روح المعاني - ج ٨

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٨

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٨

وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أنه لوح من حجارة كتبوا فيه قصة أصحاب الكهف وأمرهم ثم وضع على باب الكهف ، وقيل لوح من حجارة كتب فيه أسماؤهم وجعل في سور المدينة وروي ذلك عن السدي.

وقيل لوح من رصاص كتب فيه شأنهم ووضع في تابوت من نحاس في فم الكهف وقيل لوح من ذهب كتب فيه ذلك وكان تحت الجدار الذي أقامه الخضر عليه‌السلام ، وروي عن ابن عباس أنه كتاب كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه‌السلام ، وقيل من دين قبل عيسى عليه‌السلام فهو لفظ عربي وفعيل بمعنى مفعول.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس أنه واد دون فلسطين قريب من أيلة والكهف على ما قيل في ذلك الوادي فهو من رقمة الوادي أي جانبه ، وأخرجاهما وجماعة من طريق أخر عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : لا أدري ما الرقيم وسألت كعبا فقال : اسم القرية التي خرجوا منها ، وعلى جميع هذه الأقوال يكون أصحاب الكهف والرقيم عبارة عن طائفة واحدة ، وقيل إن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف وقصتهم في الصحيحين وغيرهما.

فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم فقال بعضهم لبعض : إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه فقال واحد منهم : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل على فرق من أرز فذهب وتركه وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا وأنه أتاني يطلب أجره فقلت اعمد إلى تلك البقر فسقها فقال لي : إنما لي عندك فرق من أرز فقلت : اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق فساقها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأت عليهما ليلة فجئت وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فيستكينا لشربتهما فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء. فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي وإني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها قالت : اتق الله تعالى ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقمت وتركت المائة دينار فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ففرج الله تعالى عنهم فخرجوا» وروي نحو ذلك عن بن عباس وأنس والنعمان بن بشير كل يرفعه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والرقيم على هذا بمعنى محل في الجبل ، وقيل بمعنى الصخرة ، وقيل بمعنى الجبل ، ويكون ذكر ذلك تلميحا إلى قصتهم وإشارة إلى أنه تعالى لا يضيع عمل أحد خيرا أو شرا فهو غير مقصود بالذات ، ولا يخفى أن ذلك بعيد عن السياق ، وليس في الأخبار الصحيحة ما يضطرنا إلى ارتكابه فتأمل (إِذْ أَوَى) معمول (عَجَباً) أو (كانُوا) أو اذكر مقدرا ، ولا يجوز أن يكون ظرفا لحسبت لأن حسبانه لم يكن في ذلك الوقت أي حين التجأ (الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) واتخذوه مأوى ومكانا لهم ، والفتية جمع قلة لفتى ، وهو كما قال الراغب وغيره الطري من الشبان ويجمع أيضا على فتيان ، وقال ابن السراج : إنه اسم جمع وقال غير واحد انه جمع فتى كصبي وصبية ، ورجح بكثرة مثله ، والمراد بهم أصحاب الكهف ، وإيثار الإظهار على الإضمار لتحقيق ما كانوا عليه في أنفسهم من حال الفتوة ، فقد روي أنهم كانوا شبانا من أبناء أشراف الروم وعظمائهم مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب ، وقيل لأن صاحبية الكهف من فروع التجائهم إلى الكهف ، فلا يناسب اعتبارها معهم قبل بيانه ، والظاهر مع

٢٠١

الضمير اعتبارها ، وليس الأمر كذلك مع هذا الظاهر وإن كانت أل فيه للعهد (فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ) أي من عندك (رَحْمَةً) عظيمة أو نوعا من الرحمة فالتنوين للتعظيم أو للنوع ، و «من» للابتداء متعلق بآتنا ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا من رحمة قدم عليها لكونها نكرة ولو تأخر لكان صفة لها ، وفسرت الرحمة بالمغفرة والرزق والأمن والأولى تفسيرها بما يتضمن ذلك وغيره ، وفي ذكر (مِنْ لَدُنْكَ) إيماء إلى أن ذلك من باب التفضل لا الوجوب فكأنهم قالوا ربنا تفضل علينا برحمة (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا) الذي نحن عليه من مهاجرة الكفار والمثابرة على طاعتك ، وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري «وهيي» بياءين من غير همز يعني أنهم أبدلوا الهمزة الساكنة ياء ، وفي كتاب ابن خالويه قرأ الأعشى عن أبي بكر عن عاصم «وهيّ» بلا همز انتهى.

وهو يحتمل أن يكون قد أبدل الهمزة ياء وأن يكون حذفها ، والأول إبدال قياسي ، والثاني مختلف فيه أينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر والمضارع المجزومين أم لا ، وأصل التهيئة إحداث الهيئة وهي الحالة التي يكون عليها الشيء محسوسه أو معقوله ثم استعمل في إحضار الشيء وتيسيره أي يسر لنا من أمرنا (رَشَداً) إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب واهتداء إليه ، وقرأ أبو رجاء «رشدا» بضم الراء وإسكان الشين والمعنى واحد إلا أن الأوفق بفواصل الآيات قراءة الجمهور ، وإلى اتحاد المعنى ذهب الراغب قال : الرشد بفتحتين خلاف الغي ويستعمل استعمال الهداية وكذا الرشد بضم فسكون.

وقال بعضهم : الرشد أي بفتحتين كما في بعض النسخ المضبوطة أخص من الرشد لأن الرشد بالضم يقال في الأمور الدنيوية والأخروية والرشد يقال في الأمور الأخروية لا غير اه ، وفيه مخالفة لما ذكره ابن عطية فإنه قال : إن هذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم وألفاظه تقتضي ذلك وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها ، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه لهذه الآية فإنها كافية.

ويحتمل أن يراد بالرحمة رحمة الآخرة اه ، نعم فيما قاله نظر ، والأولى جعل الدعاء عاما في أمر الدنيا والآخرة وإن كان تعقيبه بما بعد ظاهرا في كونه خاصا في أمر الأولى واللام ومن متعلقان بهيء فإن اختلف معناهما بأن كانت الأولى للأجل والثانية ابتدائية فلا كلام ، وإن كانتا للأجل احتاجت صحة التعلق إلى الجواب المشهور.

وتقديم المجرورين على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة في المؤخر وكذا الكلام في تقديم (مِنْ لَدُنْكَ) على رحمة على تقدير تعلقه بآتنا ، وتقديم المجرور الأول على الثاني للإيذان من أول الأمر بكون المسئول مرغوبا فيه لديهم ، وقيل الكلام على التجريد وهو إن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله مبالغة كأنه بلغ إلى مرتبة من الكمال بحيث يمكن أن يؤخذ منه آخر كرأيت منك أسدا أي اجعل أمرنا كله رشدا. (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) أي ضربنا عليها حجابا يمنع السماع فالمفعول محذوف كما في قولهم : بنى على امرأته والمراد أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات بأن يجعل الضرب على الآذان كناية عن الإنامة الثقيلة وإنما صلح كناية لأن الصوت والتنبيه طريق من طرق إزالة النوم فسد طريقه يدل على استحكامه وأما الضرب على العين وإن كان تعلقه بها أشد فلا يصلح كناية إذ ليس المبصرات من طرق إزالته حتى يكون سد الأبصار كناية ولو صلح كناية فعن ابتداء النوم لا النومة الثقيلة.

واعترض القطب جعله كناية عما ذكر بما لا يخفى رده وخرج الآية على الاستعارة المكنية بأن يقال شبه الإنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان ثم ذكر ضربنا وأريد أنمنا وهو وجه فيها ، وجوز أن تكون من باب الاستعارة التمثيلية واختاره بعض المحققين.

ومن الناس من حمل الضرب على الآذان على تعطيلها كما في قولهم ضرب الأمير على يد الرعية أي منعهم عن

٢٠٢

التصرف. وتعقب بأنه مع عدم ملاءمته لما سيأتي إن شاء الله تعالى من البعث لا يدل على إرادة النوم مع أنه المراد قطعا. وأجيب بأنه يمكن أن يكون مراد الحامل التوصل بذلك إلى إرادة الإنامة فافهم.

والضرب إما من ضربت القفل على الباب أو من ضربت الخباء على ساكنه ، والفاء هنا مثلها في قوله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) [الأنبياء : ٧٦] بعد قوله سبحانه (إِذْ نادى) [الأنبياء : ٧٦] فإن الضرب المذكور وما يترتب عليه من التقليب ذات اليمين وذات الشمال والبعث وغير ذلك من آثار استجابة دعائهم السابق (فِي الْكَهْفِ) ظرف لضربنا وكذا قوله عزوجل : (سِنِينَ) ولا مانع من ذلك لا سيما وقد تغايرا بالمكانية والزمانية (عَدَداً) أي ذوات عدد على أنه مصدر وصف بالتأويل الشائع ، وقيل إنه صفة بمعنى معدودة ، وقيل إنه مصدر لفعل مقدر أي تعد عددا ، والعدد على ما قال الراغب وغيره قد يراد به التكثير لأن القليل لا يحتاج إلى العد غالبا وقد يذكر للتقليل في مقابلة ما لا يحصى كثرة كما يقال بغير حساب وهو هنا يحتمل الوجهين والأول هو الأنسب بإظهار كمال القدرة والثاني هو الأليق بمقام إنكار كون القصة عجبا من بين سائر الآيات العجيبة فإن مدة لبثهم وإن كثرت في نفسها فهي كبعض يوم عند الله عزوجل.

وفي الكشف أن الكثرة تناسب نظرا إلى المخاطبين والقلة تناسب نظرا إلى المخاطب اه ، وقد خفي على العز ابن عبد السلام أمر هذا الوصف وظن أنه لا يكون للتكثير وأن التقليل لا يمكن هاهنا وهو غريب من جلالة قدره وله في أماليه أمثال ذلك. وللعلامة ابن حجر في ذلك كلام ذكره في الفتاوي الحديثية لا أظنه شيئا.

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي أيقظناهم وأثرناهم من نومهم (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) أي منهم وهم القائلون لبثنا يوما أو بعض يوم والقائلون : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) [الكهف : ١٩] وقيل أحد الحزبين الفتية الذين ظنوا قلة زمان لبثهم ، والثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم وكان عندهم تاريخ غيبتهم ، وزعم ابن عطية أن هذا قول جمهور المفسرين وعن ابن عباس أن أحد الحزبين الفتية والآخر الملوك الذين تداولوا ملك المدينة واحدا بعد واحد وعن مجاهد : الحزبان قوم أهل الكهف حزب منهم مؤمنون وحزب كافرون ، وقال الفراء : الحزبان مؤمنان كانوا في زمنهم ، واختلفوا في مدة لبثهم ، وقال السدي : الحزبان كافران ، والمراد بهما اليهود والنصارى الذي علموا قريشا سؤال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أهل الكهف ؛ وقال ابن حرب : الحزبان الله سبحانه وتعالى ، والخلق كقوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) [البقرة : ١٤٠] والظاهر هو الأول لأن اللام للعهد ولا عهد لغير من سمعت (أَحْصى) أي ضبط فهو فعل ماض وفاعله ضمير (أَيُ) واختار ذلك الفارسي والزمخشري ، وابن عطية ، وما في قوله تعالى : (لِما لَبِثُوا) مصدرية ، والجار والمجرور حال مقدم عن قوله تعالى : (أَمَداً) وهو مفعول (أَحْصى) والأمد على ما قال الراغب : مدة لها حد ، والفرق بينه وبين الزمان أن الأمد يقال : باعتبار الغاية بخلاف الزمان فإنه عام في المبدأ والغاية ، ولذلك قال بعضهم : المدى والأمد يتقاربان ، وليس اسما للغاية حتى يكون إطلاقه على المدة مجازا كما أطلقت الغاية ، عليها في قولهم : ابتداء الغاية وانتهاؤها ، أي ليعلم أيهم أحصى مدة كائنة للبثهم ، والمراد من إحصائها ضبطها من حيث كميتها المنفصلة العارضة لها باعتبار قسمتها إلى السنين وبلوغها من تلك الحيثية إلى مراتب الأعداد كما يرشدك إليه كون المدة عبارة عما سبق من السنين ، وليس المراد ضبطها من حيث كميتها المتصلة الذاتية فإنه لا يسمى إحصاء ، وقيل إطلاق الأمد على المدة مجاز وحقيقته غاية المدة.

ويجوز إرادة ذلك بتقدير المضاف أي لنعلم أيهم ضبط غاية لزمان لبثهم وبدونه أيضا فإن اللبث عبارة عن الكون المستمر المنطبق على الزمان المذكور فباعتبار الامتداد العارض له بسببه يكون له أمد وغاية لا محالة لكن ليس المراد

٢٠٣

ما يقع غاية ومنتهى لذلك الكون المستمر باعتبار كميته المتصلة العارضة له بسبب انطباقه على الزمان الممتد بالذات ، وهو آن انبعاثهم من نومهم فإن معرفته من تلك الحيثية لا تخفى على أحد ولا تسمى إحصاء أيضا ، بل باعتبار كميته المنفصلة العارضة له بسبب عروضها لزمانه المنطبق هو عليه باعتبار انقسامه إلى السنين ووصوله إلى مرتبة معينة من مراتب العدد ، والفرق بين هذا وما سبق أن ما تعلق به الإحصاء في الصورة السابقة نفس المدة المنقسمة إلى السنين فهو مجموع ثلاثمائة وتسع سنين وفي الصورة الأخيرة منتهى تلك المدة المنقسمة إليها أعني التاسعة بعد الثلاثمائة ؛ وتعلق الإحصاء بالأمد بالمعنى الأول ظاهر ، وأما تعلقه به بالمعنى الثاني فباعتبار انتظامه لما تحته من مراتب العدد ، واشتماله عليها انتهى.

وأنت تعلم أن ظاهر كلام الراغب وهو ـ هو ـ في اللغة يقتضي أن الأمد حقيقة في المدة وأنه في الغاية مجاز وأن توجيه إرادة الغاية هنا بما ذكر تكلف لا يحتاج إليه على تقدير كون ما مصدرية. نعم يحتاج إليه على تقدير جعلها موصولة حذف عائدها من الصلة أي لنعلم أيهم أحصى أمدا كائنا للذي لبثوه أي لبثوا فيه من الزمان. وقيل ما لبثوا في موضع المفعول له وجيء بلام التعليل لكونه غير مصدر صريح وغير مقارن أيضا وليس بذاك. وقيل اللام مزيدة وما موصولة وهي المفعول به وعائدها محذوف أي (أَحْصى) الذي لبثوه والمراد الزمان الذي لبثوا فيه ، و (أَمَداً) على هذا تمييز للنسبة مفسر لما في نسبة المفعول من الإبهام محول عن المفعول وأصله أحصى أمد الزمان الذي لبثوا فيه. وزعم أنه لا يصح أن يكون تمييزا للنسبة لأنه لا بد أن يكون محولا عن الفاعل ولا يمكن ذلك هنا ليس بشيء لأن اللابدية في حيز المنع. والذي تحقق في المعتبرات كشروح التسهيل وغيرها أنه يكون محولا عن المفعول ك (فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] كما يكون محولا عن الفاعل كتصبب زيد عرقا ولو جعل تمييزا لما كان تمييزا لمفرد. ولم يقل أحد باشتراط التحويل فيه أصلا.

وجوز في ما على هذا التقدير أن تكون مصدرية وهو بعيد ، وضعف القول بزيادة اللام هنا بأنها لا تزاد في مثل ذلك.

واختار الزجاج والتبريزي كون (أَحْصى) أفعل تفضيل لأنه الموافق لما وقع في سائر الآيات الكريمة نحو (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)(أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) إلى غير ذلك مما لا يحصى ولأن كونه فعلا ماضيا يشعر بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم على البعث لا بالإحصاء المتأخر عنه وليس كذلك ، واعترض أولا بأن بناء أفعل التفضيل من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس وما جاء منه شاذ كأعدى من الجرب وأفلس من ابن المدلق ، وأجيب بأن في بناء أفعل من ذلك ثلاثة مذاهب الجواز مطلقا وهو ظاهر كلام سيبويه والمنع مطلقا وما ورد شاذ لا يقاس عليه وهو مذهب أبي علي ، والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل فلا يجوز أو لغيره كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز وهو اختيار ابن عصفور فلعلهما يريان الجواز مطلقا كسيبويه أو التفصيل كابن عصفور ، والهمزة في (أَحْصى) ليست للنقل ، وثانيا بأن (أَمَداً) حينئذ إن نصب على أنه مفعول به فإن كان بمضمر كما في قول العباس بن مرداس :

فلم أر مثل الحي حيا مصبحا

ولا مثلنا لما التقينا فوارسا

أكر وأحمى للحقيقة منهم

وأضرب منا بالسيوف القوانسا

لزم الوقوع فيما فرا منه حيث لم يجعلا المذكور فعلا ثم قدرا وإن كان به فليس صالحا لذلك ، وإن نصب يلبثوا لا يكون المعنى سديدا لأن الضبط لمدة اللبث وأمده لا للبث في الأمد ، ولا يقال : فليكن نظير قولكم أيكم أضبط لصومه في الشهر أي لأيام صومه والمعنى أيهم أضبط لأيام اللبث أو ساعاته في الأمد ويراد به جميع المدة لما قيل

٢٠٤

يعضل حينئذ تنكير (أَمَداً) والاعتذار بأنهم ما كانوا عارفين بتحديده يوما أو شهرا أو سنة فنكر على أنه سؤال أما عن الساعات والأيام أو الأشهر غير سديد لأنه معلوم أنه أمد زمان اللبث فليعرف إضافة أو عهدا ويكون الاحتمال على حاله ، ووجه أبو حيان نصبه بأنه على إسقاط حرف الجر وهو بمعنى المدة والأصل لما لبثوا من أمد ويكون من أمد تفسيرا لما أبهم في لفظ ما كقوله تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦] (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) [فاطر : ٢] ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل وهو كما ترى ، وتعقب منع صلاحية أفعل لنصب المفعول به بأنه قول البصريين دون الكوفيين فلعل الإمامين سلكا مذهب الكوفيين فجعلا (أَحْصى) أفعل تفضيل و (أَمَداً) مفعولا له ، والحق أن الذاهب إلى كون أحصى أفعل تفضيل جعل أمدا تمييزا وهو يعمل في التمييز على الصحيح والقول بأن التمييز يجب كونه محولا عن الفاعل قد ميزت حاله ، وثالثا بأن توهم الأشعار بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم عليه مردود بأن صيغة الماضي باعتبار حال الحكاية ولا يكاد يتوهم من ذلك الإشعار المذكور ، ورابعا بأنه يلزم حينئذ أن يكون أصل الإحصاء متحققا في الحزبين إلا أن بعضهم أفضل والبعض الآخر أدنى مع أنه ليس كذلك ، وفي الكشف أن قول الزجاج ليس بذلك المردود إلا أن ما آثره الزمخشري أحق بالإيثار لفظا ومعنى أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلأنه تعالى حكى تساؤلهم فيما بينهم وأنه عن العارف لا عن الأعرف وغيرهم أولى به انتهى فافهم ، وأي استفهامية مبتدأ وما بعدها خبرها وقد علقت نعلم عن العمل كما هو شأن أدوات الاستفهام في مثل هذا الوضع وهذا جار على احتمالي كون (أَحْصى) فعلا ماضيا وكونه أفعل تفضيل ، وجوز جعل أي موصولة ففي البحر إذا قلنا بأن (أَحْصى) أفعل تفضيل جاز أن تكون أي موصولا مبنيا على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء فيه وهو كون أي مضافة حذف صدر صلتها والتقدير لنعلم الفريق الذي هو أحصى لما لبثوا أمدا من الذين لم يحصوا وإذا كان فعلا ماضيا امتنع ذلك لأنه حينئذ لم يحذف صدر صلتها لوقوع الفعل مع فاعله صلة فلا يجوز بناؤها لفوات تمام الشرط وهو حذف صدر الصلة انتهى.

وقرأ الزهري «ليعلم» بالياء على إسناد الفعل إليه تعالى بطريق الالتفات ، وأيّا ما كان فالعلم غاية للبعث وليس ذلك على ظاهره وإلا تكن الآية دليلا لهشام على ما يزعمه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فقيل هو غاية بجعله مجازا عن الإظهار والتمييز ، وقيل : المراد ليتعلق علمنا تعلقا حاليا مطابقا لتعلقه أولا تعلقا استقباليا كما في قوله تعالى : (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة : ١٤٣] واعترضه بعض الأجلة بأن بعث هؤلاء الفئة لم يترتب عليه تفرقهم إلى المحصي وغيره حتى يتعلق بهما العلم تعلقا حاليا أو الإظهار والتمييز ويتسنى نظم شيء من ذلك في سلك الغاية كما ترتب على تحويل القبلة انقسام الناس إلى متبع ومنقلب فصح تعلق العلم الحالي والإظهار بكل من القسمين وإنما الذي ترتب على ذلك تفرقهم إلى مقدر تقديرا غير مصيب ومفوض العلم إلى الله عزوجل وليس في شيء منهما إحصاء أصلا ، ثم قال : إن جعل ذلك غاية بحمل النظم الكريم على التمثيل المبني على جعل العلم عبارة عن الاختبار مجازا بإطلاق اسم المسبب على السبب وليس من ضرورة الاختبار صدور الفعل المختبر به عن المختبر قطعا بل قد يكون لإظهاره عجزه عنه على سنن التكاليف التعجيزية كقوله تعالى : (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) [البقرة : ٢٥٨] وهو المراد هنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم أيهم أحصى لما لبثوا أمدا فيظهر لهم عجزهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير ويتعرفوا حالهم وما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانهم فيزدادوا يقينا بكمال قدرته تعالى وعلمه ويستبصروا به أمر البعث ويكون ذلك لطفا لمؤمني زمانهم وآية بينة لكفارهم ، وقد اقتصرها هنا من تلك الغايات الجليلة على مبدئها الصادر عنه سبحانه وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى على ما صدر عنهم من التساؤل المؤدي

٢٠٥

إليها وهذا أولى من تصوير التمثيل بأن يقال بعثناهم بعث من يريد أن يعلم إذ ربما يتوهم منه استلزام الإرادة لتحقق المراد فيعود المحذور فيصار إلى جعل إرادة العلم عبارة عن الاختبار فاختبر واختر انتهى.

وتعقبه الخفاجي بأن ما ذكره مع تكلفه وقلة جدواه غير مستقيم لأن الاختيار الحقيقي لا يتصور ممن أحاط بكل شيء علما فحيث وقع جعلوه مجازا عن العلم أو ما يترتب عليه فلزمه بالآخرة الرجوع إلى ما أنكره واختار جعل العلم كناية عن ظهور أمرهم ليطمئن بازدياد الإيمان قلوب المؤمنين وتنقطع حجة المنكرين وعلم الله تعالى حيث تعذر إرادة حقيقته في كتابه تعالى جعل كناية عن بعض لوازمه المناسبة لموقعه والمناسب هنا ما ذكر ، ثم قال : وإنما علق العلم بالاختلاف في أمده أي المفهوم من أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا لأنه ادعى لإظهاره وأقوى لانتشاره. وفي الكشف توجيها لما في الكشاف أراد أن العلم مجاز عن التمييز والإظهار كأنه قيل لنظهره ونميز لهم العارف بأمد ما لبثوا ولينظر من هذا العارف فإنه لا يجوز أن يكون أحدا منهم لأنهم بين مفوض ومقدر غير مصيب ، والفرق بين ما في الكشف وما ذكره الخفاجي لا ينفى على بصير وما في الكشف أقل مئونة منه.

وتصوير التمثيل بأن يقال : بعثناهم بعث من يريد أن يعلم أحسن عندي من التصوير الأول ، والتوهم المذكور مما لا يكاد يلتفت إليه فتدبر جدا. وقرئ «ليعلم» مبنيا للفاعل من الإعلام وخرج ذلك على أن الفاعل ضميره تعالى والمفعول الأول محذوف لدلالة المعنى عليه و (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) إلخ من المبتدأ والخبر في موضع مفعولي نعلم الثاني والثالث ، والتقدير ليعلم الله الناس أي الحزبين إلخ ، وإذا جعل العلم عرفانيا كانت الجملة في موضع مفعولي نعلم الثاني فقط وهو ظاهر. وقرئ «ليعلم» بالبناء للمفعول وخرج على أن نائب الفاعل محذوف أي ليعلم الناس.

والجملة بعد أما في موضع المفعولين أو المفعول حسبما سمعت ، وقال بعضهم : إن الجملة هي النائب عن الفاعل وهو مذهب كوفي ففي البحر البصريون لا يجوز كون الجملة فاعلا ولا نائبا عنه وللكوفيين مذهبان ، أحدهما أنه يجوز الإسناد إلى الجملة مطلقا ، والثاني أنه لا يجوز إلا إذا كان المسند مما يصح تعليقه وتحقيق ذلك في محله.

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ) شروع في تفصيل ما أجمل فيما سلف أي نحن نخبرك بتفصيل خبرهم الذي له شأن وخطر (بِالْحَقِ) أما صفة لمصدر محذوف أو حال من ضمير (نَقُصُ) أو من (نَبَأَهُمْ) أو صفة له على رأي من يرى جواز حذف الموصول مع بعض الصلة أي نقص قصصا ملتبسا بالحق أو نقصه ملتبسين به أو نقص نبأهم ملتبسا به أو نبأهم الملتبس به ، ولعل في التقييد (بِالْحَقِ) إشارة إلى أن في عهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يقص نبأهم لكن لا بالحق.

وفي الكشف بعد نقل شعر أمية بن أبي الصلت السابق ما نصه وهذا يدل على أن قصة أصحاب الكهف كانت من علم العرب وإن لم يكونوا عالميها على وجهها ، ونبؤهم حسبما ذكره ابن إسحاق وغيره أنه مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت وفيهم بقايا على دين المسيح عليه‌السلام متمسكين بعبادة الله تعالى وتوحيده وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم وعتا عتوا كبيرا دقيانوس وفي رواية دقيوس فإنه غلا غلوا شديدا فجلس خلال الديار والبلاد وأكثر فيها الفساد وقتل من خالفه من المتمسكين بدين المسيح عليه‌السلام وكان يتتبع الناس فيخيرهم بين القتل وعبادة الأوثان فمن رغب في الحياة الدنيا انقاد لأمره وامتثله ومن آثر عليها الحياة الأبدية لم يبال بأي قتلة قتله فكان يقتل أهل الإيمان ويقطع أجسادهم ويجعلها على سور المدينة وأبوابها فلما رأى الفتية ذلك وكانوا عظماء مدينتهم واسمها على ما في بعض الروايات أفسوس وفي بعضها طرسوس ، وقيل كانوا من خواص الملك قاموا فتضرعوا إلى الله عزوجل واشتغلوا بالصلاة والدعاء فبينما هم كذلك دخل عليهم

٢٠٦

الشرط فاخذوهم وأعينهم تفيض من الدمع ووجوههم معفرة بالتراب وأحضروهم بين يدي الجبار فقالوا لهم : ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا وخيرهم بين القتل وعبادة الأوثان فقالوا : إن لنا إلها ملأ السموات والأرض عظمته وجبروته لن ندعو من دونه أحدا ولن نقر بما تدعونا إليه أبدا فاقض ما أنت قاض وأول من قال ذلك أكبرهم مكسلمينا فأمر الجبار فنزع ما عليهم من الثياب الفاخرة وأخرجهم من عنده وخرج هو إلى مدينة أخرى قيل هي نينوى لبعض شأنه وأمهلهم إلى رجوعه وقال : ما يمنعني أن أعجل عقوبتكم إلا أني أراكم شبانا فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا تتأملون فيه وترجعون إلى عقولكم فإن فعلتم فيها وإلا أهلكتكم فلما رأوا خروجه اشتوروا فيما بينهم واتفقوا على أن يأخذ كل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدق ببعضها ويتزود بالباقي وينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة يقال له بنجلوس ففعلوا ما فعلوا وأووا إلى الكهف فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتحميد وفوضوا أمر نفقتهم إلى فتى منهم اسمه يمليخا فكان إذا أصبح يتنكر ويدخل المدينة ويشتري ما يهمهم ويتجسس ما فيها من الأخبار ويعود إليهم فلبثوا على ذلك إلى أن قدم الجبار مدينتهم فتطلبهم وأحضر آباءهم فاعتذروا بأنهم عصوهم ونهبوا أموالهم وبذروها في الأسواق وفروا إلى الجبل وكان يمليخا إذ ذاك في المدينة فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه قليل طعام فأخبرهم بما شاهد من الهول ففزعوا إلى الله تعالى وخروا له سجدا ثم رفعوا رءوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم فبينما هم كذلك إذ ضرب الله عزوجل على آذانهم فناموا ونفقتهم عند رءوسهم وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد فأصابه ما أصابهم فخرج الجبار في طلبهم بخيله ورجله فوجدوهم قد دخلوا الكهف فأمر بإخراجهم فلم يطق أحد أن يدخله فلما ضاق بهم ذرعا قال قائل منهم : أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم؟ قال : بلى قال : فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعا وعطشا وليكن كهفهم قبرا لهم ففعل ثم كان من شأنهم ما قص الله تعالى عزوجل.

وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة يدعو الناس إلى عبادة الأوثان فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة فجمعهم الله تعالى على غير ميعاد فجعل بعضهم يقول لبعض : أين تريدون أين تذهبون؟ فجعل بعضهم يخفي عن بعض لأنه لا يدري هذا علام خرج هذا ولا يدري هذا علام خرج هذا فأخذوا العهود والمواثيق أن يخبر بعضهم بعضا فإن اجتمعوا على شيء وإلا كتم بعضهم بعضا فاجتمعوا على كلمة واحدة فقالوا (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ـ إلى ـ (مِرْفَقاً) ثم انطلقوا حتى دخلوا الكهف فضرب الله تعالى على آذانهم فناموا وفقدوا في أهلهم فجعلوا يطلبونهم فلم يظفروا بهم فرفع أمرهم إلى الملك فقال : ليكونن لهؤلاء القوم بعد اليوم شأن ناس خرجوا لا ندري أين ذهبوا في غير جناية ولا شيء يعرف فدعا بلوح من رصاص فكتب فيه أسماءهم ثم طرح في خزانته ثم كان من شأنهم ما قصه الله سبحانه وتعالى.

وكانوا على ما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر صيارفة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن وهب بن منبه قال : جاء رجل من حواري عيسى عليه‌السلام إلى مدينة أصحاب الكهف فأراد أن يدخلها فقيل على بابها صنم لا يدخل أحد إلا سجد له فكره أن يدخل فأتى حماما قريبا من المدينة وأجر نفسه من صاحبه فكان يعمل فيه ورأى صاحب الحمام البركة والرزق وجعل يسترسل إليه وعلقه فتية من أهل المدينة فجعل يخبرهم عن خبر السماء وخبر الآخرة حتى آمنوا وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة وكان يشترط على صاحب الحمام أن الليل لي ولا تحول بيني وبين الصلاة إذا حضرت حتى جاء ابن الملك بامرأة يدخل بها الحمام فعيره الحواري فقال : أنت ابن الملك وتدخل مع هذه الامرأة التي صفتها كذا وكذا فاستحيا فذهب فرجع مرة أخرى فسبه وانتهره فلم يلتفت حتى دخل ودخلت معه فباتا في الحمام جميعا فماتا فيه فأتى الملك فقيل له : قتل ابنك صاحب الحمام فالتمس فلم يقدر عليه

٢٠٧

وهرب من كان يصحبه والتمس الفتية فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم في زرع له وهو على مثل أمرهم فذكروا له أنهم التمسوا فانطلق معهم حتى أواهم الليل إلى كهف فدخلوا فيه فقالوا نبيت هاهنا الليلة ثم نصبح إن شاء تعالى فنرى رأينا فضرب على آذانهم فخرج الملك بأصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف فكلما أراد الرجل منهم أن يدخله أرعب فلم يطق أن يدخل فقال للملك قائل : ألست لو قدرت عليهم قتلتهم؟ قال : بلى قال : فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا عطشا وجوعا ففعل ثم كان ما كان ، وروي غير ذلك والأخبار في تفصيل شأنهم مختلفة.

وفي البحر لم يأت في الحديث الصحيح كيفية اجتماعهم وخروجهم ولا معول إلا على ما قص الله تعالى من نبئهم (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) استئناف مبني على السؤال من قبل المخاطب وتقدم الكلام آنفا في الفتية (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) أي بسيدهم والناظر في مصالحهم ، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة ، وأوثر للإشعار بعلية وصف الربوبية لإيمانهم ولما صدر عنهم من المقالة حسبما سيحكي عنهم.

(وَزِدْناهُمْ هُدىً) بالتثبيت على الإيمان والتوفيق للعمل الصالح والانقطاع إلى الله تعالى والزهد في الدنيا.

وفي التحرير المراد زدناهم ثمرات هدى أو يقينا قولان وما حصلت به الزيادة امتثال المأمور وترك المنهي أو إنطاق الكلب لهم بأنه على ما هم عليه من الإيمان أو إنزال ملك عليهم بالتبشير والتثبيت وإخبارهم بظهور نبي من العرب يكون به الدين كله لله تعالى فآمنوا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل بعثه اه. ولا يلزم من القول بإنزال ملك عليهم بذلك القول بنبوتهم كما لا يخفى. وفي (زِدْناهُمْ) التفات من الغيبة إلى التكلم الذي عليه سبك النظم الكريم سباقا وسياقا ، وفيه من تعظيم أمر الزيادة ما فيه (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) قويناها بالصبر فلم تزحزحها عواصف فراق الأوطان وترك الأهل والنعيم والأخوان ولم يزعجها الخوف من ملكهم الجبار ولم يرعها كثرة الكفار ، وأصل الربط الشد المعروف واستعماله فيما ذكر مجاز كما قال غير واحد. وفي الأساس ربطت الدابة شددتها برباط والمربط الحبل ، ومن المجاز ربط الله تعالى على قلبه صبره ورابط الجأش.

وفي الكشف لما كان الخوف والتعلق يزعج القلوب عن مقارها ألا ترى إلى قوله تعالى (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) [الأحزاب : ١٠] قيل في مقابله ربط قلبه إذا تمكن وثبت وهو تمثيل.

وجوز بعضهم أن يكون في الكلام استعارة مكنية تخييلية ، وعدي الفعل بعلى وهو متعد بنفسه لتنزيله منزلة اللازم كقوله : يجرح في عراقيبها نصلي (إِذْ قامُوا) متعلق بربطنا ، والمراد بقيامهم انبعاثهم بالعزم على التوجه إلى الله تعالى ومنابذة الناس كما في قولهم : قام فلان إلى كذا إذا عزم عليه بغاية الجد ، وقريب منه ما قيل المراد به انتصابهم لإظهار الدين.

أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم أنهم خرجوا من المدينة فاجتمعوا وراءها على غير ميعاد فقال رجل منهم : هو أشبههم إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أحدا يجده قالوا : ما تجد؟ قال : أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض فقالوا أيضا : نحن كذلك فقاموا جميعا (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقد تقدم آنفا عن ابن عباس القول باجتماعهم على غير ميعاد أيضا إلا أنه قال : إن بعضهم أخفى حاله عن بعض حتى تعاهدوا فاجتمعوا على كلمة فقالوا ذلك.

وقال صاحب الغنيان المراد به وقوفهم بين يدي الجبار دقيانوس ، وذلك أنهم قاموا بين يديه حين دعاهم إلى عبادة الأوثان فهددهم بما هددهم فبينما هم بين يديه تحركت هرة وقيل فأرة ففزع الجبار منها فنظر بعضهم إلى بعض

٢٠٨

فلم يتمالكوا أن قالوا ذلك غير مكترثين به ، وقيل المراد قيامهم لدعوة الناس سرا إلى الإيمان. وقال عطاء : المراد قيامهم من النوم وليس بشيء ، ومثله ما قيل إن المراد قيامهم على الإيمان ، وما أحسن ما قالوا فإن ربوبيته تعالى للسماوات والأرض تقتضي ربوبيته لما فيهما وهم من جملته أي اقتضاء ، وأردفوا دعواهم تلك بالبراءة من إله غيره عزوجل فقالوا : (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) وجاءوا بلن لأن النفي بها أبلغ من النفي بغيرها حتى قيل إنه يفيد استغراق الزمان فيكون المعنى لا نعبد أبدا من دونه إلها أي معبودا آخر لا استقلالا ولا اشتراكا ؛ قيل وعدلوا عن قولهم ربا إلى قولهم «إلها» للتنصيص على رد المخالفين حيث كانوا يسمون أصنامهم آلهة ، وللإشعار بأن مدار العبادة وصف الألوهية ، وللإيذان بأن ربوبيته تعالى بطريق الألوهية لا بطريق المالكية المجازية.

وقد يقال : إنهم أشاروا بالجملة الأولى إلى توحيد الربوبية ، وبالجملة الثانية إلى توحيد الألوهية وهما أمران متغايران وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا ويقولون بالأول (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥ ، الزمر : ٣٨] وحكى سبحانه عنهم أنهم يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] وصح أنهم يقولون أيضا : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وجاءوا بالجملة الأولى مع أن ظاهر القصة كونهم بصدد ما تشير إليه الجملة الثانية من توحيد الألوهية لأن الظاهر أن قومهم إنما أشركوا فيها وهم إنما دعوا لذلك الإشراك دلالة على كمال الإيمان ، وابتدءوا بما يشير إلى توحيد الربوبية لأنه أول مراتب التوحيد ، والتوحيد الذي أقرت به الأرواح في عالم الذر يوم قال لها سبحانه : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] وفي ذكر ذلك أولا وذكر الآخر بعده تدرج في المخالفة فإن توحيد الربوبية يشير إلى توحيد الألوهية بناء على أن اختصاص الربوبية به عزوجل علة لاختصاص الألوهية واستحقاق المعبودية به سبحانه وتعالى ، وقد ألزم جل وعلا الوثنية القائلين باختصاص الربوبية بذلك في غير موضع ، ولكون الجملة الأولى لكونها مشيرة إلى توحيد الربوبية مشيرة إلى توحيد الألوهية قيل إن في الجملة الثانية تأكيدا لها فتأمل ، ولا تعجل بالاعتراض.

والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من النكرة بعده ، ولو أخر لكان صفة أي لن ندعو إلها كائنا من دونه تعالى (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) أي قولا ذا شطط أي بعد عن الحق مفرط أو قولا هو عين الشطط والبعد المفرط عن الحق على أنه وصف بالمصدر مبالغة ثم اقتصر على الوصف مبالغة على مبالغة ، وجوز أبو البقاء كون «شططا» مفعولا به لقلنا ، وفسره قتادة بالكذب ، وابن زيد بالخطإ ، والسدي بالجور ، والكل تفسير باللازم ، وأصل معناه ما أشرنا إليه لأنه من شط إذا أفرط في البعد ، وأنشدوا :

شط المراد بحزوى وانتهى الأمل

وفي الكلام قسم مقدر واللام واقعة في جوابه ، «وإذا» حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر أي لو دعونا وعبدنا من دونه إلها والله لقد قلنا إلخ ، واستلزام العبادة القول لما أنها لا تعرى عن الاعتراف بألوهية المعبود ، والتضرع إليه ، وفي هذا القول دلالة على أن الفتية دعوا لعبادة الأصنام وليموا على تركها ، وهذا أوفق بكون قيامهم بين يدي الملك (هؤُلاءِ) هو مبتدأ وفي اسم الإشارة تحقير لهم (قَوْمُنَا) عطف بيان له لا خبر لعدم إفادته ولا صفة لعدم شرطها والخبر قوله تعالى (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) تعالى شأنه (آلِهَةً) أي عملوها ونحتوها لهم.

قال الخفاجي : فيفيد أنهم عبدوها ولا حاجة إلى تقديره كما قيل بناء على أن مجرد العمل غير كاف في المقصود ، وتفسير الاتخاذ بالعمل أحد احتمالين ذكرهما أبو حيان ، والآخر تفسيره بالتصيير فيتعدى إلى مفعولين أحدهما «آلهة» والثاني مقدر ، وجوز أن يكون «آلهة» هو الأول و «من دونه» هو الثاني وهو كما ترى ، وأيّا ما كان

٢٠٩

فالكلام إخبار فيه معنى الإنكار لا إخبار محض بقرينة ما بعده ولأن فائدة الخبر معلومة (لَوْ لا يَأْتُونَ) تحضيض على وجه الإنكار والتعجيز إذ يستحيل أن يأتوا (عَلَيْهِمْ) بتقدير مضاف أي على ألوهيتهم أو على صحة اتخاذهم لها آلهة (بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) بحجة ظاهرة الدلالة على مدعاهم فإن الدين لا يؤخذ إلا به ، واستدل به على أن ما لا دليل عليه من أمثال ما ذكر مردود (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بنسبة الشريك إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وقد مر تحقيق المراد من هذا التركيب ، وهذه المقالة يحتمل أن يكونوا قالوها بين يدي الجبار تبكيتا له وتعجيزا وتأكيدا للتبرّي من عبادة ما يدعوهم إليه بأسلوب حسن ؛ ويحتمل أن يكونوا قالوها فيما بينهم لما عزموا عليه وخبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما السابق نص في أن هذه المقالة وما قبلها وما بعدها إلى (مِرْفَقاً) مقولة فيما بينهم ، ودعوى أنه إذا كان المراد من القيام فيما مر قيامهم بين يدي الجبار يتعين كون هذه المقالة صادرة عنهم بعد خروجهم من عنده غير مسلمة كما لا يخفى ، نعم ينبغي أن يكون قوله تعالى : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) مقولا فيما بينهم مطلقا خاطب به بعضهم بعضا. وفي مجمع البيان عن ابن عباس أن قائله يمليخا ، والاعتزال تجنب الشيء بالبدن أو بالقلب وكلا الأمرين محتمل هنا ، والتعزل بمعناه ومن ذلك قوله :

يا بيت عاتكة الذي أتعزل

حذر العدا وبه الفؤاد موكل

و «ما» يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية ، والعطف في الاحتمالين على الضمير المنصوب ، والظاهر أن الاستثناء فيهما متصل ، ويقدر على الاحتمال الثاني مضاف في جانب المستثنى ليتأتى الاتصال أي وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم الذين يعبدونهم إلا الله تعالى أو إذا اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم إلا عبادة الله عزوجل ، وتقدير مستثنى منه على ذلك الاحتمال لذلك نحو عبادتهم لمعبوديهم تكلف ، ويحتمل أن يكون منقطعا ، وعلى الأول يكون القوم عابدين الله تعالى وعابدين غيره كما جاء ذلك في بعض الآثار.

أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم عن عطاء الخراساني أنه قال : كان قوم الفتية يعبدون الله تعالى ويعبدون معه آلهة شتى فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله تعالى.

وعلى الثاني يكونون عابدين غيره تعالى فقط ، قيل وهذا هو الأوفق بقوله تعالى أولا : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) فتأمل.

وجوز أن تكون ما نافية والاستثناء مفرغ والجملة إخبار من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترضة بين إذ وجوابه أعني قوله تعالى : (فَأْوُوا) أي التجئوا (إِلَى الْكَهْفِ) ووجه الاعتراض على ما في الكشف أن قوله تعالى : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) فأووا معناه وإذا اجتنبتم عنهم وعما يعبدون فأخلصوا له العبادة في موضع تتمكنون منه فدل الاعتراض على أنهم كانوا صادقين وأنهم أقاموا بما وصى به بعضهم بعضا فهو يؤكد مضمون الجملة. وإلى كون (فَأْوُوا) جواب إذ ذهب الفراء ، وقيل : إنه دليل الجواب أي وإذ اعتزلتموهم اعتزالا اعتقاديا فاعتزلوهم اعتزالا جسمانيا أو إذا أردتم الاعتزال الجسماني فافعلوا ذلك. واعترض كلا القولين بأن إذ بدون ما لا تكون للشرط ، وفي همع الهوامع أن القول بأنها تكون له قول ضعيف لبعض النحاة أو تسامح لأنها بمعناه فهي هنا تعليلية أو ظرفية وتعلقها قيل بأووا محذوفا دل عليه المذكور لا به لمكان الفاء أو بالمذكور والظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره ، وقال أبو البقاء : إذ ظرف لفعل محذوف أي وقال بعضهم لبعض ، وظاهره أنه عنى بالفعل المحذوف قال ؛ وأقول : هو من أعجب العجائب. وفي مصحف ابن مسعود كما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة «وما يعبدون من دون الله» وقال

٢١٠

هارون : في بعض المصاحف «وما يعبدون من دوننا» وهذا يؤيد الاعتراض ، وفي البحر أن ما في المصحفين تفسير لا قراءة لمخالفته سواد الإمام. وزعم أن المتواتر عن ابن مسعود ما فيه (يَنْشُرْ لَكُمْ) يبسط لكم ويوسع عليكم (رَبُّكُمْ) مالك أمركم الذي هداكم للإيمان (مِنْ رَحْمَتِهِ) في الدارين (وَيُهَيِّئْ) يسهل (لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ) الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين والتوجه التام إلى الله تعالى (مِرْفَقاً) ما ترتفقون وتنتفعون به ، وهو مفعول (يُهَيِّئْ) ومفعول (يَنْشُرْ) محذوف أي الخير ونحوه (مِنْ أَمْرِكُمْ) على ما في بعض الحواشي متعلق بيهيئ ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض ، وقال ابن الأنباري : للبدل والمعنى يهيئ لكم بدلا عن أمركم الصعب مرفقا كما في قوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التوبة : ٣٨] وقوله :

فليت لنا من ماء زمزم شربة

مبردة باتت على طهيان

وجوز أن يكون حالا من (مِرْفَقاً) فيتعلق بمحذوف ، وتقديم (لَكُمْ) لما مر مرارا من الإيذان من أول الأمر بكون المؤخر من منافعهم والتشويق إلى وروده ، والظاهر أنهم قالوا هذا ثقة بفضل الله تعالى وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه سبحانه ونصوع يقينهم فقد كانوا علماء بالله تعالى.

فقد أخرج الطبراني وابن المنذر وجماعة عن ابن عباس قال : ما بعث الله تعالى نبيا إلا وهو شاب ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب وقرأ (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) [الأنبياء : ٦٠] (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) [الكهف : ٦٠] و (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) وجوز أن يكونوا قالوه عن أخبار نبي في عصرهم به وأن يكون بعضهم نبيا أوحى إليه ذلك فقاله ، ولا يخفى أن ما ذكر مجرد احتمال من غير داع.

وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة وحميد وابن سعدان ونافع وابن عامر وأبو بكر في رواية الأعشى والبرجمي والجعفي عنه وأبو عمرو في رواية هارون «مرفقا» بفتح الميم وكسر الفاء ولا فرق بينه وبين ما هو بكسر الميم وفتح الفاء معنى على ما حكاه الزجاج وثعلب فإن كلا منهما يقال في الأمر الذي يرتفق به وفي الجارحة ، ونقل مكي عن الفراء أنه قال : لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا كسر الميم ، وأنكر الكسائي أن يكون المرفق من الجارحة إلا بفتح الميم وكسر الفاء وخالفه أبو حاتم وقال : المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد ، وقال أبو زيد : هو مصدر جاء على مفعل كالمرجع ، وقيل : هما لغتان فيما يرتفق به وأما من اليد فبكسر الميم وفتح الفاء لا غير ، وعن الفراء أن أهل الحجاز يقولون : «مرفقا» بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به ويكسرون مرفق الإنسان ، وأما العرب فقد يكسرون الميم منهما جميعا اه. وأجاز معاذ فتح الميم والفاء ، هذا واستدل بالآية على حسن الهجرة لسلامة الدين وقبح المقام في دار الكفر إذا لم يمكن المقام فيها إلا بإظهار كلمة الكفر وبالله تعالى التوفيق.

(وَتَرَى الشَّمْسَ) بيان لحالهم بعد ما أووا إلى الكهف ولم يصرح سبحانه به تعويلا على ما سبق من قوله تعالى : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) وما لحق من إضافة الكهف إليهم وكونهم في فجوة منه ، وجوز أن يكون إيذانا بعدم الحاجة إلى التصريح لظهور جريانهم على موجب الأمر لكونه صادرا عن رأي صائب وقد حذف سبحانه وتعالى أيضا جملا أخرى لا تخفى ، والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد ممن يصلح له وهو للمبالغة في الظهور وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية بل الإنباء بكون الكهف لو رأيته ترى الشمس (إِذا طَلَعَتْ) تزاور أي تتنحى وأصله تتزاور بتاءين فحذف أحدهما تخفيفا وهي قراءة الكوفيين الأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وأبي عبيدة وأحمد بن جبير الأنطاكي ومحمد بن عيسى الأصبهاني ، وقرأ الحرميان وأبو عمرو «تزّاور» بفتح التاء وتشديد الزاي ، وأصله أيضا تتزاور إلا أنه أدغمت التاء في الزاي بعد قلبها زايا ، وقرأ ابن أبي إسحاق وابن عامر وقتادة وحميد ويعقوب عن العمري

٢١١

«تزور» كتحمر وهو من بناء الأفعال من غير العيوب والألوان ، وقد جاء ذلك نادرا وقرأ جابر والجحدري وأبو رجاء والسختياني وابن أبي عبلة ووردان عن أبي أيوب «تزوار» كتحمار وهو في البناء كسابقه ، وقرأ ابن مسعود. وأبو المتوكل «تزوئرّ» بهمزة قبل الراء المشددة كتطمئن ، ولعله إنما جيء بالهمزة فرارا من التقاء الساكنين وإن كان جائزا في مثل ذلك مما كان الأول حرف مد والثاني مدغما في مثله وكلها من الزور بفتحتين مع التخفيف وهو الميل ، وقيده بعضهم بالخلقي ، والأكثرون على الإطلاق ومنه الأزور المائل بعينه إلى ناحية ويكون في غير العين قال ابن أبي ربيعة : وجنبي خيفة القرم أزور وقال عنترة :

فازور من وقع القنا بلبانه

وشكا إلى بعبرة وتحمحم

وقال بشر بن أبي حازم :

تؤم بها الحداة مياه نخل

وفيها عن أبانين ازورار

ومنه زاره إذا مال إليه ، والزور أي الكذب لميله عن الواقع وعدم مطابقته ، وكذا الزور بمعنى الصنم في قوله :

جاءوا بزوريهم وجئنا بالأصم

وقال الراغب : إن الزور بتحريك الواو ميل في الزور بتسكينها وهو أعلى الصدر ، والأزور المائل الزور أي الصدر وزرت فلانا تلقيته بزوري أو قصدت زوره نحو وجهته أي قصدت وجهه ، والمشهور ما قدمناه ، وحكي عن أبي الحسن أنه قال : لا معنى لتزور في الآية لأن الازورار الانقباض ، وهو طعن في قراءة ابن عامر ومن معه بما يوجب تغيير الكنية ، وبالجملة المراد إذا طلعت تروغ وتميل (عَنْ كَهْفِهِمْ) الذي آووا إليه فالإضافة لأدنى ملابسة (ذاتَ الْيَمِينِ) أي جهة ذات يمين الكهف عند توجه الداخل إلى قعره أي جانبه الذي يلي المغرب أو جهة ذات يمين الفتية ومآله كسابقه ، وهو نصب على الظرفية. قال المبرد : في المقتضب ذات اليمين وذات الشمال من الظروف المتصرفة كيمينا وشمالا.

(وَإِذا غَرَبَتْ) أي تراها عند غروبها (تَقْرِضُهُمْ) أي تعدل عنهم ، قال الكسائي : يقال قرضت المكان إذا عدلت عنه ولم تقر به (ذاتَ الشِّمالِ) أي جهة ذات شمال الكهف أي جانبه الذي يلي المشرق ، وقال غير واحد : هو من القرض بمعنى القطع تقول العرب : قرضت موضع كذا أي قطعته. قال ذو الرمة :

إلى طعن يقرضن أقواز (١) مشرف

شمالا وعن إيمانهن الفوارس

والمراد تتجاوزهم (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي في متسع من الكهف ، وهي على ما قيل من الفجا وهو تباعد ما بين الفخذين يقال رجل أفجى وامرأة فجواء ، وتجمع على فجاء وفجا وفجوات. وحاصل الجملتين أنهم كانوا لا تصيبهم الشمس أصلا فتؤذيهم وهم في وسط الكهف بحيث ينالهم روح الهواء ، ولا يؤذيهم كرب الغار ولا حر الشمس ، وذلك لأن باب الكهف كما قال عبد الله بن مسلم وابن عطية كان في مقابلة بنات نعش وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان ومغربه والشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأيمن ، وهو الذي يلي المغرب ، وتغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جنبه ، وتحلل عفونته وتعدل هواه ولا تقع عليهم فتؤذي أجسادهم وتبلي ثيابهم ، ولعل ميل الباب إلى جانب المغرب كان أكثر ولذلك وقع التزاور على كهفهم والقرض على أنفسهم ؛ وقال الزجاج : ليس ذلك لما ذكر بل لمحض صرف الله تعالى الشمس بيد قدرته عن

__________________

(١) القوز بالقاف والزاي المعجمة الكثيب الصغير ، ويروى أجواز ، والمشرف اسم رملة معروفة ، والفوارس رمال معروفة بالدهناء اه منه.

٢١٢

أن تصيبهم على منهاج خرق العادة كرامة لهم وجيء بقوله تعالى : (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) حالا مبينة لكون ما ذكر أمرا بديعا كأنه قيل ترى الشمس تميل عنهم يمينا وشمالا ولا تحوم حولهم مع كونهم في متسع من الكهف معرض لإصابتها لو لا أن كفها عنهم كف التقدير ، واحتج عليه بقوله تعالى (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) حيث جعل (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من التزاور والقرض في الطلوع والغروب يمينا وشمالا ، ولا يظهر كونه آية على القول السابق ظهوره على قوله فإن كونه آية دالة على كمال قدرة الله تعالى وحقية التوحيد وكرامة أهله عنده سبحانه على هذا أظهر من الشمس في رابعة النهار. وكان ذلك قبل سد باب الكهف على ما قيل ، وقال أبو علي : معنى تقرضهم تعطيهم من ضوئها شيئا ثم تزول سريعا وتسترد ضوءها فهو كالقرض يسترده صاحبه ، وحاصل الجملتين عنده أن الشمس تميل بالغدوة عن كهفهم وتصيبهم بالعشي إصابة خفيفة ، ورد بأنه لم يسمع للقرض بهذا المعنى فعل ثلاثي ليفتح حرف المضارعة ، واختار بعضهم كون المراد ما ذكر إلا أنه جعل تقرضهم من القرض لهم وأن المعنى وإذا غربت تقطع لهم من ضوئها شيئا ، والسبب لاختياره ذلك توهمه أن الشمس لو لم تصب مكانهم أصلا لفسد هواؤه وتعفن ما فيه فيصير ذلك سببا لهلاكهم وفيه ما فيه ، وأكثر المفسرين على أنهم لم تصبهم الشمس أصلا وإن اختلفوا في منشأ ذلك.

واختار جمع أنه لمحض حجب الله تعالى الشمس على خلاف ما جرت به العادة قالوا : والإشارة تؤيد ذلك أتم تأييد والاستبعاد مما لا يلتفت إليه لا سيما فيما نحن فيه فإن شأن أصحاب الكهف كله على خلاف العادة.

وبعض من ذهب إلى أن المنشأ كون باب الكهف في مقابلة بنات نعش جعل ذلك إشارة إلى إيوائهم إلى كهف هذا شأنه وبعض آخر جعله إشارة إلى حفظ الله تعالى إياهم في ذلك الكهف المدة الطويلة وآخر جعله إشارة إلى اطلاعه سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أخبارهم. واعترض على الأخيرين بأنه لا يساعدهما إيراد ذلك في تضاعيف القصة ، وجعله بعضهم إشارة إلى هدايتهم إلى التوحيد ومخالفتهم قومهم وآباءهم وعدم الاكتراث بهم وبملكهم مع حداثتهم وإيوائهم إلى كهف شأنه ذلك ولا يخلو عن حسن وإليه أميل والله تعالى أعلم.

وقرئ «يقرضهم» بالياء آخر الحروف ولعل الضمير عائد على غروب الشمس.

وقال أبو حيان : أي يقرضهم الكهف (مَنْ يَهْدِ اللهُ) من يدله سبحانه دلالة موصولة إلى الحق ويوفقه لما يحبه ويرضاه (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) الفائز بالحظ الأوفر في الدارين ، والمراد إما الثناء على أصحاب الكهف والشهادة لهم بإصابة المطلوب والاخبار بتحقق ما أملوه من نشر الرحمة وتهيئة المرفق أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة ولكن المشفع بها من وفقه الله تعالى للتأمل فيها والاستبصار بها فالمراد بمن إما الفتية أو ما يعمهم وغيرهم وفيه ثناء عليهم أيضا وهو كما ترى.

وجعله بعضهم ثناء على الله تعالى لمناسبة قوله سبحانه (وَزِدْناهُمْ هُدىً) وربطنا وملاءمة قوله عزوجل (وَمَنْ يُضْلِلْ) يخلق فيه الضلال لصرف اختياره إليه (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ) أبدا وإن بالغت في التتبع والاستقصاء (وَلِيًّا) ناصرا (مُرْشِداً) يهديه إلى الحق ويخلصه من الضلال لاستحالة وجوده في نفسه لا أنك لا تجده مع وجوده أو إمكانه إذ لو أريد مدحهم لا كتفى بقوله تعالى «فهو المهتد» وفيه أنه لا يطابق المقام والمقابلة لا تنافي المدح بل تؤكده ففيه تعريض بأنهم أهل الولاية والرشاد لأن لهم الولي المرشد ، ولعل في الآية صنعة الاحتباك.

(وَتَحْسَبُهُمْ) بفتح السين.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بكسرها أي تظنهم ، والخطاب فيه كما فيما سبق. والظاهر أن هذا

٢١٣

إخبار مستأنف وليس على تقدير شيء ، وقيل في الكلام حذف والتقدير ولو رأيتهم تحسبهم (أَيْقاظاً) جمع يقظ بكسر القاف كأنكاد ونكد كما في الكشاف وبضمها كأعضاد وعضد كما في الدر المصون.

وفي القاموس رجل يقظ كندس وكتف فحكى اللغتين ضم العين وكسرها وهو اليقظان ومدار الحسبان انفتاح عيونهم على هيئة الناظر كما قال غير واحد. وقال ابن عطية : يحتمل أن يحسب الرائي ذلك لشدة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغير وذلك لأن الغالب على النيام استرخاء وهيئات يقتضيها النوم فإذا لم تكن لنائم يحسبه الرائي يقظان وإن كان مسدود العينين ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في هذا الحسبان.

وقال الزجاج : مداره كثرة تقلبهم ، واستدل عليه بذكر ذلك بعد ، وفيه أنه لا يلائمه (وَهُمْ رُقُودٌ) جمع راقد أي نائم ، وما قيل إنه مصدر أطلق على الفاعل واستوى فيه القليل والكثير كركوع وقعود لأن فاعلا لا يجمع على فعول مردود لأنه نص على جمعه كذلك النحاة كما صرح به في المفصل والتسهيل ، وهذا تقرير لما لم يذكر فيما سلف اعتمادا على ذكره السابق من الضرب على آذانهم (وَنُقَلِّبُهُمْ) في رقدتهم كثيرا (ذاتَ الْيَمِينِ) أي جهة تلي أيمانهم (وَذاتَ الشِّمالِ) أي جهة تلي شمائلهم كيلا تأكل الأرض ما عليها من أبدانهم كما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن جبير ، واستبعد ذلك وقال الإمام : إنه عجيب فإن الله تعالى الذي قدر على أن يبقيهم أحياء تلك المدة الطويلة هو عزوجل قادر على حفظ أبدانهم أيضا من غير تقليب ، وأجيب بأنه اقتضت حكمته تعالى أن يكون حفظ أبدانهم بما جرت به العادة وإن لم نعلم وجه تلك الحكمة ، ويجري نحو هذا فيما قيل في التزاور وأخيه ، وقيل يمكن أن يكون تقليبهم حفظا لما هو عادتهم في نومهم من التقلب يمينا وشمالا اعتناء بشأنهم.

وقيل يحتمل أن يكون ذلك إظهارا لعظيم قدرته تعالى في شأنهم حيث جمع تعالى شأنه فيهم الإنامة الثقيلة المدلول عليها بقوله تعالى : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) [الكهف : ١١] والتقليب الكثير ، ومما جرت به العادة أن النوم الثقيل لا يكون فيه تقلب كثير ، ولا يخفى بعده. واختلف في أوقات تقليبهم فأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا يقلبون في كل ستة أشهر مرة ، وأخرج غير واحد عن أبي عياض نحوه ، وقيل يقلبون في كل سنة مرة ، وذلك يوم عاشوراء ، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن التقليب في التسع سنين الضميمة ليس فيما سواها ، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن هذا التقليب في رقدتهم الأولى يعني الثلاثمائة سنة ، وكانوا يقلبون في كل عام مرة ولم يكن في مدة الرقدة الثانية يعني التسع.

وتعقب الإمام ذلك بأن هذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ولفظ القرآن لا يدل عليها وما جاء فيها خبر صحيح انتهى. فظاهر الآية يدل على الكثرة لمكان المضارع الدال على الاستمرار التجددي مع ما فيه من التثقيل ، والظاهر أن (وَنُقَلِّبُهُمْ) إخبار مستأنف ، وجوز الطيبي بناء على ما سمعت عن الزجاج كون الجملة في موضع الحال وهو كما ترى ، وقرئ «ويقلبهم» بالياء آخر الحروف مع التشديد والضمير لله تعالى ، وقيل للملك.

وقرأ الحسن فيما حكى الأهوازي في الإقناع «ويقلبهم» بياء مفتوحة وقاف ساكنة ولام مخففة ، وقرأ فيما حكى ابن جني «وتقلبهم» على المصدر منصوبا ، ووجهه أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه «وتحسبهم» أي وترى أو تشاهد تقلبهم ، وروي عنه أيضا أنه قرأ كذلك إلا أنه رفع ، وهو على الابتداء كما قال أبو حاتم والخبر ما بعد أو محذوف أي آية عظيمة أو من آيات الله تعالى ، وحكى ابن خالويه هذه القراءة عن اليماني وذكر أن عكرمة قرأ «وتقلبهم» بالتاء ثالثة الحروف مضارع قلب مخففا ، ووجه بأنه على تقدير وأنت تقلبهم وجعل الجملة حالا من فاعل (تَحْسَبُهُمْ) وفي إشارة إلى قوة اشتباههم بالإيقاظ بحيث إنهم يحسبون إيقاظا في حال سبر أحوالهم وقلبهم ذات اليمين وذات الشمال

٢١٤

(وَكَلْبُهُمْ) الظاهر أنه الحيوان المعروف النباح ، وله أسماء كثيرة أفرد لها الجلال السيوطي رسالة ، قال كعب الأحبار : هو كلب مروا به فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مرارا. فقال لهم : ما تريدون مني لا تخشوا جانبي أنا أحب أحياء الله تعالى فناموا وأنا أحرسكم ، وروي عن ابن عباس أنه كلب راع مروا به فتبع دينهم وذهب معهم وتبعهم الكلب ، وقال عبيد بن عمير : هو كلب صيد أحدهم ، وقيل : كلب غنمه ؛ ولا بأس في شريعتنا باقتناء الكلب لذلك وأما فيما عداه وما عدا ما ألحق به فمنهي عنه ، ففي البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد أو ماشية نقص كل يوم من عمله قيراطان ، وفي رواية قيراط ، واختلف في لونه فأخرج ابن أبي حاتم من طريق سفيان قال : قال لي رجل بالكوفة يقال له عبيد وكان لا يتهم بكذب رأيت كلب أصحاب الكهف أحمر كأنه كساء أنبجاني ، وأخرج عن كثير النواء قال : كان الكلب أصفر ، وقيل كان أنمر (١) وروي ذلك عن ابن عباس ، وقيل غير ذلك ، وفي اسمه فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قطمير ، وأخرج عن مجاهد أنه قطمورا ، وقيل ريان ، وقيل ثور ، وقيل غير ذلك ، وهو في الكبر على ما روي عن ابن عباس فوق القلطي ودون الكردي.

وأخرج ابن أبي حاتم عن عبيد أنه قال رأيته صغيرا زينينا. قال الجلال السيوطي : يعني صينيا ، وفي التفسير الخازني تفسير القلطي بذلك ، وزعم بعضهم أن المراد بالكلب هنا الأسد وهو على ما في القاموس أحد معانيه.

وقد جاء أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا على كافر بقوله : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فافترسه أسد وهو خلاف الظاهر ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : قلت لرجل من أهل العلم زعموا أن كلبهم كان أسدا فقال : لعمر الله ما كان أسدا ولكنه كان كلبا أحمر خرجوا به من بيوتهم يقال : له قطمورا وأبعد من هذا زعم من ذهب إلى أنه رجل طباخ لهم تبعهم أو أحدهم قعد عند الباب طليعة لهم ، نعم حكى أبو عمرو الزاهدي غلام ثعلب أنه قرئ «وكالبهم» بهمزة مضمومة بدل الباء وألف بعد الكاف من كلإ إذا حفظ. ولا يبعد فيه أن يراد الرجل الربيئة لكن ظاهر القراءة المتواترة يقتضي إرادة الكلب المعروف منه أيضا وإطلاق ذلك عليه لحفظه ما استحفظ عليه وحراسته إياه. وقيل في هذه القراءة إنها تفسير أو تحريف ، وقرأ جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه «وكالبهم» بباء موحدة وزنة اسم الفاعل والمراد صاحب كلبهم كما تقول لابن وتامر أي صاحب لبن وتمر وجاء في شأن كلبهم أنه يدخل الجنة يوم القيامة. فعن خالد ابن معدان ليس في الجنة من الدواب إلا كلب أصحاب الكهف وحمار بلعم ، ورأيت في بعض الكتب أن ناقة صالح وكبش إسماعيل أيضا في الجنة ورأيت أيضا أن سائر الحيوانات المستحسنة في الدنيا كالظباء والطواويس وما ينتفع به المؤمن كالغنم تدخل الجنة على كيفية تليق بذلك المكان وتلك النشأة وليس فيما ذكر خبر يعول عليه فيما أعلم نعم في الجنة حيوانات مخلوقة فيها ، وفي خبر يفهم من كلام الترمذي صحته التصريح بالخيل منها والله تعالى أعلم.

وقد اشتهر القول بدخول هذا الكلب الجنة حتى إن بعض الشيعة يسمون أبناءهم بكلب علي ويؤمل من سمي بذلك النجاة بالقياس الأولوي على ما ذكر وينشد :

فتية الكهف نجا كلبهم

كيف لا ينجو غدا كلب علي

ولعمري إن قبله علي كرم الله تعالى وجهه كلبا له نجا ولكن لا أظن يقبله لأنه عقور (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) مادهما ، والذراع من المرفق إلى رأس الأصبع الوسطى ونصب (ذِراعَيْهِ) على أنه مفعول (باسِطٌ) وعمل مع أنه بمعنى الماضي واسم الفاعل لا يعمل إذا كان كذلك لأن المراد حكاية الحال الماضية. وذهب الكسائي وهشام وأبو جعفر

__________________

(١) أي فيه نمرة بيضاء ونمرة سوداء اه منه.

٢١٥

ابن مضاء إلى جواز عمل اسم الفاعل كيفما كان فلا سؤال ولا جواب (بِالْوَصِيدِ) بموضع الباب ومحل العبور من الكهف وأنشدوا :

بأرض فضاء لا يسد وصيدها

علي ومعروفي بها غير منكر

وهو المراد بالفناء في التفسير المروي عن ابن عباس ومجاهد وعطية ، وقيل بالعتبة والمراد بها ما يحاذي ذلك من الأرض لا المتعارف ، فلا يقال إن الكهف لا باب له ولا عتبة على أنه لا مانع من ذلك.

وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أن الوصيد الصعيد وليس بذاك وذكروا في حكمة كونه بالوصيد غيرنا ومعهم أن الملائكة عليهم‌السلام لا تدخل بيتا فيه كلب وقد يقال : إن ذلك لكونه حارسا كما يشير إليه ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قال : باسط ذراعيه بالوصيد يمسك عليهم باب الكهف وكان فيما قيل يكسر أذنه اليمنى وينام عليها إذا قلبوا ذات اليمين ، ويكسر أذنه اليسرى وينام عليها إذا قلبوا ذات الشمال ، والظاهر أنه نام كما ناموا لكن أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن حميد المكي أنه جعل رزقه في لحس ذراعيه فإنه كالظاهر أنه لم يستغرق نومه كما استغرق نومهم (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) لو عاينتهم وشاهدتهم وأصل الاطلاع الوقوف على الشيء بالمعاينة والمشاهدة ، وقرأ ابن وثاب والأعمش «لو اطلعت» بضم الواو تشبيها لها بواو الضمير فإنها قد تضم إذا لقيها ساكن نحو رموا السهام ؛ وروي أن ذلك عن شيبة وأبي جعفر.

(لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) أي لأعرضت بوجهك عنهم وأوليتهم كشحك ، ونصب (فِراراً) إما على المصدر لوليت إذ التولية ، والفرار من واد واحد فهو كجلست قعودا أو لفررت محذوفا ، وإما على الحالية بتأويله باسم الفاعل أو بجعله من باب فإنما هي إقبال وإدبار ، وإما على أنه مفعول لأجله أي لرجعت لأجل الفرار (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) أي خوفا يملا الصدر ، ونصب على أنه مفعول ثان ، ويجوز أن يكون تمييزا وهو محول عن الفاعل ، وكون الخوف يملأ مجاز في عظمه مشهور كما يقال في الحسن إنه يملأ العيون.

وفي البحر أبعد من ذهب إلى أنه تمييز محول عن المفعول كما في قوله تعالى شأنه : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] لأن الفعل لو سلط عليه ما تعدى إليه تعدي المفعول به بخلاف ما في الآية ، وسبب ما ذكر أن الله عزوجل ألقى عليهم من الهيبة والجلال ما ألقى ، وقيل سببه طول شعورهم وأظفارهم وصفرة وجوههم وتغير أطمارهم وقيل : إظلام المكان وإيحاشه.

وتعقب ذلك أبو حيان بأن القولين ليسا بشيء لأنهم لو كانوا بتلك الصفة أنكروا أحوالهم ولم يقولوا (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ولأن الذي بعث إلى المدينة لم ينكر إلا المعالم والبناء لا حال نفسه ولأنهم بحالة حسنة بحيث لا يفرق الرائي بينهم وبين الإيقاظ وهم في فجوة موصوفة بما مر فكيف يكون مكانهم موحشا اه.

وأجيب بأنهم لا يبعد عدم تيقظهم لحالهم فإن القائم من النوم قد يذهل عن كثير من أموره ويدعى استمرار الغفلة في الرسول وإنكاره للمعالم لا ينافي إنكار الناس لحاله وكونه على حالة منكرة لم يتنبه لها ، وأيضا يجوز أنهم لم يطلعوا على حالهم ابتداء فقالوا : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ثم تنبهوا له فقالوا : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) ، وأيضا يجوز أن يكون هذا الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك الحال إنما حدث بعد انتباههم الذي بعثوا فيه رسولهم إلى المدينة ، وعلى هذا لا يضر عدم إنكار الرسول حال نفسه لأنه لم يحدث له ما ينكر بعد ، وإيحاش المكان يجوز أن يكون حدث بعد على هذا أيضا ، وذلك بتغيره بمرور الزمان اه ، ولا يخفى على منصف ما في هذه الأجوبة فالذي ينبغي أن يعول عليه أن

٢١٦

السبب في ذلك ما ألقى الله تعالى عليهم من الهيبة وهم في كهفهم وأن شعورهم وأظفارهم إن كانت قد طالت فهي لم تطل إلى حد ينكره من يراه ، واختار بعض المفسرين أن الله تعالى لم يغير حالهم وهيئتهم أصلا ليكون ذلك آية بينة ، والخطاب هنا كالخطاب فيما سبق ، وعلى احتمال أن يكون له صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلزم أن يكونوا باقين على تلك الحالة التي توجب فرار المطلع عليهم ومزيد رعبه إلى ما بعد نزول الآية فمن لا يقول به لا يقول به.

وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف الذين ذكر الله تعالى في القرآن فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس : ليس ذلك لك قد منع الله تعالى ذلك من هو خير منك فقال : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) فقال معاوية : لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالا وقال : اذهبوا فادخلوا الكهف وانظروا فذهبوا فلما دخلوه بعث الله تعالى عليهم ريحا فأخرجتهم ، قيل وكأن معاوية إنما لم يجر على مقتضى كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ظنا منه تغير حالهم عما كانوا عليه أو طلبا لعلمهم مهما أمكن.

وأخرج ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب قال : كان لي صاحب ماض شديد النفس فمر بجانب الكهف فقال : لا أنتهي حتى انظر إليهم فقيل له : لا تفعل أما تقرأ (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) إلخ فأبى إلا أن ينظر فأشرف عليهم فابيضت عيناه وتغير شعره وكان يخبر الناس بأن عدتهم سبعة ، وربما يستأنس بمثل هذه الأخبار لوجودهم اليوم بل لبقائهم على تلك الحالة التي لا يستطاع معها الوقوف على أحوالهم وفي ذلك خلاف.

فحكى السهيلي عن قوم القول به ، وعن ابن عباس إنكاره فقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عكرمة أن ابن عباس غزا مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام فقال رجل هذه عظام أهل الكهف فقال ابن عباس : لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة ، ولا يخفى ما بين هذا الخبر والخبر السابق عنه بل والآخر أيضا من المخالفة ، والذي يميل القلب إليه عدم وجودهم اليوم وإنهم إن كانوا موجودين فليسوا على تلك الحالة التي أشار الله تعالى إليها وأن الخطاب الذي في الآية لغير معين وأن المراد منها الأخبار عن أنهم بتلك الحالة في ذلك الوقت ، وما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أصحاب الكهف أعوان المهدي» على تقدير صحته لا يدل على وجودهم اليوم على تلك الحالة وأنه عليه الصلاة والسلام على القول بعموم الخطاب ليس من الأفراد المعينة به لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اطلع على ما هو أعظم منهم من ملكوت السموات والأرض ، ومن جعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معينا قال : المراد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا بحكم جري العادة والطبيعة البشرية وعدم ترتب الجزاء على اطلاعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما هو أعظم منهم أمر خارق للعادة ومنوط بقوة ملكية بل بما هو فوقها أو المراد لو اطلعت عليهم بنفسك من غير أن نطلعك عليهم لوليت منهم فرارا إلخ واطلاعه عليه الصلاة والسلام على ما اطلع عليه كان باطلاع الله عزوجل إياه وفرق بين الاطلاعين.

يحكى أن موسى عليه‌السلام وجعه بطنه فشكى إلى ربه سبحانه فقال له : اذهب إلى نبات كذا في موضع كذا فكل منه فذهب وأكل فذهب ما كان يجد ثم عاوده ذلك بعد سنوات فذهب إلى ذلك النبات فأكل منه فلم ينتفع به فقال يا رب أنت أعلم وجعني بطني في سنة كذا فأمرتني أن أذهب إلى نبات كذا فذهبت فأكلت فانتفعت ثم عاودني ما كنت أجد فذهبت إلى ذلك وأكلت فلم أنتفع فقال سبحانه : أتدري يا موسى ما سبب ذلك؟ قال : لا يا رب قال : السبب أنك في المرة الأولى ذهبت منا إلى النبات وفي المرة الثانية ذهبت من نفسك إليه

.

٢١٧

ومما يستهجن من القول ما يحكى عن بعض المتصوفة أنه سمع قارئا يقرأ هذه الآية فقال : لو اطلعت أنا ما وليت منهم فرارا وما ملئت منهم رعبا.

وما نقل عن بعضهم من الجواب بأن مراد قائله إثبات مرتبة الطفولية لنفسه فإن الطفل لا يهاب الحية مثلا إذا رآها ولا يفرق بينها وبين الحبل على تقدير تسليم أن مراده ذلك لا يدفع الاستهجان ، وذلك نظير قول من قال سبحانه وتعالى لا يعلم الغيب على معنى أنه لا غيب بالنسبة إليه عزوجل ليتعلق به علمه ، ولنعم ما قال عمر رضي الله تعالى عنه : كلموا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هذا وقرأ ابن عباس والحرميان وأبو حيوة وابن أبي عبلة «ولملئت» بتشديد اللام والهمزة ، وقرأ أبو جعفر وشيبة بتشديد اللام وقلب الهمزة ياء وقرأ الزهري بالتخفيف والقلب وقرأ أبو جعفر وعيسى «رعبا» بضم العين (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) أي كما أنمناهم هذه الإنامة الطويلة وهي المفهومة مما مر أيقظناهم فالمشبه الإيقاظ والمشبه به الإنامة المشار إليها ووجه الشبه كون كل منهما آية دالة على كمال قدرته الباهرة عزوجل.

(لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) أي ليسأل بعضهم بعضا فيترتب عليه ما فصل من الحكم البالغة وجعل علة للبعث المعلل بما سبق فيما سبق قيل من حيث إنه من أحكامه المترتبة عليه والاقتصار على ذكره لاستتباعه لسائر آثاره ، وجعل غير واحد اللام للعاقبة ، واستظهره الخفاجي وادعى أن من فعل ذلك لاحظ أن الغرض من فعله تعالى شأنه إظهار كمال قدرته لا ما ذكر من التساؤل فتأمل.

(قالَ) استئناف لبيان تساؤلهم (قائِلٌ مِنْهُمْ) قيل هو كبيرهم مكسلمينا ، وقيل صاحب نفقتهم يمليخا (كَمْ لَبِثْتُمْ) أي كم يوما أقمتم نائمين ، وكأنه قال ذلك لما رأى من مخالفة حالهم لما هو المعتاد في الجملة ، وقيل راعهم ما فاتهم من الصلاة فقالوا ذلك : (قالُوا) أي قال بعضهم : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أو للشك كما قاله غير واحد ، والمراد لم نتحقق مقدار لبثنا أي لا ندري أن مدة ذلك هل هي مقدار مدة يوم أو مقدار مدة بعض يوم منه ، والظاهر أنهم قالوا ذلك لأن لوثة النوم لم تذهب من بصرهم وبصيرتهم فلم ينظروا إلى الأمارات ، وهذا مما لا غبار عليه سواء كان نومهم وانتباههم جميعا أو أحدهما في النهار أم لا ، والمشهور أن نومهم كان غدوة وانتباههم كان آخر النهار ، وقيل فلم يدروا أن انتباههم في اليوم الذي ناموا فيه أم في اليوم الذي بعده فقالوا ما قالوا ، واعترض بأن ذلك يقتضي أن يكون التردد في بعض يوم ويوم وبعض ، ومن هنا قيل إن أو للإضراب ، وذلك أنهم لما انتبهوا آخر النهار وكانوا في جوف الغار ولوثة النوم لم تفارقهم بعد قالوا قبل النظر (لَبِثْنا يَوْماً) ثم لما حققوا أن الشمس لم تغرب بعد قالوا : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وأنت تعلم أن الظاهر أنها لك والاعتراض مندفع بإرادة ما سمعت منه ، نعم هو في ذلك مجاز ، وحكى أبو حيان أنها للتفصيل على معنى قال بعضهم : لبثنا يوما ، وقال آخرون : لبثنا بعض يوم وقول كل مبنى على غالب الظن على ما قيل فلا يكون كذبا ؛ ولا يخفى أن القول بأنها للتفصيل مما لا يكاد يذهب إليه الذهن ، ولا حاجة إلى بناء الأمر على غالب الظن لنفي أن يكون كذبا بناء على ما ذكرنا من أن المراد لم نتحقق مقداره كما ذكره أهل المعاني في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سلم سهوا من صلاة رباعية فقال له ذو اليدين : أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ قال : كل ذلك لم يكن (قالُوا) أي قال بعض آخر منهم استدلالا أو إلهاما (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) أي أنتم لا تعلمون مدة لبثكم ، وإنما يعلمها الله سبحانه ، وهذا رد منهم على الأولين على أحسن ما يكون من مراعاة حسن الأدب ؛ وبه كما قيل يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين فيما سبق ، وقيل قائل القولين متحد لكن الحالة مختلفة.

وتعقب بأنه لا يساعده النظم الكريم فإن الاستئناف في الحكاية والخطاب في المحكي يقضي بأن الكلام جار

٢١٨

على منهاج المحاورة والمجاوبة وإلا لقيل ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ) أي واحدا منكم ولم يقل واحدكم لإيهامه إرادة سيدكم فكثيرا ما يقال جاء واحد القوم ويراد سيدهم (بِوَرِقِكُمْ) أي بدراهمكم المضروبة كما هو مشهور بين اللغويين ، وقيل الورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة ، واستدل عليه بما وقع في حديث عرفجة أنه لما قطع أنفه اتخذ أنفا من ورق فانتن فاتخذ أنفا من ذهب فإن الظاهر أنه أطلق فيه الورق على غير المضروب من الفضة ، وقول الأصمعي كما حكى عنه القتيبي الورق في الحديث بفتح الراء ، والمراد به الورق الذي يكتب فيه لأن الفضة لا تنتن لا يعول عليه والمنتن الذي ذكره لا صحة له ، وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر والحسن والأعمش واليزيدي ويعقوب في رواية ، وخلف وأبو عبيد وابن سعدان «بورقكم» بإسكان الراء ، وقرأ أبو رجاء بكسر الواو وإسكان الراء وإدغام القاف في الكاف ، وكذا إسماعيل عن ابن محيصن ، وعنه أيضا أنه قرأ كذلك إلا أنه كسر الراء لئلا يلزم التقاء الساكنين على غير حده كما في الرواية الأخرى ، وبهذا اعترض عليها ، وأجيب بأن ذلك جائز وواقع في كلام العرب لكن على شذوذ ، وقد قرئ «نعما» بسكون العين والإدغام ، وما قيل إنه لا يمكن التلفظ به قيل عليه إنه سهو ، وحكى الزجاج أنه قرئ بكسر الواو وسكون الراء من غير إدغام. وقرأ على كرم الله تعالى وجهه «بوارقكم» على وزن فاعل جعله اسم جمع كباقر وحامل ، ووصف الورق بقوله تعالى : (هذِهِ) يشعر بأن القائل أحضرها ليناولها بعض أصحابه وإشعاره بأنه ناولها إياه بعيد ، وفي حملهم لها دليل على أن التأهب لأسباب المعاش لمن خرج من منزله بحمل النفقة ونحوها لا ينافي التوكل على الله تعالى كما في الحديث «اعقلها وتوكل» نعم قال بعض الأجلة : إن توكل أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر ودخول تميم في الغار التي خرجت منه نار الحرة ليردها بأمر عمر رضي الله تعالى عنه.

وقد نص الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة على جواز دخول المفاوز بغير زاد وترك التكسب والتطبب لمن قوي يقينه وتوكله ، وفسر الإمام أحمد التوكل بقطع الاستشراف باليأس من المخلوقين ، واستدل عليه بقول إبراهيم عليه‌السلام حين عرض له جبريل عليه‌السلام يوم ألقي في النار وقال له : ألك حاجة؟ أما إليك فلا ، وليس طرح الأسباب سبيل توكل الخواص عند الصوفية فقط كما يشعر به كلام بعض الفضلاء بل جاء عن غيرهم أيضا (إِلَى الْمَدِينَةِ) المعهودة وهي المدينة التي خرجوا منها قيل وتسمى الآن طرسوس وكان اسمها يوم خرجوا منها أفسوس ، وبهذا يجمع بين الروايتين السابقتين ، وكان هذا القول صدر منهم إعراضا عن التعمق في البحث وإقبالا على ما يهمهم بحسب الحال كما ينبئ عنه الفاء ، وذكر بعضهم أن ذلك من باب الأسلوب الحكيم كقوله :

أتت تشتكي عندي مزاولة القرى

وقد رأت الضيفان ينحون منزلي

فقلت كأني ما سمعت كلامها

هم الضيف جدي في قراهم وعجلي

(فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) أي أحل فإن أهل المدينة كانوا في عهدهم يذبحون للطواغيت كما روى سعيد بن منصور وغيره عن ابن عباس ، وفي رواية أخرى أنهم كانوا يذبحون الخنازير ، وقال الضحاك : إن أكثر أموالهم كانت مغصوبة فأزكى من الزكاة وأصلها النمو والزيادة وهي تكون معنوية أخروية وحسية دنيوية وأريد بها الأولى لما في توخي الحلال من الثواب وحسن العاقبة ، وقال ابن السائب. ومقاتل : أي أطيب فإن كان بمعنى أحل لأنه يطلق عليه رجع إلى الأول وإن كان بمعناه المتبادر فالزيادة قيل حسية دنيوية ، وقال عكرمة : أي أكثر.

وقال يمان بن ريان : أي أرخص ، وقال قتادة : أي أجود وهو أجود ، وعليه وكذا على سابقيه على ما قيل تكون الزيادة حسية دنيوية أيضا زعم بعضهم أنهم عنوا بالأزكى الأرز وقيل التمر وقيل الزبيب ، وحسن الظن بالفتية يقتضي

٢١٩

أنهم تحروا الحلال ، والنظر يحتمل أن يكون من نظر القلب وأن يكون من نظر العين ، وأي استفهام مبتدأ و (أَزْكى) خبره والجملة معلق عنها الفعل للاستفهام.

وجوز أن يكون أي موصولا مبنيا مفعولا لينظر و (أَزْكى) خبر مبتدأ محذوف هو صدر الصلة وضمير أيها إما للمدينة والكلام على تقدير مضاف أي أي أهلها وإما للمدينة مرادا بها أهلها مجازا ، وفي الكلام استخدام ولا حذف ، وإما لما يفهم من سياق الكلام كأنه قيل فلينظر أي الأطعمة أو المأكل أزكى طعاما (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) أي من ذلك الأزكى طعاما فمن لابتداء الغاية أو التبعيض ، وقيل الضمير للورق فيكون من للبدل ، ثم إن الفتية إن لم يكن تحروا الحلال سابقا فليكن مرادهم بالرزق هنا الحلال وإن لم يكن مختصا به عندنا.

واستدل بالآية وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم منه ما فيه على صحة الوكالة والنيابة. قال ابن العربي : وهي أقوى آية في ذلك وفيها كما قال الكيا دليل على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها والأكل من الطعام الذي بينهم بالشركة وإن تفاوتوا في الأكل نعم لا بأس للأكول أن يزيد حصته من الدراهم (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي وليتكلف اللطف في المعاملة كيلا تقع خصومة تجر إلى معرفته أو ليتكلف اللطف في الاستخفاء دخولا وخروجا ، وقيل ليتكلف ذلك كيلا يغبن فيكون قوله تعالى : (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) أي لا يفعلن ما يؤدي إلى شعور أحد من أهل المدينة بكم تأسيسا على هذا وهو على الأولين تأكيد للأمر بالتلطف وتفسيره بما ذكر من باب الكناية نحو لا أرينك هاهنا وفسره الإمام بلا يخبرن بكم أحدا فهو على ظاهره ، وقرأ الحسن «وليتلطّف» بكسر لام الأمر ، وعن قتيبة الميال «وليتلطف» بضم الياء مبنيا للمفعول. وقرأ هو وأبو صالح ويزيد بن القعقاع «ولا يشعرن بكم أحد» ببناء الفعل للفاعل ورفع أحد على أنه الفاعل (إِنَّهُمْ) تعليل لما سبق من الأمر والنهي والضمير للأهل المقدر في أيها أو للكفار الذي دل عليه المعنى على ما اختاره أبو حيان ، وجوز أن يعود على (أحد) لأنه عام فيجوز أن يجمع ضميره كما في قوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٧].

(إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم أو يظفروا بكم ، وأصل معنى ظهر صار على ظهر الأرض ، ولما كان ما عليها يشاهد ويتمكن منه استعمل تارة في الاطلاع ، وتارة في الظفر والغلبة وعدي بعلى ، وقرأ زيد بن علي «يظهروا» بضم الياء مبنيا للمفعول (يَرْجُمُوكُمْ) إن لم تفعلوا ما يريدونه منكم وثبتم على ما أنتم عليه ، والظاهر أن المراد القتل بالرجم بالحجارة ، وكان ذلك عادة فيما سلف فيمن خالف في أمر عظيم إذ هو أشفى للقلوب وللناس فيه مشاركة. وقال الحجاج : المراد الرجم بالقول أي السب ، وهو للنفوس الأبية أعظم من القتل (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) أي يصيروكم إليها ويدخلوكم فيها مكرهين ، والعود في الشيء بهذا المعنى لا يقتضي التلبس به قبل ؛ وروي هذا عن ابن جبير ، وقيل العود على ظاهره ، وهو رجوع الشخص إلى ما كان عليه ، وقد كان الفتية على ملة قومهم أولا ، وإيثار كلمة في على كلمة إلى ، قال بعض المحققين للدلالة على الاستقرار الذي هو أشد كراهة ، وتقديم احتمال الرجم على احتمال الإعادة لأن الظاهر من حالهم هو الثبات على الدين المؤدي إليه ، وضمير الخطاب في المواضع الأربعة للمبالغة في حمل المبعوث على ما أريد منه والباقين على الاهتمام بالتوصية فإن إمحاض النصح أدخل في القبول واهتمام الإنسان بشأن نفسه أكثر وأوفر.

(وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) أي إن دخلتم فيها حقيقة ولو بالكره والإلجاء لن تفوزوا بخير لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ووجه الارتباط على هذا أن الإكراه على الكفر قد يكون سببا لاستدراج الشيطان إلى استحسانه والاستمرار عليه ، وبما ذكر سقط ما قيل إن إظهار الكفر بالإكراه مع إبطان الإيمان معفو في جميع الأزمان فكيف رتب عليه عدم

٢٢٠