روح المعاني - ج ٨

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٨

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٨

وقيل : (طه) في الحساب أربعة عشر وهو إشارة إلى مرتبة البدرية فكأنه قيل : يا بدر سماء عالم الإمكان (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) أي إلا لتذكر من يخشى أيام الوصال التي كانت قبل تعلق الأرواح بالأبدان وتخبرهم بأنها يحصل نحوها لهم لتطيب أنفسهم وترتاح أرواحهم أو لتذكرهم إياها ليشتاقوا إليها وتجري دموعهم عليها ويجتهدوا في تحصيل ما يكون سببا لعودها ولله تعالى در من قال :

سقى الله أياما لنا ولياليا

مضت فجرت من ذكرهن دموع

فيا هل لها يوما من الدهر أوبة

وهل لي إلى أرض الحبيب رجوع

وقيل : من يخشى هم العلماء لقوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] ولما كان العلم مظنة العجب والفخر ونحوهما ناسب أن يذكر صاحبه عظمة الله عزوجل ليكون ذلك سورا له مانعا من تطرق شيء مما ذكر (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) العرش جسم عظيم خلقه الله تعالى كما قيل من نور شعشعاني وجعله موضع نور العقل البسيط الذي هو مشرق أنوار القدم وشرفه بنسبة الاستواء الذي لا يكتنه ، وقيل : خلق من أنوار أربعة مختلفة الألوان وهي أنوار سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولذا قيل له الأطلس ، وإلى هذا ذهبت الطائفة الحادثة في زماننا المسماة بالكشفية.

وذكر بعض الصوفية أن العرش إشارة إلى قلب المؤمن الذي نسبة العرش المشهور إليه كنسبة الخردلة إلى الفلاة بل كنسبة القطرة إلى البحر المحيط وهو محل نظر الحق ومنصة تجليه ومهبط أمره ومنزل تدليه ، وفي إحياء العلوم لحجة الإسلام الغزالي قال الله تعالى «لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع»

أي الساكن المطمئن ، وفي الرشدة لصدر الدين القونوي قدس‌سره بلفظ «ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الوادع» وليس هذا القلب عبارة عن البضعة الصنوبرية فإنها عند كل عاقل أحقر من حيث الصورة أن تكون محل سره جل وعلا فضلا عن أن تسعه سبحانه وتكون مطمح نظره الأعلى ومستواه عز شأنه وهي وإن سميت قلبا فإنما تلك التسمية على سبيل المجاز ، وتسمية (١) الصفة والحامل باسم الموصوف والمحمول بل القلب الإنساني عبارة عن الحقيقة الجامعة بين الأوصاف والشئون الربانية وبين الخصائص والأحوال الكونية الروحانية منها والطبيعية وتلك الحقيقة تنتشئ من بين الهيئة الاجتماعية الواقعة بين الصفات والحقائق الإلهية والكونية وما يشتمل عليه هذان الأصلان من الأخلاق والصفات اللازمة وما يتولد من بينهما بعد الارتياض والتزكية ، والقلب الصنوبري منزل تدلى الصورة الظاهرة من بين ما ذكرنا التي هي صورة الحقيقة القلبية ، ومعنى وسع ذلك للحق جل وعلا على ما في مسلك الوسط الداني كونه مظهرا جامعا للأسماء والصفات على وجه لا ينافي تنزيه الحق سبحانه من الحلول والاتحاد والتجزئة وقيام القديم بالحادث ونحو ذلك من الأمور المستحيلة عليه تعالى شأنه ، هذا لكن ينبغي أن يعلم أن هذا الخبر وإن استفاض عند الصوفية قدست أسرارهم إلا أنه قد تعقبه المحدثون ، فقال العراقي : لم أر له أصلا.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : هو مذكور في الإسرائيليات وليس له إسناد معروف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكأنه أشار بما في الإسرائيليات إلى ما أخرجه الإمام أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال : إن الله تعالى فتح السموات

__________________

(١) قوله وتسمية الصفة والحامل باسم الموصوف والمحمول كذا بخطة :

٥٢١

لحزقيل حتى نظر إلى العرش فقال حزقيل : سبحانك ما أعظمك يا رب فقال الله تعالى : إن السموات والأرض ضعفن من أن يسعنني ووسعني قلب عبدي المؤمن الوادع اللين.

نعم لذلك ما يشهد له فقد قال العلامة الشمس ابن القيم في شفاء العليل ما نصه ، وفي المسند وغيره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «القلوب آنية الله تعالى في أرضه فأحبها إليه أصلبها وأرقها وأصفاها» انتهى.

وروى الطبراني من حديث أبي عنبسة الخولاني رفعه «أن الله تعالى آنية من الأرض وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين وأحبها إليه ألينها وأرقها» وهذا الحديث وإن كان في سنده بقية بن الوليد وهو مدلس إلا أنه صرح فيه بالتحديث ؛ ويعلم من مجموع الحديثين أربع صفات للقلب الأحب إليه تعالى اللين وهو لقبول الحق والصلابة وهي لحفظه فالمراد بها صفة تجامع اللين والصفاء والرقة وهما لرؤيته ، واستواؤه تعالى على العرش بصفة الرحمانية دون الرحيمية للإشارة إلى أن لكل أحد نصيبا من واسع رحمته جل وعلا (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) قيل : السر أمر كامن في القلب كمون النار في الشجر الرطب حتى تثيره الإرادة لا يطلع عليه الملك ولا الشيطان ولا تحس به النفس ولا يشعر به العقل وإلا خفي ما في باطن ذلك.

وعند بعض الصوفية السر لطيفة بين القلب والروح وهو معدن الأسرار الروحانية والخفي لطيفة بين الروح والحضرة الإلهية وهو مهبط الأنوار الربانية وتفصيل ذلك في محله. وقد استدل بعض الناس بهذه الآية على عدم مشروعية الجهر بالذكر والحق أنه مشروع بشرطه ، واختلفوا في أنه هل هو أفضل من الذكر الخفي أو الذكر الخفي أفضل منه والحق فيما لم يرد نص على طلب الجهر فيه وما لم يرد نص على طلب الإخفاء فيه أنه يختلف الأفضل فيه باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان فيكون الجهر أفضل من الإخفاء تارة والإخفاء أفضل أخرى (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى ناراً) قال الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة في تنبيه العقول : إن تلك النار كانت مجلى الله عزوجل وتجليه سبحانه فيها مراعاة للحكمة من حيث إنها كانت مطلوب موسى عليه‌السلام ، واحتج على ذلك بحديث رواه عن ابن عباس رضي تعالى عنه وسنذكره إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) الآية «فاخلع نعليك» اترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة وسر مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى ولا تلتف إلى ما سواه سبحانه «إنك بالوادي المقدس طوى» وهو وادي قدس جلال الله تعالى وتنزه عزته عزوجل ، وقيل : النعلان إشارة إلى المقدمتين اللتين يتركب منهما الدليل لأنهما يتوصل بهما العقل إلى المقصود كالنعلين يلبسهما الإنسان فيتوصل بالمشي بهما إلى مقصوده كأنه قيل : لا تلتف إلى المقدمتين ودع الاستدلال فإنك في وادي معرفة الله تعالى المفعم بآثار ألوهيته سبحانه (فَاعْبُدْنِي) قدم هذا الأمر للإشارة إلى عظم شرف العبودية ، وثنى بقوله سبحانه (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) لأن الصلاة من أعلام العبودية ومعارج الحضرة القدسية.

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) إيناس منه تعالى له عليه‌السلام فإنه عليه‌السلام دهش لما تكلم سبحانه معه بما يتعلق بالألوهية فسأله عن شيء بيده ولا يكاد يغلط فيه ليتكلم ويجيب فتزول دهشته ، قيل وكذلك يعامل المؤمن بعد موته وذلك أنه إذا مات وصل إلى حضرة ذي الجلال فيعتريه ما يعتريه فيسأله عن الإيمان الذي كان بيده في الدنيا ولا يكاد يغلط فيه فإذا ذكره زال عنه ما اعتراه ، وقيل : إن الله تعالى لما عرفه كمال الألوهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية فسأله عن منافع العصا فذكر بعضها فعرفه الله تعالى أن فيها ما هو أعظم نفعا مما ذكره تنبيها على أن العقول قاصرة عن معرفة صفات الشيء الحاضر فلو لا التوفيق كيف يمكنه الوصول إلى معرفة أجل الأشياء وأعظمها (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) فيه إشارة إلى ظهور أثر الجلال ولذلك خاف موسى عليه‌السلام فقال سبحانه «خذها ولا تخف» فهذا

٥٢٢

الخوف من كمال المعرفة لأنه لم يأمن مكر الله تعالى ولو سبق منه سبحانه الإيناس ، وفي بعض الآثار «يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط».

وقيل : كان خوفه من فوات المنافع المعدودة ولذا علل النهي بقوله تعالى : (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) وهذا جهل بمقام موسى عليه‌السلام. وكذا ما قيل : إنه لما رأى الأمر الهائل فر حيث لم يبلغ مقام (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) [الذاريات : ٥٠] ولو بلغه لم يفر. وما قيل : أيضا لعله لما حصل له مقام المكالمة بقي في قلبه عجب فأراه الله تعالى أنه بعد في النقص الإمكاني ولم يفارق عالم البشرية وما النصر والتثبيت إلا من عند الله تعالى وحده.

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أراد سبحانه أن يريه آية نفسية بعد أن أراه عليه‌السلام آية آفاقية كما قال سبحانه : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) وهذا من نهاية عنايته جل جلاله : وقد ذكروا في هذه القصة نكات وإشارات. منها أنه سبحانه لما أشار إلى العصا واليمين بقوله تعالى (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) حصل في كل منهما برهان باهر ومعجز قاهر فصار أحدهما وهو الجماد حيوانا والآخر وهو الكثيف نورانيا لطيفا. ثم إنه تعالى ينظر في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد فأي عجب أن ينقلب قلبه الجامد المظلم حيا مستنيرا ، ومنها أن العصا قد استعدت بيمن موسى عليه‌السلام للحياة وصارت حية فكيف لا يستعد قلب المؤمن الذي هو بين إصبعين من أصابع الرحمن للحياة ويصير حيا. ومنها إن العصا باشارة واحدة صارت بحيث ابتلعت سحر السحرة فقلب المؤمن أولى أن يصير بمدد نظر الرب في كل يوم مرات بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء ، ومنها أن قوله تعالى أولا (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) إشارة إلى التخلية وتطهير لوح الضمير من الأغيار وما بعده إشارات إلى التحلية وتحصيل ما ينبغي تحصيله. وأشار سبحانه إلى علم المبدأ بقوله تعالى (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) وإلى علم الوسط بقوله عزوجل (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) وفيه إشارة إلى الأعمال الجسمانية والروحانية وإلى علم المعاد بقوله سبحانه (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) ومنها أنه تعالى افتتح الخطاب بقوله عز قائلا (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) وهو غاية اللطف وختم الكلام بقوله جل وعلا (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها) ـ إلى ـ (فَتَرْدى) وهو قهر تنبيها على أن رحمته سبقت غضبه وأن العبد لا بد أن يكون سلوكه على قدمي الرجاء والخوف ، ومنها أن موسى عليه‌السلام كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب فأمر بترك ما فيهما تنبيها على أن السالك ما دام في مقام الطلب والهرب كان مشتغلا بنفسه وطالبا لحظه فلا يحصل له كمال الاستغراق في بحر العرفان وفيه أن موسى عليه‌السلام مع جلالة منصبه وعلو شأنه لم يمكن له الوصول إلى حضرة الجلال حتى خلع النعل وألقى العصا فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابه وحضرته جل جلاله. واستشكلت هذه الآيات من حيث إنه تدل على أن الله تعالى خاطب موسى عليه‌السلام بلا واسطة وقد خاطب نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بواسطة جبريل عليه‌السلام فيلزم مزية الكليم على الحبيب عليهما الصلاة والسّلام. والجواب أنه تعالى شأنه قد خاطب نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا بلا واسطة ليلة المعراج غاية ما في البال أنه تعالى خاطب موسى عليه‌السلام في مبدأ رسالته بلا واسطة وخاطب حبيبه عليه الصلاة والسّلام في مبدأ رسالته بواسطة ولا يثبت بمجرد ذلك المزية على أن خطابه لحبيبه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا واسطة كان مع كشف الحجاب ورؤيته عليه الصلاة والسّلام إياه على وجه لم يحصل لموسى عليه‌السلام وبذلك يجبر ما يتوهم في تأخير الخطاب بلا واسطة عن مبدأ الرسالة. وانظر إلى الفرق بين قوله تعالى عن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) وقوله عن موسى عليه‌السلام (قالَ هِيَ عَصايَ) إلخ ترى الفرق واضحا بين الحبيب والكليم مع أن لكل رتبة التكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وذكر بعضهم أن في الآيات ما يشعر بالفرق بينهما أيضا عليهما الصلاة والسّلام من وجه آخر وذلك أن موسى

٥٢٣

عليه‌السلام كان يتوكأ على العصا والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتكل على فضل الله تعالى ورحمته قائلا مع أمته وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولذا ورد في حقه (حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ٦٤] على معنى وحسب من اتبعك. وأيضا إنه عليه‌السلام بدأ بمصالح نفسه في قوله : (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) ثم مصالح رعيته بقوله : (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشتغل إلا بإصلاح أمر أمته اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، فلا جرم يقول موسى عليه‌السلام يوم القيامة. نفسي نفسي والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أمتي أمتي» انتهى ، وهو مأخوذ من كلام الإمام بل لا فرق إلا بيسير جدا. ولعمري إنه لا ينبغي أن يقتدى به في مثل هذا الكلام كما لا يخفى على ذوي الأفهام. وإنما نقلته لأنبه على عدم الاغترار به نعوذ بالله تعالى من الخذلان (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) لم يذكرعليه‌السلام بم يشرح صدره وفيه احتمالات.

قال بعض الناس : إنه تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور. الأول ذاته جل شأنه (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] الثاني الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ) [المائدة : ١٥] ، الثالث الكتاب (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) [الأعراف : ١٥٧].

الرابع الإيمان (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) [التوبة : ٣٢]. الخامس عدل الله تعالى (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) [الزمر : ٦٩]. السادس القمر (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح : ١٦]. السابع النهار (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١].

الثامن البينات (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [المائدة : ٤٤] ، التاسع الأنبياء عليهم‌السلام (نُورٌ عَلى نُورٍ) [النور : ٣٥] ، العاشر المعرفة (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) [النور : ٣٥] فكان موسى عليه‌السلام قال أولا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) بمعرفة أنوار جلال كبريائك ، وثانيا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك ، وثالثا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك ، ورابعا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) بنور الإيمان والإيقان بإلهيتك ، وخامسا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) بالاطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك.

وسادسا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلال عزتك كما فعله إبراهيم عليه‌السلام ، وسابعا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) من مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل قهرك ، وثامنا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) بالاطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسماواتك ، وتاسعا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) في أن أكون خلف صدق للأنبياء المتقدمين ومشابها لهم في الانقياد لحكم رب العالمين ، وعاشرا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) بأن يجعل سراج الإيمان كالمشكاة التي فيها المصباح انتهى.

ولا يخفى ما بين أكثر ما ذكر من التلازم وإغناء بعضه عن بعض ، وقال أيضا : إن شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير كالسراج ، ولا يخفى أن مستوقد السراج محتاج إلى سبعة أشياء زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن ، فالزند زند المجاهد (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) [العنكبوت : ٦٩] والحجر حجر التضرع (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف : ٢٠٥] والحراق منع الهوى ونهي النفس عن الهوى والكبريت الإنابة (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) [الزمر : ٥٤] والمسرجة الصبر (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ٤٥] والفتيلة الشكر و (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم : ٧] والدهن : الرضا (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) [الطور : ٤٨] أي ارض بقضائه ، ثم إذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن تطلب المقصود من حضرة ربك جل وعلا قائلا : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي)

٥٢٤

فهنالك تسمع (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) ثم إن هذا النور الروحاني أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه : الأول أن الشمس يحجبها الغيم وشمس المعرفة لا تحجبها السماوات السبع (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر: ١٠]. الثاني الشمس تغيب ليلا وشمس المعرفة لا تغيب ليلا (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل : ٦] والمستغفرين بالأسحار (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) [الإسراء : ١].

الليل للعاشقين ستر

يا ليت أوقاته تدوم

الثالث الشمس تفنى (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [التكوير : ١] والمعرفة لا تفنى. أصلها ثابت وفرعها في السماء (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] ، الرابع الشمس إذا قابلها القمر انكسفت ، وشمس المعرفة وهي «أشهد أن لا إله إلا الله» إذا لم تقرن بقمر النبوة وهي أشهد أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصل النور إلى عالم الجوارح ، الخامس الشمس تسود الوجه والمعرفة تبيض الوجوه (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦] ، السادس الشمس تصدع والمعرفة تصعد.

السابع الشمس تحرق والمعرفة تمنع من الإحراق «جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي» ، الثامن الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في الدارين (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧] التاسع الشمس فوقانية الصورة تحتانية المعنى والمعارف الإلهية بالعكس ، العاشر الشمس تقع على الولي والعدو والمعرفة لا تحصل إلا للولي ، الحادي عشر الشمس تعرف أحوال الخلق والمعرفة توصل القلب إلى الخالق ، ولما كان شرح الصدر الذي هو أول مراتب الروحانيات أشرف من أعلى مراتب الجسمانيات بدأ موسى عليه‌السلام بطلبه قائلا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) وعلامة شرح الصدر ودخول النور الإلهي فيه التجافي عن دار الغرور والرغبة في دار الخلود وشبهوا الصدر بقلعة وجعلوا الأول كالخندق لها والثاني كالسور فمتى كان الخندق عظيما والسور محكما عجز عسكر الشيطان من الهوى والكبر والعجب والبخل وسوء الظن بالله تعالى وسائر الخصال الذميمة ومتى لم يكونا كذلك دخل العسكر وحينئذ ينحصر الملك في قصر القلب ويضيق الأمر عليه.

وفرقوا بين الصدر والقلب والفؤاد واللب بأن الصدر مقر الإسلام (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الزمر : ٢٢] والقلب مقر الإيمان (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ٧] (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢] والفؤاد مقر المشاهدة (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [النجم : ١١] واللب مقام التوحيد (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الرعد : ١٩ ، الزمر : ٩] أي الذين خرجوا من قشر الوجود المجازي وبقوا بلب الوجود الحقيقي ؛ وإنما سأل موسى عليه‌السلام شرح الصدر دون القلب لأن انشراح الصدر يستلزم انشراح القلب دون العكس ، وأيضا شرح الصدر كالمقدمة لشرح القلب والحر تكفيه الإشارة ، فإذا علم المولى سبحانه أنه طالب للمقدمة فلا يليق بكرمه أن يمنعه النتيجة. وأيضا أنه عليه‌السلام راعى الأدب في الطلب فاقتصر على طلب الأدنى فلا جرم أعطى المقصود فقيل : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) ولما اجترأ في طلب الرؤية ، قيل له : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] ، ولا يخفى ما بين قول موسى عليه‌السلام لربه عزوجل (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) وقول الرب لحبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] ويعلم منه أن الكليم عليه‌السلام مريد والحبيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم مراد والفرق مثل الصبح ظاهر.

ويزيد الفرق ظهورا أن موسى عليه‌السلام في الحضرة الإلهية طلب لنفسه ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قيل له هناك السّلام عليك أيها النبي قال : السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وقد أطال الإمام الكلام في هذه الآية بما هو من هذا

٥٢٥

النمط فارجع إليه إن أردته (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) كأنه عليه‌السلام طلب قدرة التعبير عن الحقائق الإلهية بعبارة واضحة فإن المطلب وعر لا يكاد توجد له عبارة تسهله حتى يأمن سامعه عن العثار. ولذا ترى كثيرا من الناس ضلوا بعبارات بعض الأكابر من الصوفية في شرح الأسرار الإلهية ، وقيل : إنه عليه‌السلام سأل حل عقدة الحياء فإنه استحيا أن يخاطب عدو الله تعالى بلسان به خاطب الحق جل وعلا. ولعله أراد من القول المضاف القول الذي به إرشاد للعباد فإن همة العارفين لا تطلب النطق والمكالمة مع الناس فيما لا يحصل به إرشاد لهم نعم النطق من حيث هو فضيلة عظيمة وموهبة جسيمة ولهذا قال سبحانه (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ١ ـ ٤] من غير توسيط عاطف. وعن علي كرم الله تعالى وجهه ما الإنسان لو لا اللسان إلا صورة مصورة أو بهيمة مهملة ، وقال رضي الله تعالى عنه : المرء مخبوء تحت طي لسانه لا طيلسانه ، وقال رضي الله تعالى عنه : المرء بأصغريه قلبه ولسانه ، وقال زهير :

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده

فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

ومن الناس من مدح الصمت لأنه أسلم :

يموت الفتى من عثرة بلسانه

وليس يموت المرء من عثرة الرجل

وفي نوابغ الكلم ق فاك لا يقرع قفاك. والإنصاف أن الصمت في نفسه ليس بفضيلة لأنه أمر عدمي والمنطق في نفسه فضيلة لكن قد يصير رذيلة لأسباب عرضية ، فالحق ما أشار إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «رحم الله تعالى امرأ قال خيرا فغنم أو سكت فسلم». وذكر في وجه عدم طلبه عليه‌السلام الفصاحة الكاملة أنها نصيب الحبيب عليه الصلاة والسّلام ، فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفصح من نطق بالضاد فما كان له أن يطلب ما كان له (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) فيه إشارة إلى فضيلة التعاون في الدين فإنه من أخلاق المرسلين عليهم صلوات الله تعالى وسلامه أجمعين ، والوزارة المتعارفة بين الناس ممدوحة إن زرع الوزير في أرضها ما لا يندم عليه وقت حصاده بين يدي ملك الملوك وفيه إشارة إلى فضيلة التوسط بالخير للمستحقين لا سيما إذا كانوا من ذوي القرابة.

ومن منع المستوجبين فقد ظلم وفي تقديم موسى عليه‌السلام مع أنه أصغر سنا على هارون عليه‌السلام مع أنه الأكبر دليل على أن الفضل غير تابع للسن فالله تعالى يختص بفضله من يشاء «إنك كنت بنا بصيرا» في ختم الأدعية بذلك من حسن الأدب مع الله تعالى ما لا يخفى ، وهو من أحسن الوسائل عند الله عزوجل. ومن آثار ذلك استجابة الدعاء (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) تذكير له عليه‌السلام بما يزيد إيقانه ، وفيه إشارة إلى أنه تعالى لا يرد بعد القبول ولا يحرم بعد الإحسان ، ومن هنا قيل : إذا دخل الإيمان القلب أمن السلب وما رجع من رجع الا من الطريق (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) أفردتك لي بالتجريد فلا يشغلك عني شيء فلبثت سنين في أهل مدين أشير بذلك إلى خدمته لشعيب عليه‌السلام وذلك تربية منه تعالى له بصحبة المرسلين ليكون متخلقا بأخلاقهم متحليا بآدابهم صالحا للحضرة. ولصحبة الأخيار نفع عظيم عند الصوفية وبعكس ذلك صحبة الأشرار (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) وذلك زمان كمال الاستعداد ووقت بعثة الأنبياء عليهم‌السلام وهو زمن بلوغهم أربعين سنة ، ومن بلغ الأربعين ولم يغلب خيره على شره فلينح على نفسه وليتجهز إلى النار (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) جاوز الحد في المعصية حتى ادعى الربوبية وذلك إثر سكر القهر الذي هو وصف النفس الأمارة ويقابله سكر اللطف وهو وصف الروح ومنه ينشأ الشطح ودعوى الأنانية قالوا : وصاحبه معذور وإلا لم يكن فرق بين الحلاج مثلا وفرعون. وأهل الغيرة بالله تعالى

٥٢٦

يقولون : لا فرق (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) فيه إشارة إلى تعليم كيفية الإرشاد ، وقال النهرجوري : إن الأمر بذلك لأنه أحسن إلى موسى عليه‌السلام في ابتداء الأمر ولم يكافئه (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) إشارة إلى الهياكل وأقفاص بلابل الأرواح وإلا فالأرواح أنفسها من عالم الملكوت ، وقد أشرقت على هذه الأشباح (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) [الزمر : ٦٩] والله تعالى أعلم.

وقد تأول بعض أهل التأويل هذه القصة والآيات على ما في الأنفس وهو مشرب قد تركناه إلا قليلا. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ) حكاية أخرى إجمالية لما جرى بين موسى عليه‌السلام وفرعون عليه اللعنة. وتصديرها بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها. والإراءة من الرؤية البصرية المتعدية إلى مفعول واحد وقد تعدت إلى ثان بالهمزة أو من الرؤية القلبية بمعنى المعرفة وهي أيضا متعدية إلى مفعول واحد بنفسها وإلى آخر بالهمزة ، ولا يجوز أن تكون من الرؤية بمعنى العلم المتعدي إلى اثنين بنفسه وإلى ثالث بالهمزة لما يلزمه من حذف المفعول الثالث من الإعلام وهو غير جائز.

وإسناد الإراءة إلى ضمير العظمة نظرا إلى الحقيقة لا إلى موسى عليه‌السلام نظرا إلى الظاهر لتهويل أمر الآيات وتفخيم شأنها وإظهار كمال شناعة اللعين وتماديه في الطغيان. وهذا الإسناد يقوي كون ما تقدم من قوله تعالى (الَّذِي) إلخ من كلامه عزوجل أي بالله لقد بصرنا فرعون أو عرفناه (آياتِنا) حين قال لموسى عليه‌السلام : إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين. وصيغة الجمع مع كونهما اثنتين إما لأن إطلاق الجمع على الاثنين شائع على ما قيل أو باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون وقد ظهر عند فرعون أمور أخر كل منها داهية دهياء. فإنه روي أنه عليه‌السلام لما ألقاها انقلبت ثعبانا أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر فتوجه نحو فرعون فهرب وأحدث فانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك إلا أخذته فأخذه فعاد عصا. وقد تقدم نحوه عن وهب بن منبه ، وروي أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو فرعون وجعلت تقول : يا موسى مرني بما شئت ويقول فرعون : أنشدك إلخ ونزع يده من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين بياضا نورانيا خارجا عن حدود العادات قد غلب شعاعه شعاع الشمس يجتمع عليه النظارة تعجبا من أمره ففي تضاعيف كل من الآيتين آيات جمة لكنها لما كانت غير مذكورة صريحا أكدت بقوله تعالى (كُلَّها) كأنه قيل : أريناه آياتنا بجميع مستتبعاتها وتفاصيلها قصد إلى بيان أنه لم يبق في ذلك عذر ما. والإضافة على ما قرر للعهد. وأدرج بعضهم فيها حل العقدة كما أدرجه فيها في قوله تعالى (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) وقيل : المراد بها آيات موسى عليه‌السلام التسع كما روي عن ابن عباس فيما تقدم والإضافة للعهد أيضا. وفيه أن أكثرها إنما ظهر على يده عليه‌السلام بعد ما غلب السحرة على مهل في نحو من عشرين سنة. ولا ريب في أن أمر السحرة مترقب بعد ، وعد بعضهم منها ما جعل لإهلاكهم لا لإرشادهم إلى الإيمان من فلق البحر وما ظهر من بعد مهلكه من الآيات الظاهرة لبني إسرائيل من نتق الجبل والحجر الذي انفجرت منه العيون. وعد آخرون منها الآيات الظاهرة على أيدي الأنبياء عليهم‌السلام وحملوا الإضافة على استغراق الإفراد. وبنى الفريقان ذلك على أنه عليه‌السلام قد حكى جميع ما ذكر لفرعون وتلك الحكاية في حكم الإظهار والإراءة لاستحالة الكذب عليه عليه‌السلام. ولا يخفى أن حكايته عليه‌السلام تلك الآيات مما لم يجر لها ذكر هاهنا مع أن ما سيأتي إن شاء الله تعالى من حمل ما أظهره عليه‌السلام على السحر والتصدي للمعارضة بالمثل مما يبعد ذلك جدا. وأبعد من ذلك كله

٥٢٧

إدراج ما فصله عليه‌السلام من أفعاله تعالى الدالة على اختصاصه سبحانه بالربوبية وأحكامها في الآيات ، وقيل : الإضافة لاستغراق الأنواع و «كل» تأكيد له أي أريناه أنواع آياتنا كلها ، والمراد بالآيات المعجزات وأنواعها وهي كما قال السخاوي : ترجع إلى إيجاد معدوم أو إعدام موجود أو تغييره مع بقائه وقد أري اللعين جميع ذلك في العصا واليد وفي الانحصار نظر ومع الإغماض عنه لا يخلو ذلك عن بعد ، وزعمت الكشفية أن المراد من الآيات علي كرم الله تعالى وجهه أظهره الله تعالى لفرعون راكبا على فرس وذكروا من صفتها ما ذكروا. والجمع كما في قوله تعالى (آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) [آل عمران : ٩٧] وظهور بطلانه يغني عن التعرض لرده.

والفاء في قوله تعالى (فَكَذَّبَ) للتعقيب والمفعول محذوف أي فكذب الآيات أو موسى عليه‌السلام من غير تردد وتأخير (وَأَبى) أي قبول الآيات أو الحق أو الإيمان والطاعة أي امتنع عن ذلك غاية الامتناع وكان تكذيبه وإباؤه عند الأكثرين جحودا واستكبارا وهو الأوفق بالذم. ومن فسر أرينا بعرفنا وقدر مضافا أي صحة آياتنا وقال : إن التعريف يوجب حصول المعرفة قال بذلك لا محالة.

وقوله تعالى (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) استئناف مبين لكيفية تكذيبه وإبائه. والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه ، وزعم أنه أمر محال والمجيء إما على حقيقته أو بمعنى الإقبال على الأمر والتصدي له أي أجئتنا من مكانك الذي كنت فيه بعد ما غبت عنا أو أقبلت علينا لتخرجنا من مصر بما أظهرته من السحر وهذا مما لا يصدر عن عاقل لكونه من باب محاولة المحال ، وإنما قال ذلك ليحمل قومه على غاية المقت لموسى عليه‌السلام بإبراز أن مراده ليس مجرد إنجاء بني إسرائيل من أيديهم بل إخراج القبط من وطنهم وحيازة أموالهم وأملاكهم بالكلية حتى لا يتوجه إلى اتباعه أحد ويبالغوا في المدافعة والمخاصمة إذ الإخراج من الوطن أخو القتل كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) [النساء : ٦٦] وسمي ما أظهره الله تعالى من المعجزة الباهرة سحرا لتجسيرهم على المقابلة. ثم ادعى أنه يعارضه بمثله فقال (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللام واقعة في جواب قسم محذوف كأنه قيل : إذا كان كذلك فو الله لنأتينك بسحر مثل سحرك (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) أي وعدا على أنه مصدر ميمي وليس باسم زمان ولا مكان لأن الظاهر أن قوله تعالى (لا نُخْلِفُهُ) صفة له والضمير المنصوب عائد إليه. ومتى كان زمانا أو مكانا لزم تعلق الأخلاف بالزمان أو المكان وهو إنما يتعلق بالوعد يقال : أخلف وعده لا زمان وعده ولا مكانه أي لا نخلف ذلك الوعد (نَحْنُ وَلا أَنْتَ) وإنما فوض اللعين أمر الوعد إلى موسى عليه‌السلام للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب وضيق الحال وإظهار الجلادة وإراءة أنه متمكن من تهيئة أسباب المعارضة وترتيب آلات المغالبة طال الأمد أم قصر كما أن تقديم ضميره على ضمير موسى عليه‌السلام وتوسيط كلمة النفي بينهما للإيذان بمسارعته إلى عدم الأخلاف وإن عدم إخلافه لا يوجب عدم إخلافه عليه‌السلام ولذلك أكد النفي بتكرير حرفه.

وقرأ أبو جعفر وشيبة «لا نخلفه» بالجزم على أنه جواب للأمر أي إن جعلت ذلك لا نخلفه (مَكاناً سُوىً) أي منصفا بيننا وبينك كما روي عن مجاهد. وقتادة أي محلا واقعا على نصف المسافة بيننا سواء بسواء. وهذا معنى قول أبي على قربه منكم كقربه منا ، وعلى ذلك قول الشاعر :

وان أبانا كان حل بأهله

سوى بين قيس قيس عيلان والفزر

أو محل نصف أي عدل كما روي عن السدي لأن المكان إذا لم يترجح قربه من جانب على آخر كان معدلا بين الجانبين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال : أي مكانا مستويا من الأرض لا وعر فيه ولا جبل ولا أكمة ولا

٥٢٨

مطمئن بحيث يستر الحاضرين فيه بعضهم عن بعض ومراده مكانا يتبين الواقفون فيه ولا يكون فيه ما يستر أحدا منهم ليرى كل ما يصدر منك ومن السحرة. وفيه من إظهار الجلادة وقوة الوثوق بالغلبة ما فيه ، وهذا المعنى عندي حسن جدا وإليه ذهب جماعة ، وقيل : المعنى مكانا تستوي حالنا فيه وتكون المنازل فيه واحدة لا تعتبر فيه رئاسة ولا تؤدى سياسة بل يتحد هناك الرئيس والمرءوس والسائس والمسوس ولا يخلو عن حسن ، وربما يرجع إلى معنى منصفا أي محل نصف وعدل.

وقيل : (سُوىً) بمعنى غير والمراد مكانا غير هذا المكان وليس بشيء لأن سوى بهذا المعنى لا تستعمل إلا مضافة لفظا ولا تقطع عن الإضافة ، وانتصاب (مَكاناً) على أنه مفعول به لفعل مقدر يدل عليه (مَوْعِداً) أي عد مكانا لا لموعدا لأنه كما قال ابن الحاجب : مصدر قد وصف والمنصوب بالمصدر من تتمته ولا يوصف الشيء إلا بعد تمامه فكان كوصف الموصول قبل تمام صلته وهو غير سائغ.

وعن بعض النحاة أنه يجوز وصف المصدر قبل العمل مطلقا وهو ضعيف ، وقال ابن عطية : يجوز وصفه قبل العمل إذا كان المعمول ظرفا لتوسعهم فيه ما لم يتوسعوا في غيره ، ومن هنا جوز بعضهم أن يكون (مَكاناً) منصوبا على الظرفية بموعدا. ورد بأن شرط النصب على الظرفية مفقود فيه ، فقد قال الرضي : يشترط في نصب (مَكاناً) على الظرفية أن يكون في عامله معنى الاستقرار في الظرف كقمت وقعدت وتحركت مكانك فلا يجوز نحو كتبت الكتابة مكانك وقتلته وشتمته مكانك ، وتعقب بأن ما ذكره الرضي غير مسل إذ لا مانع من قولك لمن أراد التقرب منك ليكلمك : تكلم مكانك ، نعم لا يطرد حسن ذلك في كل مكان ، ويجوز أن يكون ظرفا لقوله تعالى : (لا نُخْلِفُهُ) على أنه مضمن معنى المجيء أو الإتيان ، وجوز أن يكون ظرفا لمحذوف وقع حالا من فاعل (نُخْلِفُهُ) ويقدر كونا خاصا لظهور القرينة أي آتين أو جائين مكانا.

وقرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو «سوى» بكسر السين والتنوين وصلا ، وقرأ باقي السبعة بالضم والتنوين كذلك ، ووقف أبو بكر وحمزة والكسائي بالإمالة وورش وأبو عمرو بين بين.

وقرأ الحسن في رواية كباقي السبعة إلا أنه لم ينون وقفا ووصلا ، وقرأ عيسى كالأولين إلا أنه لم ينون وقفا ووصلا أيضا ، ووجه عدم التنوين في الوصل إجراؤه مجرى الوقف في حذف التنوين والضم والكسر كما قال محيي السنة. وغيره لغتان في سوى مثل عدي وعدى.

وذكر بعض أهل اللغة أن فعلا بكسر الفاء مختص بالأسماء الجامدة كعنب ولم يأت منه في الصفة إلا عدا جمع عدو ، وزاد الزمخشري سوى. وغيره روى بمعنى مرو ، وقال الأخفش : سوى مقصور إن كسرت سينه أو ضممت وممدود إن فتحت ففيه ثلاث لغات ويكون فيها جميعا بمعنى غير وبمعنى عدل ووسط بين الفريقين ، وأعلى اللغات على ما قال النحاس سوى بالكسر (قالَ) أي موسى عليه‌السلام ، قال في البحر : وأبعد من قال إن القائل فرعون ولعمري إنه لا ينبغي أن يلتفت إليه ، وكأن الذي اضطر قائله الخبر السابق عن وهب بن منبه فليتذكر

(قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا

٥٢٩

بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦) وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى)(٧٧)

(مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) هو يوم عيد كان لهم في كل عام يتزينون فيه ويزينون أسواقهم كما روي عن مجاهد. وقتادة ، وقيل : يوم النيروز وكان رأس سنتهم.

وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يوم عاشوراء وبذلك فسر في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صام يوم الزينة أدرك ما فاته من صيام تلك السنة ومن تصدق يومئذ بصدقة أدرك ما فاته من صدقة تلك السنة» ، وقيل : يوم كسر الخليج ، وفي البحر أنه باق إلى اليوم ، وقيل : يوم سوق لهم ، وقيل : يوم السبت وكان يوم راحة ودعة فيما بينهم كما هو اليوم كذلك بين اليهود ، وظاهر صنيع أبي حيان اختيار أنه يوم عيد صادف يوم عاشوراء ، وكان يوم سبت.

والظاهر أن الموعد هاهنا اسم زمان للإخبار عنه بيوم الزينة أي زمان وعدكم اليوم المشتهر فيما بينكم ، وإنما لم يصرح عليه‌السلام بالوعد بل صرح بزمانه مع أنه أول ما طلبه اللعين منه عليه‌السلام للإشارة إلى أنه عليه‌السلام أرغب منه فيه لما يترتب عليه من قطع الشبهة وإقامة الحجة حتى كأنه وقع منه عليه‌السلام قبل طلبه إياه فلا ينبغي له طلبه ، وفيه إيذان بكمال وثوقه من أمره ، ولذا خص عليه‌السلام من بين الأزمنة يوم الزينة الذي هو يوم مشهود وللاجتماع معدود ، ولم يذكر عليه‌السلام المكان الذي ذكره اللعين لأنه بناء على المعنى الأول والثالث فيه إنما ذكره اللعين إيهاما للتفضل عليه عليه‌السلام يريد بذلك إظهار الجلادة فأعرض عليه‌السلام عن ذكره مكتفيا بذكر الزمان المخصوص للإشارة إلى استغنائه عن ذلك وأن كل الأمكنة بعد حصول الاجتماع بالنسبة إليه سواء. وأما على المعنى الثاني فيحتمل أنه عليه‌السلام اكتفى عن ذلك بما يستدعيه يوم الزينة فإن من عادة الناس في الأعياد في كل وقت وكل بلد الخروج إلى الأمكنة المستوية والاجتماع في الأرض السهلة التي لا يمنع فيها شيء عن رؤية بعضهم بعضا ، وبالجملة قد أخرج عليه الصلاة والتسليم جوابه على الأسلوب الحكيم ، ولله تعالى در الكليم ودره النظيم ، وقيل : الموعد هاهنا

٥٣٠

مصدر أيضا ويقدر مضاف لصحة الأخبار أي وعدكم وعد يوم الزينة ، ويكتفي عن ذكر المكان بدلالة يوم الزينة عليه ، وقيل : الموعد في السؤال اسم مكان وجعله مخلفا على التوسع كما في قوله : ويوما شهدنا أو الضمير في (لا نُخْلِفُهُ) للوعد الذي تضمنه اسم المكان على حد (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] أو للموعد بمعنى الوعد على طريق الاستخدام ، والجملة في الاحتمالين معترضة.

ولا يجوز أن تكون صفة إذ لا بد في جملة الصفة من ضمير يعود على الموصوف بعينه ، والقول بحذفه ليس بشيء و (مَكاناً) على ما قال أبو علي مفعول ثان لأجعل ، وقيل : بدل أو عطف بيان ، والموعد في الجواب اسم زمان ومطابقة الجواب من حيث المعنى فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس يومئذ فيه أو هو اسم مكان أيضا ومعناه مكان وقوع الموعود به لا مكان لفظ الوعد كما توهم ويقدر مضاف لصحة الأخبار أي مكان يوم الزينة والمطابقة ظاهرة ، وقيل : الموعد في الأول مصدر إلا أنه حذف منه المضاف أعني مكان وأقيم هو مقامه ويجعل (مَكاناً) تابعا للمقدر أو مفعولا ثانيا ؛ وفي الثاني أما اسم زمان ومعناه زمان وقوع الموعود به لا لفظ الوعد كما يرشد إليه قوله :

قالوا الفراق فقلت موعده غد

والمطابقة معنوية وأما اسم مكان ، ويقدر مضاف في الخبر والمطابقة ظاهرة كما سمعت ، وأما مصدر أيضا ويقدر مضافان أحدهما في جانب المبتدأ والآخر في جانب الخبر أي مكان وعدكم مكان يوم الزينة وأمر المطابقة لا يخفى ، وقيل : يقدر في الأول مضافان أي مكان إنجاز وعدكم أو مضاف واحد لكن تصير الإضافة لأدنى ملابسة ، والأظهر تأويل المصدر بالمفعول وتقدير مضاف في الثاني أي موعدكم مكان يوم الزينة وهو مبني على توهم باطل أشرنا إليه ، وقيل : هو في الأول والثاني اسم زمان و (لا نُخْلِفُهُ) من باب الحذف والإيصال والأصل لا نخلف فيه و (مَكاناً) ظرف لا جعل وإلى هذا أشار في الكشف فقال : لعل الأقرب مأخذا أن يجعل المكان مخلفا على الاتساع والطباق من حيث المعنى أو المعنى اجعل بيننا وبينك في مكان سوى منصف زمان وعد لا نخلف فيه فالمطابقة حاصلة لفظا ومعنى و (مَكاناً) ظرف لغو انتهى.

واعترض بما لا يخفى رده على من أحاط خبرا بأطراف كلامنا. وأنت تعلم أن الاحتمالات في هذه الآية كثيرة جدا والأولى منها ما هو أوفق بجزالة التنزيل مع قلة الحذف والخلو عن نزع الخف قبل الوصول إلى الماء فتأمل.

وقرأ الحسن والأعمش وعاصم في رواية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة الجحدري ، وهبيرة والزعفراني «يوم الزينة» بنصب «يوم» وهو ظاهر في أن المراد بالموعد المصدر لأن المكان والزمان لا يقعان في زمان بخلاف الحدث ، أما الأول فلأنه لا فائدة فيه لحصوله في جميع الأزمنة ؛ وأما الثاني فلأن الزمان لا يكون ظرفا للزمان ظرفية حقيقية لأنه يلزم حلول الشيء في نفسه ، وأما مثل ضحى اليوم في اليوم فهو من ظرفية الكل لأجزائه وهي ظرفية مجازية وما نحن فيه ليس من هذا القبيل كذا قيل وفيه منع ظاهر.

وقيل : إنه يستدل بظاهر ذلك على كون الموعد أولا مصدرا أيضا لأن الثاني عين الأول لإعادة النكرة معرفة ، وفي الكشف لعل الأقرب مأخذا على هذه القراءة أن يجعل الأول زمانا ، والثاني مصدرا أي وعدكم كائن يوم الزينة.

والجواب مطابق معنى دون تكلف إذ لا فرق بين زمان الوعد يوم كذا رفعا وبين الوعد يوم كذا نصبا في الحاصل بل هو من الأسلوب الحكيم لاشتماله على زيادة ، وقوله تعالى (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) عطف على الزينة ، وقيل : على يوم ، والأول أظهر لعدم احتياجه إلى التأويل ، وانتصب (ضُحًى) على الظرف وهو ارتفاع النهار

٥٣١

ويؤنث ويذكر ، والضحاء بفتح الضاد ممدود مذكر ، وهو عند ارتفاع النهار الأعلى.

وجوز على القراءة بنصب (يَوْمُ) أن يكون (مَوْعِدُكُمْ) مبتدأ بتقدير وقت مضاف إليه على أنه من باب أتيتك خفوق النجم ، والظرف متعلق به و (ضُحًى) خبره على نية التعريف فيه لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه ولو لم يعرف لم يكن مطابقا لمطلبهم حيث سألوه عليه‌السلام موعدا معينا لا يخلف وعده ، وقيل : يجوز أن يكون الموعد زمانا و (ضُحًى) خبره و (يَوْمُ الزِّينَةِ) حالا مقدما وحينئذ يستغني عن تعريف ضحى وليس بشيء ثم إن هذا التعريف بمعنى التعيين معنى لا على معنى جعل (ضُحًى) أحد المعارف الاصطلاحية كما قد يتوهم.

وقال الطيبي : قال ابن جني : يجوز أن يكون (أَنْ يُحْشَرَ) عطفا على الموعد كأنه قيل : إنجاز موعدكم وحشر الناس ضحى في يوم الزينة. وكأنه جعل الموعد عبارة عما يتجدد في ذلك اليوم من الثواب والعقاب وغيرهما سوى الحشر ثم عطف الحشر عليه عطف الخاص على العام اه وهو كما ترى.

وقرأ ابن مسعود والجحدري وأبو عمران الجوني وأبو نهيك وعمرو بن قائد «تحشر الناس» بتاء الخطاب ونصب «الناس» والمخاطب بذلك فرعون. وروي عنهم أنهم قرءوا بياء الغيبة ونصب «الناس» والضمير في «يحشر» على هذه القراءة إما لفرعون وجيء به غائبا على سنن الكلام مع الملوك ، وإما لليوم والإسناد مجازي كما في صام نهاره ، وقال صاحب اللوامح : الفاعل محذوف للعلم به أي وأن يحشر الحاشر الناس.

وأنت تعلم أن حذف الفاعل في مثل هذا لا يجوز عند البصريين ، نعم قيل في مثله : إن الفاعل ضمير يرجع إلى اسم الفاعل المفهوم من الفعل (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ) أي انصرف عن المجلس ، وقيل : تولى الأمر بنفسه وليس بذاك. وقيل : أعرض عن قبول الحق وليس بشيء (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) أي ما يكاد به من السحرة وأدواتهم أو ذوي كيده (ثُمَّ أَتى) أي الموعد ومعه ما جمعه. وفي كلمة التراخي إيماء إلى أنه لم يسارع إليه بل أتاه بعد بطء وتلعثم ، ولم يذكر سبحانه إتيان موسى عليه‌السلام بل قال جل وعلا (قالَ لَهُمْ مُوسى) للإيذان بأنه أمر محقق غني عن التصريح به ، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل : فما ذا صنع موسى عليه‌السلام عند إتيان فرعون بمن جمعه من السحرة. فقيل : قال لهم بطريق النصيحة (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) بأنت تدعو آياته التي ستظهر على يدي سحرا كما فعل فرعون (فَيُسْحِتَكُمْ) أي يستأصلكم بسبب ذلك ، (بِعَذابٍ) هائل لا يقادر قدره. وقرأ جماعة من السبعة وابن عباس «فيسحتكم» بفتح الياء والحاء من الثلاثي على لغة أهل الحجاز والإسحات لغة نجد وتميم ، وأصل ذلك استقصاء الحلق للشعر ثم استعمل في الإهلاك والاستئصال مطلقا (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) أي على الله تعالى كائنا من كان بأي وجه كان فيدخل فيه الافتراء المنهي عنه دخولا أوليا أو قد خاب فرعون المفتري فلا تكونوا مثله في الخيبة وعدم نجح الطلبة ، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها.

(فَتَنازَعُوا) أي السحرة حين سمعوا كلامه عليه‌السلام كأن ذلك غاظهم فتنازعوا (أَمْرَهُمْ) الذي أريد منهم من مغالبته عليه‌السلام وتشاوروا وتناظروا (بَيْنَهُمْ) في كيفية المعارضة وتجاذبوا أهداب القول في ذلك (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) بالغوا في إخفاء كلامهم عن موسى وأخيه عليهما‌السلام لئلا يقفا عليه فيدافعاه ، وكان نجواهم على ما قاله جماعة منهم الجبائي وأبو مسلم ما نطق به قوله تعالى (قالُوا) أي بطريق التناجي والإسرار (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) إلخ فإنه تفسير لذلك ونتيجة التنازع وخلاصة ما استقرت عليه آراؤهم بعد التناظر والتشاور.

وقيل : كان نجواهم أن قالوا حين سمعوا مقالة موسى عليه‌السلام ما هذا بقول ساحر ، وروي ذلك عن محمد ابن إسحاق. وقيل : كان ذلك أن قالوا : إن غلبنا موسى اتبعناه ، ونقل ذلك عن الفراء والزجاج.

٥٣٢

وقيل : كان ذلك إن قالوا : إن كان هذا ساحرا فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر ، وروي ذلك عن قتادة ، وعلى هذه الأقوال يكون المراد من (أَمْرَهُمْ) أمر موسى عليه‌السلام وإضافته إليهم لأدنى ملابسة لوقوعه فيما بينهم واهتمامهم به ويكون أسرارهم من فرعون وملئه ، ويحمل قولهم : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) إلخ على أنهم اختلفوا فيما بينهم من الأقاويل المذكورة ثم استقرت آراؤهم على ذلك وأبوا إلا المناصبة للمعارضة وهو كلام مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل : فما ذا قالوا للناس بعد تمام التنازع فقيل : (قالُوا إِنْ هذانِ) إلخ.

وجعل الضمير في (قالُوا) : لفرعون وملئه على أنهم قالوا ذلك للسحرة ردا لهم عن الاختلاف وأمرا بالإجماع والإزماع وإظهار الجلادة مخل بجزالة النظم الكريم كما يشهد به الذوق السليم ، نعم لو جعل ضمير «تنازعوا» والضمائر الذي بعده لهم كما ذهب إليه أكثر المفسرين أيضا لم يكن فيه ذلك الإخلال وإن مخففة من أن وقد أهملت عن العمل واللام فارقة.

وقرأ ابن كثير بتشديد نون (هذانِ) وهو على خلاف القياس للفرق بين الأسماء المتمكنة وغيرها.

وقال الكوفيون : إن نافية واللام بمعنى إلا أي ما هذان إلا ساحران. ويؤيده أنه قرئ كذلك. وفي رواية عن أبي أنه قرى «إن هذان إلا ساحران». وقرئ «إن ذان» بدون هاء التنبيه «إلا ساحران». وعزاها ابن خالويه إلى عبد الله وبعضهم إلى أبي وهي تؤيد ذلك أيضا. وقرئ «إن ذان لساحران» بإسقاط هاء التنبيه فقط.

وقرأ أبو جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وأبو حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير : وابن جبير الأنطاكي. والأخوان. والصاحبان من السبعة «إنّ» بتشديد النون «هذان» بألف ونون خفيفة ، واستشكلت هذه القراءة حتى قيل : إنها لحن وخطأ بناء على ما أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن عن هشام بن عروة عن أبيه قال : سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن لحن القرآن عن قوله تعالى (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ). وعن قوله تعالى (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [النساء : ١٦٢] وعن قوله تعالى (وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) [المائدة : ٦٩] فقالت : يا ابن أخي هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتاب ، وإسناده صحيح على شرط الشيخين كما قال الجلال السيوطي. وهذا مشكل جدا إذ كيف يظن بالصحابة أولا أنهم يلحنون في الكلام فضلا عن القرآن وهم الفصحاء اللد ، ثم كيف يظن بهم ثانيا الغلط في القرآن الذي تلقوه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أنزل ولم يألوا جهدا في حفظه وضبطه وإتقانه ، ثم كيف يظن بهم ثالثا اجتماعهم كلهم على الخطا وكتابته ، ثم كيف يظن بهم رابعا عدم تنبههم ورجوعهم عنه ، ثم كيف يظن خامسا الاستمرار على الخطا وهو مروي بالتواتر خلفا عن سلف ولو ساغ مثل ذلك لارتفع الوثوق بالقرآن.

وقد خرجت هذه القراءة على وجوه الأول أن (إِنْ) بمعنى نعم وإلى ذلك ذهب جماعة منهم المبرد والأخفش الصغير وأنشدوا قوله :

بكر العواذل في الصبو

ح يلمنني وألومهنه

ويقلن شيب قد علا

ك وقد كبرت فقلت إنه

والجيد الاستدلال بقول ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما لمن قال له : لعن الله ناقة حملتني إليك إن وراكبها إذ قد قيل : في البيت إنا لا نسلم أن إن فيه بمعنى نعم والهاء للسكت بل هي الناصبة والهاء ضمير منصوب بها والخبر محذوف أي إنه كذلك ولا يصح أن يقال : إنها في الخبر كذلك وحذف الجزءان لأن حذف الجزأين جميعا لا يجوز. وضعف هذا الوجه بأن كونها بمعنى نعم لم يثبت ، أو هو نادر. وعلى تقدير الثبوت من غير ندرة ليس قبلها ما يقتضي

٥٣٣

جوابا حتى تقع نعم في جوابه. والقول بأنه يفهم من صدر الكلام أن منهم من قال : هما ساحران فصدق وقيل : نعم بعيد. ومثله القول بأن ذلك تصديق لما يفهم من قول فرعون : (أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) [طه : ٥٧] وأيضا إن لام الابتداء لا تدخل على خبر المبتدأ.

وأجيب عن هذا بأن اللام زائدة وليس للابتداء كما في قوله :

أم الحليس لعجوز شهربة

ترضى من اللحم بعظم الرقبة

أو بأنها داخلة على مبتدأ محذوف أي لهما ساحران ، كما اختاره الزجاج وقال : عرضته على عالمنا وشيخنا وأستاذنا محمد بن زيد يعني المبرد. والقاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد فقبلاه ، وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا أو بأنها دخلت بعد إن هذه لشبهها بأن المؤكدة لفظا كما زيدت أن بعد ما المصدرية لمشابهتها للنافية في قوله :

ورج الفتى للخير ما إن رأيته

على السن خيرا لا يزال يزيد

ورد الأول بأن زيادتها في الخبر خاصة بالشعر وما هنا محل النزاع فلا يصح الاحتجاج به كما توهم النيسابوري وزيف الثاني أبو علي في الإغفال بما خلاصته أن التأكيد فيما خيف لبسه فإذا بلغ به الشهرة الحذف استغنى لذلك عن التأكيد ، ولو كان ما ذكر وجها لم يحمل نحو لعجوز شهربة على الضرورة ولا تقاس على أن حيث حذف معها الخبر في أن محلا وأن مرتحلا وان اجتمعا في التأكيد لأنها مشبهة بلا وحمل والنقيض على النقيض شائع ، وابن جني بأن الحذف من باب الإيجاز والتأكيد من باب الإطناب والجمع بينهما محال للتنافي.

وأجيب : بأن الحذف لقيام القرينة والاستغناء غير مسلم والتأكيد لمضمون الجملة لا للمحذوف والحمل في البيت ممكن أيضا واقتصارهم فيه على الضرورة ذهول وكم ترك الأول للآخر واجتماع الإيجاز والإطناب مع اختلاف الوجه غير محال. وأصدق شاهد على دخول اللام في مثل هذا الكلام ما رواه الترمذي وأحمد وابن ماجة «أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ» نعم لا نزاع في شذوذ هذا الحذف استعمالا وقياسا.

الثاني أن إن من الحروف الناصبة واسمها ضمير الشأن وما بعد مبتدأ وخبر والجملة خبرها ، وإلى ذلك ذهب قدماء النحاة. وضعف بأن ضمير الشأن موضوع لتقوية الكلام وما كان كذلك لا يناسبه الحذف والمسموع من حذفه كما في قوله :

إن من لام في بني بنت حسا

ن ألمه وأعصه في الخطوب

وقوله :

إن من يدخل الكنيسة يوما

يلق فيها جاذرا وظباء

ضرورة أو شاذ إلا في باب أن المفتوحة إذا خففت فاستسهلوه لوروده في كلام بني على التخفيف فحذف تبعا لحذف النون ولأنه لو ذكر لوجب التشديد إذ الضمائر ترد الأشياء إلى أصولها ، ثم يرد بحث دخول اللام في الخبر ، وإن التزم تقدير مبتدأ داخلة هي عليه فقد سمعت ما فيه من الجرح والتعديل ، الثالث أنها الناصبة وهاء ضمير القصة اسمها وجملة ذان (لَساحِرانِ) خبرها ، وضعف بأنه يقتضي وصل ها بأن من إثبات الألف وفصل ها من «ذان» في الرسم وما في المصحف ليس كذلك ، ومع ذلك يرد بحث دخول اللام.

الرابع : أن إن ملغاة وإن كانت مشددة حملا لها على المخففة وذلك كما أعملت المخففة حملا لها عليها في قوله تعالى : «وإن كلا لما ليوفينهم» أو حطا لرتبتها عن الفعل لأن عملها ليس بالأصالة بل بالشبه له وما بعدها مبتدأ

٥٣٤

وخبر وإلى ذلك ذهب علي بن عيسى وفيه أن هذا الإلغاء لم ير في غير هذا الموضع وهو محل النزاع وبحث اللام فيه بحاله. والخامس : وهو أجود الوجوه وأوجهها. واختاره أبو حيان وابن مالك والأخفش وأبو علي الفارسي وجماعة أنها الناصبة واسم الإشارة اسمها : واللام لام الابتداء و «ساحران» خبرها ؛ ومجيء اسم الإشارة بالألف مع أنه منصوب جار على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائما قال شاعرهم :

واها لريا ثم واها واها

يا ليت عيناها لنا وفاها

وموضع الخلخال من رجلاها

بثمن نرضي به أباها

وقال الآخر :

وأطرق إطراق الشجاع ولو يرى

مساغا لنا باه الشجاع لصمما

وقالوا : ضربته بين أذناه ومن يشتري الخفان وهي لغة لكنانة حكى ذلك أبو الخطاب ولبني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وأهل تلك الناحية حكى ذلك الكسائي ولبني العنبر وبني الهيجم ومراد وعذرة وقال أبو زيد : سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفا ، وابن الحاجب يقول :

إن (هذانِ) مبني لدلالته على معنى الإشارة : وإن قول الأكثرين هذين جرا ونصبا ليس إعرابا أيضا.

قال ابن هشام : وعلى هذا فقراءة هذان أقيس إذ الأصل في المبنى أن لا تختلف صيغته مع أن فيها مناسبة لألف «ساحران» اه. وأما الخبر السابق عن عائشة فقد أجاب عنه ابن أشتة وتبعه ابن جبارة في شرح الرائية بأن قولها : أخطئوا على معنى أخطئوا في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز فإن ما لا يجوز من كل شيء مردود بالإجماع وإن طالت مدة وقوعه وبنحو هذا يجاب عن أخبار رويت عنها أيضا.

وعن ابن عباس في هذا الباب تشكل ظواهرها. ثم أخرج عن إبراهيم النخعي أنه قال : إن هذان لساحران وإن هذين لساحران سواء لعلهم كتبوا الألف مكان الياء يعني أنه من إبدال حرف في الكتابة بحرف كما وقع في صلاة وزكاة وحياة. ويرد على هذا أنه إنما يحسن لو كانت القراءة بالياء في ذلك. ثم أنت تعلم أن الجواب المذكور لا يحسم مادة الإشكال لبقاء تسمية عروة ذلك في السؤال لحنا اللهم إلا أن يقال : أراد باللحن اللغة كما قال ذلك ابن اشته في قوله ابن جبير المروي عنه بطرق في (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) [النساء : ١٦٢] هو لحن من الكاتب أو يقال : أراد به اللحن بحسب بادئ الرأي وابن الأنباري جنح إلى تضعيف الروايات في هذا الباب ومعارضتها بروايات أخر عن ابن عباس. وغيره تدل على ثبوت الأحرف التي قيل فيها ما قيل في القراءة. ولعل الخبر الساق الذي ذكر أنه صحيح الإسناد على شرط الشيخين داخل في ذلك لكن قال الجلال السيوطي : إن الجواب الأول الذي ذكره ابن اشته أولى وأقعد. وقال العلاء فيما أخرجه ابن الأنباري وغيره عن عكرمة قال : لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد فيها حروفا من اللحن فقال : لا تغيروها فإن العرب ستغيرها أو قال : ستقرؤها بألسنتها لو كان الكاتب من ثقيف والمملى من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف إن ذلك لا يصح عن عثمان فإن إسناده ضعيف مضطرب منقطع.

والذي أجنح أنا إليه والعاصم هو الله تعالى تضعيف جميع ما ورد مما فيه طعن بالمتواتر ولم يقبل تأويلا ينشرح له الصدر ويقبله الذوق وإن صححه من صححه. والطعن في الرواة أهون بكثير من الطعن بالأئمة الذين تلقوا القرآن العظيم الذي وصل إلينا بالتواتر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يألوا جهدا في إتقانه وحفظه.

وقد ذكر أهل المصطلح أن مما يدرك به وضع الخبر ما يؤخذ من حال المروي كأن يكون مناقضا لنص القرآن أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي أو صريح العقل حيث لا يقبل شيء من ذلك التأويل أو لم يحتمل سقوط شيء

٥٣٥

منه يزول به المحذور فلو قال قائل بوضع بعض هاتيك الأخبار لم يبعد والله تعالى أعلم.

وقرأ أبو عمرو «إن هذين» بتشديد نون «إن» وبالياء في «هذين». وروي ذلك عن عائشة والحسن والأعمش والنخعي والجحدري وابن جبير وابن عبيد وإعراب ذلك واضح إذ جاء على المهيع المعروف في مثله لكن في الدر المصون قد استشكلت هذه القراءة بأنها مخالفة لرسم الإمام فإن اسم الإشارة فيه بدون ألف وياء فإثبات الياء زيادة عليه. ولذا قال الزجاج : أنا لا أجيزها وليس بشيء لأنه مشترك الإلزام ولو سلم فكم في القراءات ما خالف رسمه القياس مع أن حذف الألف ليس على القياس أيضا.

(يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) أي أرض مصر بالاستيلاء عليها (بِسِحْرِهِما) الذي أظهراه من قبل ، ونسبة ذلك لهارون لما أنهم رأوه مع موسى عليهما‌السلام سالكا طريقته. وهذه الجملة صفة أو خبر بعد خبر.

(وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) أي بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب وأمثلها بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما يريدون به ما كان عليه قوم فرعون لا طريقة السحر فإنهم ما كانوا يعتقدونه دينا. وقيل : أرادوا أهل طريقتكم فالكلام على تقدير مضاف. والمراد بهم بنو إسرائيل لقول موسى عليه‌السلام «أرسل معنا بني إسرائيل» وكانوا أرباب علم فيما بينهم.

وأخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس وتعقب بأن إخراجهم من أرضهم إنما يكون بالاستيلاء عليها تمكنا وتصرفا فكيف يتصور حينئذ نقل بني إسرائيل إلى الشام. وحمل الإخراج على إخراج بني إسرائيل منها مع بقاء قوم فرعون على حالهم مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله ، على أن هذا المقال منهم للإغراء بالمبالغة في المغالبة والاهتمام بالمناصبة فلا بد أن يكون الإنذار والتحذير بأشد المكاره وأشقها عليهم ، ولا ريب في أن إخراج بني إسرائيل من بينهم والذهاب بهم إلى الشام وهم آمنون في ديارهم ليس فيه كثير محذور وهو كلام يلوح عليه مخايل القبول فلعل الخبر عن الحبر لا يصح.

وأخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم أيضا عن مجاهد أن الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم. وحكى فلان طريقة قومه أي سيدهم. وكأن إطلاق ذلك على الوجوه مجاز لاتباعهم كما يتبع الطريق ، وأخرجا عن علي كرم الله تعالى وجهه أن إطلاق ذلك عليهم بالسريانية ، وكأنهم أرادوا بهؤلاء الوجوه الوجوه من قوم فرعون أرباب المناصب وأصحاب التصرف والمراتب فيكونوا قد حذروهم بالإخراج من أوطانهم وفصل ذوي المناصب منهم عن مناصبهم وفي ذلك غاية الذل والهوان ونهاية حوادث الزمان ، فما قيل : إن تخصيص الإذهاب بهم مما لا مزية فيه ليس بشيء ، وقيل : إنهم أرادوا بهم بني إسرائيل أيضا لأنهم كانوا أكثر منهم نسبا وأشرف نسبا وفيه ما مر آنفا ، واعترض أيضا بأنه ينافيه استعبادهم واستخدامهم وقتل أولادهم وسومهم العذاب.

وأجيب بالمنع فكم من متبوع مقهور وشريف بأيدي الأنذال مأسور وهو كما ترى (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) تصريح بالمطلوب إثر تمهيد المقدمات. والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين يريدان بكم ما يريدان فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا عليه بحيث لا يتخلف عنه منكم أحد وارموا عن قوس واحدة.

وقرأ الزهري وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب في رواية وأبو حاتم «فأجمعوا» بوصل الهمزة وفتح الميم من الجمع. ويعضده قوله تعالى (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) وفي الفرق بين جمع وأجمع كلام للعلماء. قال ابن هشام : إن أجمع يتعلق بالمعاني فقط وجمع مشترك بين المعاني والذوات. وفي عمدة الحفاظ حكاية القول بأن أجمع أكثر ما يقال في المعاني وجمع في الأعيان فيقال : أجمعت أمري وجمعت قومي وقد يقال بالعكس.

٥٣٦

وفي المحكم أنه يقال : جمع الشيء عن تفرقة يجمعه جمعا وأجمعه فلم يفرق بينهما ، وقال الفراء : إذا أردت جمع المتفرق قلت : جمعت القوم فهم مجموعون وإذا أردت جمع المال قلت جمعت بالتشديد ويجوز تخفيفه والإجماع الاحكام والعزيمة على الشيء ويتعدى بنفسه وبعلى تقول : أجمعت الخروج وأجمعت على الخروج ، وقال الأصمعي : يقال جمعت الشيء إذا جئت به من هنا ومن هنا وأجمعته إذا صيرته جميعا ، وقال أبو الهيثم : أجمع أمره أي جعله جميعا وعزم عليه بعد ما كان متفرقا وتفرقته أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا والجمع أن يجمع شيئا إلى شيء ، وقال الفراء : في هذه الآية على القراءة الأولى أي لا تدعوا شيئا من كيدكم إلا جئتم به (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) أي مصطفين أمروا بذلك لأنه أهيب في صدور الرائين وادخل في استجلاب الرهبة من المشاهدين. قيل : كانوا سبعين ألفا مع كل منهم حبل وعصا وأقبلوا عليه عليه‌السلام إقبالة واحدة ، وقيل : كانوا اثنين وسبعين ساحرا اثنان من القبط والباقي من بني إسرائيل ، وقيل : تسعمائة ثلاثمائة من الفرس وثلاثمائة من الروم وثلاثمائة من الإسكندرية ، وقيل : خمسة عشر ألفا ، وقيل : بضعة وثلاثين ألفا ، ولا يخفى حال الأخبار في ذلك والقلب لا يميل إلى المبالغة والله تعالى أعلم ، ولعل الموعد كان مكانا متسعا خاطبهم موسى عليه‌السلام بما ذكر في قطر من أقطاره وتنازعوا أمرهم في قطر آخر منه ثم أمروا أن يأتوا وسطه على الحال المذكورة ، وقد فسر أبو عبيدة الصف بالمكان الذي يجتمعون فيه لعيدهم وصلواتهم وفيه بعد ، وكأنه علم لموضع معين من مكان يوم الزينة ، وعلى هذا التفسير يكون (صَفًّا) مفعولا به.

وقرأ شبل بن عباد وابن كثير في رواية شبل عنه «ثم ايتوا» بكسر الميم وإبدال الهمزة ياء. قال أبو علي : وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من ثم ، وقال صاحب اللوامح : إن ذلك لالتقاء الساكنين كما كانت الفتحة في قراءة العامة كذلك (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) اعتراض تذييلي من قبلهم مؤكد لما قبله من الأمرين أي قد فاز بالمطلوب من غلب. فاستفعل بمعنى فعل كما في الصحاح أو من طلب العلو والغلب وسعى سعيه على ما في البحر. فاستفعل على بابه ، ولعله أبلغ في التحريض حيث جعلوا الفوز لمن طلب الغلب فضلا عمن غلب بالفعل وأرادوا بالمطلوب ما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب حسبما نطق به قوله تعالى (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [الأعراف : ١١٤] وبمن استعلى أنفسهم جميعا على طريقة قولهم بعزة فرعون (إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) [الشعراء: ٤٤] أو من استعلى منهم حثا على بذل المجهود في المغالبة.

وقال الراغب : الاستعلاء قد يكون لطلب العلو المذموم وقد يكون لغيره وهو هاهنا يحتملهما فلهذا جاز أن يكون هذا الكلام محكيا عن هؤلاء القائلين للتحريض على إجماعهم واهتمامهم وأن يكون من كلام الله عزوجل فالمستعلى موسى. وهارون عليهما‌السلام ولا تحريض فيه.

وأنت تعلم أن الظاهر هو الأول (قالُوا) استئناف بياني كأنه قيل : فما ذا فعلوا بعد ما قالوا ذلك؟ فقيل قالوا : (يا مُوسى) وإنما لم يتعرض لإجماعهم وإتيانهم مصطفين إشعارا بظهور أمرهما وغنائهما عن البيان (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) أي ما تلقيه أولا على أن المفعول محذوف لظهوره أو تفعل الإلقاء أولا على أن الفعل منزل منزلة اللازم (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) ما يلقيه أو أول من يفعل الإلقاء خيروه عليه‌السلام وقدموه على أنفسهم إظهارا للثقة بأمرهم ، وقيل : مراعاة للأدب معه عليه‌السلام. وأن مع ما في حيزها منصوب بفعل مضمر أي إما تختار إلقاءك أو تختار كوننا أول من ألقى أو مرفوع على أنه خبر لمبتدإ محذوف أي الأمر إما إلقاؤك أو كوننا أول من ألقى. واختار أبو حيان كونه مبتدأ محذوف الخبر أي إلقاؤك أول بقرينة (إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) وبه تتم المقابلة لكنها معنوية (قالَ) استئناف كما مر كأنه قيل فما ذا قال عليه‌السلام؟ فقيل قال : (بَلْ أَلْقُوا) أنتم أولا إظهارا لعدم المبالاة بسحرهم وإسعافا لما

٥٣٧

أوهموا من الميل إلى البدء في شقهم حيث غيروا النظم إلى وجه أبلغ إذ كان الظاهر أن يقولوا : وإما أن نلقي وليبرزوا ما معهم ويستفرغوا جهدهم ويستنفذوا قصارى وسعهم ثم يظهر الله تعالى شأنه سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه.

قيل وفي ذلك أيضا مقابلة أدب بأدب ، واستشكل بعضهم هذا الأمر ظنا منه أنه يستلزم تجويز السحر فحمله دفعا لذلك على الوعيد على السحر كما يقال للعبد العاصي : افعل ما أردت ، وقال أبو حيان : هو مقرون بشرط مقدر أي ألقوا إن كنتم محقين. وفيه أنه عليه‌السلام يعلم عدم إحقاقهم فلا يجدي التقدير بدون ملاحظة غيره.

وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى ذلك ولا إشكال فإن هذا كالأمر بذكر الشبهة لتنكشف. والقول بأن تقديم سماع الشبهة على الحجة غير جائز لجواز أن لا يتفرغ لإدراك الحجة بعد ذلك فتبقى مما لا يلتفت إليه.

(فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) الفاء فصيحة معربة عن مسارعتهم إلى الإلقاء كما في قوله تعالى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] أي فالقوا فإذا حبالهم إلخ. وهي في الحقيقة عاطفة لجملة المفاجأة على الجملة المحذوفة. وإذا فجائية وهي عند الكوفيين حرف وهو مذهب مرجوح عند أبي حيان وظرف زمان عند الرياشي وهو كذلك عنده أيضا وظرف مكان عند المبرد وهو ظاهر كلام سيبويه ومختار أبي حيان والعامل فيها هنا (أَلْقُوا) عند أبي البقاء. ورد بأن الفاء تمنع من العمل ، وفي البحر إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو (حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ) إن لم نجعلها هي في موضع الخبر بل جعلنا الخبر جملة (يُخَيَّلُ) وإذا جعلناها في موضع الخبر وجعلنا الجملة في موضع الحال فالأمر واضح. وهذا نظير خرجت فإذا الأسد رابض ورابضا. ولصحة وقوعها خبرا يكتفى بها وبالمرفوع بعدها كلاما فيقال : خرجت فإذا الأسد. ونص الأخفش في الأوسط على أنها قد يليها جملة فعلية مصحوبة بقد فيقال : خرجت فإذا قد ضرب زيد عمرا ، وفي الكشاف التحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة ، والجملة ابتدائية لا غير فتقدير الآية ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم وهذا تمثيل ، والمعنى على مفاجأة حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي انتهى ، وفيه من المخالفة لما قدمنا ما فيه لكن أمر العطف عليه أوفق كما لا يخفى ، وعنى بقوله : هذا تمثيل أنه تصوير للإعراب وأن إذا وقتية أوقع عليها فعل المفاجأة توسعا لأنها سدت مسد الفعل والمفعول ولأن مفاجأة الوقت يتضمن مفاجأة ما فيه بوجه أبلغ. وما قيل : إنه أراد الاستعارة التمثيلية فيحتاج إلى تكلف لتحصيلها. وضمير (إِلَيْهِ) الظاهر أنه لموسى عليه‌السلام بل هو كالمتعين ، وقيل : لفرعون وليس بشيء ، وأن وما في حيزها نائب فاعل (يُخَيَّلُ) أي يخيل إليه بسبب سحرهم سعيها وكأن ذلك من باب السيمياء وهي علم يقتدر به على إراء الصورة الذهنية لكن يشترط غالبا أن يكون لها مادة في الخارج في الجملة ويكون ذلك على ما ذكره الشيخ محمد عمر البغدادي في حاشيته على رسالة الشيخ عبد الغني النابلسي في وحدة والوجود بواسطة أسماء وغيرها.

وذكر العلامة البيضاوي في بعض رسائله أن علم السيمياء حاصله إحداث مثالات خيالية لا وجود لها في الحس ويطلق على إيجاد تلك المثالات بصورها في الحس وتكون صورا في جوهر الهواء وهي سريعة الزوال بسبب سرعة تغير جوهره ، ولفظ سيمياء معرب شيم يه ومعناه اسم الله تعالى انتهى وما ذكره من سرعة الزوال لا يسلم كليا وهو عندي بعض من علم السحر. وعرفه البيضاوي بأنه علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفية ثم قال : والسحر منه حقيقي. ومنه غير حقيقي ؛ ويقال له : الأخذ بالعيون وسحرة فرعون أتوا

٥٣٨

بمجموع الأمرين انتهى ، والمشهور أن هؤلاء السحرة جعلوا في الحبال والعصي زئبقا فلما أصابتها حرارة الشمس اضطربت واهتزت فخيل إليه عليه‌السلام أنها تتحرك وتمشي كشيء فيه حياة. ويروى أنه عليه‌السلام رآها كأنها حيات وقد أخذت ميلا في ميل ، وقيل : حفروا الأرض وجعلوا فيها نارا ووضعوا فوقها تلك الحبال والعصي فلما أصابتها حرارة النار تحركت ومشت. وفي القلب من صحة كلا القولين شيء.

والظاهر أن التخيل من موسى عليه‌السلام قد حصل حقيقة بواسطة سحرهم ، وروي ذلك عن وهب.

وقيل : لم يحصل والمراد من الآية أنه عليه‌السلام شاهد شيئا لو لا علمه بأنه لا حقيقة له لظن فيها أنها تسعى فيكون تمثيلا وهو خلاف الظاهر جدا ، وقرأ الحسن وعيسى «عصيهم» بضم العين وإسكان الصاد وتخفيف الياء مع الرفع وهو جمع كما في القراءة المشهورة وقرأ الزهري والحسن وعيسى وأبو حيوة وقتادة والجحدري وروح وابن ذكوان وغيرهم «تخيل» بالتاء الفوقانية مبنيا للمفعول وفيه ضمير الحبال والعصى. و (أَنَّها تَسْعى) بدل اشتمال من ذلك الضمير ولا يضر الإبدال منه في كونه رابطا لكونه ليس ساقطا من كل الوجوه.

وقرأ أبو السمال «تخيل» بفتح التاء أي تتخيل وفيه أيضا ضمير ما ذكروا (أَنَّها تَسْعى) بدل منه أيضا ، وقال ابن عطية : هو مفعول من أجله ، وقال أبو القاسم بن حبارة الهذلي الأندلس في كتاب الكامل : عن أبي السمال أنه قرئ «تخيل» بالتاء من فوق المضمومة وكسر الياء والضمير فيه فاعل و «أنها تسعى» نصب على المفعول به. ونسب ابن عطية هذه القراءة إلى الحسن وعيسى الثقفي ومن بنى «تخيل» للمفعول فالمخيل لهم ذلك هو الله تعالى للمحنة والابتلاء.

وروى الحسن بن يمن عن أبي حيوة «نخيل» بالنون وكسر الياء فالفاعل ضميره تعالى (أَنَّها تَسْعى) مفعول به.

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) الإيجاس الإخفاء والخيفة الخوف وأصله خوفة قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها ، وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون خوفة بفتح الخاء قلبت الواو ياء ثم كسرت الخاء للتناسب والأول أولى. والتنوين للتحقير أي أخفى فيها بعض خوف من مفاجأة ذلك بمقتضى طبع الجبلة البشرية عند رؤية الأمر المهول وهو قول الحسن ، وقال مقاتل : خاف عليه‌السلام من أن يعرض للناس ويختلج في خواطرهم شك وشبهة في معجزة العصا لما رأوا من عصيهم. وإضمار خوفه عليه‌السلام من ذلك لئلا تقوى نفوسهم إذا ظهر لهم فيؤدي إلى عدم اتباعهم ، وقيل : التنوين للتعظيم أي أخفى فيها خوفا عظيما ، وقال بعضهم : إن الصيغة لكونها فعلة وهي دالة على الهيئة والحالة اللازمة تشعر بذلك ولذا اختيرت على الخوف في قوله تعالى (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) [الرعد : ١٣] ولا يأباه الإيجاس ، وقيل : يأباه والأول هو الأنسب بحال موسى عليه‌السلام إن كان خوفه مما قاله الحسن والثاني هو الأنسب بحاله عليه‌السلام إن كان خوفه مما قاله مقاتل ، وقيل : إنه أنسب أيضا بوصف السحر بالعظم في قوله تعالى (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف : ١١٦] وأيد بعضهم كون التنوين لذلك بإظهار موسى وعدم إضماره فتأمل ، وقيل : إنه عليه‌السلام سمع لما قالوا إما أن تلقى إلخ القوا يا أولياء الله تعالى فخاف لذلك حيث يعلم أن أولياء الله تعالى لا يغلبون ولا يكاد يصح والنظم الكريم يأباه. وتأخير الفاعل لمراعاة الفواصل (قُلْنا لا تَخَفْ) أي لا تستمر على خوفك مما توهمت وادفع عن نفسك ما اعتراك فالنهي على حقيقته ، وقيل : حرج عن ذلك للتشجيع وتقوية القلب (إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) تعليل لما يوجبه النهي من الانتهاء عن الخوف وتقرير لغلبته على أبلغ وجه وآكده كما يعرب عن ذلك الاستئناف البياني وحرف التحقيق وتكرير الضمير وتعرف الخبر ولفظ العلو المنبئ عن الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل كما قاله غير واحد. والذي أميل إليه أن الصيغة المذكورة لمجرد الزيادة فإن كونها للمشاركة والزيادة

٥٣٩

يقتضي أن يكون للسحرة علو وغلبة ظاهرة أيضا مع أنه ليس كذلك وإثبات ذلك لهم بالنسبة إلى العامة كما قيل ليس بشيء إذ لا مغالبة بينهم وبينهم (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) أي عصاك كما وقع في سورة الأعراف. وكأن التعبير عنها بذلك لتذكيره ما وقع وشاده عليه‌السلام منها يوم قال سبحانه له (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) [طه : ١٧] ، وقال بعض المحققين : إنما أوثر الإبهام تهويلا لأمرها وتفخيما لشأنها وإيذانا بأنها ليست من جنس العصي المعهودة المستتبعة للآثار المعتادة بل خارجة عن حدود سائر أفراد الجنس مبهمة لكنها مستتبعة لآثار غريبة وعدم مراعاة هذه النكتة عند حكاية الأمر في مواضع أخر لا يستدعي عدم مراعاتها عند وقوع المحكي انتهى. وحاصله أن الإبهام للتفخيم كأن العصا لفخامة شأنها لا يحيط بها نطاق العلم نحو (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) [طه : ٧٨] ووقع حكاية الأمر في مواضع أخر بالمعنى والواقع نفسه ما تضمن هذه النكتة وإن لم يكن بلفظ عربي وإنما لم يعتبر العكس لأن المتضمن أوفق بمقام النهي عن الخوف وتشجيعه عليه‌السلام.

وقال أبو حيان : عبر بذلك دون عصاك لما في اليمين من معنى اليمن والبركة ، وفيه أن الخطاب لم يكن بلفظ عربي ، وقيل : الإبهام للتحقير بأن يراد لا تبالي بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الذي في يدك فإنه بقدرة الله تعالى يلقفها مع وحدته وكثرتها وصغره وعظمها. وتعقب بأنه يأباه ظهور حالها فيما مر مرتين على أن ذلك المعنى إنما يليق بما لو فعلت العصا ما فعلت وهي على الهيئة الأصلية وقد كان منها ما كان ، وما يحتمل أن تكون موصوفة ويحتمل أن تكون موصولة على كل من الوجهين ، وقيل : الأنسب على الأول الأول وعلى الثاني الثاني ، وقوله تعالى (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) بالجزم جواب الأمر من لقفه ناله بالحذف باليد أو بالفم ، والمراد هنا الثاني والتأنيث بكون ما عبارة عن العصا أي تبتلع ما صنعوه من الحبال والعصي التي خيل إليك سعيها ، والتعبير عنها بما صنعوا للتحقير والإيذان بالتمويه والتزوير. وقرأ الأكثرون «تلقّف» بفتح اللام وتشديد القاف وإسقاط إحدى التاءين من «تتلقف».

وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه رفع الفعل على أن الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا أو حال مقدرة من فاعل ألق بناء على تسببه أو من مفعوله أي متلقفا أو متلقفة ؛ وجملة الأمر معطوفة على النهي متممة بما في حيزها لتعليل موجبه ببيان كيفية علوه وغلبه عليه‌السلام فإن ابتلاع عصاه عليه‌السلام لأباطيلهم التي منها أوجس في نفسه خيفة يقلع مادة الخوف بالكلية. وزعم بعضهم أن هذا صريح في أن خوفه عليه‌السلام لم يكن من مخالجة الشك للناس في معجزة العصا وإلا لعلل بما يزيله من الوعد بما يوجب إيمانهم وفيه تأمل.

وقوله تعالى (إِنَّما صَنَعُوا) إلخ تعليل لقوله تعالى (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) وما إما موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي إن الذي صنعوه أو إن شيئا صنعوه أو إن صنعهم (كَيْدُ ساحِرٍ) بالرفع على أنه خبر إن أي كيد جنس الساحر ، وتنكيره للتوسل به إلى ما يقتضيه المقام من تنكير المضاف ولو عرف لكان المضاف إليه معرفة وليس مرادا. واعترض بأنه يجوز أن يكون تعريفه الإضافي حينئذ للجنس وهو كالنكرة معنى وإنما الفرق بينهما حضوره في الذهن. وأجيب بأنه لا حاجة إلى تعيين جنسه فإنه مما علم من قوله تعالى «يخيل» إلخ وإنما الغرض بعد تعيينه أن يذكر أنه أمر مموه لا حقيقة له وهذا مما يعرف بالذوق ، وقيل : نكر ليتوسل به إلى تحقير المضاف. وتعقب بأنه بعد تسليم إفادة ذلك تحقير المضاف لا يناسب المقام ولأنه يفيد انقسام السحر إلى حقير وعظيم وليس بمقصود. وأيضا ينافي ذلك قوله تعالى في آية أخرى (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) إلا أن يقال عظمه من وجه لا ينافي حقارته في نفسه وهو المراد من تحقيره. وقيل : إنما نكر لئلا يذهب الذهن إلى أن المراد ساحر معروف فتدبر.

وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن علي عليهم الرحمة «كيد» بالنصب على أنه مفعول (صَنَعُوا) وما كافة.

٥٤٠