روح المعاني - ج ٨

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٨

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٨

فالأكثر فيه طرح الياء اتباعا لرسم المصحف ، وأثبتها في الحالين ابن كثير (فَارْتَدَّا) أي رجعا (عَلى آثارِهِما) الأولى ، والمراد طريقهما الذي جاءا منه (قَصَصاً) أي يقصانه قصصا أي يتبعانها اتباعا فهو من قص أثره إذا اتبعه كما هو الظاهر ، ونصبه على أنه مفعول لفعل مقدر من لفظه ، وجوز أن يكون حالا مؤولا بالوصف أي مقتصين حتى أتيا الصخرة التي فقد الحوت عندها.

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا) الجمهور على أنه الخضر بفتح الخاء وقد تكسر وكسر الضاد وقد تسكن ، وقيل اليسع ، وقيل اليأس ، وقيل ملك من الملائكة وهو قول غريب باطل كما في شرح مسلم ، والحق الذي تشهد له الأخبار الصحيحة هو الأول ، والخضر لقبه ولقب به كما أخرج البخاري وغيره عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه جلس على فروة (١) بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء.

وأخرج ابن عساكر وجماعة عن مجاهد أنه لقب بذلك لأنه إذا صلى اخضر ما حوله ، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أن ذلك لأنه كان إذا جلس في مكان اخضر ما حوله وكانت ثيابه خضرا ، وأخرج عن السدي أنه إذا قام بمكان نبت العشب تحت رجليه حتى يغطي قدميه ، وقيل لإشراقه وحسنه ، والصواب كما قال النووي الأول ، وكنيته أبو العباس واسمه بليا بموحدة مفتوحة ولام ساكنة وياء مثناة تحتية ، وفي آخره ألف قيل ممدودة ، وقيل ابليا بزيادة همزة في أوله ، وقيل عامر ، وقيل أحمد ووهاه ابن دحية بأنه لم يسمع قبل نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد من الأمم السالفة بأحمد ، وزعم بعضهم أن اسم الخضر اليسع وأنه إنما سمي بذلك لأن علمه وسع ست سماوات وست أرضين ووهاه ابن الجوزي ، وأنت تعلم أنه باطل لا واه ، ومثله القول بأن اسمه الياس ، واختلفوا في أبيه فأخرج الدارقطني في الأفراد ، وابن عساكر من طريق مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس أنه ابن آدم لصلبه ، وأخرج ابن عساكر عن سعيد بن المسيب أن أمه رومية وأباه فارسي ، ولم يذكر اسمه وذكر أن الياس أخوه من هذه الأم وهذا الأب ، وأخرج أيضا عن أسباط عن السدي أنه ابن ملك من الملوك وكان منقطعا في عبادة الله تعالى وأحب أبوه أن يزوجه فأبى ثم أجاب فزوجه بامرأة بكر فلم يقربها سنة ثم بثيب فلم يقربها ثم فر فطلبه فلم يقدر عليه ثم تزوجت امرأته الأولى وكانت قد آمنت وهي ماشطة امرأة فرعون ، ولم يذكر أيضا اسم أبيه ، وقيل إنه ابن فرعون على ما قيل إنه أبوه وسبحان من يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، وأخرج أبو الشيخ في العظمة وأبو نعيم في الحلية عن كعب الأحبار أنه ابن عاميل وأنه ركب في نفر من أصحابه حتى بلغ بحر الهند وهو بحر الصين فقال : يا أصحابي دلوني فدلوه في البحر أياما وليالي ثم صعد فقال : استقبلني ملك فقال لي : أيها الآدمي الخطاء إلى أين ومن أين؟ فقلت : أردت أن انظر عمق هذا البحر فقال لي : كيف وقد أهوى رجل من زمان داود عليه‌السلام ، ولم يبلغ ثلث قعره حتى الساعة وذلك ثلاثمائة سنة ، وأظنك لا تشك بكذب هذا الخبر وإن قيل حدث عن البحر ولا حرج ؛ وقيل هو ابن العيص. وقيل هو ابن كليان بكاف مفتوحة ولام ساكنة وياء مثناة تحتية بعدها ألف ونون. وقال ابن قتيبة في المعارف : قال وهب بن منبه إنه ابن ملكان بفتح الميم وإسكان اللام ابن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه‌السلام. ولم يصح عندي شيء من هذه الأقوال بيد أن صنيع النووي عليه الرحمة في شرح مسلم يشعر باختيار أنه بليا بن ملكا وهو الذي عليه الجمهور والله تعالى أعلم.

وصح من حديث البخاري وغيره أنهما رجعا إلى الصخرة وإذا رجل مسجى بثوب قد جعل طرفه تحت رجليه

__________________

(١) هي وجه الأرض اه منه.

٣٠١

وطرفه الآخر تحت رأسه. وفي صحيح مسلم فأتيا جزيرة فوجد الخضر قائما يصلي على طنفسة خضراء على كبد البحر ، وقال الثعلبي : انتهيا إليه وهو نائم على طنفسة خضراء على وجه الماء وهو مسجى بثوب أخضر. وقيل إن سبيل الحوت عاد حجرا فلما جاءا إليه مشيا عليه حتى وصلا إلى جزيرة فيها الخضر ، وصح أنهما لما انتهيا إليه سلم موسى فقال الخضر : وإني بأرضك السلام. فقال : أنا موسى. فقال : موسى بني إسرائيل قال : نعم ، وروي أنه لما سلم عليه وهو مسجى عرفه أنه موسى فرفع رأسه فاستوى جالسا وقال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل فقال موسى : وما أدراك بي ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ فقال : الذي أدراك بي ودلك عليّ ثم قال: يا موسى أما يكفيك أن التوراة بيدك وأن الوحي يأتيك؟ قال موسى : إن ربي أرسلني إليك لأتبعك وأتعلم من علمك ، والتنوين في (عَبْداً) للتفخيم والإضافة في (عِبادِنا) للتشريف والاختصاص أي عبدا جليل الشأن ممن اختص بنا وشرف بالإضافة إلينا.

(آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) قيل المراد بها الرزق الحلال والعيش الرغد ، وقيل العزلة عن الناس وعدم الاحتياج إليهم وقيل طول الحياة مع سلامة البنية ، والجمهور على أنها الوحي والنبوة وقد أطلقت على ذلك في مواضع من القرآن ، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وهذا قول من يقول بنبوته عليه‌السلام وفيه أقوال ثلاثة ، فالجمهور على أنه عليه‌السلام نبي وليس برسول ، وقيل هو رسول ، وقيل هو ولي وعليه القشيري وجماعة ، والمنصور ما عليه الجمهور. وشواهده من الآيات والأخبار كثيرة وبمجموعها يكاد يحصل اليقين ، وكما وقع الخلاف في نبوته وقع الخلاف في حياته اليوم فذهب جمع إلى أنه ليس بحي اليوم ، وسئل البخاري عنه وعن الياس عليهما‌السلام هل هما حيان؟ فقال : كيف يكون هذا وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي قبل وفاته بقليل لا يبقى على رأس المائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ، والذي في صحيح مسلم عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل موته ما من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ حية وهذا أبعد عن التأويل ، وسئل عن ذلك غيره من الأئمة فقرأ (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) [الأنبياء : ٣٤]. وسئل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال : لو كان الخضر حيا لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويجاهد بين يديه ويتعلم منه. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم فأين كان الخضر حينئذ؟.

وسئل إبراهيم الحربي عن بقائه فقال : من أحال على غائب لم ينتصف منه وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان.

ونقل في البحر عن شرف الدين أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي القول بموته أيضا. ونقله ابن الجوزي عن علي بن موسى الرضا رضي الله تعالى عنهما أيضا. وكذا عن إبراهيم بن إسحاق الحربي ، وقال أيضا : كان أبو الحسين بن المنادي يقبح قول من يقول إنه حي.

وحكى القاضي أبو يعلى موته عن بعض أصحاب محمد وكيف يعقل وجود الخضر ولا يصلي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجمعة والجماعة ولا يشهد معه الجهاد مع قوله عليه الصلاة والسلام «والذي نفسي بيده لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني» وقوله عزوجل (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران : ٨١] وثبوت أن عيسى عليه‌السلام إذا نزل إلى الأرض يصلي خلف إمام هذه الأمة ولا يتقدم عليه في مبدأ الأمر ، وما أبعد فهم من يثبت وجود الخضر عليه‌السلام وينسى ما في طي إثباته من الإعراض عن هذه الشريعة ثم قال : وعندنا من المعقول وجوه على عدم حياته ، أحدها أن الذي قال بحياته قال : إنه ابن آدم عليه‌السلام لصلبه وهذا فاسد لوجهين ، الأول أنه يلزم أن يكون عمره اليوم ستة آلاف سنة أو أكثر ومثل هذا بعيد في العادات في حق البشر. والثاني

٣٠٢

أنه لو كان ولده لصلبه أو الرابع من أولاده كما زعموا أنه وزير ذي القرنين لكان مهول الخلقة مفرط الطول والعرض ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خلق آدم طوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده» وما ذكر أحد ممن يزعم رؤية الخضر أنه رآه على خلقة عظيمة وهو من أقدم الناس ، والوجه الثاني أنه لو كان الخضر قبل نوح عليه‌السلام لركب معه في السفينة ولم ينقل هذا أحد.

الثالث أن العلماء اتفقوا على أن نوحا عليه‌السلام لما خرج من السفينة مات من معه ولم يبق غير نسله ودليل ذلك قوله سبحانه (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) [الصافات : ٧٧]. الرابع أنه لو صح بقاء بشر من لدن آدم إلى قرب خراب الدنيا لكان ذلك من أعظم الآيات والعجائب وكان خبره في القرآن مذكورا في مواضع لأنه من آيات الربوبية وقد ذكر سبحانه عزوجل من استحياه ألف سنة إلا خمسين عاما وجعله آية فكيف لا يذكر جل وعلا من استحياه أضعاف ذلك ، الخامس أن القول بحياة الخضر قول على الله تعالى بغير علم وهو حرام بنص القرآن ، أما المقدمة الثانية فظاهرة ، وأما الأولى فلأن حياته لو كانت ثابتة لدل عليها القرآن أو السنة أو إجماع الأمة فهذا كتاب الله تعالى فأين فيه حياة الخضر؟ وهذه سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأين فيها ما يدل على ذلك بوجه ، وهؤلاء علماء الأمة فمتى أجمعوا على حياته ، السادس أن غاية ما يتمسك به في حياته حكايات منقولة يخبر الرجل بها أنه رأى الخضر فيا لله تعالى العجب هل للخضر علامة يعرفه بها من رآه؟ وكثير من زاعمي رؤيته يغتر بقوله أنا الخضر ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من الله تعالى فمن أين للرائي أن المخبر له صادق لا يكذب؟ السابع أن الخضر فارق موسى بن عمران كليم الرحمن ولم يصاحبه وقال (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف : ٧٨] فكيف يرضى لنفسه بمفارقة مثل موسى عليه‌السلام ثم يجتمع بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة الذين لا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا مجلس علم وكل منهم يقول : قال لي الخضر جاءني الخضر أوصاني الخضر ـ فيا عجبا له يفارق الكليم ويدور على صحبة جاهل لا يصحبه إلا شيطان رجيم سبحانك هذا بهتان عظيم.

الثامن أن الأمة مجمعة على أن الذي يقول أنا الخضر لو قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : كذا وكذا لم يلتفت إلى قوله ولم يحتج به في الدين ولا مخلص للقائل بحياته عن ذلك إلا أن يقول : إنه لم يأت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ولا بايعه أو يقول : إنه لم يرسل إليه وفي هذا من الكفر ما فيه ، التاسع أنه لو كان حيا لكان جهاده الكفار ورباطه في سبيل الله تعالى ومقامه في الصف ساعة وحضوره الجمعة والجماعة وإرشاد جهلة الأمة أفضل بكثير من سياحته بين الوحوش في القفار والفلوات إلى غير ذلك ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما له وما عليه. وشاع الاستدلال بخبر لو كان الخضر حيا لزارني وهو كما قال الحفاظ خبر موضوع لا أصل له ولو صح لأغنى عن القيل والقال ولا نقطع به الخصام والجدال ؛ وذهب جمهور العلماء إلى أنه حي موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه عند الصوفية قدست أسرارهم قاله النووي ، ونقل عن الثعلبي المفسر أن الخضر نبي معمر على جميع الأقوال محجوب عن أبصار أكثر الرجال ، وقال ابن الصلاح : هو حي اليوم عند جماهير العلماء والعامة معهم في ذلك ؛ وإنما ذهب إلى إنكار حياته بعض المحدثين واستدلوا على ذلك بأخبار كثيرة منها ما أخرجه الدارقطني في الأفراد وابن عساكر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال : الخضر ابن آدم لصلبه ونسيء له في أجله حتى يكذب الدجال ومثله لا يقال من قبل الرأي ، ومنها ما أخرجه ابن عساكر عن ابن إسحاق قال : حدثنا أصحابنا أن آدم عليه‌السلام لما حضره الموت جمع بنيه فقال : يا بني إن الله تعالى منزل على أهل الأرض عذابا فليكن جسدي معكم في المغارة حتى إذا هبطتم فابعثوا بي وادفنوني بأرض الشام فكان جسده معهم فلما بعث الله تعالى نوحا ضم ذلك الجسد وأرسل الله تعالى الطوفان على الأرض فغرقت

٣٠٣

زمانا فجاء نوح حتى نزل بابل وأوصى بنيه الثلاثة أن يذهبوا بجسده إلى المغار الذي أمرهم أن يدفنوه به فقالوا : الأرض وحشة لا أنيس بها ولا نهتدي الطريق ولكن كف حتى يأمن الناس ويكثروا فقال لهم نوح : إن آدم قد دعا الله تعالى أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة فلم يزل جسد آدم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه فأنجز الله تعالى له ما وعده فهو يحيا إلى ما شاء الله تعالى له أن يحيا ، وفي هذا سبب طول بقائه وكأنه سبب بعيد وإلا فالمشهور فيه أنه شرب من عين الحياة حين دخل الظلمة مع ذي القرنين وكان على مقدمته ، ومنها ما أخرجه الخطيب وابن عساكر عن علي رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه قال : بينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل متعلق بأستار الكعبة يقول : يا من لا يشغله سمع عن سمع ويا من لا تغلطه المسائل ويا من لا يتبرم بإلحاح الملحين أذقني برد عفوك وحلاوة رحمتك قلت : يا عبد الله أعد الكلام قال : أسمعته؟ قلت : نعم قال : والذي نفس الخضر بيده ـ وكان هو الخضر ـ لا يقولهن عبد دبر الصلاة المكتوبة إلا غفرت ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج وعدد المطر وورق الشجر.

ومنها ما نقله الثعلبي عن ابن عباس قال : قال علي كرم الله تعالى وجهه : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما توفي وأخذنا في جهازه خرج الناس وخلا الموضع فلما وضعته على المغتسل إذا بهاتف يهتف من زاوية البيت بأعلى صوته لا تغسلوا محمدا فإنه طاهر طهر فوقع في قلبي شيء من ذلك وقلت : ويلك من أنت فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا أمرنا وهذه سنته وإذا بهاتف آخر يهتف بي من زاوية البيت بأعلى صوته غسلوا محمدا فإن الهاتف الأول كان إبليس الملعون حسد محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدخل قبره مغسولا فقلت : جزاك الله تعالى خيرا قد أخبرتني بأن ذلك إبليس فمن أنت؟ قال : أنا الخضر حضرت جنازة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنها ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن جابر قال : لما توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجتمع الصحابة دخل رجل أشهب اللحية جسيم صبيح فتخطى رقابهم فبكى ثم التفت إلى الصحابة فقال : إن في الله تعالى عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل فائت وخلفا من كل هالك فإلى الله تعالى فأنيبوا وإليه تعالى فارغبوا ونظره سبحانه إليكم في البلاء فانظروا فإنما المصاب من لم يجبر فقال أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما : هذا الخضر عليه‌السلام ؛ ومنها ما أخرجه ابن عساكر أن الياس والخضر يصومان شهر رمضان في بيت المقدس ويحجان في كل سنة ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى مثلها من قابل ، ومنها ما أخرجه ابن عساكر أيضا والعقيلي والدار قطني في الأفراد عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يلتقي الخضر والياس كل عام في الموسم فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان عن هذه الكلمات باسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله.

ومنها ما أخرجه ابن عساكر بسنده عن محمد بن المنكدر قال : بينما عمر بن الخطاب يصلي على جنازة إذا بهاتف يهتف من خلفه لا تسبقنا بالصلاة يرحمك الله تعالى فانتظره حتى حق بالصف الأول فكبر عمر وكبر الناس معه فقال الهاتف : إن تعذبه فكثيرا عصاك وإن تغفر له ففقير إلى رحمتك فنظر عمر وأصحابه إلى الرجل فلما دفن الميت وسوي عليه التراب قال : طوبى لك يا صاحب القبر ان لم تكن عريفا أو جابيا أو خازنا أو كاتبا أو شرطيا فقال عمر : خذوا لي الرجل نسأله عن صلاته وكلامه هذا عمن هو فتوارى عنهم فنظروا فإذا أثر قدمه ذراع فقال عمر : هذا والله الذي حدثنا عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والاستدلال بهذا مبني على أنه عنى بالمحدث عنه الخضر عليه‌السلام إلى غير ذلك. وكثير مما ذكر وإن لم يدل على أنه حي اليوم بل يدل على أنه كان حيا في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يلزم من حياته إذ ذاك حياته اليوم إلا أنه يكفي في رد الخصم إذ هو ينفي حياته إذ ذاك كما ينفي حياته اليوم ، نعم إذا كان عندنا من يثبتها إذ ذاك وينفيها الآن لم ينفع ما ذكر معه لكن ليس عندنا من هو كذلك ، وحكايات الصالحين من التابعين والصوفية في الاجتماع به والأخذ عنه في سائر الأعصار أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر. نعم أجمع المحدثون القائلون

٣٠٤

بحياته عليه‌السلام على أنه ليس له رواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما صرح به العراقي في تخريج أحاديث الأحياء. وهذا خلاف ما عند الصوفية فقد ادعى الشيخ علاء الدين استفادة الأحاديث النبوية عنه بلا واسطة.

وذكر السهروردي في السر المكتوم أن الخضر عليه‌السلام حدثنا بثلاثمائة حديث سمعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شفاها ، واستدل بعض الذاهبين إلى حياته الآن بالاستصحاب فإنه قد تحققت من قبل بالدليل فتبقى على ذلك إلى أن يقوم الدليل على خلافها ولم يقم. وأجابوا عما استدل به الخصم مما تقدم. فأجابوا عما ذكره البخاري من الحديث الذي لا يوجب نفي حياته في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما يوجب بظاهره نفيها بعد مائة سنة من زمان القول بأنه لم يكن حينئذ على ظهر الأرض بل كان على وجه الماء. وبأن الحديث عام فيما يشاهده الناس بدليل استثناء الملائكة عليهم‌السلام وإخراج الشيطان ، وحاصله انخرام القرن الأول ، نعم هو نص في الرد على مدعي التعمير كرتن بن عبد الله الهندي التبريزي الذي ظهر في القرن السابع وادعى الصحبة وروى الأحاديث.

وفيه أن الظاهر ممن على ظهر الأرض من هو من أهل الأرض ومتوطن فيها عرفا ولا شك أن هذا شامل لمن كان في البحر ولو لم يعد من في البحر ممن هو على ظهر الأرض لم يكن الحديث نصا في الرد على رتن وأضرابه لجواز أن يكونوا حين القول في البحر بل متى قبل هذا التأويل خرج كثير من الناس من عموم الحديث ، وضعف العموم في قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر : ٤٥] ولينظر في قول من قال : يحتمل أنه كان وقت القول في الهواء ففيه أيضا ما لا يخفى على الناظر. ويرد على الجواب الثاني أن الخضر لو كان موجودا لكان ممن يشاهده الناس كما هو الأمر المعتاد في البشر ، وكونه عليه‌السلام خارجا عن ذلك لا يثبت إلا بدليل وأنى هو فتأمل ، وأجابوا عما قاله الشيخ ابن تيمية بأن وجوب الإتيان ممنوع فكم من مؤمن به صلى‌الله‌عليه‌وسلم في زمانه لم يأته عليه الصلاة والسلام فهذا خير التابعين أويس القرني رضي الله تعالى عنه لم يتيسر له الإتيان والمرافقة في الجهاد ولا التعلم من غير واسطة وكذا النجاشي رضي الله تعالى عنه. على أنا نقول : إن الخضر عليه‌السلام كان يأتيه ويتعلم منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكن على وجه الخفاء لعدم كونه مأمورا بإتيان العلانية لحكمة إلهية اقتضت ذلك. وأما الحضور في الجهاد فقد روى ابن بشكوال في كتاب المستغيثين بالله تعالى عن عبد الله بن المبارك أنه قال : كنت في غزوة فوقع فرسي ميتا فرأيت رجلا حسن الوجه طيب الرائحة قال : أتحب أن تركب فرسك؟ قلت : نعم فوضع يده على جبهة الفرس حتى انتهى إلى مؤخره وقال : أقسمت عليك أيتها العلة بعزة عزة الله وبعظمة الله وبجلال جلال الله وبقدرة قدرة الله وبسلطان سلطان الله وبلا إله إلا الله وبما جرى به القلم من عند الله وبلا حول ولا قوة إلا بالله إلا انصرفت فوثب الفرس قائما بإذن الله تعالى وأخذ الرجل بركابي وقال : اركب فركبت ولحقت بأصحابي فلما كان من غداة غد وظهرنا على العدو فإذا هو بين أيدينا فقلت : ألست صاحبي بالأمس؟ قال : بلى فقلت : سألتك بالله تعالى من أنت؟ فوثب قائما فاهتزت الأرض تحته خضراء فقال : أنا الخضر فهذا صريح في أنه قد يحضر بعض المعارك ، وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بدر : «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» فمعناه لا تعبد على وجه الظهور والغلبة وقوة الأمة وإلا فكم من مؤمن كان بالمدينة وغيرها ولم يحضر بدرا ، ولا يخفى أن نظم الخضر عليه‌السلام في سلك أويس القرني والنجاشي وأضرابهما ممن لم يمكنه الإتيان إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعيد عن الإنصاف وإن لم نقل بوجوب الإتيان عليه عليه‌السلام ، وكيف يقول منصف بإمامته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجميع الأنبياء عليهم‌السلام واقتداء جميعهم به ليلة المعراج ولا يرى لزوم الإتيان على الخضر عليه‌السلام والاجتماع معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنه لا مانع له من ذلك بحسب الظاهر ، ومتى زعم أحد أن نسبته إلى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنسبته إلى موسى عليه‌السلام فليجدد إسلامه ، ودعوى أنه كان يأتي ويتعلم خفية لعدم أمره بذلك علانية

٣٠٥

لحكمة إلهية مما لم يقم عليها الدليل ، على أنه لو كان كذلك لذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو مرة وأين الدليل على الذكر؟ وأيضا لا تظهر الحكمة في منعه عن الإتيان مرة أو مرتين على نحو إتيان جبريل عليه‌السلام في صورة دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه ، وإن قيل إن هذه الدعوى مجرد احتمال ، قيل لا يلتفت إلى مثله إلا عند الضرورة ولا تتحقق إلا بعد تحقق وجوده إذ ذاك بالدليل ووجوده كوجوده عندنا ، وأما ما روي عن ابن المدرك فلا نسلم ثبوته عنه ، وأنت إذا أمعنت النظر في ألفاظ القصة استبعدت صحتها ، ومن أنصف يعلم أن حضوره عليه‌السلام يوم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسعد رضي الله تعالى عنه : ارم فداك أبي وأمي كان أهم من حضوره مع ابن المبارك ، واحتمال أنه حضر ولم يره أحد شبه شيء بالسفسطة ، وأما ما ذكروه في معنى الحديث فلقائل أن يقول : إنه بعيد فمن الظاهر منه نفي أن يعبد سبحانه إن أهلك تلك العصابة مطلقا على معنى أنهم إن أهملوا والإسلام غض ارتد الباقون ولم يكد يؤمن أحد بعد فلا يعبده سبحانه أحد من البشر في الأرض حينئذ ، وقد لا يوسط حديث الارتداد بأن يكون المعنى اللهم إن تهلك هذه العصابة الذين هم تاج رأس الإسلام استولى الكفار على سائر المسلمين بعدهم فأهلكوهم فلا يعبدك أحد من البشر حينئذ ، وأيّا ما كان فالاستدلال بالحديث على عدم وجود الخضر عليه‌السلام له وجه ، فإن أجابوا عنه بأن المراد نفي أن يشاهد من يعبده تعالى بعد والخضر عليه‌السلام لا يشاهد ورد عليه ما تقدم. وأجابوا عن الاستدلال بقوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) [الأنبياء : ٣٤] بأن المراد من الخلد الدوام الأبدي والقائلون بوجوده اليوم لا يقولون بتأبيده بل منهم من يقول : إنه يقاتل الدجال ويموت ، ومنهم من يقول: إنه يموت زمان رفع القرآن ، ومنهم من يقول : إنه يموت في آخر الزمان ومراده أحد هذين الأمرين أو ما يقاربهما.

وتعقب بأن الخلد بمعنى الخلود وهو على ما يقتضيه ظاهر قوله تعالى (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [النساء: ٥٧ وغيرها] حقيقة في طول المكث لا في دوام البقاء فإن الظاهر التأسيس لا التأكيد ، وقد قال الراغب : كل ما يتباطأ عنه التغير والفساد تصفه العرب بالخلود كقولهم للأثافي خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوامها وبقائها انتهى.

وأنت تعلم قوة الجواب لأن المكث الطويل ثبت لبعض البشر كنوح عليه‌السلام. وأجابوا عما نقل عن ابن الجوزي من الوجوه العقلية ، أما عن الأول من وجهي فساد القول بأنه ابن آدم عليه‌السلام بعد تسليم صحة الرواية فبأن البعد العادي لا يضر القائل بتعميره هذه المدة المديدة لأن ذلك عنده من خرق العادات ، وأما على الثاني فبأن ما ذكر من عظم خلقة المتقدمين خارج مخرج الغالب وإلا فيأجوج ومأجوج من صلب يافث بن نوح وفيهم من طوله قدر شبر كما روي في الآثار ، على أنه لا بدع في أن يكون الخضر عليه‌السلام قد أعطى قوة التشكل والتصور بأي صورة شاء كجبريل عليه الصلاة والسلام ، وقد أثبت الصوفية قدست أسرارهم هذه القوة للأولياء ولهم في ذلك حكايات مشهورة ، وأنت تعلم أن ما ذكر عن يأجوج ومأجوج من أن فيهم من طوله قدر شبر بعد تسليمه لقائل أن يقول فيه : إن ذلك حين يفتح السد وهو في آخر الزمان ولا يتم الاستناد بحالهم إلا إذا ثبت أن فيهم من هو كذلك في الزمن القديم ، وما ذكر من إعطائه من قوة التشكل احتمال بعيد وفي ثبوته للأولياء خلاف كثير من المحدثين. وقال بعض الناس : لو أعطى أحد من البشر هذه القوة لأعطيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الهجرة فاستغنى بها عن الغار وجعلها حجابا له عن الكفار ، وللبحث في هذا مجال. وعن الثاني من الوجوه بأنه لا يلزم من عدم نقل كونه في السفينة إن قلنا بأنه عليه‌السلام كان قبل نوح عليه‌السلام عدم وجوده لجواز أنه كان ولم ينقل مع أنه يحتمل أن يكون قد ركب ولم يشاهد وهذا كما ترى. وقال بعض الناس : إذا كان احتمال إعطاء قوة التشكل قائما عند القائلين بالتعمير فليقولوا : يحتمل أنه عليه‌السلام قد تشكل فصار في غاية من الطول بحيث خاض في الماء ولم يحتج إلى الركوب في السفينة على نحو ما يزعمه أهل الخرافات في

٣٠٦

عوج بن عوق ، وأيضا هم يقولون : له قدرة الكون في الهواء فما منعهم من أن يقولوا بأنه يحتمل أنه لم يركب وتحفظ عن الماء بالهواء كما قالوا باحتمال أنه كان في الهواء في الجواب عن حديث البخاري ، وأيضا ذكر بعضهم عن العلامي في تفسيره أن الخضر يدور في البحار يهدي من ضل فيها والياس يدور في الجبال يهدي من ضل فيها هذا دأبهما في النهار وفي الليل يجتمعان عند سد يأجوج ومأجوج يحفظانه فلم لم يقولوا : إنه عليه‌السلام بقي في البحر حين ركب غيره السفينة ولعلهم إنما لم يقولوا ذلك لأن ما ذكر قد روى قريبا منه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن أنس مرفوعا ولفظه «إن الخضر في البحر والياس في البر يجتمعان كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين» الخبر ، وقد قالوا : إن سنده واه أو لأنهم لا يثبتون له هذه الخدمة الإلهية في ذلك الوقت ، ويوشك أن يقولوا في إعطائه قوة التشكل والكون في الهواء كذلك. وعن الثالث بأنه لا نسلم الاتفاق على أنه مات كل أهل السفينة ولم يبق بعد الخروج منها غير نسل نوح عليه‌السلام والخصر في الآية إضافي بالنسبة إلى المكذبين بنوح عليه‌السلام. وأيضا المراد أنه مات كل من كان ظاهرا مشاهدا غير نسله عليه‌السلام بدليل أن الشيطان كان أيضا في السفينة. وأيضا المراد من الآية بقاء ذريته عليه‌السلام على وجه التناسل وهو لا ينفي بقاء من عداهم من غير تناسل ونحن ندعي ذلك في الخضر على أن القول بأنه كان قبل نوح عليهما‌السلام قول ضعيف والمعتمد كونه بعد ذلك ولا يخفى ما في بعض ما ذكر من الكلام.

وعن الرابع بأنه لا يلزم من كون تعميره من أعظم الآيات أن يذكر في القرآن العظيم كرات ، وإنما ذكر سبحانه نوحا عليه‌السلام تسلية لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لاقى من قومه في هذه المدة مع بقائهم مصرين على الكفر حتى أغرقوا ولا توجد هذه الفائدة في ذكر عمر الخضر عليه‌السلام لو ذكر ، على أنه قد يقال : من ذكر طول عمر نوح عليه‌السلام تصريحا يفهم تجويز عمر أطول من ذلك تلويحا.

وتعقب بأن لنا أن نعود فنقول : لا أقل من أن يذكر هذا الأمر العظيم في القرآن العظيم مرة لأنه من آيات الربوبية في النوع الإنساني ، وليس المراد أنه يلزم عقلا من كونه كذلك ذكره بل ندعي أن ذكر ذلك أمر استحساني لا سيما وقد ذكر تعمير عدو الله تعالى إبليس عليه اللعنة فإذا ذكر يكون القرآن مشتملا على ذكر معمر من الجن مبعد وذكر معمر من الإنس مقرب ولا يخفى حسنه ، وربما يقال : إن فيه أيضا إدخال السرور على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبأن التجويز المذكور في حيز العلاوة مما لا كلام فيه إنما الكلام في الوقوع ودون إثباته الظفر بماء الحياة ، وأجاب بعضهم بأن في قوله تعالى : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) إشارة إلى طول عمره عليه‌السلام على ما سمعت عن بعض في تفسيره. ورد بأن تفسيره بذلك مبني على القول بالتعمير فإن قبل قبل وإلا فلا ، وعن الخامس بأنا نختار أنه ثابت بالسنة وقد تقدم لك طرف منها.

وتعقب بما نقله عن القارئ عن ابن قيم الجوزية أنه قال : إن الأحاديث التي يذكر فيها الخضر عليه‌السلام وحياته كلها كذب ولا يصح في حياته حديث واحد ومن ادعى الصحة فعليه البيان ، وقيل : يكفي في ثبوته إجماع المشايخ العظام وجماهير العلماء الأعلام. وقد نقل هذا الإجماع ابن الصلاح والنووي وغيرهما من الأجلة الفخام ، وتعقب بأن إجماع المشايخ غير مسلم فقد نقل الشيخ صدر الدين إسحاق القونوي في تبصرة المبتدي وتذكرة المنتهي أن وجود الخضر عليه‌السلام في عالم المثال.

وذهب عبد الرزاق الكاشي إلى أن الخضر عبارة عن البسط والياس عن القبض ، وذهب بعضهم إلى أن الخضرية رتبة يتولاها بعض الصالحين على قدم الخضر الذي كان في زمان موسى عليهما‌السلام ، ومع وجود هذه الأقوال لا يتم الإجماع ، وكونها غير مقبولة عند المحققين منهم لا يتممه أيضا ، وإجماع جماهير العلماء على ما نقل ابن الصلاح

٣٠٧

والنووي مسلم لكنه ليس الإجماع الذي هو أحد الأدلة الشرعية والخصم لا يقنع إلا به وهو الذي نفاه فأنى بإثباته ، ولعل الخصم لا يعتبر أيضا إجماع المشايخ قدست أسرارهم إجماعا هو أحد الأدلة ، وعن السادس بأن له علامات عند أهله ككون الأرض تخضر عند قدمه وأن طول قدمه ذراع وربما يظهر منه بعض خوارق العادات بما يشهد بصدقه ، على أن المؤمن يصدق بقوله بناء على حسن الظن به ، وقد شاع بين زاعمي رؤيته عليه‌السلام أن من علاماته أن إبهام يده اليمنى لا عظم فيه وأن بؤبؤ إحدى عينيه يتحرك كالزئبق ، وتعقب بأنه بأي دليل ثبت أن هذه علاماته قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.

والذي ثبت في الحديث الصحيح أنه إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء وأين فيه ثبوت ذلك له دائما ، وكون طول قدمه ذراعا إنما جاء في خبر محمد بن المنكدر السابق عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولا نسلم صحته ، على أن زاعمي رؤيته يزعمون أنهم يرونه في صور مختلفة ولا يكاد يستقر له عليه‌السلام قدم على صورة واحدة ، وظهور الخوارق مشترك بينه وبين غيره من أولياء الأمة فيمكن أن يظهر ولي خارقا ويقول : أنا الخضر مجازا لأنه على قدمه أو لاعتبار آخر ويدعوه لذلك داع شرعي ، وقد صح في حديث الهجرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قيل له ممن القوم؟ قال : من ما فظن السائل أن ما اسم قبيلة ولم يعن صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنهم خلقوا من ماء دافق ، وقد يقال للصوفي : إن أنا الخضر مع ظهور الخوارق لا تيقن منه أن القائل هو الخضر بالمعنى المتبادر في نفس الأمر لجواز أن يكون ذلك القائل ممن هو فان فيه لاتحاد المشرب ، وكثيرا ما يقول الفاني في شيخه أنا فلان ويذكر اسم شيخه ، وأيضا متى وقع من بعضهم قول : أنا الحق وما في الجبة إلا الله لم يبعد أن يقع أنا الخضر ، وقد ثبت عن كثير منهم نظما ونثرا قول : أنا آدم أنا نوح أنا إبراهيم أنا موسى أنا عيسى أنا محمد إلى غير ذلك مما لا يخفى عليك وذكروا له محملا صحيحا عندهم فليكن قول : أنا الخضر ممن ليس بالخضر على هذا الطرز ، ومع قيام هذا الاحتمال كيف يحصل اليقين؟ وحسن الظن لا يحصل منه ذلك.

وعن السابع بأنا لا نسلم اجتماعه بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة ولا يلتفت إلى قولهم فالكذابون الدجالون يكذبون على الله تعالى وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يبعد أن يكذبوا على الخضر عليه‌السلام ويقولوا قال وجاء إنما القول باجتماعه بأكابر الصوفية والعباد المحافظين على الحدود الشرعية فإنه قد شاع اجتماعه بهم حتى أن منهم من طلب الخضر مرافقته فأبى ، وروي ذلك عن علي الخواص رحمة الله تعالى عليه في سفر حجه ، وسئل عن سبب إبائه فقال : خفت من النقص في توكلي حيث اعتمد على وجوده معي.

وتعقب بأن اجتماعه بهم واجتماعهم به يحتمل أن يكون من قبيل ما يذكرونه من اجتماعهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجتماعه عليه الصلاة والسلام بهم ، وذلك أن الأرواح المقدسة قد تظهر متشكلة ويجتمع بها الكاملون من العباد ، وقد صح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى موسى عليه‌السلام قائما يصلي في قبره ورآه في السماء ورآه يطوف بالبيت. وادعى الشيخ الأكبر قدس‌سره الاجتماع مع أكثر الأنبياء عليهم‌السلام لا سيما مع إدريس عليه‌السلام فقد ذكر أنه اجتمع به مرارا وأخذ منه علما كثيرا بل قد يجتمع الكامل بمن لم يولد بعد كالمهدي ، وقد ذكر الشيخ الأكبر أيضا اجتماعه معه ، وهذا ظاهر عند من يقول : إن الأزل والأبد نقطة واحدة والفرق بينهما بالاعتبار عند المتجردين عن جلابيب أبدانهم ، ولعل كثرة هذا الظهور والتشكل من خصوصيات الخضر عليه‌السلام ، ومع قيام هذا الاحتمال لا يحصل يقين أيضا بأن الخضر المرئي موجود في الخارج كوجود سائر الناس فيه كما لا يخفى.

ومما يبنى على اجتماعه عليه‌السلام بالكاملين من أهل الله تعالى بعض طرق إجازتنا بالصلاة البشيشية فإني

٣٠٨

أرويها من بعض الطرق عن شيخي علاء الدين علي أفندي الموصلي عن شيخه ووالده صلاح الدين يوسف أفندي الموصلي عن شيخه خاتمة المرشدين السيد علي البندنيجي عن نبي الله تعالى الخضر عليه‌السلام عن الولي الكامل الشيخ عبد السلام بن بشيش قدس‌سره. وعن الثامن بأنا لا نسلم أن القول بعدم إرساله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه عليه‌السلام كفر ، وبفرض أنه ليس بكفر هو قول باطل إجماعا ، ونختار أنه أتى وبايع لكن باطنا حيث لا يشعر به أحد ؛ وقد عده جماعة من أرباب الأصول في الصحابة ، ولعل عدم قبول روايته لعدم القطع في وجوده وشهوده في حال رؤيته وهو كما ترى. وعن التاسع بأنه مجازفة في الكلام فإنه من أين يعلم نفي ما ذكره من حضور الجهاد وغيره عن الخضر عليه‌السلام مع أن العالم بالعلم اللدني لا يكون مشتغلا إلا بما علمه الله تعالى في كل مكان وزمان بحسب ما يقتضي الأمر والشأن ، وتعقب بأن النفي مستند إلى عدم الدليل فنحن نقول به إلى أن يقوم الدليل ولعله لا يقوم حتى يقوم الناس لرب العالمين ، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في العلم اللدني والعالم به ، وبالجملة قد ظهر لك حال معظم أدلة الفريقين وبقي ما استدل به البعض من الاستصحاب. وأنت تعلم أنه حجة عند الشافعي والمزني وأبي بكر الصيرفي في كل شيء نفيا وإثباتا ثبت تحققه بدليل ثم وقع الشك في بقائه إن لم يقع ظن بعدمه ، وأما عندنا وكذا عند المتكلمين فهو من الحجج القاصرة التي لا تصلح للإثبات وإنما تصلح للدفع بمعنى أن لا يثبت حكم وعدم الحكم مستند إلى عدم دليله والأصل في العدم الاستمرار حتى يظهر دليل الوجود فالمفقود يرث عنده لا عندنا لأن الإرث من باب الإثبات فلا يثبت به ولا يورث لأن عدم الإرث من باب الدفع فيثبت به ، ويتفرع على هذا الخلاف فروع أخر ليس هذا محل ذكرها ، وإذا كان حكم الاستصحاب عندنا ما ذكر فاستدلال الحنفي به على إثبات حياة الخضر عليه‌السلام اليوم وأنها متيقنة لا يخلو عن شيء بل استدلال الشافعي به على ذلك أيضا كذلك بناء على أن صحة الاستدلال به مشروط بعدم وقوع ظن بالعدم فإن العادة قاضية بعدم بقاء الآدمي تلك المدة المديدة والأحقاب العديدة ، وقد قيل : إن العادة دليل معتبر ولو لا ذلك لم يؤثر خرق العادة بالمعجزة في وجوب الاعتقاد والاتباع فإن لم تفد يقينا بالعدم فيما نحن فيه أفادت الظن به فلا يتحقق شرط صحة الاستدلال ، وعلى هذا فالمعول عليه الخالص من شوب الكدر الاستدلال بأحد الأدلة الأربعة وقد علمت حال استدلالهم بالكتاب والسنة وما سموه إجماعا ، وأما الاستدلال بالقياس هنا فمما لا يقدم عليه عاقل فضلا عن فاضل «ثم اعلم» بعد كل حساب أن الأخبار الصحيحة النبوية والمقدمات الراجحة العقلية تساعد القائلين بوفاته عليه‌السلام أي مساعدة وتعاضدهم على دعواهم أي معاضدة ، ولا مقتضى للعدول عن ظواهر تلك الأخبار إلا مراعاة ظواهر الحكايات المروية والله تعالى أعلم بصحتها عن بعض الصالحين الأخيار وحسن الظن ببعض السادة الصوفية فإنهم قالوا بوجوده إلى آخر الزمان على وجه لا يقبل التأويل السابق ، ففي الباب الثالث والسبعين من الفتوحات المكية اعلم أن لله تعالى في كل نوع من المخلوقات خصائص وصفوة ، وأعلى الخواص فيه من العباد الرسل عليهم‌السلام ولهم مقام الرسالة والنبوة والولاية والإيمان فهم أركان بيت هذا النوع ، والرسول أفضلهم مقاما وأعلاهم حالا بمعنى أن المقام الذي أرسل منه أعلى منزلة عند الله تعالى من سائر المقامات وهم الأقطاب والأئمة والأوتاد الذين يحفظ الله تعالى بهم العالم ويصون بهم بيت الدين القائم بالأركان الأربعة الرسالة والنبوة والولاية والإيمان ، والرسالة هي الركن الجامع وهي المقصودة من هذا النوع فلا يخلو من أن يكون فيه رسول كما لا يزال دين الله تعالى ، وذلك الرسول هو القطب الذي هو موضع نظر الحق وبه يبقى النوع في هذه الدار ولو كفر الجميع ، ولا يصح هذا الاسم على إنسان إلا أن يكون ذا جسم طبيعي وروح ويكون موجودا في هذا النوع في هذه الدار بجسده وروحه يتغذى ، وهو مجلي الحق من آدم عليه‌السلام إلى يوم القيامة ، ولما توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما قرر الدين الذي لا ينسخ والشرع الذي لا يبدل ، ودخل الرسل كلهم عليهم‌السلام في ذلك الدين وكانت الأرض لا تخلو من

٣٠٩

رسول حسي بجسمه لأنه قطب العالم الإنساني وإن تعدد الرسل كان واحد منهم هو المقصود أبقى الله تعالى بعد وفاته عليه الصلاة والسلام من الرسل الأحياء بأجسادهم في هذه الدار أربعة إدريس والياس وعيسى والخضر عليهم‌السلام ، والثلاثة الأول متفق عليهم والأخير مختلف فيه عند غيرنا لا عندنا ؛ فأسكن سبحانه إدريس في السماء الرابعة ، وهي وسائر السموات السبع من الدار الدنيا لأنها تتبدل في الدار الأخرى كما تتبدل هذه النشأة الترابية منا بنشأة أخرى ، وأبقى الآخرين في الأرض فهم كلهم باقون بأجسامهم في الدار الدنيا ، وكلهم الأوتاد ، واثنان منهم الإمامان ، وواحد منهم القطب الذي هو موضع نظر الحق من العالم ، وهو ركن الحجر الأسود من أركان بيت الدين ، فما زال المرسلون ولا يزالون في هذه الدار إلى يوم القيامة وإن كانوا على شرع نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وبالواحد منهم يحفظ الله تعالى الإيمان وبالثاني الولاية وبالثالث النبوة وبالرابع الرسالة وبالمجموع الدين الحنيفي ، والقطب من هؤلاء لا يموت أبدا أي لا يصعق. وهذه المعرفة لا يعرفها من أهل طريقتنا إلا الأفراد الأمناء ، ولكل واحد منهم من هذه الأمة في كل زمان شخص على قلبه مع وجودهم ويقال لهم النواب ، وأكثر الأولياء من عامة أصحابنا لا يعرفون إلا أولئك النواب ولا يعرفون أولئك المرسلين ، ولذا يتطاول كل واحد من الأمة لنيل مقام القطبية والإمامية والوتدية فإذا خصوا بها عرفوا أنهم نواب عن أولئك المرسلين عليهم‌السلام. ومن كرامة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن جعل من أمته وأتباعه رسلا وإن لم يرسلوا فيهم من أهل هذا المقام الذي منه يرسلون وقد كانوا أرسلوا ، فلهذا صلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء بالأنبياء عليهم‌السلام لتصح له الإمامة على الجميع حيا بجسمانيته وجسمه ، فلما انتقل عليه الصلاة والسلام بقي الأمر محفوظا بهؤلاء الرسل عليهم‌السلام ، فثبت الدين قائما بحمد الله تعالى وإن ظهر الفساد في العالم إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها ، وهذه نكتة فاعرف قدرها فإنك لا تراها في كلام أحد غيرنا. ولو لا ما ألقى عندي من إظهارها ما أظهرتها لسر يعلمه الله تعالى ما أعلمنا به. ولا يعرف ما ذكرناه إلا نوابهم دون غيرهم من الأولياء ، فاحمدوا الله تعالى يا إخواننا حيث جعلكم الله تعالى ممن قرع سمعه أسرار الله تعالى المخبوءة في خلقه التي اختص بها من شاء من عباده ، فكونوا لها قابلين وبها مؤمنين ولا تحرموا التصديق بها فتحرموا خيرها انتهى.

وعلم منه القول برسالة الخضر عليه‌السلام وهو قول مرجوح عند جمهور العلماء والقول بحياته وبقائه إلى يوم القيامة وكذا بقاء عيسى عليه‌السلام ، والمشهور أنه بعد نزوله إلى الأرض يتزوج ويولد له ويتوفى ويدفن في الحجرة الشريفة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولينظر ما وجه قوله قدس‌سره بإبقاء عيسى عليه‌السلام في الأرض وهو اليوم في السماء كإدريس عليه‌السلام ، ثم إنك إن اعتبرت مثل هذه الأقوال وتلقيتها بالقبول لمجرد جلالة قائلها وحسن الظن فيه فقل بحياة الخضر عليه‌السلام إلى يوم القيامة ، وإن لم تعتبر ذلك وجعلت الدليل وجودا وعدما مدارا للقبول والرد ولم تغرك جلالة القائل إذ كل أحد يؤخذ من قوله ويرد ما عدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : لا تنظر إلى من قال وانظر ما قال فاستفت قلبك بعد الوقوف على أدلة الطرفين وما لها وما عليها ثم اعمل بما يفتيك. وأنا أرى كثيرا من الناس اليوم بل في كثير من الأعصار يسمون من يخالف الصوفية في أي أمر ذهبوا إليه منكرا ويعدونه سيئ العقيدة ويعتقدون بمن يوافقهم ويؤمن بقولهم الخير ، وفي كلام الصوفية أيضا نحو هذا فقد نقل الشيخ الأكبر قدس‌سره في الباب السابق عن أبي يزيد البسطامي قدس‌سره أنه قال لأبي موسى الدبيلي : يا أبا موسى إذا رأيت من يؤمن بكلام أهل هذه الطريقة فقل له يدعو لك فإنه مجاب الدعوة ، وذكر أيضا أنه سمع أبا عمران موسى بن عمران الإشبيلي يقول لأبي القاسم بن عفير الخطيب وقد أنكر ما يذكر أهل الطريقة يا أبا القاسم لا تفعل فإنك إن فعلت هذا جمعنا بين حرمانين لا ندري ذلك من نفوسنا ولا نؤمن به من غيرنا وما ثم دليل يرده ولا قادح يقدح فيه شرعا أو عقلا انتهى.

٣١٠

ويفهم منه أن ما يرده الدليل الشرعي أو العقلي لا يقبل وهو الذي إليه أذهب وبه أقول ، وأسأل الله تعالى أن يوفقني وإياك لكل ما هو مرضي لديه سبحانه ومقبول ، والتنوين في قوله تعالى : (رَحْمَةً) للتفخيم وكذا في قوله سبحانه : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) أي علما لا يكتنه كنهه ولا يقادر قدره وهو علم الغيوب وأسرار العلوم الخفية ، وذكر (لَدُنَّا) قيل لأن العلم من أخص صفاته تعالى الذاتية وقد قالوا : إن القدرة لا تتعلق بشيء ما لم تتعلق الإرادة وهي لا تتعلق ما لم يتعلق العلم فالشيء يعلم أولا فيراد فتتعلق به القدرة فيوجد.

وذكر أنه يفهم من فحوى (مِنْ لَدُنَّا) أو من تقديمه على (عِلْماً) اختصاص ذلك بالله تعالى كأنه قيل علما يختص بنا ولا يعلم إلا بتوفيقنا ، وفي اختيار (عَلَّمْناهُ) على آتيناه من الإشارة إلى تعظيم أمر هذا العلم ما فيه ، وهذا التعليم يحتمل أن يكون بواسطة الوحي المسموع بلسان الملك وهو القسم الأول من أقسام الوحي الظاهري كما وقع لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أخباره عن الغيب الذي أوحاه الله تعالى إليه في القرآن الكريم ، وأن يكون بواسطة الوحي الحاصل بإشارة الملك من غير بيان بالكلام وهو القسم الثاني من ذلك ويسمى بالنفث كما في حديث إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله تعالى واجملوا في الطلب والإلهام على ما يشير إليه بعض عبارات القوم من هذا النوع ، ويثبتون له ملكا يسمونه ملك الإلهام ، ويكون للأنبياء عليهم‌السلام ولغيرهم بالإجماع ، ولهم في الوقوف على المغيبات طرق تتشعب من تزكية الباطن.

والآية عندهم أصل في إثبات العلم اللدني ، وشاع إطلاق علم الحقيقة والعلم الباطن عليه ولم يرتض بعضهم هذا الإطلاق ، قال العارف بالله تعالى الشيخ عبد الوهاب الشعراني عليه الرحمة في كتابة المسمى بالدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة ما لفظه : وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة فمن عمل بما علم تكلم بما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الافهام ، حتى قال بعضهم لشيخه : إن كلام أخي فلان يدق على فهمه فقال : لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك ، وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بالعلم الباطن وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من العلم الظاهر لأنه ظهر للخلق فاعلم ذلك انتهى.

والحق أن إطلاق العلم الباطن اصطلاحا على ما وقفوا عليه صحيح ولا مشاحة في الاصطلاح ، ووجهه أنه غير ظاهر على أكثر الناس ويتوقف حصوله على القوة القدسية دون المقدمات الفكرية وإن كان كل علم يتصف بكونه باطنا وكونه ظاهرا بالنسبة للجاهل به والعالم به ، وهذا كإطلاق العلم الغريب على علم الأوفاق والطلسمات والجفر وذلك لقلة وجوده والعارفين به فاعرف ذلك. وزعم بعضهم أن أحكام العلم الباطن وعلم الحقيقة مخالفة لأحكام الظاهر وعلم الشريعة وهو زعم باطل عاطل وخيال فاسد كاسد ، وسيأتي إن شاء الله تعالى نقل نصوص القوم فيما يرده وأنه لا مستند لهم في قصة موسى والخضر عليهما‌السلام.

وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو «لدنا» بتخفيف النون وهي إحدى اللغات في لدن (قالَ لَهُ مُوسى) استئناف مبني على سؤال نشأ من السياق كأنه قيل فما جرى بينهما من الكلام؟ فقيل : قال له موسى عليه‌السلام (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ) استئذان منه عليه‌السلام في اتباعه له بشرط التعليم ، ويفهم ذلك من (عَلى) فقد قال الأصوليون : إن على قد تستعمل في معنى يفهم منه كون ما بعدها شرطا لما قبلها كقوله تعالى : (يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ) [الممتحنة : ١٢] أي بشرط عدم الإشراك ، وكونها للشرط بمنزلة الحقيقة عند الفقهاء كما في التلويح لأنها في أصل الوضع للإلزام والجزاء لازم للشرط ، ويلوح بهذا أيضا كلام الفناري في بدائع الأصول وهو ظاهر في أنها ليست حقيقة

٣١١

في الشرط ، وذكر السرخسي أنه معنى حقيقي لها لكن النحاة لم يتعرضوا له ، وقد تردد السبكي في وروده في كلام العرب ، والحق أنه استعمال صحيح يشهد به الكتاب حقيقة كان أو مجازا ولا ينافي انفهام الشرطية تعلق الحرف بالفعل الذي قبله كما قالوا فيما ذكرنا من الآية كما أنه لا ينافيه تعلقه بمحذوف يقع حالا كما قيل به هنا فيكون المعنى هل اتبعك باذلا تعليمك إياي (مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) أي علما ذا رشد وهو إصابة الخير وقرأ أبو عمرو والحسن والزهري وأبو بحرية وابن محيصن وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد واليزيدي «رشدا» بفتحتين ؛ وأكثر السبعة بالضم والسكون وهما لغتان كالبخل والبخل ، ونصبه في الأصل على أنه صفة للمفعول الثاني لتعلمني ووصف به للمبالغة لكن أقيم مقامه بعد حذفه والمفعول الثاني لعلمت الضمير العائد على ما الموصولة أي من الذي علمته ، والفعلان مأخوذان من علم المتعدي إلى مفعول واحد ، وجوز أن يكون (مِمَّا عُلِّمْتَ) هو المفعول الثاني لتعلمني و «رشدا» بدل منه وهو خلاف الظاهر ، وأن يكون (رُشْداً) مفعولا له لأتبعك أي هل أتبعك لأجل إصابة الخير فيتعين أن يكون المفعول الثاني لتعلمني (مِمَّا عُلِّمْتَ) لتأويله ببعض ما علمت أو علما مما علمت ، وأن يكون مصدرا بإضمار فعله أي أرشد رشدا والجملة استئنافية والمفعول الثاني (مِمَّا عُلِّمْتَ) أيضا. واستشكل طلبه عليه‌السلام التعليم بأنه رسول من أولي العزم فكيف يتعلم من غيره والرسول لا بد أن يكون أعلم أهل زمانه ، ومن هنا قال نوف وأضرابه : إن موسى هذا ليس هو ابن عمران وإن كان ظاهر إطلاقه يقتضي أن يكون إياه. وأجيب بأن اللازم في الرسول أن يكون أعلم في العقائد وما يتعلق بشريعته لا مطلقا ولذا قال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنتم أعلم بأمور دنياكم» فلا يضر في منصبه أن يتعلم علوما غيبية وأسرارا خفية لا تعلق لها بذلك من غيره لا سيما إذا كان ذلك الغير نبيا أو رسولا أيضا كما قيل في الخضر عليه‌السلام ، ونظير ما ذكر من وجه تعلم عالم مجتهد كأبي حنيفة والشافعي رضي الله تعالى عنهما علم الجفر مثلا ممن دونه فإنه لا يخل بمقامه ، وإنكار ذلك مكابرة.

ولا يرد على هذا أن علم الغيب ليس علما ذا رشد أي إصابة خير وموسى عليه‌السلام كان بصدد تعلم علم يصيب به خيرا لقوله تعالى : قل (لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) [الأعراف : ١٨٨] وقال بعضهم : اللازم كون الرسول أعلم من أمته والخضر عليه‌السلام نبي لم يرسل إليه ولا هو مأمور باتباع شريعته فلا ينكر تفرده بما لم يعلمه غيره ، ولا يخفى أنه على هذا ليس الخضر عليه‌السلام من بني إسرائيل لأن الظاهر إرسال موسى عليه‌السلام إليهم جميعا كذا قيل. ثم إن الذي أميل إليه أن لموسى عليه‌السلام علما بعلم الحقيقة المسمى بالعلم الباطن والعلم اللدني إلا أن الخضر أعلم به منه وللخضر عليه‌السلام سواء كان نبيا أو رسولا علما بعلم الشريعة المسمى بالعلم الظاهر إلا أن موسى عليه‌السلام أعلم به منه فكل منهما أعلم من صاحبه من وجه ، ونعت الخضر عليه‌السلام في الأحاديث السابقة بأنه أعلم من موسى عليه‌السلام ليس على معنى أنه أعلم منه من كل وجه بل على معنى أنه أعلم من بعض الوجوه وفي بعض العلوم لكن لما كان الكلام خارجا مخرج العتب والتأديب أخرج على وجه ظاهره العموم ، ونظير هذا آيات الوعيد على ما قيل من أنها مقيدة بالمشيئة لكنها لم تذكر لمزيد الإرهاب ، وأفعل التفضيل وإن كان للزيادة في حقيقة الفعل إلا أن ذلك على وجه يعم الزيادة في فرد منه ، ويدل على ذلك صحة التقييد بقسم خاص كما تقول زيد أعلم من عمرو في الطب وعمرو أعلم منه في الفلاحة ، ولو كان معناه الزيادة في مطلق العلم كان قولك زيد أعلم من عمرو مستلزما لأن لا يكون عمرو أعلم منه في شيء من العلوم فلا يصح تفضيل عمرو عليه في علم الفلاحة ، وإنكار صدق الأعلم المطلق مع صدق المقيد التزام لصدق المقيد بدون المطلق ، وقد جاء إطلاق أفعل التفضيل والمراد منه التفضيل من وجه على ما ذكره الشيخ ابن الحاجب في أمالي القرآن ضمن عداد الأوجه في حل الإشكال المشهور في قوله تعالى : (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) [الزخرف : ٤٨] من أن المراد إلا هي

٣١٢

أكبر من أختها من وجه ثم قال : وقد يكون الشيئان كل واحد منهما أفضل من الآخر من وجه ، وقد أشبع الكلام في هذا المقام مولانا جلال الدين الدواني فيما كتبه على الشرح الجديد للتجريد وحققه بما لا مزيد عليه ، ومما يدل على أن لموسى عليه‌السلام علما ليس عند الخضر عليه‌السلام ما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث ابن عباس مرفوعا أن الخضر عليه‌السلام قال : يا موسى إني على علم من علم الله تعالى علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله تعالى علمك الله سبحانه لا أعلمه ، وأنت تعلم أنه لو لم يكن قوله تعالى لموسى عليه‌السلام المذكور في الأحاديث السابقة إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك على معنى أعلم في بعض العلوم بل كان على معنى أعلم في كل العلوم أشكل الجمع بينه وبين ما ذكرنا من كلام الخضر عليه‌السلام ، ثم على ما ذكرنا ينبغي أن يراد من العلم الذي ذكر الخضر أنه يعلمه هو ولا يعلمه موسى عليهما‌السلام بعض علم الحقيقة ومن العلم الذي ذكر أنه يعلمه موسى ولا يعلمه هو عليهما‌السلام بعض علم الشريعة ، فلكل من موسى والخضر عليهما‌السلام علم بالشريعة والحقيقة إلا أن موسى عليه‌السلام أزيد بعلم الشريعة والخضر عليه‌السلام أزيد بعلم الحقيقة ، ولكن نظرا للحالة الحاضرة كما ستعلم وجهه إن شاء الله تعالى وعدم علم كل ببعض ما عند صاحبه لا يضر بمقامه. وينبغي أن يحمل قول من قال كالجلال السيوطي ما جمعت الحقيقة والشريعة إلا لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن للأنبياء إلا أحدهما على معنى أنها ما جمعت على الوجه الأكمل إلا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن للأنبياء عليهم‌السلام على ذلك الوجه إلا أحدهما ، والحمل على أنهما لم يجمعا على وجه الأمر بالتبليغ إلا لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه عليه الصلاة والسّلام مأمور بتبليغ الحقيقة كما هو مأمور بتبليغ الشريعة لكن للمستعدين لذلك لا يخلو عن شيء ويفهم من كلام بعض الأكابر أن علم الحقيقة من علوم الولاية وحينئذ لا بد أن يكون لكل نبي حظ منه ولا يلزم التساوي في علومها.

ففي الجواهر والدرر قلت للخواص عليه الرحمة : هل يتفاضل الرسل في العلم؟ فقال : العلم تابع للرسالة فإنه ليس عند كل رسول من العلم إلا بقدر ما تحتاج إليه أمته فقط فقلت له : هذا من حيث كونهم رسلا فهل حالهم من حيث كونهم أولياء كذلك؟ فقال : لا قد يكون لأحدهم من علوم الولاية ما هو أكثر من علوم ولاية أولي العزم من الرسل الذين هم أعلى منهم انتهى ، وأنا أرى أن ما يحصل لهم من علم الحقيقة بناء على القول بأنه من علوم الولاية أكثر مما يحصل للأولياء الذين ليسوا بأنبياء ، ولا تراني أفضل وليا ليس بنبي في علم الحقيقة على ولي هو نبي ؛ ولا أقول بولاية الخضر عليه‌السلام دون نبوته ، وقائلو ذلك يلزمهم ظاهرا القول بأن ما عنده من علم الحقيقة مع كونه وليا أكثر مما عند موسى عليه‌السلام منه إن أثبتوا له عليه‌السلام شيئا من ذلك مع كونه نبيا ولكنهم لا يرون في ذلك حطا لقدر موسى عليه السالم ، وظاهر كلام بعضهم أنه عليه‌السلام لم يؤت شيئا من علم الحقيقة أصلا ومع هذا لا ينحط قدره عن قدر الخضر عليهما‌السلام إذ له جهات فضل أخر ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ما يقوله الذاهبون إلى ولايته عليه‌السلام.

ثم ما أراه أنا ولله تعالى الحمد أبعد عن القول بما نقل عن بعض الصوفية من أن الولاية مطلقا أفضل من نبوة وإن كان الولي لا يبلغ درجة النبي ، وهو مردود عند المحققين بلا تردد ، نعم قد يقع تردد في نبوة النبي وولايته أيهما أفضل؟ فمن قائل بأن نبوته أفضل من ولايته ، ومن قائل بأن ولايته أفضل.

واختار هذا بعض العرفاء معللا له بأن نبوة التشريع متعلقة بمصلحة الوقت والولاية لا تعلق لها بوقت دون وقت وهي في النبي على غاية الكمال. والمختار عندي الأول. وقد ضل الكرامية في هذا المقام فزعموا أن الولي قد يبلغ درجة النبي بل أعلى. ورده ظاهر. والاستدلال له بما في هذه القصة بناء على القول بولاية الخضر عليه‌السلام ليس بشيء كما لا يخفى.

٣١٣

هذا ولا يخفى على من له أدنى ذوق بأساليب الكلام ما راعاه موسى عليه‌السلام في سوق كلامه على علو مقامه من غاية التواضع مع الخضر عليه‌السلام ونهاية الأدب واللطف ، وقد عد الإمام من ذلك أنواعا كثيرة أوصلها إلى اثني عشر نوعا إن أردتها فارجع إلى تفسيره. وسيأتي إن شاء الله عزوجل ما تدل عليه هذه الآية في سرد ما تدل عليه آيات القصة بأسرها مما ذكر في كتب الحديث وغيرها.

(قالَ) أي الخضر لموسى عليهما‌السلام (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) نفي لأن يصبر معه على أبلغ وجه حيث جيء بإن المفيدة للتأكيد وبلن ونفيها آكد من نفي غيرها ، وعدل عن لن تصبر إلى (لَنْ تَسْتَطِيعَ) المفيد لنفي الصبر بطريق برهاني لأن الاستطاعة مما يتوقف عليه الفعل فيلزم من نفيه نفيه ، ونكر (صَبْراً) في سياق النفي وذلك يفيد العموم أي لا تصبر معي أصلا شيئا من الصبر ، وعلل ذلك بقوله :

(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) إيذانا بأنه عليه‌السلام يتولى أمورا خفية المراد منكرة الظواهر والرجل الصالح لا سيما صاحب الشريعة لا يتمالك أن يشمئز عند مشاهدتها وكأنه علم مع ذلك حدة موسى عليه‌السلام ومزيد غيرته التي أوصلته إلى أن أخذ برأس أخيه يجره ، ونصب (خُبْراً) على التمييز المحول عن الفاعل والأصل ما لم يحط به خبرك ، وهو من خبر الثلاثي من باب نصر وعلم ومعناه عرف ، وجوز أن يكون مصدرا وناصبه (تُحِطْ) لأنه يلاقيه في المعنى لأن الإحاطة تطلق إطلاقا شائعا على المعرفة فكأنه قيل لم تخبره خبرا وقرأ الحسن وابن هرمز «خبرا» بضم الباء. واستدلوا بالآية كما قال الإمام وغيره على أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل قالوا : لو كانت الاستطاعة حاصلة قبل حصول الفعل لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة قبل حصول الصبر فيكون نفيها كذبا وهو باطل فتعين أن لا تكون قبل الفعل. وأجاب الجبائي بأن المراد من هذا القول أنه يثقل عليك الصبر كما يقال في العرف إن فلانا لا يستطيع أن يرى فلانا وأن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك. وتعقبه الإمام بأنه عدول عن الظاهر وأيد الاستدلال بما أيد ، والإنصاف أن الاستدلال بها على ما ذكر غير ظاهر لأن المراد ليس إلا نفي الصبر بنفي ما يتوقف هو عليه أعني الاستطاعة وهذا حاصل سواء كانت حاصلة قبل أو مقارنة ، ثم إن القول بأن الاستطاعة قبل الفعل ليس خاصا بالمعتزلة بل المفهوم من كلام الشيخ إبراهيم الكوراني أنه مذهب السلف أيضا وتحقيق ذلك في محله (قالَ) موسى عليه‌السلام (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) معك غير معترض عليك (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) عطف على (صابِراً) والفعل يعطف على المفرد المشتق كما في قوله تعالى : (صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) [الملك : ١٩] بتأويل أحدهما بالآخر ، والأولى فيما نحن فيه التأويل في جانب المعطوف أي ستجدني صابرا وغير عاص ، وفي وعد هذا الوجدان من المبالغة ما ليس في الوعد بنفس الصبر وترك العصيان أو على (سَتَجِدُنِي) والجملة على الأول في محل نصب لأنها معطوفة على المفعول الثاني للوجدان ، وعلى الثاني لا محل لها من الإعراب على ما في الكشاف. واستشكل بأن الظاهر أن محلها النصب أيضا لتقدم القول. وأجيب بأن مقول القول هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه فلا يكون لأجزائه محل باعتبار الأصل ، وقيل : مراد الزمخشري بيان حال العطف في القول المحكي عن موسى عليه‌السلام ، وقيل : مراده أنه ليس مؤولا بمفرد كما في الأول ، وقيل : إنه مبني على أن مقول القول محذوف وهذه الجملة مفسرة له ، والظاهر الجواب الأول ، وأول الوجهين في العطف هو الأولى لما عرفت ولظهور تعلق المعطوف بالاستثناء عليه. وذكر المشيئة إن كان للتعليق فلا إشكال في عدم تحقق ما وعد به.

ولا يقال : إنه عليه‌السلام أخلف وعده وإن كان للتيمن ، فإن قلنا : إن الوعد كالوعيد إنشاء لا يحتمل الصدق والكذب أو أنه مقيد بقيد يعلم بقرينة المقام كأن أردت أو إن لم يمنع مانع شرعي أو غيره فكذلك لا إشكال ، وإن قلنا : إنه خبر وإنه ليس على نية التقييد جاء الإشكال ظاهرا فإن الخلف حينئذ كذب وهو غير لائق مقام النبوة لمنافاته

٣١٤

العصمة ، وأجيب بأن ما صدر منه عليه‌السلام في المرتين الأخيرتين كانا نسيانا كما في المرة الأولى ولا يضر مثل هذا الخلف بمقام النبوة لأن النسيان عذر. وتعقب بأنه لا نسلم النسيان في المرتين الأخيرتين ففي البخاري وشرحه لابن حجر وكانت الأولى نسيانا والثانية شرطا والثالثة عمدا ، وفي رواية والثانية عمدا والثالثة فراقا ، وقال بعضهم : لك أن تقول : لم يقع منه عليه‌السلام ما يخل بمقامه لأن الخلف في المرة الأولى معفو عنه وحيث وقع لم تكن الأخيرتان خلفا وفيه تأمل ، وقال القشيري : إن موسى عليه‌السلام وعد من نفسه بشيئين بالصبر وقرنه بالمشيئة فصبر فيما كان من الخضر عليه‌السلام من الفعل وبأن لا يعصيه فأطلق ولم يقرنه بالمشيئة فعصاه حيث قال : فلا تسألني فكان يسأله فما قرنه بالاستثناء لم يخلف فيه وما أطلقه وقع فيه الخلف انتهى ، وهو مبني على أن العطف على (سَتَجِدُنِي) وقد علمت أنه خلاف الأولى ، وأيضا المراد بالصبر الثبات والإقرار على الفعل وعدم الاعتراض كما ينبئ عنه المحاورة الآتية وهو لم يتحقق منه عليه‌السلام ، وأيضا يبقى الكلام في الخلف كما لا يخفى ، وأنت تعلم أنه يبعد من حال موسى عليه‌السلام القطع بالصبر وعدم عصيان الأمر بعد أن أشار له الخضر عليه‌السلام أنه سيصدر منه أمور منكرة مخالفة لقضية شريعته فلا يبعد منه اعتبار التعليق في الجملتين ، ولم يأت به بعدهما بل وسطه بين مفعولي الوجدان من الجملة الأولى لمزيد الاعتناء بشأنه ، وبه يرتفع الإشكال من غير احتياج إلى القيل والقال ، وفيه دليل على أن أفعال العبد بمشيئته تعالى لأنه إذا صدر بعض الأفعال الاختيارية بمشيئته سبحانه لزم صدور الكل بها إذ لا قائل بالفرق. والمعتزلة اختاروا أن ذكر المشيئة للتيمن وهو لا يدل على ما ذكر ، وقال بعض المحققين : إن الاستدلال جار أيضا على احتمال التيمن لأنه لا وجه للتيمن بما لا حقيقة له ، وقد أشار إلى ذلك الإمام أيضا فافهم ، وقد استدل بالآية على أن الأمر للوجوب وفيه نظر ، ثم إن الظاهر أنه لم يرد بالأمر مقابل النهي بل أريد مطلق الطلب وحاصل الآية نفى أن يعصيه في كل ما يطلبه (قالَ) الخضر عليه‌السلام (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي) أذن له عليه‌السلام في الاتباع بعد اللتيا والتي ، والفاء لتفريع الشرطية على ما مر من وعد موسى عليه‌السلام بالصبر والطاعة.

(فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) تشاهده من أفعالي فضلا عن المناقشة والاعتراض (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أي حتى أبتدئك ببيانه ، والغاية على ما قيل مضروبة لما يفهم من الكلام كأنه قيل أنكر بقلبك على ما أفعل حتى أبينه لك أو هي لتأبيد ترك السؤال فإنه لا ينبغي السؤال بعد البيان بالطريق الأولى ، وعلى الوجهين فيها إيذان بأن كل ما يصدر عنه فله حكمة وغاية حميدة البتة ، وقيل : حتى للتعليل وليس بشيء.

وقرأ نافع وابن عامر «فلا تسألنّي» بالنون المثقلة مع الهمز ، وعن أبي جعفر «فلا تسلني» بفتح السين واللام والنون المثقلة من غير همز ، وكل القراء كما قال أبو بكر بياء في آخره ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في حذف الياء خلاف غريب (فَانْطَلَقا) أي موسى والخضر عليهما‌السلام ولم يضم يوشع عليه‌السلام لأنه في حكم التبع ، وقيل رده موسى عليه‌السلام إلى بني إسرائيل ، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس مرفوعا أنهما انطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول ، وفي رواية أبي حاتم عن الربيع بن أنس أن أهل السفينة ظنوا أنهم لصوص لأن المكان كان مخوفا فأبوا أن يحملوهم فقال كبيرهم : إني أرى رجالا على وجوههم النور لأحملنهم فحملهم (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ) أل فيها لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهد في سفينة مخصوصة ، وكانت على ما في بعض الروايات سفينة جديدة وثيقة لم يمر بهما من السفن سفينة أحسن منها ولا أجمل ولا أوثق ، وكانت أيضا على ما يدل عليه بعض الروايات الصحيحة من سفن صغار يحمل بها أهل هذا الساحل إلى أهل الساحل الآخر ، وفي رواية أبي حاتم أنها كانت ذاهبة إلى أيلة ، وصح أنهما حين ركبا جاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة ثم نقر في البحر فقال له الخضر : ما نقص علمي وعلمك من علم الله تعالى إلا

٣١٥

مثل ما نقص هذا العصفور من البحر ، وهو جار مجرى التمثيل ؛ واستعمال الركوب في أمثال هذه المواقع بكلمة (فِي) مع تجريده عنها في مثل قوله تعالى : (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [النحل : ٨] على ما يقتضيه تعديته بنفسه قد مرت الإشارة إلى وجهه في قوله تعالى (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها) [هود : ٤١] وقيل إن ذلك لإرادة معنى الدخول كأنه قيل حتى إذا دخلا في السفينة (خَرَقَها) صح أنهما لما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواحها بالقدوم فقال له موسى عليه‌السلام : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها ، وصح أيضا أنه عليه‌السلام خرقها ووتد فيها وتدا. وقيل قلع لوحين مما يلي الماء. وفي رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا أنهما لما ركبا واطمأنا فيها ولججت بهما مع أهلها أخرج مثقابا له ومطرقة ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها ثم أخذ لوحا فطبقه عليها ثم جلس عليها يرقعها. وهذه الرواية ظاهرة في أن خرقه إياها كان حين وصولها إلى لج البحر وهو معظم مائه ، وفي الرواية عن الربيع أن أهل السفينة حملوهما فساروا حتى إذا شارفوا على الأرض خرقها ، ويمكن الجمع بأن أول العزم كان وهي في اللج وتمام الفعل كان وقد شارفت على الأرض ، وظاهر الأخبار يقتضي أنه عليه‌السلام خرقها وأهلها فيها وهو ظاهر قوله تعالى (قالَ) موسى (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) سواء كانت اللام للعاقبة بناء على أن موسى عليه‌السلام حسن الظن بالخضر أو للتعليل بناء على أنه الأنسب بمقام الإنكار ، وبعضهم لم يجوز هذا توهما منه أن فيه سوء أدب وليس كذلك بل يوشك أن يتعين كونها للتعليل لأن الظاهر بناء الجواب عليه كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى. وفي حديث أخرجه عبد بن حميد ومسلم وابن مردويه قال : فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة فخرج من كان فيها وتخلف ليخرقها فقال له موسى : تخرقها لتغرق أهلها فقال له الخضر ما قص الله تعالى.

وهذا ظاهر في أنه عزم على الحرق فاعترض عليه موسى عليه‌السلام وهو خلاف ما تقتضيه الآية. فإن أول بأنه بتقدير وتخلف ليخرقها فخرقها وأن تعبير موسى عليه‌السلام بالمضارع استحضارا للصورة أو قيل بأنه وقع من الخضر عليه‌السلام أولا تصميم على الخرق وتهيئة لأسبابه وثانيا خرق بالفعل ووقع من موسى عليه‌السلام اعتراض على الأول أولا وعلى الثاني ثانيا فنقل في الحديث أول ما وقع من كل في هذه المادة وفي الآية ثاني ما وقع من كل فيها بقي بين ظاهر الحديث وظاهر الآية مخالفة أيضا على ما قيل من حيث إن الأول يقتضي أن أهل السفينة لم يكونوا فيها إذ خرقت والثاني يقتضي أنهم كانوا فيها حينئذ ، وأجيب أنه ليس في الحديث أكثر من أنهم خرجوا منها وتخلف للخرق وليس فيه أنهم خرجوا فخرقها فيمكن أن يكون عليه‌السلام تخلف للخرق إذ خرجوا لكنه لم يفعله إلا بعد رجوعهم إليها وحصولهم فيها ، وأنت تعلم أنه ينافي هذا ما قيل في وجه الجمع بين الرواية عن سعيد والرواية عن الربيع ؛ وبالجملة الجمع بين الأخبار الثلاثة وبينها وبين الآية صعب ، وقال بعضهم في ذلك : إنه يحتمل أن السفينة لما لججت بهم صادفوا جزيرة في اللج فخرجوا لبعض حوائجهم وتخلف الخضر عازما على الخرق ومعه موسى عليه‌السلام فأحس منه ذلك فعجل بالاعتراض ثم رجع أهلها وركبوا فيها والعزم هو العزم فأخذ عليه‌السلام في مباشرة ما عزم عليه ولم يشعر موسى عليه‌السلام حتى تم وقد شارفت على الأرض ، ولا يخفى ما في ذلك من البعد ، وذكر بعضهم أن ظاهر الآية يقتضي أن خرقه إياها وقع عقب الركوب لأن الجزاء يعقب الشرط. وأجيب بأن ذلك ليس بلازم وإنما اللازم تسبب الجزاء عن الشرط ووقوعه بعده ألا تراك تقول : إذا خرج زيد على السلطان قتله وإذا أعطيت السلطان قصيدة أعطاك جائزة مع أنه كثيرا ما لا يعقب القتل الخروج والإعطاء الإعطاء ؛ وقد صرح ابن الحاجب بأنه لا يلزم وقوع الشرط والجزاء في زمان واحد فيقال : إذا جئتني اليوم أكرمك غدا ، وعلى ذلك قوله تعالى : (أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) [مريم : ٦٦] ومن التزم ذلك كالرضي جعل الزمان المدلول عليه بإذا ممتدا وقدر في الآية المذكورة «أإذا ما مت وصرت رميما» وعليه أيضا لا يلزم التعقيب ، نعم قال بعضهم : إن خبر لما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر

٣١٦

قد قلع لوحا من ألواحها يدل على تعقيب الخرق للركوب ، وأيضا جعل غاية انطلاقهما مضمون الجملة الشرطية يقتضي ذلك إذ لو كان الخرق متراخيا عن الركوب لم يكن غاية الانطلاق مضمون الجملة لعدم انتهائه به. وأجيب بأن المبادرة التي دل عليها الخبر عرفته بمعنى أنه لم تمض أيام ونحوه ، وبأنه لا مانع من كون الغاية أمرا ممتدا ويكون انتهاء المغيا بابتدائه كقولك : ملك فلان حتى كانت سنة كذا ملكه فتأمل.

ثم إن في القلب من صحة رواية الربيع شيئا والله تعالى أعلم بصحتها ، والظاهر أن أهل السفينة لم يروه لما باشر خرقها وإلا لما مكنوه وقد نص على ذلك علي القاري وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية من طريق حماد ابن زيد عن شعيب بن الحبحاب أنه قال : كان الخضر عبدا لا تراه إلا عين من أراد الله تعالى أن يريه إياه فلم يره من القوم إلا موسى عليه‌السلام ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين خرق السفينة وكذا بينه وبين قتل الغلام ، وليس هذا بالمرفوع والله تعالى أعلم بصحته ، نعم سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا عن الربيع أيضا أنهم علموا بعد ذلك أنه الفاعل ، والظاهر أيضا أن موسى عليه‌السلام لم يرد إدراج نفسه الشريفة في قوله (لِتُغْرِقَ أَهْلَها) وإن كان صالحا لأن يدرج فيه بناء على أن المراد من أهلها الراكبين فيها.

وقرأ الحسن وأبو رجاء «لتغرّق» بالتشديد لتكثير المفعول ، وقرأ حمزة والكسائي وزيد بن علي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني «ليغرق أهلها» على إسناد الفعل إلى الأهل ، وكون اللام على هذه القراءة للعاقبة ظاهر جدا (لَقَدْ جِئْتَ) أتيت وفعلت (شَيْئاً إِمْراً) أي داهيا منكرا من أمر الأمر بمعنى كثر قاله الكسائي فأصله كثير ، والعرب كما قال ابن جني في سر الصناعة تصف الدواهي بالكثرة ، وهو عند بعضهم في الأصل على وزن كبد فخفف قيل ولم يقل أمرا إمرا مع ما فيه من التجنيس لأنه تكلف لا يلتفت إلى مثله في الكلام البليغ كما صرح به الإمام المرزوقي في شرح قول السموأل :

يقرب حب الموت آجالنا لنا

وتكرهه آجالهم فتطول

ردا لاختيار بعضهم رواية يقصر حب الموت ، وأيد ذلك بقول أبي ذؤيب الهذلي وشيك الفصول بعيد القفول حيث أمكن له أن يقول بطيء القفول ولم يقل ، وربما يقال هنا : إنه لم يقل ذلك لما ذكر مع إيهامه خلاف المراد وقصوره عن درجة ما في النظم الجليل من زيادة التفظيع ، وفي الرواية عن الربيع أن موسى عليه‌السلام لما رأى من الخضر ما رأى امتلأ غضبا وشد عليه ثيابه وأراد أن يقذف الخضر عليه‌السلام في البحر فقال أردت هلاكهم فستعلم أنك أول هالك وجعل كلما ازداد غضبا استعر البحر وكلما سكن كان البحر كالدهن ، وأن يوشع بن نون قال له : ألا تذكر العهد والميثاق الذي جعلت على نفسك ، وأن الخضر عليه‌السلام أقبل عليه يذكره ما قاله من قبل (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) وهو متضمن للإنكار على عدم وقوع الصبر منه عليه‌السلام فأدركه عند ذلك الحلم (قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) اعتذار بنسيان الوصية على أبلغ وجه كأن نسيانه أمر محقق عند الخضر عليه‌السلام لا يحتاج أن يفيده إياه استقلالا وإنما يلتمس منه ترك المؤاخذة به ؛ فما مصدرية والباء صلة المؤاخذة أي لا تؤاخذ بنسياني وصيتك في ترك السؤال عن شيء حتى تحدث لي منه ذكرا ، والتمس ترك المؤاخذة بالنسيان لأن الكامل قد يؤاخذ به وهي مؤاخذة بقلة التحفظ التي أدت إليه كما وقعت لأول ناس وهو أول الناس وإلا فالمؤاخذة به نفسه لا تصح لأنه غير مقدور ، وقيل : الباء للسببية وهي متعلقة بالفعل ، والنسيان وإن لم يكن سببا قريبا للمؤاخذة بل السبب القريب لها هو ترك العمل بالوصية لكنه سبب بعيد لأنه لولاه لم يكن الترك ، وجوز أن تكون متعلقة بمعنى النهي كما قيل في (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) من قوله تعالى : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم : ٢] إنه متعلق بمعنى النفي فيكون النسيان سببا للنهي عن المؤاخذة بترك العمل بالوصية ، وزعم بعضهم تعين كونها للملابسة ؛ ويجوز في ما أن تكون موصولة وأن تكون موصوفة

٣١٧

أي لا تؤاخذني بالذي أو بشيء نسيته وهو الوصية لكن يحتاج هذا ظاهرا إلى تقدير مضاف أي بترك ما نسيته لأن المؤاخذة بترك الوصية أي ترك العمل بها لا بنفس الوصية.

وقيل قد لا يحتاج إلى تقدير المضاف فإن الوصية سبب للمؤاخذة إذ لولاها لم يكن ترك العمل ولا المؤاخذة ، ونظير ذلك ما قيل في قوله تعالى : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠] ثم كون ما ذكر اعتذارا بنسيان الوصية هو الظاهر وقد صح في البخاري أن المرة الأولى كانت نسيانا.

وزعم بعضهم أنه يحتمل أنه عليه‌السلام لم ينس الوصية وإنما نهى عن مؤاخذته بالنسيان موهما أن ما صدر منه كان عن نسيانها مع أنه إنما عنى نسيان شيء آخر ، وهذا من معاريض الكلام التي يتقي بها الكذب مع التوسل إلى الغرض كقول إبراهيم عليه‌السلام : هذه أختي وإني سقيم ، وروى هذا ابن جرير عن أبي بن كعب وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

وجوز أن يكون النسيان مجازا عن الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة (وَلا تُرْهِقْنِي) لا تغشني ولا تحملني (مِنْ أَمْرِي) وهو اتباعه إياه (عُسْراً) أي صعوبة وهو مفعول ثان لترهقني ، والمراد لا تعسر علي متابعتك ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة ، وقرأ أبو جعفر «عسرا» بضمتين (فَانْطَلَقا) الفاء فصيحة أي فقبل عذره فخرجا من السفينة فانطلقا يمشيان على الساحل كما في الصحيح ، وفي رواية أنهما مرا بقرية (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً) يزعمون كما قال البخاري أن اسمه جيسور بالجيم وروي بالحاء ، وقيل اسمه جنبتور وقيل غير ذلك ، وصح أنه كان يلعب مع الغلمان وكانوا على ما قيل عشرة وأنه لم يكن فيهم أحسن ولا أنظف منه فأخذه (فَقَتَلَهُ) أخرج البخاري في رواية أنه عليه‌السلام أخذ برأسه من أعلاه فاقتلعه بيده ، وفي رواية أخرى أنه أخذه فأضجعه ثم ذبحه بالسكين ، وقيل ضرب رأسه بالجدار حتى قتله ، وقيل رضه بحجر ، وقيل ضربه برجله فقتله ، وقيل أدخل إصبعه في سرته فاقتلعها فمات ، وجمع بين الروايات الثلاثة الأول بأنه ضرب رأسه بالجدار أولا ثم أضجعه وذبحه ثم اقتلع رأسه ، وربما يجمع بين الكل وفي كلا الجمعين بعد ، والظاهر أن الغلام لم يكن بالغا لأنه حقيقة الغلام الشائعة في الاستعمال وإلى ذلك ذهب الجمهور ، وقيل كان بالغا شابا ، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن عبد العزيز أنه كان ابن عشرين سنة ، والعرب تبقي على الشاب اسم الغلام ، ومنه قول ليلى الأخيلية في الحجاج :

شفاها من الداء الذي قد أصابها

غلام إذا هز القناة سقاها

وقوله :

تلق ذباب السيف عني فإنني

غلام إذا هو جيت لست بشاعر

وقيل هو حقيقة في البالغ لأن أصله من الاغتلام وهو شدة الشبق وذلك إنما يكون فيمن بلغ الحلم ، وإطلاقه على الصبي الصغير تجوز من باب تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه ، ويؤيد قول الأولين قوله تعالى (قالَ) أي موسى عليه‌السلام (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) أي طاهرة من الذنوب فإن البالغ قلما يزكو من الذنوب.

وقد جاء في حديث عن ابن جبير عن ابن عباس مرفوعا تفسير زكية بصغيرة وهو تفسير باللازم ، ومن قال كان بالغا قال : وصفه عليه‌السلام بذلك لأنه لم يره أذنب فهو وصف ناشئ من حسن الظن ، واستدل على كونه بالغا بقوله تعالى : (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي بغير حق قصاص لك عليها وأجاب النووي والكرماني بأن المراد التنبيه على أنه قتله بغير حق إلا أنه خص حق القصاص بالنفي لأنه الأنسب بمقام القتل أو أن شرعهم كان إيجاب القصاص على الصبي ، وقد نقل المحدثون كالبيهقي في كتاب المعرفة أنه كان في شرعنا كذلك قبل الهجرة.

وقال السبكي : قبل أحد ثم نسخ ، والجار والمجرور ـ قال أبو البقاء ـ متعلق بقتلت كأنه قيل أي قتلت نفسا بلا

٣١٨

حق ، وجوز أن يتعلق بمحذوف أي قتلا بغير نفس ، وأن يكون في موضع الحال أي قتلها ظالما لها أو مظلومة وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد والزهري ونافع واليزيدي وابن مسلم وزيد وابن بكير عن يعقوب ورويس عنه أيضا وأبو عبيد وابن جبير الأنطاكي وابن كثير وأبو عمرو «زاكية» بتخفيف الياء وألف بعد الزاي ، و «زكية» بالتشديد من غير ألف كما قرأ زيد بن علي والحسن والجحدري وابن عامر والكوفيون أبلغ من ذلك لأنه صفة مشبهة دالة على الثبوت مع كون فعيل المحول من فاعل ـ كما قال أبو حيان ـ يدل على المبالغة ، وفرق أبو عمرو بين زاكية وزكية بأن زاكية بالألف هي التي لم تذنب قط وزكية بدون الألف هي التي أذنبت ثم غفرت.

وتعقب بأنه فرق غير ظاهر لأن أصل معنى الزكاة النمو والزيادة فلذا وردت للزيادة المعنوية وأطلقت على الطهارة من الآثام ولو بحسب الخلقة والابتداء كما في قوله تعالى : (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) [مريم : ١٩] فمن أين جاءت هذه الدلالة ثم وجه ذلك بأنه يحتمل أن تكون لكون زاكية بالألف من زكي اللازم وهو يقتضي أنه ليس بفعل آخر وأنه ثابت له في نفسه وزكية بمعنى مزكاة فإن فعيلا قد يكون من غير الثلاثي كرضيع بمعنى مراضع ، وتطهير غيره له من الذنوب إنما يكون بالمغفرة وقد فهمه من كلام العرب فإنه امام العربية واللغة فتكون بهذا الاعتبار زاكية بالألف أبلغ وأنسب بالمقام بناء على أنه يرى أن الغلام لم يبلغ الحلم ولذا اختار القراءة بذلك وإن كان كل من القراءتين متواترا عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا على ما قيل لا ينافي كون زكية بلا ألف أبلغ باعتبار أنها تدل على الرفع وهو أقوى من الدفع فافهم ، وأيّا ما كان فوصف النفس بذلك لزيادة تفظيع ما فعل.

وقد أخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب أن الخضر عليه‌السلام لما قتل الغلام ذعر موسى عليه‌السلام ذعرة منكرة قال : أقتلت نفسا زكية بغير نفس (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) منكرا جدا ، قال الإمام : المنكر ما أنكرته العقول ونفرت عنه النفوس وهو أبلغ في تقبيح الشيء من الأمر ، وقيل بالعكس ، وقال الراغب : المنكر الدهاء والأمر الصعب الذي لا يعرف ، ولهذه الأبلغية قال بعضهم المراد شيئا أنكر من الأول ، واختار الطيبي أنه دون الأمر وقال : إن الذي يقتضيه النظم أنه ذكر الأغلظ ثم تنزل إلى الأهون فقتل النفس أهون من الخرق لما فيه من إهلاك جماعة وأغلظ من إقامة الجدار بلا أجرة ، وقال في الكشف : الظاهر أبلغية النكر أما بحسب اللفظ فظاهر ألا ترى كيف فسر الشاعر أي في قوله :

لقد لقي الأقران (١) مني نكرا

داهية دهياء إذا امرا

النكر بداهية من صفتها كيت وكيت وجعل الإمر بعض أوصافها ، وأما بحسب الحقيقة فلأن خرق السفينة تسبب إلى الهلاك وهذا مباشرة على أن ذلك لم يكن سببا مفضيا ، وقول من قال : إنه تنزل استدلالا بأن إقامة الجدار أهون من القتل ليس بشيء لأنه حكي على ترتيب الوجود لا تنزل فيه ولا ترقي وإنما يلاحظ ذلك بالنسبة إلى ما ذيل انتهى ، وروي القول بالأبلغية عن قتادة ، ومما يؤيد ذلك ما حكاه القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى عليه‌السلام حين قال للخضر عليه‌السلام ما قال غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه وإذا مكتوب فيه كافر لا يؤمن بالله تعالى أبدا ، وبنى وجه تغيير النظم الجليل على أقبحية القتل فقيل : إنما غير النظم إلى ما ترى لأن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل وأحق فكان الاعتراض جدير بأن يجعل عمدة الكلام ، وهو مبني على أن الحكم في الكلام الشرطي هو الجزاء والشرط قيد له بمنزلة الحال عند أهل العربية ، وتحقيق ذلك في المطول وحواشيه.

وكان العطف بالفاء التعقيبية ليفيد أن القتل وقع عقيب اللقاء من غير ريث كما يشعر به الاعتراض إذ لو مضى

__________________

(١) قوله مني نكرا في نسخة منكم بدل مني اه منه.

٣١٩

زمان بين اللقاء والقتل أمكن نظرا للأمور العادية اطلاع الخضر فيه من حاله على ما لم يطلع عليه موسى عليه‌السلام فلا يعترض عليه هذا الاعتراض ، ولا يضر في هذا ادعاء أن الخرق أيضا كذلك لأن المقصود توجيه اختيار الفاء دون الواو أو ثم بعد توجيه اختيار أصل العطف بأن ذلك يتأتى جعل الاعتراض عمدة ، والحاصل أنه لما كان الاعتراض في القصة الثانية معتنى بشأنه وأهم جعل جزاء لإذا الشرطية وبعد أن تعين للجزائية لذلك لم يكن بد من جعل القتل من جملة الشرط بالعطف ، واختيرت الفاء من بين حروفه ليفاد التعقيب ، ولما لم يكن الاعتراض في القصة الأولى مثله في الثانية جعل مستأنفا وجعل الخرق جزاء.

وزعم التاشكندي جواز كون الاعتراضين في القصتين مستأنفين والجزاء فيهما فعل الخضر عليه‌السلام إلا أنه لا بد من تقدير قد في الجزاء الثاني لأن الماضي المثبت الغير المقترن بها لفظا أو تقديرا لا يصلح للجزائية.

واعتبر هذا في الثانية ولم يعتبر مثله في الأول لأن القتل أقبح فهو جدير بأن يؤكد ولا كذلك الخرق.

وتعقبه بعض الفضلاء بأن الفاء الجزائية لا يجوز أن تدخل على الماضي المثبت إلا بتقدير قد لتحقق تأثير حرف الشرط فيه بأن يقلب معناه إلى الاستقبال فلا حاجة إلى الرابطة في كونه جوابا ، وأما بتقدير قد فتدخل الفاء لعدم تأثير حرف الشرط فيه فهو محتاج إلى الرابطة فقوله تعالى : (خَرَقَها) وكذلك قوله سبحانه : (فَقَتَلَهُ) لكونهما مستقبلين بالنسبة إلى ما قبلهما يقعان جزاء بلا حاجة إلى ربط الفاء الجزائية فلا مجال في الثاني لجعل الفاء جزائية وكذا لا مجال في الأول لفرض تقدير قد لاصطلاح إدخال الفاء عليه فتدبر فإنه لا يخلو عن شيء.

وقال مير بادشاه في الرد على ذلك : إن الذوق السليم يأبى عن تقدير قد لو جعل القتل جزاء لعدم اقتضاء المقام إياها كيف وقد سبق الخرق جزاء بدونها وقد علم أنه يصدر عن الخضر عليه‌السلام ما لا يستطيع المتشرع أن يصبر عليه وما المحتاج إلى التحقيق إلا اعتراض موسى عليه‌السلام ثانيا بعد ما سلف منه من الكلام وكونه عليه‌السلام مرسلا منه تعالى للتعلم ، وفيه إعراض عن بيان النكتة في التحقيق وعدم التفات إليها وغفلة على ما قال بعض الفضلاء عن موضع الفاء الجزائية وتقدير قد ، ولعل الحق أن يقال : إن التقدير وإن جاز خلاف الظاهر جدا ، وزعم أيضا أنه يمكن أن يقال في بيان إخراج القصتين على ما أخرجنا عليه أن لقاء الغلام سبب للشفقة والرفق لا القتل فلذا لم يحسن جعله جزاء وجعل جزاء الشرط وركوب السفينة قد يكون سببا لخرقها فلذا جعل جزاء ، وفيه أن للخصم أن يمنع الفرق ويقول : كما أن لقاء الغلام سبب للرفق لا القتل كذلك ركوب السفينة سبب لحفظها وصيانتها لا الخرق كيف وسلامتها سبب لسلامة الخضر عليه‌السلام ظاهرا ، ومن الأمثال العامية لا ترم في البئر التي تشرب منها حجرا ، وإذا سلم له أن يقول : إن لقاء الغلام سبب للرفق لا للقتل فالقتل أغرب والاعتراض عليه أدخل فالاعتراض جدير بأن يجعل جزاء فيؤول الأمر في بيان النكتة إلى نحو ما تقدم والأمر في هذا سهل كما لا يخفى.

وقال شيخ الإسلام في وجه التغيير : إن صدور الخوارق عن الخضر عليه‌السلام خرج بوقوعه مرة مخرج العادة واستأنست النفس به كاستئناسها بالأمور العادية فانصرفت عن ترقب سماعه إلى ترقب سماع حال موسى عليه‌السلام هل يحافظ على مراعاة شرطه بموجب وعده عند مشاهدة خارق آخر أو يسارع إلى المناقشة كما في المرة الأولى فكان المقصود إفادة ما صدر عنه عليه‌السلام فجعل الجزاء اعتراضه دون ما صدر عن الخضر عليهما‌السلام ولله تعالى در شأن التنزيل ، وأما ما قيل من أن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل فكان جديرا بأن يجعل عمدة الكلام فليس

٣٢٠