مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله : الحياء حياءان : حياء عقل ، وحياء حُمق ، فحياء العقل هو العلم ، وحياء الحُمق هو الجهل (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : مَن رَقَّ وجهُه رقّ علمه (٢).

والمراد من رقّة الوجه الاستحياء عن المسألة والإلحاح في طلب ما عند الناس. ونعم ما قال الشاعر :

لا تكن طالباً لما في يدِ النا

س ، فيزوَرَّ عن لِقاك الصديقُ

إنّما الذلّ في سؤالكَ للنا

س ، ولو في السؤال : أين الطريق ُ (٣)

وقال الإمام الباقر عليه السلام : الحياء والإيمان مقرونان في قرن ، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه (٤).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : ما كان الفحش في شيء قَطُّ إلّا شانَه ، ولا كان الحياء في شيء قطّ إلّا زانه (٥).

وعنه صلى الله عليه وآله : الإسلام عُريان : ولباسه الحياء ، وزينته الوفاء ، ومروءته العمل الصالح ، وعماده الورع ، ولكلِّ شيء أساسٌ وأساس الإسلام حُبّنا أهلَ البيت (٦).

وقال الإمام عليّ عليه السلام : مَن كَثُر كلامُه كَثُر خطؤه ، ومن كثر خطؤه قلّ حياؤه ، ومن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ١٠٦ / ح ٦.

٢ ـ نفسه ٢ : ١٠٦ / ح ٣.

٣ ـ البيتان لصفيّ الدين الحلّي في ديوانه : ٥٠ ، إعداد : ضحى عبد العزيز ، إصدار : دار كرم بدمشق.

٤ ـ الكافي ٢ : ١٠٦ / ح ٤.

٥ ـ الأمالي للمفيد : ١٦٧ / ح ٢.

٦ ـ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي ٣ : ٨ / ح ٩٢٧.

٣٤١

قلّ حياؤه قلّ ورعُه ، ومن قلّ ورعه مات قلبه ، ومن مات قلبه دخل النار (١). وقال الصادق عليه السلام : أربع من كنّ فيه كَمل إيمانه ، وان كان من قرنه إلى قدمه ذنوبٌ لم يُنقصه ذلك ، وهو : الصدق ، وأداء الامانة ، والحياء ، وحسنُ الخُلُق (٢).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : الحياء عشرة أجزاء : تسعة في النساء وواحدة في الرجال ، فإذا خُفضت ذهب جزء من حيائها ، فإذا تزوّجت ذهب جزء ، فإذا افتُرعت ذهب جزء ، فإذا ولدت ذهب جزء ، وبقي لها خمسة أجزاء ، فإن فجرت ذهب حياؤها كلّه ، وإن عفّت بقي لها خمسة أجزاء (٣).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٣٤٩ ، وسائل الشيعة ١٢ : ١٨٧ / ح ١٦٠٤٢.

٢ ـ الكافي ٢ : ٩٩ ـ ١٠٠ / ح ٣.

٣ ـ من لا يحضره الفقيه ٣ : ٤٦٨ / ح ٤٦٣٠.

٣٤٢

المبحث التاسع والثلاثون : في الغفلة

قال عليه السلام : عَظُمَ يا سَيِّدي اَمَلي ، وَساءَ عَمَلي ، فَاَعْطِني مِنْ عَفْوِكَ بِمِقْدارِ اَمَلي ، وَلا تُؤاخِذْني بِأَسْوَءِ عَمَلي ، فَاِنَّ كَرَمَكَ يَجِلُّ عَنْ مُجازاةِ الْمُذْنِبينَ ، وَحِلْمَكَ يَكْبُرُ عَنْ مُكافاةِ الْمُقَصِّرينَ ، وَاَنَا يا سَيِّدي عائِذٌ بِفَضْلِكَ ، هارِبٌ مِنْكَ اِلَيْكَ ، مُتَنَجِّزٌ ما وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ اَحْسَنَ بِكَ ظَنّاً.

اعتراف جميل بالتقصير ، وإقرار على النفس بممارسة الذنوب واقتراف المعاصي ، وتوجّه رائع أصيل لطلب العفو المأمول وعدم المؤاخذة على الذنب ، وإلّا كان في ذلك الهلاك الأكيد. إنّ كرم الله واسع ، وحمله كبير على المقصّرين ، ومَن منّا لا يَعدّ نفسه مقصّراً؟ ومَن منّا لا يعيش تحت خيمة الإمهال الإلهيّ؟

قال تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا) (١).

ومن موجبات ما يقع فيه الإنسان من تقصير مع ربّه ومع نفسه هو الغفلة ، ذلكَ المرض القلبيّ الأصل الذي تتفرّع منه مجموعة من الرذائل والمهلكات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكهف : ٥٨.

٣٤٣

في الغفلة

الغفلة : سهوٌ يعتري الإنسان من قلّة التحفّظ والتيقّظ ، يقال : غَفَلَ فهو غافل ، قال تعالى : (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (١).

إذن فالغفلة في سياق الآية تشكّل غطاءً حاجباً عن رؤية الحقّ ، وقد قال سبحانه : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ) (٢).

لقد وصف الله سبحانه بعض عباده بالغفلة ، ولمّا كان الوصف للناس فقد أُريد به الغالبيّة العظمى منهم ، ومعنى هذا أنّ الغفلة ملازمة للإنسان لا يكاد يخلو منها ومن آثارها السلبيّة إلّا من عصم الله ، فهذا التعلّق بالدنيا وبأسباب البقاء ، والانغماس في الترف والملذّات قد ملأ القلوب والعقول.

ويمكن تقسيم المصابين بمرض الغفلة قسمين :

١. الغافلون عن أصل المعاد الأُخرويّ ، وهؤلاء لا يتفكّرون في عاقبة أمرهم ، بل إنّهم أنكروا ضرورة من ضرورات الدين ، وأنكروا الحكمة من الخلق وجعلوه مسألة عبثيّة ، حيث أنكروا الجزاء على العمل ، وهذا القسم يُسمّى «الإعراض» ، فأقفل هؤلاء قلوبهم على الكفر والعتوّ والطغيان إلى غير رجعة ، وقد وصفهم الله سبحانه وتعالى على لسان نبيّة نوح عليه السلام قائلاً : (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) (٣).

٢. الغافلون عن تصوّر المسؤولية الأخرويّة حقّ تصوّرها وكما ينبغي ، فهم لاهثون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ سورة ق : ٢٢.

٢ ـ الأنبياء : ١.

٣ ـ نوح : ٥ ـ ٧.

٣٤٤

وراء الشهوة والأمانيّ السرابيّة الضالّة ، ومشتغلون بما ينسي الآخرة ، ولو علموا ما يُراد بهم ومنهم لانتهوا وعادوا إلى سواء السبيل ، ولهيّؤوا أنفسهم للقاء الله بالتوبة والإيمان والورع واجتناب المعاصي.

وهذا القسم يُسمّى «التقصير».

إنّ الغافلين ، سواء من المُعْرضين أو المقصّرين ، سيقفون بين يدي الله للحساب ، فتصيبهم الدهشة ، ويأخذهم الفزع الأكبر لعظم المسؤولية ودقّة الحساب ، قال تعالى : (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (١).

لقد ساقتهم الملائكة للحساب ، وشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وأيديهم بما كانوا يعملون ، وتجسّدت أعمالهم أمام أعينهم ، وقيل لهم : هذه أعمالكم رُدّت عليكم. وربّما يكون الإغفال على سبيل المجازاة حين يُنسب إلى الله سبحانه ، كما في قوله تعالى : (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (٢).

قال صاحب «الميزان» قدس سره : المراد بإغفال قلبه تسليطُ الغفلة عليه وإنساؤه ذِكرَ الله سبحانه على سبيل المجازاة ، حيث إنّهم عاندوا الحقّ فأضلّهم الله بإغفالهم عن ذكره ، فإنَّ كلامه تعالى في قوم هذهِ حالهم نظير ما سيأتي في ذيل الآيات من قوله : (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) (٣).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكهف : ٤٩.

٢ ـ الكهف : ٢٨.

٣ ـ الكهف : ٥٧.

٣٤٥

فلا مَساغَ لقول من قال : إنّ الآية من أدلّة جبره تعالى على الكفر والمعصية ، وذلك لأنّ الإلجاء مجازاةً لا ينافي الاختيار ، والذي يُنافيه هو الإلجاء ابتداءً ، ومورد الآية من القبيل الأوّل (١).

فالمراد من الغفلة : الفتورُ والتكاسل ، وعدم الالتفات إلى غاية الخلق وما هو المطلوب من الإنسان من التزامات تقود صاحبها إلى سعادة الدارين ، وتضمن له الكرامة ونيل مراتب الكمال.

ويقابل الغفلة : النيّة والإرادة والقصد ، وهي تشير إلى الوعي واليَقظة ، وهي من البواعث والخوافز لسلوك الطريق الموافق للطبع الإنساني الذي يسعى نحو الكمال والفضائل ، وتطهير ساحة القلوب من الكدورات والظلمات ونتانة الجاهليّات.

ولقد وصف الله سبحانه وتعالى بعض عباده ممّن شغلتهم الدنيا عن الله والآخرة أنّهم من الغافلين ، وشبّههم بالأنعام الضالّة التي لا تفهم ما يراد منها : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (٢).

ومن هؤلاء : الكُسالى والبطّالون ، وأهل الأمانيّ الضالّة التي تقودهم حالاتهم هذه إلى شقاء الدنيا والآخرة ، وإنّ العقل السليم يحكم بوجوب استجلاب الخير ونيل الكمالات وما يوافق الطبع الإنسانيّ. إذن تكون الغفلة مساراً وطريقاً مضاداً للفطرة والعقل ، وبذلك تكون أصلاً تتفرّع عنه مجموعة من الرذائل والنقوص التي تُعتِّم على القلب وتؤدّي إلى انتكاسه ، وربّما تكون هذه الطائفة ممّن يؤمن بالله ويؤمن بالمعاد ، لكنّ الانكباب على الدنيا والانشغال بهمومها ومطالبها ولذّاتها يصرفانها عن رحب ولاية الله إلى ضيق ولاية الشيطان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير الميزان ١٣ : ٣٠٣.

٢ ـ الفرقان : ٤٤.

٣٤٦

إنّ كلّ تصرّف يقوم به الإنسان عن حركة واعية تتحكّم فيها الإرادة ويتحكّم فيها العلم لابدّ أن يكون وراءه غرض عقلانيّ ، وهذا ما يُطلق عليه «النيّة والقصد».

فعندما يتوفّر عامل الشوق المتمثّل بالرغبة العمليّة الصادقة لتحقيق شيء ، فإنّ الإنساني ينوي القيام بعملية التنفيذ ، وهنا تتحرّك الأعضاء والجوارح لإيجاد ذلك العمل. أنظر هذا التسلسل رجاءً :

غرضٌ معلوم ، ثمّ الشوق إليه ، ثمّ النيّة والقصد ، ثمّ التحرّك للتنفيذ.

وكلّما كان الشوق أعظم كان النشاط والاندفاع أشدّ.

ونعم ما قيل :

وإذا حلَّتِ الهدايةُ قلباً

نَشِطتْ للعبادةِ الأعضاءُ (١)

إنّ الأعمال الإراديّة الواعية لا تصدر إلّا عن نيّة ، وعلى هذه النيّة يترتّب الجزاء الإلهيّ ، فالذي يقيم الشعائر العباديّة ويعمل الصالحات ، ويذكر الله تعالى مداوماً ، ويقدّم التضحية بالمال والنفس قاصداً وجه الله ، لابدّ أن تكون نيّته خيراً ، ويكون جزاؤه خيراً لأنّ الجزاء من سنخ العمل ، أمّا الذي يعرض عن الحقّ ، ويحارب أهل الدين ، ويهتك حرمات الله ومقدّسات المؤمنين فنيّته شرّ ، وجزاؤه من سِنْخ عمله.

وقد يكون العمل واحداً لكنّ ال جزاء يختلف باختلاف النيّة ، فلو صلّى المرء عبادةً لله كان جزاؤه الثواب ، وأمّا من صلّى رياءً فجزاؤه العقاب ، في حين أنّ الصلاة بشكلها الخارجيّ واحدة ، ولو بنى مسجداً لإقامة شعائر الله فإنّه ينال الثواب ، أمّا لو بناه للضِّرار والرياء فإنّه يأثم ، في حين أنّ الشكل الظاهريّ للمسجد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ حكاه في : الفوائد الرجاليّة لبحر العلوم ١ : ٣٩.

٣٤٧

واحد ، إذن العبرة بالقلب لا بالقالب ، وبالمضمون لا بالشكل.

فالذي يهاجر ويقاتل من أجل الغنائم هو مهاجر إلى الغنيمة ، ومن هاجر لأجل امرأة يصيبها فهو مهاجر المرأة ، وقد ورد في الآثار أنّ أحدهم هاجر وقاتل من أجل حمار ، وآخر هاجر لأجل امرأة تُكنّى أمّ قيس فسماهما الصحابة بمهاجر الحمار ، ومهاجر أمّ قيس (١).

عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام قال : لا حَسَبَ لقرشيّ ولا لعربيّ إلّا بتواضع ، ولا كرمَ إلّا بتقوى ، ولا عملَ إلّا بالنيّة ، ولا عبادةَ إلّا بالتفقّه (٢).

بل وصل الأمر ببعض الأفذاذ من الصالحين أن يجعل للأكل والشرب نيّة حسنة ؛ لتحمِل تلك الأعمال السمة العباديّة التي يترتّب عليها الأجر والثواب. ت

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : يا أبا ذرّ ، لِيكُنْ لك في كلّ شيء نيّة حتى في النوم والأكل (٣). يا أبا ذرّ ، هِمَّ بالحسنة وإنْ لم تعملها ، لكي لا تُكتَبَ من الغافلين (٤).

وقد حثّ الإسلام والقائمون عليه أتباعهم على تثبيت نيّة الخير والعزم عليه من أجل نيل الثواب واستحقاق الأجر والمثوبة ، فقد ورد عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام أنّه قال : إنّ العبد المؤمن الفقير ليقول : يا ربِّ ارزقني حتّى أفعل كذا وكذا من البرّ ووجوه الخير. فإذا علم الله ذلك منه بصدق نيّته ، كتب الله له من الأجر مِثلَ ما يكتب له لو عَمِله ، إنَّ الله واسع كريم (٥).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ فتح الباري ١ : ٨ ، شرح صحيح مسلم للنوويّ ١٣ : ٥٥ ، مجمع الزوائد ٢ : ١٠.

٢ ـ الكافي ٨ : ٢٣٤ / ح ٣١٢.

٣ ـ وسائل الشيعة ١ : ٤٨ / ح ٩٠ ـ ط مؤسّسة آل البيت عليهم السلام.

٤ ـ نفسه ١ : ٥٦ / ح ١١٦.

٥ ـ المحاسن : ٢٦١ / ح ٣٢٠.

٣٤٨

وورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : نيّة المؤمن خير من عمله ، ونيّة الكافر شرّ من عمله ، وكلّ عامل يعمل على نيّته (١) ، وقد قيلَ بعد ذلك لأبي عبد الله عليه السلام : يا ابن رسول الله ، إنّي سمعتك تقول : نيّة المؤمن خير من عمله ، فكيف تكون النيّة خيراً من العمل؟

فقال الإمام عليه السلام : لأنّ العمل ربّما كان رياءً للمخلوقين ، والنيّةُ خالصةً لربّ العالمين ، فيعطي تعالى على النيّة ما لا يعطي على العمل (٢).

ومن مصاديق هذه الرواية ما يقوم به المرء من أعمال من باب التقيّة. قال عليه السلام أيضاً : إنّ العبد لَينوي من نهاره أن يصلّي بالليل فتغلبه عينه فينام ، فيثبّت الله له صلاته ، ويكتب نَفَسَه تسبيحاً ، ويجعل نومه عليه صدقة (٣).

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : نيّة المؤمن أفضل من عمله ؛ وذلك لأنّه ينوي من الخير ما لا يدركه ، ونيّة الكافر شرّ من عمله ؛ وذلك لأنّ الكافر ينوي الشرّ ويأمل من الشرّ ما لا يدركه (٤).

وربّما يقول سائل : لماذا يخلّد الله أهل الطاعات في الجنّة في حين أنّ عملهم في الدنيا محدود وقليل نسبةً إلى نعيم الآخرة ، ويخلّد الله أهل المعاصي في النار في حين أنّ معاصيهم محدودة في وقت قليل؟

وعندما نوجّه هذا السؤال إلى بحر العلم الصافي ، ومنار الإسلام الساطع ، الإمام الصادق عليه السلام ، فسنسمعه يقول : إنّما خُلِّد أهل النار في النار ، لأنّ نيّاتهم كانت في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٨٤ / ح ٢ ـ باب النيّة.

٢ ـ علل الشرائع ٢ : ٥٢٤ ب ٣٠١ / ح ١.

٣ ـ نفسه ٢ : ٥٢٤ ب ٣٠١ / ح ١.

٤ ـ نفسه ٢ : ٥٢٤ ب ٣٠١ / ح ٢.

٣٤٩

الدنيا أن لو خُلّدوا فيها أن يَعصُوا الله أبداً ، وإنّما خُلّد أهل الجنّة في الجنّة ، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بَقَوا فيها أن يطيعوا الله أبداً ، فبالنيّات خُلّد هؤلاء وهؤلاء. ثمّ تلا قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ) ، قال عليه السلام : على نيّته (١).

لقد لاحظنا أثر النيّة على العمل ، وكيفيّة ترتّب الأثر من ثواب أو عقاب ، ونِعم ما قيل في وصفها : إنّها روح العمل ، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : مَن تزوّج امرأة على صِداقٍ وهو لا ينوي أداءه فهو زانٍ ، ومن استدان دَيناً وهو لا ينوي قضاءه فهو سارق ، ومن تطيّب لله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك ، ومن تطيّب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة (٢).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : إذا التقى الصفّان نزلت الملائكة تكتب الخلق على مراتبهم : فلان يقاتل للدنيا ، فلان يقاتل حميّةً ، فلان يقاتل عصبيّةً ، ألا فلا تقولوا : قُتل فلان في سبيل الله ، إلّا لمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (٣).

وورد في الآثار المرويّة أنّ رجلاً من الصحابة يُدعى «قزمان» كان مشهوراً بالجبن والخوف من رؤية الدم ، وفي إحدى غزوات النبيّ صلى الله عليه وآله خرج مع الجيش وأبلى بلاءً حسناً ، فكان يضرب بالسيف ويطعن بالرمح ، وكان يتناول الفارس من جواده فيضرب به الأرض ، وقاوم المشركين أيّما مقاومة ممّا أذهل الجيش الإسلاميّ ، وبعد جولات رجولية وبطوليّة سقط «قزمان» مضمّخاً بدمائه.

فقال صحابيّ لرسول الله صلى الله عليه وآله : هنيئاً لقزمان الجنّة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله : إنّه من أهل النار! فتعجّب الصحابيّ من قول النبيّ صلى الله عليه وآله ، وتوجّه إليه بعض المسلمين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٨٥ / ح ٥ ، والآية في سورة الإسراء : ٨٤.

٢ ـ جامع السعادات ٣ : ١١٣.

٣ ـ نفسه ٣ : ١١٣.

٣٥٠

فقالوا له : أبشرْ يا قزمان ، فقد أبليتَ اليوم ، فقال : بِمَ تبشّرون؟! فواللهِ ما قاتلتُ إلّا عن أحساب قومي ، ولولا ذلك ما قاتلت. فلمّا اشتدّت عليه الجراحة جاء إلى كنانته فأخذ منها مشقصاً «أي نصلاً أو سهماً» فقتل به نفسه (١).

ولعلّ المراد من أن نيّة المؤمن خير من عمله ، لأنّ النيّة من أعمال القلوب التي يترتّب عليها : الإشراق الروحيّ ، والشفاء من الأمراض النفسيّة ، وتطهير القلوب من الأدناس والرذائل والمذموم من الخصال. أمّا الأعمال فهي وظيفة الجوارح ، والجوارح آلات منفِّضة لأوامر العقل ودواعي النيّة.

ونشير هنا إلى قضيّة مهمّة ، وهي أنّ هنالك ارتباطاً بين أعمال القلب وأعمال الجوارح ، فإذا كان هنالك تفكّر وتدبّر ووعي ، وكان مع ذلك توجّه وشوق ، فإنّ هذا يقود إلى ممارسة الأعمال العباديّة ونحوها ، فترى الإنسان يأتي بالطاعات وما يقرّب إلى الله من عمل ، وينزجر عن محارم الله ، وهذه الممارسات المندوب إليها شرعاً وعقلاً تُولِّد رسوخ الملكات وتطوّر القابليّات الإيمانيّة.

ولمّا كانت الغالبية العظمى منا قد ابتُليت بالغفلة ، وهذه حالة ـ إذا طالت ـ قد تقود صاحبها من الهدى إلى الردى ، فقد وضع لنا الإسلام عبر منهجه الحكيم أساليب مهمّة لعلاج الغفلة.

لقد حثّ الإسلام على طلب العلم لأنّه السبيل إلى الله ، وبدونه لا يحصل الإيمان الحقيقيّ الأصيل ولا العمل الصالح الخالص لوجهه تعالى. وكنّا رأينا كيف حصر الله سبحانه الخشية التي هي روح العمل بالعلماء الربّانيّين دون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ بحار الأنوار ٢٠ : ٩٨.

٣٥١

غيرهم حيث قال : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (١).

وكنّا ذكرنا أهميّة العلم في بداية البحث كمنطلق للشوق والنيّة لتحقيق كلّ عمل مأمول فيه رضى الله تعالى.

وفي السنّة الشريفة وردت مئات الأحاديث التي تحثّ على طلب العلم بعنوان القربة إلى الله تعالى.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ، ألا إنّ الله يحبّ بُغاة العلم (٢). وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال : تعلّموا العلم فإنّ تعلّمه حسنة ، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه من لا يعلمه صدقة ، وهو عند الله لأهله قربة ، لأنّه معالم الحلال والحرام (٣).

وأمر الإسلام بمجاهدة النفس حين غفلتها وتقصيرها وجعل ذلك على لسان الروايات من الجهاد الأكبر ، وأنّه مهر الجنّة.

والمؤمنون جميعاً مأمورون بجهاد النفس ، لأنّ مراقي الكمال لا حدود لها ، فقد يرتقي المسلم إلى مرتبة الإيمان ، والمؤمنون إلى مرتبة الأبرار ، ويرتقي بعض الأبرار ليكونوا من المقرّبين. ونحن مأمورون بمحاسبة النفس وتشخيص عيوبها ووضع السبل الكفيلة بعلاج أمراضها وتقصيراتها ، وقد تحدّثنا حول هذه المواضيع في مواضعَ شتّى من هذا الكتاب.

قال الإمام الصادق عليه السلام : إنّ رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وآله فقال له : يا رسول الله أوصِني ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله : فهل أنت مستوصٍ إن أنا أوصيتك؟ حتّى قال ذلك ثلاثاً ، وفي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ فاطر : ٣٨.

٢ ـ الكافي ١ : ٣٠ / ح ١ ، المحاسن : ٢٢٥ / ح ١٤٦ ـ عن الإمام الصادق عليه السلام.

٣ ـ الأمالي للصدوق : ٤٩٢ / ح ١ ـ المجلس ٩٠.

٣٥٢

كلّها يقول له الرجل : نعم يا رسول الله.

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : فإنّي أوصيك إذا أنت هممتَ بأمر فتدبّر عاقبتَه ، فإن يكُ رُشداً فأمضِه ، وإن يكُ غيّاً فانتَهِ عنه (١).

وكذلك أُمر المسلم بالتفكّر والتدبّر ليكون عمله صادراً عن وعي وإرادة ونيّة خالصة ، وبهذا يحقّق الثواب الجزيل ، فقد ورد في الحديث الشريف : تفكّرُ ساعة خيرٌ من عبادة سنة (٢) ، وجاء عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله : نبّهْ بالتكفّر قلبك (٣).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : لا عبادةَ مِثلُ التفكّر (٤) ، وقال أمير المؤمنين عليه السلام : إنّ التفكّر يدعو إلى البِرّ والعمل بهِ (٥).

وعنه عليه السلام أيضاً قال : مَن ألزم قلبَه فكراً ، ولسانَه الذِّكر ، ملأ الله قلبه إيماناً ورحمةً ونوراً وحكمة ، وإنّ الفكر والاعتبار يُخرِجان من قلب المؤمن عجائب المنطق في الحكمةِ ، فتُسمَع له أقوال يرضاها العلماء ، ويخشع لها العقلاء ، ويُعجَب منها الحكماء (٦).

وكان لقمان عليه السلام يطيل الجلوس وحده ، وكان يمرّ بهِ مولاه فيقول : يا لقمان ، إنّك تديم الجلوس وحدك ، فلو جلستَ مع الناس كان آنسَ لك ، فيقول لقمان : إنّ طول الوحدة أفهمُ للفكرة ، وطول الفكرة دليل على طريق الجنّة (٧). وقال ابن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٨ : ١٥٠ / ح ١٣٠.

٢ ـ فقه الرضا عليه السلام : ٣٨٠ / ح ١٠٦.

٣ ـ الكافي ٢ : ٥٤ / ح ١.

٤ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٧٢ / ح ٥٧٦٥ ـ الباب ٦٦٦.

٥ ـ الكافي ٢ : ٥٥ / ح ٥.

٦ ـ إرشاد القلوب : ١٠٠ ، جامع أحاديث الشيعة ١٤ : ١٩٦ / ح ٢٢٥٤.

٧ ـ تنبيه الخواطر ١ : ٢٥٠ ـ ٢٥١ ، بحار الأنوار ١٣ : ٤٢٢ / ح ١٧.

٣٥٣

عبّاس : التفكّر في الخير يدعو إلى العمل به ، والندم على الشرّ يدعو إلى تركهِ.

إنّ الإنسان مطالبٌ بمحاكمة لسانهِ وسمعه وعينه وبقيّة جوارحه كلّ يوم ، ليرى مقدار ما استزاد من الصالحات وعمل الخير ، أو ما وضع في ميزان عملهِ من سوء ، وقانون المحاسبة قانون إسلامي أصيل ، وهو ما نطلق عليه في المصطلح الحديث بقانون «النقد والنقد الذاتي».

وقد ورد في الحديث النبويّ الشريف : حاسِبُوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا (١). وعن الإمام عليّ عليه السلام : فإنّ اليوم عملٌ ولا حساب ، وإنّ غداً حسابٌ ولا عمل (٢).

وعلينا كذلك أن نفتّش في زوايا القلوب عن المهلكات النفسيّة ، كالبخل والحسد والعُجب والكبر والرياء وسوء الظنّ والغفلة ونحوها.

وعلينا مراجعة ما ورد من حِكمٍ وأحكام ، ومواعظ وإرشادات عن النبيّ صلى الله عليه وآله وعن آلهِ الطاهرين في توجيه الإنسان الفرد والإنسان الأُمّة ، فإنّ فيها العلاج الناجع. إنّ النظرية وحدها ما لم تكن مدعومة بالممارسة العمليّة الصادقة فإنّها تفقد مذاقها ودورها العمليّ الإيجابيّ ، أنظر إلى هذه المقولة الجامعة المانعة وتدبّر في معانيها وأبعادها :

ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : إنّ روح القدس نَفَث في رُوعي : أحببْ ما أحببتَ فإنّكَ مُفارقه ، وعشْ ما شئتَ فإنّكَ ميّت ، واعمل ما شئتَ فإنّك مجزيٌّ به (٣).

ومن أعظم أسباب تنبّه النفس من غفلتها ذِكرُ الموت ، فإنّ لذلك آثاراً كبيرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ إعلام الدين في صفات المؤمنين : ٢٥١ ، جامع السعادات ٣ : ٩١.

٢ ـ الكافي ٨ : ٥٨ ح ٢١ ، نهج البلاغة : الخطبة ٤٢ ، خصائص الأئمّة : ٩٦.

٣ ـ إعلام الدين في صفات المؤمنين : ٢٤٢.

٣٥٤

في تصفية القلب وكسر الشهوات النفسيّة ، والتجافي عن دار الغرور ، والتوجّه إلى رحاب رحمة الله الواسعة ، إنّ هذا الطريق يحقّق الانتصارات والفتوحات القلبيّة التي تقرّب صاحبها إلى الجنّة وتبعّده عن النار.

قال الإمام الصادق عليه السلام لأحد أصحابه : إذا حملتَ جنازة فكن كأنّك أنت المحمول ، أو كأنّك سألت ربّك الرجوع إلى الدنيا لتعمل ، فانظر ماذا تستأنف ، ثمّ قال عليه السلام : عجباً لقومٍ حُبس أوّلهم على آخرهم ثمّ نادى منادٍ فيهم بالرحيل وهم يلعبون! (١) وقال الصادق عليه السلام أيضاً : ما خلق الله عزّ وجلّ يقيناً لا شكَّ فيه أشبهَ بشكٍّ لا يقينَ فيه من الموت (٢).

وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : إنّي تركتُ فيكم واعظَين ؛ صامتاً وناطقاً ، فالصامت الموت ، والناطق القرآن (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : اذكروا هادم اللذّات ، قيل له : وما هو يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله : الموت (٤).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : إن كان الموت ، حقّاً ، فالفرع لماذا؟! وإن كان الشيطان عدوّاً ، فالغفلة لماذا؟! ٥

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : أغفلُ الناس مَن لم يتّعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال (٦).

وأختم هذا المبحث بدعاء لقمان : إرحَمِ الفقراء لقلّة صبرهم ، والأغنياءَ لقلّة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ كتاب الزهد للحسين بن سعيد : ٧٧ / ح ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

٢ ـ من لا يحضره الفقيه ١ : ١٩٤ / ح ٥٩٦.

٣ ـ الفتوحات المكيّة ٤ : ٣٨٧.

٤ ـ مصباح الشريعة : ١٧١ ، بحار الأنوار ٦ : ١٣٣.

٥ ـ الأمالي للصدوق : ١٦ / ح ٥ ـ المجلس الثاني.

٦ ـ روضة الواعظين : ٤٤٢.

٣٥٥

شكرهم ، وارحم الجميع لطول غفلتهم (١).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ شرح نهج البلاغة ٢٠ : ٣٢٥ ح ٧٢٩.

٣٥٦

المبحث الأربعون : في السَّتر

قال عليه السلام : وَما اَنَا يا رَبِّ وَما خَطَري ، هَبْني بِفَضْلِكَ ، وَتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِعَفْوِكَ اَيْ رَبِّ جَلِّلْني بِسِتْرِكَ ، وَاعْفُ عَنْ تَوْبيخي بِكَرَمِ وَجْهِكَ ، فَلَوِ اطَّلَعَ الْيَوْمَ عَلى ذَنْبي غَيْرُكَ ما فَعَلْتُهُ ، وَلَوْ خِفْتُ تَعْجيلَ الْعُقُوبَةِ لَاجْتَنَبْتُهُ ، لا لِاَنَّكَ اَهْوَنُ النّاظِرينَ وَاَخَفُّ الْمُطَّلِعينَ ، بَلْ لِاَنَّكَ يا رَبِّ خَيْرُ السّاتِرينَ ، وَاَحْكَمُ الْحاكِمينَ ، وَاَكْرَمُ الْاَكْرَمينَ ، سَتّارُ الْعُيُوبِ ، غَفّارُ الذُّنُوبِ ، عَلّامُ الْغُيُوبِ ، تَسْتُرُ الَّنْبِ بِكَرَمِكَ ، وَتُؤَخِّرُ الْعُقُوبَةَ بِحِلْمِكَ.

الخطر : القدرُ الرفيع ، والمقام العظيم ، والشرف والعظمة.

جَلَّل : غطَّى وسَتَر

وَبَّخ : لام وهدّد وعيّر

الحكمة : قال الراغب في «المفردات» : هي إصابة الحقّ بالعلم والعقل ، فالحكمة من الله تعالى : معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام ، ومن الإنسان : معرفة الموجودات وفعل الخيرات ، وهذا هو الذي وُصف به لقمان في قولهِ عزّ وجلّ : (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) (١).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ لقمان : ١٢.

٣٥٧

ونُبِّهَ على جملتها بما وُصف بها ، فإذا قيل في الله تعالى : هو حكيم ، فمعناه بخلاف معناه إذا وُصف به غيره ، ومن هذا الوجه قال الله سبحانه وتعالى : (أَلَيْسَ اللَّـهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) (١).

وإذا وصف بهِ القرآن فلِتَضمُنّهِ الحكمة ، نحو : (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) (٢).

الغيب : ما لا ايقع تحت الحواس ، وما يغي عن علم الإنسان. ويقال للشيء : غَيبٌ وغائب باعتباره بالناس لا بالله تعالى ، فإنّه لا يغيب عن شيء ، كما لا يعزب عنه مثقال ذرّةٍ في السماوات ولا في الأرض. وقوله سبحانه : (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) (٣) ، أي ما يغيب عنكم وما تشهدونه (٤).

فلا تعارضَ بين : نسبة علم الغيب إلى الله وحده كما في قولهِ تعالى : (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّـهُ) (٥).

وبين قوله تعالى : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) (٦).

فمِن هذا نستفيد أنّ الغيب لله على نحو الأصالة ، فهو سبحانه يعلم الغيب لذاته ، أمّا إذا نسبنا علم الغيب لأحد الرسل أو الأنبياء فبالتعليم من الله سبحانه ، ومن هذا القبيل نسبة الخلق إلى الله ونسبته إلى الإنسان ، فقد ورد تعبير : (وَاللَّـهُ خَيْرُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ التين : ٨.

٢ ـ يونس : ١ ، مفردات غريب القرآن : ١٢٧.

٣ ـ الأنعام : ٧٣.

٤ ـ مفردات غريب القرآن : ٣٦٦.

٥ ـ النمل : ٦٥.

٦ ـ الجنّ : ٢٦ ـ ٢٧.

٣٥٨

الرَّازِقِينَ) في القرآن الكريم (١).

وإذا قيل الرازق : وأردنا به خالق الرزق ومعطيه والسبب له فهو الله تعالى. أمّا الإنسان فهو سبب في وصول الرزق ، فنقول : أعطى السلطان رزق الجند ، ورزق الرجل عياله ، فالرازقيّة الإنسانيّة تقع في طول الرازقيّة الإلهيّة لا في عرضها. ونقول في مسألة الخلق مثل ما قلنا في الرزق : الخلق أصله : التقدير المستقيم ، ويُستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء ، قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) (٢) ، أي أبدعهما ، ويُستعمل في إيجاد الشيء من الشيء ، نحو (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) (٣).

وليس الخلق الذي هو الإبداع إلّا لله تعالى. وأمّا الذي يكون بالاستحالة فقد جعله الله تعالى لغيره في بعض الأحوال ، كعيسى عليه السلام حيث قال تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) (٤). انتهى ما قاله الراغب في «المفردات» (٥).

أمّا قوله تعالى : (فَتَبَارَكَ اللَّـهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (٦) ، فيدلّ على عدم اختصاص الخلق بالله إذا أردنا المعنى اللغويّ للخلق ، وهو التقدير وقياس الشيء.

وما قلناه آنفاً في وصف الله سبحانه بأنّه أكرم الأكرمين ، حيث نسب الكرم إلى ذاته المقدّسة على نحو الأصالة ، فهو يخلق مادّة الكرم ويوصلها إلى عباده ، أمّا الإنسان فهو وسيط في إيصال الخير الإلهيّ إلى محتاجيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الجمعة : ١١ ، وبألفاظ مقاربة ورد في : المائدة : ١١٤ ، الحجّ : ٥٨ ، المؤمنون : ٧٢ ، سبأ : ٣٩.

٢ ـ الأنعام : ١.

٣ ـ النساء : ١.

٤ ـ المائدة : ١١٠.

٥ ـ مفردات غريب القرآن : ١٥٧.

٦ ـ المؤمنون : ١٤.

٣٥٩

وهنا نقول لبعض المتمنطقين الذين يتّهموننا بالشرك عندما نسمّي أبناءنا بأسماء تنمّ عن الصفات الفاضلة مثل : كريم ، حليم ، حكيم ، ان يتدبّروا عاقبة هذه التهم الباطلة التي لا تعبّر إلّا عن السطحيّة. ويكفينا شاهداً على صحّة ما نقول أنّ لفظة «العليّ» من الأسماء الحسنى ، وقد سُمّي مولانا أمير المؤمنين بهذا الاسم بأمر النبيّ صلى الله عليه وآله الذي هو لسان السماء ، وكذلك سُمّي به أحفاده ومن تأسّى بهم من الصالحين.

وأعجبُ لماذا لم يعترضوا على اسم محمود وهو من الأسماء الحسنى. وقد نظم حسّان بن ثابت في حق النبيّ صلى الله عليه وآله فقال :

وشقّ له منِ اسمِه ليُجِلَّهُ

فَذُو العرشِ محمودٌ وهذا محمّدُ (١)

ويعلّمنا هذا الدعاء أن يكون الداعي منّا معترفاً بضالّتهِ وضعفه ومسكنته أمام الله سبحانه ، فيطلب منه التجاوز عن ذنبه ، والتصدّق عليه بالعفو ، ويطالبه بالستر على عوراته وعيوبه ، وبالعفو عن تقريعه وتوبيخه ولومه على ما اقترف من السّيئات والمعاصي ، ويعترف أمام ساحة الربوبيّة المقدّسة بأنّه ارتكب الذنب لا عن عناد وتحدٍّ ، بل هو الضعف البشريّ أمام طاغوت الشهوة وعواصف الهوى ، ووساوس الشيطان ، ورياح الغفلة.

ثم يعلّل ذلك معتذراً بالستر الإلهيّ ، وعظمة حلمه تعالى ، وستره على أهل الذنوب والمعاصي ، وعدم التسرّع في المؤاخذة ، أنّه يريد أن يقول : يا ربّ غرّني كرمك المرخى وسترُك العظيم ، وحلمك الواسع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مناقب آل أبي طالب ١ : ٦٣. ونُسب هذا القول في «العلل» لأحمد بن حنبل ١ : ٤٥٤ / ح ١٠٣٢ إلى أبي طالب رضوان الله عليه.

٣٦٠