مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

ورد في «الكافي» عن هشام بن الحكم قال : قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام : يا هشام ، إنّ الله حكى عن قوم صالحين أنّهم قالوا : (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) ، حينَ علموا أنّ القلوب تَزيغ وتعود إلى عماها ورَداها ، إنّه لم يَخَف اللهَ مَن لم يَعقِل عن الله ، ومَن لم يعقل عن الله لم يَعقِد قلبَه على معرفة ثابتةٍ يُبصرها ويجد حقيقتها في قلبه ، ولا يكون أحد كذلك إلّا من كان قوله لفعله مصدِّقاً ، وسرّه لعلانيته موافقاً ؛ لأنّ الله تبارك اسمه لم يَدُلَّ على الباطن الخفيّ مِن العقل إلّا بظاهرٍ منه وناطقٍ عنه (١).

وورد عن الإمام عليّ : أكثرُ الناس معرفةً لنفسه أخوفُهم لربّه (٢).

وإذا قرّبنا وجهة النظر هذه نقول : إنّ اشتعال المصباح الكهربائيّ دليل على وجود التيّار الكهربائيّ ، ولكنّ العارف يرى من هذا المثال أسبقيّة وجود التيّار على اشتعال المصباح ، ولولا وجود التيّار لما اشتعل المصباح ، والاشتعال قائم بوجود التيّار ، وعلى فرض نزع المصباح أو إطفاء الزرّ الكهربائيّ ، فلا يعني هذا عدم وجود التيّار ، فقد قال العقلاء : عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود (٣).

٢ ـ إنّ الطريق المؤدّي إلى المعرفة الإلهيّة والمعارف الدينيّة الحقّة هو العقل ، وبه يستدلّ الإنسان على التوحيد ، وعلى وجوب شكر المنعم ، ووجوب هداية الأنام الذي قوامه وجوب أصل النبوّة ، وأحقيّة المعاد والعدل الإلهيّ وغيرها.

أمّا المعاجز التي تظهر على أيدي الرسل والأنبياء عليهم السلام فهي ليست أدلّة على وجود الله سبحانه ، ولا دليلاً على وجوب أصل النبوّة ، لأنّ هذه من المسلّمات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ١ : ١٨ / ح ١٢.

٢ ـ غرر الحكم : ٩٢ ، مستدرك الوسائل ١١ : ٢٣٦ / ١٢٨٤٦.

٣ ـ كما في : المعتبر للمحقّق الحلّي ١ : ٣٨٥.

٢٨١

العقليّة ، فالمعاجز أدلّة ناطقة على صدق مدّعي الرسالة ، وأنّ ال أنبياء والرسل عليهم السلام أصحاب نفوس قدسيّة طاهرة مطهّرة من جميع الأدناس وآثار الذنوب والمعاصي ، وقد منحهم الله الولاية فأصبحوا قادرين على الإماتة والإحياء ، وتكليم الموتى والحجارة ، والنطق في المهد ، وغيرها من مصاديق التدبير.

وكذلك نقول : إنَّ المعاجز ليست دليلاً على صدق وأحقيّة المعارف الإلهيّة والتشريعات الحقّة ، وإنّها ممّا أمر الله به ، إذ هي كذلك من المسلّمات العقلية ، فالشرع يأمر بالعدل والإحسان ومكارم الأخلاق ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وهذا من موارد ومصاديق الحسن والقبح العقليَّين.

٣ ـ إنّ للمعرفة الحقيقيّة آثاراً تنعكس على سلوك الإنسان وتصرّفاته وعبادته.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : من عَرَف الله وعظّمه منع فاه من الكلام ، وبطنه من الطعام ، وعفى نفسه بالصيام والقيام. فقالوا : بآبائنا وأُمّهاتنا يا رسول الله ، هؤلاء أولياء الله؟ قال صلى الله عليه وآله : إنّ أولياء الله سكتوا فكان سكوتهم ذِكْراً ، ونظروا فكان نظرهم عبرة ، ونطقوا فكان نطقهم حكمة ، ومَشَوا فكان مشيهم بين الناس بركة ، لولا الآجال التي قد كُتبت عليهم لم تَقَرَّ أرواحهم في أجسادهم خوفاً من العذاب ، وشوقاً إلى الثواب (١).

وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : خرج الحسين بن عليّ عليه السلام على أصحابه فقال : يا أيّها الناس ، إنّ الله جلّ ذِكرُه ما خلق العباد إلّا ليعرفوه ، فإذا عَرَفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة مَن سواه (٢).

وورد عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام (وكذا عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام) أنّه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٢٣٧ / ح ٢٥ ـ باب المؤمن وعلاقاته وصفاته.

٢ ـ علل الشرائع : ٩ / ح ١.

٢٨٢

قال : وجدتُ علم الناس كلَّه في أربع : أوّلها : أن تعرف ربّك ، والثاني : أن تعرف ما صنع بك ، والثالث : أن تعرف ما أراد بك ، والرابع : أن تعرف ما يُخرِجك عن دينك (١).

يقول صاحب «الميزان» : إنّ الإنسان إذا اشتغل بآية نفسه وخلا بها عن غيرها انقطع إلى ربّه من كلّ شيء ، وعقب ذلك معرفة ربّه معرفةً بلا توسيط وسط ، وعلماً بلا تسبيب سبب ، إذ الانقطاع يرفع كلّ حجاب مضروب ، وعند ذلك يذهل الإنسان بمشاهدة ساحة العظمة والكبرياء عن نفسه ، وأحرى بهذه المعرفة أن تُسمّى معرفة الله بالله. وانكشف له عند ذلك من حقيقة نفسه أنّها الفقيرة إلى الله سبحانه ، المملوكة له ملكاً لا تستقلّ بشيء دونه ، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام : تعرف نفسه به ، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك ، وتعلم أنّ ما فيه له وبه (٢).

وقد ورد في الحديث القدسي : فمن عمل برضائي أُلزمه ثلاث خصال : أعرّفه شكراً لا يخالطه الجهل ، وذكراً لا يخالطه النسيان ، ومحبّة لا يؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين.

فإذا أحبّني أحببتُه ، وأفتح عين قلبه إلى نور جلالي ، فلا أُخفي عليه خاصّة خَلْقي ، وأناجيه في ظُلَم الليل ونور النهار ، حتّى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم ، وأُسمعه كلامي وكلام ملائكتي ، وأُعرّفه السرّ الذي سترته عن خلقي ، وأُلبسه الحياء حتّى يستحيَ منه الخلق [كلّهم] ، ويمشي على الأرض مغفوراً له ، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً ، ولا أخفي عليه شيئاً من جنّة ولا نار ، وأعرّفه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ١ : ٥٠ / ح ١١ ، الاقتصاد للشيخ الطوسيّ : ١٤ ، بحار الأنوار ٧٥ : ٣٢٨ / ح ٥ ـ عن : كشف الغمّة ٣ : ٤٢.

٢ ـ تفسير الميزان ٦ : ١٧٥.

٢٨٣

ما يمرّ على الناس [في] يوم القيامة من الهول والشدّة ، وما أحاسب به الأغنياء والفقراء ، والجهّال والعلماء ، وأُنوّمه في قبره وأُنزِل عليه منكراً ونكيراً حتّى يسألاه.

ولا يرى غمّ الموت وظلمة القبر واللحد وهو المطلع ، ثمّ أنصب له ميزانه ، وأنشر له ديوانه ، ثمّ أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشوراً ، ثمّ لا أجعل بيني وبينه ترجماناً ، فهذه صفة المحبّين.

يا أحمد ، إجعلْ هَمَّك همّاً واحداً ، واجعل لسانك لساناً واحداً ، واجعل بدنك حيّاً لا تَغفلْ عنّي أبداً ، من يغفل عنّي لا أبالي بأيّ وادٍ هلك (١).

وأختم هذا المبحث معطّراً هذه الأجواء بأنفاس سيّد الساجدين الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام في مناجاة العارفين :

بسم الله الرحمن الرحيم

إلهي قَصُرَت الألسنُ عن بلوغِ ثنائِك ، كما يَليقُ بجلالِك ، وعجَزَت العقولُ عن إدراكِ كُنْهِ جمالِك ، وانحسَرَت الأبصارُ دونَ النظرِ إلى سُبُحاتِ وَجهِك ، ولم تجعلْ للخَلقِ طريقاُ إلى معرفتِك ، إلّا بالعجزِ عن معرفتِك.

إلهي فاجعَلْنا مِن الذين ترسّخَت أشجارُ السوقِ إليك في حدائقِ صُدورِهم ، وأخذَتْ لوعةُ محبّتِك بمجامع قلوبِهم ، فَهُم إلى أوكارِ الأفكارِ يَأْوُون ، وفي رياضِ القُرب والمكاشفةِ يَرتَعون ، ومِن حياضِ المحبّةِ بكأسِ الملاطفةِ يَكْرَعون ، وشرائعَ المُصافاةِ يَرِدُون ، قد كُشِفَ الغطاءُ عن أبصارِهم ، وانجَلَت ظُلمةُ الريبِ عن عقائدِهم وضمائرِهم ، وانتفَت مخالجةُ الشكِّ عن قلوبِهم وسرائرِهم ، وانشَرَحَت بتحقيقِ المعرفةِ صدورُهم ، وَعَلت لِسَبقِ السعادةِ في الزهادةِ هِممُهُم ، وعَذُبَ في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ بحار الأنوار ٧٤ : ٢٨ / ح ٥ ، الجواهر السنيّة للحرّ العامليّ : ١٩٩ ـ ٢٠٠.

٢٨٤

مَعينِ المُعاملةِ شِربُهم ، وطابَ في مجلسِ الأُنسِ سِرُّهم ، وأمِنَ في موطنِ المخافةِ سِربُهم ، واطمأنَت بالرجوعِ إلى ربِّ الأربابِ أنفسُهم ، وتَيقّنَت بالفوزِ والفلاحِ أرواحُهم ، وقَرَّت بالنظرِ إلى مَحبوبِهم أعينُهم ، واستَقَرَّ بإدراكِ السُّؤْلِ ونَيلِ المأمولِ فَرارُهم ، ورَبِحَت في بيعِ الدنيا بالآخرةِ تجارتُهم.

إلهي ما ألذَّ خواطرَ الإلهامِ بذِكركَ على القلوب ، وما أحلَى المسيرَ إليك بالأوهامِ في مسالِك الغُيوب ، وما أطيبَ طَعمَ حُبِّك ، وما أعذَبَ شِرْبَ قُربِك ، فأعِذْنا مِن طَرْدِك وإبعادِك ، واجعَلْنا مِن أخصِّ عارفيك ، وأصلحِ عبادِك ، وأصدقِ طائعيك ، وأخلصِ عُبّادِك ، يا عظيمُ يا جليل ، يا كريمُ يا مُنيل ، برحمتِك ومنِّك يا أرحم الراحمين (١).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصحيفة السجّادية : ٤١٧ «مناجاة العارفين».

٢٨٥

المبحث الرابع والثلاثون : الرغبة والرهبة

قال عليه السلام : اَدْعُوكَ يا سَيِّدي بِلِسان قَدْ اَخْرَسَهُ ذَنْبُهُ ، رَبِّ اُناجيكَ بِقَلْب قَدْ اَوْبَقَهُ جُرْمُهُ ، اَدْعُوكَ يا رَبِّ راهِباً راعِباً ، راجِياً خائِفاً ، اِذا رَاَيْتُ مَوْلايَ ذُنُوبي فَزِعْتُ ، وإذا رَأَيْتُ كَرَمَكَ طَمِعْتُ ، فَاِنْ عَفَوْتَ فَخَيْرُ راحِم ، وَاِنْ عَذَّبْتَ فَغَيْرُ ظالِم.

مدخل لغويّ :

وَبَقَ : إذا تَثَبَّطَ فهلك ، وَبقاً وَمَوْبِقاً ، قال الله تعالى : (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا) (١) ، وأوبقه : أهلَكَه. قال سبحانه : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا) (٢).

والجُرم : التعدّي والذنب ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) (٣).

والظلم : مجاوزة الحقّ والتعدّي ، قال الله تعالى : (أَلَا لَعْنَةُ اللَّـهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٤).

والرهبة والرهب : الخوف الشديد ، الفزع.

الرغبة : السؤال والطمع والرجاء ، قال الله سبحانه : (إِنَّا إِلَى اللَّـهِ رَاغِبُونَ) (٥).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكهف : ٥٢.

٢ ـ الشورى : ٣٤.

٣ ـ المطفّفين : ٢٩.

٤ ـ هود : ١٨.

٥ ـ التوبة : ٥٩.

٢٨٦

الفزع : الخوف الشديد ، قال تعالى : (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (١).

قال صاحب «الميزان» قدس سره في تفسير قوله تعالى : (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) (٢) : والمعنى : أنعَمْنا عليهم لأنَّهم كانوا يسارعون في الخيرات من الأعمال ، ويدعوننا رغبة في رحمتنا أو ثوابنا ، رهبةً من غضبنا أو عقابنا أو يدعوننا راغبين راهبين ، وكانوا لنا خاشعين بقلوبهم (٣).

ويرى سماحته قدس سره أنّ المقصود بالمسارعين في الخيرات ، الذين يدعون ربّهم رغباً ورهباً وكانوا خاشعين لله هم أهل بيت زكريّا عليه السلام ، وذلك هو المفهوم من السياق ، ولا يشير إلى عبادة الأنبياء الذين ذكرهم الله سبحانه في هذه السورة ، لأنّ عبادتهم خالصة من كلّ شوب ونقص وكلّ غاية غير طلب مرضاة لله ، لأنّ عبادة الله من أجل طلب الجنّة أو خوفاً من النار لا تناسب مقام الانبياء ، لأنّ ذلك من الشرك الخفيّ المنافي لكمال الإخلاص.

قال سبحانه : (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّـهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ) (٤).

الآية الشريفة تشير إلى أنّ عبادة أكثر الناس ليست خالصة من كلّ شوب ونقص ، بل إنَّ أكثر إيمانهم يخالطه شيء من الشرك الخفيّ ، وهذا الشرك لا يبلغ بهم حدّ الكفر. إنّ طاعة الشيطان واتّباع الظالمين ، والغفلة ، والاستجابة للأهواء والنزوات من الشرك الخفيّ الذي ننزّه أهل العصمة عنه.

وورد في الآثار المعتبرة : أنَّ الشرك الخفيّ أخفى من دبيب النمل على الصفا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأنبياء : ١٠٣.

٢ ـ الأنبياء : ٩٠.

٣ ـ تفسير الميزان ١٤ : ٣١٦.

٤ ـ يوسف : ١٠٦.

٢٨٧

السوداء في الليلة الظلماء (١).

وقد ذكرنا في مبحث سابق أنَّ غاية العبادة إمّا أن تكون طمعاً لما في يده سبحانه من خير دنيويّ وأخرويّ ، وتلك عبادة التجّار أو الأُجراء ، وإمّا أن تكون خوفاً من أليم عقابه وشديد نكاله ونقمته ، فتلك عبادة العبيد ، وإمّا أن تكون حبّاً وشكراً لله ، فتلك عبادة الأحرار ، وذلك لأنّه تعالى أهل للعبادة والخضوع.

يقول صاحب «الميزان» قدس سره في عبادة الأحرار ما نصّه : والله سبحانه هو الأهل للعبادة وحده ، لأنّ أهليّة الشيء لأن يخضع له لنفسه ليس إلّا الكمال ، فالكمال وحده هو الذي يخضع عنده النقص الملازم للخضوع ، وهو إمّا جمال تنجذب إليه النفس انجذاباً ، أو جلال يخرّ عنده اللبّ ويذهل دونه القلب ، وله سبحانه كلّ الجمال ، وما من جمال إلّا وهو آية لجماله ، وله سبحانه كلّ الجلال ، وكلّ ما دونه آيته ، فالله سبحانه لا إله إلّا هو ، ولا معبود سواه ، لأنّه له الأسماء الحسنى (٢).

أمّا عبادته سبحانه خوفاً وطمعاً فلا يخلوان من الشرك الخفيّ ، لأنّ غاية الأوّل الفوز بالجنّة ، وغاية الثاني دفع العذاب ، ولو حصل كلّ منهما «الطامع والخائف» على غايته من دون عبادة لما عبدا الله.

ونتوجّه بالسؤال إلى السيّد الطباطبائيّ عن كيفيّة تلبّس الإنسان بالإيمان والشرك معاً ، مع كونهما من المعاني المتقابلة التي لا تجتمع في محلّ واحد؟

يجيب سماحته قدس سره : إنّما يكون من جهة كونها من المعاني التي تقبل نفسها في القوّة والضعف ، فتختلف بالنسبة والإضافة كالقرب والبعد ، فإنّ القرب والبعد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير القمّيّ ١ : ٢١٣.

٢ ـ تفسير الميزان ١٤ : ١٢٤.

٢٨٨

المطلقين لا يجتمعان ، إلّا أنّهما إذا كانا نسبيّين لا يمتنعان من الاجتماع والتصادق ، كمكّة فإنّها قريبة بالنسبة إلى المدينة ، بعيدة بالنسبة إلى الشام ، وكذا هي بعيدة من الشام إذا قيست إلى المدينة ، قريبة منه إذا قيست إلى بغداد.

والإيمان بالله والشرك به وحقيقتهما وتعلّق القلب بالله بالخضوع للحقيقة الواجبة ، وتعلّق القلب بغيره تعالى ممّا لا يملك شيئاً إلّا بإذنه ، يختلفان بحسب النسبة والإضافة ، فإنّ من الجائز أن يتعلّق الإنسان مثلاً بالحياة الدنيا الفانية وزينتها الباطلة وينسى مع ذلك كلّ حقّ وحقيقة ، ومن الجائز أن ينقطع عن كلّ ما يصدّ النفس ويشغلها عن الله سبحانه ، ويتوجّه بكلّه إليه ويذكّره ولا يغفل عنه ، فلا يركن في ذاته وصفاته إلّا إليه ، ولا يريد إلّا ما يريده ، كالمخلص من أوليائه تعالى.

وبين المنزلتين مراتب مختلفة بالقرب من أحد الجانبين والبعد منه ، وهي التي يجتمع فيها الطرفان بنحو من الاجتماع ، ومن الدليل على ذلك الأخلاق والصفات المتمكّنة في النفوس التي تخالف مقتضى ما تعتقده من حقّ أو باطل ، والأعمال الصادرة منها ، كذلك ترى من يدّعي الإيمان بالله يخاف وترتعد فرائصه من أيّ نائبةٍ أو مصيبة تهدّده ، وهو يذكر أن لا قوّة إلّا بالله ، ويلتمس العزّة والجاه من غيره وهو يتلو قول الله تعالى : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا) (١) ، ويقرع كلّ باب يبتغي الرزق وقد ضمنه الله ، ويعصي الله ولا يستحيي ، وهو يرى أنّ ربّه عليم بما في نفسه ، وسميع لما يقول ، بصير بما يعمل ، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وعلى هذا القياس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يونس : ٦٥.

٢٨٩

فالمراد بالشرك في قوله تعالى : (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّـهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ) (١) بعض مراتبه الذي يجامع بعض مراتب الإيمان ، وهو المسمّى باصطلاح فنّ الأخلاق بالشرك الخفي (٢).

هذا ويرجى من القارئ مراجعة «مبحث في الألوهيّة» و «مبحث في الحبّ الإلهيّ» و «مبحث الخوف والرجاء» من هذا الكتاب لتلافي التكرار والإطالة.

ولننظر إلى هذه الكلمات الفوّاحة بالأمل وحسن الظنّ على لسان الإمام عليّ ابن الحسين عليه السلام في مناجاة الراغبين حيث يقول : إلهي إن كان قَلَّ زادي في المسيرِ إليك ، فلَقَد حَسُن ظنّي بالتوكّلِ عَلَيك ، وإن كان جُرمي قد أخافَني مِن عُقوبتِك ، فإنّ رجائي قد أشعَرَني بالأمنِ مِن نِقْمتِك ، وإن كان ذَنْبي قد عرَّضَني لِعقابِك ، فقد آذَنَني حُسنُ ثقتي بثوابِك ، وإن أنامَتْني الغفلةُ عنِ الاستعدادِ لِلقائِك ، فقد نَبَّهَتْني المعرفةُ بِكرمِك وآلائِك ، وإن أوحَشَ ما بيني وبينَك فَرْطُ العصيانِ والطغيان ، فقد أنَسني بُشرَى الغفرانِ والرِّضوان.

أسألك بِسُبُحاتِ وجهِكَ وبأنوارِ قُدسِك ، وأبتهلُ إليكَ بِعواطفِ رحمتِك ولطائفِ بِرِّك ، أن تُحقّقَ ظنّي بما أُؤمّلُه مِن جَزيلِ إكرامِك ، وجميلِ إنعامِك ، في القُربى مِنكَ والزُّلفى لَدَيك ، والتَّمتُّعِ بالنظرِ إليك ، وها أنا مُتعرِّضٌ لنفحاتِ رَوْحِكَ وعَطْفِك ، ومُنتَجِعٌ غيثَ جُودِك ولُطفك ، فارٌّ مِن سَخَطِك إلى رِضاك ، هاربٌ مِنك إلَيك ، راجٍ أحسَنَ ما لَدَيك ، مُعوِّلٌ على مَواهبِك ، مُفتَقِرٌ إلى رِعايتِك.

إلهي ما بدَأْتَ بهِ مِن فضلِك فَتَمِّمْه ، وما وَهَبتَ لي مِن كرمِك فَلا تَسْلُبْه ، وما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يوسف : ١٠٦.

٢ ـ تفسير الميزان ١١ : ٢٧٦.

٢٩٠

ستَرتَه علَيَّ بحِلمِك فلا تَهْتِكْه ، وما عَلِمتَه مِن قبيحِ فِعلي فاغفِرْه.

إلهي استَشْفَعتُ بِكَ إليك ، واستَجَرتُ بك منك ، أتَيتُك طامعاً في إحسانِك ، راغباً في امتنانِك ، مُسْتَسقياً وابلَ طَولِك ، مُستمطِراً غَمامَ فضلِك ، طالباً مرضاتَك ، قاصداً جَنابَك ، وارداً شريعةَ رِفْدِك ، مُلْتمِساً سنيَّ الخَيراتِ مِن عندِك ، وافداً إلى حضرةِ جَمالِك ، مُريداً وجهَك ، طارقاً بابَك ، مُستكيناً لعظمتِك وجلالِك ، فافعلْ بي ما أنت أهلُه مِن المغفرةِ والرحمة ، ولا تَفعلْ بي ما أنا أهلُه مِن العذاب والنِّقْمة ، بِرحمتِك يا أرحمَ الراحمين (١).

لقد عَلَّمنا عليه السلام ـ وهو سليل النبوّة ، وغصن الإمامة ، وربيب بيت الوحي ومنازل التنزيل ـ كيف نتوجّه إلى الله بالدعاء وقلوبنا مملوءة بالرغبة.

وها نحن ننقل مناجاة الخائفين له عليه السلام لنتعلّم كيف يكون حال المرء من الرهبة عندما يطرق باب الله بيده ، حيث قال عليه الصلاة والسلام : إلهي أتَراك بعد الإيمانِ بِك تُعذّبني ، أَم بعدَ حُبّي إيّاك تُبعِّدُني ، أَم معَ رجائي لرحمتِك وصَفْحِك تحرِمُني ، أم معَ استجارتي بِعفوِك تُسْلِمُني؟!

حاشا لوجهِك الكريمِ أن تُخَيِّبَني ، ليتَ شِعري ألِلشقاءِ وَلدَتْني أُمّي ، أم لِلعناء رَبَّتْني؟ فلَيتَها لم تَلِدْني ولم تُرَبِّني ، وليتَني عَلِمتُ أمِن أهلِ السعادةِ جَعلتَني ، وبِقُربِك وجِوارِك خَصَصْتَني ، فَتَقِرَّ بذلك عيني ، وتَطْمئِنَّ له نفسي.

إلهي هَل تُسَوِّد وُجوهاً خَرَّت ساجدةً لعظمتك؟ أو تُخرِسُ ألْسِنةً نطَقَت بالثناءِ على مَجدِك وجلالتِك؟ أو تَطْبعُ على قلوبٍ انطَوَت على مَجبَّتِك؟ أو تُصِمُّ أسماعاً تَلذَّذَت بِسَماعِ ذِكْرِك في إرادتِك؟ أو تَغُلُّ أَكُفّاً رفَعَتْها الآمالُ إليكَ رجاءَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصحيفة السجّادية : ٤٠٨ / الدعاء ١٨٦.

٢٩١

رأفتِك؟ أو تُغاقِبُ أبداناً عَمِلَت بِطاعتِك حتّى نَحِلَت في مُجاهدتِك ، أو تُعذِّبُ أرجُلاً سَعَت في عبادتِك؟!

إلهي لا تُغلِقْ على مُوَحّديكَ أبوابَ رحمتِك ، ولا تَحْجُبْ مُشتاقيكَ عنِ النظرِ إلى جميلِ رُؤيتِك. إلهي نَفْسٌ أعززتَها بِتَوحيدِك ، كيف تُذِلُّها بِمَهانةِ هِجْرانِك؟! وضميرٌ انعَقَد على مَودّتِك ، كيف تُحرِقُه بحرارةِ نِيرانِك؟!

إلهي أجِرْني مِن أليمِ غَضبِك ، وعظيمِ سَخَطِك ، يا حَنّانُ يا مَنّان ، يا رَحيمُ يا رَحمن ، يا جَبّارُ يا قَهّار ، يا غَفّارُ يا سَتّار ، نَجِّنِي بِرحمتِكَ مِن عذابِ النار ، وفَضيحةِ العار ، إذّا امتازَ الأخيارُ مِنَ الأشرار ، وحالَتِ الأحوال ، وهالتِ الأهوال ، وقَرُب المحسنون ، وبَعُدَ المُسيئون ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَت وهُم لا يُظلَمون (١).

لقد علّمنا الإمام السجّاد عليه السلام كيف نُقْبل على الله بقلوب تتعادل فيها حالات الخوف والرجاء ، والرهبة والرغبة ، لنكون في منازل ومهابط الرحمة الإلهيّة.

في الظلم

الظلمُ لغةً : وضع الشيء في غير موضعه.

والظلم بالمعنى الأعمّ ضدّ العدل ، وهو التعدّي عن الوسط في أيّ شيء كان ، وهو صفة مذمومة ورذيلة وقبيحة.

والظلم بالمعنى الأخصّ بمعنى الجَور ، والمراد به الإضرار بالغير ، والإيذاء له وإلحاق الضرر به ، كضربه وشتمه وغصب ماله واغتيابه ونحو ذلك.

وقد وعد الله الظالمين أشدّ العذاب واللعن في الدنيا والآخرة. فقال تعالى : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصحيفة السجادية : ٤٠٤ / الدعاء ١٨٤.

٢٩٢

أَلِيمٌ) (١).

وقال سبحانه : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) (٢).

والظلم قبيح كتاباً وسنّةً ، وإجماعاً وعقلاً ، وقد ورد في السنّة الشريفة في الظلم ما لم يرد في غيره.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : جَورُ ساعة في حكم أشدُّ وأعظم عند الله من معاصي تسعين سنة (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : اتّقوا الظلم فإنّه ظلمات يوم القيامة (٤).

وقال الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) : قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة (٥).

قال تعالى : (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) (٦).

الركون : هو الميل والسكون إلى الغير ، ويمكن أن نعبّر عنه بالتواطؤ معهم بكشف بعض الحقائق الدينيّة أو الاجتماعيّة لهم ليستغلّوا ذلك في تثبيت دعائم حكمهم ، أو ستر عيوبهم وجرائمهم والتغطية على عوراتهم ، أو السكوت عن مقولة الحقّ لئلّا يتضرّروا بالانتقام منهم أو المعارضة لهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الشورى : ٤٢.

٢ ـ الشعراء : ٢٢٧.

٣ ـ جامع السعادات ٢ : ٢٢١.

٤ ـ السنن الكبرى ٦ : ٤٨٦ / ح ١١٥٨٣.

٥ ـ الكافي ٢ : ٣٣١ / ح ٢ ، والآية في سورة الفجر : ١٤.

٦ ـ هود : ١١٣.

٢٩٣

وغاية هؤلاء هي نيل المطامع بما في أيدي الظالمين ، وربّما يكون نتيجة الخوف والفزع من سطواتهم وانتقامهم ، ومن مصاديق الركون كما ذكره صاحب «تفسير المنار» عن الزمخشريّ قوله : الانحطاط في هواهم ، والانقطاع إليهم ، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ، ومداهنتهم والرضى بأعمالهم ، والتشبّه بهم والتزيّي بزيّهم ، ومدّ العين إلى زُهرتهم ، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم (١).

وقد وعد الله الذين يركنون إلى الظَّلَمة بمسّ النار ، قال تعالى : (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ).

بينما أوعد المتلبّسين بالظلم من القتلة والمجرمين والعتاة بدخول النار ، قال تعالى : (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ) (٢).

وربّما كان جزاؤهم بعذاب الاستئصال ، كما حصل لقوم عاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط وغيرهم ، قال تعالى : (وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) (٣) ، وقال سبحانه : (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) (٤).

تَلخَّص ممّا سبق أنّ الركون إلى الظالمين هو الاقتراب منهم والميل إليهم. أمّا التلبّس بالظلم فذلك عندما يكون الإنسان عضواً فاعلاً في مجالات الظالمين وممارسة ما يناط إليه من أعمال إجراميّة ، منفّذاً لأوامرهم المخالفة للشرع ، وذلك معناه الدخول في زمرتهم ، وهو أشدّ من الركون.

يقول السيّد الطباطبائيّ في «الميزان» ما نصّه : إنّ الركون المنهيَّ عنه في الآية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يُنظَر : تفسير المنار ١٢ : ١٧٠ وما بعدها.

٢ ـ سبأ : ٤٢.

٣ ـ الكهف : ٥٩.

٤ ـ المؤمنون : ٢٧.

٢٩٤

أَخصُّ من الولاية المنهيّ عنها في آيات أخرى كثيرة ، فإنّ الولاية هي الاقتراب منهم بحيث يجعل المسلمين في معرض التأثّر من دينهم أو أخلاقهم أو السنن الظالمة الجارية في مجتمعاتهم ، وهم أعداء الدين ، وأمّا الركون إليهم فهو بناء الدين أو الحياة الدينيّة على ظلمهم ، فهو أخصّ من الولاية مورداً ، أي أنّ كلّ مورد فيه ركون ففيه ولاية من غير عكس كلّي ، وبروز الأثر في الركون بالفعل ، وفي الولاية أعمّ ممّا يكون بالفعل (١).

نعوذ بالله من الظلم ومن الركون إلى الظالمين ومن موالاه أحد منهم ، قال سبحانه : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (٢) ، وقال تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللَّـهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (٣) ، وقال عزّ شأنه : (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (٤).

وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال : الظلم ثلاثة : ظلم يغفره الله ، وظلم لا يغفره الله ، وظلم لا يَدَعُه الله. فأمّا الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك ، وأمّا الظلم الذي يغفره فظلمُ الرجل نفسَه فيما بينه وبين الله ، وأمّا الظلم الذي لا يَدَعه فالمداينة بين العباد (٥).

وقال سبحانه : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّـهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير الميزان ١١ : ٥٦.

٢ ـ النساء : ٨٩.

٣ ـ الأنعام : ١٤.

٤ ـ آل عمران : ٢٨.

٥ ـ الكافي ٢ : ٣٣١ / ح ١ ـ باب الظلم.

٦ ـ النساء : ٩.

٢٩٥

وقد ذكر بعض العلماء آراء عديدة بخصوص هذه الآية المباركة ، إذ كيف يؤاخَذُ الأولاد بذنوب الآباء من دون جرم فعلوه ، وهل هذا يتنافى مع قاعدة العدل؟

نذكر بعض الآراء :

١ ـ المراد بذلك مؤاخذة الأولاد الراضين بفعل آبائهم من المظالم ، وما وصل إليهم من أملاك ومواريث وامتيازات بسبب ذلك الظلم ، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : العامل بالظلم ، والمعين له ، والراضي به ، شركاءُ ثلاثتُهم (١).

وورد في زيارة الإمام الحسين المرويّة بسند صحيح عن الإمام الصادق عليه السلام : فلعَنَ اللهُ أُمّةً قَتَلَتْك ، ولَعَن اللهُ أُمّةً ظلَمَتْك ، ولَعَنَ اللهُ أُمّةً سَمِعَت بِذلك فَرَضِيَتْ بِه (٢) ، وورد كذلك : لو أنّ رجلاً قُتلَ في المشرق فَرَضي بقتله رجل في المغرب ، لكان الراضي عند الله عزّ وجلّ شريكَ القاتل (٣).

٢ ـ وقال صاحب «جامع السعادات» ما نصّه : إنّ الدنيار دار مكافأة وانتقام ، وإن كان بعض ذلك ممّا يُؤخَّر إلى الآخرة ، وفائدة ذلك : أمّا بالنسبة إلى الظالم فإنّه يردعه عن الظلم إذا سمع ، وأمّا بالنسبة إلى المظلوم فإنّه يستبشر بنيل الانتقام في الدنيا مع نيله ثواب الظلم الواقع عليه في الآخرة ، فإنّه ما ظفر أحد بخير ممّا ظفر به المظلوم ، لأنه يأخذ من دِين الظالم أكثر ممّا أخذ الظالم من ماله. وهذا ممّا يصحح الانتقام مِن عقب الذريّة أو عقب عقبه ، فإنّه وإن كان في صورة الظلم لأنّه انتقام من غير أهله ، مع أنّه لا تَزِرُ وازرة وزر أخرى ، إلّا أنّه نعمة مَنَّ الله عليه في المعنى من جهة ثوابه في الدارين ، فإنّ ثواب المظلوم في الآخرة أكثر ممّا جرى عليه في الدنيا (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٣٣ / ح ١٦.

٢ ـ مصباح المتجهّد : ٧٢٢ / ح ٨٠٩ ، بحار الأنوار ٩٨ : ٢٠١ / ح ٣٢.

٣ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ٢٧٣ / ح ٥ ـ الباب ٢٨.

٤ ـ جامع السعادات ٢ : ٢٢٨.

٢٩٦

٣ ـ لو رجعنا إلى الروايات الشريفة بل الآيات القرآنية بالأولويّة ، لَوجدناها صريحة واضحة في أنّ للأعمال آثاراً وضعيّة على الكون والحياة ، والإنسان الفرد والإنسان الأمّة ، وقد ذكرنا ذلك في مبحث الآثار الوضعيّة للأعمال ، فليراجع.

قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١) ، وقال سبحانه : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً) (٢).

إنّ الفتن التي يُحْدثها بعض الأشرار والمغامرين لها آثارها السيّئة ، تعمّهم وغيرَهم ، وقد حذّرنا القرآن والسنّة من القعود والتكاسل والسكوت على الظالمين ، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فَيُولّى عليكم شرارُكم ، ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم (٣).

وورد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام : كسب الحرام يبين في الذرّية (٤).

إنّ الآثار قد تعمّ المجتمع كلّه بالذلّة والمسكنة والمجاعة ، لكنّ الظالمين أفراد محدودون ، وقد رأينا بالتجربة ما آل إليه أمر الشعوب التي تسلّط عليها القتلة والمجرمون والمبتزّون ، فقادوا شعوبهم وجيرانهم إلى الحروب والانقسامات والاقتتال وتبذير ثروات البلاد ، وإهلاك الحرث والنسل.

ويكفيك شاهداً ما حصل للأمّة الإسلاميّة التي ابتعدت عن قادتها الحقيقيّين ، فقادها ذلك إلى تجرّع غصص النكبات ، وإلى امتهان كرامتها ونفاد خيراتها ، وسلب أمنها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الروم : ٤١.

٢ ـ الأنفال : ٢٥.

٣ ـ نهج البلاغة : الكتاب ٤٧ وصيّته عليه السلام بعد ضربة ابن ملجَم لعنه الله.

٤ ـ الكافي ٥ : ١٢٥ / ح ٤.

٢٩٧

ورد في كتب التاريخ أنّ الصحابيّ الجليل عمّار بن ياسر شُوهد يبكي في ليلة من ليالي صفّين ، تلك الحرب الطاحنة بين جيش أمير المؤمنين عليه السلام وعدوّه اللدود عدوّ الإسلام معاوية بن أبي سفيان ، فسأله أحد رفاقه في السلاح : ما يبكيك يا أَبا اليقظان؟

فقال رضي الله عنه : حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : ما اختلفت أُمّةٌ بعد نبيِّها إلّا ظَهَر أهلُ باطلها على أهل حقّها إلّا ما شاء الله (١).

يقول صاحب «الميزان» قدس سره : من ظلم يتيماً في ماله ، فإنّ ظلمه سيعود إلى الأيتام من أعقابه ، وهذا من الحقائق القرآنيّة العجيبة ، وهو من فروع ما يظهر من كلامه تعالى أنّ بين الأعمال الحسنة والسيّئة وبين الحوادث الخارجيّة ارتباطاً (٢).

وقد وردت أحاديث كثيرة تحذّر من بعض المعاصي خاصّة ؛ لأنّ فيها انعكاسات على الذرّية والعيال.

ورد عن الباقر عليه السلام قوله : مَن ارتكب أحداً بظلم بعث الله من يظلمه بمثله ، أو على وُلده أو على عقبه من بعده (٣).

في الظلم وعقاب الظالمين

ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : يقول الله عزّ وجلّ إذا عصاني من عَرَفني ، سلَّطتُ عليه من لا يعرفني (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ وقعة صفّين : ٢٢٤ ، شرح نهج البلاغة ٥ : ١٨١ ، وظَهَر : أي تغلّب.

٢ ـ تفسير الميزان ٤ : ٢٠.

٣ ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٧٣.

٤ ـ الكافي ٢ : ٢٧٦ / ح ٣٠ ، الأمالي للصدوق : ١٩٠ / ح ١٢ ـ المجلس ٤٠ ، وفيه : إذا عصاني مِن خَلْقي مَن يَعرفُني.

٢٩٨

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : من ظلم أجيراً أجْرَه أحبط الله عمله وحرَّم عليه ريح الجنّة ، وريحُها توجد من خمسمائة عام. ومن خان جاره شبراً من الأرض طوَّقه الله تعالى يوم القيامة إلى سبع أرضين ناراً حتّى يدخله جهنّم (١).

ومن ظلم امرأة مهرها فهو عند الله زانٍ ويقول الله له يوم القيامة : عبدي زوّجتك أَمَتي على عهدي فلم تَفِ لي بالعهد ، فيتولّى الله عزّ وجلّ طلبَ حقّها ، فيستوجب حسناته كلَّها فلا يفي بحقها ، فيُؤمر به إلى النار! (٢)

والزنا المراد هنا ليس بالمعنى الحقيقيّ ، بل بالمعنى التنزيليّ من ناحية العقاب ، وهذه التعابير شائعة في الفقه الإسلاميّ. قال السيّد كاظم اليزدي طالب ثراه في «العروة الوثقى» : من أُطلق عليه الشهيد في الأخبار من : المطعون والمبطون ، والغريق والمهدوم عليه ، ومن ماتت في الطَّلق ، والمدافع عن أهله وماله ، لا يجري عليه حكم الشهيد ، إذ المراد التنزيل في الثواب (٣).

وورد عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنّه قال : الحَجَرُ الغَصيب في الدار رهنٌ على خرابها (٤) ، وورد : لو أن الجنّة وهي دار البقاء أُسست على حجر من الظلم لأُوشِك أن تخرب.

وقال الإمام الباقر عليه السلام : لمّا حضَرَ عليَّ بن الحسين عليهما السلام الوفاةُ ضمّني إلى صدره ثمّ قال : يا بُنيّ ، أوصيك بما أوصاني به أبي عليه السلام حين حضَرَته الوفاة ، وبما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٨١ ـ ٢٨٢.

٢ ـ نفسه : ٢٨٣.

٣ ـ العروة الوثقى ١ : ١٥٧ / المسألة ٩.

٤ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٢٤٠.

٢٩٩

ذكر أنّ أباه عليه السلام أوصاه به ، قال : يا بُني ، إيّاك وظُلمَ مَن لا يَجِدُ عليك ناصراً إلّا الله (١).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : لا يَكبُرنَّ عليك ظلمُ مَن ظلمك ، فإنّه يسعى في مضرّته ونفعك. وليس جزاءُ مَن سَرّك أن تسوءه (٢). من سَلَّ سيف ال عدوان قُتل به (٣). من حفر لأخيه «المؤمن» بئراً وقع فيها. ومن هتك حجاب غيره ، انكشَفَت عورات بيته (٤). بئس الزادُ إلى المعاد العدوانُ على العباد (٥).

وقال الصادق عليه السلام : لا تحفر لأخيك حفرة فتقع فيها ، فإنّك كما تَدين تُدان (٦).

ومن أعظم المحرّمات والمظالم إهانة المؤمن وازدراؤه وإيذاؤه ، فقد ورد في الحديث القدسيّ : يا محمّد ، مَن أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي (٧).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : إذا كان يومُ القيامة نادى منادٍ : أين الصَّدودُ لأوليائي؟ فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم! (٨)

وعنه أيضاً عليه السلام : مَن أعان على مؤمن بِشَطرِ كلمةٍ لقيَ اللهَ عزّ وجلّ يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيسٌ من رحمتي! (٩)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٣١ / ح ٥ ، الأمالي للصدوق : ١٥٤ / ح ١٠ ـ المجلس ٣٤.

٢ ـ نهج البلاغة : الكتاب ٣١.

٣ ـ غرر الحكم : ٢٧٩ ، تحف العقول : ٩٣.

٤ ـ تحف العقول : ٩٣ ـ عنه : بحار الأنوار ٧٤ : ٢٨٢ / ح ١.

٥ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٢٢١.

٦ ـ الأمالي للصدوق : ٣٤٢ / ح ١٠ المجلس ٦٥.

٧ ـ تفسير الثعالبيّ ٨ : ٣١٨.

٨ ـ الكافي ٢ : ٣٥١ / ح ٢.

٩ ـ نفسه ٢ : ٣٦٨ / ح ٣ ، المحاسن : ١٠٣ / ح ٨٠ ، وفيه : مَن أعان على مسلم بشطرٍ كلمةٍ كُتب بين عينَيه يومَ القيامة : آئِسٌ مِن رحمة الله.

٣٠٠