مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

قال : وقلت لجعفر بن محمّد ، لِمَ منعتَ الساعي أن يحلف بالله تعالى؟ قال : كرهتُ أن يراه الله يوحّده ويمجّده فيحلم عنه ويؤخّر عقوبته ، فاستحلفته بما سمعت فأخذه الله أخذة رابية (١).

وقال الكفعميّ في هامش كتاب «البلد الأمين» ، على ما نقله الشيخ عبّاس القمّي صاحب كتاب «مفاتيح الجنان» : دعاء الجوشن الصغير دعاء معتبر رفيع الشأن ، عظيم المنزلة ، دعا به الكاظم عليه السلام ، وقد همّ موسى الهادي العبّاسي بقتله ، فرأى عليه السلام جدّه النبيّ صلى الله عليه وآله في المنام فأخبره بأنّ الله تعالى سيقضي على عدوّه (٢).

وورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : من خاف اللهَ أخاف اللهُ منه كلَّ شيء ، ومَن لم يَخَفِ الله أخافه الله من كلّ شيء (٣).

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الإرشاد للمفيد ٢ : ١٨٤ ، روضة الواعظين : ٢٠٩ ، إعلام الورى ١ : ٢٥٢.

٢ ـ مفاتيح الجنان : ١٦٨ «مع الترجمة الفارسية».

٣ ـ الكافي ٢ : ٦٨ / ح ٣ ، من لا يحضره الفقيه ٤ : ٤١٠ / ح ٥٨٩٠.

٦١

المبحث التاسع : في الإحسان

الإحسان : أعمّ من الجود والكرم ومِن فعل الحَسَن ، ويقابله الإساءة والعدوان.

قال تعالى : (إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١) وقد سًمّيت هذه الآية الشريفة بآية مكارم الأخلاق ، إذ جاءت بالأحكام التي تحقّق أمانيَّ وتطلّعات الصالح العام وحفظ مصالح النوع.

العدل هو المساواة في المكافأة ، إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشرّ.

أمّ الإحسان فهو أن يقابل الخير بما هو أكثر منه ، وأن يقابل الشرّ بالأقل أو بالعفو والتجاوز ، والإحسان مفهوم إيجابيّ وموقف لا يصدر إلّا من ذوي النفوس الكبيرة التي لها قِيمها المتميّزة ومُثلها العليا ، إذ بعفها هذا تبعث الحبّ والمودّة ، وتزرع حدائق الإخلاص الحميدة ، وتنشر الأمن والاستقرار في الجتمع.

وقد ورد على لسان الروايات المعتبرة أنَّ العدل هو الإنصاف ، والإحسان هو التفضّل ، وورد أنّ المحسن هو الذي يقول في الناس أحسنَ ما يحب أن يقال فيه ، ومن أوضح مصاديق الإحسان الجودُ والكرم والسخاء ومكارم الأخلاقِ واصطناع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النحل : ٩٠.

٦٢

المعروف للغير.

روي أنّ حُذَيفة العَدَويّ قال : انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمّ لي في القتلى ، ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رمق سقيته ، فإذا أنا به من القتلى ، فقلتُ له : أسقيك؟ فأشار إليَّ أن أسقيَ رجلاً بجانبه ، وكان يجود بنفسه ، فذهبت لأسقيه فأشار إليّ أن أسقي رجلاً ثالثاً ، فذهبت إليه فوجدته ميّتاً ، فرجعت إلى الثاني فوجدته ميّتاً ، وعندما رجعت إلى ابن عمّي وجدته ميّتاً (١). ونعم ما قيل : والجود بالنفس أقصى غاية الجود (٢).

وقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه قال : الخَلق عيال الله ، فأحَبُّ الخلق إلى الله مَن نفع عيال الله ، وأدخل على أهل بيتٍ سروراً (٣).

وعنه صلى الله عليه وآله أيضاً : من سرّ مؤمناً فقد سرّني ، ومن سرّني فقد سرّ الله (٤).

وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : السخيّ قريب من الله ، قريب من الجنّة ، قريب من الناس ، بعيد من النار. والبخيل بعيد من الله ، بعيد من الناس ، بعيد من الجنّة ، قريب من النار (٥).

وورد عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : السخاء ما كان ابتداءً ، فأمّا ما كان عن مسألةٍ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تجد القصّة مفصّلة في : تفسير الثعلبي ٩ : ٢٧٩ ، وتفسير القرطبيّ ١٨ : ٢٨ ، وتاريخ مدينة دمشق ٣٨ : ١٨٠.

٢ ـ البيت لمسلم بن الوليد كما في : تاريخ بغداد ١٣ : ٩٨ وهو أمدح بيت ، وصدره : يجود بالنفس إن ضنِّ البخيلُ بها. وفي تاريخ الطبريّ ٧ : ٢٢٢ أنشده محمّد بن الجهم للمأمون العباسيّ.

٣ ـ الكافي ٢ : ١٦٤ / ح ٦.

٤ ـ نفسه ٢ : ١٨٨ / ح ١.

٥ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ١٢ / ح ٢٧ ، عن أبي الحسن عليه السلام ، روضة الواعظين : ٣٨٥.

٦٣

فحياءٌ وتذمّم (١).

وعنه عليه السلام : الجنّة دار الأسخياء (٢).

والإيار على النفس مع الخصاصة من مصاديق الإحسان الواضحة ، قال الله تعالى : (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) (٣) ، وقال سبحانه وتعالى في آل محمّد عليهم السلام : (ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) (٤).

وكان من عظمة أخلاق أمير المؤمنين عليه السلام أن إذا أتاه طالب في حاجة يقول له : اكتبها على الأرض ، فإنّي أكره أن أرى ذلّة السؤال في وجه السائل (٥).

وقال أبان بن تغلب لأبي عبد الله عليه السلام : أخبرني عن حقّ المؤمن على المؤمن ، فقال عليه السلام : يا أبان ، تقاسمه شطر مالك. ثم نظر عليه السلام إليّ فرأى ما دخلني ، فقال عليه السلام : يا أبان ، أما تعلم أنَّ الله عزّ وجلّ قد ذكر المؤْثرين على أنفسهم؟ قلت : بلى جُعِلتُ فداك ، فقال عليه السلام : أمّا إذا أنت قاسمتَه فلم تؤثره بعد ، إنّما أنت وهو سواء ، إنّما تؤثره إذا أنت أعطيتَه من النصف الآخر (٦).

وعن الإمام ال حسن بن عليّ عليهما السلام : لو جُعِلَت الدنيا لقمةً واحدة وَلقّمتُها مَن يعبد الله ، لرأيتُ أنّي مقصّرٌ في حقّه (٧).

وقد أوصى أئمّة الهدى شيعتهم بالتواصل فيما بينهم ، ففي المروي عن أبي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٥٣.

٢ ـ تفسير مجمع البيان ٢ : ٢٩٣ ، تفسير الثعلبيّ ٣ : ١٥٠.

٣ ـ الحشر : ٩.

٤ ـ الإنسان : ٨.

٥ ـ إرشاد القلوب للديلميّ : ١٣٦ ـ وعنه : مستدرك الوسائل ٧ : ٢٣٨ / ح ٦.

٦ ـ الكافي ٢ : ١٧٢ / ح ٨.

٧ ـ التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري عليه السلام : ٣٢٩ / ح ١٨٨.

٦٤

إسماعيل قال : قلت لأبي جعفر الباقر عليه السلام : جُعلتُ فداك ، إنّ الشيعة عندنا كثير ، فقال : فهل يعطف الغنيّ على الفقير ، وهل يتجاوز المحسن عن المسيء وَيتواسَون؟ فقلت : لا ، فقال عليه السلام : ليس هؤلاء شيعة ، الشيعة مَن يفعل هذا (١).

وقال سعيد بن الحسن : قال أبو جعفر الباقر عليه السلام أيضاً : أيجيء أحدكم إلى أخيه فيُدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟ فقلت : ما أعرف ذلك فينا ، فقال عليه السلام : فلا شيءَ إذن ، قلت : فالهَلَكةُ إذن؟ فقال عليه السلام : إنَّ القوم لم يُعطَوا أحلامهم بعد (٢).

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ألا أنبّئكم بالمؤمن؟ المؤمن مَن ائتمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم ، ألا أنبّئكم بالمسلم؟ مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر السّيئات وترك ما حرّم الله. والمؤمن حرام على المؤمن أن يظلمه أو يخذله أو يغتابه أو يدفعه دفعة (٣).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : من إجلال الله عزّ وجلّ إجلالُ المؤمن ذي الشيبة ، ومَن أكرم مؤمناً فبكرامة الله بدأ ، ومَن استخفّ بمؤمن ذي شيبة أرسل الله إليه من يستخفّ به قبلَ موته (٤).

وقيل : رأى شابّ شيخاً محدودب الظهر ، فقال له : يا شيخ ، بِكَم اشتريت هذا القوس؟ فقال له : يأتيك بلا ثمن. وقال شيخ آخر لمن سأله : اشتريتُه بكلمة قلتُها قبلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ١٧٣ / ح ١١ ، شرح الأخبار للقاضي النعمان ٣ : ٥٠٥.

٢ ـ كتاب المؤمن للحسين بن سعيد : ٤٤ / ح ١٠٣.

٣ ـ الكافي ٢ : ٢٣٥ / ح ١٩.

٤ ـ نفسه ٢ : ٦٥٨ / ح ٥.

٦٥

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا معشر من أسلم بلسانه ولم يُسْلم بقلبه ، لا تتّبعوا عثرات المسلمين ، فإنّه مَن تتبّع عثرات المسلمين تتبّع الله عثرته ، ومن تتبَّعَ الله عثرته يفضحْه (١).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله لعليّ عليه السلام : يا عليّ ، ثلاث خصال من مكارم الأخلاق : تُعطي مَن حرمك ، وتَصِل من قطعك ، وتعفو عمّن ظلمك (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : من قضى لأخيه المؤمن حاجة ، فكأنما عبَدَ اللهَ دهره (٣).

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى عليه السلام : إنّ من عبادي من يتقرّب إليّ بالحسنة فأُحكّمه في الجنّة ، فقال موسى : يا ربِّ ، وما تلك الحسنة؟ قال : يمشي مع أخيه المؤمن في قضاء حاجته ، قُضِيتْ أو لم تُقْضَ (٤).

وقال أبان بن تغلب : سمعت أبا عبد الله (الصادق) عليه السلام يقول : من طاف بالبيت أُسبوعاً كتَبَ الله عزّ وجلّ له ستّة آلاف حسنة ، ومحا عنه ستّة آلاف سيّئة ، ورفع له ستّة آلاف درجة ، ثمَّ قال عليه السلام : وقضاء حاجة المؤمن أفضل من طوافٍ وطوافِ ، حتّى عدّ عشراً (٥).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : من أعان مؤمناً نفّس الله عزّ وجلّ عنه ثلاثاً وسبعين كُربة ، واحدة في الدنيا ، وثنتين وسبعين كربةً عند كُربته العظمى قال : حيثُ يَتشاغل الناسُ بأنفسهم (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٥٥ / ح ٤.

٢ ـ الخصال للصدوق : ١٢٥ / ح ١٢١ ـ عنه : بحار الأنوار ٦٦ : ٣٧١ / ح ١٣.

٣ ـ الأمالي للطوسيّ : ٤٨١ / ح ٢٠.

٤ ـ الكافي ٢ : ١٩٦ / ح ١٢.

٥ ـ نفسه ٢ : ١٩٤ / ح ٦.

٦ ـ نفسه ٢ : ١٩٩ / ح ٢.

٦٦

وقال الإمام الصادق عليه السلام للمفضّل : إنّ الله عزّ وجلّ خَلَق خلقاً من خلقه انتجبهم لقضاء حوائج فقراء شيعتنا ، لِيُثيبَهم على ذلك الجنّة ، فإن استعطتَ أن تكون منهم فكن (١).

ثمّ يأتي النداء الصارخ ، المثير للهمم ، الموقظ للضمائر : قال الرسول صلى الله عليه وآله : مَن أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس منهم ، ومَن سمع رجلاً ينادي : يا لَلمسلمين! فلم يجبه فليس بمسلم (٢).

وقد أوصى الإسلام برعاية حقّ الجوار والإحسان إليهم ، حتّى ورد عنه صلى الله عليه وآله : ما زال جبرائيل يوصيني بالجار حتّى ظننتُ أنّه سيورثه (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : ما آمن بي مَن بات شعبانَ وجارُه جائع (٤).

وقال أبو عبد الله عليه السلام : حُسنُ الجور يَعْمُر الديار ، ويزيد في الأعمار. وعن الإمام الكاظم عليه السلام قال : ليس حُسنُ الجوار كفّ الأذى ، ولكنّ حسن الجوار صبرُك على الأذى (٥).

وورد عنهم عليهم السلام : من خان جاره شبراً من الأرض ، طوّقه الله تعالى يوم القيامة إلى سبع أرضين ناراً حتّى يدخله جهنم (٦). والمؤذون للجيران يأتون في المحشر مقطوعي الأيدي والأرجل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ١٩٣ / ح ٢.

٢ ـ نفسه ٢ : ١٦٤ / ح ٥.

٣ ـ دعائم الإسلام ٢ : ١٨٨ / ح ٢٦٥.

٤ ـ الكافي ٢ : ٦٦٨ / ح ١٤.

٥ ـ نفسه ٢ : ٦٦٦ / ح ٨.

٦ ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٨١.

٦٧

وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله : من أكرم الضيف فقد أكرم سبعين نبيّاً (١).

وقالا لإمام عليّ عليه السلام يوصي أبناءه : تنتافسوا إلى المكارم ، وسارعوا إلى الغنائم ، واعلموا أنَّ حوائج الناس إليكم نعمتُه تعالى عليكم ، وأجود الناس من يُعطي مَن لا يرجوه ، ومَن نفّس عن مؤمن كربةً نفّس الله عنه اثنتين وسبعين كربةً من كرب الدنيا ، واثنتين وسبعين كربة من كرب الآخرة ، ومَن أحسن أحسن الله إليه ، والله يحبّ المسحنين.

صلة الأرحام وبرّ الوالدين

وأولى الإسلام عناية فائقة بصلة الأرحام ، حتّى ورد عنه صلى الله عليه وآله : لا صدقة وذو رَحِمِ محتاج (٢).

وقال الإمام الباقر عليه السلام : صلة الأرحام تزكّي الأعمال ، وتدفع البلوى ، وتنمّي الأموال ، وتُنْسئ له في عمره ، وتوسّع في رزقه ، وتحبّب في أهل بيته ، فليتّقِ اللهَ ولْيصِلْ رحمه (٣).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام ورد قوله : إنّ المرء لَيصِلُ رحمه وقد بقي من عمره ثلاث سنين ، فيمدّه الله إلى ثلاثين سنة ، وإنّه ليقطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاثون سنة ، فيصيّره الله إلى ثلاث سنين ، وتلا قولَه سبحانه وتعالى : (يَمْحُو اللَّـهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (٤).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : لمّا أُسريَ بي إلى السماء رأيت رحماً متعلّقة بالعرض تشكو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ اُنظر : الأذكار النوويّة : ٢٢٩ باب الثناء على من أكرم ضيفه.

٢ ـ من لا يحضره الفقيه ٢ : ٦٨ / ح ١٧٤٠ ، الاختصاص للمفيد : ٢١٩.

٣ ـ الكافي ٢ : ١٥٢ / ح ١٣.

٤ ـ الأمالي للطوسيّ ٤٨٠ / ح ١٠٤٩ ، والآية في سورة الرعد : ٣٩.

٦٨

رحماً إلى ربّها ، فقلت لها : كم بينَكِ وبينها من أب؟ فقالت : نلتقي في أربعين أباً (١).

وورد عنه صلى الله عليه وآله قوله : قال الله سبحانه تعالى : أنا الرحمن وهذه الرَّحِم ، شَقَقْتُ لها اسماً من اسمي ، فَمَن وصلها وصلتُه ، ومن قطعها قطعته (٢).

وأوصى الإسلام ببرّ الوالدين ورعايتهما على وجه التمام والكمال ، وقال تعالى : (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) (٣).

جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فقال : يا رسول الله مَن أبِرَ؟ قال صلى الله عليه وآله : أُمَّك ، قال : ثمّ من؟ قال صلى الله عليه وآله : أُمّك ، قال : ثمّ من؟ قال صلى الله عليه وآله : أُمّك ، قال : ثمّ من؟ قال صلى الله عليه وآله : أباك (٤).

وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : بُرّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم ، وعُفّوا عن نساء غيركم تعفَّ نساؤكم (٥).

وجاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فقال : يا رسول الله ، أَوصِني ، فقال صلى الله عليه وآله : لا تشرك بالله شيئاً وإن حَرِّقتَ بالنار وعُذّبت إلّا وقلبُك مطمئنٌ بالإيمان ، ووالدَيك فأطِعْهما وبَرِّهما حَيَّينِ كانا أو ميّتين وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل ، فإنّ ذلك من الإيمان (٦).

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : إنّ العبد لَيكون بارّاً بوالديه في حياتهما ثمّ يموتان فلا يقضي عنهما دُيونَهما ، ولا يستغفر لهما ، فيكتبه الله عاقّاً. وإنّه لَيكون عاقّاً لهما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الخصال : ٥٤٠ / ح ١٣.

٢ ـ المبسوط للطوسيّ ٣ : ٣٠٧.

٣ ـ الإسراء : ٢٣.

٤ ـ الكافي ٢ : ١٥٩ / ح ٩.

٥ ـ نفسه ٥ : ٥٥٤ / ح ٥.

٦ ـ الكافي ٢ : ١٥٨ / ح ٢.

٦٩

في حياتهما غيرَ بارٍّ بهما ، فإذا ماتا قضى دَينَهما واستغفر لهما ، فيكتبه الله عزّ وجلّ بارّاً (١).

وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وآله : ما حقّ الوالد على ولده؟ قال صلى الله عليه وآله : لا يُسمِّيه باسمه ، ولا يمشي بين يديه ، ولا يجلس قَبلَه ، ولا يَسْتَسِبُّ له (٢).

وقال السلميّ : أتيت النبيّ صلى الله عليه وآله أستشيره في الجهاد ، فقال صلى الله عليه وآله : ألَكَ والدة؟ قلت : نعم ، قال صلى الله عليه وآله : اذهب فأكرمها ، فإنّ الجنّة تحت رجليها (٣).

وقال الشيخ عبّاس القمّيّ قدس سره في «منازل الآخرة» : من جملة ما يهوّن سكرات الموت : صلة الرحم وبرّ الوالدين (٤).

وروى الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : من أحبّ أن يخفّف الله عزّ وجلّ عنه سكرات الموت فَلْيكن لقرابته وَصُولاً ، وبوالديه بارّاً ، فإذا كان كذلك هوّن الله عليه سكرات الموت ، ولم يُصِبْه في حياته فقر أبداً (٥).

وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله حضر شاباً عند وفاته فقال له : قل : لا إله إلّا الله ، فاعتقل لسانُه مراراً ، فقال صلى الله عليه وآله لامرأةٍ عند رأسه : هل لهذا أمُّ؟ قالت : نعم ، أنا أمّه ، قال صلى الله عليه وآله : أفَساخطةٌ أنت عليه؟ قالت : نعم ، ما كلّمتُه منذ ستّ حُجج ، قال صلى الله عليه وآله لها : إرضي عنه ، قالت : رضي الله عنه يا رسول الله برضاك عنه.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : قل : لا إله إلّا الله. فقالها ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله : ما ترى؟ فقال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي (٢) : (١)٦٣ / ح ٢١.

٢ ـ الكافي (٢) : (١)٥٩ / ح (٥). والمراد مِن يَستسبّ له ، أي لا يفعل ما يصير سبباً لسبّ الناس له ، كأن يسبّهم أو يسبّ آباءهم ، وقد يسبّ الناسُ والد من يفعل فعلاً قبيحاً.

٣ ـ الاستيعاب (١) : ٢٦٧.

٤ ـ منازل الآخرة : ٢٣ والمعنى مستفاد من روايات عديدة.

٥ ـ الأمال للصدوق : ٤٧٣ / ح ٦٣٥.

٧٠

الشاب : أرى رجلاً أسودَ قبيحَ المنظر وَسِخَ الثياب نتنَ الريح قد وَلِيَني الساعة وأخذ بكظمي (حنجرتي).

فقال له صلى الله عليه وآله : قل : يا من يقبل اليسير ، ويعفو عن الكثير ، إقبَلْ منّي اليسير ، واعفُ عنّي الكثير ، إنّك أنت الغفور الرحيم. فقالها الشاب.

فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله : أنظر ماذا ترى؟ قال : أرى رجلاً أبيض اللون ، حسن الوجه ، طيّب الريح ، حسن الثياب ، قد وَلِيَني ، وأرى الأسود قد تولّى عنّي.

قال له : أعِدْ. فأعاد «الدعاء» ، فقال له : ما ترى؟ قال : لست أرى الأسود ، وأرى الأبيض قد وليني. ثمّ طفى «مات» على تلك الحال (١).

وأوصي عزيز القارئ الكريم أن يقرأ ، بل يدرس «رسالة الحقوق» لسيّدنا ومولانا عليّ بن الحسين عليه السلام ، فإنّ فيها من المعارف الإلهيّة ، والمواعظ البليغة ما يحتاج إليها كلّ مسلم.

وتَلخَّص ممّا ذكرناه أنّ الخير والفيوضات والأفضال كلّها بيد الله ، فليجتهد العبد في طلبها من مظانّها ، وبالشروط ووفق سنن الأسباب والنواميس.

وأنَّ النجاة لا تُستطاع إلّا بالله رغم كون الإنسان مختاراً ، بل مأموراً بسلوك واعتماد السنن ، لأنّ هذه السنن أسباب وراءها مُسبِّب ، ولا تنفذ إلّا بمشيئة الله تبارك وتعالى.

وإنّ الذي أحسن لم يستغنِ عن عون الله ورحمته وتوفيقه ، ولو شاء الله أن يمنعه أو يسلبه التوفيق لفعل ، وإنّ المسيء المجرّئ على الله ، السادر في غيّه وبغيه وكبره وطغيانه غيرُ خارج عن قدرة الله ، وإنّ الله قادر على منعه أو أخذه أخذَ عزيز

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للمفيد : ٢٨٧ / ح ٦.

٧١

مقتدر.

وفيما شرحناه آنفاً الكفاية ، ومن الله نستمدّ التسديد في القول والفعل ، والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

٧٢

المبحث العاشر : المعرفة والهداية والفطرة والعقل

قال عليه السلام : يا ربِّ يا ربِّ يا ربِّ ... بِكَ عَرَفْتُكَ ، وَاَنْتَ دَلَلْتَني عَلَيْكَ ، وَدَعَوْتَني اِلَيْكَ ، وَلَوْلا اَنْتَ لَمْ اَدْرَ ما اَنْتَ.

يتوجّه الداعي مخاطباً ربّه باعتباره المالك المطلق المدبّر لأمر مملوكه ، فالربوبيّة هي الملك مع التدبير ، ومن كانت هذه صفته استحقّ الطاعة والعبادة التي هي من سمات الأُلوهيّة له وحده دون غيره.

ولمّا كانت جميع الموجودات مملوكة لله ، وتستمدّ وجودها ونظام حياتها حدوثاً وبقاءً من الله ، فإنّنا نحكم بأن لا ربوبيّة لها لمكان احتياجها ونقصها ؛ إذن فهي أرباب مزيّفة وآلهة مصطنعة رسمها الخيال الفاسد.

فالله هو الذي خلق الكون والحياة ، وهو الذي خلق الشمس والقمر والنجوم ، ودبّر أمر حركتها وسيّرها وفق السنن المرسومة.

وهو الله ينزّل من السماء ماءً بِقَدَر ، وهو الذي يخرج الزرع والشجر ، وهو الذي خلق الإنسان وجعل له الحواسّ والأعضاء التي بها قضاء متطلّبات حياته ، وهو الذي خلق البحار والأنهار والهواء بتقديراتٍ تناسب حياة المخلوقات.

وذلك التدبير لا يشاركه فيه أحد ، لذلك لا يستحقّ العبادة والطاعة غيره ، أمّا الأفكار الساذجة المنحرفة عن جادّة العقل ومسار الفطرة فقد توجّهت إلى عبادة

٧٣

الأصنام والأوثان ، معتقدة أنّ لها القابليّة على تدبير أمر الموجودات ، فقالوا بأنّهم يعبدونها كشفعاء إلى الله لتقرّبهم إليه زلفى ، فوقعوا في الضلالة والعماية عن رؤية الحقّ ، ومشاهدة فطرة الكون والوجود الناطقة بتوحيده وتسبيحه.

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ

تَدُلُّ على أنّه واحِدُ (١)

إنّ شاهد الحال في الإنسان مهما بلغ من العلم والقوّة والشرف والعزّة والمكانة ، فإنّه يشعر فطرياً وغريزياً بأنّه محتاج إلى الله في تدبير أموره ورفع حوائجه وسدّ نواقصه ، فالحاجة لسانُ حالٍ ناطق بمربوبيّة الإنسان وبربوبيّة الخالق سبحانه.

وكما أنّ الإنسان محتاج إلى ربّه في مسائل التكوين ، فهو محتاج إليه سبحانه في قضايا المعرفة والهداية الخاصّة ، فقد حصر الله سبحانه مهمّة التشريع والهداية بنفسه فقط ، إذ علم سبحانه أنّ الإنسان قاصر عن إدراك مصالحه الحقيقيّة والواقعيّة ، ولمّا كان الإنسان مركّباً من عقل وجسم وغريزة ، فإنّ الصراع بين هذه العوامل طالما يقوده إلى عالم الغفلة عن الله ، والتشريعات الوضعيّة ستحمل نفس صفاته من النقص والأنانيّة والتعصّب وعدم الموضوعيّة.

وقد رأينا ما فعل الطغاة والمتكبّرون بالأمم والشعوب بتشريعاتهم وطرق تنفيذها ، وبسوء سيرتهم في الحكم ، حتّى قال أحد عتاتهم : إنّ القوانين مِن صنع أنفسنا ، نشرّعها متى نشاء ، ونلغيها متى نشاء.

لقد ربطت التشريعات السماويّة بين الإنسان وخالقه ، وبين العلم والعمل ، وبين الفعل والجزاء ، وبين متطلّبات الروح ومتطلّبات الجسد ، وبين الدنيا والمعاد ، وهذه التكاليف العباديّة تقوم بدورها الإيجابيّ في تطهير النفوس وتثبيت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ حكاه الثعلبيّ في : تفسيره ١٠ : ١٦٨ ، والراغب الأصفهانيّ في : مفرداته : ٣٦٨.

٧٤

القلوب ، والسير بالإنسان إلى مراقي الكمال والإخلاص.

إنّ التكاليف العباديّة التي تقوّي أواصر العلاقة بالله تعالى وتدعو إلى الانصياع والانقياد للقانون والنظام المرسوم ممّا يعمّق المعرفة بالله ، ويرسّخ مبدأ العبوديّة له ، وذلك غاية ما تطمح إليه النفوس في تحقيق سعادتها المنشودة.

ويتلخّص ممّا ذكرناه أنّ الهداية التكوينيّة والتشريعيّة محصورتان بالله وحده لا يشاركه فيهما أحد ، وإذا قلنا : إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله أو الإمام يشرّ ، فمن حيث إنّه لا ينطق عن الهوى ، إنْ هو إلا وحي يُوحى ، أو من ناحية التسديد الإلهيّ وصفاء نفوسهم وقدسيّتها ، فتكون الهداية الصادرة منهم واقعةً في طول الهداية الإلهيّة لا في عرضها.

وحركة الإنسان إنّما تكون بين هدايتين :

الأُولى : هداية تكوينيّة قائمة على سلامة العقل ونقاء الفطرة التي تدعو إلى التوحيد والإيمان بالمعارف الحقّة.

والثانية : هي الهداية التشريعية التي لها الأثر التربويّ في رسم المناهج الحياتيّة للفرد والأُسرة والمجتمع.

نعود إلى الهداية التكوينيّة لنسلّط الأضواء على ما ورد في قضايا الفطرة والعقل :

قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (١).

وقبل الخوض في خضمّ مبحث العقل والفطرة نرجو إمعان النظر في هاتين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الروم : ٣٠.

٧٥

المعادلتين :

١ ـ لمّا كان المُلْك التكوينيّ لله وحده ، فهذا يقتضي أن تكون الطاعة التكوينيّة لله وحده ، وهذا أمر مشاهد ومحسوس ، بل هو من المسلّمات العقليّة.

٢ ـ لمّا كان المُلْك التشريعي لله وحده ، فهذا يقتضي أن تكون العبادة لله وحده. والفطرة المشار إليها هي الإيجاد والإبداع على نحو يدعو إلى التوجّه إلى الله سبحانه في الطاعة والعبادة ، ومن هنا ستتحقّق الهداية التشريعيّة للإنسان. إذن فالهداية التكوينيّة تقود إلى الهداية التشريعيّة ، قال تعالى : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ) (١).

وقال سبحانه : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ) (٢).

إنّ كلّ كائن في الوجود يسير إلى كماله المنشود وفق السنن الإلهيّة المرسومة ، فهذه البذرة ـ بعد استكمال العلل والأسباب والشرائط ـ تصبح شجرة ، وهذه النطفة تتوجّه في مسيرتها التكامليّة لتصبح حيواناً أو إنساناً ، وهذا ما نطلق عليه الهداية الإلهية العامّة.

ويشهد لذلك ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله : كلُّ مولودٍ يُولَد على الفطرة. يعني على المعرفة بأنّ الله عزّ وجلّ خالقه (٣).

وما ورد عنه صلى الله عليه وآله قوله : ما مِن مولودٍ إلّا يُولد على الفطرة ، فأبواهُ يُهوّدانِه ويُنصّرانِه ويُمجّسانِه (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ طه : ٥٠.

٢ ـ الأعلى : ٢ ـ ٣.

٣ ـ التوحيد للصدوق : ٣٣١ / ح ٩.

٤ ـ صحيح مسلم ٨ : ٥٢.

٧٦

أمّا العقل الفطريّ فقد جعله الله حجّة باطنيّة على الإنسان ، في الوقت الذي جعل الرسل والأنبياء حجّة خارجيّة عليه ، وبذلك تكون الحجّة البالغة لله على الإنسان.

يدلّ على ذلك ما ورد عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : لمّا خلق الله العقل استنطقه ثمّ قال له : أققبِلْ ، فأقبل ، ثمّ قال له : أدبِرْ ، فأدبر ، ثمّ قال : وعزّتي وجلالي ، ما خلقتُ خلقاً هو أحبُّ إليّ منك ، ولا أكملتُك إلّا فيمن أُحبّ ، أما إنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى ، وإيّاك أعاقب وإيّاك أُثيب (١).

وعن الأصبغ بن نباتة عن الإمام عليّ عليه السلام قال : هبط جبرئيل عليه السلام على آدم عليه السلام فقال : يا آدم ، إنّي أُمرت أن أُخيّرك واحدةً من ثلاث ، فاختَرْها وَدعِ اثنتين ، فقال له آدم عليه السلام : يا جبرئيل ، وما الثلاث؟ فقال : العقل والحياء والدين ، فقال آدم عليه السلام : إني قد اخترت العقل ، فقال جبرئيل للحياء والدين : إنصرِفا ودَعاه ، فقالا : يا جبرئيل ، إنّا أُمرنا أن نكون مع العقل حيث كان (٢).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال معرِّفاً العقل : ما عُبِد به الرحمن ، واكتُسِب به الجنان (٣). من كان عاقلاً كان له دين ، ومن كان له دين دخل الجنّة (٤). وعن الإمام الكاظم عليه السلام قال : يا هشام ، إنّ الله تبارك وتعالى أكمَلَ للناس الحَججَ بالعقول ، ونصر النبيّين بالبيان ، ودَلَّهم على ربوبيّته بالأدلّة (٥).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ١ : ١٠ / ح ١.

٢ ـ نفسه ١ : ١٠ / ح ٢.

٣ ـ نفسه ١ : ١١ / ح ٣.

٤ ـ نفسه ١ : ١١ / ح ٦.

٥ ـ نفسه ١ : ١٣ / ح ١٢.

٧٧

ونعود لنسلّط الأضواء على الهداية التشريعيّة وأهمّيتها فنقول : لمّا كان الإنسان مدنيّاً بالطبع ، وكان ذا نزعات مختلفة ومقاصد شتّى ، كان الكائنَ الوحيد الذي يحتاج إلى أنظمة وقوانين تنظّم شؤون الفرد والأسرة والمجتمع.

ومن هنا يأتي الاعتقاد بوجوب الهداية التشريعيّة الخاصّة ، وذلك ممّا أوجبه الله على نفسه من باب رحمته وحكمته. والدين عبارة عن عقيدة ، وهي النظرة في الكون والحياة ، ومن هذه العقيدة ينبثق النظام والمناهج الحياتيّة التي تكفل للإنسان حقوقه الاعتباريّة والمادّية ، وتبيّن واجباته تجاه نفسه وغيره من أجل إرساء قواعد العدل والمساواة والحريّة والأخلاق الحميدة.

إنّ العقائد الحقّة هي التي تدعو الإنسان وتشدّه إلى رعاية القانون وتطبيقه استشعاراً بالرقابة الغيبيّة ، واحتراماً للمقدّسات ، وبدونها تتفكّك أواصر الوحدة ، وتنهدم قواعد النظام ، وتعمّ الفوضى وتتحكّم الأهواء بمسيرة الإنسان.

أمّا السعادة الإنسانية فإنّها تقاس بمقدار صلاح الإنسان الفرد ، والإنسان المجتمع ، وبمقدار صلاحيّة القانون. ولمّا كان التشريع الإسلاميّ لا ينفكّ عن هيئة الوجود التكوينيّ المرتبط بالله حدوثاً وبقاءً ، فإنّ التشريعات الإلهيّة تحمل جانب الكمال التي تقود الإنسان إلى رُقيّة وسعادته.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

٧٨

المبحث الحادي عشر : في تحميد الله

قال عليه السلام : اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي اَدْعوُهُ فَيُجيبُني ، وَاِنْ كُنْتُ بَطيئاً حينَ يَدْعوُني ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي اَسأَلُهُ فَيُعْطيني وَاِنْ كُنْتُ بَخيلاً حينَ يَسْتَقْرِضُني.

قلنا في مبحث الدعاء : إنّ هناك آداباً للدعاء ينبغي مراعاتها لتكون وسيلة للاستجابة ، ومنها أن يحمد الداعي ربَّه ويمجّده ويثني على آلائه قبل الشروع في الدعاء.

قال الراغب : الحمد لله تعالى : الثناء عليه بالفضيلة ، وهو أخصّ من المدح ، وأعمّ من الشكر ، فإنّ المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره ، فقد يُمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه ، كما يُمدَح ببذله مالَه وسخائِه وعلمه ، والحمد يكون في الثاني دون الأول ، والشكر لا يقال إلّا في مقابل نعمة ، فكلّ شكر حمد ، وليس كلّ حمدٍ شكراً ، وكلّ حمدٍ مدح ، وليس كلّ مدحٍ حمداً ، ويقال : فلان محمود : إذا كثرت خصاله المحمودة (١).

إذن الحمد هو الثناء على الجميل الاختياريّ ، فالله سبحانه هو مصدر كلّ خير ونعمة ، وجمال وكمال ، وعلم وقدرة ، وعزّة وكرامة وغيرها من المُثل والأخلاق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مفردات غريب القرآن : ١٣١.

٧٩

والفيوضات ، وحمد الله لا يُدرك أبداً ، لأنّ الناقص لا يدرك كمالات المطلق ، وقد ورد في الآثار المعتبرة عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : لا أُحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيتَ على نفسك (١).

ويصوّر لنا الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام في مناجاة الشاكرين من الصحيفة السجّادية التي هي زبور آل محمّد بحقّ وجدارة ، أنّ إدراك شكره وحمده سبحانه ممّا لا يُدرك ، لأنّ ذلك ممّا سوف يوقعنا في التسلسل الذي لا ينتهي إلى حدٍ أو نقطةٍ ما ....

قال عليه السلام : فآلاؤك جَمَّةق ضَعُفَ لساني عن إحصائها ، ونَعماؤك كثيرة قَصُر فَهْمي عن إدراكها ، فضلاً عنِ استقصائها ، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إيّاك يفتقر إلى شكر ، فكلّما قلت لك الحمد ، وجب عَلَيّ لذلك أن أقول لك الحمد (٢).

القارئ العزيز يتنفّس أريج التواضع ، ويشمّ رائحة الانكسار والتذلّل أمام عظمة الله سبحانه حين التوجّه إليه بالدعاء. ونكاد نرى أنّه عليه السلام يذوب في الله حبّاً وشوقاً ، ورغبةً ورهبة ، فنقف والحيرة تضرب علينا بجرانها أمام خشوعه عليه السلام وورعه ، وصفاء فطرته ، ومتانة عقله. فإنّ التواضع أمام الله سبحانه يكاد يُميّز هذا الدعاء عن غيره بهذه السمة.

في التواضع

التواضع هو التذلل والتخشّع ، فنقول : فلان تواضع ، أي تذلّل وتَخشّع ، والخشوع هذا من مظاهر الذلّة في النفس والحطّ من قدره ، وهو ليس في الواقع وضيعاً ولا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٣ : ٣٢٤ / ح ١٢.

٢ ـ الصحيفة السجّادية : ٤١٠.

٨٠