مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

في طريق السعادة ، وكانت مُنْصَبِغةً بصبغة الولاية الإلهيّة فتقرّب الإنسان إلى الله زلفى ، وأمّا إذا وقعت في طريق الشقاء وتحت ولاية الشيطان فإنّما هي نقمة وليست بنعمة ، والآيات في ذلك كثيرة (١).

إنّ الكثير من النعم والأموال والأولاد والعطايا الإلهيّة التي تحت يد الإنسان ليست ملكاً حقيقياً له ، بل هو مخوّل بالتصرّف فيها وفق الضوابط والموازين الشرعيّة ، وكثيراً ما تبعث هذه الأموال والنعم الغرور في نفسه ، وتركّز الآمال العريضة عنده ، وتلهيه عن ذكر الله ، وتصدّه عن قبول الحقّ ، وتبعث الخيالات الفاسدة في ذهنه ، فيتصوّر أنّه يملكها وأنّها قادرة على أن تعصمه من أمر الله.

والواقع أنّ هذه الأموال قد تكون وبالاً عليه إذا أساء التصرّف فيها ، ولم يدفع الحقّ الشرعيّ المتعلّق بها ، وقد تكون عرضة للزوال في لحظة واحدة.

بعد هذه المقدّمة نقول : إن الربّ هو المالك الذي يدبّر أمر مملوكه ، وفيه معنى المُلك ، وقلنا : إنّ الملك نوعان : الملك الحقيقيّ ، والملك الاعتباريّ فكلّ ما تقع عليه أيدينا من الأعيان والأولاد والأزواج وغيرها هو من الملك الاعتباريّ.

فنحن نتصرّف فيه بالتخويل والتسليط والتمكين ، وهذه الأشياء غير قائمة بنا ، فلو امتلك الإنسان بستاناً فهذا ملك اعتباريّ لقيام ذلك البستان بنفسه مستقلّاً عن المالك ، أمّا لو قلنا : إنّ للإنسان رأساً وعيناً ويداً ورجلاً ، فهذه الأعضاء ليس لها وجود مستقلّ بذاتها ، بل هي قائمة بقيام الإنسان ، وهذا من الملك الحقيقيّ البشريّ. على أنّ هذا الملك يرجع في الحقيقة إلى الملك الحقيقيّ لله سبحانه ، وهو مفتقر إلى الله في أمرين :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير الميزان ١١ : ٨١.

٣٨١

١ ـ الوجود ٢ ـ التدبير.

وملك الإنسان لنفسه وأعضائه على نحو الحقيقة ، وملكه لغيره على وجه الاعتبار ، يقع في طول الملك الحقيقيّ لله سبحانه ، إذ الله يملك الإنسان وما ملك.

فلو قلنا : إنّ زيداً يملك عبداً ، وهذا العبد يملك أرضاً ، فهؤلاء كلّهم ملك لله تعالى ، وإن مَلك بعضهم بعضاً ، قال تعالى : (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (١) ، وقال سبحانه : (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (٢).

والملك الذي يناله الإنسان بالتمليك من الله سبحانه هو نعمة وموهبة وفيض إليهّ بحدّ ذاته ، لأنّه محض خير وبركة يعمّ نفعها الفردَ والمجتمع ، أمّ لو وقعت هذه النعم في أيدي الظالمين والفاجرين والغاصبين فستكون مذمومة ، بل تكون نقمة ، وذلك بفعل الإنسان ، والمسألة تتعلّق بمسائل الابتلاء والفتنة والامتحان.

قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ) (٣).

على أنّ هناك فوارق كبيرة بين ملك الله وملك البشر ، فالله سبحانه هو المالك على الإطلاق ، وله حقّ التصرّف المطلق في مخلوقاته ، وهذا التصرّف مستند إلى ذاته المتعالية المقدّسة وإرادته من دون مانع أو تأثير خارجيّ. وليس هناك إنسان له القابليّة على التصرّف في الموجودات إلّا بالإذن الإلهيّ.

والملكيّة الإلهيّة لا تخرج عن يده وسطوته تعالى ، سواء كانت في يد الإنسان ، أم بعد خروجها من يده بالموت والانتقال بالمعاملات ونحوها ، أمّا الإنسان فيملك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الحديد : ٧.

٢ ـ البقرة : ٢٥٥.

٣ ـ البقرة : ٢٥٨.

٣٨٢

ثمّ تخرج هذه الملكيّة منه بالموت وغيره. فالملك الاعتباريّ لابدّ أن يزول ويخرج من يد الإنسان ليعود إلى مالكه الحقيقيّ وهو الله سبحانه.

قال تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) (١).

وقال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) (٢).

ولقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله : كن وصيَّ نفسك (٣). فالدِّين يأمرنا أن نصرف الأموال ، وأن نفعل المبرّات والصدقات ونحن أحياء ، ولا ننتظر من الأولاد فعل ذلك بعد الموت ، انتهى مبحث الملك.

ونهاية الفقرة تتحدّث عن نعمة هي من أعظم نعم الله على الإنسان ، ألا وهي مسألة رفق الله بالعباد ، وطول حلمه عن العاصي ، وعظيم ستره عليهم وإمهالهم لعلّهم يرجعون إلى ربّهم.

وكلّ مسلم مأمور بالدعوة إلى الله ، وتبليغ أحكامه ، وقيادة أفراد المجتمع إلى ساحة الإيمان.

قال تعالى : (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٤).

وأوّل الدعاة إلى الخير هو الله سبحانه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ القصص : ٥٨.

٢ ـ الأنعام : ٩٤.

٣ ـ الكافي ٧ : ٦٥ / ح ٢٩.

٤ ـ النحل : ١٢٥.

٣٨٣

قال الله تعالى : (وَاللَّـهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (١).

والأنبياء والرسل هم رموزٌ إيمانيّة للدعوة إلى الله سبحانه.

قال تعالى على لسان نبيّه الأعظم صلى الله عليه وآله : (قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّـهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٢).

وقال سبحانه : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّـهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) (٣).

فأمَرَ الله الدعاة والمبلّغين بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالحسنى ، وبإقامة الدليل ، ونبذ العنف والأهواء ، واستعمال اللين والرفق مع عباد الله.

لقد أراد الله سبحانه نجاة عباده وهدايتهم إلى سواء السبيل ، وصراطه المستقيم الذي يضمن لهم السعادة في الدارين ، ولولا أن يُمهِل الله عباده في المؤاخذة لهلك كلّ من عليها ، لكنّه شاء برحمته أن يؤخّرهم لعلّهم يرجعون عن كفرهم وعنادهم ومعاصيهم إلى طريق التوحيد والطاعة والكرامة الإلهيّة.

قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٤).

وهذا لسان القرآن الناطق يتحدّث عن الله سبحانه مخاطباً نبيّه موسى عليه السلام وأخاه هارون عليه السلام أن يذهبا إلى طاغية عصرهم فرعون لدعوته إلى طريق الله ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يونس : ٢٥.

٢ ـ يوسف : ١٠٨.

٣ ـ الأحزاب : ٤٥ ـ ٤٦.

٤ ـ الروم : ٤١.

٣٨٤

ونصحهما بالحديث معه بالرفق واللين لإلقاء الحجّة البالغة عليه :

(اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ) (١).

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ طه : ٤٣ ـ ٤٤.

٣٨٥

المبحث الثالث والأربعون : في الرفق

الرِّفق : هو اللين والمداراة ، ويترتّب عليه المعاملة بلطف ، وهو من نتائج الحلم وضدّه الخُرْق : وهو الغلظة والفظاظة والعجلة ، ويترتّب عليه سوء التصرّف ، وهو من نتائج الغضب والعصبيّات.

قال تعالى مخاطباً نبيّه الأعظم صلى الله عليه وآله : (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (١).

والرفق من الصفات النفسيّة الفاضلة التي لها أثرها البالغ في بناء الحياة المستقرّة والمتمدّنة القائمة على الأخلاق والضوابط ، وإرساء قواعد الخليّة العائليّة الإيمانيّة. والرفق له أهمّيته في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي مجالات التربية والتعليم وغيرها من المصالح والميادين الاجتماعيّة. ونحن نعلم أنَّ الطاعة والاتّباع إذا كانت مستندة إلى القناعة والمحبّة والرضى ، كانت قواعدها راسخة رغم كلّ الظروف.

أمّا إذا كانت نتيجة القوّة والضغط والتسلّط فإنّها تقود إلى التمرّد والرفض في الفرص التي تتيسّر فيما بعد. إنّ القلوب والنفوس والأرواح لا تُفتح إلّا بالمحبّة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ آل عمران : ١٥٩.

٣٨٦

والقناعة ، ونعم ما قيل : إنّ فتح القلوب أصعب من فتح الممالك.

إنّ المُرفِق الأوّل بالعباد هو الله سبحانه ، ولولا رفقه بنا لصبّ العذاب علينا صبّاً نتيجة ذنوبنا ومعاصينا ، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وأئمّة أهل البيت النماذج الرائعة للرفق والمداراة.

عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : إنَّ الله عزّ وجلّ رفيق يحبّ الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف (١).

وعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله قال : إنَّ الرفق لم يُوضَع على شيءٍ إلّا زانه (٢).

وعنه صلى الله عليه وآله أيضاً : الرفق يُمْن والخُرق شؤمٌ (٣).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : من كان رفيقاً في أمره نال ما يريده من الناس (٤).

والرفق رحمة إلهيّة وفيض ربّاني ، إذا أنزله الله على قلب عبده كان هذا ترجمةً لحبّ الله لذلك العبد.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : إذا أحبّ الله أهل بيت أدخل عليهم الرفق (٥).

ونستشفّ من لسان الروايات الشريفة أنّ الرفق مجمع فضائل عديدة ، ومصدر خير كثير.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : إذا أحبّ الله عبداً أعطاه الرفق (٦). ومن يُحرِم الرفق يُحرِم الخيرَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ١١٩ / ح ٥.

٢ ـ نفسه ٢ : ١١٩ / ح ٦.

٣ ـ نفسه ٢ : ١١٩ / ح ٤.

٤ ـ نفسه ٢ : ١٢٠ / ح ١٦.

٥ ـ مسند أحمد ٦ : ٧١.

٦ ـ شرح نهج البلاغة ٦ : ٣٤٠.

٣٨٧

كلَّه (١).

وقد رأينا من خلال تجاربنا الاجتماعيّة أنّ الناس قد انفضّوا من بعض المفكّرين والعاملين ، بل من بعض أرباب الصنايع والمكاسب ، وما ذلك إلّا لحالة الغضب والعنف والشدّة التي كانوا يتّصفون بها.

إنّ الرفق يدعو إلى مداراة الناس والإخوان والأبناء ، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : إنّا أُمِرنا ـ معاشر الأنبياء ـ بمداراة الناس كما أُمرنا بالفرائض (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : المداراة نصف الإيمان (٣).

وورد في وجوب مداراة الناس والتعامل معهم بالأخلاق الحسنة والرفق والمروءة والأحاديث الكثيرة فقد قال صلى الله عليه وآله : ما يُوضَع في ميزان امرئٍ يوم القيامة أفضلُ مِن حُسن الخُلق (٤).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله مخاطباً أقاربه ، آمراً إيّاهم بحسن الخلق ومداراة الناس : يا بَني عبد المطّلب ، إنّكم لن تَسَعوا الناسَ بأموالكم ، فالْقُوهم بطلاقة الوجه وحسْن البِشر (٥).

وقال صلى الله عليه وآله : إنّ العبد لَيبلغُ بِحُسن خلقه عظيمَ درجات الآخرة ، وأشرف المنازل ، وإنّه يُضعف العبادة (٦). أي يضاعفها.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام لولده الحسين عليه السلام : أي بُنيّ ، رأس العلم الرفق ، وآفتُه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ١١٩ / ح ٧.

٢ ـ الأمالي للطوسيّ : ٥٢١ / ح ١١٥٠.

٣ ـ جامع السعادات ١ : ٣٠٥.

٤ ـ الكافي ٢ : ٩٩ / ح ٢.

٥ ـ نفسه ٢ : ١٠٣ / ح ١.

٦ ـ المعجم الكبير للطبرانيّ ١ : ٢٦٠ / ح ٧٥٤.

٣٨٨

الخُرق (١).

بل الإنسان مأمور بالرفق بنفسه ، فإنَّ النفوس لها إقبال وإدبار ، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل ، وإذا أدبرت فأَلزِمُوها الفرائض. ولقد شاهدنا بعض الشباب ممّن لا خبرة لهم بالحياة وميادين التربية والشريعة قد انحرفوا كثيراً عندما حمّلوا أنفسهم فوق طاقتهم.

وقد ورد في السيرة الشريفة لأهل البيت عليهم السلام نماذج كثيرة حول الرفق الذي اتّسموا به عن صدق المبادئ ، وعن المعرفة الحقّة ، فقد ورد أنّ جماعة من اليهود دخلوا على النبيّ صلى الله عليه وآله فقالوا : يا محمّد ، السامُ عليك ، أي الموت.

فقال صلى الله عليه وآله : وعليكم. فامتعظت إحدى زوجاته وقالت لهم : بل السام عليكم واللعنة. فقال لها صلى الله عليه وآله : لقد أجَبْتُهم. ثمّ قال صلى الله عليه وآله : خذوا كلّ شيء بالرفق (٢).

أمّا في مسألة التأديب تعزيراً فقد ورد في المسألة ٢٨٥ من «مباني تكملة المنهاج» للمرجع السيّد الخوئيّ قدس سره : لا بأس بضرب الصبيّ تأديباً خمسة أو ستّة مع رفق ، كما لا بأس بضرب المملوك تأديباً إلى عشرة.

وورد في الاستدلال على ذلك قوله قدس سره : تدلّ على ذلك مُعتبرَةُ حمّاد بن عثمان قال : قلت لأبي عبد الله في أدب الصبي والمملوك ، فقال عليه السلام : خمسة أو ستّة وارفِقْ (٣).

ومعتبرة إسحاق بن عمّار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : ربّما ضربت الغلام في بعض ما يحرم ، فقال عليه السلام : وكم تضربه؟ قلت : ربّما ضربته مائة ، فقال عليه السلام : مائة؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تحف العقول : ٨٩.

٢ ـ انظر صحيح البخاريّ ٨ : ٨٠.

٣ ـ الكافي ٧ : ٢٦٨ / ح ٣٥.

٣٨٩

مائة؟ فأعاد ذلك مرّتين ، ثمّ قال عليه السلام : حدّ الزّنا؟ اتّق الله ، فقلت : جُعلتُ فداك ، فكم ينبغي لي أن أضربه؟

فقال عليه السلام : واحداً ، فقلت : والله لو علم أنّي لا أضربه إلّا واحداً ما ترك لي شيئاً إلا أفسده. قال عليه السلام : فاثنتين. فقلت : جُعلتُ فداك ، هذا هو هلاكي إذاً. قال : فلم أزل أُماكسه حتّى بلغ خمسة ، ثمّ غضب عليه السلام فقال : يا إسحاق ، إن كنت تدري حدَّ ما أجرم فأقمِ الحدّ فيه ولا تعْدُ حدود الله (١).

ولا يختصّ الحكم المزبور بوليّ الطفل ، ففي معتبرة غياث بن إبراهيم ، عن أبي عبد الله «الصادق» عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : أدّبِ اليتيمَ بِما تؤدّب منه ولدك ، واضربه ممّا تضرب منه ولدك (٢) ، (٣).

وفي رواية أنّ أحد تلامذته نادى على مملوكه قائلاً : يا ابن الفاعلة! فأنكر عليه السلام عليه ذلك ، حتّى رفع يده فصكّ بها جبهتَه الشريفة ، ثمّ قال له : سبحان الله ، تقذف أمّه! قد كنتُ أرى أنّ لك ورعاً ، فإذا ليس لك ورع ، فقال الرجل : جُعلتُ فداك إنّ أمّه سنديّة مشركة : فقال عليه السلام : أما علمتَ أنّ لكلّ أمَةٍ نكاحاً؟ تَنَحَّ عني. فما مشى معه بعد ذلك حتّى فرّق الموت بينهما (٤).

وورد في «الكافي» : عن يعقوب بن الضحّاك عن رجل من أصحابنا سرّاج ، وكان خادماً لأبي عبد الله عليه السلام ، قال : بعثني أبو عبد الله «الصادق» عليه السلام في حاجة وهو بالحيرة ، أنا وجماعة من مواليه ، قال : فانطلقنا فيها ، ثمّ رجعنا مغتمّين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٧ : ٢٦٧ / ح ٣٤.

٢ ـ نفسه ٦ : ٤٧ / ح ٨.

٣ ـ مباني تكملة المنهاج ١ : ٣٤٠ / المسألة : ٢٨٥.

٤ ـ الكافي ٢ : ٣٢٤ / ح ٥ ـ باب البذاء.

٣٩٠

قال : وكان فراشي في الحائر الذي كنّا فيه نزولاً ، فجئتُ وأنا بحال فرميت بنفسي ، فبينا أنا كذلك ، إذا بأبي عبد الله عليه السلام قد أقبل فقال : قد أتيناك. ـ أو قال : جئناك ـ فاستويت جالساً ، وجلس على صدر فراشي ، فسألني عمّا بعثني له فأخبرته ، فحَمِد الله ، ثمّ جرى ذكر قومٍ فقلت : جُعلتُ فداك ، إنّا نبرأ منهم؟ إنّهم لا يقولون ما نقول.

قال عليه السلام : يتولّونا ولا يقولون ما تقولون تبرؤون منهم؟ قال : قلت : نعم ، فقال عليه السلام : فهو ذا عندنا ما ليس عندكم ، فينبغي أن نبرأ منكم؟ قال : قلت : لا ، جُعلت فداك. قال عليه السلام : وهو ذا عند الله ما ليس عندنا ، أفتراه «سبحانه» اطَّرَحَنا؟ قال : قلت : لا واللهِ جعلت فداك ، ما نفعل؟

قال عليه السلام : فتولّوهم ولا تبرؤوا منهم ، إنّ من المسلمين من له سهم ، ومنهم من له سهمان ، ومنهم من له ثلاثة أسهم ، ومنهم من له أربعة أسهم ، ومنهم من له خمسة أسهم ، ومنهم من له ستّة أسهم ، ومنهم من له سبعة أسهم ، فليس ينبغي أن يُحمَلَ صاحبُ السهم على ما عليه صاحب السهمين ، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة ، ولا صاحب الثلاثة على ما عليه صاحب الأربعة ، ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة ، ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب الستّة ، ولا صاحب الستّة على ما عليه صاحب السبعة.

وسأضرب لك مثلاً ، إنّ رجلاً كان له جار ، وكان نصرانيّاً ، فدعاه إلى الإسلام وزيّنه له فأجابه ، فأتاه سُحَيراً «عند السَّحَر» فقرع عليه الباب فقال له : مَن هذا؟ قال : أنا فلان ، قال : وما حاجتك؟

فقال : توضّأ والبس ثوبيك ، ومرّ بنا إلى الصلاة. قال : فتوضّأ ولبس ثوبيه وخرج

٣٩١

معه ، قال عليه السلام : فصلّيا ما شاء الله ، ثمّ صلّيا الفجر ، ثمّ مكثا حتّى أصبحا ، فقام الذي كان نصرانيّاً يريد منزله ، فقال له الرجل : أين تذهب ، النهار قصير والذي بينك وبين الظهر قليل ، قال : فجلس معه إلى أن صلّى الظهر ، ثمّ قال : وما بين الظهر والعصر قليل. فاحتبسه حتّى صلّى العصر ، قال : ثمّ قام وأراد أن ينصرف إلى منزله فقال له : إنَّ هذا آخر النهار وأقلُّ من أوّله ، فاحتبسه حتّى صلّى المغرب ، ثمّ أراد أن ينصرف إلى منزله فقال له : إنّما بقيت صلاة واحدة.

قال عليه السلام : فمكث حتّى صلّى العشاء الآخرة ، ثم تفرّقا ، فلمّا كان سحيراً ، غدا عليه فضرب عليه الباب ، فقال من هذا؟ قال : أنا فلان قال : وما حاجتك؟ قال : توضّأ والبس ثوبيك واخرج بنا فصلِّ ، قال : أُطلبْ لهذا الدين من هو أفرغ منّي ، فأنا إنسان مسكين وعلَيّ عيال.

فقال أبو عبد الله عليه السلام : أدخله في شيء أخرجه منه (١).

وعن عبد العزيز القراطيسيّ قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام : يا عبد العزيز ، إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السُّلّم ، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة ، فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد : لستَ على شيء ، حتّى ينتهي إلى العاشر ، فلا تُسقِط مَن هو دونك فيُسقطك من هو فوقك ، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق ، ولا تحملَنَّ عليه ما لا يطيق فتكسره ، فإنّ من كسر مؤمناً فعليه جبرُه (٢).

وعن الصادق عليه السلام قوله : ما أنتم والبراءة ، يبرأ بعضكم من بعض؟ إنّ المؤمنين بعضهم أفضل من بعض ، وبعضهم أكثر صلاةً من بعض ، وبعضهم أنفذ بصراً من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٤٢ ـ ٤٤ / ح ٢ ـ باب درجات الإيمان.

٢ ـ نفسه ٢ : ٤٥ / ح ٢.

٣٩٢

بعض ، وهي الدرجات (١). أي درجات الإيمان ، كما أشار إليها قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّـهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) (٢).

وعن عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه السلام قال : يا عمر ، لا تحملوا على شيعتنا ، وارفقوا بهم ، فإنّ الناس لا يحتملون ما تحتملون (٣).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٤٥ / ح ٤.

٢ ـ البقرة : ٢٥٣.

٣ ـ الكافي ٨ : ٣٣٤ / ح ٥٢٢.

٣٩٣

المبحث الرابع والأربعون : في العزّة

قال عليه السلام : يا واسِعَ الْمَغْفِرَةِ ، يا باسِطَ الْيَدَيْنِ بِالرَّحْمَةِ ، فَوَ عِزَّتِكَ يا سَيِّدي ، لَوْ نَهَرْتَني ما بَرِحْتُ مِنْ بابِكَ ، وَلا كَفَفْتُ عَنْ تَمَلُّقِكَ ، لِمَا انْتَهى اِلَيَّ مِنَ الْمَعْرِفَوِ بِجُودِكَ وَكَرِمَك ، وَاَنْتَ الْفاعِلُ لِما تَشاءُ تُعَذِّبُ مَنْ تَشاءُ بِما تَشاءُ كَيْفَ تَشاءُ ، وَتَرْحَمُ مَنْ تَشاءُ بِما تَشاءُ كَيْفَ تَشاءُ ، لا تُسْأَلُ عَنْ فِعْلِكَ ، وَلا تُنازِعُ في مُلْكِكَ ، وَلا تُشارَكُ في اَمْرِكَ ، وَلا تُضادُّ في حُكْمِكَ ، وَلا يَعْتَرِضُ عَلَيْكَ اَحَدٌ في تَدْبيرِكَ ، لَكَ الْخَلْقُ وَالْاَمْرُ ، تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمينَ.

يعود الإمام عليه السلام ثانية ليطرق باب الربوبيّة بالثناء وذِكر الصفات الجماليّة والجلاليّة ، حيث يصفه بالجود والكرم والمغفرة والرحمة الواسعة ، ويصوّر عليه السلام أنّ الداعي هو ذلك الطريد اللاجئ إلى ربّه بعد أن انقطعت به السبل ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وظنّ أنْ لا ملجأ من الله إلّا إليه. لقد تعرّض لربّه قاصداً نيل فضله ، وطلب معروفه ، والفوز بجوائزه وعطاياه ومواهبه الجزيلة التي يمنّ بها على العباد. إنّه عليه السلام يصوّر الاعي أنّه يقف بسفينة رجائه على ساحل بحر جود الله وكرمه ، يرجو الجواز إلى ساحة رحمته ونعمته ، يرجو أن ينقذه من الغرق في بحر ذنوبه وآثامه.

ثمّ يعترف أمام ساحة العظمة والكبرياء بأنَّ الخلق والأمر كلّهما لله ، يفعل ما يشاء ،

٣٩٤

لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون ، وأنّ الملك والحكم له وحده ، فلا يعترض عليه أحد في شأن التدبير ، لأنّ ذلك من لوازم الربوبيّة التي لا يشاركه فيها غيره.

والعزّة : حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب ، قال تعالى : (أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا) (١) ، والعزيز : هو الذي يَقهَر ولا يُقهر ، قال تعالى : (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢).

وقد تُمدح العزّو كما سبق ، وقد تُذمّ كعزّة الكفّار ، قال سبحانه وتعالى : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) (٣).

ووجه ذلك أنّ العزة التي هي لله ولرسوله وللمؤمنين هي العزّة الدائمة الباقية ، إذ هي العزّة الحقيقيّة ، والعزّة التي تظهر للكافرين هي التعزُّز ، وهي في الحقيقة ذلٌّ ، كما قال عليه الصلاة والسلام : كلّ عزّ ليس بالله فهو ذُلٌّ (٤). وقد تُستعار العزّة للحميّة والأنفة المذمومة ، كما في قوله تعالى : (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) (٥).

ويقال للشيء عزيز إذا صَعُب مناله ووجود مثله : قال الله سبحانه : (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) (٦) هذا ما قاله الراغب في «مفرداته» (٧). ويُقال للشيء النادر الوجود أنّه عزيز الوجود ، أيّ صعب المنال ، ويقال : عزيز القوم. لمن يصعب قهره والغلبة عليه من بينهم ، فهو صعب المنال بالقهر والغلبة (٨).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ١٣٩.

٢ ـ العنكبوت : ٢٦.

٣ ـ سورة ص : ٢.

٤ ـ مفردات غريب القرآن : ٣٣٣.

٥ ـ البقرة : ٢٠٦.

٦ ـ فصّلت : ٤١.

٧ ـ مفردات غريب القرآن : ٣٣٢.

٨ ـ تفسير الميزان ٣ : ١٣١.

٣٩٥

وهنا لابدّ أن نشير إلى عدّة نقاط :

الأُولى : أنّ العزّة من لوازم المُلك ، والملك من لوازم الربوبيّة. أنظر هذا التسلسل : الربوبيّة ، ثمّ المُلك ، ثمّ العزّة.

الثانية : لمّا لم يكن هناك مالك حقيقيّ وربّ حقيقيّ على وجه الإطلاق إلّا الله ، كانت العزّة الحقيقيّة بالأصالة له وحده لا يشاركه فيها أحد ، قال تعالى : (فَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) (١).

وقال سبحانه : (قُلِ اللَّـهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ) (٢).

الثالثة : يمكن أن يُوصف الإنسان بالعزّة إذا طلبها من مالكها الحقيقيّ ، وهو الله تعالى بالأسباب الطبيعيّة ، وذلك بسلوك طريق العبوديّة التي لا تحصل إلّا بالإيمان والعمل الصالح ، وهذه العزّة امتداديّة وتخويليّة ، والعزّة تتناسب طرديّاً مع صدق العبوديّة لله ، قال سبحانه وتعالى : (وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٣).

الرابعة : العزّة التي لا تُطلب من الله سبحانه هي ذلّ في صورة عزٍّ ، قال تعالى : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) (٤).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ فاطر : ١٠.

٢ ـ آل عمران : ٢٦.

٣ ـ المنافقون : ٨.

٤ ـ سورة ص : ٢.

٣٩٦

المبحث الخامس والأربعون : في نفي الشريك عن الله سبحانه

إنّ الإنسان منذ اللحظة الأُولى التي يفتح عينيه على الكون والوجود يُحسّ بسريان قانون العلّة والمعلوليّة ، كنظام جارٍ في كلّ المفردات والتصرّفات ، ومن هنا تبدأ ميوله إلى الحس والتفكير والاستدلال والاستنتاج. إنّ الفطرة الإنسانيّة تهتف في أعماق النفس بأنّ لهذا الكون خالقاً ومدبّراً ، وأنَّ لهذا النظام مُنظِّماً ، وأنّ وراء هذه الكمالات موجوداً كاملاً ، ذلك هو الله جلّ وعلا.

وعندما يتفاعل عامل الحسّ مع عالم الخيال ، نرى أنّ هذا الإنسان يبدأ برسم صورة لكلّ ما هو منزّه عن المادّة من المعقولات.

يقول السيّد الطباطبائيّ قدس سره : وقد قضت هذه العادة اللازمة على الإنسان أن يصوّر لربّه صورة خياليّة على حسب ما يألفه من الأمور الماديّة المحسوسة ، حتّى أنّ أكثر الموحّدين ممّن يرى تنزّه ساحة ربّ العالمين تعالى وتقدّسَ عن الجسميّة وعوارضها يُثبت في ذهنه له تعالى صورة مبهمة خياليّة معتزلة للعالم ، تبادر ذهنه إذا توجّه إليه في مسألة أو حَدَّث عنه بحديث ، غير أنَّ التعليم الدينيّ أصلح ذلك بما قرّر من الجمع بين النفي والإثبات ، والمقارنة بين التشبيه والتنزيه ، يقول الموحّد المسلم : إنّه تعالى شيء ليس كمثله شيء ، له قدرة لا كقدرة خلقه ، وعلم لا كالعلوم ، وعلى هذا القياس.

٣٩٧

وقلَّ أن يتّفق لإنسان أن يتوجّه إلى ساحة العزّة والكبرياء ونفسُه خالية عن هذه المحاكاة ، وما أشَدَّ أن يسمح الوجود برجل قد أخلص نفسه لله سبحانه غير متعلّق القلب بمن دونه ، ولا ممسوس بالتسويلات الشيطانيّة ، قال تعالى : (سُبْحَانَ اللَّـهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّـهِ الْمُخْلَصِينَ) (١).

وقال حكاية عن إبليس : (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٢).

وبالجملة ، الإنسان شديد الولع بتخيّل الأمور غير المحسوسة في صورة الأمور المحسوسة (٣).

إنّ الإنسان جزء لا يتجزّأ من هذا الكون الرحيب ، وهو أحد مفردات هذا الوجود الخاضع المستسلم للإرادة الإلهيّة ، فالطاعة التكوينيّة هي شأنُ كلّ الموجودات الكونيّة بما فيها الإنسان نفسه ، فهو يوجد بغير إرادته ، ويصوّره الله كما يشاء ، وتعمل أعضاؤه كالقلب والدماغ دون إرادته ، وهكذا هو في كثير من أموره إلى أن يخرج من هذه الدنيا بغير إرادته. ولكن هناك طاعة أخرى خُصّ بها الإنسان حيث إنّه ذو أهليّة وقدرة على التفكير والاختيار ، فأصبح تكليفه الطاعة التشريعيّة القائمة على القدرة على الفعل أو الترك بالاختيار. ومسألة العبادة قضيّة ومبدأ كونيّ عاما يقع تحت قاعدة كليّةٍ مَفادُها أنّ الضعيف يخضع للقويّ ، والناقص يخضع للكامل.

والعبادة لها عنصران :

الأوّل : هو الحالة النفسيّة التي تعتري الضعيف من هوان وذلّة وخضوع أمام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصافّات : ١٥٩ ـ ١٦٠.

٢ ـ سورة ص : ٨٢ ـ ٨٣.

٣ ـ تفسير الميزان ١٠ : ٢٧٣.

٣٩٨

سلطانه القويّ وجبروته.

الثاني : هو الأعمال البدنيّة التي يمارسها الإنسان كطقوس ومراسيم وشعائر للترجمة العمليّة عمّا يجيش في نفسه من الضعف تجاه معبوده القويّ ، كما في الصلاة ومراسيم الحجّ.

لقد جاء الإسلام في أوساط أمّة غارقة بالشرك والوثنيّة إلى شحمة أذنيها ، فأخذ النبيّ صلى الله عليه وآله دوره الرسالي وهو اللسان المعبّر عن إرادة السماء ، فكانت بياناته الشريفة تسفِّه أحلام أولئك الذين يعبدون غير الله ، مؤكداً أنّ هؤلاء المعبودين مخلوقون مربوبون ، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرّاً ولا نفعاً.

قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) (١).

وكانت بياناته المباركة الأخرى تشير إلى وجوب عبادة الله الذي له الخلق والأمر ، وبيده النفع والضّرّ.

فكان صلى الله عليه وآله ينفي الربوبيّة والألوهيّة عن غير الله ، ويثبتها لله دون غيره ، وكان شعاره المرفوع : «لا إله إلّا الله» يشير إلى هذا المعنى. وتترتّب على هذا الشعار ، الذي يمثّل لواء التوحيد الأسمى ، أمورٌ كثيرة ، منها الخضوع والانقياد لله سبحانه دون غيره. وكان المنهاج العمليّ مستنداً إلى قاعدتين :

الأولى : لا يُطاع الله من حيث يُعصى (٢).

الثاني : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (٣).

أمّا طاعة النبيّ صلى الله عليه وآله والأئمّة الكرام عليهم السلام فهي امتداد لطاعة الله سبحانه ، قال الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأعراف : ١٩٤.

٢ ـ أشار إليه الشيخ النجفي في : جواهر الكلام ٢٢ : ٤٦.

٣ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٨١ / ح ٥٨٣٢.

٣٩٩

سبحانه : (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ) (١).

وقال يصف حال أهل النار : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّـهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) (٢).

وقال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ) (٣).

رُوي أن عبد الله بن عمرو بن العاص لقيَ الإمامَ الحسين عليه السلام فأثنى عليه ، فقال له الحسين عليه السلام : إذن ما الذي دعاك إلى الخروج لقتالي وأبي يوم صفّين؟

قال : لقد أخذني والدي عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فنظر إليّ وقال : يا عبدَ الله ، صَلِّ وصُمْ ، وأطِع عَمْراً ، فعندما خرج والدي للقتال أمرني بالخروج معه ، فخرجتُ طاعة له (٤).

وأقول لهذا الظالم ابن الظالم الذي تعلّل بطاعة والده للخروج لقتال إمام عصره : أين أنت من قوله تعالى : (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) (٥).

وأين أنت من قوله صلى الله عليه وآله : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (٦) ، ولا يُطاع الله من حيث يُعصى؟

وأين أنت من صدق المبادئ لمّا جاء عبد الله بن عبد الله بن أبي سَلول يطلب الرخصة من النبيّ صلى الله عليه وآله لقتل والده عندما قال : (لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ٨٠.

٢ ـ الأحزاب : ٦٦.

٣ ـ النساء : ٥٩.

٤ ـ تاريخ مدينة دمشق : ٣١ : ٢٧٥ ، اُسد الغابة : ٣ : ٢٣٥.

٥ ـ العنكبوت : ٨.

٦ ـ غوالي اللآلئ ١ : ٤٤٤ ح ١٦٤.

٤٠٠