مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

أقرب إلى عزّ الأبد من العزّ في الباطل ... فذلكم الرجل نعم الرجل ، فبه تمسّكوا ، وبسنّته فاقتدوا ، وإلى ربّكم به فتوسّلوا ، فإنّه لا تُرَدّ له دعوة ، ولا تخيب له طلبة (١).

وروي أنَّ أحدهم سرق رغيفين من الخبز ورمّانتين ، وتصدّق بها على فقير ، فسأله الإمام الصادق عليه السلام عن فعل ذلك ، فقال محتجّاً بقوله تعالى : (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا) (٢) ، وقال : إنّي لمّا سرقتُ الرغيفين كانت سيّئتين ، ولمّا سرقتُ الرمّانتين كانت سيّئتين ، فهذه أربع سيّئات ، فلمّا تصدّقتُ بكلّ واحدة منهما كانت لي بها أربعين حسنة ، فانتقص من أربعين حسنة أربع بأربع سيّئات ، يبقى لي ستّ وثلاثون حسنة. قال الإمام الصادق عليه السلام : ثكلتك أمّك! أنت الجاهل بكتاب الله ، أما سمعت قول الله عزّ وجلّ : (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٣) ، إنّك لمّا سرقتَ رغيفين كانت سيّئتين ، ولمّا سرقتَ رمّانتين كانت سيّئتين ، فلمّا دفعتَهما إلى غير صاحبَيهما بغير أمر صاحبَيهما كنتَ إنّما أضفتَ أربع سيّئات إلى أربع سيّئات ، ولم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيّئات (٤).

ويصوّر لنا الإمام الصادق عليه السلام هؤلاء المغرورين بأنّهم مساكين ، منغمسون في الجهل المركّب ، فهم يجهلون ولا يعلمون أنّهم جهلاء ، أعماهم حبّ الشهوات والاستجابة للنزوات ، فإذا كلّ أعمالهم سراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً ، حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، ووجد الله عنده فوفّاه حسابه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الاحتجاج : ٣٢٠ ـ ٣٢١ احتجاجات الإمام السجّاد عليه السلام.

٢ ـ الأنعام : ١٦٠.

٣ ـ المائدة : ٢٧.

٤ ـ معاني الأخبار : ٣٥ ـ ٣٦ / ح ٤ ـ باب معنى الصراط.

٣٢١

قال عليه السلام : المغرور في الدنيا مسكين ، وفي الآخرة مغبون ، لأنّه باع الأفضل بالأدنى ، ولا تعجب من نفسك ، فربّما اغتررت بمالك وصحّة جسدك أن لعلّك تبقى ، وربّما اغتررت بطول عمرك وأولادك وأصحابك لعلّك تنجو بهم ، وربّما اغتررت بجمالك ومُنْيتِك وإصابتِك مأمولك وهواك ، فظننتَ أنّك صادق ومصيب ، وربّما اغتررت بما ترى من الندم على تقصيرك في العبادة ، ولعلّ الله يعلم من قلبك بخلاف ذلك ، وربّما أقمت نفسك على العبادة متكلّفاً والله يريد الإخلاص ، وربّما افتخرت بعلمك ونسبك وأنت غافل عن مُضمَرات ما في غيب الله تعالى ، وربّما توهَّمت أنّك تدعو الله وأنت تدعو سواه ، وربّما حسبت أنّك ناصح للخلق وأنت تريدهم لنفسك أن يميلوا إليك ، وربّما ذممت نفسك وأنت تمدحها على الحقيقة (١).

ولقد رأينا كيف غدرت الدنيا بأبنائها الذين تعلّقوا بكلّ أسباب البقاء بعيداً عن الله ، فهذا فرعون لم يدفع الموتَ عنه جنودُه ، فأخذه الله أخذةً رابية ، وذلك قارون لم ينفعه جمعُه حين خسف الله به الأرض ، وحين حضرت الوفاةُ عمرَو بن العاص نظر إلى مائة صندوق مملوءِ ذهباً فقال : ليتها كانت بعراً ، فمن يأخذها وليتني كنت أبرأ فمن يأخذها وليتني كنت أبرأ! بأيّ وجهٍ ألقى الله ، وقد قاتلتُ عليّ بن أبي طالب ، وأنا أعلم أنّي له ظالم؟! وتسير عجلة الزمان ويطلّ على مسرح الحياة ألفق ألف فرعون ، وألف ألف قارون ، ولكن ما أكثر العبر وأقلّ المعتبرين.

ولقد ابتدأت حياة بني آدم حين نفخ الله من روحه في جسد آدم ، وأمر الملائكة أن يسجدوا لآدم ، فكان الغرور أوّل خطيئة ارتكبها إبليس ، إذ قاده غروره بعبادته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مصباح الشريعة : ١٤٢ الباب السابع والستون.

٣٢٢

للاعتقاد أنّه خير من آدم ، فكيف يسجد الفاضل للمفضول ، والراجح للمرجوح؟

قال الله تعالى في هذه الواقعة الخطيرة التي تمثّل مفترق طرق كثيرة متشعّبة : (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) (١).

لقد قاده غروره إلى أن يبني نتائجه على مقدّمات فاسدة ، ففرض لنفسه الأفضليّة ، لأنّ النار خير من الطين ، ولا علم لنا بأنّ النار أفضل ، بل ربّما أنّ الطين هو الأفضل. وبنى على ذلك التصوّر الفاسد أنّ ذلك السجود لآدم عليه السلام لا للأمر الإلهيّ ، ولا ندري كيف فاته أنّ الملائكة المقرّبين ـ بمن فيهم جبرئيل وميكائيل ـ قد سجدوا جميعاً ، فهل كانوا كلّهم مخطئين ، وهو وحده المصيب؟!

ثمّ جاء الشيطان إلى أوليائه ليصدَّهم عن سبيل الله انتقاماً من أبيهم آدم عليه السلام وذرّيته ليقول لهم : إنّ الدنيا وملذّاتها حاضرة ، وهي بين أيديكم على نحو اليقين ، فكيف تتركونها من أجل نعيم موعود غير مضمون ، إذ ربّما لا تنالونه بالعمل. ولو نظر هؤلاء المغرورون إلى الأمور بعين البصيرة والنقد البنّاء والفكر الصائب لعلموا أنّ اليقين الحقيقيّ لا يتعدّى الآخرة ، وأنّ البقاء والدوام وارتفاع الآلام والمنغّصات لا يكون إلّا عندما يفد الإنسان على ربّه ويفوز برضاه.

وهؤلاء قد يتصوّرون أنّ الله تعالى أكرمهم وخصَّهم بالنعم الوفيرة لمكانتهم عنده وكرامتهم عليه ، وحرم غيرهم منها لخسّتهم وحقارتهم ، وهذا من التخيّلات والتصوّرات الفاسدة. ولم أجد فيما أعلم أبلغ وأروع من خطبة السيّدة زينب عليها السلام بنت عليّ بن أبي طالب عليه السلام في مجلس يزيد حين خاطبته بقولها : أظننتَ يا يزيدُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأعراف : ١١.

٣٢٣

حيثُ أخذتَ علينا أقطارَ وآفاقَ السماء ، فأصبَحْنا لك نُساق كما تُساق الاُسارى ، أنّ بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة ، وأنّ ذلك لعظيم خطرك عنده ، فشمختَ بأنفك ، ونظرت في عِطفك ، جَذِلاً مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مُسْتَوسِقة ، والأمور متّسقة ، وحين صفا لك مُلكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلاً ، [لا تَطِشْ جهلاً] ، أنَسِيتَ قول الله تعالى : (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (١).

ونعم ما قال القائل : وكأنّها عليه السلام تُفرغُ عن لسان أبيها أمير المؤمنين عليه السلام (٢).

لقد كان معظم أولياء الله من الفقراء والمعدمين ، وكذلك أتباع الرسل ، لم يذوقوا من الدنيا غير مرارتها وابتلاءاتها وآلامها ، وكانوا يقولون : مرحباً بشعار الصالحين ودثار المتّقين.

وربّما بلغ الغرور إلى نفوس أهل العلم والفقاهة ، فقد نجد في هذا الميدان الشريف من يطلب العلم للجدل والمراء ، والتفاخر والتعالي ، والادّعاءات الباطلة والرياسات المزيّفة ، بعيداً عن قصد القربة ، وعن الأخلاق الفاضلة والملكات الأصيلة اللائقة بسيماء العلماء.

وربّما يتركّز الغرور عند بعض الأغنياء وأرباب الأموال فيأملون الغوز عند الله ببناء مسجد ، أو إكساء فقير ، أو إطعام جائع ، لكنّ بعضهم إذا هجم على موارد الحرام والشبهة ، لا يبالي من أيّ جانب اغترف.

قال أمير المؤمنين عليه السلام : ينبغي للعاقل أن يحترس من : سُكْر المال ، وسكر العلم ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ اللهوف : ١٠٥ ، بحار الأنوار ٤٥ : ١٣٣ ، وجاء في كتاب الاحتجاج : ٣٠٨ ، والآية في سورة آل عمران : ١٧٨.

٢ ـ مثير الأحزان لابن نما الحليّ : ٦٦ ، الدرّ النظيم : ٥٦٠.

٣٢٤

وسكر القدرة ، وسكر المدح ، وسكر الشباب ، فإنّ لكل واحدٍ مِن ذلك رياحاً خبيثةً ، تسلب العقل وتستخفّ الوَقار (١).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام : السكر أربعة سكرات : سُكر الشَّراب ، وسكر المال ، وسُكر النوم ، وسُكر المُلك (٢).

وصدق الله القائل : (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) (٣).

ومن أخطر تصرّفات هؤلاء هو التفافهم حول الشخصيّات المعروفة وأئمّة المساجد ، وضيافتهم لهم على موائدهم ، وإكرامهم والإغداق عليهم بالهدايا والعطايا ، ليحسّنوا صورهم أمام المجتمع ، وربما طمعوا في انقياد العلماء لهم وتوجيههم في مصالحهم وتحقيق مآربهم واستعمالهم براقع يغطّون بها سوءاتهم.

وعلاج جميع هذه الصنوف من المنحرفين المغرورين هو الخروج من ولاية الشيطان إلى رحاب ولاية الله ، وذلك بإخراج حبّ الدنيا من قلوبهم فإنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة ، وزرع حبّ الله مكانه ، والزهد في المال والصحّة والقوة والسلطان ، وجعل ذلك من أسباب البقاء التي تمكنه من عبادة الله حقّ عبادته ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (٤).

إنّ الله سبحانه يخاطب الإنسان ويعاتبه حيث لم يعرف هذا الإنسانُ حقّ قدر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عيون الحكم والمواعظ : ٥٥٢ ، غرر الحكم : ٣٥٦.

٢ ـ معاني الأخبار : ٣٦٥ / ح ١.

٣ ـ العلق : ٦ ـ ٧.

٤ ـ الانفطار : ٦ ـ ١٢.

٣٢٥

الله تعالى وعظمته ، ولم يشكر النعم التي أفاضها عليه ، والله هو الخالق والرازق ، والمربّي والهادي لهذا الكائن العجيب ، ولقد أكرمه بالعقل ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته ، ولكنّه يركب مطيّة الغرور ، ويتهاون في تطبيق الأحكام ، ويسيء الأدب مع خالقه. هذا الإنسان الذي منّ الله عليه بالاستواء دون مخلوقاته جميعاً ، الاستواء في القوام والشكل ، والجماليّة ، والتكوين الجسديّ والعقليّ والعاطفيّ المتوازن ، وهذه الأعضاء التي تقوم بكلّ وظائفها على أحسن وجه ، وأتمّ شكل.

ثمّ يكشف لنا القرآن عن علّة هذا الغرور بالله فيقول إنّها التكذيب بالدين : (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) (١).

إنّ الاستفهام الذي ورد في الآية الشريفة هو استفهام توبيخيّ على كفران النعمة الإلهيّة ، وهنا تنقطع السبل بالإنسان فلا عذر له أبداً.

يقول السيّد الطباطبائيّ قدس سره : وليس للإنسان أن يجيب فيقول : أي ربِّ غرّني كرمك. فقد قضى الله سبحانه فيما قضى ، وبلَّغَه بلسان أنبيائه : (لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (٢). وقال : (فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ) (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات الناصّة على أنْ لا مخلص للمعاندين من العذاب ، وأنّ الكرم لا يشملهم يوم القيامة ، قال : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الانفطار : ٩.

٢ ـ إبراهيم : ٧.

٣ ـ النازعات : ٣٧ ـ ٣٩.

٤ ـ الأعراف : ١٥٦.

٣٢٦

ولو كفى الإنسانَ العاصي قولُه : «غرّني كرمُك» لَصُرِف العذاب عن الكافر المعاند كما يصرفه عن المؤمن العاصي ، ولا عذر بعد البيان.

ومن هنا يظهر أن لا محلّ لقول بعضهم : إنَّ توصيف الربّ بالكريم من قبيل تلقين الحجّة ، وهو من الكرم أيضاً (١).

وقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن قوله تبارك وتعالى : (٢) ، فقال عليه السلام : إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي ، أكنت عالماً؟ فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عَمِلتَ بما عَلِمت؟ وإن قال : كنتُ جاهلاً ، قال له : أَفَلا تعلّمتَ حتّى تعمل؟ فيَخصِمه ، فتلك الحجّة البالغة (٣).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبِين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير الميزان ٢٠ : ٢٢٤.

٢ ـ الأنعام : ١٤٩.

٣ ـ الأمالي للطوسيّ : ٩ ح ١٠.

٣٢٧

المبحث السابع والثلاثون : في العُجْب

العُجْب : أن يستعظم الإنسان نفسه أو عمله لِما يرى فيهما من صورة كماليّة قد لا يكون لها من الواقع شيء ، وقبل أن نطرق موضوع العجب لابدّ أن نفرّق بين عدّة عناوين :

١) العُجْب : وقلنا : هو استعظام النفس أو العمل دون إضافة ذلك إلى الله تعالى.

٢) الكِبْر : هو أن يرى المرء لنفسه مزايا وفضائل وكمالات على غيره. فهنا يكون طرفان : المتكبِّر طرف ، والمتكبَّر عليه طرف آخر ، أمّا في العجب فهناك طرف واحد هو المُعْجَبْ بنفسه.

٣) الإدلال : وهذه صفة وراء العُجْب ، فالمُدِلُّ يرى أنّ له على الله حقّاً ، وأنّ له عنده مكانة ، وقد يستنكر عدمَ إجابة دعائه ، أو ابتلاءَه بالضرر والبلاء ، وينسى أو يتناسى إضافة تلك النعم والكمالات إلى الله تبارك وتعالى.

وقد يكون الإدلال على غير الله ، كما لو أكرم غيره ، فإنّه يستعظم تلك النعمة على الغير ، ويمنّ عليه ، ويتوقّع الجزاء والثناء وربّما الاستخدام من ذلك الموهوب له.

قال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام : العجب درجات : ومنها : أن يُزَيَّن للعبد سوءُ عمله فيراه حَسَناً ، فيعجبه ويَحسَبُ أنّه يُحسِنُ صُنعاً. ومنها : أن يؤمن العبد بربّه ،

٣٢٨

فَيَمُنّ على الله عزّ وجلّ ولله عليه فيه المنّ (١).

وصدق الله القائل : (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) (٢).

والنسبة بين العُجب والإدلال نسبة عموم وخصوص. فكلّ مُدِلٍّ مُعْجَب ، وليس كلّ مُعْجَبٍ مُدِلّاً.

يحدّثنا القرآن الكريم أنَّ جماعةً من بني أسد جاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فقالوا : يا رسول الله أسلمنا ، وقاتلك العرب ولم نقاتلك ، فأنزل الله فيهم : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّـهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (٣).

لقد أخطأ هؤلاء ، من عدّة جهات :

١ ـ لقد أسلموا دون الإيمان ، والواقع أنّ الإيمان هو الطريق الرحب الذي يؤدّي إلى ساحة القرب من الله وعليه يقع الثواب. أمّا الإسلام فتترتّب عليه آثار وضعيّة ظاهرة ، مثل : حقن الدماء ، وجواز المناكح ، وجريان المواريث ، وأصالة الطهارة ، وذكاة الذبيحة ، وأصالة صحّة عمل المسلم ظاهراً.

٢ ـ لو كان هناك مَنٌّ فالمفروض أن يكون على الله تبارك وتعالى لا على النبيّ صلى الله عليه وآله ، لأنّ النبيّ هو سفير بين الله وعباده ، يقوم بتبليغ الأحكام وفق ما يُوحى إليه ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وما أرسل عليهم بوكيل ، بل لم يكن عليه إلّا البلاغ المبين ، وقد أدّاه صلى الله عليه وآله.

٣ ـ لو كان هناك منّ فالمفروض أن يكون من الله على عباده ، إذ هداهم للإيمان ، وقادهم إلى سبيل الصواب ، وذلك لهم فيه خير الدنيا والآخرة ، فقد ورد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣١٣ / ح ٣.

٢ ـ فاطر : ٨.

٣ ـ الحجرات : ١٧.

٣٢٩

عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : إنّ الإسلام قبل الإيمان ، وعليه يتوارثون ويتناكحون ، والإيمان عليه يُثابون (١).

وقال عليه السلام : الإسلام غير الإيمان ، وكلّ مؤمن مسلم ، وليس كلّ مسلم مؤمناً (٢).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : الإيمان معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان (٣).

إنّ العُجْب من الصفات المذمومة والنزعات الشيطانيّة ، إذ قد يقود صاحبَه إلى الهلاك والخسران الأبديّ. وقد نُقلت لنا مجموعة كبيرة من الأحاديث المعتبرة ، نقتبس بعضاً منها ، قال النبيّ صلى الله عليه وآله : ثلاث مهلكات ... شُحٌّ مطاع ، وهوىً مُتَّبَع ، وإعجاب المرء بنفسه (٤).

وقال صلى الله عليه وآله : قال الله عزّ وجلّ : إنّ مِن عباديَ المؤمنين لَمَن يجتهد في عبادتي ، فيقوم من رقاده ، ولذيذ وساده ، فيجتهد ليَ الليالي ، فتَتعب نفسه في عبادتي فأضربه بالنعاس الليلةَ والليلتين نظراً منّي له ، وإيقاءً عليه ، فينام حتّى يُصبح ، فيقوم وهو ماقتٌ لنفسه زارئٌ عليها.

ولو أُخلّي بينه وبين ما يريد من عبادتي لَدَخَله العُجب من ذلك ، فيصيّره العجب إلى الفتنة بأعماله ، فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه لعُجبه بأعماله ، ورضاه عن نفسه ، حتّى يَظُنَّ أنّه قد فاق العابدين ، وجاز في عبادته حدَّ التقصير ، فيتباعد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ١ : ١٧٣ / ح ٤ ـ باب الاضطرار إلى الحجّة.

٢ ـ الخصال : ٦٠٨ / ح ٩ ـ أبواب المئة فما فوقه.

٣ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٢٢٧.

٤ ـ الخصال : ٨٤ / ح ١١.

٣٣٠

منّي عند ذلك وهو يظنّ أنّه يتقرّب إليّ (١).

وعن عبد الرحمن بن الحجّاج قال : قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام : الرجل يعمل العمل وهو خائف مشفق ، ثمّ يعمل شيئاً من البر فيَدخُله شِبهُ العُجْب به ، فقال عليه السلام : هو في الحالة الأولى وهو خائف أحسنُ حالاً منه في حال عُجبه (٢).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : إعجاب المرء بنفسه دليلٌ على ضَعف عقله (٣).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : إنّ الله علم أنَّ الذنب خير للمؤمن من العجب ، ولولا ذلك ما ابتُليَ مؤمن بذنبٍ أبداً (٤).

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله في الحديث أنّ قال موسى بن عمران عليه السلام قال لإبليس : أخبِرْني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذتَ عليه ، قال : إذا أعجَبَتْه نفسُه ، واستكثر عملَه ، وصغر في عينه ذنبُه! (٥)

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله أيضاً : قال الله عزّ وجلّ لداود عليه السلام : يا داود ، بَشَرِ المذنبين ، وأَنْذِرِ الصدّيقين ، فقال عليه السلام : كيف أبشّر المذنبين وأنذر الصدّيقين؟ قال : يا داود ، بشّر المذنبين أنّي أقبل التوبة وأعفو عن الذنب. وأنذر الصدّيقين أن لا يُعجَبوا بأعمالهم ، فإنّه ليس عبدٌ أنصِبُه إلّا هلك (٦).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : أتى عالمٌ عابداً فقال له : كيف صلاتك؟ فقال : مِثلي يُسأل عن صلاته وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا؟ قال : فكيف بكاؤك؟ قال : أبكي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٦٠ / ح ٤.

٢ ـ نفسه ٢ : ٣١٤ / ح ٧.

٣ ـ نفسه ١ : ٢٧ / ح ٣١.

٤ ـ نفسه ٢ : ٣١٣ / ح ١.

٥ ـ نفسه ٢ : ٣١٤ / ح ٨.

٦ ـ نفسه ٢ : ٣١٤ / ح ٨.

٣٣١

حتّى تجري دموعي ، فقال له العالم : فإنّ ضحكك وأنت خائف أفضلُ من بكائك وأنت مُدِلٌّ ، إنّ المدلَّ لا يصعد من عمله شيء (١).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قال : قال الله تبارك وتعالى : ... ما تَقَرّبَ إليّ عبدي بِمِثل أداء ما افترضتُ عليه ، ... وإنّ من عبادي المؤمنين لَمَنْ يريد الباب من العبادة فأكفُّهُ عنه ، لئلّا يَدخُلَه عُجْبٌ فيُفسدَه (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : لولا أنّ الذنب للمؤمن خيرٌ من العُجب ما خلّى الله بين عبده المؤمن وبين ذنب أبداً (٣).

وقال الإمام عليّ عليه السلام : سيّئة تَسُوؤك خيرٌ عند الله من حسنةٍ تعجبك (٤).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : الملوك حكّام على الناس ، والعِلم حاكم عليهم ، وحَسْبُك من العلم أن تخشى الله ، وحسبك من الجهل أن تُعجَب بِعِلمك (٥).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : إذا رأيت شُحّاً مطاعاً ، وهوىً متّبعاً ، وإعجابَ كلّ ذي رأي برأيه ، فعليك نفسك (٦).

وقال صلى الله عليه وآله : لو لم تُذنبوا لَخشِيتُ عليكم ما هو أكبر من ذلك : العُجب ، العُجب (٧).

وقال الإمام الرضا عليه السلام : إنّ رجلاً كان في بني إسرائيل عبَدَ الله تبارك وتعالى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣١٣ / ح ٥.

٢ ـ التوحيد : ٤٠٠ / ح ١ ، وسائل الشيعة ١ : ١٠٤ / ح ٢٥٠.

٣ ـ عدّة الداعي : ٢٢١.

٤ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٤٦.

٥ ـ الأمالي للطوسيّ : ٥٦ / ح ٧٨.

٦ ـ سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٣١ / ح ٤٠١٤.

٧ ـ الجامع الصغير ٢ : ٤٣٨ / ح ٧٤٨٨ ، مسند الشهاب ٢ : ٣٢٠ / ح ١٤٤٧.

٣٣٢

أربعين سنة ، فلم يقبل منه ، فقال لنفسه : ما أُوتيتُ إلّا منكِ ، ولا الذنبُ إلّا لكِ! فأوحى الله تبارك وتعالى إليه : ذَمُّك نفسَك أفضلُ من عبادة أربعين سنة (١).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : العَجَبُ ممّن يُعجَب بعمله وهو لا يدري بما يُختَم له ، فمَن أُعجب بنفسه وفعله فقد ضلّ عن منهج الرشاد ، وادّعى ما ليس له ، والمدّعي من غير حقّ كاذب وإن أخفى دعواه وطال دهره ، وإنّ أول ما يُفعَل بالمعْجَبِ نزعُ ما أُعجب به ليعلم أنّه عاجز حقير ، ويشهد على نفسه لتكون الحجّة عليه أوكد ، كما فُعل بإبليس. والعُجْبُ نبات حبّها الكفر ، وأرضها النفاق ، وماؤها البغي ، وأغصانها الجهل ، وورقها الضلالة ، وثمرها اللعنة والخلود في النار! فمَن اختار العجب بذَرَ الكفر ، وزرع النفاق ، ولابدّ أن يُثمِر (٢).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : إنّ عيسى بن مريم عليهما السلام كان من شرايعه السَّيْحُ «أي السياحة» في البلاد ، فخرج في بعض سيحه ومعه رجل من أصحابه قصير ، وكان كثير اللزوم لعيسى عليه السلام.

فلمّا انتهى عيسى إلى البحر قال : بسم الله ، بصحّةِ يقينٍ منه ، فمشى على ظهر الماء ، فقال الرجل القصير حين نظر إلى عيسى عليه السلام جازه : بسم الله ، بصحّة يقين منه ، فمشى على الماء ، ولَحِقَ بعيسى عليه السلام ، فدخله العُجْب بنفسه فقال : هذا عيسى روح الله يمشي على الماء ، وأنا أمشي على الماء ، فما فضلُه علَيّ؟! قال : فرُمس في الماء ، فاستغاث بعيسى عليه السلام فتناوله من الماء فأخرجه.

ثمّ قال له : ما قلتَ يا قصير؟ فقال له : قلت : هذا روح الله يمشي على الماء ، وأنا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ قرب الإسناد : ٣٩٢ / ح ١٣٧١.

٢ ـ مصباح الشريعة : ٨١ ـ الباب السادس والثلاثون.

٣٣٣

أمشي على الماء ، فدخلني من ذلك عُجْبٌ ، فقال له عيسى : لقد وضعتَ نفسك في غير الموضع الذي وضعك الله فيه فمقتك الله على ما قلت ... (١).

وورد في الحديث القدسيّ : قال الله تعالى : عجبتُ لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن أيقن بالحساب كيف يجمع المال ، وعجبت لمن أيقن بالقبر كيف يضحك ، وعجبتُ لمن أيقن بزوال الدنيا كيف يطمئنّ إليها ، وعجبتُ لمن أيقن ببقاء الآخرة ونعيمها كيف يستريح ، وعجبتُ لمن هو عالم باللسان وجاهل بالقلب وعجبتُ لمن هو مُطَّهِرٌ بالماء وغير طاهر بالقلب ، وعجبتُ لمن اشتغل بعيوب الناس وهو غافل عن عيوب نفسه ، وعجبتُ لمن يعلم أن الله مطّلع عليه كيف يعصيه ، وعجبتُ لمن يعلم أنّه يموت وحده ، ويدخل القبر وحده ، ويُحاسَب وحده ، كيف يستأنس بالناس ، ويقول الله تعالى : لا إله إلّا الله حقّاً حقّاً ، محمّد عبدي ورسولي.

إنّ العُجْب من فروع الكِبْر ، وهو من المهلكات والموبقات إذ يحدث انتفاخاً معنويّاً في النفس ، ويكون على خلاف الواقع ، ونعم ما قال المتنبّي :

وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظره

إذَا استَوَت عندَه الأنوارُ والظُّلَمُ (٢)

العُجْبُ يقود إلى نيسان الذنب ، وترك التوبة والاستغفار ، وإلى التراخي في العبادة ، والتعسّف في الرأي والفكر ، والتطرّف في المواقف ، وربّما يؤدي إلى الأمن من مكر الله ، والمعَجبُ يتعالى عن الاستفادة من رأي غيره ، فلا يستشير من هو أعلم منه ، ولا ينقاد إلى ناصحٍ أمين ، ولا فقيه ذي عقل رصين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٠٦ ـ ٣٠٧ / ح ٣ ـ باب الحسد.

٢ ـ حكاه الثعالبيّ في : يتيمة الدهر ١ : ٢٣٨.

٣٣٤

إنَّ العجب مرض من أمراض النفس ، وقد وضع الإسلام أنواعاً من العلاجات لهذا الوباء ، فلو التفت الإنسان إلى أصل خلقته ، وهو التراب والنطفة المذرة ، وإلى النهاية التي يكون فيها جيفة قذرة ، ولو نظر إلى مصائب الدنيا وويلاتها ، وما يجري على أبنائها من حال إلى حال ، ولو علم أنّ الموت لاقيه على حين غِرَّة ، لَعَلِم أنّه ضعيف ، مسكين ، لا يليق به الكبر أو الغرور أو العُجب.

ولو كان عاقلاً فطناً لنسب كلّ المواهب التي أُوتيها إلى الله المنعم ، فلا يزداد إلّا شكراً وحمداً وتواضعاً. إنّ العلم ، والقوّة ، والطاعة ، والعبادة ، والجود ، والسلطان ، والمال ، والجمال ، وحسن الذكر في الأنام ، كلَّها نِعمٌ إلهيّة ، ومن الممكن زوالها عنه في يوم وليلة ، بل في أعشار الدقيقة.

وقد مثّل القرآن الكريم بعض علماء اليهود بالحمار حين قال : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) (١).

وشَبّه العالم الفقيه «بلعم بن باعورا» بالكلب حيث قال : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث) (٢).

كلّ ذلك لأنّهم لم يعملوا بما علموا ، بل كان الدين سلاحاً فتّاكاً بأيديهم يصدّون به عن سبيل الله ، ويحاربون المؤمنين ، ويركنون به إلى الظالمين ، وقد رُوي عن عيسى عليه السلام قوله : ويل لعلماء السوء ، كيف تَلَظّى عليهم النار (٣) ، كما رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : يُغفَر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يُغفر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الجمعة : ٥.

٢ ـ الأعراف : ١٧٦.

٣ ـ الكافي ١ : ٤٧ / ح ٢.

٣٣٥

للعالم ذنب واحد (١).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : إنّ أهل النار لَيتأذَّون من ريح العالم التارك لعلمه ، وإنّ أشدّ أهل النار ندامةً وحسرةً رجل دعا عبداً إلى الله فاستجاب له وقَبِل منه ، فأطاع اللهَ فأدخَلَه الله الجنّة ، وأَدخَلَ الداعي النار بتركه عِلمَه واتّباعِه الهوى وطول الأمل (٢).

وعن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ورد قوله : الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا (٣).

وأختم هذا المبحث بقول الإمام موسى بن جعفر عليه السلام وقد حضر ميّتاً أُنزِل في قبره : إنَّ شيئاً هذا آخِرُه لَحقيقٌ أن يُزهَد في أوّله ، وإنّ شيئاً هذا أوّلُه لحقيق أن يُخاف آخرُه (٤).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ١ : ٤٧ / ح ١.

٢ ـ نفسه ١ : ٤٤ / ح ١.

٣ ـ نفسه ١ : ٤٦ / ح ٥.

٤ ـ معاني الأخبار : ٣٤٣ / ح ١.

٣٣٦

المبحث الثامن والثلاثون : في الحياء

قال الراغب في «المفردات» : الحياء : انقباضُ النفس عن القبائح ، وتركُها ، قال الله سبحانه وتعالى : (إنّ الله لا يستحيى أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها) (١) ، وقال عزّ وجلّ : (والله لا يستحيي من الحق) (٢).

وروي أنّ الله تعالى يَستحْيي من ذي الشَّيبة المسلم أن يعذّبه ، فليس يراد به انقباض النفس ، إذ هو تعالى منزّه عن الوصف بذلك ، وإنّما المراد به ترك تعذيبه ، وعلى هذا ما رُوي : إنّ الله حييٌّ ، أي تارك للقبائح فاعل للمحاسن (٣).

وورد في «لسان العرب» للّغوي ابن منظور قوله : الحياء : التوبةُ والحِشْمَة ، وقد حَيِيَ منه حياءً ، واستحيا ، واستحى : حذفوا الياء الأخيرة كراهية التقاء الياءين ، والأخيرتان تتعدّيان بحرف وبغير حرف ، يقولون : استحيا منك ، واستحياك ، واستحى منك واستحاك ، قال ابن برّي : شاهد الحياء بمعنى الاستحياء قول جرير :

لولا الحياءُ لَهاجَني استعبارُ

ولَزُرتُ قبرَكِ والحبيبُ يُزارُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البقرة : ٢٦.

٢ ـ الأحزاب : ٥٣.

٣ ـ مفردات غريب القرآن : ١٠٤.

٣٣٧

وروي عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه قال : الحياء شعبة من الإيمان (١).

وقال بعضهم : كيف جُعل الحياءُ ـ وهو غريزةٌ ـ شعبةً من الإيمان ـ وهو اكتسابٌ ـ؟ والجواب في ذلك : أنّ المستحي ينقطع بالحياء عن المعاصي ، وإن لم تكن له تقيّة ، فصار كالإيمان الذي ينقطع عنها ويحول بين المؤمن وبينها.

قال ابن الأثير : وإنّما جُعل الحياء من الإيمان لأنّ الإيمان ينقسم إلى ائتمار بما أمر الله به ، وانتهاء عمّا نهى الله عنه ، فإذا حصل الانتهاء بالحياء كان بعض الإيمان ، ومنه الحديث : إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت (٢).

والمراد منه إذا لم يَسْتَحِ صَنَع ما شاء ، لأنّه لا يكون له حياء يحجزه عن المعاصي والفواحش. وقال ابن الأثير : وله تأويلان : أحدهما ظاهر وهو المشهور ، إذا لم تستحِ من العيب ولم تخشَ من العار بما تفعله فافعل ما تحدّثك به نفسك من أغراضها حسناً كان أو قبيحاً ، ولفظه أمرٌ ومعناه توبيخ وتهديد ، وفيه إشعار بأنّ الذي يردع الإنسانَ عن مواقعة السوء هو الحياء ، فإذا انخلع منه كان كالمأمور بارتكاب كلّ ضلالة وتعاطي كلّ سيئة ، والثاني أن يُحمل الأمر على بابه ، يقول : إذا كنت في فعلك آمناً أن تستحي منه لجريِك فيه على سنن الصواب ، وليس من الأفعال التي يُستحى منها فاصنع منها ما شئت.

وعن ابن سيده : قوله صلى الله عليه وآله : إنّ ممّا أدرك الناسُ من كلام النبوّة : إذا لم تَستحِ فاصنع ما شئت ، أي من لم يستحِ صنع ما شاء على جهة الذمّ لترك الحياء ، وليس يأمره بذلك ، ولكنّه أمر بمعنى الخبر ، ومعنى الحديث أنّه يأمر بالحياء ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غوالي اللآلئ ١ : ٥٩ / ح ٩٠.

٢ ـ مشكاة الأنوار : ٤١٣ ـ الفصل الخامس من الباب الخامس.

٣٣٨

ويحثّ عليه ويعيب تركه. ورجُلٌ حَيِيٌّ ، ذو حياء ، بوزن فعيل ، والأنثى بالهاء ، امرأة حَيِيةٌ ، واستحيا الرجل واستَحْيَتِ المرأة (١).

وقد ورد في الأخبار أنّ الحياء خيرٌ كلُّه (٢) ، والمستفاد منه أنّ الحياء يردع من له دين ومن ليس له دين ، فصار الحياء مَجْمعاً لكلّ ما هو جميل.

والحياء من مكارم الأخلاق ومحاسن الخصال ، فقد رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : الحياء من الإيمان ، والإيمان في الجنّة (٣).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله يوماً لأصحابه : إستَحْيُوا من الله حقَّ الحياء ، قالوا : وما نفعل يا رسول الله؟ قال : فإن كنتم فاعلين فلا يَبِيتَنّ أحدكم إلّا وأجَلُه بين عينيه ، ولْيَحفَظْ الرأسَ وما وعى ، والبطنَ وما حوى ، ولْيَذكُر القبر والبِلى ، ومن أراد الآخرة فَلْيَدَعْ زينة الحياة الدنيا (٤).

فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حقّ الحياء.

رُوي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : هبط جبرائيل عليه السلام على آدم عليه السلام بثلاث ؛ ليختار منها واحدةً ويَدَع اثنتين ، وهي : العقل ، والحياء ، والدِّين. فاختار العقل ، فقال جبرائيل للحياء والدين : انصرِفا ، فقالا : إنّا أُمِرنا أن نكون مع العقل حيث كان ، فقال : فشأنكما. ففاز بالثلاث (٥).

وروي أنّ الله تعالى يقول : عبدي ، إنّك إذا استَحيَيتَ منّي أنسَيتُ الناس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ لسان العرب ١٤ : ٢١٧.

٢ ـ معاني الأخبار : ٤٠٩ / ح ٩٢.

٣ ـ الكافي ٢ : ١٠٦ / ح ١ ـ باب الحياء.

٤ ـ قرب الإسناد : ٢٣ / ح ٧٩.

٥ ـ شرح نهج البلاغة ١٨ : ١٨٧.

٣٣٩

عيوبك ، وبقاع الأرض ذنوبك ، ومحوتُ من الكتاب زلّاتك ، ولا أناقشك في الحساب يوم القيامة (١).

وروي أنّ رجلاً رأى صاحبه يصلّي خارج المسجد ، فقال له : لمَ لا تصلّي في المسجد؟ فقال : أستَحْيي من الله أن أدخل بيته وقد عصيتُه (٢).

ومن علامات الاستحياء وصدق الالتزام به أن يكفّ الإنسان نفسه عمّا يُعتذر منه ، وأهل الاستحياء من الله يصل كلامهم إلى قلوب المؤمنين قبل أسماعهم فيكون وعظهم مؤثّراً ونافعاً ، بعكس الذين يقولون ما لا يفعلون ، فإنّ كلام هؤلاء هواء في شبك ، أو كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلّا دعاءً ونداءً ، صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون.

وورد في الحديث القدسيّ : ما أنصفني عبدي ، يَدْعوني فأستحيي أن أردَّه ، ويعصيني ولا يستَحْيي منّي (٣).

وأعلى مراتب الحياء أن يشعر الإنسان بالرقابة الإلهيّة التي تبعث الخشية في قلبه ، فإن لم يَرَ الله فإنّه يراه.

وَورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام : المكارم عشر : صدق اليأس ، وصدق اللسان ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وإقراء الضيف ، وإطعام السائل ، والمكافأة على الصنايع ، والتذمّم للجار ، والتذمّم للصاحب ، ورأسهنّ الحياء (٤).

ونعم ما قيل : الوجه المصون بالحياء ، كالجوهر المكنون في الوعاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البداية والنهاية ١٠ : ٢٨١.

٢ ـ رياض السالكين ٣ : ١٥٧ في شرحه.

٣ ـ شرح نهج البلاغة ١١ : ٢١٥ ، تاريخ مدينة دمشق ٢٩ : ١٧٠.

٤ ـ الكافي ٢ : ٥٥ ـ ٥٦ / ح ١ ، وفي بعض المصادر : صدق البأس.

٣٤٠