مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

وفي الحديث الشريف : أعلمُكم بالله أخوفُكم لله (١).

وروي عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : العلم علمان : علم في القلب فذلك العلم النافع ، وعلم على اللسان فذاك حُجّةُ الله على خَلقه (٢).

وأوّل المعارف المطلوبة معرفة النفس ، فإنّ من عرف نفسه عرف ربّه ، ومن عرف نفسه جاهدها ، ومن لم يعرف نفسه أهملها ، وبذلك تقوده أهواؤه ونزواته إلى خسران الدنيا والآخرة.

إنّ ارتباط العمل بالجزاء قانون وسنّة إلهيّة لا تتخلّف ، فالإيمان والعمل الصالح طريق يقود إلى الجنّة ، والإعراض عن الله طريق يقود إلى الهلاك والخسران.

قال تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ) (٣).

وما لم تقترن المعرفة بالإيمان والعمل الصالح ، فلا يترتّب أثر على كثير من الأعمال التي يمارسها العبد.

فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال : كم من قارئٍ للقرآن والقرآن يلعنه (٤).

إن قضيّة المعاد من لوازم الربوبيّة ، فلو أنكر الإنسان البعث والمعاد فَقَد جانَبَ التدبير والحكمة ، وجعل خلق الإنسان والحياة الدنيا من العبث ، وهذا من الظلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مجمع البيان في تفسير القرآن ٨ : ٢٤٢.

٢ ـ شرح اُصول الكافي ٢ : ١٤٩.

٣ ـ طه : ١٢٣ ـ ١٢٦.

٤ ـ رسائل الشهيد الثاني : ١٥٢ ، بحار الأنوار ٨٩ : ١٨٥ / ح ٢٤.

٤٢١

المنسوب إلى ساحة العزّة الإلهيّة.

قال تعالى : (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١).

إنّ الحياة الآخرة تختلق تماماً عن حقيقة وصفات الحياة الدنيا ، فإنّ الإنسان هنا مكلّف مختار ، يخضع للسنن والأسباب الظاهريّة ، وعنده من التخيّلات والأوهام والأهواء ما يقابل العقل والفطرة ، ومن خلال هذا الصراع والكدح تكون مسيرة الإنسان ، ونعم ما قيل في الحديث العلوميّ الشريف : فإنّ اليومَ عمل ولا حساب ، وإنّ غداً حساب ولا عمل (٢).

أمّا الدار الآخرة فلها مواصفات تختلف عن ذلك ، نذكر منها :

١. أنّها فوق التصوّر البشريّ ، سواء في مكافأة المؤمنين أو معاقبة الكافرين ، وقد ذكرنا في وصف الجنّة أنّها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وعن الإمام عليّ عليه السلام : وكلُّ شيء من الدنيا سَماعُه أعظمُ مِن عِيانه ، وكلُّ شيء من الآخرة عِيانُه أعظمُ مِن سَماعه (٣).

٢. أنّها دار خلود لا انتهاء لها ولا أمد.

٣. أنّ الإنسان فيها مسلوب الاختيار تماماً.

٤. يعود فيها كلّ غيب مشاهدة ، وتظهر السرائر وتتجلّى عياناً.

٥. إنّ الإيمان فيها يكون اضطراريّاً ، فلا يبقى هاجس ولا شكّ ولا حجاب ، وتظهر الحقائق ظهوراً تامّاً ، ولكنّ هذا ال إيمان لا ينفع من لم يكن قد اتّصف به سابقاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ سورة ص : ٢٧.

٢ ـ الكافي ٨ : ٥٨ / ح ٢١.

٣ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١١٤.

٤٢٢

٦. تسقط جميع الأسباب والتأثيرات والقوى ، والأمر يومئذٍ لله وحده.

٧. سقوط الأوهام والتخيّلات الإنسانيّة ، وبطلان الأوسمة والنياشين عند رؤية الحقّ ومقابلة عين اليقين.

ويوجد بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة مرحلة انتقالية ، هي البرزخ المعبّر عن عالم القبر ، وبهذا تكون الدنيا دار عمل ، والبرزخ دار تهيؤ للحساب والجزاء ، والآخرة دار حساب وجزاء.

قال الله سبحانه وتعالى : (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١).

وقال سبحانه : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (٢).

والآية صريحة في مسألة البرزخ لذكر الغدوّ والعشيّ ، إذ ليس في الآخرة صباحٌ ولا مساء ، وهي تشير إلى قضيّتين مهمّتين في تعذيب المجرمين :

١) العرض على النار قبل قيام الساعة ، وهذا ما نطلق عليه عذاب البرزخ.

٢) الدخول في النار وهو أشدّ من العرض ، وهذا لا يكون إلّا في الآخرة.

وقد ورد في الحديث النبويّ الشريف : القبر إمّا روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النيران (٣).

إنّ الإيمان بالآخرة يأتي بأمرين نافعين مهمَّين : فهو يردع عن المعصية خوف العقاب ، وهذا ممّا يقول به العقل قبل الشرع ، فإنّ درء الضرر المحتمل واجب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠.

٢ ـ غافر : ٤٦.

٣ ـ بحار الأنوار ٦ : ٢٧٥.

٤٢٣

عقلائيّ ، وهو كذلك يدعو إلى الطاعة والعمل الصالح. ومن هنا نقول : إنّ التوحيد والنبوّة ما لم يقترنا بالمعاد لم يكن لهما التأثير المطلوب لضبط الإنسان سلوكياً ، فقد ورد عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) (١) ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال : لولا عفو الله وتجاوزه ما هَنَأ لأحدٍ عيش ، ولولا وعيده وعقابه لاتّكلَ كلّ أحد (٢).

يقول السيّد الطباطبائيّ قدس سره : ومن هنا يظهر أوّلاً أنّ قوله تعالى : (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) (٣) يتضمّن حجّةً على المَعاد ، لِما عرفتَ أنّ الربوبيّة لا تتمّ إلّا مع عبودية ، ولا تتمّ العبوديّة إلّا مع مسؤوليّة ، ولا تتمّ إلّا برجوع وحساب على الأعمال ، ولا يتمّ حساب إلّا بجزاء (٤).

لاحظ هذا التسلسل رجاءً : الربوبيّة ، ثمّ العبوديّة ، ثمّ المسؤوليّة ، ثمّ الحساب ، ثمّ الجزاء.

إذن فالمعاد ضرورة ، وأمّا طوائف الناس في القيامة فيُقسّمون عدّة أقسام :

الأوّل : الكافر ، وهو الذي يُؤتى كتابَه من وراء ظهره ويُخلَّد في النار.

الثاني : المؤمن ، يدخل الجنّة بعد حساب يسير ، واليُسْرُ هو ما يكون من غير استقصاء أو مُداقّة ، وهو الذي وصفه الله بأنّه يؤتى كتابه بيمينه ، وعبّر عن المؤمنين بالمحسنين.

الثالث : عصاة المؤمنين ، وهؤلاء يدخلون النار للتطهير ثمَّ يُخرَجون منها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الرعد : ٦.

٢ ـ جوامع الجامع ٢ : ٣٥١.

٣ ـ الانشقاق : ٦.

٤ ـ تفسير الميزان ٢٠ : ٢٤٢.

٤٢٤

بالشفاعة ، ولعلّ الشفاعة تدرك بعض المؤمنين فلا يدخلون النار.

أمّا كيفيّة الحساب ، فقد سُئل أمير المؤمنين عليه السلام : كيف يحاسب الله الخَلق على كثرتهم؟ قال : كما يرزقهم على كثرتهم. فقيل : كيف يحاسبهم ولا يرونه؟ قال : كما يرزقهم ولا يرونه (١).

وفيه عن الإمام الصادق عليه السلام قال : كلّ أمّة يحاسبها إمام زمانها ، ويعرف الأئمّة أولياءهم وأعداءهم بسيماهم (٢) ، وعنه عليه السلام أيضاً قال : ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا ، فإنّ للقيامة خمسين موقفاً ، كلّ موقف مِثلُ ألف سنة ممّا تعدّون (٣). ثمّ تلا هذه الآية : (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٤).

وقيل لرسول الله صلى الله عليه وآله : ما أطولَ هذا اليوم! فقال : والذي نَفْسُ محمّدٍ بيده ، إنّه لَيُخفّف على المؤمن حتّى يكون أخفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبة يصلّيها في الدنيا (٥).

والذي يظهر من الروايات الشريفة أنّ الإنسان حال النزع يطّلع على بعض القضايا الغيبيّة ، ومنها رؤية الملائكة.

ففي الخبر : إذا وقع العبد في النزع حُبس عليه لسانه ، ودخل عليه أربعة أملاك فيقول الأوّل : السلام عليك ، أنا الموكَّل بإرزاقك ، وطلبت في الأرض شرقاً وغرباً فما وجدت من رزقك لقمة حتّى دخلت الساعة. ثمّ يدخل الثاني فيقول : السلام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٣٠٠.

٢ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٣٨٤.

٣ ـ الأمالي للطوسيّ : ٣٦ / ح ٣٨.

٤ ـ المعارج : ٤.

٥ ـ التبيان ١٠ : ١١٥.

٤٢٥

عليك ، أنا موكّل بشرابك من الماء وغيره ، وطلبت في الأرض شرقاً وغرباً فما وجدت لك شربة من الماء حتّى دخلتُ الساعة.

ثمّ يدخل الثالث فيقول : السلام عليك ، أنا موكّل بأنفاسك ، وطلبت في الأرض شرقاً وغرباً فما وجدت لك نَفَساً واحداً من أنفاسك. ثمّ يدخل الرابع فيقول : السلام عليك ، أنا الملك الموكّل بآجالك وأعمارك ، طلبت في الأرض شرقاً وغرباً فما وجدت لك أجلاً حتّى دخلت الساعة.

وهناك روايات تقول : إنّ الميّت حال النزع يأخذه العطش ، فيأتيه إبليس بقدح ماء ويقول له : أُكفرْ بالله حتّى أسقيَك ، وربّما شاهد بعضَ أقاربه من الموتى الذين سبقوه ، وهذا واضع لمن حضر مَن وصلوا حالة النزع.

عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيّام الدنيا وأوّل يوم من أيّام الآخرة مُثِّل له ماله وولده وعمله ، فيلتفت إلى ماله فيقول : واللهِ إنّي كنت عليك حريصاً شحيحاً ، فما لي عندك؟ فيقول : خذ منّي كفنك. قال عليه السلام : فيلتفت إلى وُلْدِه فيقول : والله إنّي كنت لكم محبّاً ، وإنّي كنت عليكم محامياً ، فماذا لي عندكم؟ فيقولون : نؤدّيك إلى حفرتك نواريك فيها.

قال عليه السلام : فيلتفت إلى عمله فيقول : والله إنّي كنتُ فيك لزاهداً ، وإن كنتَ علَيَّ لثقيلاً ، فماذا لي عندك؟ فيقول : أنا قرينك في قبرك ، ويوم نشرك ، حتّى أُعرَضَ أنا وأنت على ربّك ، قال : فإن كان لله وليّاً أتاه أطيبُ ريحاً وأحسنهم منظراً وأحسنهم رياشاً ، فقال : أبشر بِرَوحٍ ورَيحانٍ وجنّةِ نعيم ، ومقدمك خير مقدم ، فيقول له : من أنت؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، ارتحل من الدنيا إلى الجنّة (١).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٣ : ٢٣١ ـ ٢٣٢ / ح ١.

٤٢٦

وفي حال النزع يرى الكافر ملك الموت في أبشع صورة ، تخرج النار والدخان من منخريه ، أمّا عذاب النزع فهو على لسان الروايات أشدّ مِن نشرٍ بالمناشير ، وقرض بالمقاريض ، ورضخ بالأحجار ، وتدوير قطب الأرحية في الأحداق ، ومثل سحب الحَسَكةِ في لفافة الصوف.

وقد ورد في عذاب البرزخ بعض الأخبار المرعبة بحقّ الكافرين والعصاة ، منها : قول النبيّ صلى الله عليه وآله : إنّ القبر أوّل منازل الآخرة ، فإن نجا منه فما بعده أيسرُ منه ، وإنْ لم ينجُ منه فما بعده أشدّ (١).

وورد في الآيات الشريفة والروايات عن شدّة الحساب وأهوال القيامة ما يصدع القلوب ويذيب النفوس.

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ اللَّـهِ شَدِيدٌ) (٢).

وقال سبحانه : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا) (٣) ، وقال عزّ علاه : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) (٤).

وقال سبحانه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ سنن ابن ماجة ٢ : ١٤٢٦.

٢ ـ الحجّ : ١ ـ ٢.

٣ ـ المزّمّل : ١٧ ـ ١٨.

٤ ـ القارعة : ٤ ـ ٥.

٤٢٧

هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) (١).

وقال تعالى : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ) (٢).

الآيات تتحدّث عن انقلاب كونيّ يرعب القلوب ، وترتعد له الفرائص ، فقد ورد في الروايات ما يزيد الحقّ وضوحاً وجلاءً ، منها ما يشير إلى أنَّ الناس يُحشرون عراةً حفاةً ، يلجمهم العرق إلى شحمة الأذن ، وأنَّ المجرمين يُطعَمون الضريع والغِسلين ، ويُسقون الماء الحميم الذي يقطّع أمعاءهم (٣).

وورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله : خُتم على الأفواه فلا تَكلّم ، وقد تكلّمت الأيدي ، وشهدت الأرجل ، ونطقت الجلود بما عملوا فلا يَكتُمون الناس حديثاً (٤).

وبعد تحدّث النبيّ صلى الله عليه وآله عن مشاهد الآخرة وأهوالها ، سقطت فاطمة عليها السلام على وجهها وهي تقول : الويلُ ثمّ الويلُ لِمَن دخل النار! ٥

وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه : يا ليتني كنت كبشاً لأهلي فأكلوا لحمي ومزّقوا جلدي ولم أسمع بذكر النار. وقال عمّار رضي الله عنه : يا ليتني كنت طائراً في القفار ولم يكن علَيّ حساب ولا عذاب! (٦)

وقال الإمام عليّ عليه السلام : يا ليتَني لم تَلِدني أُمّي ، ويا ليت السباع مزّقَت لحمي ولم أسمع بذكر النار. ثمّ وضع عليه السلام يده على رأسه وجعل يبكي ويقول : وا بُعدَ سَفَراه ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ سورة ق : ٢٠ ـ ٢١.

٢ ـ سورة ق : ٣٠.

٣ ـ التبيان ٣ : ٥٩٣ بالمضمون.

٤ ـ بحار الأنوار ٧ : ٣١٣ / ح ٦ ـ عن : تفسير العياشي.

٥ ـ الدروع الواقية : ٢٧٦.

٦ ـ نفسه : ٢٧٦.

٤٢٨

وا قلّة زاداه ، في سفر القيامة يذهبون ، وبين الجنّة والنار يتردّدون ، وبكلاليب النار يُتخَطَّفون ، مرضى لا يُعاد سقيمُهم ، وجرحى لا يُداوى جريحهم ، وأسرى لا يُفكّ أسيرهم ... من النار يأكلون ، ومن النار يشربون ، وبين أطباق النار يتقلّبون (١).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام : إنّ في جهنّم رحى تطحن ، أفلا تسألون ما طحنها؟ فقيل له : فما طحنها يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام : العلماء الفَجَرة ، والقرّاء الفسقة ، والجبابرة الظلمة ، والوزراء الخونة ، والعرفاء الكذبة (٢).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون ، ثمّ تنفّس رجلٌ من أهل النار فأصابهم نَفَسُه لاحترق المسجد ومن فيه! (٣)

وعن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام : يا ابنَ رسول الله ، خوّفني فإنّ قلبي قد قسا ، فقال عليه السلام : يا أبا محمّد ، استعِدَّ للحياة الطويلة ، فإنّ جبرائيل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو قاطب ، وكان قبل ذلك يجيء وهو مبتسم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا جبرائيل ، جئتني اليوم قاطباً؟

فقال : يا محمّد قد وُضِعت منافخ النار ، فقال : وما منافخ النار يا جبرائيل؟ فقال يا محمد : إنّ الله عزّ وجلّ أمر بالنار فنُفخ عليها ألف عام حتّى ابيضّت ، ونُفخ عليها ألف عام حتّى احمرّت ، ثمّ نفخ عليها ألفَ عام حتّى اسودّت ، فهي سوداء مظلمة. ولو أنّ قطرة من الضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها ، ولو أنّ حلقة واحدة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وُضعت على أهل الدنيا لذابت من حرّها ، ولو أنّ سربالاً من سرابيل أهل النار عُلِّق بين السماء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الدروع الواقية : ٢٧٦.

٢ ـ الخصال : ٢٩٦ / ح ٦٥.

٣ ـ روضة الواعظين : ٥٠٨ ـ مجلس في ذكر جهنّم وكيفيّتها.

٤٢٩

والأرض لمات أهل الأرض من ريحه ووهجه.

قال عليه السلام : فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وبكى جبرائيل ، فبعث الله إليهما ملكاً فقال لهما : إنّ ربكما يقرؤكما السلام ويقول : قد آمنتُكما أن تذنبا ذنباً أعذّبكما عليه ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : فما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله جبرائيل مبتسماً بعد ذلك (١).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله رُوي قوله : والذي نفسي بيده ، إنّهم يًستكرهون في النار كما يُستكره الوتدُ في الحائط (٢).

وأختتم هذا المبحث بهذه الرواية ، روى خيثمة الجُعفيّ قال : كنتُ عند جعفر بن محمّد «الصادق» عليه السلام والمفضّل بن عمر ليلاً ليس عنده أحد غيرنا ، فقال له المفضّل : جُعلتُ فداك ، حدّثنا حديثاً نُسَرُّ به ، قال : نعم. إذا كان يومُ القيامة حشر الله الخلائق في صعيدٍ واحدٍ حفاةً عراةً غُرُلاً ، قال : فقلت : جُعلت فداك ، ما الغُرل؟

قال : كما خُلقوا أوّل مرّة ، فيقفون حتّى يلجمهم العرق فيقولون : ليت الله يحكم بيننا ولو إلى النار! يرون أنَّ في النار راحة ممّا هم فيه ، ثمّ يأتون آدم فيقولون : أنت أبونا وأنت نبيّ ، فَسَلْ ربّك يحكم بيننا ولو إلى النار ، فيقول آدم : لست بصاحبكم ، خلقني ربّي بيده وحملني على عرشه ، وأسجَدَ لي ملائكته ثمّ أمرني فعصيته ، ولكنّي أدلّكم على ابني الصدّيق الذي مكث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاماً يدعوهم ، كلّما كذّبوا اشتدّ تصديقه ، نوح. قال : فيأتون نوحاً فيقولون : سل ربّك حتّى يحكم بيننا ولو إلى النار.

قال : فيقول : لستُ بصاحبكم ، إنّي قلت : إنّ ابني من أهلي ، ولكن أدلّكم إلى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٨٠ ـ ٨١.

٢ ـ بحار الأنوار ٨ : ٢٥٥.

٤٣٠

من اتّخذه الله خليلاً في دار الدنيا ، ائتوا إبراهيم. قال : فيأتون إبراهيم فيقول : لست بصاحبكم ، إنّي قلت : إنّي سقيم ، ولكنّي أدلّكم على من كلّمه الله تكليماً ، موسى.

قال : فيأتون موسى فيقولون له : فيقول : لستُ بصاحبكم ، إنّي قتلتُ نفساً ، ولكنّي أدلّكم على من كان يخلق بإذن الله ، ويُبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ، عيسى. فيأتونه فيقول : لست بصاحبكم ، ولكنّي أدلّكم على مَن بشّرتُكم به في دار الدنيا ، أحمد «صلّى الله عليه وآله».

ثمّ قال الإمام الصادق عليه السلام : ما من نبيّ من ولد آدم إلى محمّد صلوات الله عليهم إلّا وهم تحت لواء محمّد صلى الله عليه وآله ، قال : فيأتونه فيقولون : يا محمّد ، سل ربّك يحكم بيننا ولو إلى النار. ن

قال : فيقول : نعم أنا صاحبكم. فيأتي دار الرحمن وهي عدن ، وإنّ بابها سعتُه بُعدُ ما بين المشرق والمغرب ، فيحرّك حلقة من الحَلَق ، فيقال : من هذا؟ ـ وهو أعلم به ـ فيقول : أنا محمّد ، فيقال : افتحوا له (١).

وفي رواية أنّه صلى الله عليه وآله ينطلق بهم إلى باب الجنّة ، ويستقبل باب الرحمن ، ويخرّ ساجداً ، فيمكث ما شاء الله ، فيقول الله : إرفع رأسك ، واشفع تُشَفَّع ، واسأل تُعطَ ، وذلك قوله تعالى : (٢).

يرجى مراجعة مبحث المعاد في كتابنا الموسوم بالمباحث الواضحة (٣) للاستزادة.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير العيّاشيّ ٢ : ٣١٠ ـ ٣١١ / ح ١٤٥.

٢ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٣١٤ / ح ١٥٠ ، والآية في سورة الإسراء : ٧٩.

٣ ـ المباحث الواضحة : ٩٦ ـ ١٢١.

٤٣١

المبحث التاسع والأربعون : في تجسّم الأعمال

يرى بعض العلماء أنّ أعمال الإنسان ، سواء الصالحة منها أو الطالحة ، تتجسّم يوم القيامة ، وأنّ نفس أعمالهم تُرَدّ عليهم ، وقد استندوا في ذلك إلى فهمهم للآيات التي تتحدّث حول هذه القضيّة ، وإلى الأحاديث الشريفة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام :

قال تعالى : (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (١) ، وقال سبحانه : (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) (٢) ، وقال عزّ شأنه : (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٣).

وقد ورد عن الإمام السجّاد عليه السلام قوله في وصف مشاهد الآخرة : وصارتِ الأعمال قلائدَ في الأعناق (٤). وقال الله سبحانه وتعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ) (٥) ، وعن الإمام الباقر عليه السلام : الكِبْرُ مطايا النار (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكهف : ٤٩.

٢ ـ النساء : ١٢٣.

٣ ـ الزلزال : ٧ ـ ٨.

٤ ـ الصحيفة السجّادية : ٢٠٥ / الدعاء ٤٢ ـ عند ختم القرآن.

٥ ـ آل عمران : ٣٠.

٦ ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٢٢ / ح ٦ ـ عقاب المتكبّرين.

٤٣٢

يرى هؤلاء الأعلام أنّ هذه المسألة من الحقائق القرآنيّة الثابتة والواضحة ، فإنّ العمل له صورة ظاهريّة وصورة باطنيّة تمثّل الحقيقة المطلقة ، فالناس يدركون ظاهر الأشياء ولا يَصِلون إلى المضمون الحقيقيّ إلّا بعد الرحيل عن هذه الدنيا. إنّ بواطن الإعمال ومضامينها لا تظهر ولا تدركها الحواس ، بل هي من اختصاص عالم الروح.

ورد في الحديث الشريف : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا (١).

إنَّ ملك الموت واحد ، ولكنّه يتمثّل للمؤمن في أحسن صورة وأطيب ريح ، ويتمثّل للكافر في صورة مهولة مرعبة مخيفة ، إنّ حسنات الإنسان وأعماله الصالحة تتجسّم بالمواهب والنعم والفيوضات والجمال والروعة والرحمة ، أّمّا سيّئاته فتتجسّم بالصور المؤلمة والمشاهد المرعبة.

قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (٢).

إنّ هؤلاء ظاهراً يأكلون الأموال ويتلذّذون بها ، ولكنّ باطن العمل هو أكلهم النار ، فالظاهر يبعث النشوة واللذّة ، ولكن الباطن مؤلم.

وقال الله سبحانه : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (٣).

إنّ كفر هؤلاء وعنادهم وتحدّيهم للرسول والرسالة جعل منهم وقوداً لنار جهنّم. ولو دقّقنا النظر في المعنى ، فهؤلاء بمثابة الوقود الذي يعطي الحرارة لغيره ، فهو يحترق ويُحرق غيره ، وهذا من بواطن الأعمال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ خصائص الأئمّة عليهم السلام : ١١٢.

٢ ـ النساء : ١٠.

٣ ـ البقرة : ٢٤.

٤٣٣

أمّا المؤمن فيكون نَفَسُه رَوحاً وريحاناً وجنّةَ نعيم ، لأنّ أعماله الحسنة لها باطن خير ، جميل ، نورانيّ ، وقد ورد في الآثار المعتبرة أنَّ ولاية آل محمّد صلى الله عليه وآله هي الجنّة ، قال سبحانه : (نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) (١).

وقال تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم) (٢).

إنّ الأعمال الصالحة والعقائد الحقّة والمعارف الصافية تحوّلت إلى نور ذاتي في كيان المؤمن تُضاء به عرصات الجنّة ، وهذا النور وليد التقوى وغرس العمل الصالح في الدنيا. أمّا الذي يفد على ربّه وليس معه نور فيبقى في الظلمات ليس بخارج منها ، وهذه هي بواطن أعمالهم القبيحة واعتقاداتهم الفاسدة ، فقد ورد في الحديث النبويّ الشريف : اتّقُوا الظلم ، فإنّه ظلمات يوم القيامة (٣).

إنّ باطن أعمال الإنسان ومضامينها قد تتحوّل إلى نور يضيء قلبه فيرى بنور الله ، ولقد ورد في الحديث النبويّ المشهور : اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله (٤).

ورأينا في قصّة الشاب العاقّ لوالدته كيف اعتُقل لسانه فل ميستطع التلفّظ بالشهادة ، وحين رضيت عنه والدته نطق بها. وكان هناك رجل أسود يأخذ بحنجرته ، لكنّه ولّى بدعاء النبيّ صلى الله عليه وآله إيّاه ، فولّى الأسود وجاء رجل أبيض اللّون ، حسن الوجه ، طيّب الريح ، حسن الثياب ليتوَلّاه.

إنّ العقوق والبرّ بالوالدين لهما ظواهر وبواطن.

وقد ورد في فضل الصلاة على محمّد وآله صلوات الله عليهم ما رواه الكلينيّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ التحريم : ٨.

٢ ـ الحديد : ١٢.

٣ ـ الكافي ٢ : ٣٣٢ / ح ١٠ ـ باب الظلم.

٤ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٢٠٠ / ح ١ ـ الباب ٤٦.

٤٣٤

عن الإمام الباقر عليه السلام قوله : ما في الميزان شيءٌ أثقلُ من الصلاة على محمّد وآل محمّد ، وإنَّ الرجل لَتُوضع أعماله في الميزان فتميل به ، فيُخرج الصلاة عليه فيضعها في ميزانه فيُرجَّح (١).

وذكرنا في مبحث الذكر أنّ العبد إذا اشتغل بذكر الله اشتغلت الملائكة بغرس الأشجار له في الجنّة ، وإذا سكت أمسكوا ، وورد أنّ المعاصي تحرق تلك الأشجار!

وورد أنّ البيت الذي يُقرأ فيه القرآن يُضيء لأهل السماء كما يُضيء الكوكب الدرّيّ لأهل الأرض ، ومن أوضح الأدلّة على تجسّم الأعمال هو أنّ الإنسان يُعذَّب بعمله ويخلد فيه.

قال تعالى : (مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا) (٢) ، كذلك قوله سبحانه : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) (٣).

وهذا الكتاب يتضمّن حقائق أعماله كاملة شاملة واضحة ، فيُفاجأ وينتفض من غفلته ليقول : (يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) (٤).

وجاء عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال : مَن أدخل على مؤمن سروراً خلق الله عزّ وجلّ من ذلك السرور خلقاً فيلقاه عند موته فيقول له : أبشِرْ يا وليّ الله بكرامة من الله ورضوان. ثمّ لا يزال معه حتّى يدخلَ قبره ، فيقول له مثل ذلك ، فإذا بُعث

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٤٩٤ / ح ١٥.

٢ ـ طه : ١٠٠ ـ ١٠١.

٣ ـ الإسراء : ١٣ ـ ١٤.

٤ ـ الكهف : ٤٩.

٤٣٥

تلقّاه فيقول له مثل ذلك ، فلا يزال معه عند كلّ هولٍ يبشّره ويقول له مثل ذلك.

فيقول له : مَن أنت رَحِمك الله؟ فيقول : أنا السرور الذي أدخلت على فلان (١).

وقال الإمام علي عليه السلام لكميل : يا كميل ، مُرْ أهلك أن يَرُوحوا في كسب المكارم ، ويُدْلِجوا في حاجة مَن هو نائم ، فَوَالذي وَسِع سمعُهُ الأصوات ، ما من أحدٍ أودَعَ قلباً سروراً إلّا وخَلَق الله من ذلك السرور لطفاً ، فإذا نزَلَت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتّى يَطرُدَها عنه كما تُطرَد غريبةُ الإبل (٢).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله في عمل الكافر : ويُفتَح له باب إلى النار فيرى مقعده من النار ، ثمّ إنّه يخرج منه رجل أقبحُ مَن رأى قطّ ، فيقول : يا عبد الله مَن أنت؟! ما رأيتُ شيئاً أقبح منك؟ قال : فيقول : أنا عملك السيّئ الذي كنتَ تعمله ورأيُك الخبيث (٣).

وفي خبر آخر : فإذا كان يوم القيامة اشتعل قبره ناراً فيقول : ليّ الويل! فيأتيه عمله الخبيث فيقول له : واللهِ ما علمتُك إلّا كنتَ عن طاعة الله مبطئاً ، وإلى معصية الله مسرعاً ، قد كنت تركبني في الدنيا ، فأنا أريد أن أركبك اليوم كما كنتَ تركبني ، وأقودك إلى النار (٤).

وعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قال : ألا إنّ القبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرةٌ من حُفَر النيران ، ألا وإنّه يتكلّم في كلّ يوم ثلاث مرّات فيقول : أنا بيت الوحشة ، أنا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ كتاب المؤمن للحسين بن سعيد : ٥١ / ح ١٢٦.

٢ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٢٥٧.

٣ ـ الكافي ٣ : ٢٤٢ / ح ١.

٤ ـ الاختصاص : ٣٦١ بالمضمون.

٤٣٦

بيت الدود (١).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله لقيس بن عاصم التميمي واعظاً إيّاه : لا بدّ لك يا قيس مِن قرين يُدفَن معك وهو حيّ ، وتُدفن معه وأنت ميّت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، ثمَّ لا يُحشَر إلّا معك ، ولا تُبعث إلّا معه ، ولا تُسأل إلّا عنه ، فلا تجعَلْه إلّا صالحاً ، فإنّه إن صلح أنِستَ به ، وإنْ فسد لا تستوحش إلّا منه ، وهو فعلك (٢).

وورد في حقّ الصدقة قول النبيّ صلى الله عليه وآله : أرض القيامة نار ، ما خلا ظلّ المؤمن ، فإنّ صدقته تُظلّه (٣). والظلّ هذا من الصور الباطنة للصدقة.

وفي «عدّة الداعي» قال : روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد خرج على أصحابه يوماً فقال لهم : إرتَعُوا في رياض الجنّة ، قالوا : يا رسول الله وما رياض الجنّة؟ قال : مجالس الذِّكْر ، أُغدوا وروحوا واذكروا (٤).

وفي حديث المعراج أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله مرّ على قوم بين أيديهم موائد من لحم طيّب ولحم خبيث ، يأكلون اللحم الخبيث ويَدَعون الطيّب ، فقال صلى الله عليه وآله : من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون الحرام ويَدَعون الحلال ، وهم من أمّتك يا محمّد (٥).

وقال الرسول صلى الله عليه وآله : مانع الزكاة يجرّ قُصْبَه في النار «أي أمعاءه» ويُمثَّل له ماله في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مشكاة الأنوار : ٣٠٥ ـ الفصل التاسع من الباب السابع.

٢ ـ معاني الأخبار : ٢٣٣ باب معنى القرين.

٣ ـ الكافي ٤ : ٣ / ح ٦.

٤ ـ عدّة الداعي : ٢٣٨.

٥ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٦.

٤٣٧

النار في صورة شجاع «ذَكَر الأفاعي» أقرع له زنمتان ـ أو زبيبتان ـ يفرّ الإنسان منه وهو يتبعه حتّى يقضمه كما يقضم الفجل ، ويقول : أنا مالك الذي بَخِلتَ به (١).

وجاء عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : مَن عفّ بطنُه وفَرْجُه كان في الجنّة مَلِكاً محبوراً (٢).

وهذا المَلَك من المعاني الباطنيّة والمضامين لعفّة البطن والفرج.

وورد في الأثر المعتبر أنّ غرس الجنّة لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم (٣).

وورد في الآثار أنَّ الملائكة يبنون طابوقة من ذهب أو طابوقة من فضّة إذا قال الذاكر : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، وحين يسكت يتوقّفون حتّى تأتيهم النفقة ، وهي الذكر (٤).

وهذا من أوضح المعاني الباطنيّة للذكر.

والوقت الذي يقضيه الإنسان من عمره له معنى ظاهر ومعنى باطن ، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه : يُفتَح للعبد يوم القيامة على كلّ يوم من أيام عمره أربع وعشرون خزانة «عدد ساعات الليل والنهار» ، فخزانة يجدها مملوءة نوراً وسُروراً ، فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما لو وُزِّع على أهل النار لأدهشهم عن الإحساس بألم النار ، وهي الساعة التي أطاع فيها ربّه.

ثمّ يُفتَح له خزانة أخرى فيراها مظلمة منتنة مفزعة ، فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قُسِّم على أهل الجنّة لَنغّصَ عليهم نعيمها ، وهي التي عصى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للطوسيّ : ٥١٩ ـ ٥٢٠ / ح ١١٤٣ ، وسائل الشيعة ٦ : ١٧ / ح ٢٧.

٢ ـ الأمالي للصدوق : ٤٤٣ / ح ٤ ـ المجلس ٨٢.

٣ ـ مستدرك الوسائل ٥ : ٣٧٣ / ح ٦١٢٤ ـ عن : لبّ اللُّباب ـ مخطوط.

٤ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٥٣ بالمضمون.

٤٣٨

فيها ربّه. ثمّ يُفتَح له خزانة أخرى فيراها فارغة ليس فيها ما يسرّه ولا ما يَسرّه ، وهي الساعة التي نام فيها أو اشتغل فيها بشيء من مباحات الدنيا ، فيناله من الغَبْن والأسف على فواتها ، حيث كان متمكّناً من أن يكون يملأها حسنات ما لا يوصف ، ومن هذا قوله تعالى : (ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) (١).

وفي هذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله : إنّ امرءاً أتت عليه ساعةٌ من عمره لم يذكر فيها ربَّه ، ويستغفر مِن ذنبه ، ويفكّر في معاده ، لَجديرُ أن يطول حزنُه ويتضاعَفَ أسَفُه! (٢)

قال رسول الله صلى الله عليه وآله لابن مسعود : أكثِرْ من الصالحات والبِرّ ، فإنّ المحسن والمسيء يندمان : يقول المحسن : يا ليتَني ازددتُ من الحسنات! ويقول المسيء : قصّرتُ! وتصديق ذلك قوله تعالى : (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (٣) ، (٤).

وفي الحديث الشريف قال النبيّ صلى الله عليه وآله : لا تزول قَدَمُ عبدٍ يوم القيامة حتّى يُسأل عن أربع : عن جسده في ما أبلاه ، وعن عمره في ما أفناه ، وعن ماله مِمَّا اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن حبّنا أهلَ البيت (٥).

وعن البَراء بن عازب قال : كان مُعاذ بن جبل جالساً قريباً من رسول الله صلى الله عليه وآله في منزل أبي أيّوب الأنصاريّ ، فقال معاذ : يا رسول الله ، أرأيت قول الله تعالى : (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) (٦)؟ فقال صلى الله عليه وآله : يا معاذ ، سألتَ عن عظيم من الأمر. ثمّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عدّة الداعي : ١٠٣ ، بحار الأنوار ٧ : ٢٦٢ / ح ١٥ ، والآية في سورة التغابن : ٩.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ٢ : ١٠٢.

٣ ـ القيامة : ٢.

٤ ـ بحار الأنوار ٧ : ١٠٦ / ح ١ ـ عن مكارم الأخلاق : ٤٥٤.

٥ ـ الأمالي للطوسيّ : ٥٩٣ / ح ١٢٢٧.

٦ ـ النبأ : ١٨.

٤٣٩

أرسل عينيه ، ثمّ قال صلى الله عليه وآله : تُحشر عشرة أصناف من أمّتي أشتاتاً ، قد ميزّهم الله تعالى عن المسلمين وبدّل صورهم :

فبعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير.

وبعضهم منكّسون ، أرجلهم مِن فوق وجوههم مِن تحت ، ثمّ يُسحَبون عليها ، وبعضهم عُميٌ يتردّدون ، وبعضهم صُمٌ بكمٌ لا يعقلون.

وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم ، يسيل القيح من أفواههم ، يتقذّرهم أهل الجمع.

وبعضهم مقطّعة أرجلهم وأيديهم ، وبعضهم مصلّبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشدّ نتناً من الجيفة ، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قَطِران لازقة بجلودهم.

فأمّا الذين على صورة القردة فالقَتّات بين الناس ، وأمّا الذين على صورة الخنازير فأهل السُّحت ، وأمّا المنكّسون على وجوههم فأكَلَة الربا ، وأمّا العُمْي فالذين يجورون في الحكم ، وأمّا الصمّ والبكم فالمعجَبون بأعمالهم ، والذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقضاة الذين خالفت أعمالهم أقوالهم ، وأمّا الذين قُطّعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران ، وأمّا المصلّبون على جذوع من نار فالسُّعاة إلى السلطان ، وأمّا الذين هم أشدّ نتناً من الجيفة فالذين يتّبعون الشهوات واللذّات ومَنَعوا حقّ الله من أموالهم ، وأمّا الذين يلبسون جباباً من نار فأهل الكبائر والفخر والخُيَلاء (١).

القتّات : النَّمّام. أرسل عينيه : بكى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير مجمع البيان ١٠ : ٢٤٢ ، بحار الأنوار ٧ : ٨٩ ـ باب صفة المحشر.

٤٤٠