مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

استعداده ، وقد رأينا في الآثار الصحيحة أنّ الأنبياء والأئمّة الكرام كانت لهم القدرة الامتداديّة على : إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وعلى خلق الطير من الطين ، وقد تحدّث القرآن عن هذا بجلاء ، وأنّ بعضهم عليهم السلام كانت له القدرة على تحويل الرمل والصخور إلى ذهب ، فسبحان من أعطى وتفضّل ، وله الشكر على ما أنعم وقضى.

والرزق مقسوم من الله سبحانه وفق المصالح والحِكَم التي لا يعلمها غيره ، ولا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها.

وفي رواية عن الإمام الباقر عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حجّة الوداع : ألا إنّ الروح الأمين نفث في رُوعي أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها ، فاتّقوا الله عزّ وجلّ وأجمِلُوا في الطلب ، ولا يحملنّكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بشيء من معصية الله ، فإنّ الله تبارك وتعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالاً ، ولم يقسّمها حراماً ، فمَنِ اتّقى وصبر أتاه الله برزقه من حِلّه ، ومن هتك حجاب الستر وعجّل فأخذه من غير حِلّهِ قُصَّ به من رزقه الحلال وحُوسب عليه (١).

وصدق الله العزيز حيث قال : (وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (٢) ، وفي «نهج البلاغة» ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : يا ابنَ آدم ، الرزق رزقان : رزقٌ تطلبه ، ورزق يطلبك ، فإنْ لم تأته أتاك ، فلا تُحْمِلْ هَمَّ سَنَتِكَ على هَمِّ يَوْمِكَ ، كفاك كلّ يومٍ ما فيه ، فإن تكن السنةُ من عمرك فإنّ الله تعالى سيؤتيك في كلّ غد جديد ما قَسَم لك ، وإن لم تكن السنةُ من عمرك فما تصنع بالهمّ فيما ليس لك ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٥ : ٨٠ / ح ١ ـ باب الإجمال في الطلب.

٢ ـ الطلاق : ٢ ـ ٣.

٢٤١

ولن يَسبقك إلى رزقك طالب ، ولن يغلبك عليه غالب ، ولن يبطئ عنك ما قد قُدّر لك (١).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله قال : إنّ الرزق لَينزل من السماء إلى الأرض على عدد قَطْر المطر إلى كلّ نفس بما قُدّر لها ، ولكنْ لله فضول ، فاسألوا الله من فضله (٢).

وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : إنّ الله قسّم الأرزاق بين عباده ، وأفضل فضلاً كبيراً لم يقسّمه بين أحد ، قال الله : (وَاسْأَلُوا اللَّـهَ مِن فَضْلِهِ) (٣) ، (٤).

وهذه الروايات لا تلغي سنّة الأسباب ، ولا وجوب السعي للوصول إلى مفاتيح خزائن الله لنيل رحمته ، فقد كان أمير المؤمنين يزرع ويسقي ويحفر الآبار في حرّ الهجير ، واستطاع أن يعتق ألف مملوك من كدّ يمينه وعرق جبينه ، وكان عليه السلام الأُسوة الحسنة حتّى لأولاده المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.

فقد كان الإمامانِ الباقر والصادق عليهما السلام يمارسان الفلاحة والزراعة والسقي بأنفسهما ، ويتصبّبان عرقاً ، في الوقت الذي كان عندهم من المماليك والأتباع ما يكفونهم مؤونة ذلك ، لكنّهم شاؤوا أن يراهم الله في ساحة العمل وميدان الكدح للكدّ على أنفسهم وعيالاتهم وأتباعهم.

رُوي عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام أنّه قال : كان أمير المؤمنين عليه السلام يخرج في الهاجرة في الحاجة قد كُفِيها ، يريد أن يراه الله تعالى يُتعِب نفسه في طلب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٣٧٩.

٢ ـ قرب الإسناد : ١١٧ / ح ٤١١.

٣ ـ تفسير العيّاشيّ ١ : ٢٣٩ / ح ١١٧.

٤ ـ النساء : ٣٢.

٢٤٢

الحلال (١).

وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : العبادة سبعون جزءاً ، أفضلها جزءاً طلب الحلال (٢).

وقال صلى الله عليه وآله : من بات كالّاً من طلب الحلال بات مغفوراً له (٣).

والآن نعود إلى مروج الخير ، وروابي العلم ، وموائد القداسة التي تطلّ علينا من بركات أهل العصمة الكرام ، ففي الخبر أنّ الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال لأحد تلاميذه حيث ظلّ جالساً عنده بعد انتهاء درسه : أُغْدُ إلى عزّك يعني السوق (٤).

وقال الإمام الصادق عليه السلام للفضيل بن يسار ـ بعد أن قال له : إنّي قد تركت التجارة ـ لا تفعل ، إفتحْ بابك ، وابسط بساطك ، واسترزقِ اللهَ ربّك (٥).

وقال العلاء بن كامل للإمام الصادق عليه السلام : أُدعُ الله أن يرزقني في دَعَه ، فقال عليه السلام : لا أدعو لك ، أُطلب كما أمرك الله تعالى (٦).

وعن كليب الصيداويّ قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : أدعُ الله عزّ وجلّ لي في الرزق ، فَقدِ التاثَتْ علَيّ اُموري. فأجابني مسرعاً : لا ، أُخرج فاطلب (٧).

وقال الإمام الكاظم عليه السلام : مَن طلب هذا الرزق مِن حِلّه ليعود به على نفسه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٦٣ ح ٣٥٩٩ ، وسائل الشيعة «طبع مؤسسة آل البيت عليهم السلام» (١)٧ : ٢٣ / ح ٢١٨٨٤.

٢ ـ ثواب الأعمال : ١٨٠.

٣ ـ الأمالي للصدوق : ٢٣٨ / ح ٩ ـ المجلس ٤٨.

٤ ـ الكافي ٥ : ١٤٩ / ح ٧ باب فضل التجارة.

٥ ـ من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٦٥ / ح ٣٦٠٩.

٦ ـ الكافي ٥ : ٧٨ / ح ٣ ـ باب الحثّ على الطلب والتعرّض للرزق.

٧ ـ نفسه ٥ : ٧٩ / ح ١١.

٢٤٣

وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ (١).

وقال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام : إنّ الله عزّ وجلّ يحبّ المحترف الأمين (٢).

والرزق لا يطلب بالدعاء من دون سعي وطلب ، فقد ورد أنّ الذي يدعو ولا يعمل لا يُستجاب دعاؤه.

وجاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : إنّ أصنافاً من أُمّتي لا يُستجاب لهم دعاؤهم : رجلٌ يدعو على والدَيه ، ورجل يدعو على غريم ذهب له بمالٍ ، فلم يَكتبْ عليه ولم يُشهِد عليه ، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل الله عزّ وجلّ تخلية سبيلها بيده ، ورجل يقعد في بيته ويقول : ربِّ ارزقني ، ولا يخرج ولا يطلب الرزق ، فيقول الله عزّ وجلّ له : عبدي ، ألم أجعل لك السبيل إلى الطلبِ والضربِ في الأرض بجوارحَ صحيحة ، فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتّباع أمري ، ولكي لا تكون كَلّاً على أهلك ، فإن شئتُ رزقتك ، وإن شئت قَتّرتُ عليك ، وأنت غيرُ معذور عندي ، ورجل رزقه الله مالاً كثيراً فأنفقه ثم أقبل يدعو : يا ربّ ارزقني ، فيقول الله عزّ وجلّ : ألم أرزقك رزقاً واسعاً ، فهلّا اقتصدتَ فيه كما أمرتك ، ولم تسرف وقد نهيتك عن الإسراف ، ورجل يدعو في قطيعة رحم (٣).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : إنّي لَأُبغض الرجل فاغراً فاهُ إلى ربّه يقول : ارزقني ، ويترك الطلب (٤).

وطلب الرزق والغنى والتوسعة على النفس والعيال نعم الاستعانة بالدنيا على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٥ : ٩٣ / ح ٣.

٢ ـ نفسه ٥ : ١١٣ / ح ١.

٣ ـ نفسه ٥ : ٦٧ / ح ١.

٤ ـ من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٩٢ / ح ٣٧٢٤.

٢٤٤

الآخرة ، فبالمال يقوّت نفسه وعياله وأرحامه ويصونهم من الانحراف ، وبالمال يتصدّق ويحجّ ، ويشارك في الخيرات والمبرّات وعمارة المساجد.

قال النبيّ صلى الله عليه وآله : نِعم العونُ على تقوى الله الغِنى (١) ، وقال صلى الله عليه وآله : بارك لنا في الخبز ولا تفرّق بيننا وبينه ، فلو لا الخبر ما صلّينا ولا صمنا ، ولا أدّينا فرائض ربّنا (٢).

وقال رجل لأبي عبد الله الصادق عليه السلام : واللهِ إنّا لَنطلب الدنيا ونحبّ أن نُؤتاها ، فقال عليه السلام : تحبّ أن تصنع بها ماذا؟ قال : أعود بها على نفسي وعيالي ، وأصِلُ بها وأتصدّق بها وأحجّ واعتمر ، فقال عليه السلام : ليس هذا طلبَ الدنيا ، هذا طلب الآخرة (٣).

أمّا إذا كان جمع المال وكنزه لأجل الجمع فهو من السعي المذموم ، فقد قال الإمام الرضا عليه السلام : لا يجتمع المال إلّا بخصال خمس : ببخل شديد ، وأمل طويل ، وحرص غالب ، وقطيعة الرحم ، وإيثار الدنيا على الآخرة (٤).

وقد وردت روايات كثيرة تحثّ على العمل باليد من أجل تأمين لقمة العيش للفرد وعياله ؛ ليكفّ يده عن مسألة الناس ، ويحفظ ماء وجهه من الاستجداء ، أو الاعتماد على أكل الحقوق الشرعيّة ، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام قال : أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود عليه السلام أنّك نِعمَ العبدُ لولا أنّك تأكل من بيت المال ، ولا تعمل بيدك شيئاً.

قال : فبكى داود عليه السلام أربعين صباحاً ، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى الحديد أن لِنْ لعبدي داود ، فألانَ الله عزّ وجلّ له الحديد ، فكان يعمل كلَّ يوم درعاً فيبيعها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٥ : ٧١ / ح ١.

٢ ـ نفسه ٥ : ٧٣ / ح ١٣.

٣ ـ نفسه ٥ : ٧٢ / ح ١٠.

٤ ـ الخصال للصدوق : ٢٨٢ / ح ٢٩.

٢٤٥

بألف درهم ، فعمل ثلاثَمائةٍ وستّين درعاً فباعها بثلاثِمائةٍ وستّين ألفاً ، واستغنى عن بيت المال (١).

وقد وردت روايات تندب إلى الغرس والزرع والسقي ، لما للزراعة من أهمّية كبيرة في توفير القوت لأبناء الأُمّة ، ففي المرويّ عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال : لقيَ رجل أمير المؤمنين عليه السلام وتحته وسق من نوى ، فقال له : ما هذا يا أبا الحسن تحتك؟ فقال عليه السلام : مائة ألف عذق إن شاء الله ، قال : فغرسه فلم يغادر منه نواةً واحدة (٢).

وسأل الواسطيّ الإمام الصادق عليه السلام عن الفلّاحين ، فقال عليه السلام : هم الزارعون ، كنوزَ الله في أرضه ، وما في الأعمال شيء أحلّ إلى الله من الزراعة ، وما بعث الله نبيّاً إلّا زارعاً إلّا إدريسَ عليه السلام فإنّه كان خيّاطاً (٣). وفي رواية أُخرى عنه عليه السلام في قوله تعالى : (وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٤) قال : الزارعون (٥).

وقد ورد في الآثار المعتبرة استحباب الدعاء في طلب الرزق ، والرجاء للرزق من حيث لا يحتسب الإنسان ، فإنّ كرم الله واسع.

قال أمير المؤمنين عليه السلام : كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو ، فإنّ موسى بن عمران عليه السلام خرج يقتبس ناراً لأهله فكلّمه الله عزّ وجلّ ورجع نبيّاً مرسلاً ، وخرجت مَلِكة سبأ فأسلمت مع سليمان عليه السلام ، وخرج سَحَرة فرعون يطلبون العزَّ لفرعون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٥ : ٧٤ / ح ٥.

٢ ـ نفسه ٥ : ٧٥ / ح ٦.

٣ ـ تهذيب الأحكام ٦ : ٣٨٤ / ح ١١٣٨.

٤ ـ ابراهيم : ١٢.

٥ ـ تفسير العيّاشيّ ٢ : ٢٢٢ / ح ٦ ، وسائل الشيعة ١٧ : ٤٢ / ح ٢١٩٣٥.

٢٤٦

فرجعوا مؤمنين (١).

وورد الاستحباب في الاقتصاد ، وتقدير المعيشة وترك الإسراف ، قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام لعُبَيد بن زرارة : يا عُبَيد ، إنّ السرف يورث الفقر ، وإنّ القَصْد يورث الغنى (٢). وقال عليه السلام أيضاً : ضَمِنتُ لمن اقتصد أن لا يفتقر (٣) ، وقال الإمام عليّ عليه السلام للأصبغ بن نُباتة : للمسرف ثلاث علامات : يأكل ما ليس له ، ويشتري ما ليس له ، ويلبس ما ليس له (٤).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٥ : ٨٣ ـ ٨٤ ح ٣.

٢ ـ نفسه ٤ : ٥٣ / ح ٨.

٣ ـ نفسه ٤ : ٥٣ / ح ٦.

٤ ـ من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٦٧ / ح ٣٦٢٧.

٢٤٧

المبحث الحادي والثلاثون : في التربية

قال عليه السلام : اِلهي رَبَّيْتَني في نِعَمِكَ وَاِحْسانِكَ صَغيراً ، وَنَوَّهْتَ بِاسْمي كَبيراً ، فَيا مَنْ رَبّاني فِي الدُّنْيا بِاِحْسانِهِ وَتَفَضُّلِهِ وَنِعَمِهِ ، وَاَشارَ لي فِي الْآخِرَةِ اِلى عَفْوِهِ وَكَرَمِهِ.

التربية : هي إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حدّ التمام ، ولا يقال «الربّ» مطلقاً إلّا لله تعالى المتكفّل بمصلحة الموجودات ؛ لأنّه وحده المتولّي لمصالح العباد. ويقال : ربّ الدار وربّ الفرس لصاحبهما ، هذا شيء ممّا ذكره الراغب في «المفردات» (١).

ويقال : نوّه باسمه ، أي رفع ذِكْرَه ، ومَدَحه وعظّمه.

وإذا عرف الله الإخلاص من عبده جعل ذِكرَه الجميل على كلّ لسان ، ونقله من حال إلى أحسن حال.

لقد خلق الله الإنسان ـ كما صرّح في كتابه الكريم وهو أصدق القائلين ـ في أحسن تقويم ، قال سبحانه وتعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٢).

فأوّل نِعَم الله سبحانه على العبد أن أخرجه من عالم العدم إلى عالم الوجود ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مفردات غريب القرآن : ١٨٤.

٢ ـ التين : ٤.

٢٤٨

وأفاض عليه الحياة ، ثمّ بدأ الإنسان بالانتقال من طور إلى طور ، ومن مرحلة إلى مرحلة ، ومن حالة إلى حالة ، وهو يتقلّب في نعم الله ، وفي كلّ ذلك تحيطه يد القدرة والرعاية والحفظ ، حتّى يخرج إلى عالمه الذي أُعدّ له لممارسة دور الخلافة الأرضيّة :

قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّـهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (١).

الآيات الكريمة تفتح أعيننا على بعض الحقائق الكونيّة والقرآنيّة ، فتطلب منّا أن ننظر إلى أنفسنا أوّلاً ، وإلى ما حولنا من خلق ، لنفكّر ونعتبر ، ونشقّ غبار الجهل للانطلاق إلى عالم الانفتاح على رحاب ولاية الله جلّ وعلا.

قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٢).

لننظر إلى التراب ، هذه الذرّات التي هي أرخص وأدون ما في الوجود ، تنالها يد القدرة فتخلق منها هيئة إنسان ذي جوارح وأعضاء ، ثمّ ينفخ الباراي جلّت عظمته من روحه في ذلك الكيان ، فإذا هو إنسان يستحقّ التكريم ، حتى أنّ الله تعالى أمر الملائكة بالسجود له.

قال سبحانه : (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (٣).

إنّ الجسد كالآلة ، كما أنّ القلم آلة للكتابة ، فالعلم الروحيّ له صفاته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المؤمنون : ١٢ ـ ١٤.

٢ ـ فُصّلت : ٥٣.

٣ ـ الحجر : ٢٩.

٢٤٩

وخواصّه ، وآفاقه وآثاره المغايرة لعالم الجسد ، وإذا توفّى الله الإنسان تلاشى هذا البدن وعادت الروح إلى عالمها الكبير :

ونعم ما قيل :

عليك بالنفس فاستكمِلْ فضائلَها

فأنت بالنفسِ لا بالجسمِ إنسانُ (١)

الإنسان الأوّل ابن الأرض ، وسلالته كذلك ، إذ ليس من عنصر من عناصر بدنه إلّا وينتسب إلى أُمّه «الأرض» ، وعندما يموت يعود إلى رحم أمّه ليكون جزءاً من أجزائها ، ثمّ إذا بعثه الله أخرجه منها :

قال تعالى : (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ) (٢).

والإنسان ما بين النشأتين كيان مفكّر ، مدرك عاقل ، له بصر وبصيرة ، وعواطف وأحاسيس ، وتطلّعات ونظريات ، واكتشافات واختراعات ، وله آمال وأهداف ، ووعي واستعدادات تؤهّله إلى ارتقاء سلالم الكمال.

وفي كلّ هذه الأطوار والمراحل قد هيّأ الله تعالى من الأسباب التي ترعاه وتحفظه ، وتمدّه بأسباب البقاء ، نطفةً وعلقةً ، ومضغةً وطفلاً ، وشابّاً وشيخاً.

يقول السيّد عزّ الدين بحر العلوم في كتابه الموسوم بـ «أضواء على دعاء كميل» ما نصّه : إنّ الإمام الحسين عليه السلام يخرج من خيمته في ظهيرة يوم التاسع من ذي الحجّة ، في وسط ضجيج الحجيج ، وتكبيرهم وتهليلهم ، يحوط به أهل بيته ، ولفيف من شيعته ليقف بجانب الجبل من وادي عرفات ، متّجهاً صوب البيت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ البرهان للزركشيّ ٢ : ٤٦٩.

٢ ـ طه : ٥٥.

٢٥٠

الحرام ، رافعاً يديه إلى السماء ، وبوجه تظهر عليه أمارات الخضوع ، ودموع منهمرة من عينين منكسرتين ، يبدأ أبو الشهداء ، بصوت يجلّله الحزن فيقول :

اللهمّ إنّي أرغبُ إليك ، وأشهَدُ بالربوبية لك مقرّاً بأنّك ربّي وأنّ إليك مَرَدّي ، إبتدأتَني بنعمتك قبل أن أكون شيئاً مذكوراً ، وخلقتَني من التراب ، ثمّ أسْكنتَني الأصلاب ، آمناً لِرَيب المنون ، واختلافِ الدهور والسنين ، فَلَم أزلْ ظاعناً من صُلبٍ إلى رَحِم ، في تقادمٍ الأيّام الماضية ، والقرون الخالية ... فابتَدَعتَ خَلْقي مِن مَنيٍّ يُمنى ، وأسكنتَني في ظلماتٍ ثلاثٍ بين لحم ودم وجلد ، لم تُشْهِدْني خَلقي ، ولم تَجعلْ إليَّ شيئاً من أمري ، ثمّ أخرجتَني لِلَّذي سَبقَ لي مِن الهدى إلى الدنيا تامّاً سَويّاً ، وحَفِظتَني في المهدِ طفلاً صبيّاً ، ورزقتَني مِن الغذاء لَبَناً مَريّاً ، وعطفتَ علَيَّ قلوب الحواضن ، وكفّلتَني الاُمّهاتِ الرواحم ، وكَلَأْتَني من طوارقِ الجانّ ، وسلّمتَني من الزيادة والنقصان ، فتعاليتَ يا رحيمُ يا رحمان (١).

وفي الروايات الصحيحة أنّ الحمل يكون أربعين يوماً نطفة ، ثمّ يصير علقة أربعين يوماً ، ثمّ يصير مضغة أربعين يوماً ، فإذا أكمل أربعة أشهر نُفخَت فيه الروح.

والأبوان هما السبب المباشر الذي أوجده الله لخروج الإنسان من العدم إلى عالم الوجود.

قال تعالى : (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (٢).

ويأتي دور الاُمّ ليكون رحمها له حفظاً ووقاءً ، وصدرها له سقاءً ، وحِجْرها له

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ينظر : إقبال الأعمال ٢ : ٧٥ ، أضواء على دعاء كميل للسيّد عزّ الدين بحر العلوم : ٢٦٨.

٢ ـ الإنسان : ١ ـ ٣.

٢٥١

غطاءً ، وبهذا يستحقّ الوالدان الشكر والإكرام من باب وجوب شكر المنعم ، وقد ورد عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام قوله : مَن لم يشكر المنعمَ من المخلوقين لم يشكرِ اللهَ عزّ وجلّ (١).

ونعم ما قيل : من لم يكن والداً لم يعرف قدر الوالد.

فالوالدان اللذان هم أصل الوجود ، ومنبع الرحمة والرأفة ، يعانيان ويقاسيان الكثير في مسائل الحمل والولادة والرضاعة والسهر والتربية ، والتحمّل ، من أجل حفظ حياة الأولاد وتنشئتهم.

قال الإمام زين العابدين عليه السلام في «رسالة الحقوق» : وحقُّ أمّك ، أن تعلم أنّها حَمَلتك حيث لا يحتمل أحداٌ أحداً ، وأعطَتْك من ثمرة قلبها ما لا يُعطي أحد أحداً ، وَوقَتْك بجميع جوارحها ، ولم تُبالِ أن تجوع وتطعمك ، وتعطش وتسقيك ، وتعرى وتكسوك ، وتَضْحى وتُظلّلك ، وتهجر النوم لأجلك ، وَوَقَتْك الحرّ لتكون لها ، فإنّك لا تُطيق شكرها إلّا بعون الله تعالى وتوفيقه.

وأمّا حقّ أبيك ، فأن تعلم أنّه أصلك ، وأنّه لولاه لم تكن ، فمهما رأيتَ في نفسك ممّا يعجبك فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك فيه ، فاحمَدِ اللهَ واشكره على قَدْر ذلك ، ولا قوّة إلّا بالله (٢).

وقد قال تعالى : (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (٣).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٢٤ / ح ٢ ـ الباب ٣١.

٢ ـ الخصال : ٥٦٨ / ح ١ ـ من أبواب الخمسين.

٣ ـ الإسراء : ٢٣ ـ ٢٤.

٢٥٢

لقد أمر الله سبحانه بعبادته وطاعته ، ثمّ قدّم حكم الإحسان والرحمة للوالدين على جميع أحكام الدِّين ، لأهمّية ذلك في بناء المجتمع الإنسانيّ وتوحيده ، وصبّه في بوتقة التوحيد والإيمان والفطرة.

فمقابل أتعاب الوالدين ، أمر الإنسان أن يقدّم فروض الطاعة والذلّ والمسكنة أمامهما ، وأن يحسن معاشرتهما ، ولا يؤذيهما بقول أو فعل ، أو نظرة غضب ، وأمر بالدعاء والاستغفار لهما حيَّينِ أو ميّتين لإطلاق الآية :

قال تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).

وفي الخبر عن أبي ولّاد الحنّاط قال : سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن قول الله : (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) ، ما هذا الإحسان؟

فقال عليه السلام : الإحسان أن تُحسن صُحبتَهما وأن لا تُكلِّفَهما أن يسألاك شيئاً ممّا يحتاجان إليه وإن كانا مُستغنيَين ، أليس يقول الله عزّ وجلّ : (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (١).

ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام : وأمّا قول الله تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا) قال عليه السلام : إن أضجراك فلا تقل لهما أفّ ، ولا تنهرهما إنْ ضرباك ، وقال عليه السلام : (وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) ، قال : إن ضرباك فقل لهما : غفر الله لكما ، فذلك منك قول كريم قال : (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) ، قال : لا تَملأْ عينَيك من النظر إليهما إلّا برحمة ورِقّة ، ولا ترفع صوتَك فوق أصواتهما ، ولا يدك فوق أيديهما ، ولا تَقَدَّمْ قُدّامَهما (٢).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ آل عمران : ٩٢.

٢ ـ الكافي ٢ : ١٥٨ / ح ١ ـ باب البِرّ بالوالدين.

٢٥٣

وقال عليه السلام : أدنى العقوق أُفّ ، ولو عَلِم الله عزّ وجلّ شيئاً أهونَ منه لنهى عنه (١).

ومقابل هذا أمر الشارع الأعظم الآباء برعاية الأولاد ، وتربيتهم التربية الصالحة التي تنمي أجسادهم وعقولهم وأخلاقهم وعواطفهم ، فأوجب الإنفاق عليهم ، وأمر بمراقبتهم وإرشادهم ، وتعليمهم القراءة والكتابة ، وحثّهم على قراءة القرآن وتأدية الفرائض العباديّة ، وتثقيفهم بمبادئ الدين والأحكام الشرعيّة.

بل ورد في الآثار أن يحسّن الأب اسم ابنه وكنيته ، ويعقّ عنه ، وأن يختار له المرضعة المؤمنة العاقلة ، وأن يُقَبّله وأن يتصابى معه ، وأن يعلّمه السباحة ، ولا يقسو عليه بالضرب والتأنيب بحجّة التأديب.

قال الإمام عليّ بن الحسين في رسالة الحقوق : وأمّا حقُّ وَلَدك فأن تعلم أنّه منك ومضاف إليك ، في عاجل الدنيا بخيره وشرّه ، وأنّك مسؤول عمّا وليته مِن حُسن الأدب ، والدَّلالة على ربّه عزّ وجلّ ، والمعونة له على طاعته ، فاعملْ في أمره عملَ مَن يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه ، معاقب على الإساءة إليه (٢).

وجاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : رَحِم الله مَن أعان ولده على بِرِّه (٣).

وعنه صلى الله عليه وآله أيضاً : أحِبُّوا الصبيان وارحموهم ، وإذا وعدتموهم شيئاً فَفُوا لهم ، فإنّهم لا يَدْرون إلّا أنّكم ترزقونهم (٤).

وعنه صلى الله عليه وآله : يلزم الوالدَينِ من عقوق الولد ما يلزم الولد لهما من العقوق (٥).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٣٤٨ / ح ١ ـ باب العقوق.

٢ ـ الخصال : ٥٦٨ / ح ١ ـ من أبواب الخمسين.

٣ ـ الكافي ٦ : ٥٠ / ح ٦ باب بِرّ الأولاد.

٤ ـ نفسه ٦ : ٤٩ / ح ٣ ، وفي بعض النسخ : فإنّهم لا يَرَون إلّا أنّكم ترزقونهم.

٥ ـ من لا يحضره الفقيه ٣ : ٤٨٣ / ح ٤٧٠٨.

٢٥٤

وفي رواية أنّ أحد الشيعة قال للإمام الصادق عليه السلام بأنّه يضرب ولده إذا عصاه مائة سوط ، فاستنكر الإمام عليه السلام ذلك قائلاً : مائة ، مائة؟! حدّ الزنا؟! ثمّ أمره أن يضربه خمسة أو ستة أسواط برفق (١).

وفي «مجموعة ورّام» أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قال : لا تَضرِبنَّ أدباً فوق ثلاث ، فإنّك إن فعلت فهو قصاص يوم القيامة (٢).

وورد في مدح الأولاد الكثير من الروايات المعتبرة ، منها ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : الولد ريحانة (٣).

وقال صلى الله عليه وآله : ريح الولد من ريح الجنّة (٤).

وورد عنه صلى الله عليه وآله : مَن قَبَّلَ ولده كتب الله عزّ وجلّ له حسنة ، ومن فَرَّحه فَرَّحَه الله يوم القيامة ، ومَن علّمه القرآن دُعِيَ بالأبوَينِ فيُكسَيان حُلَّتَين يَضيء من نورهما وجوهُ أهل الجنّة (٥).

وقد ورد في الحديث النبويّ الشريف : الجنّة تحت أقدام الأُمّهات (٦).

وروي أنّ في آخر مناجاة بين الله وعبده موسى عليه السلام ، قال موسى : يا ربِّ ، أوصني ، قال سبحانه : أوصيك بأمّك حُسناً ـ قالها له سبع مرات ، قال عليه السلام : حَسْبي ، ثمَّ قال تعالى : يا موسى ، ألا إنَّ رضاها رضاي ، وسخطها سخطي (٧).

وقال أحدهم لصاحبه : إنّ لي أمّاً بلغ منها الكبر أنّها لا تقضي حاجتها إلّا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٧ : ٢٦٧ / ح ٣٤.

٢ ـ مجموعة ورّام [تنبيه الخواطر ونزهة النواظر] ٢ : ١٥٥.

٣ ـ ينظر : عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٢٧ / ح ٨ ـ الباب ٣١.

٤ ـ روضة الواعظين : ٣٦٩.

٥ ـ الكافي ٦ : ٤٩ / ح ١.

٦ ـ مسستدرك الوسائل ١٥ : ١٨٠ / ح ١٧٩٣٣ ـ عن : لبَ اللُّباب.

٧ ـ رياض السالكين ٤ : ٥١.

٢٥٥

وظهري لها مطيّة ، فهل أدّيت حقّها؟ قال : لا ، لأنّها كانت تصنع ذلك وهي تتمنّى بقاءك ، وأنت تصنعه وتتمنّى فراقها. وقيل للإمام عليّ بن الحسين عليه السلام : أنت أَبرُّ الناس بأمّك ولا نراك تأكل معها؟! فقال عليه السلام : أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت عينُها إليه فأكون قد عققتُها (١).

وفي الواقع أنّ هذه المرأة لم تكن والدته ، بل هي أَمَةٌ قامت بتربيته ورضاعته ، لأنّ والدته توفّيت في ولادتها إيّاه عليه السلام.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآل محمّد الطاهرين المعصومين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مكارم الأخلاق : ٢٢١ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٦٤ / ح ٣٠٥٠٣.

٢٥٦

المبحث الثاني والثلاثون : الكرام الإلهيّ في الآخرة

نتحدّث في هذا المبحث عن شيء لا يُعدّ إلّا قطرة من بحر الرحمة الإلهيّة الأُخرويّة التي أعدّها الله لعباده المؤمنين ، فإنّ الرحمة الإلهيّة كبيرة وواسعة لا يمكن للعقل البشريّ إدراكها ولا إحصاؤها بل ولا تصوّرها ، فقد ورد أنّ الله سبحانه أَعَدَّ لعباده الصالحين ما لا عينٌ رأت ، ولا أذُن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر (١) ، وورد أنّ الدنيا بنعيمها وزخارفها هي بمثابة سجن للمؤمن (٢).

عن الإمام الحسن عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال : إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر (٣).

إنّ الموت أعظم رحمة يتمنّاها المؤمن إذا كان ممّن ناله رضوان الله تعالى ، وقد ورد أنّ قيامة الإنسان تقوم بعد أوّل لحظة تفارق روحه بدنه ، فإذا مات ابن آدم قامت قيامته (٤).

وقد وردت مباحث جليلة ودقيقة ونافعة في الموسوعة الحديثيّة الموسومة بـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يُنظر : ثواب الأعمال : ٥٦.

٢ ـ يُنظر : الكافي ٢ : ٢٥٠ / ح ٦.

٣ ـ معاني الأخبار : ٢٨٩ / ح ٣.

٤ ـ يُنظر : كنز العمّال ١٥ : ٥٤٨ / خ ٤٢١٢٣.

٢٥٧

«لآلئ الأخبار» لعمدة العلماء والمحقّقين ، وزبدة الفقهاء والمجتهدين ، الشيخ محمّد نبي التوسيركانيّ ، لا بأس بمراجعتها والاغتنام منها ، ولا بأس أن تقدّم للقارئ الكريم إطلالة على ذلك العالَم الأخرويّ (١).

في مقامات المؤمن عند الموت ومنزلته عند الله

روي أنّ الله يبعث ريحاً إلى المُحتضر تُنْسيه أهله وماله (٢) ، وأنّ ملك الموت ليقف من المؤمن عند موته موقف العبد الذليل من المولى (٣) ، ولا يُؤمر بقبض روحه إلّا برضى ذلك المؤمن (٤).

وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه قال : لو أنَّ مؤمناً أقسم على ربّه أن لا يميته ، ما أماته أبداً ، ولكن إذا كان ذلك أو إذا حضر أجله بعث الله عزّ وجلّ إليه ريحين : ريحاً يقال لها : المُنسية ، وريحاً يقال لها : المُسخّية ، فأمّا المنسية فإنّها تنسيه أهله وماله ، وأمّا المسخّية فإنّها تسخّي نفسه عن الدنيا حتّى يختار ما عند الله (٥).

في حضور النبيّ والأئمّة عليهم السلام عند المحتضر

وورد في الآثار أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وعليّاً عليه السلام والزهراء والحسن والحسين عليهم السلام وسائر أهل بيت العصمة الكرام ، وقيل : معهم جبرئيل وميكائيل ، يحضرون الميّت المؤمن ويبشّرونه بما أعدّ الله له ، ويستوصون به خيراً (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ لآلئ الأخبار ٤ : ٢١٩.

٢ ـ يُنظر : الكافي ٣ : ١٢٧ / ح ١.

٣ ـ يُنظر : من لا يحضره الفقيه ١ : ١٣٥ / ح ٣٦٥.

٤ ـ يُنظر : الكافي ٢ : ٦٢٦ / ح ٢٤.

٥ ـ الكافي ٣ : ١٢٧ / ح ١.

٦ ـ من لا يحضره الفقيه ١ : ١٣٤ / ح ٣٥٥.

٢٥٨

ذلك ، فيقول له ملك الموت : يا وليَّ الله لا تجزع ، فَوَالذي بعث محمّداً صلى الله عليه وآله لأنا أبَرُّ بك وأشفَقُ عليك من والد رحيم لو حَضَرك ، إفتحْ عينَك فانظر ... (١).

وورد في الآثار أنّ ملك الموت يأمر المؤمن ليرى مشاهد الجنّة وقصورها وثمارها ونساءها ونعيمها ، ويرى أهله فتشتاق روحه إليهم ، فيأذن لملك الموت بقبض روحه (٢).

وورد عنهم عليهم السلام أنّه : يفتح له باب إلى الجنّة فيقول : هذا منزلك ، فإن شئت رددناك إلى الدنيا ولك فيها ذهب وفضّة ، فيقول : لا حاجة لي في الدنيا (٣) ، ثم يقول : الوَحا الوَحا ، (أي التعجيل) ، تناول روحي ولا تلبثني ها هنا ، فلا صبر لي عن محمّدٍ وعترته ، وألحقْني بهم (٤).

وورد في الخبر المشهور عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ القبر إمّا روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النار (٥).

في حضور النبيّ صلى الله عليه وآله عند المحتضر

وورد في الآثار أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وعليّاً عليه السلام والزهراء والحسن والحسين عليهم السلام وسائر أهل بيت العصمة الكرام ، وقيل : معهم جبرئيل وميكائيل ، يحضرون الميّت المؤمن ويبشّرونه بما أعدّ الله له ، ويستوصون به خيراً (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٣ : ١٢٧ / ح ٢.

٢ ـ يُنظر : الكافي ٢ : ٦٢٦ / ح ٢٤.

٣ ـ الكافي ٣ : ١٢٩ ـ ١٣٠ / ح ٢.

٤ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام الحسكريّ عليه السلام : ٢١٣ / ح ٩٨.

٥ ـ الكافي ٣ : ٢٤٢ / ح ٢.

٦ ـ يُنظر : الكافي ٣ : ١٢٧ ـ ١٢٨ / ح ٢.

٢٥٩

وورد أنَّ الميّت إذا حضره سادته المعصومون يقول مخاطباً النبيّ صلى الله عليه وآله : ما كان أعظم شوقي إليكم ، وما أشدّ سروري الآن في لقائكم. يا رسولَ الله هذا ملك الموت قد حضرني ، ولا أشكّ في جلالتي في صدره لمكانك ومكان أخيك منّي.

فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله : كذلك هو. ثمّ يُقْبل رسول الله صلى الله عليه وآله على ملك الموت فيقول : يا ملك الموت ، إستوصِ بوصيّة الله في الإحسان إلى مُوالينا وخادمنا ومؤثرنا ، فيقول ملك الموت : يا رسول الله ، مره ينظر إلى ما قد أعدّ الله له في الجنان ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وآله : أُنظرْ إلى العلوّ. فينظر في العلوّ إلى ما لا تحيط به الألباب ، ولا يأتي عليه العدد والحساب.

فيقول ملك الموت : كيف لا أرفق بمن ذلك ثوابه ، وهذا محمّد صلى الله عليه وآله وعترته زوّاره؟! يا رسول الله ، لولا أنّ الله جعل الموت عقبة لا يصل إلى تلك الجنان إلّا مَن قطعها لَما تناولتُ روحه ، لكنْ لخادمك ومحبّك هذا أُسوة بك وبسائر أنبياء الله ورسله وأنبيائه الذين أُذيقوا الموت بحكم الله.

ثمّ يقول محمّد صلى الله عليه وآله : يا ملك الموت ، هاك أخانا قد سلّمناه إليك ، فاستوصِ به خيراً. ثمّ يرتفع هو ومن معه إلى رياض الجنان ، وقد كشف الغطاء والحجاب لعين ذلك المؤمن العليل ، فيراهم المؤمن هناك بعدما كانوا حول فراشه فيقول : يا ملك الموت الوحا (أي السرعة والتعجيل) ، تناول روحي ولا تُبقِني هنا ، فلا صبر لي عن محمّد وعترته ، ألحِقْني بهم ، فيفتح عينيه فينظر ، فينادي روحَه منادٍ مِن قِبل ربّ العزّة : يا أيّتها النفس المطمئنّة ارجعي إلى محمّدٍ وأهل بيته ، وادخلي جنّتي. فما من شيء أحبّ إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي (١) ، (٢).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المحتضر للحسن بن سليمان الحلّي : ٤٨ ـ ٤٩.

٢ ـ الكافي ٣ : ١٢٨ / ح ٢.

٢٦٠