مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

وعن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام قالا : حرام على روح أن تفارق جسدها حتّى ترى الخمسة ، حتّى ترى : محمّداً وعليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً عليهم السلام ، بحيث تَقَرّ عينها أو تسخن عينها (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قوله : ما يموت مُوالٍ لنا مبغض لأعدائنا ، إلّا ويحضره رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام فَيَسرّوه ويبشّروه (٢).

من حالات الاحتضار

قال الإمام الباقر عليه السلام : إنّما يغتبط أحدكم حين يبلغ نفسه ها هنا «أي الحلقوم» ، فينزل عليه ملك الموت فيقول له : أمّا ما كنت ترجو فقد أُعطيتَه ، وأمّا ما كنت تخافه فقد أَمِنتَ منه. ويُفتَح له باب إلى منزله من الجنّة ويقال له : أُنظر إلى مسكنك من الجنّة وانظر : هذا رسول الله صلى الله عليه وآله ، وعليٌّ والحسن والحسين عليهم السلام رفقاؤك ، وهو قول الله تعالى : (الذين آمنوا وكانوا يتّقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، لا تبديل لكلمات الله ، ذلك هو الفوز العظيم) (٣).

١ ـ في صورة ملك الموت وعلامات ظهور الموت :

ورد أنّ إبراهيم عليه السلام سأل ملك الموت يوماً أن يُريَه الصورة التي يقبض فيها روح المؤمن ، فقال : نعم ، أعرض عنّي فلما رآه إبراهيم عليه السلام رأى صورة شابّ حسن الوجه ، أبيض اللون ، تعلوه الأنوار في أحسن ما يتخيّل من الهيئة ، فقال : يا إبراهيم ، في هذه الصورة أقبض روح المؤمن ، فقال : يا ملك الموت ، لو لم يلقَ المؤمنُ إلّا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للطوسيّ : ٦٢٨ / ح ١٢٩٣.

٢ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٢٦٥.

٣ ـ نفسه ٢ : ١٢٤ / ح ٣٢ ، والآية في سورة يونس : ٦٣ ـ ٦٤.

٢٦١

لقاءك كفاه راحة (١).

وقال الإمام الباقر عليه السلام : إنَّ آية المؤمن إذا حضره الموت أن يَبْيضّ وجهه أشدّ من بياض لونه ، ويرشح جبينه ، وتسيل مِن عينَيه كهيئة الدموع ، فيكون ذلك آيةَ خروج روحه (٢).

ـ في كيفيّة قبض ملك الموت لروح المؤمن :

المؤمن له كرامة خاصّة على الله سبحانه ، ففي الخبر المعتبر أنّ المؤمن أعظم حرمة من الكعبة ومن جبرائيل والملائكة المقرّبين ، وما خلقه الله إلّا ليفيض عليه رحمته ، وقلنا : إنّ الرحمة الكبرى ، والنعمة العظمى هي النعمة الأُخرويّة ، ونحن الآن غير قادرين على إحصاء نِعم الدنيا ، فكيف نحيط بنعم الآخرة؟!

فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : إذا رضي الله عن عبد قال : يا ملك الموت ، اذهب إلى فلان فأْتِني بروحه ، حَسْبي مِن عمله ، قد بَلَوتُه فوجدته حيث أُحبّ. فينزل ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة معهم قضبان الرياحين وأُصول الزعفران ، كلّ واحد منهم يبشّره سوى بشارة صاحبه ، ويقوم الملائكة صفَّين لخروج روحه معهم الريحان ، فإذا نظر إليهم إبليس وضع يده على رأسه ثمَّ صرخ ، فيقول له جنوده : ما لك يا سيّدنا؟! فيقول : أما ترون ما أُعطيَ هذا العبد من الكرامة؟ أين كنتم عن هذا؟ قالوا : جَهِدْنا به فلم يطعنا (٣).

وورد كذلك : أنّ المؤمن إذا حضره الموت جاءته الملائكة بحريرة بيضاء فتقول لنفسه : أُخرجي راضيةً مرضيّةً إلى رَوْحٍ وريحان ، وربِّ غير غضبان. فتخرج

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غوالي اللآلئ ١ : ٢٧٤ / ح ١٠٠.

٢ ـ من لا يحضره الفقيه ١ : ١٣٥ / ح ٣٦٣.

٣ ـ معارج اليقين : ٤٨٨ / ح ١٣٥٨ ، بحار الأنوار ٦ : ١٦١ / ح ٢٩.

٢٦٢

كالطِّيب من المسك ، ثم يسلّ نفسه سَلّاً رفيقاً ، ثم ينزل بكفنه من الجنّة ، وحنوطه من الجنّة بمسك أذفر ، فيُكفَّن بذلك الكفن ، ويُحنَّط بذلك الحَنوط ، ثمّ يُكسى حُلّةً صفراءَ من حلل الجنّة (١).

ـ في الأشياء التي شُبّه بها موت المؤمن :

تصوّر لنا الروايات أنَّ موت المؤمن هو عمليّة خروجه من سجن الدنيا إلى رحاب ولايةِ الله وسَعةِ رحمته وضيافته ، فالموت ألذّ من الشراب البارد للعطشان ، بل هو فكّ القيود والأغلال التي كانت عليه ، وهو أعظم سرور يرد على المؤمن ، وانتقال عن دار النكد إلى نعيم الأبد ، فأيّ عاقل يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ هذا ما ورد على لسان الروايات ، ففي الأثر : ما من مؤمن يحضره الموت إلّا عُرِضَت عليه الجنّة قبل أن يموت ، فيرى موضعه فيها وأزواجه من الحور العين (٢).

وروي أنّ الإمام عليّ بن محمّد الهادي عليه السلام دخل على مريضٍ من أصحابه وهو يبكي ويجزع من الموت ، فقال له : يا عبد الله ، تخاف الموت لأنّك لا تعرفه ، أرأيتَك إذا اتّسختَ وتقذّرت وتأذّيت من كثرة القذر والوسخ عليك ، وأصابك قروح وجرب ، وعلمتَ أنّ الغسل في حمّامٍ يزيل ذلك كلَّه ، أما تريد أن تدخله فتغسل ذلك عنك ، أوَ ما تكره أن لا تدخله فيبقى ذلك عليك؟ قال : بلى يا ابنَ رسول الله.

قال عليه السلام : فذاك الموت ، هو ذلك الحمّام ، وهو آخر ما يبقى عليك من تمحيص ذنوبك ، وتَنقيتِك من سيّئاتك ، فإذا أنت وردت عليه وجاوزته فقد نجوت من كلّ غمٍّ وهَمٍّ وأذى ، ووصلتَ إلى كلّ سرور وفرح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ سنن النسائيّ ٤ : ٨.

٢ ـ تفسير مجمع البيان ١٠ : ٢٥٣.

٢٦٣

فسكن الرجل واستسلم ونشط وغمّض عين نفسه ومضى لسبيله (١).

ـ خلود المؤمن في الجنّة.

إن المؤمن إذا مات قُبِض شهيداً وصدّيقاً ، وبكته الملائكة وبقاع الأرض وأبواب السماء ، كلّ ذلك لحرمته ، وعلوّ شأنه عند ربّه ، فقد ورد في الأثر : المؤمن على أيّ حال مات ، وفي أيّ يوم مات ، وساعة قُبض فهو شهيد صدّيق (٢).

وعن الإمام الحسين عليه السلام قال : ما من شيعتنا إلّا صدّيق شهيد ، قيل : جُعلت فداك أنّى يكون ذلك وعامّتهم يموتتون على فراشهم؟ فقال عليه السلام : أما تتلو كتاب الله في الحديد : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَرُسُلِهِ أُولَـٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ) (٣). وقال : لو كان الشهداء ليس إلّا كما تقول لكان الشهداء قليلاً (٤).

وسأل رجل اسمُه مالك بن أعين الجهني الإمامَ الصادق عليه السلام قائلاً : أُدعُ اللهَ أن يرزقني الشهادة ، فقال عليه السلام : المؤمن شهيد. وتلا هذه الآية السابقة.

وقال عليه السلام : يا مالك ، إنّ الميّت منكم ـ واللهِ ـ على هذا الأمر لَشهيدٌ بمنزلة الضارب بالسيف في سبيل الله. مَن آمن بنا ، وصدّق حديثنا ، كان كمن قُتِل تحت راية القائم عليه السلام ، بلى والله تحت راية رسول الله صلى الله عليه وآله (٥).

وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله : مَن مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً (٦).

ـ في تصفية المؤمن بالموت :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ معاني الأخبار : ٢٩٠ / ح ٩ ـ باب معنى الموت ، الاعتقادات في دين الإماميّة : ٥٦.

٢ ـ تأويل الآيات ١ : ١٤١ ، معارج اليقين للسبزواريّ : ٤٧٣ ح ١٠.

٣ ـ الحديد : ١٩.

٤ ـ المحاسن : ١ ـ ١٦٤ / ح ١١٥.

٥ ـ نفسه : ١٧٤ / ح ١٥٠.

٦ ـ الكشاف ٣ : ٤٦٧.

٢٦٤

إنّ الله سبحانه إذا أحبّ مؤمناً ابتلاه بالبلايا والمحن والأمراض أو بسلطانِ سَوء ، أو جار سَوء ، أو قرين سَوء ، أو زوجة سَوء ، حتّى يَرِدّ عليه وليس عليه ذنب ، ففي المنقول عن الإمام الصادق عليه السلام : إذا أراد الله بعبد خيراً عجّل عقوبته في الدنيا ، وإذا أراد الله بعبدٍ سوءاً أمسك عليه ذنوبه حتّى يُوافي بها يوم القيامة (١).

وورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : لو أنّ المؤمن خرج من الدنيا وعليه مِثلُ ذنوب أهل الأرض لكان الموت كفّارةَ تلك الذنوب ، وما كان من راحة المؤمن هنالك فهو عاجل ثوابه ، وما كان من شدّة فيمحّصه من ذنوبه ، لِيَرِدَ الآخرة نقيّاً نظيفاً مستحقّاً لثواب الأدب ، لا مانع له من دونه (٢).

ـ في كيفيّة نداء الروح بعد خروجها.

ورد في الخبر : إذا فارق الروح البدن ، نُودي من السماء بثلاث صيحات : يا ابن آدم ، أتركتَ الدنيا أم الدنيا تركَتْك؟ أجمَعتَ الدنيا أم الدنيا جمعَتْك؟ أقتلتَ الدنيا أم الدنيا قتَلتْك؟ وإذا وُضع على المغتسل نُودي بثلاث : يا ابن آدم ، أين بدنك القويّ لِما أضعفك؟ وأين لسانك الفصيح لِما أسكَتَك؟ وأين أحبّاؤك لِما أوحشك؟ وإذا وُضع عليه الكفن نودي بثلاث : تذهب إلى سفر بعيد بغير زاد ، وتخرج من منزلك فلا ترجع أبداً ، وتصير إلى بيت أهول.

وإذا حُمل على الجَنازة نودي بثلاث : طوبى لك إن كان عملك خيراً ، وطوبى لك إن كنت صَحِبَك رضوان الله ، وويل لك إن كنت صَحِبك سخط الله ، وإذا وُضع للصلاة نودي بثلاث : يا ابن آدم ، كلُّ عمل عَمِلتَه تراه الساعة ، إن كان عملك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الخصال : ٢٠ ح ٧٠.

٢ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٤١١ / ح ٥٨٩٦ ، وقريب منه في : علل الشرائع : ٢٩٨ / ح ٢ ـ الباب ٢٣٥.

٢٦٥

خيراً تره خيراً ، وإن كان شرّاً تره شرّاً واذا وُضعَت الجنازة على شفير القبر نودي بثلاث : يا ابن آدم ، كنتَ على ظهري ضاحكاً فصرتَ في بطني باكياً ، وكنت على ظهري فَرِحاً فصرت في بطني حزيناً ، وكنت على ظهري ناطقاً فصرت في بطني ساكتاً!

وإذا أدبر الناس عنه يقول الله تعالى : يا عبدي بَقِيتَ فريداً وحيداً ، وتركوك في ظُلمة القبر وقد عصيتَني لأجلهم ، وأنا أرحمك اليوم رحمةً يتعجّب منها الخلائق ، وأنا لَأَشفَقُ عليك من الوالدة بولدها (١).

ـ في كرامات المؤمن بعد قبض الروح.

ورد في الأثر عن الإمام الصادق عليه السلام : فإذا خرَجَت النَّفْس من الجسد ، فيُعرَض عليها كما عُرض عليه وهي في الجسد ، فتختار الآخرة ، فتغسّله فيمن يغسّله ، وتقلّبه فيمن يقلّبه ، فإذا أُدرج في أكفانه ووُضع على سريره ، خرجت روحه تمشي بين أيدي القوم قُدُماً ، وتَلقّاه أرواح المؤمنين يسلّمون عليه ، ويبشّرونه بما أعدّ الله جلّ ثناؤه له من النعيم (٢).

وقيل لأبي ذرّ رضي الله عنه : كيف ترى قدومنا على الله؟ قال : أمّا المحسن منكم فكالغائب يَقْدم على أهله ، وأمّا المسيء منكم فكالآبق يَرِد على مولاه (٣).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : مستريح ومُستراح منه ، أمّا المستريح فالعبد الصالح ، استراح من غمّ الدنيا وما كان فيه من العبادة إلى الراحة ونعيم الآخرة ، وأمّا المستراح منه فالفاجر يستريح منه المَلَكانِ اللذان يحفظان عليه ، وخادمُه وأهله والأرض التي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ شجرة طوبى ٢ : ٤٤٩.

٢ ـ الكافي ٣ : ١٣٠ / ح ٢.

٣ ـ نفسه ٢ : ٤٥٨ / ح ٢٠.

٢٦٦

كان يمشي عليها (١).

ـ في تشييع الملائكة لنعش المؤمن :

ورد في الخبر : إذا مات المؤمن شيّعه سبعون ألفَ مَلَكٍ إلى قبره (٢).

وورد في الأثر المعتبر أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله خرج في جنازة الصحابيّ الشهيد سعد ابن مُعاذ بلا رداء ولا حذاء ، فسُئل صلى الله عليه وآله عن ذلك ، فقال صلى الله عليه وآله : قد شيّعه سبعون ألف ملك ، وفيهم جبرئيل بلا رداء ولا حذاء ، فتأسّيت به (٣).

وفي الروايات أنَّ أزواج المؤمن من الحور العين يتبادرون إليه بشراب من الجنّة لرفع الظمأ الذي أصابه من الموت ، فقد ورد عنهم عليهم السلام : وإذا مات المؤمن تتلقّاه أرواح المؤمنين كما يتلقّى الغائبُ غائبَه ، وقد أقبلوا عليه يسألونه عن فلان وفلان ، فإذا كان قد مات بكوا واسترجعوا ويقولون : ذهبت أمّه إلى الهاوية (٤).

وعن أبي بصير أنّه سأل الإمام الصادق عليه السلام : جُعلت فداك ، فأين ضغطة القبر؟

فقال : هيهات ، ما على المؤمنين منها شيء ، والله إنّ هذه الأرض لَتفتخر على هذه فتقول : وَطِئ على ظهري مؤمنٌ ولم يَطَأْ على ظهرِك مؤمن ، وتقول له الأرض : والله لقد كنتُ اُحبّك وأنت تمشي على ظهري ، فأما إذا ولّيتُك فستعلم ماذا أصنع بك. فتفسح له مدَّ بصره (٥).

وقال عليه السلام : فإذا بلغوا به القبر ، توثّبت إليه بقاع الأرض كالرياض الخُضر ، فقالت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٣ : ٢٥٤ / ح ١١.

٢ ـ الأمالي للصدوق : ٢٣٩ / ح ١٢ ـ المجلس ٤٨.

٣ ـ اُنظر : علل الشرائع ١ : ٣١٠ / ح ٤ ، روضة الواعظين : ٣٧٨.

٤ ـ الاختصاص للمفيد : ٣٤٦ ـ ٣٤٧ بالمضمون.

٥ ـ الكافي ٣ : ١٣٠ ح / ٢.

٢٦٧

كلّ بقعة منها : اللهمّ اجعله في بطني ، قال فَيُجاء به حتّى يُوضع في الحفرة التي قضاها الله له (١). وهي التربة التي خُلِق منها (٢).

وسُئل الإمام الصادق عليه السلام : لأيّ علّة يُغسَّل الميّت؟ فقال عليه السلام : تخرج منه النطفة التي خُلِق منها ، تخرج من عينيه أو مِن فِيه (٣).

وقال عليه السلام : يُغَسَّل الميّت لأنّه جُنُب ، ولتُلاقيه الملائكة وهو طاهر (٤). وفي رواية : إنّ المؤمن إذا وضع في حفرته ناداه ربّه تطلّفاً به : عبدي تركك أحبّاؤك والذين عصيتني لهم وحيداُ في لحدك وحفرتك ، وأنا أرحمك الآن رحمة تعجب منها الخلائق بأجمعهم ، فيقول للملائكة : اذهبوا إلى عبدي وتصلون قلبه ، وافتحوا له في قبره باباً إلى الجنّة ، ووسّعوا قبره ، واملأوه نوراً ، وأدخلوا عليه أنواع الرياحين والموائد من الطعام والشراب ثمّ اتركوه لي ، أنا مؤنسه إلى يوم القيامة.

وورد في الروايات : إنّ المؤمن يعلم بالزائر ويأنس ويفرح به (٥).

وصدق مولانا أمير المؤمنين عليه السلام فيما نُقل عنه : الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا (٦).

وقد ورد استحباب التصدّق عن الموتى ، وقراءة القرآن لهم ، والشهادة لهم بأنّا لا نعلم منهم إلّا خيراً ، والصلاة عليهم ليلة الدفن. أمّا قضاء فوائتهم العباديّة فيجب على الولد الذَّكَر الأكبر بخصوص والده ، ويُستحبّ لغيره.

وقد ورد في الخبر : فإذا توجّه الناس إلى عرصات القيامة ، فمنهم مَن يبعث الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الاختصاص للمفيد : ٣٤٧.

٢ ـ يُنظر : الكافي ٣ : ٢٥١ / ح ٧.

٣ ـ من لا يحضره الفقيه ١ : ١٣٨ / ح ٣٧٥.

٤ ـ علل الشرائع : ٣٠٠ ح ٢ ـ الباب ٢٣٨.

٥ ـ يُنظر : الكافي ٣ : ٢٢٨ / ح ٤.

٦ ـ خصائص الأئمّة للشريف الرضيّ : ١١٢.

٢٦٨

إليه ملائكة مع ناقة من نوق الجنّة فيركبها فتطير به إلى الجنّة ، فلا يرى عرصات القيامة إلّا مارّاً عليها ، وهؤلاء هم الفقراء وأهل الآفات في الدنيا والصابرون على البلايا (١).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قال : يُؤتَون بنوق لم يُرَ مِثلُها ، عليها رحائل الذهب ، وأزمّتها الزبرجد ، فيركبون عليها حتّى يضربوا أبواب الجنّة ، فقال عليّ عليه السلام : مَن هؤلاء يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله : يا عليّ هؤلاء شيعتك وأنت إمامهم ، وهو قول الله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَـٰنِ وَفْدًا) (٢). أي على الرحائل. وعنه صلى الله عليه وآله : يدخل الجنّة من أمّتي سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب. ثمّ التفت إلى عليّ عليه السلام وقال : هُم شيعتُك وأنت إمامهم (٣).

ـ بيان مقدار شفاعة المؤمن يوم القيامة :

قال سليمان بن خالد : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ : ، فقال عليه السلام : لَمّا يرانا هؤلاء نشفع لشيعتنا يوم القيامة ، يقولون : (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (٤).

وقال الباقر عليه السلام : وإنّ المؤمن لَيشفعُ في مِثْلِ ربيعة ومضر ، فإنَّ المؤمن ليشفع حتّى لخادمه ويقول : يا ربِّ حقّ خدمتي ، كان يقيني الحرّ والبرد (٥). وعن الإمام عليّ عليه السلام قال : ويشفع كلّ رجل مِن شيعتي ومَن تَولّاني ونصرني وحارب مَن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ روايات حشر المتقين مجموعة في : تفسير نور الثقلين ٣ : ٣٥٨ ـ ٣٦١ / ح ١٥١ ـ ١٥٧.

٢ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٥٢ ـ ٥٣ ، والآية في سورة مريم : ٨٥.

٣ ـ الإرشاد للمفيد ١ : ٤٢.

٤ ـ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ٢ : ١٤ ، والآية في سورة الشعراء : ١٠٠ ـ ١٠١.

٥ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

٢٦٩

حاربني بفعلٍ أو قولٍ في سبعين ألفاً من جيرانه وأقربائه (١).

ولا عجب من ذلك ، فقد ورد في الخبر المعتبر أنَّ الله خلق الرحمة والمحبّة مائة جزءاً ، وجعل جزءاً منها في الخلق كلّهم ، بها يتراحم الناس ، وتحنّ الأمّ على ولدها ، وتحنّ الأمّهات من الحيوانات على أولادها ، وأبقى تسعة وتسعين ، فإذا كان يوم القيامة أضاف هذا إلى هذه فيرحم بها الخلائق. بل ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : ينادي منادٍ يوم القيامة من تحت العرش : يا أمّة محمّد صلى الله عليه وآله ، ما كان لي قِبَلَكم فقد وهبتُه لكم ، وقد بَقِيتِ التبعات بينكم فتواهبوا وادخلوا الجنّة برحمتي (٢). وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ، فأمّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل (٣).

ودخل مولى لامرأة الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام على الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام ـ يقال له أبو أيمن ـ فقال : يا أبا جعفر ، يغرّون الناس وتقولون شفاعة محمّد ، شفاعة محمّد! فغضب أبو جعفر عليه السلام حتّى تربّد وجهه ثمّ قال : وَيْحَك يا أبا أيمن! أغرّك أن عَفَّ بطنك وفرجك ، أما لو قد رأيت أفزاعَ يوم القيامة ، لقد احتجت إلى شفاعة محمّد صلى الله عليه وآله. وَيْلك! وهل يشفع إلّا لمن وجَبَت له النار.

ثمّ قال عليه السلام : ما من أحد من الأوّلين والآخرين إلّا وهو محتاج إلى شفاعة محمّد يوم القيامة ، ثمَّ قال عليه السلام : إنّ لرسول الله صلى الله عليه وآله الشفاعة في أمّته ، ولنا الشفاعة في شيعتنا ، ولِشيعتِنا الشفاعة في أهاليهم (٤). نرجو القارئ العزيز أن يراجع مبحث

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الخصال : ٤٠٨ / ح ٦.

٢ ـ عدّة الداعي : ١٣٦.

٣ ـ التوحيد : ٤٠٧ / ح ٦ ، من لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٧٤ / ح ٤٩٦٣.

٤ ـ المحاسن : ١٨٣ ـ ١٨٤ / ح ١٨٥ ، تفسير القمّيّ ٢ : ٢٠٢.

٢٧٠

الشفاعة من هذا الكتاب للازدياد والاستفادة.

وروى الصدوق في «التوحيد» أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال : إن الله تبارك وتعالى أقسم بعزّته وجلاله أن لا يعذّب أهل توحيده بالنار إبداً (١). وقال : إنّ الله حرّم أجساد الموحّدين على النار (٢).

وفي حديث سلسلة الذهب عن الإمام الرضا عليه السلام : قال الله : لا إله إلّا الله حِصْني ، فَمَن دخل حصني أمِنَ مِن عذابي ، بشروطها ، وأنا مِن شروطها (٣).

وقال الباقر عليه السلام في شفاعة فاطمة عليها السلام لمحبّيها : والله يا جابر ، إنّها عليها السلام ذلك اليومَ لَتلتقط شيعتها ومحبّيها كما يلتقط الطير الحبَّ الجيّد من الحبّ الرديء (٤).

ـ عدم جواز أحد على الصراط إلّا ومعه براءة من عليّ عليه السلام ، فقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : إذا كان يومُ القيامة ونُصب الصراط على جهنّم ، لم يَجُزْ عليه إلّا مَن معه جواز فيه ولا ية عليّ بن أبي طالب عليه السلام وذلك قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) ، يعني عن ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام (٥).

وفي خبر آخر : إذا كان يومُ القيامة أمر الله جبرئيل عليه السلام أن يجلس على باب الجنّة ، فلا يدخلها إلّا مَن معه براءة من عليّ بن أبي طالب عليه السلام (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ التوحيد : ٢٠ / ح ٦.

٢ ـ التوحيد : ٢٠ / ح ٧.

٣ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ١٣٥ / ح ٤ ـ الباب ٣٧ ، الأمالي للصدوق : ١٩٥ / ح ٩ ـ المجلس ٤١ ، التوحيد : ٢٥ / ح ٢٣.

٤ ـ تفسير فرات الكوفي : ٢٩٩ / ح ٤٠٣.

٥ ـ الأمالي للطوسيّ : ٢٩٠ ، والآية في سورة الصافّات : ٢٤.

٦ ـ كشف اليقين : ٣٠٤.

٢٧١

أمّا وصف الجنّة التي أعدّها الله للمتّقين ، فقد ورد في الأثر الصحيح : ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر (١).

هذا غيض من فيض ، وقطرة من بحر ممّا ورد في الآثار ، نسأل الله سبحانه أن يشملنا بعفوه وكرمه.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله المعصومين الطاهرين وسلّم تسليماً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ من لا يحضره الفقيه (٤) : ١٧ / ح ١ ـ الباب ٤٩٢ في ذكر جملةٍ من مناهي النبيّ صلى الله عليه وآله.

٢٧٢

المبحث الثالث والثلاثون : في المعرفة

قال عليه السلام : مَعْرِفَتي يا مَوْلايَ دَليلي عَلَيْكَ ، وَحُبّي لَكَ شَفيعي اِلَيْكَ ، وَاَنا واثِقٌ مِنْ دَليلي بِدَلالَتِكَ ، وَساكِنٌ مِنْ شَفيعي اِلى شَفاعَتِكَ.

قسّم علماء المعقول المُدرَكات قسمين :

الأوّل : المُدرَكات الحسّية : والطريق الموصل إليها الحواسّ ، كالبصر والسمع والذوق والشمّ واللمس ، وتكون اللّذة في إدراكها والتوصّل إليها من حيث الموافقة والملاءمة بينها وبين الإنسان ، ومن هذه اللذائذ لذّة الطعام والشراب والنكاح وغيرها.

الثّاني : المُدرَكات العقليّة : وهي ما تدركه القوى العاقلة المدركة ، وتختلف هذه الإدراكات من شخص لآخر كلّ بحسب مستواه واستعداده العقليّ ، وكذلك باختلاف فضائل وشرف المعارف. ومعرفة الله أرقى وأعظم كلّ المعارف ، لأنّه تعالى أشرف الوجودات ، ولا توجد لذّة أعظم من إدراك معرفته سبحانه ، حتّى نُقل عن شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسيّ قدس سره قوله : لو علم الملوك لذّة العلم والمعرفة لحاربونا عليها.

٢٧٣

ومعرفة هذه اللّذة لا يدركها واقعاً من ذاقها ، ونعم ما قيل : من ذاق عرف (١).

إنّ تعلّم العلوم كلّها تخلق لذّة عند المعلّم ، ولكنّ لذّة طلب العلم بالله وصفاته وآثاره وشرائعه لا تعادلها لذّة. ونحن نلاحظ على مستوى الحسّيات الفارقَ الكبير بين لذّة ولذّة ، وبين شخص وآخر.

ولذّة المعرفة بالله تتطلّب مسيرة ارتقائيّة طويلة في تجاوز الماديّات والغرائز والأهواء ، كما تتطلّب تجاوز الانشداد إلى عالم الحسّ للوصول إلى عالم التجرّد ومراقي الكمال العقليّ والخلوص النفسيّ ، وهذه ليست كتاباُ يُقرأ ، ولا محاضرة تُلقى ، بل هي رحلة جهاديّة ، ورياضة نفسيّة صعبة لا ينالها إلّا ذوو النفوس الكبيرة وأصحاب الآمال الواسعة ، أُولئك الذين توجّهت نفوسهم إلى عالم الكمال والبقاء السرمديّ وميدان الربوبيّة غير المتناهي. إنّ هذه الرحلة بمثابة إحراق الذهب بالنار لتخليصه من الكدورات والشوائب ، وإنّ العارف بالله يجد الله عنده وأمامه ووراءه في كلّ حركة وسكنة ، بل في كلّ نَفَس ، فتراه بعيداً عن مشاغل الدنيا وهمومها ، ونعيمها وشقائها ، وخيرها وشرّها ، إنّه مستغرق ذائب في ذات الله ، ومتلذّذ بلذّة اللقاء.

أُنظر هذا التسلسل رجاءً : المعرفة ثمّ الكمال ثمّ السعادة.

روى طاووس اليماني أنّه شاهد الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام يطوف ويتعبّد من العشاء إلى السَّحَر ، ثمّ أخذ بالمناجاة والبكاء ، يقول طاووس : ثمّ خرّ إلى الأرض ساجداً ، فدنوت منه وأخذت رأسه ووضعته على ركبتي ، وبكيت حتّى جرت دموعي على خدّه ، فاستوى جالساً وقال عليه السلام : من الذي أشغلني عن ذكر ربّي؟ (٢)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ٣ : ١٥٩.

٢ ـ مناقب آل أبي طالب : ٢٩١ ، الصحيفة السجّاديّة (ط الأبطحي) : ١٧٧.

٢٧٤

وهذه اللذّة لا يعرفها إلّا من ذاقها ، إذ كيف تصف لذّة مشاهدة المشاهد الخلّابة والصور الجميلة ليتلذّذ بها الأعمى ، أو سماع الأصوات الجميلة الرقيقة ليجد الأصمّ لذّة سماعها؟

والمانع من بلوغ وإدراك هذه اللذّة ، والحاجب الذي يحول بين الإنسان وربّه هو الذنوب والمعاصي والانشداد إلى النزوات والتراب بدلاً من ربّ الأرباب ، فكلّما كانت النفوس أقرب إلى الكمال والنقاء كانت أقرب إلى حالات التجلّي ، وهذا يقودها إلى ساحة اللذّة أكثر.

وتختلف درجات العارفين ومقامات السالكين بقدر معرفتهم بالله سبحانه ، وأرقى ما يمكن تصوّره هو عبادة النبيّ صلى الله عليه وآله وأهل بيته المعصومين عليهم السلام ، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك ، ولا طمعاً في ثوابك ، ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك (١).

وقال عليه السلام : الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنّة ، لأنَّ الجنّة فيها رضا نفسي ، والجامع فيه رضا ربّي (٢).

وقد وضع الشارع المقدّس علامة دالّة على صدق المعرفة ، وهي حبّ لقاء الله سبحانه وعدم التمسّك بعرى الدنيا وأسباب البقاء.

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّـهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غوالي اللآلئ ٢ : ١١ / ح ١٨ ، بحار الأنوار ٤١ : ١٤ / ح ٤. وفي بعض المصادر : ما عبدتُك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنّتك. [بحار الأنوار ٦٧ : ١٦٨ ، ٢٣٤ ، مرآة العقول للشيخ المجلسي ٢ : ١٠١ ـ باب النيّة].

٢ ـ اُنظر : عدّة الداعي : ١٩٤.

٢٧٥

الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (١).

وقال سبحانه : (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّـهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (٢).

إنّ الوليّ يحبّ لقاء وليّه ، ويبذل قصارى جهده للقائه ، ولا حاجب يحول بين الوليّ ووليّه إلّا الموت ليتمّ اللقاء القدسيّ ، ويتحقّق الفوز بالجنّة والكرامة.

سُئل أمير المؤمنين عليه السلام : هل رأيت ربّك حينَ عبدته؟ فقال عليه السلام : وَيلك! ما كنت أعبد ربّاً لم أره ، قيل : وكيف رأيته؟ قال عليه السلام : ويلك! لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان (٣).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : إنّ روح المؤمن لَأشدُّ اتصالاً بروح الله من اتّصال شعاع الشمس بها (٤).

وقال الإمام الحسين عليه السلام في دعائه يوم عرفة : كيفَ يُستدَلُّ عليكَ بِما هُوَ في وَجودِهِ مُفتَقِرٌ إليك؟! أيكونُ لِغيرِك مِنَ الظهور ما ليسَ لك ، حتّى يكونَ هو المُظهَرِ لك؟! متى غِبتَ حتّى تَحتاجَ إلى دليل يَدُلُّ علَيك؟! ومتى بَعُدتَ حتّى تكونَ الآثارُ هيَ التي تُوصِلُ إليك؟! عَمِيَتْ عَينٌ لا تَراك عَلَيها رقيباً ، وخَسِرَت صَفقةُ عبدٍ لم تَجعَلْ له مِن حُبّْك نصيباً (٥).

إنّ طريق المعرفة بالله سبحانه يختلف من شخص لآخر ، فالنفوس القدسيّة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الجمعة : ٦.

٢ ـ البقرة : ٩٤.

٣ ـ الكافي ١ : ٩٨ / ح ٦.

٤ ـ الكافي ٢ : ١٦٦ / ح ٤.

٥ ـ إقبال الأعمال : ٦٣٣.

٢٧٦

هي التي تنطلق من معرفة الله سبحانه لتعرف آثاره ومخلوقاته ، فيكون وجوده تعالى دليلاً على وجودها ، وهذا الطريق صعب وغامض ، ولا تدركه العقول البسيطة.

أمّ الطريق العادي فهو التفكّر في خلق السماوات والأرض وآثار الوجود الإلهيّ المقدّس ، لتقوده إلى معرفة الموجد وعظمة الخالق المنعم.

قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١).

يقول السيّد الطباطبائيّ في «الميزان» : والمعنى : أوَ لم يكفِ في تبيّن الحقّ كونُ ربّك مشهوداً على كلّ شيء ، إذ ما من شيء إلّا وهو فقير من جميع جهاته إليه ، متعلّق به وهو تعالى قائم به قاهر فوقه ، فهو تعالى معلوم لكلّ شيء وإن لم يعرفه بعض الأشياء (٢).

فالعارفون الحقيقيّون يرون أنّ الله أظهر الموجودات ، وأنّه نور السماوات والأرض ، الظاهر بنفسه ، المُظهِر لغيره ، وهذا الوجود المقدّس قائم بنفسه ، يقوم به غيرُه ، أمّا غيره فهو متقوّم بغيره ، فيكون الوجود الإلهيّ أظهر.

وهنا نشير إلى بعض الملاحظات :

١ ـ هناك سؤال مفاده : هل إنّ المعرفة بالله تقود إلى المعرفة بالنفس والآفاق؟ أم إنّ المعرفة بالنفس والآفاق تقود إلى المعرفة بالله؟

هناك أدلّة تشير إلى الفرض الأوّل ، فقد ورد في دعاء أبي حمزة الثماليّ الذي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ فصّلت : ٥٣.

٢ ـ تفسير الميزان ١٧ : ٤٠٥.

٢٧٧

نحن بصدد شرحه : قوله عليه السلام : بِكَ عَرَفْتُك وأنتَ دَلَلْني عَلَيك ، ودَعَوتَني إلَيك ، ولَولا أنتَ لَم أدْرِ ما أنت ، وذكرنا مناجاة الإمام الحسين عليه السلام ، وهي المعنى والمقصد كليهما نفسيهما.

عن عثمان بن سعيد النائب الأوّل للإمام الحجّة عجّل الله تعالى في فرجه الشريف ، جاء في المناجاة المرويّة عن صاحب العصر والزمان : اَللّهمّ عرِّفْني نفسَك ، فإنّك إنْ لم تُعرِّفْني نفسَك لم أعرِفْ رسولَك ، اَللّهمّ عرِّفْني رسولَك ، فإنّك إن لم تُعرِّفْني رسولَك لم أعرِفْ حُجّتَك ، اَللّهمّ عرِّفْني حُجّتَك ، فإنّ إن لم تُعرِّفْني حُجّتَك ضَلَلْتُ عَن دِيني (١).

وقال الإمام عليّ عليه السلام : لو كُشف ليَ الغطاء ما ازددتُ يقيناً (٢).

وعنه عليه السلام : إعرفوا اللهَ بالله ، والرسولَ بالرسالة ، وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان (٣).

قال الشيخ الصدوق : القول الصواب في هذا الباب هو أن يقال : عرفنا الله بالله ، لأنّا إن عرفناه بعقولنا فهو عزّ وجلّ واهبها ، وإن عرفناه عزّ وجلّ بأنبيائه ورسله وحججه عليهم السلام فهو عزّ وجلّ باعثهم ومرسلهم ومتّخذهم حججاً ، وإن عرفناه بأنفسنا فهو عزّ وجلّ مُحْدثها ، فبه عرفناه.

وقد قال الصادق عليه السلام : لولا الله ما عُرِفْنا ، ولولا نحن ما عُرِفَ الله ، ومناه : لولا الحُجج ما عُرِف الله حقّ معرفته ، ولولا الله ما عُرِف الحجج (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مصباح المتهجّد : ٢٦٩ ، جمال الأسبوع : ٣١٥ ، إكمال الدين : ٥١٢ / ح ٤٣ ـ الباب ٤٥.

٢ ـ مناقب آل أبي طالب ٢ : ٤٧ ـ فصل في المسابقة بالعلم.

٣ ـ الكافي ١ : ٨٥ / ح ١ ـ باب أنّه لا يُعرَف إلّا به.

٤ ـ التوحيد : ٢٩٠.

٢٧٨

وقال الإمام عليّ عليه السلام في «نهج البلاغة» : أوّلُ الدِّين معرفتُه ، وكمالُ معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له (١).

وقال عليه السلام : معرفة الله سبحانه أعلى المعارف (٢).

وهناك أدلّة تشير إلى الفرض الثاني ، فقد قال تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّـهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا) (٣).

وقال سبحانه : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) (٤) ، وقال عزّ شأنه : (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) (٥) ، وقال جلّ وعلا : (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) (٦) ، وقال سبحانه : (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (٧). وورد في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله : مَن عَرَف نفسَه فقد عَرَف ربَّه (٨).

وورد : أعرَفُكم بنفسه أعرفُكم بربّه (٩).

وعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قوله : عَرَفتُ الله سبحانه بفسخ العزائم وحلّ العقود ونقض الهمم (١٠).

وعنه عليه السلام قوله : اطلبوا العلم ولو بالصين ، وهو علم معرفة النفس ، وفيه معرفة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١.

٢ ـ عيون الحكم والمواعظ : ٤٨٦ ، غرر الحكم : ٣١٩.

٣ ـ النمل : ٩٣.

٤ ـ الروم : ٢١.

٥ ـ الروم : ٢٢.

٦ ـ الروم : ٢٤.

٧ ـ فصّلت : ٣٧.

٨ ـ مصباح الشريعة : ١٣ ، غوالي اللآلئ ٤ : ١٠٢ / ح ١٤٩.

٩ ـ روضة الواعظين : ٢٠ ، الاقتصاد للطوسيّ : ١٤.

١٠ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٢٥٠ ، عيون الحكم : ٣٣٩.

٢٧٩

الربّ عزّ وجلّ (١).

نقول : إنّ النفوس المقدّسة الراقية تكون عندها الأولويّة معرفة الله ، ومنها تنطلق إلى معرفة النفس والآيات الآفاقيّة ، أمّا النفوس العادية فهي تنظر في الآثار وعظيم الخلق ، وتتفكّر وتتدبر ، فيقودها هذا التفكّر والتدبّر إلى معرفة الربّ ، ولكن هنالك ملازمة موضوعيّة بين المعرفة بالله والمعرفة بالنفس ، فكلّما ازدادت إحداهما ، قابلتها الأُخرى بالزيادة.

يقول السيّد الطباطبائيّ : إنّ القوانين الاجتماعيّة في الإسلام مقدّمة للتكاليف العباديّة مقصودة لأجلها ، والتكاليف العباديّة مقدّمة للمعرفة بالله وبآياته ، فأدنى الإخلال أو التغيير في الأحكام الإجتماعيّة من الإسلام يوجب فساد العبوديّة ، وفساد العبوديّة يؤدّي إلى اختلال المعرفة.

وهذه النتيجة ـ على أنّها واضحة التفرّع على البيان ـ تؤيّدها التجربة أيضاً ، فإنّك إذا تأمّلت جريان الأمور في طروق الفساد في شؤون الدين الإسلامي بين هذه الأمّة ، وأمعنت النظر فيه ؛ من أين شرع ، وفي أين ختم ، وجدت أنّ الفتنة ابتدأت من الاجتماعيّات ، ثمَّ توسّطت في العباديّات ، ثمّ انتهت إلى رفض المعارف ، وقد ذكرنا فيما مرّ أنّ الفتنة شرعت باتّباع المتشابهات وابتغاء تأويلها ، ولم يزل الأمر على ذلك حتّى اليوم (٢).

أُنظر هذا التسلسل رجاءً :

القوانين الاجتماعيّة ، ثمَّ التكاليف العباديّة ، ثمَّ المعرفة بالله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مصباح الشريعة : ١٣ ـ عنه : بحار الأنوار ٢ : ٣٢ / ح ٢١.

٢ ـ تفسير الميزان ٣ : ٥٩.

٢٨٠