مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

ثمَّ يشفع الدعاء بعد ذلك بالثناء على محامده تبارك وتعالى وعظيم صفاته ، فيصفه بالكرم والحلم ، والأحكميّة والستر ، وعظيم المغفرة ، وبعلمه المطلق للغيب ، ليطرق بابه تعالى طالباً العفو والمغفرة والإقالة ، وكأنّ لسان حاله يقول : اللهمّ أنت الربُّ وأنا المربوب ، وأنت الخالقُ وأنا المخلوق ، وأنت المالكُ وأنا المملوك ، وأنت المعطي وأنا السائل ، وأنت الرازق وأنا المرزوق ، وأنت القادر وأنا العاجز ، وأنت القويّ وأنا الضعيف ، وأنت المُغيث وأنا المستغيث ، وأنت الدائم وأنا الزائل ، وأنت الكبير وأنا الحقير ، وأنت العظيم وأنا الصغير ، وأنت المولى وأنا العبد ، وأنت العزيز وأنا ال ذليل ، وأنت الرفيع وأنا الوضيع ، وأنت المدبِّر وأنا المدبَّر ، وأنت الباقي وأنا الفاني ، وأنت الديّان وأنا المُدان ، وأنت الباعث وأنا المبعوث ، وأنت الغنيّ وأنا الفقير ، وأنت الحيّ وأنا الميّت ، تجد مَن تعذّب يا ربِّ غيري ، ولا أجدُ مَن يرحمُني غيرَك (١).

الستر : كما أسلفنا هو التغطية على الذنب والعيب ، وهو من الأخلاق الفاضلة المندوب إليها عقلاً وشرعاً ، وأعظم الساترين على ذنوب العباد ومعاصيهم هو الله سبحانه ، وقد وصفه الإمام السجّاد عليه السلام هنا بأنّه تعالى خير الساترين ، ونحن مأمورون بالتخلّق بأخلاق الله سبحانه وتعالى ، فقد ورد عن معاوية بن وهب قوله : سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول : إذا تاب العبد المؤمن توبةً نصوحاً ، أحبّه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة ، فقلت له : وكيف يستر عليه؟ قال : يُنسي ملَكَيه ما كتبا عليه ، وأوحى إلى جوارحه : اكتمي عليه ذنوبه ، وأوحى إلى بقاع الأرض : اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب. فيلقى الله حين يلقاه وليس شيءٌ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ بحار الأنوار ٩٩ : ٢١ ـ ٢٢ / ح ١٠.

٣٦١

يشهد عليه بالذنوب (١).

وعن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود النبيّ عليه السلام : يا داود ، إنّ عبديَ المؤمن إذا أذنب ذنباً ثمّ رجع وتاب من ذلك الذنب ، واستحيى منّي عند ذكره ، غفرتُ له وأنسيته الحفظة وأبدلته الحسنة ، ولا أبالي وأنا أرحم الراحمين (٢).

قال أمير المؤمنين عليه السلام : مَن تاب تاب الله عليه ، وأُمِرَت جوارحه أن تستر عليه ، وبقاع الأرض أن تكتم عليه ، وأُنسِيَت الحفظة ما كانت تكتب عليه (٣).

وورد في الحديث الشريف : إنّ الله تعالى إذا ستر على عبد عورته في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها في الآخرة ، وإذا كشفها في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها [مرّةً] أخرى (٤).

وورد كذلك : أنّه يُؤتى يوم القيامة بعبد يبكي ، فيقول الله سبحانه له : لِمَ تبكي؟ فيقول : أبكي على ما سينكشف عنّي من عوراتي وعيوبي عند الناس والملائكة ، فيقول الله : عبدي ، ما افتضحتك في الدنيا بكشف عيوبك وفواحشك وأنت تعصيني وتضحك ، فكيف أفضحك اليوم بكشفها وأنت تطيعني وتبكي؟! (٥)

وورد في طيّات دعاء كميل المشهور قول أمير المؤمنين عليه السلام : فأسألُك بالقُدرةِ التي قَدَّرتَها ، وبالقضيّةِ التي حَتَمتَها وحَكَمتَها ، وغَلَبتَ مَنْ عَلَيهِ أجْرَيتَها ، أنْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ثواب الأعمال : ١٧١.

٢ ـ نفسه : ١٣٠.

٣ ـ نفسه : ١٧٩.

٤ ـ جامع السعادات ٢ : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٥ ـ نفسه ٢ : ٢٧٢.

٣٦٢

تَهبَ لي في هذه اللّيلَة وفي هذه الساعَة ، كلَّ جُرمٍ أجرَمتُه ، وكلّ ذَنبٍ أذنَبتُه ، وكلَّ قَبيحٍ أسررتُه ، وكلَّ جَهلٍ عَمِلتُه ، كَتَمتُه أو أعلنتُه ، أخفيتُه أو أظهَرتُه ، وكلَّ سيّئةٍ أمرتَ بإثباتِها الكرامَ الكاتبينَ الذينَ وَكّلتَهم بِحِفظِ ما يَكونُ منّي ، وجَعلتَهم شُهوداً علَيّ مَع جَوارِحي ، وكنتَ أنت الرقيبَ علَيَّ مِن ورائِهم ، والشاهدَ لِما خَفِيَ عنهم ، وبرحمتِك أخفيتَه ، وبِفَضلِكَ سَتَرْتَه (١).

ونحن مأمورون بستر عيوب المؤمنين وإخفائها لئلّا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وهذا من الأحكام الأخلاقية التي أمر بها الشارع المقدّس للحفاظ على كرامة المؤمن ، وصون الأعراض ، وحقن الدماء ، وهذه الفضيلة السلوكيّة يترتّب عليها الثواب الكبير الموعود من قبل الله سبحانه وتعالى.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : مَن ستر على مسلمٍ ستره الله في الدنيا والأخرة (٢) ، وقال صلى الله عليه وآله : لا يستر عبدٌ عيبَ عبدٍ إلّا ستره الله يوم القيامة (٣).

وعنه صلى الله عليه وآله : لا يرى امرؤ من أخيه عورة فيسترها عليه إلّا دخل الجنّة (٤).

وهناك شريحة كبيرة في هذا المجتمع لا هَمَّ لها إلّا طلب عثرات المؤمنين وإحصاؤها وإشاعتها ، تعبيراً عن مخابئ العداوة والحسد والنقوص النفسيّة والبعد عن الله ، وليعلم هؤلاء أنّ عملهم هذا من الكبائر التي أوعد الله عليها النار ، إذ هي من مصاديق التجسّس وإشاعة الفاحشة ، وقد قال الله تعالى فيه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مصباح المتهجّد : ٨٤٤ / ح ٩١٠ ، إقبال الأعمال ٣ : ٣٣٦.

٢ ـ جامع السعادات ٢ : ٢٧١.

٣ ـ نفسه ٢ : ٢٧١.

٤ ـ نفسه ٢ : ٢٧١.

٣٦٣

بَعْضًا) (١).

والتجسّس هو تتّبع ما استتر من أمور الناس للاطلاع عليه ، وفيه هتك لحرمات المؤمنين التي هي من حرمات الله ، ففي الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه قال : من استمع خبر قوم وهم له كارهون صُبَّ في أذنهِ الآنك يوم القيامة! (٢) والآنك هو الرصاص الذائب.

وهذه الحالة في من حُبّ شيوع الفاحشة في الذين آمنوا ، وجوابها في قوله تبارك وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (٣).

ولا شكّ أَنّ هذه الصفات النفسانيّة الرذيلة من أمراض الباطن التي تقود إلى الطبع على القلب وانتكاسته وانعدام الرؤية ، ولهذه الصفات آثار اجتماعيّة مقيتة ، لأنّها تبذر الفُرقة بين صفوف المؤمنين ، وتصادر هويّاتهم وتهدم مروءتهم ، وتمرّغ كراماتهم في الوحل.

إنّ إشاعة الفاحشة في الوسط الاجتماعيّ لها أثر كبير وخطير في تشجيع العوامّ على التوثّب والتجرّؤ على محارم الله ، حيث يسهل على النفس فعل المنكر بعد شيوعه والاعتياد عليه ، وبعد أن يصبح حالة مألوفة لا تهتزّ لها المشاعر ولا تنكرها الأذواق ، وهنا يقلّ دور العاملين وتأثيرهم في عمليّة الإًلاح والتغيير.

وهنالك حالة مرضيّة أخرى ، هي إحصاء الأخطاء وادّخارها إلى وقت المشاجرة والخصومة ، وقد قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام : إنّ أقرب ما يكون العبد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الحجرات : ١٢.

٢ ـ جامع السعادات ٢ : ٢٠٨.

٣ ـ النور : ١٩.

٣٦٤

إلى الكفر أن يواخي الرجلُ الرجلَ على الدِّين ، فيُحصي عليه عثراته وزلّاته ليعنّفه بها يوماً ما! (١)

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : أبعدُ ما يكون العبد من الله أن يكون الرجل يواخي لرجلٍ هو يَحفظ عليه زلّاته ليعيِّره بها يوماً ما (٢).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قال : من أذاع فاحشةً كان كمبتدئها ، ومن عيّر مؤمناً بشيء لم يَمُت حتّى يَركبَه (٣).

وروى عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام قال : قلت له : عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ قال : نعم ، قلت : يعني سِفْلَيه؟ «أي عورته البدنية» ، قال عليه السلام : ليس حيث تذهب ، إنّما هو إذاعة سرّه (٤).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : من روى على مؤمن روايةً يريد بها شَينَه وهدم مروءته ليسقط من أعين الناس ، أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان (٥).

وهذه الرواية فيما إذا رأى منه عيباً حقيقيّاً ، أمّا لو كانت الرواية افتراءً فهو من الإفك والبهتان ، وذلك أشدّ. وقد أعطانا الإمام موسى بن جعفر عليه السلام درساً تربويّاً مهمّاً في قطع دابر هؤلاء واستئصال شوكتهم ، في موعظة حسنة بليغة مرويّة عن محمّد بن الفضيل ، قال : قلتُ له : جُعلت فداك ، الرجل من إخواني يبلغني عنه الشيء الذي أكرهه ، فأسأله عنه فينكر ذلك ، وقد أخبرني عنه قومٌ ثِقات؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المحاسن : ١٠٤ / ح ٨٣ ، الكافي ٢ : ٣٥٤ / ح ٣.

٢ ـ الكافي ٢ : ٣٥٥ / ح ٧.

٣ ـ نفسه ٢ : ٣٥٦ / ح ٢ ، المحاسن ١ : ١٠٤ / ح ٨٢ وفيه : ومَن عيّر مسلماً ....

٤ ـ المحاسن : ١٠٤ / ح ٨٣ ، الكافي ٢ : ٣٥٨ / ح ٢.

٥ ـ المحاسن : ١٠٣ / ح ٧٩ ، الكافي ٢ : ٣٥٨ / ح ١ وفيه : ... إلى ولاية الشيطان ، فلا يقبله الشيطان!

٣٦٥

قال عليه السلام : يا محمّد ، كذّبْ سمعك وبصرك عن أخيك ، فإن شهد عندك خمسون قَسامة (١) ، وقال لك قولاً فصدّقه وكذّبهم ، ولا تُذيعنّ عليه شيئاً تَشينه به وتهدم به مروءته ، فتكون من الذين قال الله في كتابه : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (٢).

والقَسامة خمسون شاهداً.

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا معشرَ مَن أسلم بلسانه ولم يُسلم بقلبه ، لا تَتَّبِعوا عثرات المسلمين ، فإنّه من تتبَّع عثرات المسلمين تَتبَّع الله عثرتَه ، ومَن تتبَّع الله عثرته يفضحه (٣).

وقد اعتبر الشارع الأعظم الحديث والمجالس أمانة لا يجوز كشفها إلّا برخصة من أصحابها ، قال النبيّ صلى الله عليه وآله : إذا حدّث الرجل الحديث ثمّ التفت ، فهي أمانة (٤).

وقال صلى الله عليه وآله : الحديث بينكم أمانة.

وورد في الأثر المعتبر : أنّ من الخيانة أن تحدّث بسرّ أخيك (٥).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : قولوا الخير تُعرَفوا به ، واعملوا الخير تكونوا من أهله ، ولا تكونوا عُجُلاً مَذاييع ، فإنّ خياركم الذين إذا نُظر إليهم ذُكر الاله ، وشراركم المشّاؤون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ قال ابن درير : القَسامة : الجماعة من الناس يشهدون أو يحلفون على الشيء ، وسُمّوا قسامة لأنّهم يقسمون على الشيء أنّه كان كذا وكذا ، أو لم يكن. [ترتيب جمهرة اللغة ٣ : ١٣٣ ـ «قسم»].

٢ ـ الكافي ٨ : ١٤٧ / ح ١٢٥ ، وسائل الشيعة ١٢ : ٢٩٥ / ح ١٦٣٤٣ ، والآية في سورة النور : ١٩.

٣ ـ الكافي ٢ : ٣٥٥ / ح ٤.

٤ ـ سنن الترمذي ٣ : ٢٣٠ / ح ٢٠٢٥.

٥ ـ جامع السعادات ٢ : ٢٧٣.

٣٦٦

بالنميمة ، المفرّقون بين الأحبّة ، المبتغون للبُرآء المعايب (١).

وفي الحديث المشهور قال النبيّ صلى الله عليه وآله : المسلم مَن سَلِم المسلمون من يده ولسانه (٢).

وفي الأخبار أنّ شاذويه بن الحسين القمّيّ قال : دخلت على أبي جعفر «الباقر» عليه السلام وبأهلي حَبَل «حمل» ، فقلت : جُعلت فداك ، أُدعُ الله أن يرزقني ولداً ذكراً. فأطرق عليه السلام مليّاً ثمّ رفع رأسه فقال : إذهبْ فالله يرزقك غلاماً ـ قالها ثلاث مرّات ـ.

قال : فقدمت مكّة فصرت إلى المسجد ، فأتى محمّد بن الحسن بن صباح برسالة من جماعة من أصحابنا ، منهم : صفوان بن يحيى ، ومحمّد بن سنان ، ومحمّد بن أبي عمير وغيرهم ، فأتيتهم فسألوني ، فأخبرتهم بما قال عليه السلام ، فقالوا لي : فهمت عنه عليه السلام ذكراً وزكيّاً؟

فقلت : ذكراً قد فهمت ، قال محمّد بن سنان : إمّا أنت ستُرزق ولداً ، إنّه إمّا يموت على المكان أو يكون ميّتاً ، فقال أصحابنا لمحمّد بن سنان : أسأتَ ، قد علمنا الذي علمت ، فأتى غلام في المسجد فقال لشاذويه القمّي : أدرك فقد مات أهلك. قال : فذهبت مسرعاً ، فوجدتها على شُرف الموت ، ثم لم تلبث أن ولدت غلاماً ميّتاً (٣).

وروي أنّ الإمام الباقر عليه السلام تأذّى من تصرّف محمّد بن سنان لأنّه أذاع سرّاً من أسراره عليه السلام من دون رخصة منه ، وقيل : إنّ الإمام الباقر عليه السلام لم يكلّم محمّد بن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٢٢٥ / ح ١٢.

٢ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٦٢ ـ باب النوادر / ح ٥٧٦٢.

٣ ـ معجم رجال الحديث ١٧ : ١٦٦ ، وفي طبعة أخرى ١٦ : ١٧٤.

٣٦٧

سنان حتّى مات.

وفي «الكافي» في قوله تعالى : (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ) (١) ، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قرأ الآية فقال عليه السلام : واللهِ ما قتلوهم بأيديهم ، ولا ضربوهم بأسيافهم ، ولكنّهم سمعوا أحاديثهم فأذاعوها ، فأُخذوا عليها فقُتِلوا ، فصار قتلاً واعتداءً ومعصية (٢).

لقد كان العالم الكبير محمّد بن سنان ضحيّة لسانه ، هذا اللسان الذي هو أخطر جوارح الإنسان وأشدّها إضراراً بالمرء ، فهو الوسيلة التي يستعملها ضعاف النفوس والإيمان في الخوض بالباطل ، وهتك حرمات المؤمنين ، والغناء وشهادة الزور ، فاللسان هو المترجم الظاهريّ عمّا يجيش في باطن الإنسان من حالاتٍ وخصال وصفات ، فإذا صلح الباطن صلح اللسان وغيره ، وإذا خبث القلب خبث اللسان وبقيّة الجوارح.

قال الإمام عليّ عليه السلام : ما أضمر أحد شيئاً إلّا ظَهَر في فَلَتاتِ لسانه ، وصَفَحاتِ وجهه (٣).

إذن هناك علاقة وارتباط وثيق بين الباطن والظاهر ، كما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : وهل يَكُبُّ الناسَ على مناخرهم في النار إلّا حصائدُ ألسنتهم؟! (٤)

وورد عنه صلى الله عليه وآله أيضاً قوله : من يتكفّل لي ما بين لِحْيَه ورِجْلَيه ، أتكفّل له

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٦١.

٢ ـ الكافي ٢ : ٣٧١ / ح ٦.

٣ ـ نهج البلاغة ٤ : ٧ ح ٢٦.

٤ ـ الكافي ٢ : ١١٥ / ح ١٤.

٣٦٨

بالجنّة (١). أي يضمن صلى الله عليه وآله الجنّة لمن يتكفّل بحفظ لسانه وفَرْجِه ، وقال صلى الله عليه وآله : أكثرُ ما تَلجُ به أمّتي النار الأجوفان : البطن والفَرْج (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : لا يستقيم إيمانُ عبدٍ حتّى يستقيمَ قلبه ، ولا يَستقيمُ قلبه حتّى يستقيم لسانه (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : إذا أصبح ابن آدم أصبَحَت الأعضاء كلّها تُكَفِّر اللسان فتقول : اتّقِ اللهَ فينا ، فإنّما نحن بك ، فإذا استقمتَ استقمنا ، وإن اعوَجَجْتَ اعوججنا (٤).

وربّما تترتّب على زلّات اللسان آثار فرديّة واجتماعيّة خطيرة تقود صاحبها إلى النار ، وإلى إقامة الحدود وإنزال العقوبات الدنيويّة ، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : يعذّب اللهُ اللسانَ بعذابٍ لا يُعذَبُ به شيئاً من الجوارح ، فيقول : أي ربّ ، عذّبتَني بعذابٍ لم تعذّب به شيئاً ، فيقال له : خرَجَت منك كلمةٌ فبَلغَت مشارق الأرض ومغاربها ، فسُفِكَ بها الدم الحرام ، وانتُهِب بها المال الحرام ، وانتُهك بها الفَرْجُ الحرام ، وعزّتي وجلالي ، لَأُعذّبنّك بعذاب لا أُعذّب به شيئاً من جوارحك! (٥)

وورد عن الإمام السجّاد عليه السلام قوله : إنَّ لسان ابن آدم يُشرف على جميع جوارحه كلَّ صباح فيقول : كيف أصبحتم؟ فيقولون : بخير إن تركتَنا ، ويقولون : اللهَ اللهَ فينا ، ويناشدوه ويقولون : إنّما نُثاب ونعاقب بك (٦).

إنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي أكرمه الله تعالى بالنطق ، لكنّ الكثير بدّل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الاستذكار ٨ : ٥٦٥ ، التمهيد ٥ : ٦٢.

٢ ـ الكافي ٢ : ٧٩ / ح ٥.

٣ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٧٦.

٤ ـ مسند أحمد ٣ : ٩٦.

٥ ـ الكافي ٢ : ١١٥ / ح ١٦.

٦ ـ نفسه ٢ : ١١٥ / ح ١٣.

٣٦٩

نعمة الله كفراً ، وكان عاقبة أمره خسراً.

وسنفرد مباحثَ مستقلّة حول الغيبة والنميمة والبهتان إن شاء الله تعالى.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله المعصومين الطاهرين.

٣٧٠

المبحث الحادي والأربعون : في الحياة والقيموميّة

قوله عليه السلام : فَلَكَ الْحَمْدُ عَلى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ ، وَعَلى عَفُوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ ، وَيَحْمِلُني وَيُجَرِّئُني عَلى مَعْصِيَتِكَ حِلْمُكَ عَنّي ، وَيَدْعُوني اِلى قِلَّةِ الْحَياءِ سِتْرُكَ عَلَيَّ ، وَيُسْرِعُني اِلَى التَّوَثُّبِ عَلى مَحارِمِكَ مَعْرِفَتي بِسِعَةِ رَحْمَتِكَ ، وَعَظيمِ عَفْوِكَ ، يا حَليمُ يا كَريمُ ، يا حَيُّ يا قَيُّومُ ، يا غافِرَ الذَّنْبِ ، يا قابِلَ التَّوْبِ ، يا عَظيمَ الْمَنِّ ، يا قَديمَ الْاِحسانِ ، اَيْنَ سِتْرُكَ الْجَميلُ ، اَيْنَ عَفْوُكَ الْجَليلُ ، اَيْنَ فَرَجُكَ الْقَريبُ ، اَيْنَ غِياثُكَ السَّريعُ ، اَيْنَ رَحْمَتِكَ الْواسِعَةِ ، اَيْنَ عَطاياكَ الْفاضِلَةُ ، اَيْنَ مَواهِبُكَ الْهَنيئَةُ ، اَيْنَ صَنائِعُكَ السَّنِيَّةُ ، اَيْنَ فَضْلُكَ الْعَظيمُ ، اَيْنَ مَنُّكَ الْجَسيمُ ، اَيْنَ اِحْسانُكَ الْقَديمُ ، اَيْنَ كَرَمُكَ يا كَريمُ ، بِهِ فَاسْتَنْقِذْني ، وَبِرَحْمَتِكَ فَخَلِّصْني.

يتوجّه صاحب الدعاء عليه السلام بحمد الله كما يستحقّه حمداً كثيراً ، حامداً إيّاه على طول حلمه وأناته تجاه عبده المذنب المقصّر ، وعلى عفوه وهو القادر على ما يريد ، ومن ذا الذي يمنع السيّدَ القدير ، إذا أراد الانتقام من عبده الآبق المقصّر تجاه مولاه الذي غمره بالكرم وأفاض عليه صنوف المواهب والنعم!

ثمّ يعود عليه السلام لتقديم فروض الذلّة والمسكنة أمام عظمة الله ، ويعتذر عن تقصيره الصادر عن الغفلة والغرور ، والثقة بعظيم الستر ، وسعة الرحمة ، وحسن الظنّ بآلاء الله وكرمه.

٣٧١

ثمّ يعود إلى الثناء على محامد الله كمقدّمة من آداب الدعاء لدى ذوي الحاجات إذا أرادوا أن يطرقوا أبواب السلاطين والعظماء ، فيصفه بالحلم والكرم ، والحياة والقيمومة ، ومغفرة الذنب ، وقبول توبة عباده ، وبالمنّ العظيم ، والإحسان القديم ، وباقي صفات الكمال والجلال التي هو أهلها وفوقها.

وهنا يتوجّه إلى ربّه بقلبٍ ملؤه الأمل والوجل ، فيبدو كالحيران المضطرب ، بل كالغريق الذي يتشبّث بما ينقذه ، والطريد الذي يتعلّق بأستار رحمة الله القائمة على الستر والعفو والفَرَج ، وإغاثة الملهوف ، وإيواء الهارب. ت

إنّه يستغيث ربّه طالباً النجاة ، مطالباً بالمعهود من عطاياه الفاضلة ، ومواهبه الهنيئة ، وصنائعه السنيّة ، وفضله العظيم ، ومنّه الجسيم ، إنّه يستشفع بهذه الصفات والكمالات التي هي عين الذات ، ويشْفَعُها بنبيّ الرحمة محمّد صلوات الله عليه وعلى آله الكرام ، طالباً الاستنقاذ والخلاص ، والنجاة من عقاب الله الأليم الذي لا تقوم له السماوات والأرض ، فكيف بالعبد الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين!

أمّا استعمال «أين» التي هي أداة استفهام عن المكان حين يقول : أين سترك الجميل ، أين عفوك الجليل ... إلى آخره ، فإنّ صاحب الدعاء عليه السلام ينزّل خطابه منزلة الخطاب البشريّ عندما يستطبئ شيئاً ، فعندما يسأل بـ «أين» فهذا السؤال يستبطن الدعوة والطلب والشوق إلى نزول الرحمات والفيوضات.

لقد ابتدأت عدّة فقرات بحمد الله سبحانه ، وهذا من أدب العبوديّة وأدب الدعاء ، فأنَّ الله هو خالق الخلق عن علم واختيار ، وهو الذي صبّ في كلّ مفردات هذا الكون الرحيب من الجمال والروعة والكمال ما يناسبه ، وهو سبحانه المحمود على أفعاله وخصاله ، إذ هو مصدر كلّ خير وجمال وكمال ، فكلّ ما هو محمود فإنّ

٣٧٢

ذلك الحمد يرجع إلى الله على وجه الحقيقة وتمام الاستحقاق.

ومهما حَمِد الإنسانُ ربّه ، وذكره وسبَّحه ونزّهه فإنّما هو على قدر إحاطته وعلمه ، فحمدُ النبيّ صلى الله عليه وآله والأئمّة الكرام عليهم السلام لله تبارك وتعالى ، وحمد الرسل والنبيّين والملائكة والمقرّبين لربّهم جَلّ وعلا ، هو أعمق وأوسع دائرةً من حمدنا نحن لربّنا عزّ وجلّ ، لأنّ إحاطتهم أوسع وأدقّ.

قال الراغب : الحمد لله تعالى : الثناء عليه بالفضيلة ، وهو أخصّ من المدح وأعمّ من الشكر ، فإنّ المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره ، وممّا يقال منه وفيه بالتسخير ، فقد يُمدح الإنسان بطول قامته ، وصباحة وجهه ، كما يمدح ببذل ماله وسخائه وعلمه ، والحمد يكون في الثاني دون الأوّل ، والشكر لا يقال إلّا في مقابل النعمة ، فكلُّ شكرٍ حمدٌ ، وليس كلّ حمدٍ شكراً ، وكلّ حمدٍ مدح ، وليس كلّ مدحٍ حمداً ، ويقال : فلان محمودٌ : إذا حُمد ، ومحمّد : إذا كَثُرت خصاله المحمودة ، ومحمّد : إذا وُجِد محموداً (١).

الحيّ : ذو الحياة ، والحياة تستعمل للتعبير عن القوّة الموجودة في النبات والحيوان ، قال تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (٢).

وتستعمل للتعبير عن القوّة الحسّاسة ، قال تعالى : (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) (٣).

وتستعمل للقوّة العاملة العاقلة ، قال سبحانه وتعالى : (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مفردات غريب القرآن : ١٣١.

٢ ـ الحديد : ١٧.

٣ ـ فاطر : ٢٢.

٣٧٣

فَأَحْيَيْنَاهُ) (١).

وتستعمل للتعبير عن ارتفاع الغمّ ، قال تعالى : (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (٢).

وتستعمل للإشارة إلى الحياة الأخرويّة الأبديّة ، قال تعالى : (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) (٣).

وتستعمل لوصف الحياة التي يُوصف بها الباري سبحانه ، فإنّه إذا قيل فيه تعالى : هو حيٌّ ، فمعناه : لا يصحُّ عليه الموت ، وليس ذلك إلّا لله عزّ وجلّ.

هذا ما ذكرناه ملخّصاً من المفردات للراغب الإصفهانيّ (٤).

فالحيّ الذي نحن بصدده هو الله سبحانه.

وتُقسّم الحياة هنا ثلاثة أقسام تخصّ الإنسان ، وحياة رابعة تخص الله سبحانه.

١. الحياة الدنيويّة : وهي هذه الحياة التي نحياها ، وهذه مسبوقة بالعدم ، ملحوقة بالموت والفناء ، وقد ورد في المنطق القرآنيّ أنّها رديئة وفانية ، وأنّها دار لهو ومتاع ولعب ، وهي محفوفة بالابتلاءاتِ والآلام ، وهي دار الغرور ، وذلك بلحاظ إضافتها إلى الحياة الأخرويّة ونعيمها ودوامها.

قال تعالى : (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) (٥) ، وقال سبحانه : (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأنعام : ١٢٢.

٢ ـ آل عمران : ١٦٩.

٣ ـ الفجر : ٢٤.

٤ ـ مفردات غريب القرآن : ١٣٩.

٥ ـ الرعد : ٢٦.

٦ ـ الأنعام : ٣٢.

٣٧٤

٢. الحياة البرزخيّة : وهي الحياة التي تحياها الروح في عالم القبر ، وقد ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام قوله : إنّ القبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النيران (١).

٣. الحياة الأخرويّة : وهي الحياة الحقيقيّة التي ليس معها موت ولا فقر ولا بلاء ولا منغّصات ، وهذه الحياة المثالية مملوكة لله سبحانه أيضاً ، غير خارجة عن إرادته وقيموميّته ، فهو الذي يفيض النعم والخيرات ، ويبعث السرور في نفوس أوليائه ، قال تعالى : (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) (٢).

وفي هذه الأقسام تكون الحياة عارضة على الكائن الحيّ ، مفاضة عليه من الخارج.

٤. الحياة الإلهيّة : وهنا تكون الحياة عين ذاته المقدّسة ، غير عارضة عليه ، وهي غير مسبوقة بالعدم ، ولا متبوعة بالموت أو الفناء ، وهذه هي الحياة الحقيقيّة المتّصفة بالكمال من كلّ جهة ، قال الله تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) (٣).

وهذه الحياة واجبة ؛ إذ بها يقوم كلّ حيّ ، ويقع الوجود بها تحت سلطة التدبير والتصرّف والإرادة الإلهيّة ، ومن هنا نقول : إنّه سبحانه واجب الوجود ، وغيره ممكن الوجود.

القيّوم : هو القائم الحافظ لكلّ شيء ، والمعطي له ما به قوامه ، قال تعالى : (اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير القمّيّ ٢ : ٩٤ ، بحار الأنوار ٦ : ٢٧٥ ، وفيه قوله : صلى الله عليه وآله : القبر إمّا روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النيران.

٢ ـ سورة ق : ٣٥.

٣ ـ الفرقان : ٥٨.

٤ ـ مفردات غريب القرآن : ٤١٧ والآية في سورة البقرة : ٢٥٥.

٣٧٥

قال السيّد الطباطبائيّ قدس سره : القيوم على «وزن» فَيْعُول وصف يدلّ على «صيغة» المبالغة ، والقيام هو حفظ الشيء ، وفعله وتدبيره ، وتربيته والمراقبة عليه والقدرة عليه. كلّ ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب ؛ للملازمة العادية بين الانتصاب وبين كلّ منها.

وقد أثبت الله تعالى أصل القيام بأمور خَلْقه لنفسه في كلامه حيث قال تبارك وتعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) (١). وقال تعالى وهو أشمل من الآية السابقة : (شَهِدَ اللَّـهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢).

فأفاد أنّه قائم على الموجودات بالعدل ، فلا يُعطي ولا يمنع شيئاً في الوجود إلّا بالعدل ، بإعطاء كلّ شيء ما يستحقّه. ثم بيّن أنّ هذا القيام بالعدل مقتضى اسمَيهِ الكريمَين : العزيز والحكيم ، فبعزّته يقوم كلّ شيء ، وبحكمته يعدل فيه (٣).

تبيّن ممّا ذكرنا أنّ الموجودات كلّها قائمة به وجوداً وبقاءً ، غير مستغنية عنه ، وليس لها استقلاليّة في حركتها وديمومتها ، وقيمومة الله على الموجودات تعني : الخالقيّة والرازقيّة ، والمبدأ والمعاد ، والحياة والموت ، والرحمة وغيرها من الصفات الإضافيّة ، أما هو سبحانه فهو القائم بذاته ، والمستغني عن غيره ، وإنّما يقوم غيرُه بالله جلّ وعلا.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الرعد : ٣٣.

٢ ـ آل عمران : ١٨.

٣ ـ تفسير الميزان ٢ : ٣٣٠ ـ ٣٣١.

٣٧٦

المبحث الثاني والأربعون : في المُلك

قال عليه السلام : يا مُحْسِنُ يا مُجْمِلُ ، يا مُنْعِمُ يا مُفْضِلُ ، لَسْتُ اَتَّكِلُ فِي النَّجاةِ مِنْ عِقابِكَ عَلى اَعْمالِنا ، بَلْ بِفَضْلِكَ عَلَيْنا ، لِاَنَّكَ اَهْلَ التَّقْوى وَاَهْلَ الْمَغْفِرَةِ تُبْدِئُ بِالْاِحْسانِ نِعَماً ، وَتَعْفُو عَنِ الذَّنْبِ كَرَماً ، فَما نَدْري ما نَشْكُرُ ، اَجَميلَ ما تَنْشُرُ ، اَمْ قَبيحَ ما تَسْتُرُ ، اَمْ عَظيمَ ما اَبْلَيْتَ وَاَوْلَيْتَ ، اَمْ كَثيرَ ما مِنْهُ نَجَّيْتَ وَعافَيْتَ ، يا حَبيبَ مَنْ تَحَبَّبَ اِلَيْكَ ، وَيا قُرَّةَ عَيْنِ مَنْ لاذَ بِكَ وَانْقَطَعَ اِلَيْكَ ، اَنْتَ الْمُحْسِنُ وَنَحْنُ الْمُسيؤونَ فَتَجاوَزْ يا رَبِّ عَنْ قَبيحِ ما عِنْدَنا بِجَميلِ ما عِنْدَكَ ، وَاَيُّ جَهْل يا رَبِّ لا يَسَعُهُ جُودُكَ ، اَوْ اَيُّ زَمان اَطْوَلُ مِنْ اَناتِكَ ، وَما قَدْرُ اَعْمالِنا في جَنْبِ نِعَمِكَ ، وَكَيْفَ نَسْتَكْثِرُ اَعْمالاً نُقابِلُ بِها كَرَمَكَ ، بَلْ كَيْفَ يَضيقُ عَلَى الْمُذْنِبينَ ما وَسِعَهُمْ مِنْ رَحْمَتِكَ.

مدخل لغويّ :

المحسن : الإحسان يقال على وجهين ، أحدهما : هو الإنعام على الغير يقال : أحسَنَ إلى فلان.

والثاني : إحسان في فعله ، وذلك إذا علم علماً حسناً ، أو عمِلَ عملاً حسناً ،

٣٧٧

وعلى هذا قول الإمام عليّ عليه السلام : الناس أبناء ما يُحسِنون (١).

أي : منسوبون إلى ما يعلمون وما يعلمونه من الأفعال الحسنة (٢).

وقد ورد في «نهج البلاغة» عنه عليه السلام قوله : قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحسنه (٣).

المُجْمِل : المحسن ، الرازق ، الذي حَسُنَت صنائعه.

المُفضِل : المحسن ابتدءً بلا علّى له. ويقال كذلك : الفاضل ، وعند المبالغة نقول : الفضّال ، والفضول ، والفَضيل ، والمِفْضِل ، والمِفْضال.

والمفضل ، أي الكثير الفضل.

التقوى : قال الراغب : التقوى في تعارف الشرع حِفظ النفس عمّا يؤثِم ، وذلك بترك المحظور ، ويتم ذلك بترك بعض المباحات لما رُوي : الحلال بيّن ، والحرام بيّن ، ومَن رَتَع حول الحِمى فَحقيقٌ أن يَقَع فيه (٤) ، (٥).

والتقوى في علم الأخلاق : مَلَكةٌ «صفة راسخة» تبعث على صيانة النفس عن المعاصي.

وقال صاحب «جامع السعادات» : هي مَلَكة الاتّقاء عن مطلق المعاصي خوفاً من سخط الله وطلباً لرضاه (٦). نرجو مراجعة مبحث التقوى في كتابنا الموسوم بـ «المباحث الميسّرة ١٤١ ـ ١٥٥». نَشَر الشيء : بسَطَهُ وكَشَفَهُ وأظهَرَهُ وأذاعَه ، والنشر مقابل : الطي والستر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ١ : ٥١ / ح ١٤.

٢ ـ مفردات غريب القرآن : ١١٩.

٣ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٨١.

٤ ـ ينظر : صحيح البخاريّ ١ : ١٩ ـ كتاب الإيمان.

٥ ـ مفردات غريب القرآن : ٥٣١.

٦ ـ جامع السعادات ٢ : ١٧٥.

٣٧٨

أبلى : نقول : أبلى الله عباده ، أي : اخْتَبَرهُم بِصنعٍ جميل.

أَولى : صَنَع المعروف.

تبتدئ هذه الفقرة بالثناء على محامد الله سبحانه ، وتضصفه بما هو أهله من الإحسان والإنعام والإفضال ، وأنّه أهل التقوى وأهل المغفرة ، ثمّ يبسط الداعي دعاءه لشكر الله على ما نشر من جميل الفعال ، وما ستر من قبيح الخصال ، وعلى ما نجّى من الآفات والبليّات ، وعلى ما عافى بعد السقم والأوجاع.

ويصفه سبحانه بالمحبّ الواله لمن أحبّه ، وأنّه قرّة عين من استجار به ولاذ بجانبه الكريم ، وينتقل إلى الاعتراف أمام عظمة الله بالإساءة والتقصير ، لكنّه يعود ليصف ربّه بالإحسان والعفو والحلم الطويل على من أساء واقترف. ويتحدّث عن النعم الجِسام والمواهب الكريمة التي لا يمكن أن نقابلها بأعمالنا القليلة.

بهذه الروح السامية ، والنفس الصافية ، والقلب السليم ، يعلّمنا الإمام عليه السلام آداب الدعاء ، وآداب الاستطراق على ساحة الربوبيّة المقدّسة ، إنّ الدنيا متْجرُ أولياء الله ، ومهبط ملائكته ، وميدان رسله ، ورأس مال الصالحين للاتّجار مع الله. والمؤمنون قادرون ـ بتوفيق الله وتسديده ـ أن يستثمروا كلّ لحظة منها في عمل عباديّ نافع يقرّبهم إلى الله سبحانه.

إنّ الإنسان الذي بين يديه شيء من حطام الدنيا وخيراتها يستطيع أن يقدّم منه شيئاً للصالح بعنوان القربة ، وهذا يعتبر قرضاً حسناً لله سبحانه ، وذخيرةً نافعة ليوم المعاد. وقد وعد الله سبحانه أن يضاعف هذا القرض أضعافاً مضاعفة ، قال سبحانه : (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) (١) ، وقال تعالى : (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأنعام : ١٦٠.

٣٧٩

أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّـهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (١) ، وهذا أجر الشاكرين.

أمّا لو أُخذَ هذا منه قسراُ بالبلاء ونحوه ، فإن كان صابراً نال أجر الصابرين ، ويكفي الصابرين فخراً وكرامة أن الله سبحانه صلّى عليهم في محكم كتابه المبين حيث قال سبحانه : (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (٢).

وأشير هنا إلى أنَّ الصلاة من الله رحمة ، ومن الملائكة تزكية ، ومن الناس دعاء.

إذن فالخوف والجوع والنقص من الأموال والأنفس والثمرات مع الصبر فائدة ورحمة ونعمة ما دامت تؤدّي إلى القرب من الله.

يقول السيّد الطباطبائيّ قدس سره : إنّ المراد بالبركات ليس مطلق النعم وأمتعة الحياة ، بل النعم من حيث إنّها تسوق الإنسان إلى الخير والسعادة والعاقبة المحمودة (٣).

فكلّ ما يقود إلى القرب من الله هو نعمة في نظر العقلاء : المال ، الصحّة ، العلم ، والمواهب الإلهيّة كلّها نعم ، والبلاء والفقر والمرض والتشريد ، والتعذيب والقتل كذلك نِعَم إذا قابل الإنسان ذلك بالصبر والرضى ، ونال به مرضاة الله تبارك وتعالى.

يقول «صاحب الميزان» قدس سره : ولذا كان القرآن الكريم لا يعدُّ هذه العطايا الإلهيّة ، كالمال والجاه والأزواج والأولاد وغير ذلك ، نعمةً بالنسبة إلى الإنسان إلّا إذا وقعت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢٦١.

٢ ـ البقرة : ١٥٥ ـ ١٥٧.

٣ ـ تفسير الميزان ١٠ : ٢٣٩.

٣٨٠