مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

العظام (١).

وورد في فضل الدعاء في قنوت الوتر بعد صلاة الليل قوله صلى الله عليه وآله : أطولُكم قنوتاً في الوتر في دار الدنيا أطولكم راحةً يوم القيامة في الموقف (٢).

وورد في آداب الدعاء أن يبتدئ الداعي بحمد الله وتمجيده والثناء على آلائه ، ثمَّ الصلاة على النبيّ وآله قَبل أن يسأل حاجته ، حيث قال الإمام الصادق عليه السلام : إيّاكم إذا أراد أحدُكم أن يسأل من ربّه شيئاً من جوائج الدنيا والآخرة حتّى يبدأ بالثناء على الله عزّ وجلّ ، والمدحِ له ، والصلاةِ على النبيّ صلى الله عليه وآله : ثمّ يسأل اللهَ حوائجه (٣).

ويُعدّ هذا المبحث في الدعاء تكملةً لما كتبناه في كتابَي : «أضواء على دعاء الافتتاح» و «في ظلال دعاء كميل» ، لذا نرجو من القارئ العزيز مراجعتهما ونسأله الدعاء ، لأنّ دعاء المؤمن في ظهر الغَيب ممّا ندب إليه لاشرع والقائمون عليه ، وبهذين الحديثين أختتم هذا المبحث :

قال معاوية بن وهب : سمعت أبا عبد الله الصادق يقول : مَن دعاء لأخيه في ظَهر الغيب ناداه مَلَك من السماء الدنيا : يا عبد الله ، ولَكَ مائةُ ضِعف ممّا دعوت.

وناداه ملك من السماء الثانية : يا عبد الله ، ولك مائتا ضعفٍ ممّا دعوت.

وناداه ملك من السماء الثالثة : يا عبد الله ، ولك ثلاثمائة ضعفٍ ممّا دعوت.

وناداه ملك من السماء الرابعة : يا عبد الله ، ولك أربعمائة ضعفٍ ممّا دعوت.

وناداه ملك من السماء الخامسة : يا عبد الله ، ولك خمسمائة ضعفٍ ممّا دعوت.

وناداه ملك من السماء السادسة : يا عبد الله ، ولك ستمائة ضعفٍ ممّا دعوت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٤٧٨ / ح ٩.

٢ ـ الدعوات للراونديّ : ٢٥٥ / ح ٧٢٠.

٣ ـ الكافي ٢ : ٤٨٤ / ح ١.

٤١

وناداه ملك من السماء السابعة : يا عبد الله ، ولك سبعمائة ضعفٍ ممّا دعوت.

ثمّ يناديه الله تعالى : أنا الغنيّ الذي لا أفتقر ، يا عبد الله لك ألفُ ألفِ ضعفٍ ممّا دعوت (١).

وورد عن الإمام الكاظم عن آبائه عليهم السلام قال : كانت فاطمة عليها السلام إذا دعت تدعو للمؤمنين والمؤمنا ولا تدعو لنفسها ، فقيل لها : يا بنت رسول الله ، إنَكِ تَدْعين للناس ولا تدعين لنفسك! فقالت : الجار ثمّ الدار (٢).

والحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الدعوات للراونديّ : ٢٨٩ / ح ٣٠ ، عدّة الداعي : ١٧٢.

٢ ـ علل الشرائع ١ : ١٢ / ح ٢ ، روضة الواعظين : ٣٢٩.

٤٢

المبحث الثالث : في الأُلُوهيّة

قال الإمام زين العابدين عليه السلام : اِلهي لا تُؤَدِّبْني بِعُقُوبَتِكَ ، وَلا تَمْكُرْ بي في حيلَتِكَ.

يبتدئ الدعاء بالنداء القدسيّ ، وهو الألوهيّة التي ما وُصِف بها غير الله إلّا كان من الآلهة المزيّفة إذ الإله هو المعبود ، وهو الذي يأمر فيُطاع ، وتكون طاعته على نحو الاستقلال ، وإذ لا أحد يستحقّ الطاعة والعبادة غير الله ، فنحكم بأنّ جميع الآلهة غير الله هي آلهة مزيّفة باطلة ، وطاعها من الشِّرك.

لقد خلق الله الإنسان ، وهو العالم بحاله وبما يضمن له مسيرة الحياة القائمة على العدل والسماواة والحريّة والالتزام بالفضائل والقيم والمثل العليا ، وهذه هي الهداية الإلهيّة التي مفادها إراءة الطريق الحقّ الموصل إلى خير الدنيا والآخرة ، وهذه الهداية محصورة بالله سبحانه وحده لا يشاركه فيها أحد ، وأمّا طاعة الأنبياء فإنّها تقع في طول طاعته سبحانه (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ) (١).

إنّ الطاعة بالأصالة لله وحده ، وتكون لغيره بالامتداد والتبعيّة.

ومن هنا حكمنا أنّ كلّ طاعة تصدر عن علم لغير الله فهي من الشرك الخفي ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النساء : ٨٠.

٤٣

فالذي يعبد الله ويطيعه هو موحّد مؤمن ، وهو على هدى من ربّه ، والذي يطيع غير الله عن عالم هو مشرك ، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله : من أصغى إلى ناطق فقد عَبدَه ، فإن كان الناطق عن الله عزّ وجلّ فقد عبَدَ الله ، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس (١).

وهذا القرآن يصرّح بأنَّ طاعة الشيطان باتّباع أوامره ونواهيه من العبادة له.

قال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) (٢).

إنّ الآية الشريفة تنهى عن اتّباع الشيطان ، لأنَّه يأمر بالفحشاء والمنكر والبغي ، في نفس الوقت الذي تأمر بوجوب طاعة الله سبحانه باتّباع أوامره ونواهيه ، وبذلك يكون الإنسان قد سلك الطريق المستقيم الذي يضمن له سعادة الدنيا والآخرة.

والآن نخرج بهاتين المعادلتين :

علم + التزام = هداية

علم + عدم التزام = ضلال

وحين نُمعن النظر في قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) (٣) ، وقوله سبحانه وتعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّـهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّـهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (٤) ، هكذا نرى أنّ القرآن قد سمّى الهوى إلهاً ، وسمّى متّخذي الأهواء ممّن خرجوا من حضيرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٦ : ٤٣٤ / ح ٢٤ ، عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ٣٠٤ / ح ٦٣.

٢ ـ يس : ٦٠ ـ ٦١.

٣ ـ الفرقان : ٤٣.

٤ ـ الجاثية : ٢٣.

٤٤

عبادة الله إلى ساحة عبادة غيره سبحانه مشركين ، والمراد من اتّخاذ الهوى إلهاً هو اتّباع الشهوات والاستجابة لنداء النزوات الشيطانيّة.

وإنّ هؤلاء يرون أنّ لهم إلهاً يجب أن يُتّبَع ، فتركوا عبادة الله الحقّ وتوجّهوا إلى عبادة الهوى الذي يزيّن لهم الشرك ، حيث ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله قوله : ما تحت ظِلِّ السماء من إله يُعبَد من دون الله أعظم عند الله من هوىً مُتَّبَع (١).

وقد أمر الإسلام بالتوحيد الخالص الذي قوامه «لا إلهَ إلّا الله» ، وهذا الشعار لا يدعو إلى طاعة الله فقط ، بل يدعو إلى نفي الألوهيّة عن غيره من جانب ، ثمّ يأمر بطاعة الله وحده ، فلربّما نجد من يعبد الله في الوقت الذي يعبد فيه غيرَ الله ، كمن دانوا بمذهب التثليث ومَن ادّعَوا البُنوّة لله ، ومن عبدوا الأصنام لتقرّبهم إلى الله زَلفى.

إنَ طريق الله واحد لا ريب فيه ، وكلّ الطرق التي تذهب بالإنسان يميناً وشمالاً هي من طرق الشرك ، لقد أراد الله من هذا الشعار إقامة دولة الحقّ والعدل التي تساير الفطرة الإنسانيّة ، بل فطرة الوجود ، وأراد استئصال منابت الشرّ والبغي والخلاف من كلّ مجالات المجتمع.

كتب النبيّ صلى الله عليه وآله كتاباً إلى نصارى نجران ورد فيه : أمّا بعد ، فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وإلى ولاية الله من ولاية العباد (٢) ، وأطلق القرآن الكريم على طاعة البشر على نحو الاستقلال عن الله عبادةً ، حيث قال سبحانه وتعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَـٰهًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المعجم الكبير للطبرانيّ ٨ : ١٠٣ ، كنز العمّال ٣ : ٥٤٧ / خ ٧٨٣٣.

٢ ـ البداية والنهاية لابن كثير ٥ : ٦٤ ، إمتاع الأسماع للمقريزي ١٤ : ٦٧.

٤٥

وَاحِدًا لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١).

إنّ هؤلاء لم يركعوا ولم يسجوا لأحبارهم ورهبانهم ، ولكنّهم قدّموا لهم فروض الطاعة المطلقة وعلى وجه الاستقلال ، فخلقوا منهم آلهة يُعبدون من دون الله ، ففي المرويّ عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام قال : قلت له : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ)؟ فقال عليه السلام : أما والله ما دَعَوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حَراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون (٢).

وعن سفيان بن عُيَينة قال : سألته عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ؟ (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٣) ، قال عليه السلام : القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه ، وكلّ قلب فيك شكّ وشرك فهو ساقط ، وإنّما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة (٤).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : قال الله عزّ وجلّ : أنا خيرُ شريك ، مَن أشرك معي غيري في عمل لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً (٥).

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ التوبة : ٣١.

٢ ـ الكافي ١ : ٥٣ / ح ١ ، المحاسن ٢٤٦ / ح ٢٤٦.

٣ ـ الشعراء : ٨٩.

٤ ـ رسائل الشهيد الثاني : ١٠٩ ، الكافي ٢ : ١٢٩ / ح ٥.

٥ ـ الكافي ٢ : ٢٩٥ / ح ٩ ، المحاسن ٢٥٢ / ح ٢٧٠.

٤٦

المبحث الرابع : في التأديب بالعقوبة

نعود من جديد إلى مطاوي الدعاء الشريف ونقول : إنّ الداعي يسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يؤدّبه بالعقوبة ، والتأديب هو التهذيب.

لقد منّ الله على عباده بإنزال الكتب السماوية هدىً ونوراً ، وتفضّل علينا بإرسال الرسل والنبيّين مبشّرين ومنذرين ، وعندما يتمرّد هذا الإنسان على ربّه ويرفض الانقياد للرسل الذين لهم شرف السفارة بين الله وعباده ، ويسير في الطريق الذي يبعده عن نداء الحقّ ، ويفارق موكب الإيمان والفضيلة ليقع في مستنقعات الجهل والظلم ، ويستنشق نتن المادية البحتة ، فالله سبحانه وتعالى ـ ومن باب رحمته ـ يبتلي هذا الإنسان بأنواع البلاء : كالجوع والفقر والمرض والكوارث الطبيعية والاجتماعية ، رجاءَ أنْ يحسّ بضعفه وحاجته إلى الله ، فيتوجّه إليه بالعبادة والانكسار والتذلل ليكشف عنه ما نزل بساحته ، ولو تحقّقت الإنابة والتوبة من العبد لحدثت عنده نقلة نوعية من عالم الإخلاد إلى الأرض وولاية الشيطان إلى عالم التوحيد الرحب وولاية الله سبحانه وتعالى.

والابتلاء ـ الذي هو نعمة إلهيّة ـ سمّاه العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر : والمراد من العذاب الأكبر هو عذاب الاستئصال في الدنيا ، ونزول العذاب

٤٧

الاُخرويّ ، وعندما ينزل هذان العذابان لم يكن نزولهما من الرحمة في شيء.

إنّ الأدب المطلوب مع الله هو الانقياد والاستسلام لأوامره ونواهيه عن طواعية وعن رضىً وطمأنينة.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

٤٨

المبحث الخامس : في المكر الإلهيّ

قال عليه السلام : وَلا تَمْكُرْ بي في حيلَتِكَ.

المكر : هو صرف الغير عمّا يقصده بحيلة ، ونقول : مكر به أبي خدعه ، ونقول : مكر الله فلاناً : جازاه على المكر (١).

أمّا الحيلة : فهي القدرة على التصرّف والحِذق بتحويل الأمور قال تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّـهُ وَاللَّـهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (٢).

وقال سبحانه : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّـهُ وَاللَّـهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (٣) ، وقال عزّ وعلا : (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (٤).

والمكر إمّا أن يكون من الإنسان أو يكون من الله ، والمكر من الإنسان مذموم عندما يُراد به الخديعة والتوصّل إل ىتحقيق مآرب شخصيّة على حساب القيم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ونسبة المكر إلى الله من باب المشاكلة ، مثل : (نَسُوا اللَّـهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] فإنَّ الله لا ينسى ولا يمكر ، ينظر لسان العرب «مكر».

٢ ـ آل عمران : ٥٤.

٣ ـ الأنفال : ٣٠.

٤ ـ فاطر : ٤٣.

٤٩

ومصالح العباد.

أمّا المكر الإلهيّ فهو إمّا أن يكون ابتدائياً ، وهذا ما لا يليق بساحته المقدّسة ، وفي نسبة ذلك إلى الله سبحانه نفيُ الاختيار عن الإنسان ، وهذا من موجبات قبح العقاب من جانب ، وعدم استحقاق الثواب من جانبٍ آخر ، ولقد استفاضت الروايات عن أئمّة الهدى عليهم السلام أن : لا جبرَ ولا تفويض ، ولكن أمرٌ بين أمرين (١).

إنّ الإنسان قادر على خلق أفعاله باختياره لكي يستحقّ الثواب على الفعل الحسن ، وينال العقاب على الفعل القبيح ، ولكن ليس للإنسان الاستقلاليّة عن الله سبحانه وعن نفوذ إرادته ومشيئته ، وأمّا أن يكون المكر الإلهي مكرَ مجازاة ومقابلة فهذا لا ينافي ساحة قداسته ولا ينسب القبح والنقص والمنكر إليه.

قال تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) (٢).

وقال سبحانه : (كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّـهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ) (٣).

والإمهال الإلهيّ قد يكون بسلب التوفيق ، ومنع المعونة ، وترك الإنسان ليكون فريسة لأهوائه والزخارف الدنيا والشيطان ، وقد يكون بالإمداد (٤) المؤدّي إلى الطغيان والاستبدااد والتكبّر والاستعلاء بغير حقّ.

قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام : من وُسِّع عليه دنياه ولم يَعلَم أنّه مُكِر به ، فهو مخدوع عن عقله (٥). وعن ابن فضّال قال : سألت الرضا عليه السلام عن قوله سبحانه :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ١ : ١٦٠ / ح ١٣ ، الاعتقادات للصدوق : ٢٩.

٢ ـ البقرة : ٢٦.

٣ ـ غافر : ٣٤.

٤ ـ المراد بالإمدااد هنا هو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى : (اللَّـهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة : ١٥٠].

٥ ـ مفردات غريب القرآن للراغب الأصفهانيّ : ٦١.

٥٠

(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّـهُ) (١) ، فقال عليه السلام : إنّ الله تعالى لا يسخر ولا يمكر ولا يُخادع ، ولكنّه تعالى يُجازيهم جزاءَ السُّخرية وجزاءَ الاستهزاء وجزاءَ المكر والخديعة ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً (٢).

وورد في سوء عاقبة الإنسان الماكر كثير من الروايات الشريفة ، فقد روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قال : ليس منّا مَن ماكَرَ مسلماً ، (٣) وقال صلى الله عليه وآله : من كان مسلماً فلا يمكر ولا يخدع ، فإنّي سمعت جبرئيل عليه السلام يقول : إنّ المكر والخديعة في النار (٤).

وعن الإمام عليّ عليه السلام قوله : مَن مكر حاق به مكرُه. من أمن مكر الله هلك. ومَن أمِن المكر لَقِي الشرّ (٥).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ آل عمران : ٥٤.

٢ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ١٢٦ / ح ١٩.

٣ ـ الكافي ٢ : ٣٣٧ / ح ٣ ، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ٢٧١.

٤ ـ الأمالي للصدوق : ٢٢٣ / ح ٥ ـ المجلس ٤٦ ، عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٥٠ / ح ١٩٤ ـ الباب ٣١.

٥ ـ عيون الحكم والمواعظ : ٤٥٢ و٤٨٨.

٥١

المبحث السادس : مبحث لغويّ

قال عليه السلام : مِنْ اَيْنَ لِيَ الْخَيْرُ يا رَبِّ وَلا يُوجَدُ إلّا مِنْ عِنْدِكَ ، وَمِنْ اَيْنَ لِيَ النَّجاةُ وَلا تُسْتَطاعُ إلّا بِكَ! لَا الَّذي اَحْسَنَ اسْتَغْنى عَنْ عَوْنِكَ وَرَحْمَتِكَ ، وَلَا الَّذي أساءَ وَاجْتَرَأَ عَلَيْكَ وَلَمْ يُرْضِكَ خَرَجَ عَنْ قُدْرَتِكَ.

الخير : ضدّ الشرّ والضرر ، وهو حصول الشيء على كمالاته ، قال الراغب في «المفردات» الخير : ما يَرغَب فيه الكلّ ، كالعقل والعدل والفضل.

الربّ : في الأصل التربية ، وهو إنشاء الشيء حالاً بعد حال إلى حدّ لاتمام ، ولا يقال الربّ مطلقاً إلّا لله تعالى المتكفّل بمصلحة الموجودات ، نحو قوله تعالى : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (١).

وعلى هذا قوله سبحانه وتعالى : (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا) (٢) ، أي آلهة ، وتزعمون أنّهم الباري مسبّب الأسباب ، والمتولّي لمصالح العباد ، هذا ما ذكره الراغب في المفردات (٣).

والربّ : السيّد والمالك على الإطلاق ، وهو من الأسماء الحسنى ، وهذا ما لا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ سبأ : ١٥.

٢ ـ آل عمران : ٨٠.

٣ ـ مفردات غريب القرآن : ١٦٠ و١٨٤.

٥٢

يليق إلّا بساحته المقدّسة تبارك الله وتعالى.

النجاة : الخلاص ممّا يقع فيه الإنسان.

أحسَنَ : فَعَلَ الحسَن ، والحسن عبارة عن كلّ مُبهجٍ مرغوب فيه ، وذلك على ثلاثة أضرب : مُستحسَن من جهة الفعل ، ومستحسن من جهة الهوى ، ومستحسن من جهة الحُسن.

والحسنةُ يعبّر عنها عن كلّ ما يُسرّ من نعمة تنال الإنسانَ في نفسه وبدنه وأحواله ، والسيّئة تضادّها.

والإحسان يقال على وجهين ، أحدهما : الإنعام على الغير ، يقال : أحسن إلى فلان.

والثاني : إحسان في فعله ، والإحسان أعمّ من الإنعام ، هكذا قال صاحب المفردات (١) وغيره (٢).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مفردات غريب القرآن : ١١٩.

٢ ـ تاج العروس ١٨ : ١٤٣.

٥٣

المبحث السابع : في الخير

بعد الذي ذكرناه في المبحث اللغويّ نقول : إنّ الخير هو عملية الانتخاب والاسطفاء والانتقاء ، وفي هذا تكون هناك مقايسة بين الأشياء ، فنقول : هذا خير وأفضل من ذاك ، وهذه المقايسة نسبية ، أمّا الخير المطلق فهو الله سبحانه الذي هو مصدر كلّ عطاء وكلّ نعمة ، وهذه الخيريّة له وحده بالأصالة ، ولا مانع أن تكون لغيره بالامتداد والتبعيّة ، فيصحّ أن نقول : إن فلاناً رازق وحاكم وراحم ، لكننا نقول : الله خير الرازقين وخير الحاكمين وخير الراحمين ، وبلحاظ مفهوم الأصالة والتبعيّة يكون الخير المطلق لله وبالله.

والخير والشرّ من الناحية التكوينية يُنسَبان إلى الله سبحانه ، وهذا لا يُسيء إلى ساحته المقدّسة ، فالخير معنى وجوديّ مثل الملك والعزّة والرحمة والقدرة ، أمّا الشرّ فهو معنى عدميٌّ يراد منه عدم إيتاء الملك والعزّة والرحمة والقدرة ، ونحن نرى أنّ الإعطاء والمنع لا يكونان إلّا وفق الحِكَمِ والمصالح والأسباب التي لا يعلمها غيره سبحانه.

أمّا الخير والشرّ من الوجهة التشريعيّة ، فالمراد من ذلك الطاعات والمعاصي التي هي من خلق الإنسان لأفعاله باختياره ، فيستحقّ الثواب على فعل الحسنة ، والعقاب على فعل السيّئة.

٥٤

وإذا نُسبت الحسنة إلى الله فمن جهة التوفيق ولاتمكين ، وإذا نُسبت السيّئة إليه فمن جهة سلب التوفيق والخذلان والإخزاء على نحو المجازاة ، وكلّ هذه من الأمور العدميّة.

يقول السيّد صاحب «الميزان» قدس سره : فالحقّ الحقيق بالتصديق أنّ الأفعال الإنسانيّة لها نسبة إلى الفاعل «الإنسان» ونسبة إلى الواجب «الله» ، وإحدى النسبتين لا توجب بطلان الأُخرى ، لكونهما طوليّتين لا عرضيّتين.

قال الإمام الرضا عليه السلام : إنّ الله تبارك وتعالى لا يُوصف بالترك كما يوصف خَلقه ، لكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف ، وخلّى بينهم وبين اختيارهم (١).

وقال عليه السلام أيضاً : قال الله تعالى : يا ابن آدم بمشيّتي كنتَ أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبقوّتي أدّيتَ إليَّ فرائضي ، وبنعمتي قَوِيتَ على معصيتي ، جعلتُك سميعاً بصيراً قويّاً ، ما أصابك من حسنةٍ فَمِن الله ، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك ، وذلك أنّي أَولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي ، وذلك أنّى لا أُسأل عمّا أفعل وهم يُسألون ، فقد نَظَمتُ لك كلّ شيء تريد (٢).

إنّ النعم الإلهيّة التي منّ الله بها على عباده ؛ مؤمنهم وكافرهم ، صالحهم وطالحهم ، بارّهم وفاجرهم ، هذه النعم والموائد معروضة داخل إطار عالم التكوين ، وفي إطار عالم التشريع ، فنعمة الإيجاد ونعمة تسوية الخلق بأحسن تقويم ، ونعمة إرسال الرسل مبشّرين ومنذرين ، ونعمة تعاقب الليل والنهار ، وتعاقب الفصول

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ١٢٣ / ح ١٦ ـ الباب ١١.

٢ ـ التوحيد : ٣٣٨ / ح ٦.

٥٥

بالثمار والأمطار ، وخلق الشمس والقمر والنجوم والبحار والأنهار كلّها نعم لا تغيب عن الأبصار ، لكنّ الإنسان سادرٌ في غفلته ، تائه في جهالته.

قال تعالى : (اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (١).

وورد عن الأصبغ بن نباتة عن الإمام عليّ عليه السلام في قوله تبارك وتعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ كُفْرًا) (٢) ، قال عليه السلام : نحن نعمة الله التي أنعم الله بها على العباد (٣).

وهذا من أبرز وأوضح مصاديق النعم الإلهيّة ، وسُمّي ذلك من الجَرْي والتطبيق ، وكيف لا يكون كذلك وهم الامتداد الطبيعيّ لجدّهم المصطفى الذي وصفه الله في كتابه ـ وهو أصدق القائلين ـ بالرحمة حين قال : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (٤).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ إبراهيم : ٣٢.

٢ ـ إبراهيم : ٢٨.

٣ ـ تفسير العياشيّ ٢ : ٢٢٩ / ح ٢٤ ، تفسير نور الثقلين ٢ : ٥٤٤ / ح ٨٤.

٤ ـ الأنبياء : ١٠٧.

٥٦

المبحث الثامن : في النجاة

نعود إلى قوله عليه السلام : وَمِنْ اَيْنَ لِيَ النَّجاةُ يا رَبِّ وَلا تُسْتَطاعُ إلّا بِكَ.

لقد خلق الله الإنسان ورسم له منهاج حياته ، وأقام عليه الحجّة البالغة ليهلك من هلك عن بيّنة ، ويحيى من حيّ عن بيّنة ، والإنسان تركيبة مختلطة من جسد وشهوة وعقل ، وهذا ما جعله محطّ الابتلاء وموضع الاختبار والامتحان.

وهنالك سنن وأسباب خارجة عن إرادته ، كالأسباب الطبيعيّة ونحوها ، فهو يخوض غمار حياته مصارعاً مكابداً صنوف الابتلاء. وحين يقع في الشدائد نراه يتوجّه بلسان الحال والافتقار إلى ربّه لينجيه وفق سنن الأسباب والنواميس ، ووفق الحِكم والمصالح التي يراها هو سبحانه.

قال تعالى : (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّـهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ) (١).

فالله سبحانه هو المدعوّ لتخليص الإنسان في شدائده عندما يتعرّض للمرض والسطو المسلّح ، والطوفان والغرق ، وصنوف المكاره والأهوال ، من صاعقة وخسف وريح عاتية ، والابتلاء بالطغاة وسلاطين الجور أو السفلة من الناس ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الأنعام : ٦٣ ـ ٦٤.

٥٧

والدعاء أحد مفاتيح الخلاص في مثل هذه الشدائد والابتلاءات.

روي في الآثار أنّ ثلاثة خرجوا للريادة لقومهم ، أي لاستكشاف مواطن العشب ، فأمطرت السماء مطراً شديداً ، فدخلوا كهفاً للاحتماء من المطر ، وتدحرجت صخرة عظيمة وأغلقت باب الكهف عليهم ، فلجؤوا إلى الدعاء والتوسّل.

فقال أحدهم : يا ربّ ، لقد عمل عندي عمّال نهاراً كاملاً ، ولكنّ أحدهم عَمِل نصف نهار ، وكان عمله بجدّ ومثابرة فأعطيته مثل ما أعطيت لغيره فاعترض أحدهم ورفض أخذ أجرته وذهب ولا أعرف مكانه ، فاشتريت له بقرة بذلك الحقّ الذي له ثمّ أنتجت حتّى صار عندي منها قطيع ، وبعد عشرات السنين جاءني شيخ كبير فقال : أتعرفني؟ قلت : لا.

فقال : أنا العامل الذي ترك أُجرته عندك ، فأعطِنيها الآن ، فقلتُ له : خذ هذا القطيع كلّه. اَللّهمّ فإن كان هذا العمل مقبولاً عندك ، فأخرجنا من هذه الشدّة. فانفلقت الصخرة حتّى بان النور.

وقال الثاني : مرّت على الناس مجاعة شديدة ، وجاءتني امرأة تبكي تطلب المساعدة ، فأبيت إلّا أن تبذل نفسها لي فأبت ، ثمّ عادت وطالبتُها بالشيء نفسه فرفضت ، ثمّ عادت ثالثة وهي تبكي وترتجف وقد وافقت ، فقلت لها : إنّط ترتجفين مع الاضطرار والشدّة ، وأنا غير خائف مع الاختيار والرخاء! فعفوت عنها وأعطيتها ما طالبت ، فإن كان ذلك العمل يا ربّ عندك مقبولاً ، فاكشف عنّا هذه الصخرة ، فتزحزحت من مكانها.

وقال الثالث : يا ربّ ، كان لي والدان كبيران أرعاهما وأسقيهما الحليب ، وفي ليلة جئت متأخّراً وكانا نائمين فخفت أن أوقظهما ، فوقفت على رأسيهما حاملاً الحليب حتّى طلع الفجر فانتبها وسقيتهما ، فإن كان ذلك العمل عندك مقبولاً

٥٨

فأخرجنا من هذه الشدّة ، فانزاحت الصخرة وخرجنا (١).

وقالا لإمام الصادق عليه السلام لسفيان الثوري : يا سفيان ، من أراد عزّاً بلا عشيرة ، وغنىً بلا مال ، وهيبة بلا سلطان ، فَلْيَنتقلْ من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته (٢).

وقال عليه السلام : يا سفيان ، وإذا أحزنك أمر من سلطان أو غيره فأكثِرْ من «لا حول ولا قوة إلّا بالله» فإنّها مفتاح الفرج ، وكنز من كنوز الجنّة (٣).

ونقل عن الإمام عليّ عليه السلام قوله : ما كان الله ليفتحَ على عبدٍ بابَ الشكر ويُغلق عنه باب الزيادة ، ولا ليفتحَ على عبدٍ باب الدعاء ويُغلق عنه باب الإجابة ، ولا ليفتحَ لعبدٍ باب التوبة ويُغلق عنه باب المغفرة (٤).

وقد ورد استحباب الدعاء عند الخوف من الأعداء وعند توقّع البلاء ، ففي المروي عن الإمام الصادق عليه السلام : إنّ الدعاء أنفذ من السنان (٥).

وعن الإمام عليّ عليه السلام قوله : الدعاء مفاتيح النجاح ، ومقاليد الفلاح ، وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقيّ ، وقلب تقيّ ، وفي المناجاة سبب النجاة ، وبالإخلاص يكون الخلاص ، فإذا اشتدّ الفزع فإلى الله المفزع (٦).

وروي أنَّ المنصور العبّاسي أحضر الإمام الصادق عليه السلام ، فلمّا بصر به قال : قتلني الله إن لم أقتلك ، أتلحد في سلطاني ، وتبغيني الغوائل؟

فقال له أبو عبد الله عليه السلام : والله ما فعلت ولا أردت ، فإذا بلغك فَمِن كاذب ، ولو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المحاسن : ٢٥٣ / ح ٢٧٧ ، قصص الأنبياء للراوندي : ٢٦٢.

٢ ـ الخصال للصدوق : ١٦٩ / ح ٢٢٢.

٣ ـ الدر المنثور ٤ : ٧١ ، مطالب السؤول في مناقب آل الرسول : ٤٣٧.

٤ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٤٣٥.

٥ ـ الكافي ٢ : ٤٦٩ / ح ٦ و٧.

٦ ـ نفسه ٢ : ٤٦٨ / ح ٢.

٥٩

كنتُ فعلتُ لقد ظُلم يوسف فغفر ، وابتُلي أيّوب فصبر ، وأُعطي سليمان فشكر ، فهؤلاء أنبياء الله ، وإليهم يرجع نسبك.

فقال له المنصور : أجل ، إرتفعْ هاهنا ، فارتفع فقال له : فلان بن فلان أخبرني عنك بما ذكرت.

فقال عليه السلام : احضره يا أمير المؤمنين ليوافقني على ذلك. فأحضر الرجل المذكور فقال له المنصور : أنت سمعت ما حكيت عن جعفر؟ قال : نعم ، فقال له أبو عبد الله عليه السلام : فاستَحْلِفْه على ذلك ، فقال له المنصور : أتحلف؟ قال : نعم فابتدأ باليمين.

فقال أبو عبد الله عليه السلام : دعني يا أمير المؤمنين أُحلّفه أنا.

فقال له : افعل ، فقال أبو عبد الله عليه السلام للساعي : قل : بَرِئتُ من حولِ الله وقوّته والتجأتُ إلى حولي وقوّتي ، لقد فعل كذا وكذا جعفر ، فامتنع هُنيئةً ثمّ حلف بها ، فما برح حتّى اضطرب برجله.

فقال المنصور : جرّوا برجله ، فأخرجوه لعنه الله.

قال الربيع : وكنت رأيت جعفر بن محمّد حين دخل على المنصور يحرّك شفتيه ، فكلّما حرّكهما سكن غضب المنصور حتّى أدناه منه ورضي عنه ، فلمّا خرج أبو عبد الله عليه السلام من عند المنصور تبعته فقلت له : إنّ هذا الرجل كان أشدّ الناس غضباً عليك ، فلمّا دخلت عليه وحرّكت شفتيك سكن غضبه ، فبأيّ شيءٍ كنتَ تُحرّكهما؟ قال عليه السلام : بدعاء جدّي الحسين بن عليّ عليه السلام.

فقلت : جُعلت فداك ، وما هذا الدعاء؟ قال عليه السلام : يا عدّتي في شدّتي ، ويا غوقي عند كربتي ، احرسني بعينك التي لا تنام ، واكنُفْني بركنك الذي لا يُرام. قال الربيع : فحفظت هذا الدعاء ، فما نزَلَت بي شدّة قطّ فدعوت به إلّا فرّج الله عنّي ،

٦٠