مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

القرارات والمراسيم للعفو عن السجناء من القتلة والسرّاق ، والباغين والمعتدين ، وبعد خروج هؤلاء إلى الساحة الاجتماعيّة تتجدّد شرورهم وجرائمهم ثانية ، بل بشكل أشدّ. ونعم ما قيل : من أمن العقاب أساء الأدب (١).

وقال الشاعر زهير بن أبي سلمى :

وَمَنْ يَجعلِ المعروفَ في غير أهلِهِ

يكنْ حمدُهُ ذمّاً عليهِ ويندمِ (٢)

ورُوي أنّ أحد المشركين جيء به أسيراً إلى النبيّ صلى الله عليه وآله ، وكان في عداد مَن أمر النبيّ صلى الله عليه وآله بقتلهم ، فقال : يا محمّد ، إنّ بيني وبينك رحماً ولي صِبْية صغار ، فاتركني للصِّبْية. فعفا عنه واشترط عليه أن لا يخرج لقتاله. فذهب إلى نوادي قريش وقال : ضحكتُ على محمّد! فلمّا جيء به ثانية أسيراً لخروجه لقتال النبيّ صلى الله عليه وآله ، قال : يا محمّد ، مَن للصبية؟

فقال صلى الله عليه وآله ما معناه : لهم النار ، أتريد أن تعود إلى نوادي قريش وتقول : خدعتُ محمّداً مرّتين؟ ثمّ أمر النبيّ صلى الله عليه وآله عليّاً عليه السلام فضرب عنقَه (٣).

إنّ الخيرات الإلهيّة والنعم الإلهيّة تصدر عن الله سبحانه ، وتفيض من خزائن رحمته بلا انقطاع ، وتسيل من بحار كرمه دون توقّف ، فما على العبد إلّا أن يتعرّض لها ، وهذه النعم هي موائد الله في الأرض ، فمنهم من يُعاطاها بدون مقابل ولا جزاء ، فتشمل البَرَّ والفاجر ، وهناك موائد خاصّة للعباد الذين أخلصوا لله ، كلّ حسب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ قولٌ جرى على لسان الخاصّ والعامّ.

٢ ـ جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشيّ : ١٦٣.

٣ ـ هذا الشخص هو أبو عزّة الجُمَحي ، وقع أسيراً يوم بدر فأطلقه النبيّ بعد أن استعطفه ، فلمّا كانت أحد خرج لحرب النبيّ صلى الله عليه وآله مرّةً أخرى فوقع أسيراً مرّةً أخرى. [سنن البيهقي ٦ : ٣٢٠]

١٦١

درجته مقابل الاعتقاد والعمل والسلوك.

ومنازل الرحمة ثلاثة :

١. منزل الفقر والحاجة : فكلّ كائن فقير محتاج ، وهو يأخذ من مواهب الله ونعمه على قدر فقره وحاجته ، فكلّما كان فقره أشدّ وحاجته أعظم ، أصابته تلك النعم والفيوضات بالشكل الذي يناسب حاله ومقامه. فإنّ الارتواء يستفيد منه من هو أشدّ عطشاً ، والشفاء ينال ذلك المريض المحتاج إليه ، وقد ورد في الدعاء المأثور : يا مَن يعطي مَن سأله ، يا مَن يُعطي مَن لم يسأله ولم يعرفه ، تحنّناً منه ورحمة (١).

فالله يعطي كلّ محتاج ، سواء الطالب والسائل والعارف أو غيرهم ، فالحاجة هي التي تستدعي نزول الخير ، بل قل : إنّ هذه الفيوضات تنزل وتفتّش عن مواضع الفقر والحاجة ، وقد نُقل عن أحد العارفين قوله : لا تطلب الماء واطلب الظمأ ، حتّى يتفجّر الماء من كلّ أطرافك وجوانبك.

وعلينا أن ننظر إلى المقابلة بين صفات الله سبحانه من جانب وبين صفاتنا من جانب آخر ، فهو الخالق العظيم ونحن مخلوقاته الضعيفة ، وهو سبحانه وتعالى يقابل ضعفنا بالإمدادات والفيوضات والنعم ، ويقابل جهلنا بالحلم ، وذنوبنا بالعفو والمغفرة ، وعجزنا بالقوّة ، وفقرنا بالغنى ، لأنّ فقرنا وجهلنا ، وعجزنا ونقصنا من منازل الرحمة الإلهيّة.

٢. منزل السؤال والدعاء : وقد يُعبَّر عنه بوعي الفقر والاحتياج ، وهذا من أقوى أسباب استنزال الرحمة واستمطار النعم الإلهيّة ، فهناك معادلة قوامها طرفان :

أ ـ دعاء صاعد إلى ساحة القداسة وعالم الكمال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ إقبال الأعمال : ١٤٦ ـ ١٤٧.

١٦٢

ب ـ إجابة نازلة بالخير.

وهذا القانون لا يتخلّف أبداً لمكان الشرط وجزائه كما في الآية الشريفة : قال تعالى : (وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم) (١) ، نعم قد يكون المانع في نفس السائل ، وقد تكون الإجابة غير ملائمة للمصالح والحِكَم ، لكنّ الله يبدلها خيراً ممّا طلب السائل ، فقد يجعلها مغفرة ورفعة شأن ، ولربّما يؤخّرها لعلمه بعاقبة الأمور ، أو يجعلها حاجة مستجابة في عالم القيامة ، وعندما يكون الداعي أحوجَ إليها.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : ما مِن عبدٍ سَلَك وادياً فيبسط كفَّيه فيذكر الله ويدعو ، إلّا ملأ الله ذلك الوادي حسنات ، فليعظم ذلك الوادي أو ليصغر (٢).

٣. منزل السعي والعمل : قال تعالى : (من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحييّنه حياةً طيّبة) (٣) ، وعن الإمام عليّ عليه السلام قال : لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل (٤) وعن الإمام الصادق عليه السلام : يا فلان ، أبلغ شيعتنا أنّه لا يُنال ما عند الله إلّا بالعمل (٥).

وننتقل من الحديث عن الرحمة في الدنيا إلى موضوع الرحمة الإلهية في الآخرة ، ففي «الدرّ المنثور» : رُوي أنّ أعرابيّاً جاء فأناخ راحلته ، ثمّ عقلها ، ثمّ صلّى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثمّ نادى : اَللّهمّ ارحَمْني ومحمّداً ولا تُشرِك في رحمتنا أحداً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : لقد حظرت رحمة واسعة ، إنّ الله خلق مائة رحمة ، فأنزل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غافر : ٦٠.

٢ ـ ثواب الأعمال : ١٥٢.

٣ ـ النحل : ٩٧.

٤ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١٥٠.

٥ ـ الأمالي للطوسيّ : ٣٧٠ / ح ٧٩٦.

١٦٣

رحمة يتعاطف بها الخلائق : جنّها وإنسها ، وبهائمها ، وعنده تسعة وتسعون (١).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : والذي نفسي بيده ، لَيغفِرنّ الله يوم القيامة مغفرةً يتطاول بها إبليس رجاء أن تصيبه (٢).

وعنه صلى الله عليه وآله : إنّ لله مائة رحمة ، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق ، وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخّر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة (٣).

وورد عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله قوله : والذي نفسي بيده ، لا يضع الله الرحمة إلّا على رحيم ، قالوا : يا رسول الله ، كلّنا رحيم ، قال صلى الله عليه وآله : ليس الذي يرحم نفسه وأهله خاصّة ، وذاك الذي يرحم المسلمين (٤). وورد في الحديث القدسيّ : وإن كنتم تريدون رحمتي فارحموا (٥).

وعن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله أنّه قال : إنّ الله عزّ وجلّ رحيم يحبّ كلّ رحيم (٦) ، وقال صلى الله عليه وآله : الراحمون يرحمهم الرحمان ، إرحموا مَن في الأرض يَرحمْكم مَن في السماء (٧).

وآل محمّد عليهم الصلاة والسلام أعظم رحمات الله على العباد ، إذ هم الامتداد لجدّهم الذي وصفه الله ، وهو أصدق القائلين : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مسند أحمد ٤ : ٣١٢.

٢ ـ المعجم الكبير للطبرانيّ ٣ : ١٦٨ / ح ٣٠٢٢.

٣ ـ مسند أحمد ٥ : ٤٣٩.

٤ ـ الرسالة السعديّة : ١٦٥ ، غوالي اللآلي ١ : ٣٧٦ / ح ١٠٦.

٥ ـ الكامل لعبد الله بن عديّ ٣ : ٣٠.

٦ ـ وسائل الشيعة ١٢ : ٢١٦ / ح ١٦١٢٥.

٧ ـ مسند أحمد ٢ : ١٦٠.

١٦٤

لِّلْعَالَمِينَ) (١).

فعن الأصبغ بن نُباتة عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ كُفْرًا) ، قال عليه السلام : نحن نعمة الله التي أنعم الله بها على العباد (٢).

وهذا من باب الجَرْي والتطبيق ، إذ هم عليهم السلام أعظم مصاديق الرحمة الإلهيّة ، والنبيّ صلى الله عليه وآله كما كان رحمة للعالمين حال وجوده الشريف ، هو رحمة للعباد بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى أيضاً.

قال الإمام الباقر عليه السلام : قال رسول الله صلوات الله عليه وآله وهو في نفرٍ من أصحابه : إنّ مُقامي بين أظهُرِكم خيرٌ لكم ، وإنّ مفارقتي إيّاكم خيرٌ لكم ... أمّا مُقامي بين أظهركم فإنّ الله يقول : (وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّـهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ... أما مفارقتي إيّاكم فهو خيرٌ لكم ؛ لأنّ أعمالكم تُعرَض عَلَيَّ كلّ إثنينِ وخميس ، فما كان مِن حَسَن حَمِدتُ الله عليه ، وما كان مِن سيّئٍ أستغفرُ الله لكم (٣).

وكان الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام إذا قرأ هذه الآية : (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا) (٤) ، يقول : سبحان مَن لم يجعل في أحدٍ مِن معرفة نعمه إلّا المعرفة بالتقصير عن معرفتها ، كما لم يجعل في أحد مِن معرفة إدراكه أكثر من العلم أنّه لا يُدركه ، فَشَكَر جَلَّ وَعَزَّ معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره ، فجعل معرفتهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأنبياء : ١٠٧.

٢ ـ تفسير العيّاشيّ ٢ : ٢٢٩ ح ٢٤ ، والآية في سورة إبراهيم : ٢٨.

٣ ـ تفسير العيّاشيّ ٢ : ٥٤ / ح ٤٥ ، الأمالي للطوسيّ : ٤٠٨ ، والآية في سورة الأنفال : ٣٣.

٤ ـ إبراهيم : ٣٤ ، النحل : ١٨.

١٦٥

بالتقصير شكراً ، كما عَلِمَ العالمين أنّهم لا يدركونه فجعله إيماناً (١).

لقد أراد الله سبحانه أن يكرم عباده وأولياءه بالتوجّه إليه مباشرة ، دون اللجوء إلى الأسباب الظاهريّة ، فإنّ اللجوء إليها على نحو استقلاليّتها من الشرك الخفيّ الذي له آثاره السلبيّة على حياة الإنسان.

إنّ هذه الأسباب ـ كما ذكرنا في أكثر من موضع ـ تقع في طول الإرادة الإلهيّة ولا تأثير لها دون إنفاذ مشيئته سبحانه ، ومن هذه : الإنسان نفسه ، فقد أراد الإسلام أن يغرس في نفوسنا التوجّه إلى الله سبحانه أنّه مُسبِّب للأسباب ، ولأنّه السبب الحقيقيّ الأصيل لرفع حوائجنا ، فإنّ الذي يلجأ إلى غيره من البشر سيجد المنع والبخل والاستئثار وربّما الإهانة ، وهذه من الصفات الذميمة.

قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى : (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) (٢) : لمّا نزلت هذه الآية استوى رسول الله صلى الله عليه وآله جالساً ثمّ قال : من لم يَتَعَزَّ بعزاء الله تقطّعت نفسه على الدنيا حسرات ، ومن أتبع بصره ما في أيدي الناس طال همُّه ولم يَشْفِ غيظه ، ومن لم يعرف أنّ لله عليه نعمةً إلّا في مطعم أو في مشرب ، قَصُر أجَلُه ودنا عذابه (٣).

وقد تكلّمنا في مبحث سابق حول البخل ، وسوف نتكلّم حول القناعة والإيثار.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصحيفة السجاديّة : ٢٥ ، الكافي ٨ : ٣٩٤ / ح ٥٩٢.

٢ ـ طه : ١٣١.

٣ ـ تفسير القمّي ٢ : ٦٥.

١٦٦

المبحث الثاني والعشرون : في القناعة

القناعة : ضدّ الحرص وهي الاجتزاء باليسير من الأَعراض المحتاج إليها.

والقانع : هو السائل الذي لا يلحُّ في السؤال.

والقناعة مَلَكة نفسيّة محمودة ، وهي أصل لمجموعة من الفضائل : كالكرم والسخاء والجود والإيثار ، والرضى عن الله ، وسمة من سمات شكر المنعم.

وعدم القناعة صفة مذمومة تقود صاحبها إلى مساوئ الأخلاق ، والانشداد إلى الأرض والزخارف والأهواء والتعب والسخط على قضاء الله.

والقناعة تبعث على الاطمئنان النفسيّ المطلوب للعبادة ، وسلوك طريق الله ، وتهذيب النفس ، والتحلّي بمكارم الأخلاق.

ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله : إنّما أَخافَ عليكم اثنتين : اتّباعَ الهوى ، وطولَ الأمل ، أمّا اتّباع الهوى فإنّه يَصُدّ عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل فيُنسي الآخرة (١).

وقد وردت مجموعة كبيرة من الأحاديث الشريفة التي تحثّ على القناع المحمودة ، قال الإمام الرضا عليه السلام : مَن لم يُقْنعه من الرزق إلّا الكثير لم يَكْفِهِ من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٣٦ / ح ٣ ـ باب اتّباع الهوى.

١٦٧

العمل إلّا الكثير ، ومَن كفاه من الرزق القليلُ فإنّه يكفيه من العمل القليلُ (١). والقناعة تعبّر عن الغنى في النفس الإنسانيّة المطمئنّة إلى ما قسم الله لها من متاع الدنيا ، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : مَن قَنَع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس (٢).

وشكا رجل إلى الإمام الصادق عليه السلام أنّه يطلب فيُصيب ولا يقنع ، وتنازعه نفسه إلى ما هو أكثر منه ، وقال : علِّمْني شيئاً أنتفع به ، فقال عليه السلام : إنْ كان ما يَكْفيك يُغْنيك ، فأدنى ما فيها يُغنيك ، وإن كان ما يَكفيك لا يُغنيك ، فكلُّ ما فيها لا يُغنيك (٣).

وعن الصادق عليه السلام قال : من قنع بالمقسوم ، استراح من الهمّ والكدّ والتعب (٤).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : القناعة مُلكٌ لا يزول ، وهي مركب رضى الله تحمل صاحبَها إلى داره (٥).

وورد في الأحاديث الشريفة أنّ القناعة : غنىً ، وعزٌّ ، وعفافٌ ، وأنّها علامة الأتقياء ، وعنوان الرضى عن الله ، وأنّها كنز لا يَفنى ، وأنّها أهنأ عيشة.

وقد مثّل النبيّ صلى الله عليه وآله والأئمّة من أهل البيت الكرام عليهم السلام أعظم صور القناعة وأرقاها ، ولم يكن ذلك من عوز أو حاجة ، بل من إيثار وكرم وسخاء ، فلقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله يجاري الريح في كرمه وعطائه ولكنّه كان زاهداً ، قانعاً ، حتّى رُوي أنّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ١٣٨ / ح ٥.

٢ ـ نفسه ٢ : ١٣٩ / ح ٩.

٣ ـ نفسه ٢ : ١٣٩ / ح ١٠.

٤ ـ مصباح الشريعة : ٢٠٢ ـ الباب الثامن والتسعون.

٥ ـ نفسه : ٢٠٣ ـ الباب الثامن والتسعون.

١٦٨

قوته صلى الله عليه وآله كان الشعير ، وحلواه التمر ووقوده السعف إن وجده (١).

وأمّا أمير المؤمنين عليه السلام فقد أعتق ألف مملوك من كدّ يمينه وعرق جبينه ، لكنّه كان مثالاً رائعاً للزهد والقناعة (٢).

وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : كن ورعاً تكن أعبد الناس ، وكن قانعاً تكن أشكر الناس ، وأحِبَّ للناس ما تحبُّ لنفسك تكن مؤمناً (٣).

وروي أنّ موسى عليه السلام سأل ربّه تعالى : أيُّ عبادك أغنى؟ فقال سبحانه : أقنعُهم لما أعطيته (٤).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : مَن رضيَ من الله باليسير من المعاش ، رضيَ الله منه باليسير من العمل (٥).

وقال عليه السلام : مكتوب في التوراة : إبنَ آدم ، كن كيف شئت ، كما تَدين تُدان ، مَن رضيَ من الله بالقليل من الرزق ، قَبِل الله منه اليسيرَ من العمل ، ومَن رضيَ باليسير من الحلال ، خفّت مؤونتُه ، وزكت مَكْسبتُه ، وخرج من حدّ الفجور (٦).

وورد عنه عليه السلام : كلّما ازداد العبد إيماناً ازداد ضيقاً في معيشته (٧).

وللقناعة مراتب ودرجات مثل غيرها من الملكات والصفات الكماليّة المحمودة ، وهي تختلف من شخص لآخر قوّةً وضعفاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ١٣٨ / ح ١.

٢ ـ المحاسن : ٦٢٤ / ح ٨٠.

٣ ـ سنن ابن ماجة ٢ : ١٤١٠ / خ ٤٢١٧.

٤ ـ جامع السعادات ٢ : ١٠٢.

٥ ـ الكافي ٢ : ١٣٨ / ح ٣.

٦ ـ نفسه ٢ : ١٣٨ / ح ٤.

٧ ـ نفسه ٢ : ٢٦١ / ح ٤.

١٦٩

وورد في «عيون أخبار الرضا» أنّ سلمان المحمّدي دعا أبا ذرّ الغفاري ذات يوم إلى ضيافة ، فقدّم إليه من جرابه كسرةَ خبز يابسة وبلَّها من رَكْوته ، فقال أبو ذر : ما أطيبَ هذا الخبز لو كان معه ملح! فقام سلمان وخرج ، ورهن ركوته بملح وحمله إليه ، فجعل أبو ذرّ يأكل الخبز ويذرّ عليه ذلك الملح ويقول : الحمد لله الذي رزقنا هذه القناعة ، فقال سلمان : لو كانت قناعة ، لم تكن ركوتي مرهونة (١)!

ونعم ما قيل في الأثر : حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين (٢).

وقال تعالى في محكم كتابه المبين : (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) (٣).

الآية الشريفة تنهى عن التعلّق بأسباب الدنيا وزينتها وزخرفها إلى الحدّ الذي تستعبد الإنسان وتوقعه في شَرَكِها.

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٥٣ / ح ٢٠٣.

٢ ـ كشف الخفاء ١ : ٣٥٧.

٣ ـ طه : ١٣١.

١٧٠

المبحث الثالث والعشرون : في الإيثار

الإيثار : المآثر ما يُروي من مكارم الإنسان ، ويُستعار الأثر للفضل ، والإيثار للتفضّل ، ومنه : آثَرْتُه (١) ، وقوله تعالى : (٢).

وإيثار الشيء : اختياره وتقديمه على غيره ، والخَصاصة : الفقر والحاجة.

والإثرة والاستئثار : التفرّد بالشيء دون غيره ، وهو من الصفات المذمومة.

والمندوحة : السَّعة والفُسحة والمجال للخروج من الضيق والحرج.

إنّ للجود والسخاء مراتبَ أرقاها الإيثار ، وهو أن يقدّم الإنسان قضاء حاجة غيره على حاجته ، وهذه من أعلى مراتب الصفات التي ندب إليها الشارع المقدّس وسيرة الأنبياء عليهم السلام.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : أيُّما امرئٍ اشتهى شهوة ، فردّ شهوته ، وآثر على نفسه ، غُفر له (٣) ، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله يؤثر ذوي الحاجة من المسلمين على نفسه وعياله ، حتّى قالت إحدى زوجاته أنّه صلى الله عليه وآله ما شبع ثلاثة أيّام متوالية حتّى فارق الدنيا ، ولو شئنا لشبعنا ولكن كنّا نؤثر على أنفسنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مفردات غريب القرآن : ٩.

٢ ـ الحشر : ٩.

٣ ـ الكامل لعبد الله بن عديّ ٥ : ١٢٧.

١٧١

ومن أعظم موارد الإيثار هو الجود بالنفس لأجل الآخرين فيما يُرضي الله سبحانه ، وقد مثّل ذلك أمير المؤمنين صلوات الله عليه بأجلى صورة عندما أقدَمَ على أن يفتدي النبيَّ صلى الله عليه وآله وينام في فراشه ليلة الهجرة ليقيه بنفسه ، وفي ذلك باهى الله الملائكة ، وأنزل فيه : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ) (١).

ونعم ما قيل في هذا المقام : والجودُ بالنفسِ أقصى غايةِ الجُودِ (٢).

ومن الآيات التي نزلت في الإيثار قوله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) ، وهي نازلة في الإمام عليّ والصدّيقة فاطمة والسبطين الحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين ، حتّى قال رسول الله صلى الله عليه وآله للإمام عليّ عليه السلام ، لقد عَجِب الربُّ من فعلِكُم البارحة! (٣)

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى على محمّد وآله الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة ٢٠٧ ، يراجع في تفسير الآية المباركة هذه : المستدرك على الصحيحن للحاكم النيسابوري الشافعي ٣ : ٤ ، تفسير القرطبي ٣ : ٣٤٧ ، اُسد الغابة ٤ : ٢٥ ، كفاية الطالب : ١١٤ ، ذخائر العقبى : ٨٨ ، نور الأبصار : ٨٦ ، الفصول المهمّة : ٣٣ ، تذكرة خواصّ الأمّة : ٢١ ، وعشرات المصادر مجمعةً على نزولها في أمير المؤمنين عليه السلام.

٢ ـ تاريخ الإسلام للذهبيّ ١٣ : ٣٩٢.

٣ ـ يراجع في تفسير الآية على سبيل المثال : شواهد التنزيل لقواعد التفضيل للحاكم الحسكاني الحنفي ٢ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧ ، وجميع التفاسير الشيعية والكتب الحديثيّة التي تطرّقت للآية ، منها : مناقب آل أبي طالب ٢ : ٨٧ ـ ط دار الأضواء ، عن تفسير أبي يوسف ، وأمالي الشيخ المفيد.

١٧٢

المبحث الرابع والعشرون : الآثار الوضعية للأعمال

قال عليه السلام : وَاَنَّ الرَاحِلَ اِلَيْكَ قَريبُ الْمَسافَةِ ، وَاَنَّكَ لا تَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقِكَ إلّا اَنْ تَحْجُبَهُمُ الْاَعمالُ دُونَكَ.

هذه القطعة الرائعة الفيّاضة بالإشراق الروحيّ والشفّافيّة ، تشير إلى أنّ القرب الإلهي متحقّق لمن أراد أن يهاجر إلى ربّه ، فالله سبحانه أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد ، وأقرب إليه من نفسه. إنّ الإنسان أثر جميل من آثار الله وبديع صنعه ، فالله يحبّ آثار صنعه لأنّ فيها عين الحبّ لنفسه ، ولكن الابتعاد والإعراض هو المتحقّق من قِبل الإنسان ذاته ، فقربُ من الإنسان من الله هو القرب من رحمته ومن موجبات غفرانه وثوابه عن طريق الإخلاص والعبادة والإتيان بصالح الأعمال.

أمّا قرب الله من العبد ففي شموله بألطافه وبرّه وإحسانه ، وقد يُراد به القرب المعنويّ والروحانيّ ، وهو ما يحصل عليه العبد من أفعال الربوبيّة بالامتداد ، كالولاية التكوينيّة بما يناسب مقامه ودرجة قربه من الله عزّ وجلّ.

وقد ورد في الحديث القدسيّ : عبدي إطِعْني أجعلْك مثلي ، أنا مهما أشأْ يكن ، أجعلك مهما تشأْ يكن (١).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مشارق أنوار اليقين : ١٠٠ ، إرشاد القلوب : ٧٥ ـ الباب ١٨ ، عدّة الداعي : ٣١٠.

١٧٣

والدعاء يشير بوضوح إلى أنّ الله سبحانه لا يحتجب عن خلقه ، بل بابه مفتوح من دون حاجب ولا وزير ، لكنّ الحاجب ذاتيّ ، قوامه الأعمال التي تصدر من الإنسان من ذنوب ومعاصٍ ، وصفات ذميمة ، فإنّ لهذه الأعمال آثاراً وضعيّة على مسيرة الإنسان وحياته ، بل لها آثار على أجزاء الكون ومفاصل الحياة ، واحتجاب الخالق عن بعض خلقه احتجاب مجازاةٍ شأنَه شأن المكر والخداع والطبع على القلوب ، والمراد من ذلك الحجب سلب التوفيق ومنع الكمالات والفيوضات بسبب الذنوب.

إنّ الإنسان إذا اقترف الذنوب ومارس المعاصي انعكس ذلك على نفسه ، فيسلبها الإشراقَ والصفاء والانفتاح على عالم القداسة ، وهذا يقودها شيئاً فشيئاً إلى عالم من الظلمات والكدورات والصفات الرذيلة ، ويطبعها على الأخلاق المذمومة ، فقد ورد في الآثار المعتبرة عن آل البيت الكرام عليهم أفضل الصلاة والسلام الكثير من الأحاديث الشريفة في ذلك.

عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : ما من عبدٍ إلّا وفي قلبه نكتةٌ بيضاء ، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتةٌ سوداء ، فإن تاب ذهب السواد ، وإنْ تَمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يُغطّيَ البياض ، فإذا غُطّيَ البياض لم يَرجِع صاحبه إلى خيرٍ أبداً ، وهو قول الله عزّ وجلّ : (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام ورد قوله : كان أبي عليه السلام يقول : ما من شيء أفسدَ للقلب من خطيئة ، إنّ القلب لَيُواقع الخطيئة ، فما تزال به حتّى تَغلِب عليه ، فيُصَيَّر أعلاه أسفلَه (٢).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٢٧٣ / ح ٢٠ ، والآية في سورة المطفّفين : ١٤.

٢ ـ الكافي ٢ : ٢٦٨ / ح ١.

١٧٤

وقد أكّد الإسلام على مبدأ المحاسبة ، «محاسبة النفس» ، فقد ورد في الحديث النبويّ الشريف : حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا ، وزِنوها قبل أن توزنوا (١) ، وعن أمير المؤمنين عليه السلام : وإنّ اليومَ عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل (٢).

وعن الإمام الكاظم عليه السلام قوله : ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم ، فإن عَمِلَ حَسَناً استزاد الله ، وإن عمل سيّئاً استغفر الله منه وتاب إليه (٣).

وقد أمر الإسلام أتباعه بمواصلة عمليّة الارتقاء في سلّم الكمال بلا توقّف ولا انقطاع.

عن الإمام الصادق عليه السلام جاء قوله : مَن استوى يوماه فهو مغبون ، ومن كان آخِرُ يومَيه خيرَهما فهو مغبوط ، ومن كان آخِرُ يومَيه شرَّهما فهو ملعون ، ومَن لم يَرَ الزيادةَ في نفسه فهو إلى النقصان ، ومَن كان إلى النقصان فالموتُ خيرٌ له من الحياة (٤).

إنّ لمرتكب المعصية أحكاماً ، منها : دنيويّة ، كالقتل والجَلد والتعزير ، وقطع الد والسجن ، أو الكفّارات والدِّيات مثلاً ، ولها عقوبات أخرويّة قد تصل إلى دخول النار أو الخلود فيها ، وقد يكون لها عقوبات في عالم البرزخ كذلك.

ولكن لهذه المعاصي آثار وضعيّة قد تنعكس على الفرد أو على ذرّيته ، أو على مفاصل الكون والحياة كالأمطار أو الجدب ، أو الفقر أو الكوارث الطبيعيّة والنقص في الثمرات وغيرها ، وقد تكون الآثار الوضعيّة إيجابيّة ، وذلك عندما يتوجّه الإنسان الفرد والمجتمع إلى الله تعالى ، وقد تكون سلبيّة نتيجة الانحراف والغفلة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ وسائل الشيعة ١٦ : ٩٩ / ح ٢١٠٨٢ ـ عن : محاسبة النفس للسيّد ابن طاووس : ١٣.

٢ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٤٢.

٣ ـ الكافي ٢ : ٤٥٣ / ح ٢.

٤ ـ معاني الأخبار : ٣٤٢ / ح ٣.

١٧٥

والإعراض عن سبيل الله عزّ شأنه.

قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١).

يقول صاحب «الميزان» قدس سره : الآية بظاهر لفظها عامّة ، ولا تختصّ بزمان دون زمان ، أو بمكان ، أو بواقعة خاصّة ، فالمراد بالبرّ والبحر معناهما المعروف ، ويستوعبان سطح الكرة الأرضيّة.

والمراد بالفساد الظاهر المصائب والبلايا الظاهرة فيهما الشاملة لمنطقة من مناطق الأرض ، من : الزلازل ، وقطع الأمطار ، والسنين «المجديّة» ، والأمراض السارية ، والحروب والغارات ، وارتفاع الأمن ، وبالجملة كلّ ما يفسد النظام الصالح الجاري في العالم الأرضي سواءً كان مستنداً إلى اختيار بعض الناس ، أو غير مستند إليه ، فكلّ ذلك فساد ظاهر في البرّ أو البحر مخلٌّ بطيب العيش الإنسانيّ.

وقوله تعالى : (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) ، أي بسبب أعمالهم التي يعملونها من شركٍ أو معصية ، وقد تقدّم في تفسير قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (٢) ، وأيضاً في مباحث النبوّة أنَّ بين أعمال الناس والحوادث الكونيّة رابطةً مستقيمة ، تتأثّر إحداهما من صلاح الأخرى وفسادها (٣).

ويُستدلّ على ذلك من الكتاب العزيز بما يلي ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (٤) ، (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٥) ، (وَلَا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الروم : ٤١.

٢ ـ الأعراف : ٩٦.

٣ ـ تفسير الميزان ١٦ : ١٩٥ ـ ١٩٦.

٤ ـ الرعد : ١١.

٥ ـ الشورى : ٣٠.

١٧٦

يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ) (١) ، (أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) (٢) ، (وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) (٣).

ومن السنّة الشريفة : قال الإمام الصادق عليه السلام : يقول الله عزّ وجلّ : إذا عصاني مَن عَرَفَني ، سلّطت عليه من لا يَعرِفُني (٤).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : ما اختلج عِرقٌ ولا عَثَرَت قَدَمٌ إلّا بما قدّمت أيديكم ، وما يعفو الله عزّ وجلّ عنه أكثر (٥).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : أما إنّه ليس من عِرقٍ يُضرَب ، ولا نكبةٍ ولا صداعٍ ولا مرضٍ إلّا بذنب (٦).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله : من قارف ذنباً فارقَه عقلٌ لا يعد إليه أبداً (٧). وقال الإمام الباقر عليه السلام : ما من نكبة تُصيب العبدَ إلّا بذنب (٨).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قوله : إنّ الله قضى قضاءً حتماً ، ألا يُنعِمَ على العبد بنعمةٍ فيَسلُبَها إيّاه حتّى يُحْدِث العبدُ ذنباً يستحقّ بذلك النِّقمة (٩).

وعن الإمام الرضا عليه السلام قال : كلّما أحدث العبادُ من الذنوب ما لم يكونوا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الرعد : ٣١.

٢ ـ المائدة : ٤٩.

٣ ـ الكهف : ٥٩.

٤ ـ الكافي ٢ : ٢٧٦ / ح ٣٠.

٥ ـ الأمالي للطوسيّ : ٥٧٠ / ح ١١٨٠.

٦ ـ الكافي ٢ : ٢٦٩ / ح ٣.

٧ ـ جامع السعادات ١ : ٦٧ ، المبدأ والمعاد لصدر الدين الشيرازيّ : ٤٨١ ، المحجّة البيضاء ٨ : ١٦٠.

٨ ـ الكافي ٢ : ٢٦٩ / ح ٤.

٩ ـ الكافي ٢ : ٢٧٣ / ح ٢٢.

١٧٧

يعملون ، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون (١).

إنّ الذنوب والمعاصي لها آثار وضعيّة في عالم التكوين ، شأن الجراثيم والبكتريا والفيروسات التي تدخل الجسم فتعبث به ، فمنها ما يسبّب الرمد ، ومنها ما يسبّب السرطان ، ومنها ما يسبّب أمراض القلب أو المعدة ، وهكذا هي الذنوب ، وقد ورد في السنّة الشريفة الكثير حول هذا الامر ، وها نحن ننقل غيضاً من فيض :

أ ـ الآثار الوضعيّة الإيجابيّة لعمل الإنسان :

ورد أنّ الصلاة على محمّد وآله ترفع الحجب عن استجابة الدعاء (٢). وورد أنّ الصدقة تدفع مِيتة السوء ، وتخلف البركة ، وتزيد في العمر ، وتستنزل الرزق ، وتداوي الأمراض والعلل (٣).

وورد أنّ حسن الجوار يعمّر الديار ، وينسئ في الأعمار (٤) ، ويزيد في الرزق (٥).

وورد أنّ صلة الأرحام تزكّي الأعمال ، وتنمّي الأموال ، وتدفع البلوى ، وتيسّر الحساب ، وتنسئ في الأجل (٦).

ب ـ الآثار الوضعيّة السلبيّة لعمل الإنسان :

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : في الزنا خمس خصال : يَذهب بماء الوجه ، ويُورث الفقر ، ويُنقص العمر ، ويُسخط الرحمان ، ويُخلّد في النار ، نعوذ بالله من النار! (٧)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نفسه ٢ : ٢٧٥ / ح ٢٩.

٢ ـ وسائل الشيعة ٧ : ٩٥ ح ٨٨٣٣.

٣ ـ الهداية للصدوق : ١٨٢ ـ الباب ٨٨.

٤ ـ الكافي ٢ : ٦٦٨ / ح ١٠.

٥ ـ نفسه ٢ : ٦٦٦ / ح ٣.

٦ ـ نفسه ٢ : (١)٥٠ / ح ٤.

٧ ـ الكافي ٥ : ٥٤٢ / ح ٩.

١٧٨

وورد فيه أن إذا ظهرت الفاحشة «الزنا» في قوم علانيةٍ ظهر فيهم الطاعون والأوجاع ، والفَناء وموت الفُجأة (١).

وعن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قوله : إتّقِ الزنا فإنّه يَمحقُ الرزق ، ويبطل الدِّين (٢).

وفي الحديث القدسيّ : قال سبحانه : لا تَزْنوا فتزني نساؤكم ، ومن وطأ فراش امرئ مسلم وُطئ فراشه ، كما تَدين تُدان (٣).

وورد : إذا أنقصوا المكيال والميزان ، أُخذوا بالسنين (الجدب) ، وشدّة المؤونة ، وجور السلطان (٤).

وورد أن إذا مُنعوا الزكاة منعوا المطر ، ومنعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن (٥).

وإذا نقضوا عهد الله وعهد رسوله ، سلّط الله عليهم عدوّهم ، فأخذ بعض ما في أيديهم (٦).

وإذا لم يحكموا بما أنزل الله ، جعل الله بأسهم بينهم (٧).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قوله : إتّقوا الحالقة ، فإنّها تُميت الرجال ، قيل له : وما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نفسه ٢ : ٣٧٣ / ح ١ ـ باب في عقوبات المعاصي العاجلة ، الكافي ٥ : ٥٤١ / ح ٤ ، وسائل الشيعة ١٦ : ٢٧٣ / ح ٢١٥٤٩ ، ويراجع : الخصال : ٣٢٠ ـ ٣٢١.

٢ ـ الكافي ٥ : ٥٤١ / ح ٢.

٣ ـ نفسه ٥ : ٥٤٤ / ح ٤.

٤ ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٥٢ ، الكافي ٢ : ٣٧٣ / ح ١.

٥ ـ علل الشرائع : ٥٨٤ / ح ٢٦ ـ الباب ٣٨٥ في نوادر العلل.

٦ ـ الكافي ٢ : ٣٧٤ / ح ١.

٧ ـ الكافي ٢ : ٣٧٤ / ح ١.

١٧٩

الحالقة؟ قال عليه السلام : قطيعة الرحم (١).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : إذا ظهر العلم واحترز العمل ، وائتلفت الألسن واختلفت القلوب ، وتقاطعت الأرحام ، هنالك لعنهم الله فأصمّهم ، وأعمى أبصارهم (٢).

وورد أن إذا لم يأمروا بالمعروف ، ولم يَنهَوا عن المنكر ، ولم يتّبعوا الأخيار من أهل بيت النبيّ ، سلّط الله عليهم شرارهم ، فيدعو خيارهم فلا يُستجاب لهم (٣).

وورد : الظلم يهتك العِصَم (٤).

وورد : أنَّ دعوة المظلوم على ظالمه ، ودعوة الوالد على ولده أَحَدُّ من السيف (٥).

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : ما من أحد يظلم بِمَظلمةٍ إلّا أخذه الله بها في نفسه وماله (٦).

وقال عليه السلام : إنّ الله جلّ جلاله ، إذا عمل قوم بالمعاصي صرف عنهم ما كان قدّره لهم من المطر في تلك السنة إلى غيرهم ، وإلى الفيافي والبحار والجبال (٧).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : إنَّ أخوف ما أخاف على أمّتي من بعدي هذه المكاسب الحرام ، والشهوة الخفيّة ، والربا (٨).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نفسه ٢ : ٣٤٢ / ح ٢.

٢ ـ ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٤٢ ـ باب عقاب قطيعة الرحم واختلاف القلوب.

٣ ـ الكافي ٢ : ٣٧٤ / ح ١.

٤ ـ نزهة الناظر للحلوانيّ : ٣٧.

٥ ـ مضمونة في : الكافي ٢ : ٥٠٩ / ح ٣ ، عدّة الداعي : ٤٣٥.

٦ ـ الكافي ٢ : ٣٣٢ / ح ١٢ ، أمّا الحديث التاسع فعن الإمام الصادق عليه السلام قال : مَن ظَلَمَ مظلمةٍ أخِذ في نفسه أو في ماله أو في وُلده.

٧ ـ المحاسن : ١١٦ / ح ١٢٢.

٨ ـ الكافي ٥ : ١٢٤ / ح ١.

١٨٠