) مطوي معرفته (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) ما تنتفعون به من أنوار تجلياته ولطائف مشاهداته ، قال بعض العارفين : العزلة عن غير الله تعالى توجب الوصلة بالله عزوجل بل لا تحصل الوصلة إلا بعد العزلة ألا ترى كيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتجنب بغار حراء حتى جاءه الوحي وهو فيه (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) لئلا يكثر الضوء في الكهف فيقل معه الحضور ، فقد ذكروا أن الظلمة تعين على الفكر وجمع الحواس ، ومن هنا ترى أهل الخلوة يختارون لخلوتهم مكانا قليل الضياء ومع هذا يغمضون أعينهم عند المراقبة.

وفي أسرار القرآن أن في الآية إشارة إلى أن الله تعالى حفظهم عن الاحتراق في السبحات فجعل شمس الكبرياء تزاور عن كهف قربهم ذات يمين الأزل وذات شمال الأبد وهم في فجوة وصال مشاهدة الجمال والجلال محروسون

٢٤٥

محفوظون عن قهر سلطان صرف الذات الأزلية التي تتلاشى الأكوان في أول بوادي إشراقها.

وفي الحديث «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره» وقيل : في تأويله إن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردات وهي حالة السكر وغلبة الوجد لا تنصرف في خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقبى وهو جانب اليمين وإذا غربت أي سكنت تلك الغلبة وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في فراغ عما يشغلهم عن الله تعالى.

وذكر أن فيه إشارة إلى أن نور ولايتهم يغلب نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن نار جهنم وليس هذا بشيء وإن روي عن ابن عطاء (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) الذي رفعت عنه الحجب ففاز بما فاز (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) لأنه لا يخذله سبحانه إلا لسوء استعداده ومتى فقد الاستعداد تعذر الإرشاد (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) إشارة إلى أنهم مع الخلق بأبدانهم ومع الحق بأرواحهم ، وقال ابن عطاء : هم مقيمون في الحضرة كالنومى لا علم لهم بزمان ولا مكان أحياء موتى صرعى مفيقون نومى منتبهون (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) أي ننقلهم من عالم إلى عالم ؛ وقال ابن عطاء : نقلبهم في حالتي القبض والبسط والجمع والفرق ، وقال آخر : نقلبهم بين الفناء والبقاء والكشف والاحتجاب والتجلي والاستتار ، وقيل في الآية إشارة إلى أنهم في التسليم كالميت في يد الغاسل (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) قال أبو بكر الوراق : مجالسة الصالحين ومجاورتهم غنيمة وإن اختلف الجنس ألا ترى كيف ذكر الله سبحانه كلب أصحاب الكهف معهم لمجاورته إياهم.

وقيل أشير بالآية إلى أن كلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال ، وقيل يمكن أن يراد أن نفوسهم صارت بحيث تطيعهم جميع الأحوال وتحرسهم عما يضرهم (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) أي لو اطلعت من حيث أنت على ما ألبستهم من لباس قهر ربوبيتي وسطوات عظمتي (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ) أي من رؤية ما عليهم من هيبتي وعظمتي (فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) كما فر موسى كليمي من رؤية عصاه حين قلبتها حية وألبستها ثوبا من عظمتي وهيبتي ، وهذا الفرار حقيقة منا لأنه من عظمتنا الظاهرة في هاتيك المرآة كذا قرره غير واحد وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه.

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) رددناهم إلى الصحو بعد السكر (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنهم كانوا مستغرقين لا يعرفون اليوم من الأمس ولا يميزون القمر من الشمس ، وقيل : إنهم استقلوا أيام الوصال وهكذا شأن عشاق الجمال فسنة الوصل في سنتهم سنة وسنة الهجر سنة ، ويقال : مقام المحب مع الحبيب وإن طال قصير وزمان الاجتماع وإن كثر يسير إذ لا يقضى من الحبيب وطر وإن فني الدهر ومر ولا يكاد يعد المحب الليال إذا كان قرير العين بالوصال كما قيل :

أعد الليالي ليلة بعد ليلة

وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا

ثم إنهم لما رجعوا من السكر إلى الصحو ومن الروحانية إلى البشرية طلبوا ما يعيش به الإنسان واستعملوا حقائق الطريقة وذلك قوله تعالى : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ) والإشارة فيه أولا إلى أن اللائق بطالبي الله تعالى ترك السؤال ، ويرد به على المتشيخين الذين دينهم وديدنهم السؤال وليته كان من الحلال. وثانيا إلى أن اللائق بهم أن لا يختص أحدهم بشيء دون صاحبه ألا ترى كيف قال قائلهم (بِوَرِقِكُمْ هذِهِ) فأضاف الورق إليهم جملة وقد كان فيما يروي فيهم الراعي ولعله لم يكن له ورق. وثالثا

٢٤٦

إلى أن اللائق بهم استعمال الورع ألا ترى كيف طلب القائل الأزكى وهو على ما في بعض الروايات الأجل ، ولذلك قال ذو النون : العارف من لا يطفئ نور معرفته نور ورعه ، والعجب أن رجلا من المتشيخين كان يأخذ من بعض الظلمة دنانير مقطوعا بحرمتها فقيل له في ذلك فقال : نعم هي جمرات ولكن تطفئ حرارة جوع السالكين ، ومع هذا وأمثاله له اليوم مرقد يطوف به من يزور وتوقد عليه السرج وتنذر له النذور ، ورابعا إلى أنه ينبغي لهم التواصي بحسن الخلق وجميل الرفق ألا ترى كيف قال قائلهم (وَلْيَتَلَطَّفْ) بناء على أنه أمر بحسن المعاملة مع من يشتري منه.

وقال بعض أهل التأويل : إنه أمر باختيار اللطيف من الطعام لأنهم لم يأكلوا مدة فالكثيف يضر بأجسامهم ، وقيل : أرادوا اللطيف لأن أرواحهم من عالم القدس ولا يناسبها إلا اللطيف ، وعن يوسف بن الحسين أنه كان يقول : إذا اشتريت لأهل المعرفة شيئا من الطعام فليكن لطيفا وإذا اشتريت للزهاد والعباد فاشتر كل ما تجد لأنهم بعد في تذليل أنفسهم ، وقال بعضهم : طعام أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات ولباسهم الخشن من المأكولات والملبوسات والذي بلغ المعرفة فلا يوافقه إلا كل لطيف ، ويروى عن الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره أنه كان في آخر أمره يلبس ناعما ويأكل لطيفا. وعندي أن التزام ذلك يخل بالكمال ، وما يروى عن الشيخ قدس‌سره وأمثاله إن صح يحتمل أن يكون أمرا اتفاقيا ، وعلى فرض أنه كان عن التزام يحتمل أنه كان لغرض شرعي وإلا فهو خلاف المأثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم ، فقد بين في الكتب الصحيحة حالهم في المأكل والملبس وليس فيها ما يؤيد كلام يوسف بن الحسين وأضرابه والله تعالى أعلم (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) أي من الأغيار المحجوبين عن مطالعة الأنوار والوقوف على الأسرار (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ) بأحجار الإنكار (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) التي اجتمعوا عليها ولم ينزل الله تعالى بها من سلطان (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) لأن الكفر حينئذ يكون كالكفر الإبليسي (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) إرشاد إلى محض التجريد والتفريد ، ويحكى عن بعض كبار الصوفية أنه أمر بعض تلامذته بفعل شيء فقال : أفعله إن شاء الله تعالى فقال له الشيخ بالفارسية ما معناه : يا مجنون فإذا من أنت ، والآية تأبى هذا الكلام غاية الإباء وفيه على مذهب أهل الوحدة أيضا ما فيه ، وقيل الآية نهي عن أن يحبرصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحق بدون إذن الحق سبحانه. ففيه إرشاد للمشايخ إلى أنه لا ينبغي لهم التكلم بالحقائق بدون الإذن ولهم أمارات للإذن يعرفونها.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) قيل أي إذا نسيت الكون بأسره حتى نفسك فإن الذكر لا يصفو إلا حينئذ ، وقيل إذا نسيت الذكر ، ومن هنا قال الجنيد قدس‌سره : حقيقة الذكر الفناء بالمذكور عن الذكر ، وقال قدس‌سره في قوله تعالى : (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) إن فوق الذكر منزلة هي أقرب منزلة من الذكر وهي تجديد النعوت بذكره سبحانه لك قبل أن تذكره جل وعلا (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) زعم بعض أهل التأويل أن مجموع ذلك خمس وعشرون سنة واعتبر السنة التي في الآية شهرا وهو زعم لا داعي إليه إلا ضعف الدين ومخالفة جماعة المسلمين وإلا فأي ضرر في إبقاء ذلك على ظاهره وهو أمر ممكن أخبر به الصادق ، ومما يدل على إمكان هذا اللبث أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من الشفاء أن أرسطو ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف قال أبو علي : ويدل التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف انتهى.

وفي الآية على ما قيل إشارة إلى أن المريد الذي يربيه الله سبحانه بلا واسطة المشايخ يصل في مدة مديدة وسنين عديدة والذي يربيه جل جلاله بواسطتهم يتم أمره في أربعينيات وقد يتم في أيام معدودات ، وأنا أقول لا حجر على الله سبحانه وقد أوصل جل وعلا كثيرا من عباده بلا واسطة في سويعات (لَهُ) تعالى شأنه (غَيْبُ السَّماواتِ)

٢٤٧

عالم العلو (وَالْأَرْضِ) عالم السفل ولا يخفى أن عنوان الغيبة إنما هو بالنسبة إلى المخلوقين وإلا فلا غيب بالنسبة إليه جل جلاله ؛ ومن هنا قال بعضهم : إنه سبحانه لا يعلم الغيب بمعنى أنه لا غيب بالنسبة إليه تعالى ليتعلق به العلم لكن أنت تعلم أنه لا يجوز التكلم بمثل هذا الكلام وإن أول بما أول لما فيه ظاهرا من مصادمة الآيات.

وإلى الله تعالى نشكو أقواما ألغزوا الحق وفتنوا بذلك الخلق (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) أي ما أبصره تعالى وما أسمعه لأن صفاته عين ذاته (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) إذ لا فعل لأحد سواه تعالى (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) لكمال قدرته سبحانه وعجز غيره عز شأنه ، هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما

٢٤٨

خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩) وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً)(٦١)

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) أي احبسها وثبتها يقال صبرت زيدا أي حبسته ، وفي الحديث النهي عن صبر الحيوان أي حبسه للرمي ، واستعمال ذلك في الثبات على الأمر وتحمله توسع ، ومنه الصبر بمعناه المعروف ، ولم يجعل هذا منه لتعدي هذا ولزومه (مَعَ الَّذِينَ) أي مصاحبة مع الذين (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) أي يعبدونه دائما ، وشاع استعمال مثل هذه العبارة للدوام وهي نظير قولهم : ضرب زيد الظهر والبطن يريدون به ضرب جميع بدنه ، وأبقى غير واحد الغداة والعشي على ظاهرهما ولم يرد عموم الأوقات أي يعبدونه في طرفي النهار ، وخصا بالذكر لأنهما محل الغفلة والاشتغال بالأمور ، والمراد بتلك العبادة قيل ذكر الله تعالى وروي ذلك من طريق مغيرة عن إبراهيم ، وقيل : قراءة القرآن ، وروي ذلك عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي بن الخيار ، وأخرج الحكيم الترمذي عن ابن جبير أن المراد بها المفاوضة في الحلال والحرام.

وعن ابن عمر ومجاهد هي شهود الصلوات الخمس ، وعن قتادة شهود صلاة الصبح والعصر ، وفيما تقدم ما يؤيد ثاني الأقوال وفيما بعد ما يؤيد ظاهره أولها فتدبر جدا ، والمراد بالموصول فقراء الصحابة عمار وصهيب وسلمان

٢٤٩

وابن مسعود وبلال وأضرابهم قال كفار قريش كأمية بن خلف وغيره من صناديد أهل مكة لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك فإن ريح جبابهم تؤذينا فنزلت الآية ، وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن سلمان قال : جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيينة بن بدر والأقرع بن حابس فقالوا : يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف جالسناك أو حدثناك وأخذنا عنك فأنزل الله تعالى (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) إلى قوله سبحانه (أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً) يتهددهم بالنار ، وروى أبو الشيخ عن سلمان أنها لما نزلت قام رسول الله عليه الصلاة والسلام يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى فقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي معكم الحياة والممات.

والآية على هذا مدنية وعلى الأول مكية ، قال أبو حيان : وهو أصح لأن السورة مكية ، وأقول : أكثر الروايات تؤيد الثاني وعليه تكون الآيات مستثناة من حكم السورة وكم مثل ذلك ، وقد أخرج ما يؤيد الأول ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ولعل الآيات بعد تؤيده أيضا ، والتعبير عن أولئك بالموصول لتعليل الأمر بما في حيز الصلة من الخصلة الداعية إلى إدامة الصحبة. وقرأ ابن عامر «بالغدوة» وخرج ذلك على ما ذكره سيبويه والخليل من أن بعض العرب ينكر غدوة فيقول : جاء زيد غدوة بالتنوين ، على أن الرضي قال : إنه يجوز استعمالها نكرة اتفاقا ، والمشهور أن الأكثر استعمالها علم جنس ممنوعا من الصرف فلا تدخل عليها أل لأنه لا يجتمع في كلمة تعريفان ، ومتى أريد إدخالها عليها قصد تنكيرها فأدخلت كما قصد تنكير العلم الشخصي في قوله :

وقد كان منهم صاحب وابن عمه

أبو جندل والزيد زيد المعارك

والقراءة المذكورة مخرجة على ذلك ، واختار بعض المحققين التخريج الأول وقال : إنه أحسن دراية ورواية لأن التنكير في العلم الشخصي ظاهر وأما في الجنسي ففيه خفاء لأنه شائع في إفراده قبل تنكيره فتنكيره إنما يتصور بترك حضوره في الذهن الفارق بينه وبين النكرة ، وهو خفي فلذا أنكره الفناري في حواشيه على التلويح في تنكير رجب علم الشهر انتهى ، وللبحث فيه محالّ.

وهذه الآية كما في البحر أبلغ من التي في الأنعام وهي قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ)(يُرِيدُونَ) بذلك الدعاء (وَجْهَهُ) أي رضاه سبحانه وتعالى دون الرياء والسمعة بناء على ما قاله الإمام السهيلي من أن الوجه إذا أضيف إليه تعالى يراد به الرضا والطاعة المرضية مجازا لأن من رضي على شخص يقبل عليه ومن غضب يعرض عنه ، وقيل : المراد بالوجه الذات والكلام على حذف مضاف.

وقيل : هو بمعنى التوجه ، والمعنى يريدون التوجه إليه تعالى والزلفى لديه سبحانه ، والأول أولى ، والجملة في موضع الحال من فاعل «يدعون» أي يدعون مريدين ذلك.

(وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) أي لا تصرف عيناك النظر عنهم إلى أبناء الدنيا ، والمراد النهي عن احتقارهم وصرف النظر عنهم لرثاثة حالهم إلى غيرهم فعدا بمعنى صرف المتعدي إلى مفعول بنفسه وإلى آخر بعن ، قال في القاموس يقال : عداه عن الأمر عدوا وعدوانا صرفه ، واختار هذا أبو حيان وهو الذي قدر المفعول كما سمعت وقد تتعدى عدا إلى مفعول واحد بعن كما تتعدى إليه بنفسها فتكون بمعنى جاوز وترك ؛ قال في القاموس : يقال عدا الأمر وعنه جاوزه وتركه ، وجوز أن يكون معنى الآية على ذلك كأنه قيل لا تتركهم عيناك ، وقيل : إن عدا حقيقة معناه تجاوز كما صرح به الراغب والتجاوز لا يتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو كما صرحوا به أيضا وهو هنا غير مراد فلا بد من تضمين عدا

٢٥٠

معنى نبا وعلا في قولك : نبت عنه عينه وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به ، وهو الذي ذهب إليه الزمخشري ثم قال : لم يقل ولا تعدهم عيناك أو ولا تعل عيناك عنهم وارتكب التضمين ليعطي الكلام مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك : ولا تقحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم ، وتعقبه أبو حيان بأن التضمين لا ينقاس عند البصريين وإنما يذهب إليه عند الضرورة ، أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوضعي فإنه يكون أولى ، واعترض أيضا ما قيل : بأنه لا يلزم من اتحاد الفعلين في المعنى اتحادهما في التعدية فلا يلزم من كون عدا بمعنى تجاوز أن يتعدى كما يتعدى ليقال : إن التجاوز لا يتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو وهو غير مراد ، فلا بد من تضمين عدا معنى فعل متعد بعن ، ويكفي كلام القاموس مستندا لمن خالف الزمخشري فتدبر ولا تغفل.

وقرأ الحسن «ولا تعد عينيك» بضم التاء وسكون العين وكسر الدال المخففة من أعداه ونصب العينين ، وعنه وعن عيسى والأعمش أنهم قرءوا «ولا تعد عينيك» بضم التاء وفتح العين وتشديد الدال المكسورة من عداه يعديه ونصب العينين أيضا ، وجعل الزمخشري ، وصاحب اللوامح الهمزة والتضعيف للتعدية.

وتعقب ذلك في البحر بأنه ليس بجيد بل الهمزة والتضعيف في هذه الكلمة لموافقة أفعل وفعل للفعل المجرد وذلك لأنه قد أقر الزمخشري بأنها قبل ذينك الأمرين متعدية بنفسها إلى واحد وعديت بعن للتضمين فمتى كان الأمران للتعدية لزم أن تتعدى إلى اثنين مع أنها لم تتعد في القراءتين المذكورتين إليهما.

(تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي تطلب مجالسة من لم يكن مثلهم من الأغنياء وأصحاب الدنيا ، والجملة على القراءة المتواترة حال من كاف (عَيْناكَ) وجازت الحال منه لأنه جزء المضاف إليه ، والعامل على ما قيل معنى الإضافة وليس بشيء.

وقال في الكشف : العامل الفعل السابق كما تقرر في قوله تعالى (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [البقرة : ١٣٥] ولك أن تقول : هاهنا خاصة العين مقحمة للتأكيد ولا يبعد أن يجعل حالا من الفاعل ، وتوحيد الضمير إما لاتحاد الإحساس أو للتنبيه على مكان الإقحام أو للاكتفاء بأحدهما عن الآخر أو لأنهما عضو واحد في الحقيقة ، واستبشاع إسناد الإرادة إلى العين مندفع بأن إرادتها كناية عن إرادة صاحبها ألا ترى إلى ما شاع من نحو قولهم : يستلذه العين أو السمع وإنما المستلذ الشخص على أن الإرادة يمكن جعلها مجازا عن النظر للهو لا للعبر اه.

ولا يخفى أن فيه عدولا عن الظاهر من غير داع ، وقول بعضهم : إنه لا يجوز مجيء الحال من المضاف إليه في مثل هذا الموضع لاختلاف العامل في الحال وذيها لا يصلح داعيا لظهور ضعفه ، ثم الظاهر أنه لا فرق في جواز كون الجملة حالا من المضاف إليه أو المضاف على تقدير أن يفسر (تَعْدُ) بتجاوز وتقدير أن تفسر بتصرف.

وخص بعضهم كونها حالا من المضاف إليه على التقدير الأول وكونها حالا من المضاف على التقدير الثاني ولعله أمر استحساني ، وذلك لأن في أول الكلام على التقدير الثاني إسناد ما هو من الأفعال الاختيارية ليس إلا وهو الصرف إلى العين فناسب إسناد الإرادة إليها في آخره ليكون أول الكلام وآخره على طرز واحد مع رعاية ما هو الأكثر في أحوال الأحوال من مجيئها من المضاف دون المضاف إليه ، وتضمن ذلك عدم مواجهة الحبيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإسناد إرادة الحياة الدنيا إليه صريحا وإن كانت مصب النهي ، وليس في أول الكلام ذلك على التقدير الأول إذ الظاهر أن التجاوز ليس من الأفعال الاختيارية لا غير بل يتصف به المختار وغيره ، مع أن في جعل الجملة حالا من الفاعل على هذا التقدير مع قول بعض المحققين إن المتجاوز في الحقيقة هو النظر احتياجا إلى اعتبار الشيء وتركه في كلام واحد ، وليس لك أن تجعله استخداما بأن تريد من العينين أولا النظر مجازا وتريد عند عود ضمير (تُرِيدُ) منهما الحقيقة لأن

٢٥١

التثنية تأبى ذلك ، وإن اعتبر ذلك أولا وآخرا ولم يترك احتيج إلى مؤن لا تخفى على المتأمل فتأمل وتدبر ، وهي على القراءتين الشاذتين حال من فاعل الفعل المستتر أي لا تعد أو لا تعد عينيك عنهم مريدا ذلك (وَلا تُطِعْ) في تنحية الفقراء عن مجلسك (مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ) أي جعلنا قلبه غافلا (عَنْ ذِكْرِنا) لبطلان استعداده للذكر بالمرة كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء فإنهم غافلون عن ذكرنا على خلاف ما عليه أولئك الفقراء من الدعاء في الغداة والعشي ، وفيه تنبيه على أن الباعث لهم إلى استدعاء الطرد غفلة قلوبهم عن جناب الله تعالى شأنه وملاحظة المعقولات وانهماكه (١) في الحسيات حتى خفي عليه أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد. ومعنى الذكر ظاهر وفسره المفضل بالقرآن.

والآية ظاهرة في مذهب أهل السنة ، وأولها المعتزلة فقيل المراد أغفلنا قلبه بالخذلان وهذا هو التأويل المشهور عندهم في أمثال ذلك وحاله معلوم عندك ، وقيل : المراد صادفناه غافلا كما في قولهم : سألناكم فما أفحمناكم وقاتلناكم فما أجبناكم. وتعقب بأنه لا ينبغي أن يتجرأ على تفسير فعل أسنده الله تعالى إليه بالمصادفة التي تفهم وجدان الشيء بغتة عن جهل سابق وعدم علم ، وقيل : المراد نسبناه إلى الغفلة كما في قول الكميت :

وطائفة قد أكفروني بحبكم

وطائفة قالوا مسيء ومذنب

وهو كما ترى ، وقال الرماني : (٢) المراد لم نسم قلبه بالذكر ولم نجعله من القلوب التي كتبنا فيها الإيمان كقلوب المؤمنين من قولهم : أغفل فلان أبله إذا تركها غفلا من غير سمة وعلامة بكى ونحوه ، ومنه إغفال الخط لعدم إعجامه فالإغفال المذكور استعارة لجعل ذكر الله تعالى الدال على الإيمان به كالسمة لأنه علامة للسعادة كما جعل ثبوت الإيمان في القلب بمنزلة الكتابة ، وهو تأويل رقيق الحاشية لطيف المعنى وإن كان خلاف الظاهر فهو مما لا بأس به لمن لم يكن غرضه منه الهرب من مذهب أهل السنة ، واحتج بعضهم على أنه ليس المراد ظاهر الآية بقوله سبحانه : (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في طلب الشهوات حيث أسند اتباع الهوى إلى العبد فيدل على أنه فعله لا فعل الله تعالى ولو كان ذلك فعل الله سبحانه والإسناد مجازي لقيل فاتبع بالفاء السببية لتفرعه عليه.

وأجيب بأن فعل العبد لكونه بكسبه وقدرته ، وخلق الله تعالى يجوز إسناده إليه بالاعتبار الأول وإلى الله تعالى بالثاني ، والتنصيص على التفريع ليس بلازم فقد يترك لنكتة كالقصد إلى الإخبار به استقلالا لأنه أدخل في الذم وتفويضا إلى السامع في فهمه ولا حاجة إلى تقدير فقيل واتبع هواه.

وقرأ عمر بن فائد وموسى الاسواري وعمرو بن عبيد «أغفلنا» بفتح الفاء واللام «قلبه» بالرفع على أنه فاعل أغفلنا ، وهو على هذه القراءة من أغفله إذا وجده غافلا ، والمراد ظننا وحسبنا غافلين عن ذكرنا له ولصنيعه بالمؤاخذة بجعل ذكر الله تعالى له كناية عن مجازاته سبحانه ، واستشكل النهي عن إطاعة أولئك الغافلين في طرد أولئك المؤمنين بأنه ورد أنهم أرادوا طردهم ليؤمنوا فكان ينبغي تحصيل إيمانهم بذلك ، وغاية ما يلزم ترتب نفع كثير وهو إيمان أولئك الكفرة على ضرر قليل وهو سقوط حرمة أولئك البررة وفي عدم طردهم لزم ترتب ضرر عظيم وهو بقاء أولئك الكفرة على كفرهم على نفع قليل.

__________________

(١) قوله وانهماكه إلى قوله حتى خفي عليه كذا بإفراد الضمير في خط المؤلف وفي أبي السعود ضمير انهماكه راجع إلى قوله الباعث له فغير المصنف له بلهم فحصل ما حصل.

(٢) وقد كان معتزليا فليحفظ اه منه.

٢٥٢

ومن قواعد الشرع المقررة تدفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى ، وأجيب بأنه سبحانه علم أن أولئك الكفرة لا يؤمنون إيمانا حقيقيا بل إن يؤمنوا يؤمنوا إيمانا ظاهريا ومثله لا يرتكب له إسقاط حرمة أولئك الفقراء الأبرار فلذا جاء النهي عن الإطاعة.

وقد يقال : يحتمل أن يكون الله تعالى قد علم أن طرد أولئك الفقراء السابقين إلى الإيمان المنقطعين لعبادة الرحمن وكسر قلوبهم وإسقاط حرمتهم لجلب الأغنياء وتطييب خواطرهم يوجب نفرة القلوب وإساءة الظن برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فربما يرتد من هو قريب عهد بإسلام ويقل الداخلون في دينه بعد ذلك عليه الصلاة والسلام. وذلك ضرر عظيم فوق ضرر بقاء شرذمة من الكفار على الكفر فلذا نهى جل وعلا عن إطاعة من أغفل قلبه واتبع هواه (وَكانَ أَمْرُهُ) في اتباع الهوى وترك الإيمان (فُرُطاً) أي ضياعا وهلاكا ، قاله مجاهد أو متقدما على الحق والصواب نابذا له وراء ظهره من قولهم : فرس فرط أي متقدم للخيل وهو في معنى ما قاله ابن زيد مخالفا للحق ، وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون الفرط بمعنى التفريط والتضييع أي كان أمره الذي يجب أن يلزم ويهتم به من الدين تفريطا ، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف أي كان أمره وهواه الذي هو سبيله إفراطا وإسرافا ، وبالإسراف فسره مقاتل ، والتعبير عن صناديد قريش المستدعين طرد فقراء المؤمنين بالموصول للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للنهي عن الإطاعة (وَقُلِ) لأولئك الذين أغفلنا قلوبهم عن الذكر واتبعوا هواهم (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي أوحي إليّ الحق و (مِنْ رَبِّكُمْ) حال مؤكدة أو خبر بعد خبر والأول أولى ، والظاهر أن قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) من تمام القول المأمور به فالفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها بطريق التهديد أي عقيب تحقيق أن ذلك حق لا ريب فيه لازم الاتباع من شاء أن يؤمن به ويتبعه فليفعل كسائر المؤمنين ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعلل ومن شاء أن يكفر به وينبذه وراء ظهره فليفعل ، وفيه من التهديد وإظهار الاستغناء عن متابعتهم التي وعدوها في طرد المؤمنين وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم وجودا وعدما ما لا يخفى.

وجوز أن يكون (الْحَقُ) مبتدأ خبره (مِنْ رَبِّكُمْ) واختار الزمخشري هنا الأول ، قال في الكشف : ووجه إيثار الحذف أن المعنى عليه أتم التئاما لأنه لما أمره سبحانه بالمداومة على تلاوة هذا الكتاب العظيم الشأن في جملة التالين له حق التلاوة المريدين وجهه تبارك وتعالى غير ملتفت إلى زخارف الدنيا فمن أوتي هذه النعمة العظمى فله بشكرها اشتغال عن كل شاغل ذيله لإزاحة الأعذار والعلل بقوله سبحانه (وَقُلِ) إلخ أي هذا الذي أوحي هو الحق فمن شاء فليدخل في سلك الفائزين بهذه السعادة ومن شاء فليكن في الهالكين انهماكا في الضلالة ، أما لو جعل مبتدأ فالتعريف إن كان للعهد رجع إلى الأول مع فوات المبالغة وإن كان للجنس على معنى جميع الحق من ربكم لا من غيره ويشمل الكتاب شمولا أوليا لم يطبق المفصل إذ ليس ما سيق له الكلام كونه منه تعالى لا غير بل كونه حقا لازم الاتباع لا غير اه.

وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق ويشعر ظاهره بحمل الدعاء على ثاني الأقوال فيه وكون المشار إليه الكتاب مطلقا لا المتضمن الأمر بصبر النفس مع المؤمنين وترك الطاعة للغافلين كما جوزه ابن عطية ، وعلى تقدير أن يكون الحق مبتدأ قيل المراد أنه القرآن كما كان المراد من المشار إليه على تقدير كونه خبرا وهو المروي عن مقاتل ، وقال الضحاك : هو التوحيد ، وقال الكرماني : الإسلام والقرآن.

وقال مكي : المراد به التوفيق والخذلان أي قل التوفيق والخذلان من عند الله تعالى يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن ويضل من يشاء فيخذله فيكفر ليس إليّ من ذلك شيء وليس بشيء كما لا يخفى.

٢٥٣

وجوز أن يكون قوله سبحانه (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ) إلخ تهديدا من جهته تعالى غير داخل تحت القول المأمور به فالفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على نفس الأمر أي قل لهم ذلك وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدقك فيه فليفعل ومن شاء أن يكفر به أو أن يكذبك فيه فليفعل ، وعلى الوجهين ليس المراد حقيقة الأمر والتخيير وهو ظاهر. وذكر الخفاجي أن الأمر بالكفر غير مراد وهو استعارة للخذلان والتخلية بتشبيه حال من هو كذلك بحال المأمور بالمخالفة ؛ ووجه الشبه عدم المبالاة والاعتناء ، وهذا كقول كثير : أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة واستدل المعتزلة بالآية على أن العبد مستقل في أفعاله موجد لها لأنه علق فيها تحقق الإيمان والكفر على محض مشيئته لأن المتبادر من الشرط أنه علة تامة للجزاء فدل على أنه مستقل في إيجادهما ولا فرق بين فعل وفعل فهو الموجد لكل أفعاله. وأجيب بأنا لو فرضنا أن مشيئة العبد مؤثرة وموجدة للأفعال لا يتم المقصود لأن العقل والنقل يدلان على توقفها على مشيئة الله تعالى وإرادته ، أما الأول فلأنهم قالوا : لو لم تتوقف على ذلك لزم الدور أو التسلسل ، وأما الثاني فلأنه سبحانه يقول (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠ ، التكوير : ٢٩] ومع هذا التوقف لا يتم أمر الاستقلال ويثبت أن العبد مضطر في صورة مختار وهو مذهب الأشاعرة ، وفي الاحياء لحجة الإسلام فإن قلت : إني أجد في نفسي وجدانا ضروريا أني إن شئت الفعل قدرت عليه وإن شئت الترك قدرت عليه فالفعل والترك بي لا بغيري قلت : هب أنك تجد من نفسك هذا المعنى ولكن هل تجد من نفسك أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة أو لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل لأن العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا لسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار فحصول المشيئة في القلب أمر لازم وترتب الفعل على حصول المشيئة أيضا أمر لازم وهذا يدل على أن الكل من الله تعالى انتهى. وبعضهم يكتفي في إثبات عدم الاستقلال بثبوت توقف مشيئة العبد على مشيئة الله تعالى وتمكينه سبحانه بالنص ولا يذكر حديث لزوم الدور أو التسلسل لما فيه من البحث ، وتمام الكلام في ذلك في كتب الكلام ، وستذكر إن شاء الله تعالى طرفا لائقا منه في الموضع اللائق به ، وقال السدي : هذه الآية منسوخة بقوله سبحانه (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ولعله أراد أن لا يراد المتبادر منها للآية المذكورة وإلا فهو قول باطل ، وحكى ابن عطية عن فرقة أن فاعل (شاءَ) في الشرطيتين ضميره تعالى ، واحتج له بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : من شاء الله تعالى له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر.

والحق أن الفاعل ضمير (مِنْ) والرواية عن الحبر أخرجها ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات فإذا صحت يحتمل أن يكون ذلك القول لبيان أن من شاء الإيمان هو من شاء الله تعالى له الإيمان ومن شاء الكفر هو من شاء الله سبحانه له ذلك لا لبيان مدلول الآية وتحقيق مرجع الضمير ، ويؤيد ذلك قوله في آخر الخبر الذي أخرجه الجماعة وهو قوله تعالى (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [التكوير : ٢٩] والله تعالى أعلم وقرأ أبو السمال قعنب (وَقُلِ الْحَقُ) بفتح اللام حيث وقع ، قال أبو حاتم : وذلك رديء في العربية ، وعنه أيضا ضم اللام حيث وقع كأنه اتباع لحركة القاف ، وقرأ أيضا (الْحَقُ) بالنصب وخرجه صاحب اللوامح على تقدير قل القول الحق و (مِنْ رَبِّكُمْ) قيل حال أي كائنا من ربكم ، وقيل : صفة أي الكائن من ربكم وفيه بحث.

وقرأ الحسن وعيسى الثقفي «فليؤمن» و «ليكفر» بكسر لام الأمر فيهما (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) للكافرين بالحق بعد ما جاء من الله سبحانه ، والتعبير عنهم بالظالمين للتنبيه على أن مشيئة الكفر واختياره تجاوز عن الحد ووضع للشيء في غير موضعه ، والجملة تعليل للأمر بما ذكر من التخيير التهديدي ، وجعلها من جعل (فَمَنْ شاءَ) إلخ تهديدا من قبله تعالى تأكيدا للتهديد وتعليلا لما يفيده من الزجر عن الكفر. وجوز كونها تعليلا لما يفهم من ظاهر التخيير من

٢٥٤

عدم المبالاة بكفرهم وقلة الاهتمام بشأنهم ، و (أَعْتَدْنا) من العتاد وهو في الأصل ادخار الشيء قبل الحاجة إليه ، وقيل : أصله أعددنا فأبدل من إحدى الدالين تاء والمعنى واحد أي هيأنا لهم (ناراً) عظيمة عجيبة (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) أي فسطاطها ، شبه به ما يحيط بهم من لهبها المنتشر منها في الجهات ثم استعير له استعارة مصرحة والإضافة قرينة والإحاطة ترشيح ، وقيل : السرادق الحجزة التي تكون حول الفسطاط تمنع من الوصول إليه ، ويطلق على الدخان المرتفع المحيط بالشيء وحمل عليه بعضهم ما في الآية وهو أيضا مجاز كإطلاقه على اللهب ، وكلام القاموس يوهم أنه حقيقة ، والمروي عن قتادة تفسيره بمجموع الأمرين اللهب والدخان.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه حائط من نار ، وحكى الكلبي أنه عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار ، وحكى القاضي الماوردي أنه البحر المحيط بالدنيا يكون يوم القيامة نارا ويحيط بهم ، واحتج له بما أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ وابن أبي حاتم وصححه والبيهقي في البعث وآخرون عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن البحر هو من جهنم ثم تلا (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) والسرادق قال الراغب : فارسي معرب وليس من كلامهم اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان انتهى ، وقد أصاب في دعوى التعريب فإن عامة اللغويين على ذلك ، وأما قوله : وليس من كلامهم إلخ فيكذبه ورود علابط وقرامص وجنادف وحلاحل وكلها بزنة سرادق ومثل ذلك كثير والغفلة مع تلك الكثرة من هذا الفاضل بعيدة فلينظر ما مراده ، ثم إنه معرب سراپرده أي ستر الديوان ، وقيل : سراطاق أي طاق الديوان وهو أقرب لفظا إلا أن الطاق معرب أيضا وأصله تا أو تاك ، وقال أبو حيان وغيره : معرب سرادر وهو الدهليز ووقع في بيت الفرزدق :

تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم

تركت لهم قبل الضراب السرادقا

ويجمع كما قال سيبويه بالألف والتاء وإن كان مذكرا فيقال سرادقات ، وفسره في النهاية بكل ما أحاط بموضع من حائط أو مضرب أو خباء ، وأمر إطلاقه على اللهب أو الدخان أو غيرهما مما ذكر على هذا ظاهر.

(وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) من العطش بقرينة قوله تعالى : (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) وقيل : مما حل بهم من أنواع العذاب ، والمهل على ما أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن جبير ماء غليظ كدردي الزيت ، وفيه حديث مرفوع فقد أخرج أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي وآخرون عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (كَالْمُهْلِ) قال : كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه ، وقال غير واحد : هو ما أذيب من جواهر الأرض ، وقيل : ما أذيب من النحاس ، وأخرج الطبراني وابن المنذر وابن جرير عن ابن مسعود أنه سئل عنه فدعا بذهب وفضة فإذا به فلما ذاب قال : هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو شراب أهل النار لونه لون السماء غير أن شراب أهل النار أشد حرا من هذا.

وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن مجاهد أنه القيح والدم الأسود ، وقيل : هو ضرب من القطران ، وقوله سبحانه : (يُغاثُوا) إلخ خارج مخرج التهكم بهم كقول بشر بن أبي حازم :

غضبت تميم (١) أن تقتل عامرا

يوم النسار فأعتبوا بالصيلم

(يَشْوِي الْوُجُوهَ) ينضجها إذا قدم ليشرب من فرط حرارته حتى أنه يسقط جلودها كما سمعت في الحديث ، فالوجوه جمع وجه وهو العضو المعروف ، والظاهر أنه المراد لا غير ، وقيل : عبر بالوجوه عن جميع أبدانهم والجملة صفة ثانية لماء والأولى (كَالْمُهْلِ) أو حال منه كما في البحر لأنه قد وصف أو حال من المهل كما قال أبو البقاء.

__________________

(١) في نسخة حنيفة اه منه.

٢٥٥

وظاهر كلام بعضهم جواز كونها في موضع الحال من الضمير المستتر في الكاف لأنها اسم بمعنى مشابه فيستتر الضمير فيها كما يستتر فيه ؛ وفيه ما لا يخفى من التكلف لأنها ليست صفة مشتقة حتى يستتر فيها ولم يعهد مشتق على حرف واحد قاله الخفاجي.

وذكر أن أبا علي الفارسي منع في شرح الشواهد جعل ذؤابتي في قول الشاعر : رأتني كأفحوص القطاة ذؤابتي. مرفوعا بالكاف لكونها بمنزل مثل وقال : إن ذلك ليس بالسهل لأن الكاف ليست على ألفاظ الصفات.

وجوز أن تكون في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور ، وقيل : يجوز أن يكون مراد ذلك البعض إلا أنه تسامح (بِئْسَ الشَّرابُ) ذلك الماء الذي يغاثون به (وَساءَتْ) النار (مُرْتَفَقاً) أي متكأ كما قال أبو عبيدة وروي عن السدي ، وأصل الارتفاق كما قيل الاتكاء على مرفق اليد. قال في الصحاح يقال: بات فلان مرتفقا أي متكئا على مرفق يده ، وقيل : نصب المرفق تحت الخد فمرتفقا اسم مكان ونصبه على التمييز ، قال الزمخشري : وهذا لمشاكلة قوله تعالى : «وحسنت مرتفقا» وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء إلا أن يكون من قوله :

إني أرقت فبتّ الليل مرتفقا

كأن عيني فيها الصاب مذبوح

أي فحينئذ لا يكون من المشاكلة ويكون الكلام على حقيقته بأن يكون لأهل النار ارتفاق فيها أي اتكاء على مرافق أيديهم كما يفعله المتحزن المتحسر ، وقد ذكر في الكشف أن الاتكاء على الحقيقة كما يكون للتنعم يكون للتحزن.

وتعقب بأن ذلك وإن أمكن عقلا إلا أن الظاهر أن العذاب أشغلهم عنه فلا يتأتى منهم حتى يكون الكلام حقيقة لا مشاكلة. وجوز أن يكون ذلك تهكما أو كناية عن عدم استراحتهم.

وروي عن ابن عباس أن المرتفق المنزل. وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن قتادة ، وفي معناه قول ابن عطاء : المقر ؛ وقول العتبي : المجلس ، وقيل موضع الترافق أي ساءت موضعا للترافق والتصاحب ، وكأنه مراد مجاهد في تفسيره بالمجتمع فإنكار الطبري أن يكون له معنى مكابرة.

وقال ابن الأنباري : المعنى ساءت مطلبا للرفق لأن من طلب رفقا من جهنم عدمه ، وجوز بعضهم أن يكون المرتفق مصدرا ميميا بمعنى الارتفاق والاتكاء (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) في محل التعليل للحث على الإيمان المنفهم من التخيير كأنه قيل وللذين آمنوا ، ولعل تغيير السبك للإيذان بكمال تنافي حالي الفريقين أي إن الذين آمنوا بالحق الذي يوحى إليك (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) حسبما بين في تضاعيفه.

(إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) وقرأ عيسى الثقفي «لا نضيّع» بالتضعيف ، وعلى القراءتين الجملة خبر إن الثانية وخبر إن الأولى الثانية بما في حيزها والرابط ضمير محذوف تقديره من أحسن عملا منهم ، ولا يرد أنه يقتضي أن منهم من أحسن ومنهم من لم يحسن لأن ذلك على تقدير كون من تبعيضية وليس بمتعين لجواز كونها بيانية ولو سلم فلا بأس به فإن الإحسان زيادة الإخلاص الوارد في حديث الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، لكن يبقى على هذا حكم من لم يحسن بهذا المعنى منهم أو الرابط الاسم الظاهر الذي هو المبتدأ في المعنى على ما ذهب إليه الأخفش من جعله رابطا فإن من أحسن عملا في الحقيقة هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات. واعترض بأنه يأباه تنكير (عَمَلاً) لأنه للتقليل. وأجيب بأنه غير متعين لذلك إذ النكرة قد تعم في الإثبات ومقام المدح شاهد صدق أو الرابط عموم من بناء على أن العموم قد يكون رابطا كما في زيد نعم الرجل على قول وفيه مناقشة ظاهرة.

٢٥٦

ولعل الأولى كون الخبر جملة قوله تعالى (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) وجملة (إِنَّا) إلخ معترضة ، ونحو هذا من الاعتراض كما قال ابن عطية وغيره قوله :

إن الخليفة إن الله ألبسه

سربال ملك به ترجى الخواتيم

وأنت تعلم أن الاعتراض فيه غير متعين أيضا ، وعلى الاحتمال السابق يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة لبيان الأجر ويحتمل أن تكون خبرا بعد خبر على مذهب من لا يشترط في تعدد الأخبار كونها في معنى خبر واحد وهو الحق أي أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة لهم جنات إقامة على أن العدن بمعنى الإقامة والاستقرار يقال عدن بالمكان إذا قام فيه واستقر ومنه المعدن لاستقرار الجواهر فيه.

وعن ابن مسعود عدن جنة من الجنان وهي بطنانها ، ووجه إضافة الجنان إليها بأنها لسعتها كأن كل ناحية منها جنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) وهم في الغرفات آمنون (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) من الأولى للابتداء والثانية للبيان ، والجار والمجرور في موضع صفة لأساور ، وهذا ما اختاره الزمخشري وغيره.

وجوز أبو البقاء في الأولى أن تكون زائدة في المفعول على قول الأخفش ، ويدل عليه قوله تعالى (وَحُلُّوا أَساوِرَ) [الإنسان : ٢١] وأن تكون بيانية أي شيئا أو حليا من أساور.

وجوز غيره فيها أن تكون تبعيضية واقعة موقع المفعول كما جوز هو وغيره ذلك في الثانية ، وجوز فيها أيضا أن تتعلق بيحلون وهو كما ترى ، والأساور جمع أسورة جمع سوار بالكسر والضم وهو ما في الذراع من الحلي وهو عربي ، وقال الراغب : معرب دستواره ، وقيل جمع أسوار جمع سوار وأصله أساوير فخفف بحذف يائه فهو على القولين جمع الجمع ، ولم يجعلوه من أول الأمر جمع سوار لما رأوا أن فعالا لا يجمع على أفاعل في القياس ، وعن عمرو بن العلاء أن الواحد أسوار ، وأنشد ابن الأنباري :

والله لو لا صبية صغار

كأنما وجوههم أقمار

تضمهم من العتيك دار

أخاف أن يصيبهم إقتار

أو لاطم ليس له أسوار

لما رآني ملك جبار

ببابه ما وضح النهار وفي القاموس السوار ككتاب وغراب القلب كالأسوار والجمع أسورة وأساور وأساورة وسور وسؤور وهو موافق لما نقل عن أبي العلاء.

ونقل ذلك أيضا عن قطرب وأبي عبيدة ، ونكرت لتعظيم حسنها من الإحاطة ، وقد أخرج ابن مردويه عن سعد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أن رجلا من أهل الجنة اطلع فبدت أساوره لطمس ضوؤه ضوء الشمس كما تطمس ضوء النجوم» وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في البعث عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت حليته بحليته أهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله تعالى به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا» وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال : «إن أهل الجنة يحلون أسورة من ذهب ولؤلؤ وفضة هي أخف عليهم من كل شيء إنما هي نور» وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الضوء» وأخرج أبو الشيخ ، وغيره عن كعب الأحبار قال «إن لله تعالى ملكا ـ وفي رواية ـ في الجنة ملك لو شئت أن أسميه أسميته يصوغ حلي أهل الجنة من يوم خلق إلى أن تقوم الساعة ولو أن حليا منها أخرج لرد شعاع الشمس» والسؤال بأن لبس الرجال الأساور عيب في الدنيا فكيف يحلونها في الآخرة مندفع بأن كونه عيبا إنما هو بين قوم لم يعتادوه لا

٢٥٧

مطلقا ولا أظنك في مرية من أن الشيء قد يكون عيبا بين قوم ولا يكون عيبا بين آخرين ، وليس فيما نحن فيه أمر عقلي يحكم بكونه عيبا في كل وقت وفي كل مكان وبين كل قوم ، وإن التزمت أن فيه ذلك فقد حليت نفسك بحلية الجهل وخرجت من ربقة العقل ، هذا وقرأ أبان عن عاصم «من أسورة» بحذف ألف وزيادة هاء وهو أحد الجموع لسوار كما سمعت (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً) لأن الخضرة أحسن الألوان والنفس تنبسط بها أكثر من غيرها ، وروي في أثر أنها تزيد في ضوء البصر ، وقيل :

ثلاثة مذهبة للحزن الماء والخضرة والوجه الحسن ، والظاهر أن لباسهم غير منحصر فيما ذكر إذ لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سليم بن عامر أن الرجل يكسى في الساعة الواحدة سبعين ثوبا وأن أدناها مثل شقيق النعمان ، وقيل يحتمل الانحصار ولهم فيها ما تشتهي الأنفس لا يأباه لجواز أنهم لا يشتهون ولا تلذ أعينهم سوى ذلك من الألوان ، والتنكير لتعريف أنها لا يكاد يوصف حسنها.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال : لو أن ثوبا من ثياب أهل الجنة نشر اليوم في الدنيا لصعق من ينظر إليه وما حملته أبصارهم.

وقرأ أبان عن عاصم وابن أبي حماد عن أبي بكر «ويلبسون» بكسر الباء (مِنْ سُنْدُسٍ) قال الجواليقي : هو رقيق الديباج بالفارسية فهو معرب ، وفي القاموس هو ضرب من البزيون أو ضرب من رقيق الديباج معرب بلا خلاف ، وقال الليث : لم يختلف أهل اللغة والمفسرون في أنه معرب ، وأنت تعلم أن فيه خلاف الشافعي عليه الرحمة ، والقول بأنه ليس من أهل اللغة والمفسرين في النفس منه شيء ، وقال شيد له : هو رقيق الديباج بالهندية ، وواحدة على ما نقل عن ثعلب سندسة.

وزعم بعضهم : أن أصله سندي وكان هذا النوع من الديباج يجلب من السند فأبدلت الياء سينا كما فعل في سادي فقيل سادس ، وهو كلام لا يروج إلا على سندي أو هندي. ويحكى أن جماعة من أهل الهند من بلد يقال له بروج بالجيم الفارسية ، وكانوا يتكلمون بلغة تسمى سنسكريت جاءوا إلى الإسكندر الثاني بهدية من جملتها هذا الديباج ولم يكن رآه فقال : ما هذا؟ فقالوا : سندون بالنون في آخره فغيرته الروم إلى سندوس ثم العرب إلى سندس فهو معرب قطعا من ذلك اللفظ الذي أطلقته أولئك الجماعة عليه ، لكن لا جرم في أنه اسم له في الأصل بلغتهم أو اسم للبلدة المجلوب هو منها أطلق عليه كما في أسماء كثير من الأمتعة اليوم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

(وَإِسْتَبْرَقٍ) أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة وعكرمة أنه غليظ الديباج ، وقال ابن بحر : هو ديباج منسوج بذهب وفي القاموس هو الديباج الغليظ أو ديباج يعمل بالذهب أو ثياب حرير صفاق نحو الديباج أو قدة حمراء كأنها قطع الأوتار اه ، والذي عليه الأكثرون من المفسرين واللغويين الأول ، وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك معرب استبره وهي كلمة عجمية ومعناها الغليظ ، والمشهور أنه يقال للغليظ بالفارسية استبر بلا هاء ، وقال ابن قتيبة : هو رومي عرب وأصله استبره فأبدلوا الهاء قافا ، ووقع في شعر المرقش قال :

تراهن يلبسن المشاعر مرة

وإستبرق الديباج طورا لباسها

وقال ابن دريد : هو سرياني عرب وذكر من أصله ما ذكروا ، وقيل : أصله استفره بحرف بعد التاء بين الفاء والباء الموحدة ، وادعى بعضهم أن الإستبرق الديباج الغليظ الحسن في اللغة العربية والفارسية ففيه توافق اللغتين ، ونقل عن الأزهري أنه استصوب هذا ، ويجمع على أباريق ويصغر كما في القاموس وغيره على أبيرق ، وقرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الهمزة وفتح القاف حيث وقع جعله كما يقتضيه ظاهر كلام ابن خالويه فعلا ماضيا على وزن استفعل

٢٥٨

من البريق إلا أن استفعل فيه موافق للمجرد الذي هو برق ، وظاهر كلام الأهوازي في الإقناع أنه وحده قرأ كذلك وجعله اسما ممنوعا من الصرف ولم يجعله فعلا ماضيا.

وقال صاحب اللوامح : قرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الهمزة في جميع القرآن مع التنوين فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفا على غير قياس ، ويجوز أنه جعله كلمة عربية من برق الثوب يبرق بريقا إذا تلألأ بجدته ونضارته فيكون وزنه استفعل من ذلك فلما سمي به عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ومعاملة المتمكن من الأسماء في الصرف والتنوين ، وأكثر التفاسير على أنه عربي وليس بمستعرب انتهى ، ولا يخفى أنه مخالف للنقلين السابقين ، ويمكن أن يقال : إن لابن محيصن قراءتين فيه الصرف والمنع منه فنقل بعض قراءة وبعض آخر أخرى لكن ذكر ابن جني أن قراءة فتح القاف سهو أو كالسهو ، قال أبو حيان : وإنما قال ذلك لأن جعله اسما ومنعه من الصرف لا يجوز أنه غير علم فتكون سهوا وقد أمكن جعله فعلا ماضيا فلا تكون سهوا انتهى.

وفي الجمع بين السندس والإستبرق إشعار ما بأن لأولئك القوم في الجنة ما يشتهون ، ونكرا لتعظيم شأنهما وكيف لا وهما وراء ما يشاهد من سندس الدنيا وإستبرقها بل وما يتخيل من ذلك ، وقد أخرج البيهقي عن أبي الخير مرثد بن عبد الله قال : في الجنة شجرة تنبت السندس منه تكون ثياب أهل الجنة.

وأخرج الطيالسي والبخاري في التاريخ والنسائي وغيرهم عن ابن عمر قال : قال رجل : يا رسول الله أخبرنا عن ثياب أهل الجنة أخلقا تخلق أم نسجا تنسج؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل يتشقق عنها ثمر الجنة ، وظاهره أنها من سندس كانت أو من إستبرق كذلك ، وقدمت التحلية على اللباس لأن الحلي في النفس أعظم وإلى القلب أحب وفي القيمة أغلى وفي العين أحلى ، وبنى فعله للمفعول إشعارا بأنهم لا يتعاطون ذلك بأنفسهم وإنما يفعله الخدم كما قال الشاعر :

غرائر في كن وصون ونعمة

يحلين ياقوتا وشذرا مفقرا

وكذلك سائر الملوك في الدنيا يلبسهم التيجان ونحوها من العلامات المرصعة بالجواهر خدمهم ، وأسند اللبس إليهم لأن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه خصوصا إذا كان فيه ستر العورة ، وقيل : بني الأول للمفعول والثاني للفاعل إشارة إلى أن التحلية تفضل من الله تعالى واللبس استحقاقهم ، وتعقب بأن فيه نزغة اعتزالية ويدفع بالعناية (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) جمع أريكة كما قال غير واحد وهو السرير في الحجلة فإن لم يكن فيها فلا يسمى أريكة.

وأخرج ذلك البيهقي عن ابن عباس ، وقال الراغب : الأريكة حجلة على سرير وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجر معروف أو لكونها مكانا للإقامة من قولهم أرك بالمكان أروكا ، وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات ، وروي تفسيرها بذلك عن عكرمة.

وقال الزجاج : الأرائك الفرش في الحجال ؛ والظاهر أنها على سائر الأقوال عربية ، وحكى ابن الجوزي في فنون الأفنان أنها السرر بالحبشية ، وأيّا ما كان فالكلام على ما قاله بعض المحققين كناية عن تنعمهم وترفههم فإن الاتكاء على الأرائك شأن المتنعمين المترفهين ، والآثار ناطقة بأنهم يتكئون ويتنعمون ، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول منه ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه» وأخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن عباس أن على الأرائك فرشا منضودة في السماء مقدار فرسخ.

وقرأ ابن محيصن «علرائك» بنقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وإدغام لام (عَلَى) فيها فيحذف ألف (عَلَى) لتوهم سكون لام التعريف ، ومثله قول الشاعر : فما أصبحت عارض نفسي برية يريد على الأرض.

٢٥٩

(نِعْمَ الثَّوابُ) ذلك الذي وعدوا به من الجنة ونعيمها (وَحَسُنَتْ) أي الأرائك أو الجنات (مُرْتَفَقاً) متكأ ، وقد تقدم آنفا الكلام فيه (وَاضْرِبْ لَهُمْ) للمؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي والكفرة الذين طلبوا طردهم (مَثَلاً رَجُلَيْنِ) مفعولان لأضرب ثانيهما أولهما لأنه المحتاج إلى التفصيل والبيان قاله بعضهم ، وقد مر تحقيق هذا المقام فتذكر ، والمراد بالرجلين إما رجلان مقدران على ما قيل وضرب المثل لا يقتضي وجودهما وإما رجلان موجودان وهو المعول عليه ، فقيل هما إخوان من بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه فرطوس ، وقيل اسمه قطفير والآخر مؤمن اسمه يهوذا في قول ابن عباس.

وقال مقاتل : اسمه يمليخا ، وعن ابن عباس أنهما ابنا ملك من بني إسرائيل أنفق أحدهما ماله في سبيل الله تعالى وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله ، وروي أنهما كانا حدادين كسبا مالا ؛ وروي أنهما ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراها فاشترى الكافر أرضا بألف فقال المؤمن : اللهم أنا أشتري منك أرضا في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه دارا بألف فقال : اللهم إني أشتري منك دارا في الجنة بألف فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال : اللهم إني جعلت ألفا صداقا للحور فتصدق به ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف فقال : اللهم إني أشتري منك الولدان المخلدين بألف فتصدق به ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله ، وقيل : هما أخوان من بني مخزوم كافر هو الأسود بن الأسد ومؤمن هو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد ، والمراد ضربهما مثلا للفريقين المؤمنين والكافرين لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفا من أن للمؤمنين في الآخرة كذا وللكافرين فيها كذا بل من حيث عصيان الكفرة مع تقلبهم في نعم الله تعالى وطاعة المؤمنين مع مكابدتهم مشاق الفقر أي اضرب لهم مثلا من حيثية العصيان مع النعمة والطاعة مع الفقر حال رجلين (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما) وهو الكافر (جَنَّتَيْنِ) بستانين لم يعين سبحانه مكانهما إذ لا يتعلق بتعيينه كبير فائدة.

وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين فجرى ما جرى ففرقهما الله تعالى في ليلة واحدة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم منه قول آخر ، والجملة بتمامها تفسير للمثل فلا موضع لها من الإعراب ، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لرجلين فموضعها النصب (مِنْ أَعْنابٍ) من كروم متنوعة فالكلام على ما قيل إما على تقدير مضاف وإما الأعناب فيه مجاز عن الكروم وهي أشجار العنب ، والمفهوم من ظاهر كلام الراغب أن العنب مشترك بين الثمرة والكرم وعليه فيراد الكروم من غير حاجة إلى التقدير أو ارتكاب المجاز ، والداعي إلى إرادة ذلك أن الجنة لا تكون من ثمر بل من شجر (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) أي جعلنا النخل محيطة بهما مطيفة بحفافيهما أي جانبيهما مؤزرا بها كرومهما يقال حفه القوم إذا طافوا به وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله فتزيده الباء مفعولا آخر كقولك غشيته به (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما) وسطهما (زَرْعاً) لتكونا جامعتين للأقوات والفواكه متواصلتي العمارة على الهيئة الرائقة والوضع الأنيق.

(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) ثمرها وبلغ مبلغا صالحا للأكل ، و (كِلْتَا) اسم مفرد اللفظ مثنى المعنى عند البصريين وهو المذهب المشهور ومثنى لفظا ومعنى عند البغداديين وتاؤه منقلبة عن واو عند سيبويه فأصله كلوى فالألف فيه للتأنيث. ويشكل على هذا إعرابه بالحروف بشرطه ، ويجاب بما أجيب به عن الإشكال في الأسماء الخمسة. وعند الجرمي الألف لام منقلبة عن أصلها والتاء زائدة للتأنيث. ويرد عليه أنه لا يعرف فعتل وأن التاء لا تقع حشوا ولا بعد ساكن صحيح ؛ وعلى المشهور يجوز في ضميره مراعاة لفظه ومراعاة معناه وقد روعي الأول هنا والثاني فيما بعد. وفي مصحف عبد الله «كلا الجنتين آتي» بصيغة التذكير لأن تأنيث الجنتين مجازي ثم قرأ «آتت» فأنث لأنه

٢٦٠