مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : مَن نظر إلى مؤمنٍ نظرةً لِيُخيفَه بها أخافه الله عزّ وجلّ يوم لا ظلّ إلّا ظله (١). وقال صلى الله عليه وآله : ألا ومَن لطم خدّ مسلم أو وجهه بدّد اللهُ عظامه يوم القيامة وحُشِر مغلولاً حتّى يدخل جهنّم (٢).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : يقول الله : اشتدّ غضبي على مَن ظلم مَن لا يجد ناصراً غيري (٣).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : والله لَأَن أَبِيتَ على حَسَكِ السَّعْدان مُسَهَّداً ، أو أُجرُّ في الأغلال مُصَفَّداً ، أحَبُّ إليّ مِن أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد ، وغاصباً لشيء من الحطام ، وكيف أظلم أحداً لنَفْسٍ يُسرع إلى البِلى قُفولُها ، ويطول في الثَّرى حُلولُها؟! (٤)

وقال عليه السلام : يومُ المظلوم على الظالم أشدُّ من يوم الظالم على المظلوم (٥).

عقاب معين الظلمة

دخل رجل من كتّاب بني أميّة على الإمام الصادق عليه السلام فقال : جُعلت فداك ، إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم ، فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً ، وأغمضت في مطالبه ، فقال عليه السلام : لو لا أنّ بني أميّة وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفيء ، ويقاتل عنهم ، ويشهد جماعتهم ، لَما سلبونا حقّنا ، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلّا ما وقع في أيديهم ، فقال الفتى : جُعلت فداك ، فهل لي من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٦٧ / ح ١.

٢ ـ الأمالي للصدوق : ٣٤٩ / ح ١ ـ المجلس ٦٦ ، ثواب الأعمال : ٢٨٤ ، وفيه : ومَن لطم خدَّ مسلم بَرّد الله عظامه يوم القيامة ، ثمّ سلّط الله عليه النار وحُشِر مغلولاً حتّى يدخل النار!

٣ ـ الأمالي للطوسيّ : ٤٠٥ / ح ٥٦ ، مجمع الزوائد ٤ : ٢٠٦.

٤ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٢٢٤.

٥ ـ نفسه : الحكمة ٢٤١ ، روضة الواعظين : ٤٦٦.

٣٠١

مخرج منه؟

فقال عليه السلام : إن قلتُ لك تفعل؟ قال : أفعل. قال عليه السلام : فاخرج من جميع ما اكتسبتَ من ديوانهم ، فمن عرفت منهم رددتَ عليه ماله ، ومن لم تعرف تصدّقت به ، وأنا أضمن لك على الله عزّ وجلّ الجنّة. فأطرق الفتى رأسه طويلاً ثمَّ قال له : قد فعلتُ جُعلت فداك. ثمَّ رجع الفتى إلى الكوفة فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلّا خرج منه ، حتّى ثيابه التي كانت على بدنه (١).

قال أبو بصير يوماً للإمام الصادق عليه السلام : أصلحك الله ، إنّه ربّما أصاب الرجل منّا الضيقُ أو الشدّة فيُدعى إلى البناء فيبنيه ، أو النهر يكريه ، أو المسنّاة يصلحها ، فما تقول في ذلك؟

فقال عليه السلام : ما أُحبُّ أنّي عقدتُ لهم عقدةً أو وكيت لهم وكاءً وأنّ لي ما بين لابتَيها (٢) ، ولا مَدّة بقلم ، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سُرادقٍ من نار حتّى يحكم الله بين العباد (٣).

وورد في الحديث النبويّ الشريف : مَن أعان ظالماً سلّطه الله عليه (٤).

ولقد لمسنا بالتجربة والمعايشة تطبيق هذا الحديث على آلاف الأفراد الذين شايعوا الباطل ونصروه ، وأعانوا الظلمة ، رأينا كيف انتقم الظالمون من مُعينيهم ، فخسروا الدنيا والآخرة.

قال أحد الخيّاطين لأحد الصالحين : إنّي أَخيط للسلطان ثيابه ، فهل تراني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٥ : ١٠٦ / ح ٤ ـ باب عمل السلطان وجوائزهم.

٢ ـ لابتيها : أي المشرق والمغرب من الدنيا.

٣ ـ الكافي ٥ : ١٠٧ / ح ٧.

٤ ـ الخرائج والجرائح ٣ : ١٠٥٨.

٣٠٢

داخلاً في أعوان الظلمة؟ فأجابه بأنّ الداخل في أعوان الظلمة من يبيعك الإبرة والخيوط ، وأمّا أنت فمن الظلمة أنفسهم! (١)

ونقول تعليقاً على هذا : إنّ النفوس الكبيرة لها أحكامها الخاصّة.

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله : إذا رأيتم أهل الريب والبدع مِن بعدي فأظهِروا البراءة منهم ، وأكثروا مِن سبّهم والقول فيهم والوقيعةَ وباهِتُوهم ، كي لا يَطمَعوا في الفساد في الإسلام ، ويَحذرَهم الناس ولا يتعلّموا من بِدعِهم (٢).

ومن شرّ مصاديق معونة الظالمين السعاية بالمؤمن ، التي ابتلي بها الآلاف من المؤلّفة قلوبهم ومن مرضى القلوب والمنافقين ، قال صلى الله عليه وآله : شرّ الناس المثلّث ، قيل : يا رسول الله وما المثلّث؟ قال صلى الله عليه وآله : الذي يسعى بأخيه إلى السلطان ، فيُهلِك نفسه ، ويهلك أخاه ، ويهلك السلطان! (٣)

ولو قام المجتمع والمشرفون عليه ، والقائمون على تنفيذ القانون بإقامة الحدود والقصاص لَما بلغت الجرأة بالمجرمين إلى الحدّ الذي بلغت.

قال الله سبحانه وتعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٤) ، وقال الإمام عليّ عليه السلام : مَن خاف القِصاص كَفَّ عن ظُلم الناس (٥).

شدّة حساب الأمراء والسلاطين

لقد شدّد الإسلام على الأمراء والسلاطين وأصحاب المناصب ، فأمرهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ كتاب المكاسب للشيخ الأنصاريّ ١ : ١٣٥.

٢ ـ الكافي ٢ : ٣٧٥ / ح ٤ ـ باب مجالسة أهل المعاصي.

٣ ـ بحار الأنوار ٧٢ : ٢٦٦ / ح ١٦ ـ عن كتاب الإمامة والتبصرة.

٤ ـ البقرة : ١٧٩.

٥ ـ الكافي ٢ : ٣٣١ / ح ٦.

٣٠٣

بالعدل ومجانبة الظلم ؛ لأنّ السلطان يُطغى ، ونشوة التسلّط تُنسي الإنسان آخرته وقيمه وأخلاقه أحياناً كثيرة.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : لا يُؤمَّر رجلٌ على عشرة فما فوقهم إلّا جيء به يوم القيامة مغلولةً يداه إلى عنقه ، فإن كان محسناً فُكّ عنه غلُّه ، وإن كان مسيئاً زِيدَ غُلّاً إلى غُلِّه (١).

وقال صلى الله عليه وآله : ومن ولّي سبعةً من المسلمين فلم يعدل فيهم ولم يستنَّ بسنّتي لقي الله وهو غضبان (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : ومَن تولّى عَرافةَ يوم ولم يُحسِن فيهم حُبِس على شفير جهنّم بكلّ يوم ألفَ سنة ، وإن كان ظالماً لما هوى به في نار جهنّم سبعين خريفاً (٣).

وعن الإمام الكاظم عليه السلام : ما ذئبان ضاريان في غنمٍ قد تفرّق رِعاؤهما بأضرَّ في دِين المسلم من الرئاسة (٤) ، وقال الإمام الصادق عليه السلام : من طلب الرياسة هلك ، وقال عليه السلام : يا أبا حمزة إيّاك والرياسة (٥).

وعنه عليه السلام : إيّاكم وهؤلاءِ الرؤساءَ الذين يترأّسون ، فَوَاللهِ ما خفَقَت النِّعالُ خلف الرجل إلّا هلك وأهلك (٦).

وقال هشام بن عبد الملك لطاووس اليمانيّ : عِظني ، فقال طاووس : إنّ في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للطوسي : ٢٦٤ / ح ٤٨٥.

٢ ـ نَفَس الرحمان في فضائل سلمان : ٤٦٤.

٣ ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٨٨.

٤ ـ الكافي ٢ : ٢٩٧ / ح ١.

٥ ـ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٦ / ح ٣٣٣٨٧ يرويه عن : كتاب معاني الأخبار ، وحكاه العلّامة المجلسيّ في بحار الأنوار ٧٠ : ١٥٠ / ح ٤ ، عن الكافي ٢ : ٢٩٧.

٦ ـ الكافي ٢ : ٢٩٧ / ح ٣.

٣٠٤

جهنّم حيّاتٍ كالتلال ، وعقاربَ كالبغال ، تلدغ كلّ أمير لا يعدل في رعيّته (١).

وقال الصادق عليه السلام : ملعون من تَرأّس ، ملعون مَن هَمَّ بها ، ملعون من حدّث نفسه بها (٢).

وقد حذّر النبيّ صلى الله عليه وآله والأئمّة الكرام عليهم السلام أتباعَهم من التقرّب من سلاطين الجور ، ونهى العلماء والفقهاء عن الركون إليهم لما يشكّل ذلك من خطورة على الدين وعلى المسلمين ، لأنّ وعّاظ السلاطين يكونون السلاحَ الفتّاك بأيدي أئمّة الجور لإضلال الرعيّة وتخديرهم.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : ما قَرُب عبد من سلطان إلّا تباعَدَ من الله تعالى ، وما كَثُر ماله إلّا اشتَدَّ حسابه ، ولا كثر تَبِعُه إلّا كثر شياطينه (٣).

وعن الإمام عليّ عليه السلام ورد قوله : ثلاث مَن حَفِظهنّ كان معصوماً من الشيطان الرجيم ومن كلّ بليّة : من لم يَخْلُ بامرأة ليس يملك منها شيئاً ، ولم يدخل على سلطان ، ولم يُعِنْ صاحب بدعة بِبِدعِه (٤).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : مَن نكث بيعةً ، أو رفع لواء ضلالة ، أو كتم علماً ، أو اعتقل مالاً ظلماً ، أو أعان ظالماً على ظلمه وهو يعلم أنّه ظالم فقد بَرِئ من الإسلام (٥).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : إنّ شرَّ البقاع دور الأمراء الذين لا يَقْضُون بالحقّ (٦).

وقال صلى الله عليه وآله : إيّاكم وأبوابَ السلطان وحواشيها ، أبعدكم من الله تعالى من آثر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ وَفَيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ٢ : ٥١٠.

٢ ـ الكافي ٢ : ٢٩٨ / ح ٤.

٣ ـ النوادر لفضل الله الراونديّ : ٤.

٤ ـ نفسه : ١٤ ، مستدرك الوسائل ١٣ : ١٢٣ / ح ٣.

٥ ـ النوادر لفضل الله الراونديّ : ١٧ ، مستدرك الوسائل ١٣ : ١٢٣ / ح ٤.

٦ ـ من لا يحضره الفقيه ٣ : ٦ / ح ٣٢٢٥ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٢١٩ / ح ٣.

٣٠٥

سلطاناً على الله تعالى ، جعل المِيتةَ في قلبه الإثم ظاهرةً وباطنة (١).

ولقد كان أمير المؤمنين عليه السلام الأسوة والمثال الأكمل والأنصع بعد رسول الله صلى الله عليه وآله للحاكم الإسلاميّ الذي يجسّد الإسلام شكلاً ومضموناً ، جسداً وروحاً ، ولم تكن الخلافة لتشكّل عنده أيّة أهمّية غير إصابة مرضاة الله سبحانه.

قال عبد الله بن العبّاس : دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار وهو يخصف نعله ، فقال لي : ما قيمة هذا النعل؟ فقلت : لا قيمة لها ، فقال عليه السلام : واللهِ لَهِيَ أحبُّ إليّ من إمرتكم إلّا أن أُقيمَ حقّاً أو أدفع باطلاً (٢).

إذن مهمّة الإمام والسلطان إقامة العدل وإرساء قواعد الحقّ ودفع الباطل ، وإعزاز الضعيف ، والضرب على يد القويّ ، ثمّ يرسم لنا عليه السلام الصورة المثاليّة المشرقة للحاكم الإسلاميّ بقوله : وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيلُ ، فتكون في أموالهم نَهْمتُه ، ولا الجاهلُ فيُضلَّهم بجهله ، ولا الجافي فيقطعَهم بجفائه ، ولا الحائفُ للدُّوَل فيتّخذَ قوماً دون قوم ، ولا المرتشي في الحكم فيذهبَ بالحقوق ويقفَ بها دون المقاطع ، ولا المُعَطِّلُ للسُّنّة فيُهلِكَ الأُمّة (٣).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : مَن أرضى سلطاناً بسَخَطِ الله خرج من دين الله (٤).

وقال عليه السلام : إذا كان يومُ القيامة نادى منادٍ : أين الظَّلَمةُ وأعوانهم؟ مَن لاطَ لهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النوادر لفضل الله الراونديّ : ١٩ ، مستدرك الوسائل ١٣ : ١٢٣ / ح ٥.

٢ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٣٣.

٣ ـ نفسه : الخطبة ١٣١.

٤ ـ الكافي ٢ : ٣٧٣ / ح ٥.

٣٠٦

دواةً ، وربط لهم كيساً ، أومَدَّ لهم مدّةَ قلم (١) ، فاحشروهم معهم (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : أفضل التابعين من أُمّتي من لا يقرب أبواب السلطان (٣).

وعنه صلى الله عليه وآله : الفقهاء أُمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا ، قيل : يا رسول الله ، وما دخولهم في الدنيا؟ قال : اتِّباع السلطان ، فإذا فعلوا ذلك فاحذَرُوهم على دِينِكم (٤).

نرجو من القارئ العزيز الرجوع إلى «نهج البلاغة» ليرى كيف كان أمير المؤمنين عليه السلام الرجلَ الصادق الذي يترجم عظمة الإسلام ، والقمّة الشامخة والاُسوة الحسنة لكلّ ذي سلطان ، وأرجو قراءة عهده الميمون إلى عامله مالك الأشتر حين ولّاه مصر ، وقد شرح هذا السفر الخالد الأستاذ توفيق الفكيكيّ النجفيّ المحامي رحمه الله ، فإنّك ستجد العجب العجاب في عظمة هذا العهد العلويّ وشموليّته.

وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام باعتباره القدوة العليا للحاكم الإسلاميّ قوله : إنّ الله جعلني إماماً لخلقه ، ففرض عَليَّ التقديرَ في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضُعفاءِ الناس ، كي يقتديَ الفقير بفقري ، ولا يُطغيَ الغنيَّ غِناه (٥).

وقال عاصم بن زياد لعليّ عليه السلام : يا أمير المؤمنين ، فَعَلامَ اقتصرتَ في مطعمك على الجُشُوبة ، وفي ملبسك على الخُشونة؟ فقال عليه السلام : وَيْحك ، إنّ الله عزّ وجلّ فرض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بِضَعَفة الناس ؛ كي لا يَتَبَيَّغَ بالفقير فَقْرُه (٦). ويتبيغ : يهيج ، يثور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المَدّة : استمدادك من الدواة مدَّةً واحدة. [ترتيب جمهرة اللغة ٣ : ٣٢٤ «مدد»].

٢ ـ ثواب الأعمال : ٢٦٠.

٣ ـ النوادر للراوندي : ١٥٩ ، بحار الأنوار ٧٢ : ٣٨٠ / ح ٤١.

٤ ـ الكافي ١ : ٤٦ / ح ٥.

٥ ـ نفسه ١ : ٤١٠ / ح ١.

٦ ـ نفسه ١ : ٤١١ / ح ٣.

٣٠٧

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : السلطان ظلّ الله في الأرض ، يأوي إليه كلُّ مظلوم ، فإن عدل كان له الأجر ، وعلى الرعيّة الشكر ، ومن جار كان عليه الوِزْر ، وعلى الرعيّة الصبر ، حتّى يأتيهم الأمر (١).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للطوسي : ٦٣٤ ح ١٣٠٧.

٣٠٨

المبحث الخامس والثلاثون : في الذكر

قال عليه السلام : حُجَّتي يا اَللهُ في جُرْأَتي عَلى مَسْأَلَتِكَ ، مَعَ اِتْياني ما تَكْرَهُ ، جُودُكَ وَكَرَمُكَ ، وَعُدَّتي في شِدَّتي مَعَ قِلَّةِ حَيائي رَأفَتُكَ وَرَحْمَتُكَ ، وَقَدْ رَجَوْتُ اَنْ لا تَخيبَ بَيْنَ ذَيْنِ وَذَيْنِ مُنْيَتي ، فَحَقِّقْ رَجائي ، وَاَسْمِعُ دُعائي يا خَيْرَ مَنْ دَعاهُ داع ، وَاَفْضَلَ مَنْ رَجاهُ راجٍ.

ذا : اسم إشارة للقريب مثل «هذا» ، مُثنّاه في حالة الرفع ذان مثل «هذان» ، وفي حالتي النصب والجرّ نقول : ذَينِ مثل «هذَينِ».

يتوسّل الإمام عليه السلام إلى ربّه بجوده وكرمه عند تجرّئه على طرق بابه الواسع ، رغم التقصيرات والمخالفات التي ينسبها إلى نفسه المقدّسة ـ حاشاه ممّا يتوهّمه المتوهّمون ـ ويجعل عليه السلام من رأفة الله ورحمته عُدّته في الشدّة رغم ما يكون من العبد مع الله المطّلع على خفايا النفس وأعمال الجوارح.

فهنالك «جود وكرم» من طرف الله ، يقابلها «معاصٍ وذنوب» من طرف العبد ، وهناك «رأفة ورحمة» من طرف الله ، يقابلها «قلّة حياء» من طرف العبد ، والرجاء أن لا تَخيبَ بينَ هذين وهذين أمنيّتُه التي هي الوصول إلى مرضاة الله ، وتحقيق ما يرجوه ، وسماع دعائه فيما يسأل.

٣٠٩

والنعم المتواصلة التي لا تُعدّ ولا تُحصى قد تبعث الغفلة في النفس ، وهذه من الصفات المذمومة التي قد تقود إلى سلوكيّات سلبيّة لا تتفق مع روح الدين ، وتتنافى مع صفات المؤمنين ، والمفروض أنّ هذه النعم والمواهب تقود إلى الذِّكر والشكر لا إلى الغفلة والنسيان.

في الذِّكر

إنَّ الله سبحانه منَّ على عباده بإنزال الشرائع وإرسال الرسل لبناء الأمّة التي لها حقّ القوامة على البشريّة ، الأمّة التي لها مؤهّلات الأفضليّة على غيرها بالقيم والفضائل ومكارم الأخلاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال تعالى : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ) (١).

وهذا أوّل ذكره لنا سبحانه ، والذكر قد يكون لفظيّاً وقد يكون قلبيّاً.

واللفظيّ منه أحد مراتب الذكر القلبيّ ومنبعث عنه ، أمّا الذكر القلبيّ فهو الذي وصفه الله سبحانه حيث قال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّـهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (٢).

وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّـهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) (٣).

وقال الله سبحانه وتعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (٤).

والارتقاء إلى مراتب الذاكرين يحتاج إلى تربية خاصّة ، ومجاهدة نفسيّة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ آل عمران : ١١٠.

٢ ـ الرعد : ٢٨ ـ ٢٩.

٣ ـ الأحزاب : ٤١ ـ ٤٢.

٤ ـ البقرة : ١٥٢.

٣١٠

وترويض روحي جادّ ، وللذكر آثار وضعيّة إيجابيّة على حياة الإنسان ومقامه عند الله سبحانه.

روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله خرج على أصحابه فقال : إرتعوا في رياض الجنّة ، قالوا : يا رسول الله ، وما رياض الجنّة؟ قال صلى الله عليه وآله : مجالس الذِّكْر ، أُغدوا وروِّحوا واذكروا ، ومن كان يحبّ أن يعلم منزلته عند الله فَلْينظُرْ كيف منزلة الله عنده ، فإنّ الله تعالى يُنزِلُ العبدَ حيث أنزل العبدُ اللهَ من نفسه. واعلموا أنّ خير أعمالكم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم ، وخيرَ ما طلعت عليه الشمس ذكرُ الله سبحانه ، فإنّه أخبر عن نفسه فقال : أنا جليس مَن ذَكَرني ، وقال سبحانه : فاذْكُروني أذكُرْكم بنعمتي ، واذكروني بالطاعة والعبادة أذكرْكم بالنعم والإحسان ، والرحمة والرضوان (١).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : إنّ الله تبارك وتعالى يقول : مَن شُغل بذِكْري عن مسألتي ، أعطيتُه أفضلَ ما أُعطيَ مَن سألني (٢).

وقال عليه السلام أيضاً للحسين البزّاز : ألا أحدّثك بأشدّ ما فرض الله عزّ وجلّ على خلقه؟ قلت : بلى ، قال : إنصاف الناس من نفسك ، ومواساتك لأخيك ، وذِكرُ الله في كلّ موطن ، أما إنّي لا أقول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله والله أكبر ، وإن كان هذا من ذاك ، لكنّ ذِكر الله في كلّ موطن إذا هَجَمْتَ على طاعته أو معصيته (٣).

وفي الحديث القدسيّ : ابنَ آدم ، أُذكرني في نفسك أذكرْك في نفسي. ابنَ آدم ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عدّة الداعي : ٢٣٨ / الحديث السابع عشر ـ من الباب الخامس : فيما اُلحق بالدعاء وهو الذّكْر.

٢ ـ المحاسن : ٣٩ / ح ٤٣.

٣ ـ معاني الأخبار : ١٩٣ / ح ٣.

٣١١

أُذكرني في خلاء أذكرْك في خلاء. ابنَ آدم أُذكرني في ملاء أذكرْك في ملاءٍ خيرٍ من ملائك (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام ورد قوله : ما مِن عبدٍ يذكر الله في ملاءٍ من الناس إلّا ذكره الله في ملاءٍ من الملائكة (٢).

وعن الإمام الصادق عليه السلام : تفكّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة سنة (٣).

وقال الله سبحانه في الحديث القدسيّ : يا موسى ، أُذكرني على كلّ حال (٤) ، يا موسى ، إنّ ذِكْري حَسَنٌ على كلّ حال (٥). يا موسى ، لا تَنسَني على كلِّ حال ، فإنّ نسياني يميت القلب (٦).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : ادفعوا البلايا بالاستغفار ، الصاعقةُ لا تصيب ذاكراً ، وليس يُصاد من الطير إلّا ما ضَيّع تسبيحَه (٧).

وورد في الأثر المعتبر أنّ في الجنّة قيعاناً واسعة ، فإذا اشتغل العبد بذكر الله اشتغلت الملائكة بغرس الأشجار له فيها ، وإذا سكت أمسكوا ، فيقال لهم : لِمَ أمسكتم؟ يقولون : إنّ صاحبها سكت ، ومصالحنا ذِكرُه (٨).

وورد أيضاً عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : البيت الذي يُقرأ فيه القرآن ، ويُذكَر الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المحاسن : ٣٩ / ح ٤٤.

٢ ـ نفسه : ٣٩ / ح ٤٤.

٣ ـ بحار الأنوار ٦٨ : ٣٢٧ / ح ٢٢ ـ عن : تفسير العيّاشي ٢ : ٢٠٨ / ح ٢٦.

٤ ـ التوحيد للصدوق : ١٨٢ ح ١٧.

٥ ـ الكافي ٢ : ٤٩٧ / ح ٨.

٦ ـ نفسه ٢ : ٤٩٨ / ح ١١.

٧ ـ المحاسن : ٢٩٤ / ح ٤٥٨.

٨ ـ وسائل الشيعة نقله بالمضمون ٧ : ١٥٢ ح ٨٩٧٨ وجاء في كتاب عدّة الداعي : ٢٣٨.

٣١٢

عزّ وجلّ فيه ، تكثر بركته ، وتحضره الملائكة ، وتهجره الشياطين ، ويُضيء لأهل السماء كما تُضيء الكواكب الدريّة لأهل الأرض (١).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : لا يقعد قوم يذكرون الله إلّا حفّتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده (٢).

وعنه صلى الله عليه وآله قال : مَن أكثر ذِكرَ الله عزّ وجلّ أحبّه الله ، ومَن ذكر الله كثيراً كُتِبت له براءتان : براءة من النار ، وبراءة من النفاق (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فَلْيُكثرْ ذِكرَ الله (٤).

وورد في الحديث القدسيّ : يا موسى أنا جليسُ مَن ذكرني ، فقال موسى عليه السلام : يا ربّ ، فمَن في سترك يوم لا سترَ إلّا سترك؟ قال تعالى : الذين يذكرونني فأذكرهم ، ويتحابّون فِيَّ فأُحبُّهم ، فأولئك الذين إن أردتُ أن أصيب أهل الأرض بسوء ذكرتُهم فدفعت عنهم بهم (٥). وقال موسى عليه السلام : إلهي فما جزاءُ مَن ذكرك بلسانه وقلبه؟ قال تعالى : يا موسى ، أُظلّه يوم القيامة بظلّ عرشي وأجعلُه في كَنَفي (٦).

وسأل رجل النبيّ صلى الله عليه وآله قائلاً : ما أحبُّ الأعمال إلى الله؟ فقال صلى الله عليه وآله : أن تموت ولسانك رَطِبٌ من ذكر الله (٧).

وعنه صلى الله عليه وآله : أنّ الملائكة يمرّون على مجالس الذكر فيقفون على رؤوسهم ويبكون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٦١٠ / ح ٣.

٢ ـ صحيح مسلم ٨ : ٧٢ ـ باب استحباب الاستغفار.

٣ ـ الكافي ٢ : ٥٠٠ / ح ٣.

٤ ـ مجمع الزوائد للهيثميّ ١٠ : ٧٥.

٥ ـ عدّة الداعي : ٢٣٥.

٦ ـ الأمالي للصدوق : ١٧٣ / ح ٨ ـ المجلس ٣٧.

٧ ـ صحيح ابن حِبّان ٣ : ١٠٠.

٣١٣

لبكائهم ويؤمّنون على دعائهم ، وإذا صعدوا إلى السماء ، يقول الله تعالى : ملائكتي أين كنتم؟ وهو أعلم بهم ، فيقولون : ربّنا أنت أعلم ، كنّا حضرنا مجلساً من مجالس الذكر ، فرأيناهم يسبّحونك ، ويقدّسونك ، ويستغفرونك ، ويخافون نارك ، ويرجون ثوابك.

فيقول سبحانه : أُشهدكم أنّي قد غفرتُ لهم ، وآمنتهم من ناري ، وأوجبتُ لهم جنّتي ، فيقولون : ربّنا ، تعلم أنّ فيهم من لم يذكرك ، فيقول سبحانه : قد غفرتُ له بمجالسة أهل ذكري ، فإنّ الذاكرين لا يشقى بهم جليسُهم (١).

وورد في الأثر : ما جلس قوم يذكرون الله إلّا نادى منادٍ من السماء : قوموا فقد بَدّلتُ سيّئاتِكم حسنات (٢).

وقال الإمام الباقر عليه السلام : مكتوب في التوراة التي لم تُغيَّر أنَّ موسى عليه السلام سأل ربّه : يا ربّ ، أقريبٌ أنت منّي فأناجيك ، أم بعيد فأناديك؟ فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : يا موسى ، إنا جليسُ مَن ذكرني (٣).

وفي رواية أنّ موسى بن عمران عليه السلام قال : أين أجِدُك يا ربّ؟ فأوحى الله إليه : تجدني عند القبور المندرسة ، والقلوب المنكسرة ، أي الخالية من العُجب والكِبْر والغرور.

وورد في الحديث القدسيّ : إنّي أحبّ القلوب المنكسرة والقبور المندرسة.

وكثرة الذكر الواعي الصادق دليل على رسوخ الحبّ الإلهيّ في قلب العبد ، قال تعالى : يا موسى مَن أحبّني لم يَنْسَني (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع أحاديث الشيعة ١٥ : ٤٥٨ ح ١٤٨١ نقله عن إرشاد القلوب.

٢ ـ عدّة الداعي : ٢٣٨ / الحديث السادس عشر ـ الباب الخامس.

٣ ـ الكافي ٢ : ٤٩٦ / ح ٤.

٤ ـ عدّة الداعي : ١٨٩.

٣١٤

وأئمّة أهل البيت الكرام عليهم السلام هم المثل الأعلى في ذكر الله تعالى ، في سلوكهم وتربيتهم لأولادهم وأتباعهم.

قال الإمام الصادق عليه السلام : كان أبي عليه السلام كثيرَ الذِّكر ، لقد كنت أمشي معه وإنّه ليذكر الله ، وآكل معه الطعام وإنّه لَيذكر الله ، ولقد كان يحدِّث القوم ما يشغله ذلك عن ذكر الله ، وكنت أرى لسانه لاصقاً بِحَنكه يقول : لا إله إلّا الله ، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتّى تطلع الشمس (١).

وقال الإمام عليّ عليه السلام مُصوِّراً المرتبة الأسمى من مراتب الذاكرين : ما رأيتُ شيئاً إلّا رأيت الله قَبلَه ومَعَه (٢).

وعن الإمام الصادق عليه السلام جاء قوله : ما مِن طيرٍ يُصاد إلّا بتركه التسبيح ، وما من مال يُصاب إلّا بترك الزكاة (٣).

ومن أفضل مصاديق مجالس الذكر المجلس الذي يُذكر فيه أهل البيت عليهم السلام وسيرتهم وفضائلهم ومناقبهم وأحزانهم وأحكامهم وآدابهم ، وما لاقَوه في سبيل الاله دفاعاً عن هذا الدين وهذه الأمّة.

قال الإمام الصادق عليه السلام : ما اجتمع في مجلس قومٌ لم يذكروا الله عزّ وجلّ ، ولم يذكرونا إلّا كان ذلك المجلسُ حسرةً عليهم يوم القيامة (٤).

وقال الإمام الباقر عليه السلام : إنّ ذِكرَنا مِن ذِكرِ الله ، وذكرُ عدوّنا من ذكر الشيطان (٥).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٤٩٩ / ح ١.

٢ ـ شرح أصول الكافي للمازندراني ٣ : ٨٣.

٣ ـ الكافي ٣ : ٥٠٥ / ح ١٨.

٤ ـ نفسه ٢ : ٤٩٦ / ح ٢.

٥ ـ الكافي ٢ : ٤٩٦ / ح ٢.

٣١٥

وقد حذّرنا أئمّة الهدى من الانشداد إلى الدنيا وزخارفها ، وأسباب البقاء ، واتّباع الشهوات ، فإنّ ذلك كلّه ينسي الآخرة ، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى عليه السلام : يا موسى ، لا تفرح بكثرة المال ، ولا تَدَعْ ذكري على كلّ حال ، فإنّ كثرة المال تنسي الذنوب ، وإنّ ترك ذكري يقسّي القلوب (١).

يا موسى ، أكثر ذِكْري بالليل والنهار ، وكن عند ذكري خاشعاً ، وعند بلائي صابراً ، واطمئنَّ عند ذكري ، واعبدني ولا تشرك بي شيئاً ، إليَّ المصير. يا موسى اجعَلْني ذخرك ، وضَعْ عندي كنزك من الباقيات الصالحات (٢).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : مَن أُعطيَ لساناً ذاكراً ، فقد أُعطيَ خير الدنيا والآخرة (٣). وقال الإمام الصادق عليه السلام : إنّ الصاعقة تصيب المؤمنَ والكافر ، ولا تصيب ذاكراً (٤).

وعن محمّد بن حمران عن الصادق عليه السلام قال : عَجِبتُ لمَن فزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع : عجبتُ لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله : (حَسْبُنَا اللَّـهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، فإنّي سمعتُ الله عزّ وجلّ يقول بعقبها : (فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) (٥) ، وعجبتُ لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله : (لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، فإنّي سمعتُ الله عزّ وجلّ يقول بعقبها : (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) (٦) ، وعجبتُ لمن مُكِرَ به كيف لا يفزع إلى قوله : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) ، فإنّي سمعتُ الله عزّ وجلّ يقول بعقبها : (فَوَقَاهُ اللَّـهُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نفسه ٢ : ٤٩٧ / ح ٧.

٢ ـ نفسه ٢ : ٤٩٧ / ح ٩.

٣ ـ نفسه ٢ : ٤٩٩ / ح ١.

٤ ـ من لا يحضره الفقيه ١ : ٥٤٤ / ح ١٥١٨.

٥ ـ آل عمران : ١٧٣ ـ ١٧٤.

٦ ـ الأنبياء : ٨٧ ـ ٨٨.

٣١٦

سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا) (١) ، وعَجِبتُ لمن أراد الدنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قوله : (مَا شَاءَ اللَّـهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّـهِ) ، فإنّي سمعتُ الله عزّ وجلّ يقول بعقبها : (إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ) (٢) ، وعسى واجبة (٣).

والذكر يتجسّم في الآخرة : إمّا على نحو الحقيقة ، وإمّا على نحو المجاز ، فيكون مشاهدَ أخروية خلّابة ، ونعماً وفيوضاتٍ ومواهبَ ورحمات ، تأنس لها النفوس ، وتستقرّ لها الأرواح.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : مَن قال : سبحان الله ، غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومَن قال : الحمد لله ، غرس الله له بها شجرةً في الجنة ، ومَن قال : لا إله إلّا الله ، غرس الله له بها شجرةً في الجنة ، ومن قال : الله أكبر ، غرس الله له بها شجرة في الجنّة فقال رجل من قريش : يا رسول الله ، إنّ شجرنا في الجنّة لكثير ، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله : نعم ، ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها ، وذلك إنّ الله تعالى يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (٤) ، (٥).

وأختتم هذا المبحث بمناجاة الذاكرين للإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام : إلهي لولا الواجبُ مِن قَبول أمرِك لَنزّهتُك عن ذِكْري إيّاك ، على أنّ ذِكْري لك بقَدْري لا بقَدْرك ، وما عسى أن يَبلُغَ مِقْداري حتّى أُجعلَ مَحَلّاً لتقديسك ، ومِن أعظمِ النِّعمِ علينا جَرَيانُ ذِكرِك على ألسنتِنا ، وإذْنُك لنا بِدُعائِك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غافر : ٤٤ ـ ٤٥.

٢ ـ الكهف : ٣٩ ـ ٤٠.

٣ ـ الأمالي للصدوق : ١٥ / ح ٢ ـ المجلس الثاني.

٤ ـ محمّد صلى الله عليه وآله : ٣٣.

٥ ـ الأمالي للصدوق : ٤٨٦ / ح ١٦ ، المجلس ٨٨.

٣١٧

وتنزيهِك وتسبيحِك.

إلهي فألهِمْنا ذِكرَكَ في الخَلاءِ والمَلاء ، والليلِ والنهار ، والإعلانِ والإسرار ، وفي السرّاءِ والضَّرّاء ، وآنِسْنا بالذِّكرِ الخَفيّ ، واستَعْمِلْنا بالعملِ الزكيّ ، والسَّعيِ المَرْضيِّ ، وجازِنا بالميزانِ الوَفيّ ، إلهي بك هامَتِ القلوبُ الوالهة ، وعلى معرفتِك جُمِعَت العقولُ المُتباينة ، فلا تَطمئنّ القلوبُ إلّا بِذِكرك ، ولا تَسْكنُ النفوسُ إلّا عند رُؤياك ، أنت المُسَبَّحُ في كلِّ مكان ، والمعبودُ في كلِّ زمان ، والموجودُ في كلِّ أوان ، والمَدْعوُّ بكلِّ لسان ، والمُعظَّمُ في كلِّ جَنان ، وأستَغفِرُك مِن كلِّ لذّةٍ بغيرٍ ذِكْرِك ، ومِن كلِّ راحةٍ بغيرِ أُنسك. ومن كلِّ سُرورٍ بِغَيرِ قُربِك ، ومِن كلِّ شُغْلٍ بغيرِ طاعتِك.

إلهي أنتَ قلتَ وقولُك الحقّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّـهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا). وقلتَ وقولُك الحقّ : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ، فأمرتَنا بذِكرِك ، ووَعَدتَنا عليهِ أن تَذْكُرَنا ؛ تَشريفاً لَنا وتفخيماً وإعظاماً ، وها نحنُ ذاكِرُوك كما أمَرْتَنا ، فأنْجِزْ لنا ما وَعدتَنا ، يا ذاكرَ الذاكرين ، ويا أرحمَ الراحمين (١).

نرجو من القارئ العزيز مراجعة موضوع «الذكر» في كتابنا الموسوم بـ «في ظلال دعاء كميل» للتوسّع (٢).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصحيفة السجّاديّة : ٤١٨ / الدعاء : ١٩٤.

٢ ـ في ظلال دعاء كميل : ١٧٣ ـ ١٩٧.

٣١٨

المبحث السادس والثلاثون : في الغرور

أوّل من وقع في هذا الفخّ الخطير وهو رائد المعصية ، وقائد الجهالة إبليس لعنة الله عليه ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : فاعتَبِروا بما كان مِن فعل الله بإبليسَ إذْ أحبط عملَه الطويل وجَهدَه الجهيد ، وكان قد عَبَد اللهَ ستّة آلاف سنة ، لا يُدرى أمن سِنِي الدنيا أم الآخرة ، عن كِبر ساعةٍ واحدة. فمن ذا بعد إبليس يَسلَمُ على الله بِمِثل معصيته؟! كلّا (١). قال تبارك وتعالى : (٢) ، وقال سبحانه : (٣).

الغرور : هو جهل يخالطه حبّ الشهوات ، فيبعث الرضى عن النفس والسكون إلى ما يوافق الطبع. وضدّه الفطنة والعلم والزهد.

وأهل الغرور من المطايا السَّلِسة الانقياد للشيطان ، يوجّهها أنّى شاء.

والغرور من أمراض القلب المتأصّلة التي وصف الله سبحانه أهلها في محكم كتابه المبين قائلاً : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٩٢.

٢ ـ الانفطار : ٦.

٣ ـ آل عمران : ١٩٦.

٣١٩

الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (١).

إنّ المغرور السادر في غيّه ، السائر وفق أهوائه إلى هدف وهميّ ، لا يعلم أنّه كلّما سار ازداد بُعداً عن تلك الغاية.

روى أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسيّ في كتاب «الاحتجاج» عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال : قال عليّ بن الحسين عليهما السلام : إذا رأيتم الرجل قد حسن سَمْتُه وهَدْيُه ، وتماوَتَ في منطقه ، وتخاضع في حركاته ، فرويداً لا يغرّنكم ، فما أكثرَ مَن يُعجزه تناولُ الدنيا وركوب المحارم منها لضعف نيّته (بنيته) ومهانته وجبن قلبه ، فنصَبَ الدينَ فَخّاً لها ، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره ، فإن تمكّن من حرام اقتحمه.

وإذا وجدتموه يعفّ عن مال الحرام ، فرويداً لا يغرّنّكم ، فإنَّ شهوات الخَلْق مختلفة ، فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها مُحَرّماً ، فإذا وجدتموه يعفّ عن ذلك فرويداً لا يغرّنّكم حتّى تنظروا ما عقده عقله ، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثمّ لا يرجع إلى عقل متين ، فيكون ما يفسد بجهله أكثرَ ممّا يُصلحه بعقله ، فإذا وجدتم عقله متيناً ، فرويداً لا يغرّنّكم حتّى تنظروا أمع هواه يكون على عقله ، أم يكون مع عقله على هواه؟ وكيف محبّته للرياسات الباطلة وزهده فيها؟ فإنّ في الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا ، ويرى أنّ لذّة الرياسة الباطلة أفضل من لذّة الأموال والنعم المباحة المحلّلة ، فيترك ذلك أجمع طلباً للرياسة ... ولكنّ الرجل كلّ الرجل ، نِعمَ الرجل ، هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضى الله ، يرى الذلّ مع الحقّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكهف : ١٠٣ ـ ١٠٤.

٣٢٠