مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

المبحث الخامس عشر : في الشفاعة

قال عليه السلام : وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي أناديهِ كُلَّما شِئتُ لِحاجَتي ، وُاُخْلُو بِهِ حَيْثُ شِئْتُ لِسِرّي بِغَيْرِ شَفيع فَيَقْضي لي حاجَتي.

النداء : رفع الصوت وظهوره ، ويقال ذلك للصوت المجرّد.

ويقال : صوت نَدِيٌّ رفيع ، واستعارة النداء للصوت من حيث أنَّ مَن يَكْثُر رطوبةُ فمه حَسُن كلامه ، ولهذا يوصف الفصيح بكثرة الرِّيق.

والإسرار : خلاف الإعلان ، قال تعالى : (وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً) (١) ، وقال تعالى : (وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) (٢) ، وقال سبحانه وتعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) (٣).

والسرّ هو الحديث المُكْتَم في النفس ، قال الله تعالى : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (٤) ، وقال تعالى : (أَنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) (٥). هذا ممّا ذكره الراغب في «المفردات» (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الرعد : ٢٢.

٢ ـ التغابن : ٤.

٣ ـ المُلك : ١٣.

٤ ـ طه : ٧.

٥ ـ التوبة : ٧٨.

٦ ـ مفردات غريب القرآن : ٤٨٧ ، ٢٢٨.

١٠١

الداعي عليه السلام يحمد الله تعالى ويثني عليه حيث إنّه فتح أبوابه لكلّ داعٍ بالسرّ والعلانيّة طالباً قضاء حاجته. لقد وضعت الملوك والسلاطين الحُجّابَ والحرّاس على أبوابها ، واشترطوا حصول الإذن منهم لمن أراد أن يدخل عليهم ، لكنّ الله سبحانه فتح الأبواب على مصاريعها للداعين والسائلين في كلّ وقت من دون مراجعة حاجب ولا إتيانٍ بشفيع.

الشَّفْع : ضمُّ الشيء إلى مثله ، ويقال للمشفوع : شفعٌ ، وفي كتاب الله قوله تعالى : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) (١).

والوَتْرُ : هو الله من حيث أنّ له الوحدة من كلّ وجه.

والشفاعة : الانضمام إلى آخَر ناصراً له وسائلاً عنه ، وأكثر ما يُستعمل في انضمام من هو أعلى حرمةً ومرتبةً إلى من هو أدنى ، ومنه الشفاعة في القيامة.

قال تعالى : (لَّا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـٰنِ عَهْدًا) (٢) ، هذا ممّا ذكره الراغب في «المفردات» (٣).

إنّ مسألة الشفاعة من أكثر مواضيع علم الكلام تعقيداً وإشكالاً بين علماء الفنّ وأرباب الصناعة على اختلاف مذاهبهم ، والذي أتصوّره أنَّ المسألة ـ بعد طرح العصبيات ، ونبذ الخلافات المذهبيّة ـ هي من أوضح المباحث التي لا تحتاج إلى مثل هذه التشعّبات والفرضيّات والنقاشات ، فهذه المسألة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار ، نكاد نلمسها كلّ يوم في معاملات العُرف وعالم الاجتماع ، ناهيك عن جريانها بشكل أوضح في السنن التكوينيّة والقضايا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الفجر : ٣.

٢ ـ مريم : ٨٧.

٣ ـ مفردات غريب القرآن : ٢٦٣.

١٠٢

الطبيعيّة.

فنحن نرى مسألة الشفاعة التي هي نوع من الوساطة جارية في أبناء المجتمع الواحد ، وفي صالات المحاكم ومجالات الإصلاح بين المتخالفين ، وفي مرافق الدولة ، بل كانت الأمم الماضية والملل الوثنيّة تعتقد أنَّ لبعض المخلوقات نحوَ شفاعةٍ إلى الله ، فكانوا يعبدونها ويتقربون إليها بالنذور والذبائح لتقرّبهم إلى الله زلفى.

قال تعالى على لسانهم : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَىٰ) (١).

إذن ، هذه المعبودات في نظرهم أسبابٌ تتوسّط بينهم وبين الله سبحانه ، وقد سفّه القرآن هذه الآراء الفاسدة ، وطالبهم بالرجوع إلى المعارف الحقّة.

لدينا في موضوع الشفاعة ثلاثة عناصر :

١ ـ المشفوع عنده ، وهو الله سبحانه.

٢ ـ الشفيع ، وهو الوسيط بين الله والعبد.

٣ ـ المشفوع له ، وهو صاحب الحاجة المراد قضاؤها عند المشفوع عنده.

وهناك مسألتان مهمّتان تساعداننا على مواصلة الخوض في مبحث الشفاعة ، هما :

أ. أنّ الشفاعة لله وحده على نحو الأصالة والاستقلاليّة ، وهي من فروع المالكيّة والحاكميّة الإلهيّة المطلقة التي لا يشارك اللهَ فيها أحد.

ب. أنّ الشفاعة لغيره سبحانه : بالتمكين ، والامتداد ، والتبعيّة ، والإذن ، والارتضاء. وما نقوله في الشفاعة هو نفس ما نقوله في مسائل كثيرة : كالخلق ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الزمر : ٣.

١٠٣

والتوفّي ، والرزق ، والمُلك ، والعلم بالغيب ، فهذه الامور لله وحده بالأصالة ، وإذا نسبت لغيره فعلى نحو التمكين والإذن.

فعندما نرى أنّ هناك آيات كثيرة تنفي الشفاعة ظاهراً ، فإنّما أُريد منها نفي الشفاعة بالاستقلال والأصالة عن مخلوقات الله سبحانه : (يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) (١) ، (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (٢) ، (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) (٣).

وهناك آيات بيّنات تثبت مسألة الشفاعة لله وحده ، وقلنا : هي لله وحده على نحو الأًالة والاستقلاليّة :

قال تعالى : (لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) (٤) ، وقال تعالى : (قُل لِّلَّـهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا) (٥).

ثمّ تجيء آيات مباركات لتثبت الشفاعة لغير الله ، وهذه الشفاعة لا تكون إلّا بالإذن الإلهيّ والارتضاء الإلهيّ ، قال تعالى : (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٦) ، وقال سبحانه : (يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) (٧) ، وقال سبحانه : (وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (٨) ، وقال تعالى :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢٥٤.

٢ ـ الشعراء : ١٠٠ ـ ١٠١.

٣ ـ البقرة : ٤٨.

٤ ـ الأنعام : ٥١.

٥ ـ الزمر : ٤٤.

٦ ـ الأنبياء : ٢٨.

٧ ـ طه : ١٠٩.

٨ ـ سبأ : ٢٣.

١٠٤

(وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّـهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ) (١).

ولابدّ لنا من وقفة عند مصطلحَينِ لتيسير مبحث الشفاعة :

١. الشفاعة التكوينيّة : والمراد بها توسّط العلل والأسباب والقوانين بين الله سبحانه وبين المسبَّبات في قضايا تدبير الأمور الحياتيّة ، وتنظيم أمر الوجود والبقاء. وإنّ هذه الأسباب والعلل والمؤثّرات تنتهي إليه سبحانه من حيث كونه المالك والموجد لكلّ مخلوق ، وهذه الأسباب لها دور الوساطة في نشر أسباب الرحمة ونزول النعم إلى الخلائق ، فنزول المطر ، وخروج الزرع من التراب ، وخلق الإنسان والحيوان وغيرها ، كلّ هذا يجري وفق السنن والأسباب والقوانين التي لها دور الشفاعة بين الله ومخلوقاته.

قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ) (٢) ، وقال سبحانه : (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (٣).

وقال عزّ شأنه : (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ *

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النجم : ٢٦.

٢ ـ الأعراف : ٥٧.

٣ ـ النحل : ٥ ـ ٦.

١٠٥

وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (١).

يتلخّص من هذا أنّ الله سبحانه هو على الوجود الحقيقيّة ، وهو مسبّب العلل والأسباب ، وهي بدورها تقوم بدور الوساطة بين الله وبين المعلولات ولكن من دون استقلال.

الله ـ العلل والأسباب ـ المعلولات والمسبَّبات.

وهذه العلل والأسباب لا تؤثّر أثرها إلّا بإذن الله ، ونظام العلّيّة الذي يحكم الوجود من مصاديق الشفاعة التكوينيّة.

٢ ـ الشفاعة التشريعية : لقد حصر الله سبحانه مسألة الشتريع به وحده ، من باب الحاكميّة المطلقة ، التي هي فرع من فروع المالكيّة المطلقة ، ولمّا كان الحكم التكوينيّ الذي يسود عالم الموجودات والمخلوقات مختصّاً به وحده سبحانه كان لابدّ أن تكون الأحكام من الوجهة التشريعية كذلك ، لأنّ خالق الإنسان أعلم بما يُصلح الإنسان ، وبما يهيّئ له أسباب السعادة الحقيقيّة.

فقد أرسل الله الأنبياء والرسل مُبَشِّرين ومُنذِرين ، وجاؤوا بالمناهج والتشريعات التي تساير فطرة الإنسان الذي هو جزء من فطرة الكون ، وقد أمر الله سبحانه الإنسان بالالتزام بأوامره ونواهيه ، ووعد المطيع بالثواب ، وأوعد العاصي بالعقاب ، وحذّر العباد من الزيغ والإعراض عن شرائعه ومناهجه ، فقال سبحانه وهو أصدق القائلين : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النحل : ١٠ ـ ١٦.

١٠٦

ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ) (١).

يتلخّص ممّا ذكرناه أنَّ الإنسان يستعين بالأسباب الطبيعيّة لدفع الشرّ ، واستجلاب الخير ، ورفع الجوع والعطش ، والوقاية من البرد والمرض وغيرها من الكوارث والنوازل التي تحلّ به ، لكنّه في مجال التشريع باعتباره مكلّفاً مختاراً فهو مأمور بالالتزام والتطبيق للأوامر الإلهيّة ، والانتهاء عمّا نهى الله سبحانه.

ولو اختصرنا مفهوم الشفاعة وقلنا : بأنّها التوسّط في إيصال نفع أو دفع ضرر ، فإنّ الإنسان المكلّف شرعاً قد ينحرف عن جادّة الشرع في بعض المجالات ، ويقصّر في بعض التكاليف العباديّة ، وربّما تصدر منه المعاصي جرياً وراء الشهوات ، وسُعار النزوات ، وانقياداً للأهواء والمغريات ، فيكون بحاجة إلى شفيع ووسيط إلى الله ليسدّ نقصه ، ويُتمَّ الأسباب التي تقوده إلى الفوز برضى الله سبحانه.

وهنا لابدّ من الإشارة إلى بعض الملاحظات :

١ ـ إنّ مسألة الشفاعة ممّا ثبت أصله كتاباً وسنّةً ، وعقلاً وعرفاً.

٢ ـ إنّ الشفاعة تحتاج إلى استعدادات خاصّة ، ولياقة للتلبّس بالكمال المعنويّ في نفس المشفوع له ، فالشفاعة إنّما شُرّعت لسدّ النقص وتتميم الأسباب ، فهي لا تشمل الملحد والكافر والمفسد في الأرض ، فإنّ المدرّس قد يرفع الطالب المحتاج إلى درجة أو درجتين لينجح مثلاً مراعياً بعض الأسباب الوجيهة ، لكنّ الطالب الذي لم يلتحق بالدراسة لذلك العام ، أو الذي لم يؤدّ الامتحان أصلاً فلا شفاعة له.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ طه : ١٢٣ ـ ١٢٦.

١٠٧

٣ ـ إنّ الشفاعة لا تُبطل مولويّة الله باعتباره المالك والحاكم المطلق ، ولا تبطل عبوديّة العبد ، ولا تعني نسخ الأحكام المولويّة ولا إبطال القوانين الإلهيّة في مسألة المجازاة.

٤ ـ إنّ الشفيع يتقدّم إلى الله سبحانه راجياً لطفه وكرمه الأزليّ للعفو عن عبدٍ حقير ، ذليل ، مسكين مستكين ، ضعيف لا يملك لنفسه حولاً ولا قوّة ، وقد قامت عليه الحجّة البالغة ، واستحقّ العقاب بسوء عمله وتقصيره. وقد قيل : إنّ إخلاف الوعد من القبيح ، لكنّ إخلاف الوعيد من الحسَن عقلاً (١).

٥ ـ إنّ الشفيع الذي يرتضي اللهُ شفاعته ويأذن له بها لابدّ أن يكون ذا مكانة وزلفى عند الله سبحانه ، وهذه المنزلة والمؤهّلات هي من باب التكريم له أخرويّاً ، فهو يتقدّم بإذن الله ليستعمل كرامته ومكانته وقربه من الله لتخليص بعض المقصّرين وإنقاذهم من العذاب.

والشفاعة التشريعيّة تجري وفق هذا التسلسل : الله ، ثمّ الشفيع ، ثمّ المشفوع له.

٦ ـ إنّ مسألة الشفاعة مفهوم صادق من مصاديق نظام العلّيّة والسببيّة الجاري في أرجاء ومفاصل الكون والوجود ، سواء التكوينيّة أو التشريعيّة.

٧ ـ إنّ الشفاعة من موارد رحمة الله وفضله وتجاوزه ، ولكنّها غير مضمونة لكلّ واحد من المذنبين والعصاة ، ولا تسع جميع المعاصي والجرائم ، وبهذا نقول : إنّ الشفاعة ليست من الوسائل التي تبعث الإنسان على المعصية والتجرؤ على هتك محارم الله جلّ وعلا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ذكر ذلك العينيّ في «عمدة القاري في شرح صحيح البخاري ١ : ٢٢١» ، والشنقيطيّ في «أضواء البيان ٧ : ٤٢٥».

١٠٨

والذي يظهر من الروايات الشريفة أنّها لا تسع أهوال النزع والاحتضار ، ولا أهوال القبر وعذاب البرزخ ، بل هي مدّخرة لآخر مواقف القيامة بالمنع من دخول النار ، أو استنقاذ من دخلها. أمّا ما ورد من حضور النبيّ صلى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام حين النزع وعند المساءلة في القبر (١) ، فهو من المواهب الإلهيّة والتصرّفات المأذون بها من الله على نحو الحكومة ، وليس من الشفاعة في شيء. ولكن هنالك أعمال تخفّف من ضغطة القبر وأهواله.

٨ ـ إنّ تشريع الشفاعة يُعتبر فتحاً لباب الأمل والرجاء للعودة إلى صراط الله المستقيم بقلب منفتح ملؤه الرجاء ، ويطرد شبح اليأس من نفوس المذنبين.

٩ ـ إنّ الإنسان الذي يفد على ربّه تائباً من ذنبه توبة نصوحاً وشروطها ، فإنّ شفاعته هي توبته. وقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : لا شفيعَ أنجحُ مِن التوبة (٢).

١٠ ـ إنّ الصفات التي تهدم أصل الديانة وأركانها غير مشمولة بالشفاعة ، قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٣).

١١ ـ إنّ الصغائر معفوّ ومكفّر عنها ـ بشرط اجتناب الكبائر ـ تفضّلاً من الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ من أراد المزيد فليراجع كتاب «المحتضر» للحسن بن سليمان الحلّي «من أعلام القرن الثامن» ، وقد حُقّق الكتاب من قِبل السيّد على أشرف وطُبع من قبل المكتبة الحيدريّة سنة ١٤٢٤ هجريّة.

٢ ـ الكافي ٨ : ١٩ / ح ٤ «من خطبة الوسيلة» ، من لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٧٤ / ح ٤٩٦٥.

٣ ـ المدّثر : ٣٨ ـ ٤٨.

١٠٩

سبحانه ، قال تعالى : (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (١).

ومن هنا يتبيّن لنا أنّ الشفاعة إنّما هي لأهل الكبائر من المؤمنين ، وقد ورد في الحديث الصحيح ، إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي ، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل (٢).

١٢ ـ الشفعاء من الوجهة التكوينيّة هم الأسباب المتوسطة بين الله والعباد ، مثل : المطر والضوء والحرارة والرياح وغيرها : أمّا من الوجهة التشريعيّة فالذي نقرؤه من ظاهر الآيات والروايات هم : الله سبحانه ، وهو الشفيع الأوّل والأكبر ، وشفاعته سبحانه بالأصالة والاستقلال ، والرسل والأنبياء لاسيّما خاتمهم وسيّدهم محمّد صلى الله عليه وآله ، وكذلك أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، والعلماء شفعاء ، والملائكة شفعاء ، والشهداء شفعاء ، والمؤمنون شفعاء بعضهم لبعض ، والقرآن شفيع لقارئه ، والتوبة شفيع ، حتى أنّ السُّقط شفيع لوالديه (٣) ، وهذه الشفاعة إنّما تكون بالإذن والارتضاء.

وسنرى ذلك من خلال الروايات التي نوردها في ختام هذا المبحث.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله : من لم يؤمن بحوضي ، فلا أورده الله حوضي ، ومن لم يؤمن بشفاعتي ، فلا أناله الله شفاعتي. ثمّ قال : إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي ، فأمّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ٣١.

٢ ـ الأمالي للصدوق : ١٦ / ح ٤ ، التوحيد : ٤٠٧ / ح ٦.

٣ ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : تَزوّدوا فإنّي مكاثرٌ بكم الأممَ غداُ في القيامة ، حتّى أنّ السقط لَيجيءُ مُحْبَنْطِياً على باب الجنّة ، فيقال له : أدخُلِ الجنّة ، فيقول : لا ، حتّى يَدخُل أبَوايَ قَبلي [معاني الأخبار : ٢٩١].

٤ ـ الأمالي للصدوق : ١٦ / ح ٤ ، عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ١٣٦ / ح ٣٥.

١١٠

وعن سُماعة بن مِهران عن أبي إبراهيم «الكاظم عليه السلام في قول الله سبحانه وتعالى : (عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) (١) ، قال : يقوم الناس يوم القيامة مقدارَ أربعين عاماً ، وتُؤمر الشمس فتركب على رؤوس العباد ويلجمهم العرق ، وتُؤمر الأرض لا تقبل عن عَرَقهم شيئاً ، فيأتون آدم عليه السلام فيستشفعون منه فيدلّهم على نوح ، ويدلّهم نوحٌ على إبراهيم ، ويدلّهم إبراهيم على موسى ، ويدلّهم موسى على عيسى ، ويدلّهم عيسى على محمّد صلى الله عليه وآله فيقول : عليكم بمحمّد خاتم النبيّين.

فيقول محمّد صلى الله عليه وآله : أنا لها. فينطلق صلى الله عليه وآله حتّى يأتي باب الجنّة فيدقّ ، فيقال له : من هذا؟ والله أعلم ، فيقول : محمّد ، فيقال : افتحوا له ، فإذا فُتح الباب ، استقبل ربَّه فخرّ ساجداً ، فلا يرفع رأسه حتى يقال له : تكلّم ، وسَلْ تُعطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فيرفع صلى الله عليه وآله رأسه فيستقبل ربّه فيخرّ ساجداً ، فيقال له مثلها ، فيرفع رأسه حتى أنّه ليشفع لمن قد أُحرق بالنار ، فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأمم أوجهُ من محمّد صلى الله عليه وآله ، وهو قول الله تبارك وتعالى : (عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) (٢).

وورد عنهم عليهم السلام في قوله تعالى : (عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) قالوا : هي الشفاعة (٣).

وعن عبيد الله بن زرارة قال : سُئل أبو عبد الله الصادق عليه السلام عن المؤمن هل له شفاعة؟ قال : نعم ، فقال له رجل من القوم : هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمّد صلى الله عليه وآله يومئذٍ؟ قال : نعم ، إنّ للمؤمنين خطايا وذنوباً ، وما من أحد إلّا ويحتاج إلى شفاعة محمّد صلى الله عليه وآله يومئذ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الإسراء : ٧٩.

٢ ـ تفسير العيّاشيّ ٢ : ٣١٥ / ح ١٥١ ـ عنه : بحار الأنوار ٨ : ٤٨ / ح ٥٠.

٣ ـ تفسير العيّاشيّ ٢ : ٣١٤ / ح ١٤٨ ـ عنه : بحار الأنوار ٨ : ٤٨ / ح ٤٩.

١١١

وسأله رجل عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله : أنا سيّد وُلد آدم ولا فخر. قال : نعم ، يأخذ حلقة باب الجنّة فيفتحها فيخرّ ساجداً ، فيقول الله : إرفع رأسك ، إشفَعْ تُشفَّع ، أُطلبْ تُعط. فيرفع رأسه ثمّ يخرّ ساجداً ، فيقول الله : ارفع رأسك ، إشفَعْ تُشفَّع ، واطب تُعط. ثمَّ يرفع رأسه فيشفع فيُشفّع ، ويطلب فيُعطى (١).

وعن حرب بن شريح البصريّ قال : قلت لمحمّد بن عليّ «الباقر عليهما السلام : أيُّ آية في كتاب الله أرجى؟ قال عليه السلام : ما يقول فيها قومك؟ قلت : يقولون : (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ) (٢) ، قال عليه السلام : لكنّنا أهلَ بيت لا نقول ذلك. قال : قلت : فأيُّ شيءٍ تقولون فيها؟ قال عليه السلام : نقول : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ) ، الشفاعة واللهِ الشفاعة ، واللهِ الشفاعة (٣).

وقال الإمام الباقر عليه السلام لأبي أيمن : ويحك يا أبا أيمن ، أَغَرَّكَ أن عَفَّ بعطنُك وفرجك؟ أما لو قد رأيت أفزاع القيامة ، لقد احتجت إلى شفاعة محمّد صلى الله عليه وآله ، ويلك ، فهل يشفع إلّا لمن وجبت له النار؟! ثمّ قال عليه السلام : ما من أحد من الأوّلين والآخرين إلّا وهو محتاج إلى شفاعة محمّد صلى الله عليه وآله يوم القيامة.

ثمّ قال أبو جعفر عليه السلام : إنّ لرسول الله صلى الله عليه وآله الشفاعةَ في أمّته ، ولنا شفاعة في شيعتنا ، ولشيعتنا الشفاعة في أهاليهم. ثمّ قال عليه السلام : إنّ المؤمن ليشفع في مِثل ربيعةَ ومُضر ، وإنّ المؤمن ليشفع حتّى لخادمه ويقول : يا ربّ ، حقّ خدمتي ، كان يقيني الحرّ والبرد (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير العيّاشيّ ٢ : ٣١٤ / ح ١٥٠.

٢ ـ الزمر : ٥٣.

٣ ـ تفسير فرات الكوفيّ : ٥٧٠ / ح ٧٣٤ ، والآية في سورة الضحى : ٥.

٤ ـ تفسير القمّيّ : ٢ : ٢٠٢.

١١٢

وفي «الأمالي» عن الصادق عليه السلام : إذا كان يومُ القيامة نَشَرَ الله رحمته ، حتّى يطمعَ إبليس في رحمته! (١)

نسأل الله تعالى أن يرزقنا رحمتَه وشفاعة نبيّه الأعظم ، وشفاعة آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للصدوق : ١٧١ / ح ٢ ـ المجلس ٣٧.

١١٣

المبحث السادس عشر : بين الخوف والرجاء

قال عليه السلام : اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي أدعوه ولا اَدْعُو غَيْرَهُ ، وَلَوْ دَعَوْعتُ غَيْرَهُ لَمْ يَسْتَجِبْ لي دُعائي ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي أرجوه ولا اَرْجُو غَيْرَهُ ، وَلَوْ رَجَوْتُ غَيْرَهُ لأَخْلَف رَجائي ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي وَكَلَني اِلَيْهِ فَاَكْرَمَني ، وَلَمْ يَكِلْني اِلَى النّاسِ فَيُهينُوني.

يتوجّه عليه السلام إلى الله سبحانه بالحمد ، معترفاً أن لا أحدَ غيرُه له الأهليّة والقدرة على إجابة دعائه ، ولو رجا غيره سبحانه لأخلف ذلك المرجوُّ رجاءَ مَن يرجوه. هذا هو لسان حال كلّ مخلوق أُوتي البصيرة في دينه ، وكانت له نظرة واعية ، فاحصة دقيقة في الكون والحياة.

ولقد ندب الله سبحانه العبد إلى الدعاء ، وجعل ذلك باباً من أهم أبواب العبادة التي هي بعدد أنفاس الخلائق على ما ورد في لسان الروايات المأثورة ، وجعل سبحانه وتعالى شروطاً وآداباً للاستجابة كما ذكرنا في مبحث الدعاء.

وقلنا : إنّ من أهم شروط الاستجابة التوجّه إلى الله بقلب ملؤه الإخلاص ، والرغبة والرهبة ، والتضرّع والخُفْية ، والخوف والطمع والإلحاح ، وبالتزام آداب المقام والحضور في ساحة القداسة الإلهيّة. وقد وردت آيات كثيرة تندب إلى ما ذكرناه :

١١٤

قال تعالى : (فَادْعُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١) ، وقال سبحانه : (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّـهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) (٢).

وقال عز شأنه : (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (٣) ، وقال تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٤).

إنّ الله يأمرنا بالتوجّه الخالص إليه مباشرة ، ولتكن قلوبنا ونفوسنا متعلّقةً به ، طالبة الاستعانة منه وحده لا بالأسباب الظاهرية. ونحن لا نريد أن نلغي أثر الأسباب ، فقد أبى الله أن يُجريَ الأمور إلّا بأسبابها ، ولكن نقول : إنّ سببيّة الأسباب ليس لها استقلاليّة عن الله ، ولا تأثير لها من دون الإذن الإلهيّ ونفوذ الإرادة الإلهيّة ، فلو أراد الإنسان أن يرزقه الله الذرّية ، فعليه أن يقوم بالاقتران بامرأة ، ثمّ تتحكّم الأسباب والسنن في إيجاد الطفل ، ولكن كلّ ذلك يجري بأمر الله ومشيئته تبارك وتعالى.

وقد تكون الأسباب نفسها أسباباً لغيرها ، وقد يكون ذلك الغير سبباً لغيره ، وهكذا تقع الأسباب في تسلسل طُوليّ وفق الخطّ الذي رسمه مسبّب الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى.

عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : قال النبيّ صلى الله عليه وآله : أوحى الله إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه : وعزّتي وجلالي ، لَأقْطَعَنَّ أمل كلِّ مؤمِّلٍ غيري بالإياس ، ولَأكسوَنّه ثوب المذلّة في الناس ، ولَأُبعدنّه من فَرَجي وفضلي. أيأمل عبدي في الشدائد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غافر : ١٤.

٢ ـ الأعراف : ٥٦.

٣ ـ الأنبياء : ٩٠.

٤ ـ الأعراف : ٥٥.

١١٥

غيري والشدائد بيدي؟! ويرجو سوائي وأنا الغنيّ الجواد ، بيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة ، وبابي مفتوح لمن دعاني؟! (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قيل له : إنّ قوماً من مواليك يُلمّون بالمعاصي ويقولون : نرجو ، فقال عليه السلام : كَذِبوا ، ليسوا لنا بموالي ، أولئك قوم ترجّحت بهم الأمانيّ ، من رجا شيئاً عمل له ، ومن خاف مِن شيءٍ هرب منه (٢).

وقال عليه السلام : لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون خائفاً راجياً ، ولا يكون خائفاً راجياً حتّى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو (٣).

ودخل عليه السلام يوماً على رجل وهو في النزع ، فسأله : كيف تجدك؟ قال : أخاف ذنوبي ، وأرجو رحمة ربّي ، فقال عليه السلام : ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلّا أعطاه الله ما رجا ، وآمنه ممّا يخاف (٤).

وقال الإمام الباقر عليه السلام : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : قال تبارك وتعالى : لا يَتّكلِ العاملون على أعمالهم التي يعملونها لثوابي ، فإنّهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم أعمارهم في عبادتي ، كانوا مقصّرين غيرَ بالغين في عبادتهم كُنْهَ عبادتي ، فيما يطلبون عندي من كرامتي ، والنعيم في جناتي ورفيع الدرجات العلى في جواري ، ولكن برحمتي فَلْيَثقوا ، وفضلي فَلْيَرجوا ، وإلى حسن الظنّ بي فَلْيطمئنّوا ، فإنّ رحمتي عند ذلك تُدركهم ، ومنّي يبلغهم رضواني ، ومغفرتي تُلبِسُهم عفوي ؛ فإنّي أنا الله الرحمن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأمالي للطوسي : ٥١٤.

٢ ـ الكافي ٢ : ٦٨ ـ ٦٩ / ح ٦ ـ باب الخوف والرجاء.

٣ ـ نفسه ٢ : ٧١ / ح ١١.

٤ ـ شرح نهج البلاغة ١٠ : ١٥٥.

١١٦

الرحيم ، وبذلك سُمّيت (١).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله ورد قوله : قال الله سبحانه : ما من عبدٍ مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلّا قطعتُ أسباب السماوات وأسباب الأرض من دونه ، فإن سأَلَني لم أُعطِه ، وإن دعاني لم أَجِبْه. وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلّا ضمنت السماوات والأرض رزقه ، فإن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ، وإن استغفرني غفرت له (٢).

ولكنّ ديدن الإنسان أن يتوجّه إلى الله عند الشدّة ونزول الضرّ ، وعند الوقوع في الخطر. وحين يطارده شبح الهلع والخوف ينزل عن مطيّة الهوى ومركب الطغيان ، فعندها يتوجّه ويُقْبل على ربّه بكلّ وجوده ومشاعره ، ولكنّه بعد كشف ضرّه وبلائه يعود إلى عالمه الأوّل : عالم الغفلة والشهوة والتعلّق بالأسباب الوهميّة ، والغرور والاستغناء!

والتوجّه إلى الله بقلب ملؤه الخوف والرجاء من الأبواب والمنافذ المطلّة على ساحة القدس التي منها تطلع شموس الهداية الإلهيّة ، وتنزل شآبيب الرحمة والإجابة.

إنّ الرجاء هو حالة متوسّطة بين السكون والاطمئنان من جانب ، وبين الخوف والاضطراب من جانب آخر ، فالداعي يرجو الخير ممّن بيده الخير كلّه ، ويرجو دفع الضرّ وصرف البليّة ممّن بيده القدرة على إنزال ذلك ، فهذه الحالة النفسيّة باب من موجبات وشرائط استجابة الدعاء.

ويشهد لذلك ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : والذي لا إلهَ إلّا هو ، ما أُعطي مؤمن قطُّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٧١ / ح ١ ـ باب حسن الظنّ بالله عزّ وجلّ.

٢ ـ الأمالي للطوسي : ٥٨٥.

١١٧

خيرَ الدنيا والآخرة إلّا بحسن ظنّه بالله ورجائه له ، وحُسن خلقه والكفّ عن اغتياب المؤمنين (١).

وقول الإمام عليّ عليه السلام : خَفْ ربَّك خوفاً يشغلك عن رجائه ، وَارْجُهُ رجاء من لا يأمن خوفه (٢).

وقول لقمان عليه السلام في وصيّته لابنه : خَفِ الله خِيفةً لو جِئتَه بِبِرّ الثقلَين لعذّبك ، وارجُ اللهَ رجاءً لو جئتَه بذنوب الثقلين لرحِمك (٣).

وعن الإمام الباقر عليه السلام : ليس من عبدٍ مؤمنٍ إلّا وفي قلبه نوران : نور خِيفة ، ونور رجاء ، لو وُزن هذا لم يَزِد على هذا ، ولو وزن هذا لم يزد على هذا (٤).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : ما من مؤمن تخرج من عينيه دمعة ، وإن كانت مثل رأس الذباب من خشية الله ، ثمّ تصيب شيئاً من حرّ وجهه إلّا حرّمه الله على النار (٥).

وقال صلى الله عليه وآله : إذا اقشعرّ قلب المؤمن من خشية الله تَحاتَتْ عنه خطاياه كما تَتحاتُّ من الشجر ورقُها (٦).

وقال الإمام الصادق عليه السلام لتلميذه إسحاق بن عمّار : يا إسحاق ، فَخَفِ الله كأنّك تراه ، وإن كنت لا تراه فإنّه يراك ، فإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت ، وان كنت تعلم أنّه يراك ثمّ استترتَ عن المخلوقين بالمعاصي وبرزتَ له بها فقد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٧١ ـ ٧٢ / ح ٢.

٢ ـ عيون الحكم والمواعظ : ٢٤١.

٣ ـ تحف العقول : ٣٧٥.

٤ ـ الكافي ٢ : ٦٧ / ح ١.

٥ ـ سنن ابن ماجة ٢ : ١٤٠٤ ح ٤١٩٧.

٦ ـ بحار الأنوار ٦٧ : ٣٩٤ / ح ٦٤.

١١٨

جعلتَه من حدِّ أهون الناظرين إليك (١).

وقال عليه السلام : مَن خاف اللهَ أخاف الله منه كلَّ شيء ، ومَن لم يَخَفِ اللهَ ، أخافه الله مِن كلّ شيء (٢).

وقال عليه السلام : مَن عَرَف اللهَ خاف الله ، ومن خاف الله سَخَت نفسه عن الدنيا (٣).

وروي أنّ داود عليه السلام كان يقول في مناجاته : سبحانك إلهي ، إذا ذكرتُ خطيئتي ضاقت عَلَيّ الأرض بِرَحبها ، وإذا ذكرتُ رحمتك ارتدّت إليّ روحي. إلهي أتيتُ أطبّاءَ عبادك ليداووا خطيئتي فكُلُّهم عليك يَدُلّني ، فبؤساً للقانطين من رحمتك (٤).

وروي أنّ النبيّ داود عليه السلام عوتب على كثرة بكائه فقال : دعوني أبكي قبل خروج يوم البكاء ، قبل تحريق العظام واشتعال الحشا ، وقبل أن يؤمر بي ملائكةٌ غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمَرون (٥). ثمَّ ينتقل الدعاء عن صفة التوكّل على الله في كلّ صغيرة وكبيرة.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ١٤٧.

٢ ـ الكافي ٢ : ٦٨ / ح ٣.

٣ ـ نفسه ٢ : ٦٨ / ح ٤.

٤ ـ تفسير الثعلبيّ ٨ : ١٩٥ ، بحار الأنوار ١٤ : ٢٩.

٥ ـ التخويف من النار لابن رجب الحنبليّ : ٢٠٧.

١١٩

المبحث السابع عشر : في التوكّل

التوكّل : أن تعتمد على غيرك وتجعله نائباً عنك ، وحقيقة التوكّل الاستقلال بأمر الموكول إليه.

والوكيل في صفة الله تعالى أنّه الذي توكّل بالقيام بجميع ما خلق.

والمتوكّل على الله : الذي يعلم أنّ الله كافل رزقه وأمره ، فيركن إليه وحده ولا يتوَكّلُ على غيره.

والوكَلُ والوَكِلُ : البليد والجبان ، والعاجز الذي يَكِل أمره إلى غيره.

قال تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) (١).

وقال سبحانه : (قُلْ حَسْبِيَ اللَّـهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٢).

وقد ورد مفهوم التوكّل في القرآن الكريم ، بالإضافة إلى ما ورد في السنة الشريفة فيما يقارب السبعين موضعاً ، وهذا ممّا يشير إلى أهمّية هذا الموضوع.

قال الشيخ النراقيّ قدس سره في «جامع السعادات» : التوكّل اعتماد القلب في جميع الأمور على الله ، وبعبارة اُخرى : حوالة العبد جميعَ أموره على الله ، وبعبارة أخرى : هو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الفرقان : ٥٨.

٢ ـ الزمر : ٣٨.

١٢٠