مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي

مائة مبحث ومبحث في ظلال دعاء أبي حمزة الثمالي

المؤلف:

الشيخ جبّار جاسم مكّاوي


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-971-683-1
الصفحات: ٤٥٧

التبرّي من كلّ حول وقوّة ، والاعتماد على حول الله وقوّته ، وهو موقوف على أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأنّه لا فاعلَ إلّا الله ، وأنّه لا حول ولا قوّة إلّا بالله ، وأنّ له تمام العلم والقدرة على كفاية العباد ، ثمّ تمام العطف والعناية والرحمة بجملة من العباد والآحاد ، وأنّه ليس وراء منتهى قدرته قدرة ، ولا وراء منتهى علمه علم ، ولا وراء منتهى عنايته عناية. فمن اعتقد ذلك اتّكل قلبه لا محالة على الله وحده ، ولم يلتفت إلى غيره ، ولا إلى نفسه أصلاً ، ومن لم يجد ذلك من نفسه فسببه : إمّا ضَعف اليقين ، أو ضعف القلب ومرضه باستيلاء الجبن عليه وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة عليه (١).

ويضيف رحمه الله قائلاً : موضوع التوكّل الذي هو من مراتب التوحيد أن تنكشف للعبد بإشراق نور الحقّ بأنّه لا فاعل إلّا هو ، وأنّ ما عداه من الأسباب والوسائط مسخّراتٌ مقهورات تحت قدرته الأزليّة ... (٢).

والتوكّل منزل من منازل السالكين ، ومقام من مقامات الموحّدين ، بل هو أفضل درجات الموقنين ، ولذا ورد الترغيب فيه في الكتاب والسنّة ، قال الله تعالى : (وَعَلَى اللَّـهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (٣).

وقال سبحانه : (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَإِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤) ، أي عزيز لا يُذِلُّ من استجار به ، ولا يضيّع مَن لاذ بجنابه ، وحكيم لا يقصر عن تدبير من توكّل على تدبيره. قال رسول الله صلى الله عليه وآله : مَنِ انقطع إلى الله كفاه الله مؤونتَه ، ورَزَقَه من حيث لا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ٣ : ٢١٨ ـ ٢١٩.

٢ ـ نفسه ٣ : ٢٢٠.

٣ ـ المائدة : ٢٣.

٤ ـ الأنفال : ٤٩.

١٢١

يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكَلَه إليها (١).

وعنه صلى الله عليه وآله : مَن سرّه أن يكون أغنى الناس ، فَلْيكن بما في يد الله أوثقَ منه مِمّا في يَدَيه (٢).

وقال الإمام عليّ عليه السلام : أيّها الناس ، لا يشغلكم المضمون من الرزق عن المفروض عليكم من العمل ، والمتوكّل لا يَسْأَل ولا يَرُدّ ، ولا يمسك شيئاً خوف الفقر ، وينبغي لمن أراد سلوك طريق التوكّل أن يجعل نفسه بين يدي الله تعالى فيما يجري عليه من الأمور كالميّت بين يدي الغاسل يقلّبه كيف يشاء (٣).

وعنه عليه السلام أيضاً أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله سأل ربّه سبحانه ليلة المعراج ، فقال : يا ربّ ، أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال الله عزّ وجلّ : ليس شيءٌ عندي أفضل من التوكّل علَيَّ والرضى بما قسمت (٤).

وقال الإمام الصادق عليه السلام : أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود عليه السلام : ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خَلْقي ، عَرَفتُ ذلك من نيّته ، ثمّ تكيده السماوات والأرض ومَن فيهنّ إلّا جعلتُ له المخرج مِن بينهنّ. وما اعتصم أحد من عبادي بأحد من خلقي ، عَرَفتُ ذلك من نيّته ، إلّا قطعت أسباب السماوات والأرض من يديه ، وأسَخْتُ الأرض من تحته ، ولم أُبالِ بأيّ وادٍ هلك (٥).

وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قرأ في بعض الكتب أنّ الله تبارك وتعالى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ روضة الواعظين : ٤٢٦.

٢ ـ روضة الواعظين : ٤٢٦ ، جامع السعادات ٣ : ٢١٩ ـ ٢٢٠.

٣ ـ من قوله : أن يجعل إلى آخره مذكور في تفسير الثعلبيّ ٣ : ١٩٣ وشرح نهج البلاغة ٢ : ٢٠٠ عن سهل بن عبد الله.

٤ ـ بحار الأنوار ٧٤ : ٢١ / ح ٦ ـ عن : إرشاد القلوب ١ : ١٩٩ ـ الباب ٥٤.

٥ ـ الكافي ٢ : ٦٣ ح ١ ـ باب التفويض إلى الله والتوكّل عليه.

١٢٢

يقول : وعزّتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي ، لَأَقطعنّ أمل كلّ مؤمّلٍ [مِن الناس] غيري باليأس ، ولَأكسونّه ثوب المذلّة عند الناس ، ولَأُنحّينّه من قربي ، ولَأُبعدنّه من فضلي ، أيُؤمّل غيري الشدائد والشدائد بيدي؟! ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري ، وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة ، وبابي مفتوح لمن دعاني؟! فمن ذا الذي أمّلني لنوائبي فقطعته دونها؟! ومن ذا الذي رجاني لعظيمة فقطعتُ رجاءه منّي؟! جعلتُ آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي ، وملأتُ سماواتي ممّن لا يملّ تسبيحي ، وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي فلم يثقوا بقولي ، ألم يعلم من طَرَقته نائبةٌ من نوائبي أنّه لا يملك كشفها أحد غيري إلّا مِن بعد إذنبي؟! فما لي أراه لاهياً عنّي ، أعطيته بجودي ما لم يسألني ، ثمّ انتزعته عنه فلم يسألني ردّه وسأل غيري.

أفيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثمّ أُسأل فلا أُجيب سائلي؟! أبخيل أنا فيبخّلني عبدي؟! أَوَ ليس الجود والكرم لي ، أو ليس العفو والرحمة بيدي ، أو ليس أنا محلّ الآمال؟! فمن يقطعها دوني ، أفلا يخشى المؤمِّلون أن يؤمّلوا غيري؟! فلو أنّ أهل سماواتي وأهل أرضي أمّلوا جميعاً ، ثمّ أعطيت كلّ واحد منهم مثل ما أمّل الجميع ما انتقص من مُلكي مِثلُ عضو ذرّة ، وكيف ينقص مُلك أنا قيّمه ، فيما بؤساً للقانطين من رحمتي ، ويا بؤساً لمن عصاني ولم يراقبني! (١).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : لو أنّكم تتوكّلون على الله حقَّ توكّله ، لَرَزقكم كما تُرزق الطيور ، تغدو خماصاً وتروح بطاناً (٢).

وللتوكّل درجات ومراتب ، أعلاها أن يكون العبد بين يدي الله في حركاته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكافي ٢ : ٦٦ ـ ٦٧ / ح ٧.

٢ ـ بحار الأنوار ٦٨ : ١٥١ / ح ٥١ ـ عن : جامع الأخبار : ٣٢١ / ح ٩٠٣ ـ الفصل ٧٣.

١٢٣

وسكناته مثل الميّت بين يدي غاسله يقلّبه كيفما شاء. وفي هذا ورد على لسان سيّدنا إبراهيم عليه السلام عندما وُضع في المنجنيق ليُرمى به إلى النار ، فهبط جبرئيل عليه السلام عليه قائلاً : يا إبراهيم ، ألك حاجة؟ فقال عليه السلام : حَسْبي مِن الله علمُه بحالي (١).

ونعود من جديد لنؤكّد أنّ التوكّل لا يعني ترك العمل بسنّة الأسباب ، ولكن يكون العبد وثوقه بالله سبحانه ، بأنّه هو مسبّب الأسباب ، وأنّ الأسباب لا استقلاليّة لها ولا أثر إلّا بإذنه وإرادته عزّ شأنه ، وهي تجري في النواميس وجميع مفاصل الكون ومفردات الوجود وفق المصالح والحكم التي لا يعلمها غيره ، فقد ورد في الآثار الصحيحة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قال لأعرابي أهمل ناقته بحجّة التوكّل على الله : إعقلْها وتوكّل (٢).

وقد أمر الله عبده موسى بن عمران عليه السلام بالتداوي بالعقاقير لنيل شفائه من علّته ، فحقيقة التوكّل قائمة على دعامتين مهمّتين :

١ ـ عدم الاعتماد ـ في مسألة التوكّل ـ على إلغاء الأسباب الظاهريّة والسنن التي يجري عليها نظام الكون وفق التقديرات الإلهيّة والمشيئة الربّانيّة.

٢ ـ توجيه الثقة والاعتماد على الله سبحانه الذي هو مسبّب الأسباب وأنّه يتولّى تدبير أمر عبده ، ويمنحه التوفيق والتسديد ، ويمنّ عليه بالكرامة والحرمة. وقد ورد في الآثار المعتبرة أنّ الله سبحانه أوحى إلى عبده داود عليه السلام : يا داود من دعاني أجبته ، ومن استغاثني أغثته ، ومن استنصرني نصرته ، ومن توكّل علَيّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير الثعلبيّ ٦ : ٢٨١.

٢ ـ سنن الترمذيّ ٤ : ٧٧ / ح ٢٦٣٦.

١٢٤

كفَيته ، فأنا كافي المتوكّلين ، وناصر المستنصرين ، وغياث المستغيثين ، ومجيب الداعين (١).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المستطرف من كلّ فنّ مستظرف : ٣١٧.

١٢٥

المبحث الثامن عشر : في الحبّ الإلهيّ

قال عليه السلام : وَالْحَمْدُ للهِ الَّذي تَحَبَّبَ اِلَيَّ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنّي.

الحبّ : هو تعلّقٌ خاصّ وانجذاب مخصوص شعوريّ بين الإنسان وكماله (١) ، أمّا الحبّ الإلهيّ فهو الانشداد بين العبد ومولاه بما أدركه من عظمته وجلاله وجماله.

جاء عن الإمام الصادق عليه السلام قوله في دعاءٍ له عند حضور شهر رمضان : سيّدي أنا مِن حبّك جائع لا أشبع ، أنا من حبّك ظمآن لا أرتوي (٢).

والحبّ الإلهي درجات ومراحل :

١ ـ حبّ ضحل قليل.

٢ ـ حبّ كبير لا يترك فراغاً في القلب.

٣ ـ حبّ لا يرتوي العبد منه.

والحبّ تابع للإدراك ، فمن القضايا المحبوبة التي ينشدّ إليها الإنسان ما يكون إدراكها بالحواسّ الظاهرة : كالبصر والسمع والشمّ وغيرها ، فهو يحبّ المناظر الخلّابة ، والروائح الزكيّة ، والأطعمة اللذيذة ، والملابس الفاخرة. وهناك ما يدركه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير الميزان ١ : ٤١٠.

٢ ـ الإقبال ١ : ١٣٥ ، بحار الأنوار ٩٤ : ٣٣٨.

١٢٦

الإنسان بالحواسّ الباطنة : كحبّ الشهرة ، وحبّ التسلّط ، وحبّ التملّك ، والتخيّلات التي تلائم ذوقه ووجوده. وهناك ما تدركه القوى العاقلة من المحبوبات بشكل وراء الحسّ والمشاهدة : كإدراك المعاني الكلّيّة ، والحقائق المجرّدة ، فهو يحبّ العلم والعدل والكرم وغيرها من الصفات الكماليّة.

فتارة نرى أنّ الإنسان يحبّ نفسه ، وهذا أمر محسوس لكلّ ذي بصيرة ، وهذا الحبّ يتّسم بالعمق والانشداد الوثيق ، بل هو من أقوى مراتب الحبّ لموافقته وملاءمته لنفس الإنسان وقوامه ، وسبب ذلك أنّ المحبّ والمحبوب شيءٌ واحد ، وهذا الحبّ غريزيّ جُبل عليه الإنسان.

وحبّ الإنسان نفسَه هو تعلّقه بأسباب البقاء وديمومة الوجود ، وكذا في كراهيّته للموت ، وفي ذلك يرى الإنسان عين كماله لأنّ الكمال قائم بالوجود ، فإذا انتفى الوجود ، فمعنى انتفائه هو العدم ، وفيه مجمع النقائص ، والإنسان في مسيرته الحياتيّة يحاول أن يكون الأقوى والأكمل في وجوده ، ولمّا كان الإنسان عالماً ـ بل متيقّناً ـ من انتهاء وجوده وكماله بالعدم الأكبر والأتمّ وهو الموت ، فهو يحاول لوجوده امتداداً عن طريق التناسل والإنجاب ، فنراه يتزوّج وينجب ويجمع للذرّية ؛ لأنّه يرى فيهم استمرار بقائه.

وبعد التحقيق والتدقيق نرى أنّ ذلك الحبّ قائم على الخيال والأوهام ، وهو بعيد كلّ البعد عن الحقيقة ، لأنّ الإنسان لا وجود له بذاته ، بل هو ظلّ للوجود الإلهيّ الذي لا وجود لغيره بالأصالة. وإنّ كلّ الموجودات هي من الفيوضات والألطاف الإلهيّة ، فالكمال الذي يبغيه الإنسان هو من النفحات الربّانيّة.

فالإنسان قائم حدوثاً وبقاءً بالله سبحانه ، وهو الذي وصف نفسه بأنّه لا إله إلّا

١٢٧

هو الحيّ القيّوم. ولو لا هذه القيّوميّة لكان الإنسان من العدم المحض ، ومن هنا يكون حبّ الإنسان لنفسه حبّا لربّه ، رغم غفلة الإنسان عن ذلك.

وقد يكون حبّ الإنسان للّذة الموجودة في الطعام والشراب ، والنكاح واللباس ، وهذا الحبّ أضعف مراتب الحبّ لسهولة الحصول عليه ، وسرعة زواله ، وهل شيء من هذه اللذائذ إلّا من النعم الإلهيّة التي لا تُعدُّ ولا تحصى؟!

وقد يحبّ الإنسان غيره ، فيحبّ كلّ ذي يد عليه ، كالإحسان والكرم والعلم وغيرها ، وفي الواقع أنَّ الإنسان يحبّ هؤلاء لما أفاضوه عليه من نعم ، فحبّه لهم في الحقيقة هو حبّ لتلك النعم والأفضال لذواتهم ، وعندما نحكّم بصائرنا ، ونتمعّن في الحقائق ، ونتدبّر المقادير ، نرى أنَّ ذلك الحبّ هو لله جلّ وعلا ؛ لأنَّ تلك النعم من الله ، أفاضها سبحانه على من جاد بها وأحسن إلى غيره. ولو شاء الله أن يمنع تلك المواهب ، لما استطاع أحد أن يقدّم نفعاً لنفسه فضلاً عن غيره.

وقد يحبّ الإنسان بعض الوجودات والمعاني لاتّصافها بصفات الكمال رغم أنّه لا ينال منها شياً ، وهذا هو حبّ الشيء لذاته ، فهو يحبّ الحُسن والجمال والمعاني الكماليّة من : علم نافع ، وسيرة ذاتية حسنة ، ومواطنة صادقة ، وبطولة أو تضحية في سبيل المبادئ والقيم.

ونعود لنقول : إنّ هذه الصفات الكماليّة إنّما هي رَشَّةٌ من رَشّات الكمال الإلهيّ ، ونسمة من نسمات العطاء الربّانيّ ، منّ الله بها على بعض عباده المخلصين ، وإنّ الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص أو شائبة هو لله وحده ، وأمّا الكمالات البشريّة ، فهي على اختلاف مراتبها لا تخلو من النقص ، والذي يحبّ الكمال فبالأولويّة يحبّ خالق ذلك الكمال ومفيضه على عباده.

وقد يحبّ الإنسان غيره عندما يجد فيه التجانس والتماثل والائتلاف في

١٢٨

الصفات والتصرفات والأخلاق والمواقف ، ولربّما يكون حبّه لغيره للمؤانسة والاجتماع والألفة والاشتراك في الأوصاف والفنون والصنائع ، ولكن : ماذا يمثّل هذا الحبّ الزائل أمام حبّ أولياء الله والعارفين بالله لربّهم الكريم الذي أوجدهم من العدم إلى الوجود ، وأفاض عليهم من نعمه التي لا تعدُّ ولا تُحصى؟

إنّ هذا الحبّ أقوى أنواع الحبّ وأخلصه ؛ لأصالته وواقعيّته ، ولاستناده إلى العلم الحقيقيّ بفلسفة الخلق والإيجاد ، وغاية خلق الإنسان ، ولقد بلغ هؤلاء السالكون العارفون تلك المراتب السامية والمقامات العالية في مسيرة العرفان ، ونالوا درجات القرب من الله : برياضة النفس ، ومداومة العبادة ، والصبر في ذات الله ، وتطهير النفوس من الأدران والشوائب ، وبالتخلّق بأخلاق الله ، وبذلك حصلت لهم حالة الجذب إلى عالم القداسة الذي هو أصل كلّ خير ، ومنبع كلّ عطاء ، ومصدر كلّ فضيلة وكمال (١).

إنّ حبّ أولياء الله لربّهم ، الذي هو فيض من فيوضاته سبحانه ، لا يوازن بحبّ الله لأ وليائه ، لأنّ المحب يحبّ على قَدْره ، وما قدر عباد الله أمام قدره سبحانه؟!

إنّ الحبّ الذي في قلوب أولياء الله يجعل نفوسهم متعلّقةً بساحة قدسه ، هائمة بعظمته ، تتمنّى لقاءه والوفود عليه ، لأنّ كلّ محبّ يحبّ لقاء محبوبه ، وهذا الشوق أوضح علامة لوجود الحبّ أو عدمه ، قال تعالى مخاطباً أعداء البشريّة التاريخيين اليهود : (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّـهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (٢).

إنّ هؤلاء المحبّين أنا قد أخلصهم الله سبحانه لنفسه ، وهم أخلصوا أنفسهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ يراجع : جامع السعادات ٣ : ١٣٢ ـ ١٤٦.

٢ ـ الجمعة : ٦.

١٢٩

لله وحده ، وهؤلاء يحبّون الله لأنّه أصل وجودهم ، ومصدر كلّ خير يصل إليهم ، والله تعالى يحبّهم لأنّهم آثار وجوده الشريف ، فحبّه لهم هو حبّه لذاته المقدّسة ، فتدبّر.

وربّما يستشكل علينا سائل فيقول : لماذا كان هؤلاء الأولياء يسألون الله أن يمدّ في أعمارهم ، في الوقت الذي هم متشوّقون إلى لقاء الله؟

نقول : إنّ هذا لا ينافي أصل الحبّ ، بل يؤكّد معنى الحبّ وصدقه وعمقه. إنّ هؤلاء إذا طلبوا امتداد العمر ، فإنّما يطلبونه للتهيّؤ والاستعداد والمبالغة في تفريغ القلوب من كلّ شاغل ، وتطهير النفوس من كلّ شائبة ، وللتزوّد بالتقوى فإنّها خير الزاد ليوم المعاد ، فإنّ المحبّ يرغب أن يلتقي بمحبوبه وهو على أتمّ حال وأسمى كمال ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّـهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (١).

وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ) (٢).

والمواظبة على النوافل لها أثرها الكبير في زرع الحبّ الإلهيّ في القلوب ، وجعلها منزلاً من منازل الرحمان ، ومهبطاً من مهابط الفيوضات ، فقد ورد في الحديث القدسيّ قوله سبحانه : لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبَّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته (٣).

وورد في الحديث الشريف أنّ نبيّ الله إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت ، إذ جاءه لقبض روحه : هل رأيتَ خليلاً يُميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه : هل رأيتَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المائدة : ٥٤.

٢ ـ البقرة : ١٦٥.

٣ ـ جامع السعادات ٣ : ١٤٥.

١٣٠

محبّاً يكره لقاء حبيبه؟ فقال عليه السلام : يا ملك الموت ، الآنَ فاقبض (١).

وأوحى الله إلى عبده موسى عليه السلام : يا ابن عمران ، كَذِبَ مَن زعم أنّه يحبّني ، فإذا جَنَّه الليل نام عنّي ، أليس كلُّ محبّ يحبّ خلوة حبيبه ، ها أنا ذا يا ابن عمران مُطَّلِع على أحبّائي ، إذا جَنَّهم الليل حُوِّلت أبصارهم في قلوبهم ، ومُثِّلت عقوبتي بين أعينهم ، يخاطبونني عن المشاهدة ، ويكلّمونني عن الحضور. يا ابن عمران ، هَبْ لي من قلبك الخشوع ، ومن بدنك الخضوع ، ومن عينَيك الدموع ، وادْعُني في ظُلَم الليل ، فإنّك تجدني قريباً مجيباً (٢).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : بكى شُعَيبٌ عليه السلام من حبّ الله عزّ وجلّ حتّى عَمِي ، فردّ الله عزّ وجلّ عليه بصره ، ثمّ بكى حتّى عمي ، فردّ الله عليه بصره ، ثمّ بكى حتّى عمي ، فردّ الله عليه بصره ، فلمّا كانت الرابعة أوحى الله إليه : يا شعيب ، إلى متى يكون هذا أبداً منك ، إن يكن هذا خوفاً من النار فقد أجَرْتُك ، وإن يكن شوقاً إلى الجنّة فقد أبحتك ، قال عليه السلام : إلهي وسيّدي ، أنت تعلم أنّي ما بكيت خوفاً من نارك ، ولا شوقاً إلى جنّتك ، ولكن عُقد حبّك على قلبي ، فلا أصبر أو أراك ، فأوحى الله إليه : أمّا إذا كان هذا هكذا ، سأخدمك كليمي موسى بن عمران (٣).

وروي أنّ عيسى عليه السلام مرّ بثلاثة نفر قد نَحِلت أبدانهم ، وتغيّرت ألوانهم ، فقال عليه السلام لهم : ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا : الخوف من النار ، فقال عليه السلام : حقّ على الله أن يؤمن الخائف.

ثمّ جاوزهم عليه السلام إلى ثلاثة أخرى فإذا هم أشدّ نحولاً وتغيّراً ، فقال لهم : ما الذي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ٣ : ١٥١.

٢ ـ روضة الواعظين : ٣٢٩ ، الجواهر السنيّة في الأحاديث القدسيّة للحرّ العاملي : ٥٧.

٣ ـ علل الشرائع : ٥٧ / ح ١ ـ الباب ٥١ ، الجواهر السنيّة : ٣١.

١٣١

بلغ بكم ما أرى؟ قالوا : الشروق إلى الجنّة ، فقال عليه السلام : حقّ على الله أن يعطيكم ما ترجون.

ثمّ جاوزهم عليه السلام إلى ثلاثة أخرى فإذا هم أشدّ نحولاً وتغيّراً ، كأنّ على وجوههم المرايا من النور ، فقال عليه السلام : ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا : حبّ الله عزّ وجلّ ، فقال ثلاثاً : أنتم المقرّبون ، أنتم المقرّبون (١).

وهذه العبادة أرقى مراتب العبادة ، فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قوله : إن العُبّاد ثلاثة : قوم عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً ، فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلبَ الثواب ، فتلك عبادة الأُجراء ، وقوم عبدوا الله عزّ وجلّ حبّاً له ، فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة (٢).

يقول صاحب «الميزان» قدس سره حول عبادة الأحرار ما نصّه : ولذلك يرى أهل ذلك الطريق أنّ الطريقين الآخرين ، أعني طريق العبادة خوفاً ، وطريق العبادة طمعاً ، لا يخلوان من شرك ، فإنّ الذي يعبده تعالى خوفاً من عذابه يتوسّل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه ، كما أنّ من يعبده طمعاً في ثوابه يتوسّل به تعالى إلى الفوز بالنعمة والكرامة ، ولو أمكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده لم يعبده ، ولا حامَ حوله معرفته.

وقد تقدّمت الرواية عن جعفر الصادق عليه السلام : هل الدين إلّا الحبّ (٣) ، وقوله عليه السلام في حديث : وإنّي أعبده حبّاً له ، وهذا مقام مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون. وإنّما كان أهل الحبّ مطهّرين لتنزّههم عن الأهواء النفسيّة والألواث المادّية ، فلا يتمّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ جامع السعادات ٣ : ١٥١ ـ ١٥٢.

٢ ـ الكافي ٢ : ٨٤ / ح ٥.

٣ ـ المحاسن : ٢٦٣ / ح ٣٢٧.

١٣٢

الإخلاص في العبادة إلّا من طريق الحبّ (١). ولا نترك هذه الفقرة من دون تعليق وتسليط الأضواء على ما ورد فيها ، قال سبحانه : (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (٢) ، وقال الله سبحانه : (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّـهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ) (٣).

تقسِّم هاتان الآيتان الناس إلى ثلاث طوائف :

١ ـ الأكثريّة من الناس ، وهؤلاء ليسوا بمؤمنين بسبب انكبابهم على الدنيا الفانية وغفلتهم عمّا يراد بهم ، وهم من الذين وصفهم الله بقوله : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (٤).

٢ ـ الأقليّة التي سمّاهم الله المخلصين والمقرّبين ممّن اصطفاهم لنفسه ، واجتباهم لحمل الأمانة السماويّة من أهل التوحيد الخالص والإيمان المحض الذي لا يعتريه نقص ولا شائبة.

٣ ـ الطائفة المؤمنة التي يكون موقعها بين الطائفتين ، وهم المؤمنين الذين يشوب إيمانَهم بعضُ النقص والانحراف ، وقد سمّى القرآن ذلك النقص وتلك الأدران الشركَ الخفيّ ، وهو على لسان الروايات أخفى من دبيب النمل على الصخرة السوداء في الليلة الظلماء ، ولهؤلاء المؤمنين مراتب مختلفة من ناحية الإيمان قوّةً وضعفاً ، فمنهم من هو أقرب إلى الله من غيره. وليس هذا الاجتماع بين الإيمان والشرك من مصاديق اجتماع النقيضين الذي يحكم العقل ببطلانه ، بل هو اختلاف نسبيّ في مسألة القرب والبعد من الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ تفسير الميزان ١١ : ١٥٩ ـ ١٦٠.

٢ ـ يوسف : ١٠٣.

٣ ـ يوسف : ١٠٦.

٤ ـ الفرقان : ٤٤.

١٣٣

وقد أمرَنا الله سبحانه بحبّ رسوله الأعظم صلى الله عليه وآله ، وذلك الحبّ قوامه الولاية التي قوامها الاتّباع ، قال سبحانه وتعالى : (قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) (١).

ونعم ما قال الشاعر :

تَعصي الإلهَ وأنتَ تُظهر حُبَّهُ

هذا لَعَمْري في القضاءِ شَنيع!

لو كانَ حبُّك صادقاً لَأطَعتهُ

إنّ المُحبَّ لِمَن يُحبُّ مُطيعُ (٢)

وهذا الحبّ للنبيّ صلى الله عليه وآله هو امتدادي يقع في طول حبّنا لله سبحانه وتعالى ، وكذلك أمرنا بحبّ عليّ أمير المؤمنين والصفوة المنتجبين من آله المعصومين عليهم السلام ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنّ حبّ عليّ قُذِف في قلوب المؤمنين ، فلا يحبّه إلّا مؤمن ، ولا يُبغضه إلّا منافق (٣).

وعنه صلى الله عليه وآله : مَن مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً ، ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له ، ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً ، ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً ، ومن مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكرٌ ونكير ، ومن مات على حبّ آل محمّد يُزَفٌّ إلى الجنّة كما تُزفّ العروس إلى بيت زوجها ، ومن مات على حبّ آل محمّد فُتح له في قبره بابان إلى الجنّة ، ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة.

ومن مات على بُغض آل محمّد صلى الله عليه وآله جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيسٌ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ آل عمران : ٣١.

٢ ـ حكى الصدوق في الأمالي : ٣٩٦ / ح ٣ ـ المجلس ٧٤ أنّ الإمام الصادق عليه السلام تمثّل به على هذا النحو : هذا محالٌ في الفِعالِ بديعُ ، وحكاه الثعلبيّ في تفسيره ٣ : ٥١ عن عبد الله بن المبارك.

٣ ـ مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ١٥٤ ، بحار الأنوار ٤٣ : ٢٨١ / ح ٤٨.

١٣٤

من رحمة الله ، ومن مات على بغض آل محمّد لم يشمَّ رائحة الجنّة (١).

وقد جعل الله تعالى ولاية الإيمان بين أهل القبلة ، وحرّم مولاة أعداء الله ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (٢).

وقال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (٣) ، (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (٤) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥).

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قوله : إذا أردتَ أن تعلم أنّ فيك خيراً ، فانظر إلى قلبك ، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله عزّ وجلّ ويبغض أهل معصيته ففيك خير ، والله يحبّك ، وإن كان يُبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته ، ففيك شرّ ، والله يُبغضك ، والمرء مع من أحبّ (٦).

وورد في الأثر المعتبر أنّ الله تعالى قال لموسى عليه السلام : هل علمتَ لي عملاً قطّ؟ قال عليه السلام : صلّيتُ لك ، وصمت ، وتصدّقت ، وذكرت لك ، فقال الله تبارك وتعالى : أمّا الصلاة فلك برهان ، والصوم جُنّة ، والصدقة ظلّ ، والذِّكر نور ، فأيَّ عمل عملت لي؟ قال موسى عليه السلام : دُلّني على العمل الذي هو لك!

قال سبحانه : يا موسى ، هل واليتَ لي وليّاً ، وهل عاديتَ لي عدوّاً قطّ؟ فعلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الكشاف للزمخشري ٣ : ٤٦٧ ، تفسير الرازي ٢٧ : ١٦٥.

٢ ـ الأنفال : ٧٢.

٣ ـ التوبة : ٧١.

٤ ـ النساء : ٨٩.

٥ ـ المائدة : ٥١.

٦ ـ المحاسن : ٢٦٣ / ح ٣٣١.

١٣٥

موسى عليه السلام أنَّ أفضل الأعمال الحبّ في الله ، والبغض في الله (١).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قوله : من أوثق عرى الإيمان أن تحبّ في الله ، وتُبغض في الله ، وتُعطيَ في الله ، وتمنع في الله (٢).

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله جاء قوله : لو أنّ عبدين تحابّا في الله ، أحدهما في المشرق والآخر بالمغرب ، لَجمَعَ الله بينهما يوم القيامة (٣).

وقد أجاد من قال :

وكلَّ محبّةٍ في اللهِ تَبقى

على الحالَين منْ فَرَجٍ وَضيقِ

وكلَّ محبّةٍ فيما سواهُ

فكالحَلفاءِ في لَهَبِ الحَريقِ

وقال عيسى عليه السلام : تَحبّبوا

إلى الله في بُغض أهل المعاصي (٤)

وورد الأمر بمقابلة هؤلاء بوجوه مكفهرّة.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قوله : إنّ المتحابّينَ في الله يوم القيامة على منابرَ مِن نور ، قد أضاء نور أجسادهم ونور منابرهم كلِّ شيء ، حتّى يُعرفوا به ، فيقال : هؤلاء المتحابّون في الله (٥).

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله : المتحابّون في الله يوم القيامة على أرضِ زبرجدةٍ خضراء في ظلّ عرشه سبحانه عن يمينه ـ وكلتا يديه يمين ـ وجوههم أشدّ بياضاً من الثلج وأضوأ من الشمس الطالعة ، يغبطهم بمنزلتهم كلُّ ملك مقرّب ، وكلّ نبيّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الدعوات للراونديّ : ٢٨ / ح ٥٠ ـ عنه : بحار الأنوار ٦٩ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣ / ح ٣٣.

٢ ـ المحاسن : ٢٦٣ / ح ٣٢٨.

٣ ـ جامع الأخبار : ٣٥٢ / ح ٩٧٧ ، مستدرك الوسائل ١٢ : ٢٢٥ / ح ٢٥.

٤ ـ الدر النثور للسيوطيّ ٢ : ٢٨.

٥ ـ الاصول الستّة عشر : ٦٥ ، المحاسن : ٢٦٥ / ح ٣٣٩.

١٣٦

مرسل ، يقول الناس : مَن هؤلاء؟! فيقال : هؤلاء المتحابّون في الله (١).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : لا يؤمن أحدكم حتّى يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما (٢).

وعن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام ورد قوله : إذا جمع الله تعالى الأوّلين والآخِرين ، قام منادٍ فنادى يُسمِع الناس فيقول : أين المتحابّون في الله؟ قال عليه السلام : فيقوم عُنُقٌ «أيّ جماعة» من الناس ... فيقولون : نحن المتحابّون في الله. قال : فيقولون : وأيَّ شيء كانت أعمالكم؟ قالوا : كنّا نُحبّ في الله ، ونُبغض في الله. قال : فيقولون : نِعمَ أجرُ العاملين (٣).

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله : إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ من الله عزّ وجلّ يُسمع آخرهم كما يُسمع أوّلهم فيقول : أين جيران الله جلّ جلاله في داره؟ فيقوم عنق من الناس ، فتستقبلهم زُمَرٌ من الملائكة ، فيقولون : ما كان عملكم في دار الدنيا فصرتم اليوم جيران الله تعالى في داره؟ فيقولون : كنّا نتحابّ في الله ، ونتزاور في الله تعالى.

قال : فينادي منادٍ من عند الله تعالى : صدق عبادي ، خَلّوا سبيلهم. فينطلقون إلى جوار الله في الجنّة بغير حساب ، فهؤلاء جيران الله في داره ، يخاف الناس ولا يخافون ، ويُحاسَب الناس ولا يُحاسَبون (٤).

وعن الإمام الباقر عن أبيه عن جدّه عليهم السلام ، أنّ رجلاً سأل أمير المؤمنين عليه السلام : لماذا أحببتَ لقاء الله؟ فقال عليه السلام : لمّا رأيتُه قد اختار لي دِينَ ملائكته ورسله وأنبيائه ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ المحاسن : ٢٦٤ / ح ٣٣٧.

٢ ـ مسند أحمد ٣ : ٢٠٧.

٣ ـ الكافي ٢ : ١٢٦ / ح ٨ قطعة منه.

٤ ـ الأمالي للطوسيّ : ١٠٢ / ح ١٥٨ ، ١٢.

١٣٧

علمتُ أنّ الذي أكرمني بهذا ليس ينساني ، فأحببت لقاءه (١).

وقد رسم لنا الحديث الشريف الترجمة العمليّة للقاء الله تعالى : قال تعالى : يا أحمد ، ليس كلّ من قال : أُحبُّ اللهَ ، أحبّني ، حتّى يأخذَ قوتاً ، ويلبس دوناً ، وينام سجوداً ، ويطيل قياماً ، ويلزم صمتاً ، ويتوكّل علَيّ ، ويبكي كثيراً ، ويُقلَّ ضحكاً ، ويخالف هواه ، ويتّخذ المسجد بيتاً ، والعلم صاحباً ، والزهد جليساً ، والعلماء أحبّاء ، والفقراء رفقاء ، ويطلب رضاي ويفرَّ من العاصين فراراً ، ويُشغَل بذكري اشتغالاً ، ويُكثر التسبيح دائماً ، ويكون بالعهد صادقاً ، وبالوعدِ وافياً ، ويكونَ قلبه طاهراً ، وفي الصلاة زاكياً ، وفي الفرائض مجتهداً ، وفيما عندي من الثواب راغباً ، ومن عذابي راهباً ، ولأحبّائي قريناً وجليساً (٢).

وأختم هذا المبحث بتدوين رائعة من روائع آل محمّد صلى الله عليه وآله ، ألا وهي مناجاة المحبّين للإمام السجّاد عليّ بن الحسين عليه السلام :

إلهي مَن ذَا الذي ذاقَ حلاوةَ مَحبّتك فرامَ مِنك بَدَلاً ، ومَن ذَا الذي أَنِس بِقُربِك فابتغى عنك حِوَلاً.

إلهي ، فاجعَلْنا مِمّن اصطفيتَه لِقُربك وولايتِك ، وأخلَصْتَه لودِّك ومحبّتك ، وشوّقتَه إلى لقائِك ، وَرَضَّيتَه بقضائِك ، ومنَحْتَه بالنظر إلى وجهِك ، وحَبَوتَه برضاك ، وأعَذْتَه مِن هَجْرِك وقِلاك ، وَبوّأتَه مقعدَ الصِّدق في جِوارك ، وخصَصْتَه بمعرفتِك ، وأهّلْتَه لعبادتِك ، وهَيّمت قلبَه لإرادتِك ، واجتَبَيتَه لمُشاهدتِك ، وأخلَيتَ وجهَه لك ، وفرّغتَ فؤادَه لحبِّك ، ورغّبتَه فيما عندَك ، وألهمتَه ذِكرَك ، وأوزَعْتَه شُكرَك ، وشَغَلتَه بطاعتِك ، وصيّرتَه مِن صالِحي بَريّتِك ، واختَرتَه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ التوحيد للصدوق : ٢٨٨ / ح ٦.

٢ ـ بحار الأنوار ٧٤ : ٣٠ / ح ٦ ـ عن : إرشاد القلوب : ٢٠٥ ـ ٢٠٦ ، الباب ٥٤.

١٣٨

لمناجاتِك ، وقَطَعتَ عنه كلَّ شيءٍ يقطعُه عنك.

اَللّهمّ اجعَلْنا مِمّن دأبُهُم الارتياح إليك والحَنين ، ودهرُهمُ الزفرةُ والأنين ، جِباهُهم ساجدة لِعظمتِك ، وعيونُهم ساهرةٌ في خدمتِك ، ودموعُهم سائلةٌ مِن خَشيتِك ، وقلوبُهم متعلّقةٌ بمحبّتِك ، وأفئدتُهم مُنخَلِعةٌ مِن مهابتِك.

يا مَن أنوارُ قُدسِه لأبصارِ مُحبِّيهِ رائقة ، وسُبُحاتُ وجهِه لقلوبِ عارفيهِ شائقة ، يا مُنى قلوبِ المشتاقين ، ويا غايةَ آمالِ المُحبّين ، أسألُك حبَّك وحُبَّ مَن يُحبُّك ، وحُبَّ كلِّ عملٍ يُوصِلُني إلى قُربِك ، وأن تَجعلَك أحبَّ إليَّ ممّا سِواك ، وأن تَجعلَ حُبّي إيّاك قائداً إلى رِضوانِك ، وشَوقي إليك ذائداً عن عِصيانِك ، وامْنُنْ بالنظر إليك علَيّ ، وانظُرْ بعينِ الوُدِّ والعطفِ إليّ ، ولا تَصرِفْ عنّي وجهَك ، واجعَلْني مِن أهلِ الإسعاد والحُظوة عندَك ، يا مُحيبُ يا أرحمَ الراحمين (١).

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الصحيفة السجادية المباركة : ٤١٣ ـ المناجاة التاسعة «مناجاة المحبّين».

١٣٩

المبحث التاسع عشر : في الغِنى

الغنى : ضد الفقر ، والغنيّ : هو الذي لا يحتاج إلى غيره في شيء ، وكلّ أحد محتاج إليه ، وهذا هو الغنى المطلق. ولا يشارك اللهَ تعالى فيه غيرُه (١).

يقول الغزاليّ في «شرح أسماء الله الحسنى» : الغنيّ الذي لا تَمَسّه حاجة ولا يعرضه فقر.

وهو الذي لا تعلّقَ له بغيره ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، بل يكون منزَّهاً عن العلاقة مع الأغيار ، فمن تتعلّق ذاته أو صفات ذاته بأمر خارج من ذاته يتوقّف عليه وجوده أو كماله ، فهو فقير محتاج إلى الكسب ولا يُتصوَّر ذلك في الله تعالى. والغنيّ الحقيقي هو الذي لا حاجه له إلى أحد أصلاً ، والذي يحتاج ومعه ما يحتاج إليه فهو غنيّ بالمجاز ، انتهى.

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّـهِ وَاللَّـهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (٢).

إنّ الآيتين تشيران إلى مسألة حصر الفقر بالناس ، وحصر الغنى بالله سبحانه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ لسان العرب ١٥ : ١٣٥.

٢ ـ فاطر : ١٥ ـ ١٦.

١٤٠